بطاقة تعريف: الکوراني العاملي، علی، 1944 - م. Kurani,Ali
عنوان واسم المؤلف: السیرة النبویة عند اهل البیت علیهم السلام/ علی الکورانی العاملی.
تفاصيل المنشور: قم: دار النشر المعروف، 1438 ق.= 2017 م.= 1396.
مواصفات المظهر: 3 ج. /
لسان: العربية.
ISBN: 9786006612881
ملحوظة: الطبعة الثانية. / ملحوظة: ج. 2 (الطبعة الثانية: 1438 ق. = 2017 م.).
ملحوظة: نُشر هذا الكتاب لأول مرة عام 2008 تحت عنوان «جواهرالتاریخ: السیرةالنبویة عند اهل البیت (ع)» عن طريق المنشورات باقیات تم نشره.
عنوان آخر: جواهرالتاریخ: السیرةالنبویة عند اهل البیت (ع).
مشكلة: محمد(ص)، پیامبر اسلام، 53 قبل الهجرة- 11 ق. / مشكلة: 632 .Muhammad, Prophet, d
مشكلة: التقليد النبوي/ مشكلة: * Wonts of the Prophet
مشكلة: دين الاسلام -- تاریخ -- از آغاز تا 11 ق/ مشكلة: 632 Islam -- History -- To
تصنيف ديوي: 93 / 297
ترتيب الكونجرس: 1396 9ج 9ک / 46 / BP24
رقم الببليوغرافيا الوطنية: 4793168
حالة الاستماع: فیپا
السيرة النبوية عند أهل البيت علیهم السلام (1)
المؤلف: علي الکَوراني
الناشر: دارالمعروف، قم المقدّسة.
الطبعة: الأولی.
تاریخ النشر: ذيقعدة 1438 ه.ق - July 2017
المطبعة: باقری - قم المقدّسة.
عدد المطبوع: 3000 نسخة.
شابک: 1- 88 - 6612 - 600 - 978
دار المعروف
للطباعة و النشر
مرکز النشر والتوزیع:
إيران - قم المقدّسة - شارع مصلّی القدس - رقم الدّار: 682 . ص-ب: 158 - 37156 تلفون: 32926175 25 (0)0098
جمیع الحقوق محفوظة ومسجلة للمؤلف
www.maroof.org
Email: nashremaroof@gmail.com
ص: 1
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 2
السيرة النبوية عند أهل البيت علیهم السلام
علی الکورانی العاملی
المجلد الأول
الطبعة الثانية- منقحة ومزيدة
2017-1438
دارالمعروف
ص: 3
ص: 4
بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأفضلُ الصلاة وأتمُّ السلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد فقد وفقني الله تعالى لكتابة السيرة النبوية عند أهل البيت (علیهم السلام)، وكتبت عن علي والزهرا ء صلوات الله عليهما، وعن الإمام الحسن السبط (علیه السلام)، وكذلك عن الأئمة زين العابدين، والكاظم، والجواد، والهادي، والعسكري، وعدة مجلدات عن الإمام المهدي صلوات الله عليهم.
وقد طالبني بعض العلماء الأجلاء بأن أكمل هذه الدورة في سيرة النبي وأهل البیت الأطهار (علیهم السلام)، فاستخرت الله تعالى وبدأت بتلبية طلبهم.
أسأله تعالى أن يهب لي التوفيق لإكمال هذا العمل المبارك، وأن يجعله ذخراً ليوم وقوفي بين يديه عزوجل، يوم يفوز به الفائزون بولاية النبي وآله الأطهار (صلی الله علیه و آله) .
كتبه بقم المشرفة: علي الكوراني العاملي
في الثاني والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1436
ص: 5
ص: 6
للسيرة النبوية أهمية خاصة عند المسلم، فهي إيمانٌ وعلمٌ، وفقهٌ للرسول والرسالة، وتعريفٌ له بنبيه الذي ينتمي اليه، ويتقرب إلى ربه بالإقتداء به (صلی الله علیه و آله) .
وأشهر كتاب وصل الينا في السيرة ما عُرف بسيرة محمد بن إسحاق بن يسار «توفي 151»ثم اختصره وغيَّرَ فيه عبدالملك بن هشام «توفي218» فعُرف بسيرة ابن هشام، وذكر في أوله أنه تارك من سيرة ابن إسحاق: «أشعاراً ذكرها لم أرَ أحداً من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يُشَنَّعُ الحديث به، وبعضٌ يسوءُ بعض الناس ذكره»!
ومعناه أنه أراد كسب رضا العباسيين الذين ألف لهم كتابه، والذين يزعمون أن جدهم العباس وارث النبي (صلی الله علیه و آله)، ويزعم المنصور أنه رأى النبي (صلی الله علیه و آله) في منامه: «وعقد له لواءً أسود وعممه بعمامة من ثلاثة وعشرين دوراً، وأوصاه بأمته، وقال له: خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة»!
فأصدر المنصور أمره للمسلمين بتدوين رؤياه وقال: «ينبغي لكم أن تثبتوها في ألواح الذهب، وتعلقوها في أعناق الصبيان»! تاريخ بغداد: 1/85، تاريخ دمشق: 32/301، رواه ابن كثير
في النهاية: 10/129 وحكم بصحة المنام!
على أن سيرة ابن إسحاق أيضاً فيها مشكلات، فقد غَيَّر فيها في مراحل حياته،
ص: 7
حيث كان أول أمره يتشيع للحسنيين، ثم صار مع خصومهم العباسيين. وعاش في المدينة، ثم نفي منها إلى البصرة، وفارس، ثم عاش في بغداد. ولهذا صار لكتابه روايات متعددة، وقد اعتمد ابن هشام على رواية زياد البكائي دون غيرها، بينما قال في مقدمة القطعة التي عثروا عليها في المغرب: «ولسيرة ابن إسحق رواة غير البكائي، وابن بكير، وبكر بن سليمان، وسلمة بن الفضل، أوصلها مطاع الطرابيشي في كتابه: رواة المغازي والسير إلى واحد وستين راوياً».«ابن إسحاق: موقع الوراق».
ويظهر أن نسخ هؤلاء الرواة فيها «تعديلات» ابن إسحاق على كتابه، وأنه حذف منه كثيراً من مناقب أهل البیت (علیهم السلام)، وما يمس بني أمية وبني عباس!
ومن أمثلة ذلك حذف إسم العباس من أسرى بدر، مع أنه متواتر، وحذف ابن هشام لحديث الدار الذي نص على وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام)، عند نزول قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ.
لذلك، فإن القيمة العلمية لسيرة ابن هشام وابن إسحاق منخفضة، وعلى الباحث فحص روايتها، ومقارنتها بالروايات الأخرى.
اتفقت المصادر على أن أول من صنف في السيرة: عبيدالله بن أبي رافع مولى النبي (صلی الله علیه و آله) وهو قبطي: «هو أول من صنف في المغازي والسير». الذريعة: 17/153.
قال في الشيعة وفنون الإسلام/84: «الفصل الثامن في تقدم الشيعة في علم السير، فأول من وضعه عبيدالله بن أبي رافع مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، صنف في ذلك على عهد أميرالمؤمنين (علیه السلام)». وكان أبوه أبو رافع (رحمة الله) مرجعاً: «كان ابن عباس يأتي أبا رافع فيقول: ما صنع النبي (صلی الله علیه و آله) يوم كذا؟ ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها».تقييد العلم لابن عبدالبر/92 والإصابة لابن حجر: 4/125.
فأين هذا الكنز الثمين: كتاب ابن أبي رافع (رحمة الله)؟ لقد أحرقته الحكومات، ولا تعجب فقد كان الإحراق من صلب سياساتهم!
ص: 8
قال الزبير بن بكار في الموفقيات/222، وهو من علماء السلطة: «قدم سليمان بن عبدالملك إلى مكة حاجاً سنة 82 ﻫ،فأمر أبان بن عثمان أن يكتب له سير النبي (صلی الله علیه و آله) ومغازيه فقال له أبان: هي عندي قد أخذتها مصححةً ممن أثق به. فأمر سليمان عشرة من الكتاب بنسخها فكتبوها في رق، فلما صارت إليه نظر، فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين وفي بدر، فقال: ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل! فإما أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم، وإما أن يكونوا ليس هكذا! فقال أبان: أيها الأمير لايمنعنا ما صنعوا أن نقول بالحق، هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا! فقال سليمان: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتى أذكره لأميرالمؤمنين لعله يخالفه، ثم أمر بالكتاب فحُرِق! ورجع فأخبر أباه عبدالملك بن مروان بذلك الكتاب، فقال عبدالملك: وما حاجتك أن تَقْدِمْ بكتاب ليس لنا فيه فضل، تُعَرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها! قال سليمان: فلذلك أمرت بتحريق ما نسخته»!
فالميزان عند الخليفة: أن يكون في الكتاب مدحٌ لبني أمية، أما إذا كان فيه مدحٌ لآخرين فيقول لابنه: «وما حاجتك أن تَقْدِم بكتاب ليس لنا فيه فضل»!
وترى في هذا النص أن الخلافة تتبنى سياسة التعتيم والتجهيل، فقد قال لابنه: تُعَرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها! وقد طبقها الإبن وحرق ما كتبوه له!
حرصت الحكومات القرشية على إحراق كتب شيعة أهل البیت (علیهم السلام) وإبادتها، ومع ذلك سلمت من نارهم ثروة كبيرة، تغطي كثيراً من فصول السيرة النبوية وليس كلها، ونراها أحياناً تستفيض بأوسع من السيرة الحكومية.
ويكفيك مثالاً على سياستهم في إبادة العلم: كُتب جابر بن يزيد الجعفي، وكُتب أحمد بن عقدة، وكُتب سليمان الأعمش، وهم علماء موثقون عندنا وعندهم! فقد أحرقوا كتبهم أو فقدت من تلاميذهم في سنوات تشريدهم وتقتيلهم! وقد بلغت مؤلفاتهم نحو أربع مئة ألف حديث، أي مئتي مجلداً!
ص: 9
قال مسلم في مقدمة صحيحه /15: «الجراح بن مليح يقول: سمعت جابراً يقول: عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر «الباقر (علیه السلام)» عن النبي (صلی الله علیه و آله) كلها»!
وقد أحضر المنصور سليمان الأعمش ليلاً ليمنعه من رواية مناقب علي (علیه السلام) وقال له: «فأخبرني بالله وقرابتي من رسول الله كم رويت من حديث علي بن أبي طالب وكم من فضيلة من جميع الفقهاء؟ قلت: شئ يسير يا أميرالمؤمنين! قال: كم؟ قلت: مقدار عشرة آلاف حديث وما يزداد! قال: يا سليمان ألا أحدثك بحديث في فضائل علي يأكل كل حديث رويته عن جميع الفقهاء؟ فإن حلفت لا ترويه لأحد من الشيعة حدثتك به»! فضائل علي (علیه السلام) لابن المغازلي/226.
وقال الشهيد نور الله التستري في الصوارم المهرقة/214: «إن أهل بغداد أجمعوا على أنه لم يظهر من زمان ابن مسعود إلى زمان ابن عقدة، من يكون أبلغ منه في حفظ الحديث. وأيضاً قال الدارقطني: سمعت منه أنه قال: قد ضبطت ثلاث مائة ألف حديث من أحاديث أهل البیت وبني هاشم:،وحفظت مائة ألف حديث بأسانيدها! ونقل الذهبي عن عبدالغني بن سعيد أنه قال: سمعت عن الدارقطني قال: إن ابن عقدة يعلم ما عند الناس، ولا يعلم الناس ما عنده!
وقال الثلاثة: إن ابن عقدة كان يقعد في جامع براثا من الكوفة، ويذكر مثالب الشيخين عند الناس، فلهذا تركوا بعض أحاديثه، وإلا فلا كلام في صدقه».
وقد اشتبه الراوي فمسجد براثا في بغداد، ومسكن ابن عقدة الكوفة.
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ: 3/840: «قال الحاكم ابن البيِّع: سمعت أبا علي الحافظ يقول: ما رأيت أحفظ لحديث الكوفيين من أبي العباس بن عقدة.
وعن ابن عقدة قال: أنا أجيب في ثلاث مائة ألف حديث من حديث أهل البیت وبني هاشم. حدث بهذا عنه الدارقطني. وعن ابن عقدة قال: أحفظ مائة ألف حديث بأسانيدها.. وقال أبو سعد الماليني: أراد ابن عقدة أن ينتقل، فكانت كتبه ست مائة حملة». وذكر نحوه في وسائل الشيعة: 20/131 وذكر قول الشيخ الطوسي فيه: «أمره في الثقة والجلالة والحفظ أشهر من أن يذكر».
ص: 10
وفي مجلة تراثنا: 21/180: «أفرد الذهبي رسالة عن حياته، مذكورة في مؤلفاته في مقدمة سير أعلام النبلاء باسم: ترجمة ابن عقدة. ترجم له أعلام العامة بكل تجلة وتبجيل ووثقوه، وأثنوا على علمه وحفظه وخبرته وسعة اطلاعه، وأرخوا ولادته ليلة النصف من المحرم سنة 249، ووفاته في7 ذي القعدة سنة (علیها السلام) 32. ومن المؤسف أن هذا الرجل العظيم لم يبق من مؤلفاته الكثيرة الكبيرة سوى وريقات توجد في دار الكتب الظاهرية بدمشق، ضمن المجموعة رقم4581، باسم: جزء من حديث ابن عقدة من الورقة: 9-15»!
أما اليوم فلا تجد حتى الترجمة التي كتبها الذهبي لابن عقدة!
ويتضح حجم جريمة الحكومات في تضييع علم العترة:لوعرفت أن كل ألفي حديث تبلغ مجلداً تقريباً، وأن صحيح بخاري ومسلم وبقية الكتب الستة مع حذف المكرر تبلغ: 9780 حديثاً، وكل ما في الصحيحين: 2980 حديثاً.
http: //www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=2586 9
فتكون أحاديث جابر بن يزيد الجعفي خمساً وثلاثين مجلداً، أو سبعة أضعاف البخاري ومسلم وبقية الكتب الستة. والعشرة آلاف حديث التي يرويها سليمان الأعمش في فضائل أميرالمؤمنين (علیه السلام) وحدها أكثر من مجموع الكتب الستة!
أما أحاديث أحمد بن عقدة عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فتبلغ خمسين مجلداً، وأحاديثه عن أهل البیت (علیهم السلام) وبني هاشم، مئة وخمسين مجلداً!
ولم تكتفِ السلطة بمصادرة الكتب وإحراقها، حتى أفتى علماؤها بأن كل من روى شيئاً فيه نقد ولو بسيط لأبي بكر وعمر، فحكمه أن يدفن حياً!
قال الذهبي في ميزان الإعتدال: 2/75، عن العلل لأحمد بن حنبل: 3/8: «قال عبدالله بن أحمد: سألت ابن معين عنه» «زكريا بن يحيى الكسائي» «فقال: رجل سوء يحدث بأحاديث سوء. قلت: فقد قال لي: إنك كتبت عنه؟ فحول وجهه وحلف بالله إنه لا أتاه ولا كتب عنه. وقال: يستأهل أن يحفر له بئر فيلقى فيها»!
وقال عنه ابن تيمية في منهاج السنة: 7 - 232: «لا يحتج به باتفاق أهل العلم، فإن
ص: 11
زكريا بن يحيى الكسائي قال فيه يحيى: رجل سوء يحدث بأحاديث يستأهل أن يحفر له بئر فيلقى فيها.قال ابن عدي: كان يحدث بأحاديث في مثالب الصحابة».
فهل يجوز أن تخسر أجيال الأمة ثروة عظيمة بسبب روايات تنتقد بعض الصحابة؟ أمَا كان الواجب على علماء الأمة أن يرووها ويردوا عليها؟! لكنهم صاروا أعداء العلم، لأنهم أطاعوا سياسة التعتيم والتجهيل الأموي التي قال عنها الخليفة لابنه: «تُعَرِّف
أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها»!
فحضرة الخليفة الذي يحدد ما يسمح بمعرفته للناس، ويحرق كل ما لم يعجبه!
كان جبرئيل (علیه السلام) ينزل بآيات القرآن فيبلغها النبي (صلی الله علیه و آله) للصحابه، لكنهم لم يحفظوا أسباب نزولها وأوقاتها! بل نرى أن الصحابة صلوا مع النبي (صلی الله علیه و آله) على مئات الجنائز، ثم اختلفوا هل كان يُكَبِّر على الجنازة أربع تكبيرات، أو خمساً!
إن هذه الحالة من عدم الضبط في الأمة، تستوجب وجود إمام بعد النبي (صلی الله علیه و آله) عنده علم الكتاب ليبينه للأجيال بعلمٍ ويقين، لابظنون واحتمالات كما فعل الصحابة! ولذا أمر الله تعالى نبيه (صلی الله علیه و آله) فأعدَّ علياً (علیه السلام) وصياً وخليفة وإماماً، وعلمه علم الكتاب، فجمعه بأمر النبي (صلی الله علیه و آله) في حياته، وأكمل جمعه عند وفاته.
لكن قريشاً أبعدت علياً والعترة:عن السلطة، ولم تقبل منهم حتى نسخة القرآن التي جاءهم بها علي (علیه السلام)، خوفاً من أن تكون في غير مصلحتها: «فلما توسطهم وضع الكتاب بينهم قال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وهذا الكتاب وأنا العترة! فقام إليه الثاني فقال له: إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله فلا حاجة لنا فيكما! فحمل الكتاب وعاد به بعد أن ألزمهم الحجة»! المناقب: 1/320.
فقد كان (علیه السلام) مأموراً من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يعرضه عليهم، فإن لم يقبلوه احتفظ به عندالأئمة من ذريته:حتى يظهره المهدي (علیه السلام)، وتركهم يجمعونه كما يريدون، حتى لايكون للأمة
ص: 12
قرآنان.راجع: تدوين القرآن/182، ألف سؤال وإشكال: 1/243.
ولهذا السبب تخبطت الأمة في علوم القرآن وأسباب نزول آياته، فانظر من باب المثال إلى تهافت كلامهم في آخر آية نزلت، مع أنهم كانوا يومها ألوفاً:
1. روى أحمد: 1/36 في مسنده عن ابن المسيب أن عمر سئل عن آية الربا فلم يعرفها فقال إنها آخر آية! «وإن رسول الله قبض ولم يفسرها»!
2. وفي البخاري: 5/115: «وآخر آية نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ».
3. وفي البخاري: 5/182: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ، آخر ما نزل».!
4. وفي مستدرك الحاكم: 2/338 وصححه على شرط الشيخين: «آخر ما نزل من القرآن: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ». يقصد الآيتين: 128 و129من سورة التوبة.
5. وفي صحيح مسلم: 8/243: «تَعْلمُ آخر سورة نزلت من القرآن نزلت جميعاً؟ قلت نعم، إذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفَتْح. قال: صدقت».
6. وفي الطبراني الكبير: 12/19: «آخر آية أنزلت: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ». يقصد الآية: 281 من سورة البقرة!
7. وكأن السيوطي استحى من تهافت أحاديثهم الصحيحة في آخر ما نزل فأجملها في الإتقان: 1/101، ولم يعددها كما عدد الأقوال في أول ما نزل!
وهذا التناقض يوجب سقوط رواياتهم، فلا يبقى للباحث في أسباب النزول إلا ما قاله أهل البیت (علیهم السلام) أو المجمع عليه وهو قليل، كآية: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ، المجمع على نزولها بعد ثلاث سنين من البعثة، وأن الدعوة قبلها كانت لبني هاشم خاصة حتى كفاه الله المستهزئين. وهي مقطع مهم في السيرة، لأنها تعين سنة هلاك عدد من الفراعنة، وتنفي وجود دعوة عامة قبل ذلك التاريخ.
قال الإمام الصادق (علیه السلام): «كان أميرالمؤمنين (علیه السلام) يعجبه أن يُرْوَى شعرأبي طالب وأن يُدَوَّن وقال: تَعَلَّمُوهُ وعلموه أولادكم فإنه كان على دين الله.وفيه علمٌ كثير». وسائل
ص: 13
الشيعة: 17/331، إيمان أبي طالب للمفيد/10 ومكاتيب الرسول للأحمدي: 1/378.
وقد وصلنا منه نحو ألف بيت، وهي تكشف حقائق مهمة من سيرة النبي (صلی الله علیه و آله) من قبل البعثة، في كفالة عمه، وآياته التي شاهدها الراهب بحيرا، ومحاولة اليهود قتله، ثم بِعثته وتكذيب قومه له، إلى قرب هجرته (صلی الله علیه و آله)!
قال الصالحي الشامي في سبل الهدى: 2/142: «وقال أبوطالب في هذه السفرة قصائد، منها ما ذكره ابن إسحاق، وأبو هفان في ديوان شعر أبي طالب..الخ.».
وأبو هفان أقدم من جمع شعر أبي طالب (رحمة الله) وشَرَحَه، وهو عبدالله بن أحمد بن حرب بن مهزَّم البصري النحوي، صاحب كتاب أشعار عبدالقيس.«الذريعة: 14 /195 وإيضاح المكنون: 2/49». وذكره النجاشي كتبه في رجاله/218، وقال: «مشهور في أصحابنا وله شعر في المذهب. وبنو مهزم بيت كبير بالبصرة في عبدالقيس».
وقد اشتهر من شعر أبي طالب لاميته الرائعة، التي أرخ فيها لهيجان طغاة قريش ضد النبي (صلی الله علیه و آله) في مطلع نبوته، وقد مدحها العلماء حتى النواصب، لكنهم لم يستشهدوا بها في تدوينهم السيرة النبوية، لأنها تفضح زعماء قريش!
وأوردها ابن كثير في النهاية: 3/70 برواية ابن هشام، ورد تشكيك بعضهم في نسبة بعض أبياتها إلى أبي طالب، وقال عنها: «قلت: هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً، لايستطيع أن يقولها إلا من نسبت إليه، وهي أفحل من المعلقات السبع وأبلغ في تأدية المعنى منها جميعاً، وقد أوردها الأموي في مغازيه مطولة بزيادات أخر».ويقصد بالأموي المؤرخ الوليد بن مسلم صاحب الأوزاعي مولى الأمويين توفي سنة 195، له مصنفات في الحديث والتاريخ والمغازي. الديباج: 1/34.
لكن أتباع السلطة أعرضوا عنها متعمدين لأنهم يبغضون علياً (علیه السلام)، وقد يصل بغضهم بسببه إلى النبي (صلی الله علیه و آله)، ولاعذر لهم في ترك شعر أبي طالب حتى لو اعتبروه كافراً (رحمة الله)، لأن شعره وثائق من شاهدٍ على أحداث السيرة.
ص: 14
يشهد الجميع بأن الأئمة من أهل البیت (علیهم السلام): علياً والحسنين وزين العابدين والباقر والصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري والمهدي: أعرف بسيرة جدهم (صلی الله علیه و آله) وأصدق من غيرهم، ومع ذلك يُعرضون عنهم متعمدين ويأخذون السيرة من رواة مغرضين ويجعلون قولهم ديناً يدينون به! وكمثال على ذلك ما نسبوه إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه اقتص من أشخاص قتلوا رعاة إبل الصدقة، ففقأ عيونهم بمساميرمحماة، ثم أحرقهم بالنار أو تركهم ينزفون!
فقد رواه بخاري عن أنس: 1/64 قال: «قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة «مرضوا من هوائها» فأمر لهم النبي بلقاح «نوق حلوبة» وأن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي النبي (صلی الله علیه و آله) واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جئ بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسُمِّرَتْ أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون»!
وفي: 4/22: «أمر بمسامير فأحميت فكحَّلهم بها، وطرحهم بالحرة حتى ماتوا»!
وقد رووا استنكار أهل البیت (علیهم السلام) لهذه التهمة للنبي (صلی الله علیه و آله) لكنهم لم يقبلوا منهم!
قال الإمام الباقر (علیه السلام): «إن أول ما استحل الأمراء العذاب لكذبة كذبها أنس بن مالك على رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه سمَّرَ يد رجل إلى الحائط! ومن ثَم استحل الأمراء العذاب»!
علل الشرائع: 2/541، راجع ألف سؤال وإشكال: 2/440.
وقد أفتى الشافعي بجواز التعذيب. «الأم: 4/259» قال: «وكان علي بن حسين ينكر حديث أنس في أصحاب اللقاح..قال: والله ما سمل رسول الله عيناً، ولا زاد أهل اللقاح على قطع أيديهم وأرجلهم».
وهكذا جعلت السلطة أنس الصحابي كذاباً على النبي (صلی الله علیه و آله) لإثبات مشروعية تعذيب مخالفيها، وانتزاع الإعتراف منهم لقتلهم! ولو قبلوا من أهل البیت (علیهم السلام) تبرئة النبي (صلی الله علیه و آله)، وكذبوا رواة السلطة لكانوا علماء بحق!
ص: 15
1. اهتم علماؤنا بالسيرة وألفوا فيها كتباً وفصولاً. وكتب أخيراً العالم الصديق السيد جعفر مرتضى العاملي موسوعته: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله)، في أكثر من ثلاثين مجلداً، حاكم فيها بتفصيل مسائل السيرة الرسمية عند حكومات الخلافة القرشية. لكن بقيت الحاجة إلى سيرة تركز على أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) وكلمات علماء مذهبهم. لذا قمت بتدوين أحداث السيرة متتبعاً أولاً رواية أئمة أهل البیت (علیهم السلام) ثم كلام علماء مذهبهم، أو ما ارتضوه من رواية غيرهم.
وكان لابد أحياناً من محاكمة الرواية المشهورة بما يناسب الكتاب، لتكتمل الصورة الناصعة لسيرة النبي (صلی الله علیه و آله) منزهةً عن أهواء الحكام، وتخليط رواتهم.
أما فروقها عن السيرة الحكومية الرسمية فتعرفه بمقارنة فهرسها بفهارس السِّيَر الرسمية، لتجد أولاً التسلسل المنطقي والعمق العلمي و الحداثة في كل فصل، وتجد العنونة حيث لم يعنونوا، وفروقاً في أسباب الأحداث، وإظهاراً لحقائق كثيرة، وكشفاً لتحريف الرواية الحكومية.
2. نعتقد بعصمة نبينا (صلی الله علیه و آله) عصمة شاملة قبل البعثة وبعدها، في تبليغ الرسالة، وفي أموره الشخصية، بدليل: قوله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. وقول علي (علیه السلام): ولقد قرنالله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم. فقد كان النبي (صلی الله علیه و آله) من طفولته نبياً، أما في الأربعين فبعث رسولاً.
أما قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى «الضحیٰ: 6، 7، 8»: فمعناه أن من نعم الله عليك أنه هيأ لك جدك عبدالمطلب وعمك أباطالب (صلی الله علیه و آله) فكفلاك في يتمك ونشأتك. ومن نعمه عليك أنه هداك من صغرك، لكنك كنت متحيراً ضالاً فيما يجب عليك عمله، فهداك بالرسالة إلى دعوة الناس إلى دينه. ووجدك عائلاً عليك نفقة بيتك ومن تريد مساعدتهم، فأغناك بخديجة فوهبتك ثروتها، كما وهبت سارة ثروتها لإبراهيم (علیه السلام) .
ص: 16
وأفرط بعض أتباع السلطة ففسروا: وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى، بأنه (صلی الله علیه و آله) كان كافراً والعياذ بالله! ورده الرازي في تفسيره: 31/216، وفسره بأن النبي (صلی الله علیه و آله) كان ضالاً عن النبوة، لأنه لم يكفر بالله تعالى طرفة عين. ومذهبنا أنه (صلی الله علیه و آله) كان نبياً من صغره، وكان يرافقة ملك من لدن أن كان فطيماً، فلا بد أن يكون معنى الضلال الحيرة فيما يجب أن يفعله لهداية الناس، وليس الحيرة في ربه عزوجل.
قال الشريف المرتضى (رحمة الله) في تنزيه الأنبياء (علیهم السلام) /150: «في معنى هذه الآية أجوبة: أولها: أنه أراد وجدك ضالاً عن النبوة فهداك إليها، أو عن شريعة الإسلام التي نزلت عليه وأمر بتبليغها إلى الخلق. لأن الضلال هو الذهاب والإنصراف فلا بد من أمر يكون منصرفاً عنه». وقال أهل البیت (علیهم السلام) إن معنى آوى: آوى اليك المؤمنين، ومعنى فهدى: هداهم اليك».تنزيه الأنبياء/151. عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/177، كتاب عصمة الأنبياء للفخر الرازي/92، أخذ أكثره من تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى (رحمة الله)!
3. نعتقد بإيمان آباء النبي (صلی الله علیه و آله) إلى إسماعيل وإبراهيم وآدم:، وأن أجداده وعمه أباطالب كانوا على ملة إبراهيم (علیه السلام) الحنيفية، ولم يكونوا مكلفين باليهودية ولا بالمسيحية.
4. كان اليهود ينتظرون بعثة النبي الخاتم من الجزيرة، وجاءت لذلك مجموعات منهم بعد عيسى (علیه السلام)، وسكنت في وادي القرى، وخيبر، والمدينة، ومكة، وغيرها.
5. في السابعة والثلاثين من عمره (صلی الله علیه و آله) كان يأتيه جبرئيل (علیه السلام) ويعلمه، وفي الأربعين بدأ نزول الوحي عليه، وكان في أفق مبين واضح كما نص القرآن، ولم يكن في جو عُنفٍ وشكٍّ كما يرويه البخاري، بل نعتبر ذلك من طعن قريش في نبينا (صلی الله علیه و آله) أو من جهالة الراوي.
6. انتشر خبر بعثته (صلی الله علیه و آله) فاستشاط زعماء قريش غضباً، واتخذوا قراراً بقتله قبل أن يسمعوا حجته! لأنه نقض اتفاقية توزيع مناصب الشرف بين قبائل قريش ودعا إلى
ص: 17
زعامة بني هاشم! ثم أمره الله تعالى أن يدعو عشيرته الأقربين ويتخذ منهم وزيراً ووصياً، فقام بذلك، فزاد ذلك من غضب قريش واعتبروه نبأ عظيماً،لأنه جعل وصيه من عشيرته بني هاشم!
فالمرحلة الأولى من الدعوة، كانت خاصة ببني هاشم وتوحيدهم لحماية النبي (صلی الله علیه و آله) ومدتها ثلاث سنوات، لم يَدْعُ فيها النبي (صلی الله علیه و آله) غيرهم، حتى أهلك الله الفراعنة المستهزئين الخمسة وأوحى اليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ، فبدأ بالدعوة العامة.
وقد حرَّف رواة السلطة سِرِّيَّة الدعوة، لأن سريتها انحصرت بمن كتموا إسلامهم خوفاً من قريش كعمار، أو كتموه حرصاً على نجاح الدعوة كأبي طالب وحمزة.
أما النبوة وآيات القرآن وسوره فكانت علنية.
7. ضخَّم رواة السلطة دار الأرقم وجعلوها مرحلة في دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) لإثبات مناقب لبعض القرشيين، وادعوا أن المسلمين خرجوا من دار الأرقم إلى المرحلة العلنية، ولا وجود لمرحلة دار الأرقم أصلاً، ولا لإسلام عمر وأبي بكر في الفترة الأولى.
8. كانت الهجرة إلى الحبشة مرة واحدة، ولم يرجع المسلمون خطأ كما زعموا لما مدح النبي (صلی الله علیه و آله) أصنام قريش، ووصفها بأنها الغرانيق العلى وأن شفاعتها ترجى.
9. بيَّنا الرواية الصحيحة لمحاصرة النبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم في شعب أبي طالب، ومدتها، ورددنا ما ادعوه لبعض زعماء قريش أنهم عملوا لنقض صحيفة المحاصرة!
10. بينا أن الصحيح أن وفاة أبي طالب وخديجة (علیهما السلام) كانت قبل هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) بسنة وأشهر، وليس بثلاث سنوات، كما قيل.
11. عرض النبي (صلی الله علیه و آله) نفسه على نحو ثلاثين قبيلة ليحموه من قريش فيبلغ رسالة ربه، وقبلت بعضه القبائل حمايته بشرط أن تكون لها الخلافة بعده فرفض، وأخذ البيعة من الأنصار على أن يحموه وأهل بيته كما يحمون أنفسهم وذراريهم ولاينازعوهم الأمر.
ص: 18
12. زاد الخطر على حياة النبي (صلی الله علیه و آله) بعد وفاة عمه أبي طالب (رحمة الله) حتى اختبأ لفترة في الحجون، وتصاعد عملهم لقتله حتى طوقوا بيته فخرج مهاجراً بدون أن يشعروا، وأنام علياً (علیه السلام) مكانه. وفي طريقه (صلی الله علیه و آله) وجد أبابكر وغلامه فأخذهما معه، وجاء علي في اليوم التالي إلى الغار وجهزهم فهاجروا، ومعهم دليلهم عبدالله بن أريقط الجهني.
13. أدى علي (علیه السلام) أمانات النبي (صلی الله علیه و آله) في مكة، ونجا من محاولة اغتيال، وكانت هجرته ببقية أهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله) الهجرة العلنية الوحيدة، وبعثت له قريش مجموعة فرسان ليردوه، فقتل قائدهم وانهزم الباقون. وكان النبي (صلی الله علیه و آله) في انتظاره في قباء، ولما وصل اليه أخبره أن الله أنزل فيه وفي الفواطم آيات تمدحهم.
14. طلب أبوبكر من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يدخل المدينة ولاينتظر علياً (علیه السلام) في قباء، فأصر على انتظاره، فغضب أبوبكر وتركه في قباء وذهب إلى السنح، ولم يحضر هو ولا عمر في قُباء ولا في دخول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة.
15. أرسى النبي (صلی الله علیه و آله) أسس دولته في المدينة، وعقد معاهدات مع اليهود، وآخى بين المسلمين واختار علياً (علیه السلام) فآخاه.
16. كان انتصار المسلمين في بدر كاسحاً، وقامت المعركة على أكتاف بني هاشم، وكان بطلها الأكبر علي (علیه السلام)،حيث قتل أكثر نصف السبعين فارساً، وقتل المسلمون أقل من نصفهم. ونزلت آية تأكيد الخمس لبني هاشم، وكان تشريع الخمس قبل بدر.
17. نزلت سورة الأنفال بعد بدر وفيها ذم مرضى القلوب، وتوبيخ بعضهم لفرارهم من الصف الأول، واختلافهم على الغنائم، واتهامهم النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه أخفى عباءة!
ولم يستفد الصحابة من توبيخهم في بدر فانهزموا في أحُد وتركوا النبي (صلی الله علیه و آله) لسيوف المشركين، وطعنوا في قيادته وإدارته وقالوا: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا! وثبت مع النبي (صلی الله علیه و آله) أبو دجانة ونسيبة فجرحا، وثبت عليٌّ (علیه السلام) وقاتل وحده حتى
دفع الله المشركين وهزمهم!
ص: 19
18. وفي غزوة الأحزاب طالت محاصرة المشركين للمدينة نحو شهر، فخاف المسلمون وفرَّ أكثرهم من المرابطة وتسللوا إلى المدينة بأعذار مختلفة! حتى بقي مع النبي (صلی الله علیه و آله) ذات ليلة في حراسة الخندق اثنا عشر شخصاً فقط! وتواطأ بعضهم مع المشركين فعبَّروا فرساناً منهم من نقطة من الخندق بقيادة فارس العرب عمرو بن ود العامري، فدعا النبي (صلی الله علیه و آله) الصحابة إلى مبارزته فخافوا، فبرز اليه علي (علیه السلام) وقتله وقتل بعض رفاقه، فهرب الباقون ووقع الرعب في المشركين، وأرسل الله عليهم الريح فتمت هزيمتهم.
19. في غزوة النبي (صلی الله علیه و آله) ليهود بني قينقاع والنظير وقريظة، كان بطل الإسلام عليٌّ (علیه السلام) فقتل عدداً من أبطالهم، فخضعوا لشروط النبي (صلی الله علیه و آله) بالجلاء عن المدينة.
20. وكان لعلي (علیه السلام) أدوار في غزوة الحديبية، فعتَّم عليها رواة السلطة، وبيَّناها!
21. وكانت خيبر قسمين: حصون النطاة وأهمها حصن ناعم، وحصون الشق وأهمها حصن القموص. فحاصر النبي (صلی الله علیه و آله) حصن ناعم وهاجمه علي (علیه السلام) فدحا بابه وفتحه، ثم أبقاه النبي (صلی الله علیه و آله) هناك لترتيب وضعها، واتجه إلى حصن القموص فحاصره لمدة شهر أو نحوه، فكان المسلمون يهاجمونه يومياً تقريباً ويرجعون مهزومين! حتى طلبوا من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يحضر علياً (علیه السلام) فأحضره وأخبرهم أنه سيفتح الحصن، فهاجم علي (علیه السلام) الحصن وحده ودحا بابه الحديدي الثقيل، وقتل بطلهم مرحباً، وفتح الحصن!
22. وفي غزوة حنين انهزم المسلمون، وكانوانحو عشرة آلاف، فثبت مع النبي (صلی الله علیه و آله) بنو هاشم فقط، وقاتل علي (علیه السلام) وحده فقتل أربعين من حملة الرايات، وحقق النصر!
ثم حاصر النبي (صلی الله علیه و آله) حصن الطائف، وكان المسلمون يهاجمونه فلم يستطيعوا فتحه، وكان علي (علیه السلام) في مهمة عسكرية، فاتفق النبي (صلی الله علیه و آله) مع ثقيف وأنهى حصار الطائف.
23. بعد حنين أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) إلى اليمن مرات، فاستكمل فتحها وترتيب
ص: 20
أوضاعها، وكانت له فيها جولات وبطولات، أخفاها رواة السلطة.
24. تتميز هذه السيرة بتسليط الضوء على خلافة النبي (صلی الله علیه و آله) وإثبات أنها كانت مطروحة من أول بعثته لما أمره الله تعالى بأن يدعو عشيرته الأقربين، ويطلب منهم وزيراً يبايعه على دعوته ليتخذه أخاً ووصياً، فاستجاب له علي (علیه السلام) فأعلنه: «أخاه ووزيره ووصيه وخليفته من بعده» وأمرهم بطاعته، فقال أبولهب لأبي طالب: لقد أمرك بأن تطيع ابنك هذا!
وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يعرض نفسه على القبائل لتحميه، فاستجابت له عدة قبائل، لكنها اشترطت أن تكون لها الخلافة بعده، فلم يقبل.
ثم كانت الخلافة مطروحة عند منافسي علي (علیه السلام) فانقسم المسلمون في عهد النبي (صلی الله علیه و آله) إلى شيعة علي ومبغضيه، وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يمدح علياً (علیه السلام) وشيعته، ويذم من أبغضهم.
ثم كانت مطروحة بعد فتح مكة، وكانت الشغل الشاغل لقريش وحلفائها اليهود، فحاولوا اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله) مراراً، ليأخذوا دولته ويفرضوا خليفة منهم!
في الختام ننبه إلى أن مصادرنا هي من طبعة برنامجنا «مكتبة أهل البیت (علیهم السلام) - الإصدار الثاني». وننبه إلى أنا قد نذكر الصلاة على النبي (صلی الله علیه و آله) كاملة وهي في المصدر ناقصة.
نسأل الله تعالى بجاه أحب خلقه اليه محمد وآله الطاهرين (صلی الله علیه و آله) أن يتقبل منا هذا العمل ويشملنا بشفاعته صلوات الله عليه وآله المعصومين.
كتبه بقم المشرفة: علي الكَوْراني العاملي
غرة ربيع المولد1429 ثم في ربيع المولد سنة1436
ص: 21
ص: 22
إن وجودنا الفعلي ليس أول وجودنا ولا آخره، فقد تظافرت الأدلة من القرآن والسنة وكشوف العلم، على أنا كنا موجودين في عوالم قبل عالمنا هذا، واشتهر منها عالم الذر الذي قال الله تعالى عنه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا..
وقد نصت الآيات والأحاديث على أن الله امتحن الناس في عالم الذر امتحاناً كاملاً شاملاً، وأن عملنا في هذا العالم تطبيقٌ لما اخترناه بإرادتنا الكاملة هناك.
وورد أن الناس تعارفت أرواحهم في عالم الذر، فائتلفوا أو اختلفوا.
ويسمى عالم الأظلة أيضاً، وفي بعض الروايات عالم الأشباح النورانية، وعالم الأنوار الأولى، وأنه أول ظلال أو فَئْ خلقه الله تعالى من نور عظمته.
كما ورد إسم عالم الطينة، بمعنى الأصل الذي خلق منه الناس.
كما أن قوله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً، يشير إلى عالمٍ للإنسان حين كان شيئاً ولكن غير مذكور. راجع العقائد الإسلامية: 1/60.
ص: 23
وأحاديثه في مصادرنا ومصادر غيرنا كثيرة، وقد بحثها السيد الميلاني في المجلد الخامس من «نفحات الأزهار»، ونورد منها:
أ. ما نص على أن الله تعالى خلق نور النبي (صلی الله علیه و آله) قبل خلق الخلق، كما في الخصال/481 عن علي (علیه السلام): «إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد (صلی الله علیه و آله) قبل أن خلق السماوات والأرض والعرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار، وقبل أن خَلَقَ آدم ونوحاً وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى:...
وخلق الله عزوجل معه اثني عشر حجاباً: حجاب القدرة، وحجاب العظمة، وحجاب المنة، وحجاب الرحمة، وحجاب السعادة وحجاب الكرامة، وحجاب المنزلة، وحجاب الهداية، وحجاب النبوة، وحجاب الرفعة، وحجاب الهيبة، وحجاب الشفاعة. ثم حبس نور محمد (صلی الله علیه و آله) في حجاب القدرة اثني عشر ألف سنة وهو يقول: سبحان ربي الأعلى، وفي حجاب العظمة أحد عشر ألف سنة وهو يقول: سبحان عالم السر، وفي حجاب المنة عشرة آلاف سنة وهو يقول: سبحان من هو قائم لا يلهو..الخ.».
فهو صريح بأنه (صلی الله علیه و آله) خلقه الله تعالى قبل كل شئ.
ب. ومنها أن عترة النبي (صلی الله علیه و آله) خلقوا مع نوره (صلی الله علیه و آله) ففي الكافي: 1/442: «قال لي أبوجعفر (علیه السلام): يا جابر إن الله أول ما خلق خلق محمداً وعترته الهداة المهتدين، فكانوا أشباح نور بين يدي الله. قلت: وما الأشباح؟ قال: ظل النور، أبدان نورانية بلا أرواح، وكان مؤيداً بروح واحدة وهي روح القدس فبه كان يعبدالله وعترته، ولذلك خلقهم حلماء علماء بررة أصفياء، يعبدون الله بالصلاة والصوم والسجود والتسبيح والتهليل، ويصلون الصلوات، ويحجون ويصومون».
ج. ومنها أن نبينا (صلی الله علیه و آله) أول من أجاب في عالم الذر عندما خلق الله البشر، وامتحنهم، ففي بصائر الدرجات/83،عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن بعض قريش قال لرسول الله (صلی الله علیه و آله): بأي شئ سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إني كنت
ص: 24
أول من أقرَّ بربي، وأول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيين و: أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى، وكنت أنا أول نبي قال بلى، فسبقتهم بالإقرار بالله».
د. ومنها: أن الله تعالى بعث نبينا (صلی الله علیه و آله) نبياً للناس في عالم الأظلة، ففي تفسير العياشي: 2/126، عن زرارة وحمران، عن أبي جعفر وأبي عبدالله (صلی الله علیه و آله) قالا: «إن الله خلق الخلق وهي أظلة فأرسل رسوله محمداً (صلی الله علیه و آله) فمنهم من آمن به ومنهم من كذبه، ثم بعثه في الخلق الآخر فآمن به من كان آمن في الأظلة، وجحده من جحد به يومئذ، فقال: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ».
وفي بصائر الدرجات/104: «سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى. قال: يعني به محمداً (صلی الله علیه و آله)،حيث دعاهم إلى الإقرار بالله في الذر الأول».
ه. ومنها: أن النبي وآله (صلی الله علیه و آله) كانوا حول العرش، وأنهم الكلمات التي تلقاها آدم (علیه السلام) ففي شرح الأخبار: 3/6، عن صفوان الجمال قال: «دخلت على أبي عبدالله جعفر بن محمد (علیه السلام) وهو يقرأ هذه الآية: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، ثم التفت إليَّ فقال: يا صفوان إن الله تعالى ألهم آدم (علیه السلام) أن يرمي بطرفه نحو العرش فإذا هو بخمسة أشباح من نور يسبحون الله ويقدسونه، فقال آدم: يا رب من هؤلاء؟ قال: يا آدم صفوتي من خلقي، لولاهم ما خلقت الجنة ولا النار، خلقت الجنة لهم ولمن والاهم، والنار لمن عاداهم. لو أن عبداً من عبادي أتى بذنوب كالجبال الرواسي، ثم توسل إليَّ بحق هؤلاء لعفوت له. فلما أن وقع آدم في الخطيئة قال: يا رب بحق هؤلاء الأشباح إغفر لي، فأوحى الله عزوجل إليه: إنك توسلت إلي بصفوتي وقد عفوت لك. قال آدم: يا رب بالمغفرة التي غفرت إلا أخبرتني من هم؟ فأوحى الله إليه: يا آدم هؤلاء خمسة من ولدك، لعظيم حقهم عندي اشتققت لهم خمسة أسماء من أسمائي، فأنا المحمود وهذا محمد، وأنا الأعلى وهذا علي، وأنا الفاطر وهذه فاطمة، وأنا المحسن وهذا الحسن، وأنا الإحسان وهذا الحسين».
ص: 25
و. ومنها: أن الله تعالى خلق أربعة عشر معصوماً (علیهم السلام) من نور عظمته، ففي المحتضر /228، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «إن الله عزوجل خلق أربعة عشر نوراً من نور عظمته قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فهي أرواحنا. فقيل له: يا ابن رسول الله عُدَّهم بأسمائهم فمن هؤلاء الأربعة عشر نوراً؟ فقال: محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والتسعة من ولد الحسين، تاسعهم قائمهم. ثم عدهم بأسمائهم وقال: نحن والله الأوصياء الخلفاء من بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ونحن المثاني التي أعطاها الله تعالى نبينا محمداً (صلی الله علیه و آله)، ونحن شجرة النبوة،ومنبت الرحمة، ومعدن الحكمة، ومصباح العلم، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، وموضع سر الله، ووديعة الله جل اسمه في عباده، وحرم الله الأكبر، وعهده المسؤول عنه، فمن وفى بعهدنا فقد وفى بعهد الله، ومن خفره فقد خفر ذمة الله وعهده، عرفنا من عرفنا، وجهلنا من جهلنا. نحن الأسماء الحسنى الذين لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا، ونحن والله الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه.
إن الله تعالى خلقنا فأحسن خلقنا، وصورنا فأحسن صورنا، وجعلنا عينه على عباده، ولسانه الناطق في خلقه، ويده المبسوطة عليهم بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه، وبابه الذي يدل عليه، وخزان علمه، وتراجمة وحيه، وأعلام دينه، والعروة الوثقى، والدليل الواضح لمن اهتدى، وبنا أثمرت الأشجار، وأينعت الثمار، وجرت الأنهار، ونزل الغيث من السماء، ونبت عشب الأرض، وبعبادتنا عبدالله تعالى ولولانا لما عرف الله تعالى، وأيم الله لولا كلمة سبقت وعهد أخذ علينا لقلت قولاً يعجب منه أو يذهل منه الأولون والآخرون».
ز. ومنها: أحاديث خلق نور علي (علیه السلام) مع نور النبي (صلی الله علیه و آله)، وقد رواها الجميع، ففي مناقب علي لأبي بكر بن مردويه/285، أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزئين، فجزءٌ أنا وجزء علي».
كما روى ابن مردويه بسنده عن الباقر (علیه السلام) عن آبائه عن جده (صلی الله علیه و آله)، قال: «كنت أنا وعلي
ص: 26
نوراً بين يدي الله تعالى من قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله تعالى آدم سلك ذلك النور في صلبه، فلم يزل الله تعالى ينقله من صلب إلى صلب، حتى أقره في صلب عبدالمطلب، فقسمه قسمين: قسماً في صلب عبدالله، وقسماً في صلب أبي طالب، فعلي مني وأنا منه، لحمه لحمي، ودمه دمي، فمن أحبه فبحبي أحبه، ومن أبغضه فببغضي أبغضه».
ومثله الخصال للصدوق/640،وأمالي الطوسي/183، وفيه: «فجعل في عبدالله نصفاً، وفي أبي طالب نصفاً، وجعل النبوة والرسالة فيَّ، وجعل الوصية والقضية في علي، ثم اختار لنا إسمين اشتقهما من أسمائه، فالله المحمود وأنا محمد، والله العلي وهذا علي، فأنا للنبوة والرسالة وعلي للوصية والقضية».
ورواه العلامة في كشف اليقين/11ونهج الحق/212، عن ابن مردويه وابن حنبل، وابن المغازلي وفيه: «حتى قسمه جزءين، فجعل جزءً في صلب عبدالله، وجزءً في صلب أبي طالب فأخرجني نبياً، وأخرج علياً ولياً».
ح. ومنها أن الله تعالى خلق نور نبيه (صلی الله علیه و آله) وخلق معه نور علي وفاطمة (علیهما السلام) .
«ففي الكافي: 1/441»: «عن محمد بن سنان قال: كنت عند أبي جعفر الثاني (علیه السلام) فأجريت اختلاف الشيعة فقال: يا محمد إن الله تبارك وتعالى لم يزل متفرداً بوحدانيته، ثم خلق محمداً وعلياً وفاطمة:فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها، وفوض أمورها إليهم، فهم يحلون ما يشاؤون ويحرمون ما يشاؤون، ولن يشاؤوا إلا أن يشاء الله
تبارك وتعالى.
ثم قال: يا محمد، هذه الديانة التي من تقدمها مرق، ومن تخلف عنها محق، ومن لزمها لحق، خذها إليك يا محمد».
ص: 27
أ. روت عدداً منها مصادرهم وصححوا بعضها وضعفوا أكثرها، وجردوه من ذكر العترة! ففي مجمع الزوائد: 8/223: «عن ميسرة العجر، قال: قلت يا رسول الله متى كتبت نبياً؟ قال: وآدم بين الروح والجسد. رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح».
ب. وأشهرها حديث: كنت أنا وعليٌّ نوراً بين يدي الرحمان، رواه ابن حنبل في فضائل الصحابة: 2/262، عن سلمان قال: «سمعت حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله عزوجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلقالله آدم قسم ذلك النور جزءين، فجزء أنا وجزء علي».
وقد اجتزأه ابن حنبل، لأن نصه كما في تاريخ دمشق: 42/67: «كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله، مطيعاً، يسبح الله ذلك النور ويقدسه، قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام. فلما خلق الله آدم رَكَزَ ذلك النور في صلبه، فلم نَزل في شئ واحد حتى افترقنا في صلب عبدالمطلب، فجزءٌ أنا وجزءٌ علي».
وهذا النص مجتزأ أيضاً، فقد نقله في شرح النهج: 9/171 عن الفردوس وقال: «رواه أحمد في المسند، وفي كتاب فضائل علي، وذكره صاحب كتاب الفردوس، وزاد فيه: ثم انتقلنا حتى صرنا في عبدالمطلب، فكان لي النبوة ولعلي الوصية».
ولا تجده في مسند أحمد فلا بد أنه حذف، وبقي في مناقب الصحابة، أما في الفردوس فنصه الموجود: 3/283 كرواية أحمد، وكذا في الرياض النضرة للطبري/392!
ج. ومنها حديث العرباض رواه أحمد: 4/127: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إني لعبدالله وخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت. وكذلك أمهات النبيين يَرَيْن».ورواه الحاكم: 2/418 و600 و608، صححه، وكنز العمال: 11/409، 11/418 و449 و450 والدر المنثور: 1/139 و 5/184 و207 و 6/213.
وفي مجمع الزوائد: 8/223: رواه أحمد بأسانيد، والبزار والطبراني.. رجاله رجال الصحيح».
د. ومنها: حديث: أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر،قال في كشف الخفاء: 1/265
ص: 28
«رواه عبدالرزاق بسنده عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شئ خلقه الله قبل الأشياء؟ قال: يا جابر، إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم، ولا جنة ولا نار، ولا ملك ولا سماء ولا أرض، ولا شمس ولا قمر، ولا جني ولا إنسي! فلما أراد الله أن يخلق الخلق قَسَم ذلك النور أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول حملة العرش، ومن الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأول السماوات، ومن الثاني الأرضين، ومن الثالث الجنة والنار. ثم قسم الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله، ومن الثالث نور إنسهم وهو التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.. الحديث..
كذا في المواهب، وقال فيها أيضاً: واختُلف هل القلم أول المخلوقات بعد النور المحمدي أم لا؟ فقال الحافظ أبو يعلى الهمداني: الأصح أن العرش قبل القلم، لما ثبت في الصحيح عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قدر الله مقاديرالخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء. فهذا صريح في أن التقدير وقع بعد خلق العرش...
وقيل: الأولية في كل شئ بالإضافة إلى جنسه، أي أول ما خلق الله من الأنوار نوري، وكذا باقيها. وفي أحكام ابن القطان فيما ذكره ابن مرزوق عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: كنت نوراً بين يدي ربي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام... قال الشبراملسي: ليس المراد بقوله من نوره ظاهره من أن الله تعالى له نور قائم بذاته لاستحالته عليه لأن النور لايقوم إلا بالأجسام، بل المراد خلق من نور مخلوقٍ له قبل نور محمد، وأضافه إليه تعالى، لكونه تولى خلقه. ثم قال: ويحتمل أن الإضافة بيانية، أي خلق نور نبيه من نور
ص: 29
هو ذاته تعالى، لكن لابمعنى أنها مادة خلق نور نبيه منها، بل بمعنى أنه تعالى تعلقت إرادته بإيجاد نور بلا توسط شئ في وجوده، قال: وهذا أولى الأجوبة نظير ما ذكره البيضاوي في قوله تعالى: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، حيث قال: أضافه إلى نفسه تشريفاً وإشعاراً بأنه خلق عجيب، وأن له مناسبة إلى حضرة الربوبية».
ه. وروى في كنز العمال 12/427، حديث ابن عباس وشعر حسان قال: سئل النبي: «فداك أبي وأمي أين كنت وآدم في الجنة؟ فقال (صلی الله علیه و آله): كنت في صلبه وركب بي السفينة في صلب أبي نوح وقذف بي في صلب أبي إبراهيم، لم يلتق أبواي قط على سفاح، لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسنة إلى الأرحام الطاهرة، مصفى مهذباً، ولا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما، قد أخذ الله بالنبوة ميثاقي وبالإسلام عهدي، ونشر في التوراة والإنجيل ذكري، وبين كل نبي صفتي، تشرق الأرض بنوري، والغمام لوجهي، وعلمني كتابه، ورقى بي في سمائه، وشق لي إسماً من أسمائه، فذو العرش محمود وأنا محمد.ووعدني أن يحبوني بالحوض والكوثر، وأن يجعلني أول مشفع، ثم أخرجني من خير قرن لأمتي، وهم الحمادون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.قال ابن عباس: فقال حسان:
من قبلها طبت في الظلال *** وفي مستودع حيث يُخصف الورق
ثم سكنت البلاد لا بشرٌ *** أنت ولا نطفة ولا علق
مطهر تركب السفين وقد *** ألجم أهل الضلالة الغرقُ
تنقل من صلب إلى رحم *** إذا مضى عالم بدا طبق»
ومجمع الزوائد: 8/217، نحوه المناقب: 1/27، نسبو ه إلى العباس والصحيح أنه لحسان.
1. إن ابتداء خلق الكون بخلق نور النبي (صلی الله علیه و آله) حقيقةٌ كبيرة في تكوين الكون وإدارته، وتسمى الحقيقة المحمدية. وهي تدل على أن النبي (صلی الله علیه و آله) مشروع خاص لايقاس به أحد حتى الأنبياء (علیهم السلام) .ومعه عترته المعصومون علي وفاطمة والحسنان والتسعة من
ص: 30
ذرية الحسين علیهم السلام، الذين خلق نورهم مع نوره أو اشتقه منه، فهم جزءٌ لا يتجزأ من الحقيقة المحمدية. وهذا يفتح باباً لتفسير مقاماتهم:.
2.لايمكن لأحد أن ينفي أن الله تعالى بَدَأَ خلق الكون بنور محمد (صلی الله علیه و آله) لأن قدرتنا المعرفية لاتسمح لنا بالنفي أو الإثبات! فلم نكن حاضرين عندما بدأ الله تعالى خلقه، ولا وسائل عندنا لمعرفة ذلك، إلا بما أخبرنا به الوحي إلى النبي (صلی الله علیه و آله) .
فيجب أن نعترف بأن معلوماتنا محدودة رغم تطور العلم وكشفه الكثير عن النور والأشعة، واستفادة العلماء منها في الطب والحرب. ورغم اكتشاف آينشتاين نظرية النسبية الخاصة والعامة، اللتين تجعلان الزمن ركناً في وجود المادة، وتقدمان حقائق جديدة عن النور والحركة، وعن تحولها إلى طاقة وبالعكس، وإمكانية سفر الإنسان في المستقبل وفي الماضي!
إلا أنا مع كل ذلك، لا نعرف كيف بدأ الله تعالى خلق الكون، وغاية ما توصل اليه العلماء مرحلة الغيوم السديمية، ثم وصلوا إلى أنه كان قبلها بحرغاز سائل.
فمسائل بدء الخلق ثم تنويعه وتطويره، من الأسرار التي هي فوق قدرتنا!
3. حاول أتباع الخلافة تحريف أحاديث خلق نور النبي (صلی الله علیه و آله) وآله:، فجعلوها في أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة ومعاوية، أو في قريش كلها، لتشمل الذين اتخذوهم أئمة مقابل أهل البیت (علیهم السلام) . ثم حذفوا منها ما يشهد بإيمان آباء النبي (صلی الله علیه و آله) وأمهاته إلى إبراهيم ثم إلى آدم:، كالذي رواه السيوطي في الدر المنثور: 3/295: «ثم لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، حتى أخرجني من بين أبويَّ، لم يلتقيا على سفاح قط».
وسبب حذفهم لها أنها تثبت وراثة النبي لآبائه المؤمنين:ووراثة عترته له، فلا يبقى محل لزيد وعمرو! وأشد نص عليهم حديث نور محمد (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) وإن رووه هم، لأن فيه: «ثم انتقلنا حتى صرنا في عبدالمطلب فكان لي النبوة ولعلي الوصية». فهو يعني أن علياً وصي النبي (صلی الله علیه و آله) بأمر الله تعالى، فتكون بيعة السقيفة مخالفة لوصية النبي (صلی الله علیه و آله)!
ص: 31
قال السيوطي في الدر المنثور: 3/295: «عن ابن عباس أن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه، فلما خلق الله آدم ألقى ذلك النور في صلبه. قال رسول الله: فأهبطني الله إلى الأرض في صلب آدم، وجعلني في صلب نوح، وقذف بي في صلب إبراهيم، ثم لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، حتى أخرجني من بين أبويَّ لم يلتقيا على سفاح قط».
ورواه في ذيل تاريخ بغداد: 2/94 والخصائص: 1/66، وقال: «ويشهد لهذا ما أخرج الحاكم والطبراني عن خريم بن أوس قال: هاجرت إلى رسول الله منصرفه من تبوك فسمعت العباس يقول: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك...». وذكر شعر حسان..
وقال القاضي عياض: 1/82: «ويشهد بصحة هذا الخبر شعر العباس المشهور».
ويلاحظ أن القسم الأول من الحديث كلام ابن عباس وقد جعلوه للنبي (صلی الله علیه و آله) فصارت قريش كلها بمن فيها أئمة الكفر كأبي جهل وأبي لهب، نوراً قبل خلق آدم (علیه السلام)!
ولذا قال الحلبي في سيرته: 1/48: «قوله: فأهبطني، ينبغي أن لايكون معطوفاً على ما قبله من قوله: إن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله تعالى..الخ. فيكون نوره من جملة نور قريش، وإنه انفرد عن نور قريش، وأودع في صلب نوح..»!
ولهم تحريف آخر لمصلحة خلفاء قريش!
ففي تفسير الثعلبي: 7/111 والقرطبي: 12/286: «قال رسول الله: إن الله تعالى خلقني من نوره، وخلق أبابكر من نوري، وخلق عمر وعائشة من نور أبي بكر، وخلق المؤمنين من أمتي من الرجال من نور عمر، وخلق المؤمنات من أمتي من النساء من نور عائشة، فمن لم يحبني ويحب أبابكر وعمر وعائشة فما له من نور، فنزلت عليه: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ».
وقال في السيرة الحلبية: 1/241: «وفي رواية: لما انتقل النور إلى سبابته قال يا رب هل بقي في ظهري من هذا النور شئ؟ قال: نعم نور أخصاء أصحابه. فقال: يا رب اجعله
ص: 32
في بقية أصابعي، فكان نور أبي بكر في الوسطى، ونور عمر في البنصر، ونور عثمان في الخنصر، ونور علي في الإبهام. فلما أكل من الشجرة، عاد ذلك النور إلى ظهره»!
وقال السيد الميلاني في نفحات الأزهار: 5/190:
«حديث موضوع آخر في فضل الشيخين: قال السيوطي: أبو نعيم في أماليه.. عن أبي هريرة مرفوعاً: خلقني الله من نوره، وخلق أبابكر من نوري، وخلق عمر من نور أبي بكر، فخلق أمتي من نور عمر، وعمر سراج أهل الجنة. قال أبو نعيم: هذا باطل.. وقال في الميزان: هذا خبر كذب، ما حدث به واحد من الثلاثة، وإنما الآفة عندي فيه المنبجي لا يعرف... فإذا كان هذا الحديث موضوعاً باعتراف أبي نعيم والذهبي والسيوطي وابن عراق، فإن خبر خلق الثلاثة قبل آدم (علیه السلام) وكونهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) على يمين العرش، كذب بالأولوية».
أقول: ومثله في تاريخ دمشق: 30/164: «قال: حدثني جبريل أن الله لما خلق الأرواح اختار روح أبي بكر الصديق من بين الأرواح، وجعل ترابها من الجنة وماءها من الحيوان، وجعل له قصراً في الجنة من درة بيضاء، مقاصيرها فيها من الذهب والفضة البيضاء، وإن الله تعالى آلى على نفسه ألا يسأله عن حَسَنة ولايسأله عن سيئة»!
هذا، وقد كثرت مكذوباتهم في فضائل أبي بكر وعمر حتى زكمت أنوفهم! قال في كشف الخفاء: 2/419: «وباب فضائل أبي بكر الصديق رضيالله عنه أشهر المشهورات من الموضوعات، كحديث: إن الله يتجلى للناس عامة ولأبي بكر خاصة! وحديث: ما صب الله في صدري شيئاً إلا وصببته في صدر أبي بكر! وحديث: كان إذا اشتاق إلى الجنة قبَّل شيبة أبي بكر! وحديث: أنا وأبوبكر كفرسي رهان! وحديث: إن الله لما اختار الأرواح اختار روح أبي بكر»!
راجع: نفحات الأزهار: 5/13و 11/208 والوضاعون للأميني/387.
4. نلاحظ أن أخبار خلق نور النبي (صلی الله علیه و آله) مغيبةٌ عند أتباع الخلافة، فلا تسمعها في مساجدهم وخطبهم، ولاتراها في مناهجهم التربوية. اللهم إلا ما أخذه منها
ص: 33
بعض الصوفية، وبنوا عليه بناءاتهم. وهذا السلوك المتعمد في الإعراض عن ذكر مقامات النبي (صلی الله علیه و آله) موروث من طلقاء قريش الذين كانوا في زمنه (صلی الله علیه و آله) يسمون خيار الصحابة «عُبَّاد محمد»! ويتهمونهم بالغلو فيه لأنهم يؤمنون بمقاماته (صلی الله علیه و آله) ويتعبدون بأوامره ونصوصه!
وقد ورثهم في عصرنا بدوٌ أجلاف متعصبون لقريش وبني أمية، فقالوا «محمد طارش ومات» أي مبعوث أوصل رسالة وانتهى، وهو الآن لا ينفع!
بل قال شيخهم«عصاي هذه أنفع من محمد»! وقد ناقشني أحد مشايخهم في نسبة هذا الكلام لابن عبدالوهاب، فقلت له لا بأس: أنت هل ترى أن عصاك أفضل أم النبي (صلی الله علیه و آله) الآن؟ فبَكِمَ ولم يجب!
وقد حرم هؤلاء القساة الجفاة زيارة قبره (صلی الله علیه و آله)! وحكموا على المسلمين بالغلو والشرك لمجرد قولهم: «يا رسول الله إشفع لنا عند الله»!
وقد بحثنا ذلك في المجلد الخامس من العقائد الإسلامية، والمجلد الثاني من ألف سؤال وإشكال، وذكرنا أن طعن «القرشيات» في شخصية النبي (صلی الله علیه و آله) أسوأ من طعن الإسرائيليات في أنبياء الله الماضين:.
ص: 34
كان للعرب في عصر النبي (صلی الله علیه و آله) دولة في اليمن، وكانوا في جزيرة العرب قبائل لاتضمهم دولة، وفي العراق قبائل بشكل دولة تحت نفوذ الفرس، وفي الشام والأردن دولة تحت نفوذ الروم،وكانوا في مصر أقلية تحت حكم القبط والروم.
ويمكن تقدير عدد العرب في كل الجزيرة بنصف مليون نسمة. لأن غاية ما أمكن لقريش أن تحشده من مكة لحرب الأحزاب أربعة آلاف مقاتل فلو حسبنا مقاتلاً من كل سبعة أشخاص يكون عددها في مكة وحولها أقل من أربعين ألفاً. وحشدت قبائل عرب الجزيرة نحو ثلاثين ألفاً، فلا يزيد عددها عن نصف مليون نسمة، وإن بالغنا قلنا مليون نسمة.
وكان عدد سكان المدينة في حرب الأحزاب نحو خمسة آلاف نسمة «الصحيح: 9/182»وعند وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) اثني عشرألفاً، وقد يكون عدد سكان المناطق القريبة من المدينة مثل عددها.
وذكر ابن حجر«فتح الباري: 81/15» أن عدد الذين أرسلهم النبي (صلی الله علیه و آله) في جيش أسامة ليبعدهم عن المدينة ثلاثة آلاف فيهم سبع مئة قرشي! قال: «لم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة، منهم أبوبكر وعمر...وعند الواقدي أيضاً أن عدة ذلك الجيش كانت ثلاثة آلاف فيهم سبع مائة من قريش».
ص: 35
وهذا يعني أن عدة آلاف من طلقاء قريش جاؤوا إلى المدينة بعد فتح مكة، فوصل عدد سكانها إلى اثني عشر ألفاً.
أما عرب اليمن فكانوا نحو مليون، وعرب العراق والشام وفلسطين نحو مليون. فيكون مجموع العرب في الجزيرة وخارجها أقل من ثلاثة ملايين نسمة.
كان اليمانيون يعيشون على الزراعة وتربية المواشي، والتجارة وبعض الصناعات، وكذا العرب في مصر والعراق والشام وفلسطين. وكان عرب الجزيرة في فقر شديد، تكثر فيهم الغارات والنهب، فليس في الجزيرة إلا واحات قليلة للزراعة، ومراعٍ شحيحة للماشية. وكان لقريش تجارة بين الحجاز واليمن والشام ومصر، في رحلتي الشتاء والصيف.
كان عرب الجزيرة والعراق وثنيين، يعبدون أصناماً عديدة، أهمها: هُبَل واللات والعُزَّى ومُنَاة، وكان فيهم بقية من دين إبراهيم (علیه السلام) .
وكان فيهم أقلية يهودية، في وادي القرى وتيماء وخيبر وضواحي المدينة ومكة.
وكانت وثنية اليمنيين غير حادة، وفيهم أقلية يهودية في صنعاء وغيرها، وأقلية مسيحية في نجران وحولها. أما عرب الشام وفلسطين ومصر، فانتشرت فيهم المسيحية، بحكم كونهم تحت النفوذ الروماني.
قال الإمام الصادق «الكافي: 4/212»: «إن العرب لم يزالوا على شئ من الحنيفية: يصلون الرحم، ويُقْرُون الضيف، ويحجُّون البيت، ويقولون إتقوا مال اليتيم فإن مال اليتيم عِقال، ويكفُّون عن أشياء من المحارم مخافة العقوبة، وكانوا لا يُمْلَى لهم إذا انتهكوا المحارم، وكانوا يأخذون من لحاء شجر الحرم فيعلقونه في أعناق الإبل فلا يجترئ أحد أن يأخذ من تلك الإبل حيثما ذهبت، ولا يجترئ أحد أن يعلق من غير لحاء شجر الحرم، أيهم فعل ذلك عوقب. وأما اليوم فأمليَ لهم، ولقد جاء أهل
ص: 36
الشام فنصبوا المنجنيق على أبي قبيس، فبعث الله عليهم سحابة كجناح الطير، فأمطرت عليهم صاعقة، فأحرقت سبعين رجلاً حول المنجنيق».
ومعنى كلامه (علیه السلام) أن الله تعالى أملى للعرب بعد الإسلام فلم يعاقبهم إذا تعدوا على حرمة الحرم، إلا في حالات قليلة، منها عندما تحصن ابن الزبير في الحرم وهاجمه يزيد سنة 63 هجرية، ثم هاجمه عبدالملك سنة 73، فعاقبهم الله تعالى بصاعقة، فلم يتعظوا ولم ينتهوا وأغواهم الحجاج، فتركهم الله في غيهم!
قال الطبري: 5/29: «فرعدت السماء وبرقت وعلا صوت الرعد والبرق على الحجارة فاشتمل عليها «غلب صوتها»! فأعظم ذلك أهل الشام فأمسكوا أيديهم، فرفع الحجاج بَرْكة قبائه فغرزها في منطقته، ورفع حجر المنجنيق فوضعه فيه، ثم قال: إرموا، ورمى معهم! قال: ثم أصبحوا، فجاءت صاعقة تتبعها أخرى فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلاً فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: يا أهل الشأم لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة، هذه صواعق تهامة، هذا الفتح قد حضر فأبشروا! إن القوم يصيبهم مثل ما أصابكم!
فصَعَقَتْ من الغد فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون. وأنتم على الطاعة وهم على خلاف الطاعة»!
وفي نهاية ابن كثير: 8/363: «فنزلت صاعقة على المنجنيق فأحرقته، فتوقف أهل الشام عن الرمي والمحاصرة فخطبهم الحجاج فقال: ويحكم ألم تعلموا أن النار كانت تنزل على من كان قبلنا فتأكل قربانهم إذا تقبل منهم! فلولا أن عملكم مقبول ما نزلت النار فأكلته! فعادوا إلى المحاصرة»!
كان العرب أميين أي ليس لهم كتاب سماوي. قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) «نهجالبلاغة: 1/199»: «أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً (صلی الله علیه و آله) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً، ولايدَّعي نبوةً ولا وحياً، فقاتل بمن أطاعه من عصاه، يسوقهم إلى
ص: 37
منجاتهم، ويبادر بهم الساعة أن تنزل بهم. يحسر الحسير، ويقف للكسير فيقيم عليه حتى يُلحقه غايته، إلا هالكاً لا خير فيه، حتى أراهم منجاتهم، وبوأهم محلتهم، فاستدارت رحاهم، واستقامت قناتهم. وأيم الله لقد كنتُ من ساقتها حتى تولت بحذافيرها، واستوسقت في قيادها، ما ضعفتُ ولا جبنتُ، ولا خنتُ ولا وهنتُ. وأيم الله لأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته».
ومن خطبة له (علیه السلام): «إن الله بعث محمداً (صلی الله علیه و آله) نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل، وأنتم معشرالعرب على شر دينٍ وفي شر دار، متنخَّوْنَ بين حجارة خُشْن وحيات صُمّ، تشربون الكدَر، وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة». نهجالبلاغة: 1/66.
ففي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/281: «قلت له: جعلت فداك، لم سموا العرب أولادهم بكلب ونمر وفهد، وأشباه ذلك؟ قال: كانت العرب أصحاب حرب فكانت تُهَوِّلُ على العدو بأسماء أولادهم، ويسمون عبيدهم: فرج ومبارك وميمون، وأشباه ذلك، يتيمنون بها».
روي أن الله تعالى بعث أربعة أنبياء يتكلمون العربية، فعن الإمام الحسين (علیه السلام) قال: «كان علي بن أبي طالب (علیه السلام) بالكوفة في الجامع إذ قام إليه رجل من أهل الشام فسأله عن مسائل فكان فيما سأله أن قال له: أخبرني عن خمسة من الأنبياء تكلموا بالعربية؟فقال: هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد، صلوات الله عليهم». الخصال/319.
وروي عن الباقر (علیه السلام): «أول من شق لسانه بالعربية إسماعيل بن إبراهيم، وكان أبوه يقول له وهما يبنيان البيت (علیهم السلام) يا إسماعيل هابي ابن، أي أعطني حجراً، فيقول له إسماعيل بالعربية: يا أبت هاك حجراً، فإبراهيم يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة». التبيان: 1/463.
ص: 38
وفي تحف العقول/297: «أول من شق لسانه بالعربية إسماعيل بن إبراهيم (صلی الله علیه و آله) وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان لسانه على لسان أبيه وأخيه، فهو أول من نطق بها وهو الذبيح».وفتح الباري: 6/286، عن علي (علیه السلام)، الجامع الصغير: 1/435 والقرطبي 1/283.
أقول: لابد أن يكون معنى الحديث أن إسماعيل (علیه السلام) أول من تكلم من أولاد إبراهيم بالعربية، وهي لغة محيطه من قبيلة جرهم وعرب الجنوب، أما لغته قبلها فكانت كأبيه وإخوته البابلية أو السريانية، ولغة أمه القبطية.
هذ ا، وقد رويت أحاديث في تكون اللغات، وهي مرسلة أو ضعيفة، يقلُّ فيها الصحيح، وزعم بعضها أن العربية لغة آدم (علیه السلام) ولغة أهل الجنة، والمعقول أن تكون لغة أهل الجنة أبلغ من كل لغات الدنيا.
أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بإعراب القرآن وقراءته بألحان العرب، ففي الكافي: 2/614 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «أعربوا القرآن فإنه عربي،قال النبي (صلی الله علیه و آله): إن الرجل الأعجمي من أمتي ليقرأ القرآن بعجمية فترفعه الملائكة على عربية...قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق، وأهل الكبائر، فإنه سيجيئ من بعدي أقوام يُرَجِّعُون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية، لايجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة،وقلوب من يعجبه شأنهم»!
وعن الإمام الرضا (علیه السلام)، أن علي بن الحسين كان يقرأ القرآن: «فربما مرَّ به المارُّ فصُعق من حسن صوته، وإن الإمام لو أظهر من ذلك شيئاً لما احتمله الناس من حسنه! قلت: ألم يكن رسول الله (صلی الله علیه و آله) يصلي بالناس ويرفع صوته بالقرآن؟ فقال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يُحَمِّل الناس من خلفه ما يطيقون»!
ص: 39
وحرم عليهم التعرب بعد الهجرة، ففي النوادر لأحمد بن عيسى الأشعري/26: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا رضاع بعد فطام، ولا وِصال في صيام، ولا يُتْمَ بعد احتلام، ولا صمت يوم إلى الليل، ولا تعرب بعد الهجرة، ولا هجرة بعد الفتح، ولا طلاق قبل النكاح، ولا عتق قبل ملك، ولا يمين لولد مع والده ولا لمملوك مع مولاه ولا لمرأة مع زوجها، ولا نذر في معصية، ولا يمين في قطيعة رحم».
وفي النوادر/28، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لايصلح للأعرابي أن ينكح المهاجرة، يخرج بها من أرض الهجرة فيتعرب بها، إلا أن يكون قد عرف السنة والحجة، وإن أقام بهذا في أرض الهجرة فهو مهاجر».
معنى الهجرة إلى طلب العلم: الهجرة إلى الأئمة (علیهم السلام)، ففي معاني الأخبار/265: «عن حذيفة بن منصور قال: سمعت أبا عبدالله (علیه السلام) يقول: المتعرب بعد الهجرة، التارك لهذا الأمر بعد معرفته». وهو مأخوذ من قوله تعالى: وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ.
وفي معاني الأخبار/157: عن عبدالمؤمن الأنصاري قال: قلت لأبي عبدالله (علیه السلام): «إن قوماً رووا أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: إن اختلاف أمتي رحمة؟ فقال: صدقوا، قلت: إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب؟ قال: ليس حيث ذهبت وذهبوا، إنما أراد قول الله عزوجل: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ. فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويختلفوا إليه فيتعلموا، ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم، إنما أراد اختلافهم من البلدان، لا اختلافاً في دين الله، إنما الدين واحد».
نقل النبي (صلی الله علیه و آله) العروبة من النسب إلى اللغة، فعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «صعد
ص: 40
رسول الله (صلی الله علیه و آله) المنبر يوم فتح مكة فقال: أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها، ألا إنكم من آدم (علیه السلام) وآدم من طين، ألا إن خير عباد الله عبد اتقاه، إن العربية ليست بأبٍ والد، ولكنها لسانٌ ناطق، فمن قصر به عمله لم يبلغه حسبه». الكافي: 8/246 ودعائم الإسلام: 2/198.
فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): «فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور، التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل، بالأخلاق الرغيبة، والأحلام العظيمة، والأخطار الجليلة، والآثار المحمودة. فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبر، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض. واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال، وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم. فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت العافية فيه عليهم وانقادت النعمة له معهم...
فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل، فما أشد اعتدال الأحوال، وأقرب اشتباه الأمثال! تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم، يحتازونهم عن ريف الآفاق وبحر العراق وخضرة الدنيا إلى منابت الشيح، ومهافي الريح، ونكد المعاش! فتركوهم عالة مساكين إخوان دَبَر وَوَبَر، أذلَّ الأمم داراً، وأجدبهم قراراً، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها، ولا إلى ظل ألفة يعتمدون على عزها! فالأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة، في بلاء أزْل، وإطباق جهْل! من بنات موءودة، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة!
ص: 41
فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولاً، فعقد بملته طاعتهم وجمع على دعوته ألفتهم، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها، وأسالت لهم جداول نعيمها، والتفت الملة بهم في عوائد بركتها، فأصبحوا في نعمتها غرقين، وعن خضرة عيشها فكهين، قد تربعت الأمور بهم، في ظل سلطان قاهر وآوتهم الحال إلى كنف عز غالب. وتعطفت الأمور عليهم في ذرى ملك ثابت فهم حكام على العالمين، وملوك في أطراف الأرضين، يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم، ويمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم، لا تُغمز لهم قناة، ولا تُقرع لهم صفاة.
ألاوإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهلية. واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعراباً، وبعد الموالاة أحزاباً، ما تتعلقون من الإسلام إلا اسمه، ولاتعرفون من الإيمان إلا رسمه تقولون النار ولا العار، كأنكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه، انتهاكاً لحريمه ونقضاً لميثاقه الذي وضعه الله لكم حرماً في أرضه وأمناً بين خلقه.
وإنكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر، ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم، إلا المقارعة بالسيف حتى يحكم الله بينكم».«نهجالبلاغة: 2/150». وفي الكافي: 8/162عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: «إن الله يعذب الستة بالستة: العرب بالعصبية، والدهاقين بالكبر، والأمراء بالجور، والفقهاء بالحسد، والتجار بالخيانة، وأهل الرساتيق بالجهل».
قالت قبائل قريش لبني هاشم: «أما رضيتم يا بني قصي أنكم ذهبتم بالحجابة والندوة والسقاية واللواء، حتى جئتمونا زعمتم نبي منكم»! «مجمع الزوائد: 6/70». ثم صَبَّت قريش حقدها على علي (علیه السلام) لأنه بطل معارك النبي (صلی الله علیه و آله) وقاتل فرسانها، فكانت تسميه قتَّال العرب! فأمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يسميه «سيد العرب»!
فقد روى الحاكم: 3/124، وصححه: «عن سعيد بن جبير عن عائشة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال:
ص: 42
أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب». ورواه في مجمع الزوائد: 9/131.
وروى في: 9/116عن أنس أن رسول الله قال: «مَنْ سيد العرب؟قالوا أنت يا رسول الله، فقال أنا سيد ولد آدم، وعليٌّ سيد العرب». والطبراني الأوسط:2/127.
وفي الطبراني الكبير: 3/88: «قال رسول الله: يا أنس إنطلق فادع لي سيد العرب يعني علياً، فقالت عائشة: ألست سيد العرب؟ قال: أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب. فلما جاء علي أرسل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الأنصار فأتوه فقال لهم: يا معشر الأنصار، ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: هذا علي فأحبوه بحبي وأكرموه لكرامتي، فإن جبريل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عزوجل».
وفي تاريخ بغداد: 11/90 عن سلمة بن كهيل قال: «مرَّ علي أبي طالب على النبي وعنده عائشة فقال لها: إذا سرك أن تنظري إلى سيد العرب فانظري إلى علي بن أبي طالب! فقالت: يا نبي الله ألست سيد العرب؟ فقال: أنا إمام المسلمين وسيد المتقين. إذا سرك أن تنظري إلى سيد العرب فانظري إلى علي بن أبي طالب».
وفي تاريخ دمشق: 42/305، عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رجل يا رسول الله أنت سيد العرب؟ قال: لا، أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب! وإنه لأول من ينفض الغبار عن رأسه يوم القيامة قبلي علي».
وفي الخصال/561، قال (صلی الله علیه و آله): «وأبناؤه الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة».
أقول: أراد النبي (صلی الله علیه و آله) بذلك أن يؤكد مكانة علي (علیه السلام)، ويرد الهجمة التي كانت تشنها قريش المشركة على بني هاشم وعلي (علیه السلام)، لكن حملتها استمرت عليه بعد النبي (صلی الله علیه و آله) مع الأسف! على يد المتأثرين بقريش من المسلمين.
فقد غصَّ أتباع الخلافة بحديث: علي سيد العرب، لأنه يجعل علياً (علیه السلام) سيداً لقبائل قريش وزعمائها، فحاولوا تضعيف الحديث كما فعل الهيثمي في مجمع الزوائد، بحجة أن في سنده ابن عبدالله الأهتم، وقال إنه شيعي ضعفه أبو داود!
وردَّ عليهم علماؤهم كالحافظ ابن الصديق المغربي في رسالته: إرغام المبتدع
ص: 43
الغبي بجواز التوسل بالنبي/58، فذكر له عدة طرق، وقال عن ابن الأهتم: «ذكره ابن أبي حاتم في الجرح ولم يجرحه. وهو بصري والبصريون أبعد الناس عن التشيع».
أما الذهبي إمام السلفيين النواصب، فاعترف في تاريخه: 3/635 بصحته مرغماً! ورواه في ميزان الإعتدال: 4/115 عن حذيفة بن اليمان بسند صحيح، قال: «لما تهيأ علي يوم خيبر للحملة قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي بأبي أنت، والذي نفسي بيده إن معك من لايخذلك، هذا جبرائيل عن يمينك بيده سيف لو ضرب به الجبال لقطعها، فاستبشر بالرضوان والجنة. يا علي إنك سيد العرب وأنا سيد ولد آدم. الحديث بطوله». ولم يكمل الذهبي رواية الحديث، لأن فيه مديحاً لعلي (علیه السلام) بأنه كرار غير فرار تعريضاً بفلان وفلان ممن فرُّوا في خيبر!
لكن يظهر أن مزاج الذهبي كان سيئاً حيث روى بعضه وقال باطل«لسان الميزان: 4/289»
وقال الصديق المغربي في رسالته في التوسل: «تحامل الذهبي على الحكم بوضع الحديث، لفهمه أن الحديث يقتضي تفضيل علي على الشيخين، وعلى أساس هذا الفهم رد هو وغيره كثيراً من الأحاديث في فضل علي، وحكموا بوضعها أو نكارتها، ولم يسلم من نقدهم بهذا الفهم إلا قليل.. بل يستنكرون الحديث الوارد في فضله، ولو لم يكن في سنده شيعي»!
وقال: «حكم بوضعه في مقدمة كتبها لبعض الرسائل، مستدلاً على وضعه بأن روح التشيع واضحة في الحديث، ولا أدري أين هذا التشيع الذي وضح له من الحديث! مع أن الحديث له شواهد وطرق! وعلى قوله هذا وقاعدته الفارغة، ينبغي ألا نقبل حديثاً في فضل علي ولو تواتر، لا سيما إذا كان يخبر بفضل لعلي لايوجد لغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، كحديث: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره! وهكذا إذا اتبع الإنسان كلَّ جاهل، وأجاب كلَّ صارخ، ولم يُعمل النظر ويبحث عن الأقوال قبل قائلها، فإنه يردُّ السنة الصحيحة جملة، ويعطي مع ذلك السلاح لأعداء الدين وملاحدة العصر في رد ما لايعجبهم ويوافق هواهم، من حديث سيد المرسلين!
ص: 44
وقد أقر الحافظ العسقلاني الذهبي على وضعه، فانظر لسان الميزان: 4/289 وقول الذهبي: موضوع، غلوٌّ غير مقبول! ذلك أن الحديث ورد من غير طريق
ابن علوان وعمر الوجيهي، فرواه الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك..».
ثم ذكر له عدة طرق، وبعضها صحيح على شرط الشيخين، وذكر أحاديث مشابهة ردوها رغم صحتها، لأنها تفضل علياً (علیه السلام) على غيره! ورواه: ابن أبي شيبة: 7/474،
تاريخ بغداد: 11/90، تاريخ دمشق: 42/304، 64/192، بعدة طرق، ذيل تاريخ بغداد: 5/60، السيرة الحلبية: 2/736 ونفحات الأزهار: 9/174.
أما معنى قول النبي (صلی الله علیه و آله) إن علياً (علیه السلام) ينهض من قبره قبل النبي (صلی الله علیه و آله) أنه يحمل لواءه يوم القيامة، ويكون أمامه مقدمة لموكبه.
کما في صحيح بخاري: 4/63: «حتى إذا كنا بأرض العدو وخرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً، فقام ترجمان فقال: ليكلمني رجل منكم، فقال المغيرة: سل عما شئت؟قال: ما أنتم؟ قال: نحن أناس من العرب، كنا في شقاء شديد، وبلاء شديد، نمص الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبدالشجر والحجر، فبينا نحن كذلك، إذ بعث رب السماوات ورب الأرضين تعالى ذكره وجلت عظمته، الينا نبياً من أنفسنا، نعرف أباه وأمه».
فقال: «كنا قوماً أهل جاهلية نعبدالأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه»! أحمد: 1/2020.
ص: 45
فقال كما في نهجالبلاغة: 1/199 من خطبة له (علیه السلام): «أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً (صلی الله علیه و آله) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً، ولا يدَّعي نبوةً، ولا وحياً، فقاتل بمن أطاعه من عصاه، يسوقهم إلى منجاتهم، ويبادر بهم الساعة أن تنزل بهم. يحسر الحسير، ويقف الكسير فيقيم عليه حتى يلحقه غايته، إلا هالكاً لا خير فيه حتى أراهم منجاتهم، وبوأهم محلتهم، فاستدارت رحاهم، واستقامت قناتهم. وأيم الله لقد كنتُ من ساقتها، حتى تولت بحذافيرها، واستوسقت في قيادها، ما ضعفتُ ولا جبنتُ، ولا خنتُ ولا وهنتُ. وأيم الله لأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته».
ومن خطبة له (علیه السلام): «إن الله بعث محمداً (صلی الله علیه و آله) نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل وأنتم معشر العرب على شر دين، وفي شر دار، مُنِيخون بين حجارة خُشْن، وحيات صُمّ، تشربون الكدَر، وتأكلون الجَشَب، وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم. الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة».
وقد تقدم ذلك، وفي خطبه وكلماته (علیه السلام) وصف مفصل لجاهلية العرب، ووصف لعودتها بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله)!
في خطبتها البليغة بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) بأسبوعين، حيث ذكَّرتهم بنعمة النبي (صلی الله علیه و آله) عليهم. وقد روت خطبتها مصادر الشيعة والسنة، وجاء فيها قولها (علیها السلام):
«ابتعثه الله إتماماً لأمره، وعزيمةً على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير رحمته، فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عكفاً على نيرانها، عابدةً لأوثانها، منكرةً لله مع عرفانها، فأنار الله بأبي محمداً (صلی الله علیه و آله) ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها، وجلى عن الأبصار عماها...وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القد، أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلی الله علیه و آله) بعد اللتيا والتي، وبعد أن مني ببهم الرجال
ص: 46
وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن الشيطان، أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيداً في أولياء الله، مشمراً ناصحاً، مجداً كادحاً لاتأخذه
في الله لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرون من القتال!
فلما اختار الله لنبيه (صلی الله علیه و آله) دار أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهرت فيكم حسيكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم ووردتم غير شربكم. هذا، والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لما يقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة! ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين..». الإحتجاج: 1/131.
استطاع كعب الأحبار أن يقنع عمر بن الخطاب في خلافته بأن الإسلام كالبعير سيكبر عن قريب ويهرم وينتهي! وأن قريشاً والعرب سيهلكون ويبادون! وأن الكعبة ستهدم فلا تبنى أبداً! ومكة تخرب فلا تعمر أبداً!
ففي مسند أحمد: 3/463: «كنت في مجلس فيه عمر بن الخطاب بالمدينة فقال لرجل من القوم: يا فلان كيف سمعت رسول الله ينعتُ الإسلام؟ قال: سمعت رسول الله يقول: إن الإسلام بدأ جذعاً ثم ثنياً ثم رباعياً ثم سديسياً ثم بازلاً. فقال عمر بن الخطاب: فما بعد البزول إلا النقصان»! البزول أقصى سن البعير-
الصحاح: 4/1321.
ص: 47
وهكذا صارت فرية كعب الأحبار حديثاً نبوياً في أصح كتب الخلافة!
فقد روى أحمد: 1/23، عن عمر أنه سمع رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «سيخرج أهل مكة ثم لايعبر بها إلا قليل، ثم تمتلئ وتبنى، ثم يخرجون منها فلا يعودون فيها أبداً»! ورواه مسلم: 8/183 ورواه بخاري في صحيحه وعقد باباً: 2/159 باب هدم الكعبة!
وفي الفتن لنعيم بن حماد: 1/398: «لاتستريبوا في هلكة قريش، فإنهم أول من يهلك حتى أن النعل لتوجد في المزبلة فيقال خذوا هذه النعل إنها لنعل قرشي». وقد بحثنا ذلك وردينا عليه، في كتاب ألف سؤال وإشكال: 1/492.
وقد ردَّ أهل البیت (علیهم السلام) فرية كعب بهلاك الأمة. فقد روى الصدوق «الخصال/475»عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أبشروا ثم أبشروا، ثلاث مرات، إنما مثل أمتي كمثل غيث لا يدرى أوله خير أم آخره، إنما مثل أمتي كمثل حديقة أطعم منها فوج عاماً، ثم أطعم منها فوج عاماً، لعل آخرها فوجاً يكون أعرضها بحراً وأعمقها طولاً وفرعاً وأحسنها جَناً! وكيف تهلك أمة أنا أولها، واثنا عشر من بعدي من السعداء وأولي الألباب، والمسيح عيسى بن مريم آخرها؟ولكن يهلك بين ذلك نَتَجُ الهَرَج، ليسوا مني ولست منهم».
زعم رواة السلطة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لايصل العربي إلى درجة الأولياء الأبدال! قال القرطبي في تفسيره: 3/259: «واختلف العلماء في الناس المدفوع بهم الفساد من هم؟ فقيل هم الأبدال، وهم أربعون رجلاً كلما مات واحد بدَّل الله آخر».
وقال أبو داود في سننه: 2/30 عن عنبسة بن عبدالواحد القرشي الأموي: «كنا نقول إنه من الأبدال، قبل أن نسمع أن الأبدال من الموالي»!
وقال في سؤالات الآجري: 1/204: «سئل أبو داود عن عنبسة بن عبدالواحد القرشي قال: سمعت محمد بن عيسى يقول: كنا نرى أنه من الأبدال حتى سمعنا أن الأبدال
ص: 48
من الموالي.. عن عطاء قال قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الأبدال من الموالي، ولا يبغض الموالي إلا منافق». وتاريخ بغداد: 12/279 وتهذيب الكمال: 22/421.
وصححه المناوي: 3/220 وقال: «من علامتهم أيضاً أنه لايولد لهم...وهذه الأخبار وإن فرض ضعفها جميعها، لكن لايُنكر تقوي الحديث الضعيف بكثرة طرقه وتعدد مخرجيه إلا جاهل بالصناعة الحديثية، أو معاند متعصب».
وفي تهذيب الكمال: 7/264: «كان حماد بن سلمة يعد من الأبدال، وعلامة الأبدال أن لا يولد لهم، تزوج سبعين امرأة فلم يولد له»!
وعدوا أكثر من عشرين من أئمتهم من غير العرب من الأبدال!
وزعم ابن عربي أن أصحاب المهدي (علیه السلام) كلهم من العجم! قال في الفتوحات: 3/ 328: «وهم من الأعاجم ما فيهم عربي، لكن لايتكلمون إلا بالعربية»!
لكن أئمة أهل البیت (علیهم السلام) ساوَوْا بين العرب والعجم، ونصوا على أن أصحاب المهدي (علیه السلام) فيهم العرب والعجم، قال الإمام الباقر (علیه السلام) كما في غيبة الطوسي/284: «يبايع القائم بين الركن والمقام ثلاث مائة ونيف عدة أهل بدر. فيهم النجباء من أهل مصر، والأبدال من أهل الشام، والأخيار من أهل العراق».
روى ابن حماد: 1 / 310 عن عبدالله بن مسعود قال: بينما نحن عند رسول الله إذ جاء فتية من بني هاشم فتغير لونه! قلنا: يا رسول الله ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه، فقال: «إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي هؤلاء سيلقون بعدي بلاء وتطريداً وتشريداً حتى يأتي قوم من هاهنا من نحو المشرق أصحاب رايات سود يسألون الحق فلا يعطونه، مرتين أو ثلاثاً، فيقاتلون فينصرون، فيعطون ما سألوا فلا يقبلوه، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملؤها عدلاً كما ملؤوها ظلماً، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبواً على الثلج، فإنه المهدي». «ورواه ابن أبي شيبة: 15/235، بنحوه. وابن ماجة: 2 /1366، رواه
ص: 49
ابن المنادي/44، الحاكم: 4/464»، وفيه: «أتينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخرج إلينا مستبشراً يعرف السرور في وجهه، فما سألناه عن شئ إلا أخبرنا به، ولا سكتنا إلا ابتدأنا، حتى مرت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين، فلما رآهم التزمهم وانهملت عيناه، فقلنا: ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه، قال: إنا أهل بيت اختار لنا الله الآخرة على الدنيا، وإنه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً وتشريداً في البلاد، حتى ترتفع رايات سود من المشرق فيسألون الحق فلايعطونه، ثم يطلبونه فلايعطونه، ثم يسألونه فلا يعطونه فيقاتلون فينصرون. فمن أدركه منكم أو من أعقابكم فليأت إمام أهل بيتي ولو حبواً على الثلج،فإنها رايات هدى يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه إسمي وإسم أبيه إسم أبي، فيملك الأرض فيملؤها قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً». ورواه البزار: 4 / 310، 354، الداني / 92، كابن شيبة بتفاوت يسير، نحوه جامع السيوطي: 3 / 101، وزوائد ابن ماجة / 527، المعجم الأوسط: 6 / 327 والسنن في الفتن: 5 / 1029، بروايتين وفيه:
«بينما نحن عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذ قال: يجئ قوم من هاهنا وأشار بيده نحو المشرق أصحاب رايات سود يسألون الحق فلا يعطونه، مرتين أو ثلاثاً، فيقاتلون فينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه،حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤها عدلاً كما ملؤوها ظلماً. فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبواً على الثلج».
وقال نقاد الحديث عن رواية زائدة التي فيها: واسم أبيه إسم أبي: إنها زيادة في الحديث زادها زائدة بن قدامة.
ورواه من مصادرنا: دلائل الإمامة/233 و 235، بعدة روايات عن ابن مسعود، كابن حماد بتفاوت يسير. ومناقب أميرالمؤمنين لمحمد بن سليمان: 2/110، بنحوه عن ابن مسعود، وملاحم ابن طاووس/52، عن ابن حماد، وفي/161، عن فتن زكريا، وكشف الغمة:3 / 262، عن أربعين أبي نعيم. وفي / 268، عن البيان للشافعي. والعدد القوية / 90، كرواية دلائل الإمامة الثانية بتفاوت يسير، والثالثة، وإثبات الهداة: 3/595، عن كشف الغمة، والبحار: 51 /82، عن كشف الغمة، و: 51/83 عن أربعين الحافظ أبي نعيم..الخ.
«لكن أدق نصوصه حديث الإمام الباقر (علیه السلام) الذي رواه النعماني/273، عن أبي خالد
ص: 50
الكابلي، عن الإام الباقر (علیه السلام) قال: كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فيعطون ما سألوه فلا يقبلونه حتى يقوموا، ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم. قتلاهم شهداء. أما إني لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر».
والنتيجة: أن هذا الحديث المعروف بحديث الرايات السود، متواتر بالمعنى، لأنه روي عن صحابة متعددين بطرق متعددة، يعلم منها أن مضمونه صدر عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأخبر عن ظلامة أهل بيته:وأنها تستمر حتى يأتي قوم من المشرق يمهدون لمهديهم: فيظهر ويسلمونه رايتهم، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بأن الله عزوجل سينقذ قريشاً والأمة بأهل بيته:، ففي كمال الدين/230: «قال علي لرسول الله (صلی الله علیه و آله): يا رسول الله أَمِنَّا الهداة أم من غيرنا؟ قال: بل منا الهداة إلى الله إلى يوم القيامة، بنا استنقذهم الله عزوجل من ضلالة الشرك، وبنا يستنقذهم من ضلالة الفتنة، وبنا يصحبون إخواناً بعد ضلالة الفتنة، كما بنا أصبحوا إخواناً بعد ضلالة الشرك. وبنا يختم الله كما بنا فتح الله».
وفي أمالي المفيد/288، عن علي (علیه السلام) قال: «لما نزلت على النبي (صلی الله علیه و آله): إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ، قال لي: يا علي إنه قد جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ، فإذا رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَابًا. يا علي إن الله قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي كما كتب عليهم جهاد المشركين معي، فقلت: يا رسول الله وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد؟ قال: فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وهم مخالفون لسنتي وطاعنون في ديني!
فقلت: فعلامَ نقاتلهم يا رسول الله وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله؟فقال: على إحداثهم في دينهم، وفراقهم لأمري، واستحلالهم دماء عترتي! قال فقلت: يا رسول الله إنك كنت وعدتني الشهادة فسل الله تعالى أن
ص: 51
يعجلها لي! فقال: أجل، قد كنت وعدتك الشهادة فكيف صبرك إذا خضبت هذه من هذا، وأومى إلى رأسي ولحيتي؟ فقلت: يا رسول الله أما إذا بينت لي ما بينت فليس بموطن صبر، ولكنه موطن بشرى وشكر. فقال: أجل فأعدَّ للخصومة فإنك مخاصِم أمتي. قلت: يا رسول الله أرشدني الفلج، قال: إذا رأيت قوماً قد عدلوا عن الهدى إلى الضلال فخاصمهم، فإن الهدى من الله والضلال من الشيطان.
يا علي إن الهدى هو اتباع أمر الله دون الهوى والرأي! وكأنك بقوم قد تأولوا القرآن، وأخذوا بالشبهات، واستحلوا الخمر بالنبيذ، والبخس بالزكاة، والسحت بالهدية! قلت: يا رسول الله فما هم إذا فعلوا ذلك، أهم أهل ردة أم أهل فتنة؟ قال: هم أهل فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل!
فقلت: يا رسول الله العدل منا أم من غيرنا؟ فقال: بل منا، بنا يفتح الله وبنا يختم وبنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك، وبنا يؤلف الله بين القلوب بعد الفتنة، فقلت:
الحمد لله على ما وهب لنا من فضله».
ومنها: في كنز العمال: 16/196، من وصية النبي (صلی الله علیه و آله): «يا علي إن القوم سيفتنون ويفتخرون بأحسابهم وأموالهم، ويزكون أنفسهم، ويمنون بدينهم على ربهم، ويتمنون رحمته ويأمنون عقابه، ويستحلون حرامه بالمشتبهات الكاذبة، فيستحلون الخمر بالنبيد، والسحت بالهدية، والربا بالبيع... إلى أن ينقذهم الله بنا أهل البیت عند ظهورنا.. يا علي: بنا فتح الله الإسلام وبنا يختمه، وبنا أهلك الأوثان ومن يعبدها، وبنا يقصم كل جبار وكل منافق، حتى إنا لنقتل في الحق مثل من قُتل في الباطل. يا علي: إنما مثل هذه الأمة مثل حديقة أطعمت فوجاً عاماً، ثم فوجاً عاماً، فلعل آخرها فوجاً أن يكون أثبتها أصلاً، وأحسنها فرعاً، وأحلاها جنىً، وأكثرها خيراً وأوسعها عدلاً، وأطولها ملكاً».
وكان الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 8/266»: «إذا ذكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: بأبي وأمي وقومي وعشيرتي! عجبٌ للعرب كيف لا تحملنا على رؤوسها، والله عزوجل يقول في كتابه: وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا! فبرسول الله (صلی الله علیه و آله) أنقذوا».
ص: 52
وفي المسترشد لمحمد بن جرير الطبري الشيعي/374، والإحتجاج للطبرسي: 1/93 والإمامة والسياسة: 1/18، من حديث طويل عن السقيفة: «أن أبابكر دعا علياً إلى البيعة فامتنع وقال: إني لأخو رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا يقولها غيري إلا كذاب، وأنا والله أحق بهذا الأمر منكم وأنتم أولى بالبيعة لي، إنكم أخذتم هذا الأمر من العرب بالحجة وتأخذونه منا أهل البیت غصباً وظلماً! احتججتم على العرب بأنكم أولى الناس بهذا الأمر منهم بقرابة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأعطوكم المقادة وسلموا لكم الأمر، فأنا أحتج عليكم بما احتججتم به على العرب، فنحن والله أولى بمحمد (صلی الله علیه و آله) منكم، فأنصفونا من أنفسكم إن كنتم تؤمنون بالله، واعرفوا لنا من هذا الأمر ما عرفته لكم العرب، وإلا فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون!
فقال أبو عبيدة بن الجراح: يا أبا الحسن أبوبكر أقوى على هذا الأمر، وأشد احتمالاً، فارض به وسلم له، وأنت بهذا الأمر خليق وبه حقيق في فضلك وقرابتك وسابقتك! فقال لهم علي: أنا أحق بهذا الأمر منه وأنتم أولى بالبيعة لي! أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتأخذونه منا أهل البیت غصباً، ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأعطوكم المقادة وسلموا لكم الإمارة. وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار، أنا أولى برسول الله حياً وميتاً، وأنا وصيه ووزيره ومستودع سره وعلمه، وأنا الصديق الأكبر والفاروق الأعظم، أول من آمن به وصدقه، وأحسنكم بلاءً في جهاد المشركين، وأعرفكم بالكتاب والسنة، وأفقهكم في الدين، وأعلمكم بعواقب الأمور، وأذربكم لساناً وأثبتكم جناناً، فعلامَ تنازعونا هذا الأمر!
أنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا الأمر مثل ما عرفته لكم الأنصار، وإلا فبوؤوا بالظلم والعدوان وأنتم تعلمون.
فقال عمر: إنك لست متروكاً حتى تبايع طوعاً أو كرهاً! فقال علي: إحلب حلباً لك شطره، أشدد له اليوم ليرد عليك غداً! إذاً والله لا أقبل قولك، ولا
ص: 53
أحفل بمقامك ولا أبايع! فقال أبوبكر: مهلاً يا أبا الحسن، ما نشك فيك ولا نُكرهك!
فقام أبو عبيدة إلى علي فقال: يا ابن عم لسنا ندفع قرابتك ولا سابقتك ولا علمك ولا نصرتك، ولكنك حدث السن، وكان لعلي يومئذ ثلاث وثلاثون سنة، وأبوبكر شيخ من مشايخ قومك وهو أحمل لثقل هذا الأمر، وقد مضى الأمر بما فيه فسلم له، فإن عمَّرك الله يسلموا هذا الأمر إليك، ولا يختلف فيك اثنان. فقال علي (علیه السلام): يا معشر قريش، الله الله، لا تخرجوا سلطان محمد (صلی الله علیه و آله) من بيته إلى بيوتكم، فإنكم إن تدفعونا أهل البیت عن مقامه في الناس وحقه تؤزروا! والله إنه لفينا لا فيكم، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحق بعداً، وتفسدوا قديمكم بشر من حديثكم.. وكثر الكلام في هذا المعنى وارتفع الصوت وخشي عمر أن يصغي الناس إلى قول علي، ففسح المجلس وقال: إن الله يقلب القلوب، ولا تزال يا أبا الحسن ترغب عن قول الجماعة، فانصرفوا يومهم ذلك».
روى البخاري: 4/109، 176، 8/104: «عن زينب ابنة جحش أن النبي (صلی الله علیه و آله) دخل عليها فزعاً يقول: لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها! قالت زينب فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث».
وفي البخاري: 8/88: «قال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدوق يقول: هلكة أمتي علي يدي غَلَمَةٍ من قريش. فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة! فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت! فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام، فإذا رآهم غلماناً أحداثاً قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم! قلنا أنت أعلم».
وفي مسند أحمد: 2/390، عن أبي هريرة قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «وَيْلٌ للعرب من شر قد اقترب! فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع قوم دينهم
ص: 54
بعرض من الدنيا قليل المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر».
وفي مسند أحمد: 1/319: «إذا رأيت الأمَة ولدت ربتها أو ربها، ورأيت أصحاب الشاء تطاولوا بالبنيان، ورأيت الحفاة الجياع العالة، كانوا رؤوس الناس، فذلك من معالم الساعة وأشراطها. قال: يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومن أصحاب الشاء والحفاة الجياع العالة؟ قال: العرب».
وفي الكافي: 8/103: «سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً؟ قال: ما تقولون في ذلك؟ قلت: نقول: هم الأفجران من قريش: بنو أمية، وبنو المغيرة، قال: هي والله قريش قاطبة. إن الله تبارك وتعالى خاطب نبيه (صلی الله علیه و آله) فقال إني فضلت قريشاً على العرب، وأتممت عليهم نعمتي وبعثت إليهم رسولي، فبدلوا نعمتي كفراً، وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ».
مَيَّزَ الحكام القرشيون العرب على غيرهم من الشعوب، واصر أهل البیت (علیهم السلام) على المساواة بينهم وجوز تزويجهم من بعضهم. واشتكى الموالي إلى علي (علیه السلام)، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 5/318»: «أتت الموالي أميرالمؤمنين (علیه السلام) فقالوا: نشكو إليك هؤلاء العرب إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يعطينا معهم العطايا بالسوية، وزوج سلمان وبلالاً وصهيباً، وأبوا علينا هؤلاء وقالوا لا نفعل! فذهب إليهم أميرالمؤمنين (علیه السلام) فكلمهم فيهم فصاح الأعاريب: أبينا ذلك يا أبا الحسن أبينا ذلك! فخرج وهو مغضب يجر رداءه وهو يقول: يا معشر الموالي إن هؤلاء قد صيروكم بمنزلة اليهود والنصارى يتزوجون إليكم ولا يزوجونكم، ولا يعطونكم مثل ما يأخذون، فاتجروا بارك الله لكم، فإني قد سمعت رسول الله يقول: الرزق عشرة أجزاء، تسعة أجزاء في التجارة، وواحدة في غيرها».
وفي الكافي: 5/345: «لقي هشام بن الحكم بعض الخوارج فقال: يا هشام ما تقول في العجم، يجوز أن يتزوجوا في العرب؟ قال: نعم. قال: فالعرب يتزوجوا
ص: 55
من قريش؟ قال: نعم، قال: فقريش يتزوجوا في بني هاشم؟ قال: نعم. قال: عمن أخذت هذا؟ قال: عن جعفر بن محمد (علیه السلام) سمعته يقول: أتتكافأ دماؤكم، ولا تتكافأ فروجكم»؟!
وقال الكاظم (علیه السلام) كما في الخصال/123: «الناس ثلاثة: عربي ومولى وعلج، فأما العرب فنحن، وأما المولى فمن والانا، وأما العلج فمن تبرأ منا وناصبنا».
وفي الكافي: 8/226، عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: «كان عند أبي الحسن موسى (علیه السلام) رجل من قريش فجعل يذكر قريشاً والعرب، فقال له أبو الحسن (علیه السلام) عند ذلك: دع هذا، الناس ثلاثة: عربي ومولى وعلج، فنحن العرب، وشيعتنا الموالي، ومن لم يكن على مثل ما نحن عليه فهو علج! فقال القرشي: تقول هذا يا أبا الحسن، فأين أفخاذ قريش والعرب؟! فقال أبو الحسن: هو ما قلت لك»!
الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 8/166»: «نحن بنو هاشم، وشيعتنا العرب وسائر الناس الأعراب...نحن قريش، وشيعتنا العرب، وسائر الناس علوج الروم».
وقال الصادق (علیه السلام) «الكافي: 8/316»: «والله لايحبنا من العرب والعجم إلا أهل البيوتات والشرف والمعدن، ولا يبغضنا من هؤلاء وهؤلاء إلا كل دَنِسٍ مُلْصَق».
ص: 56
هاجر جماعات من اليهود مع أحبارهم بعد المسيح (علیه السلام) إلى الجزيرة العربية، بانتظار النبي الأخير الذي وعدهم أنبياؤهم:بأنه سيظهر فيها.
قال إسحاق بن عمار «الكافي: 8/310»: «سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ؟ قال: كانوا قوماً فيما بين محمد وعيسى صلى الله عليهما، وكانوا يتوعدون أهل الأصنام بالنبي (صلی الله علیه و آله) ويقولون: ليخرجن نبي فليكسرن أصنامكم، وليفعلن بكم وليفعلن، فلما خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) كفروا به».
وفي الكافي: 8/308، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كانت اليهود تجد في كتبها أن مهاجر محمد (صلی الله علیه و آله) ما بين عير وأحد، فخرجوا يطلبون الموضع فمروا بجبل يسمى حَداد فقالوا: حداد وأحد سواء، فتفرقوا عنده فنزل بعضهم بتيماء وبعضهم بفدك وبعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم، فمرَّ بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه وقال لهم أمرُّ بكم ما بين عير وأحد، فقال له: إذا مررت بهما فآذنَّا بهما، فلما توسط بهم أرض المدينة قال لهم: ذاك عير وهذا أحد، فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا: قد أصبنا بغيتنا، فلا حاجة لنا في إبلك فاذهب حيث شئت! وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر: أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا، فكتبوا إليهم: أنا قد استقرت بنا الدار واتخذنا الأموال وما أقربنا منكم، فإذا كان ذلك
ص: 57
فما أسرعنا إليكم. فاتخذوا بأرض المدينة الأموال، فلما كثرت أموالهم بلغ تُبَّعٌ فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم، وكانوا يَرِقُّونَ لضعفاء أصحاب تُبَّع فيلقون إليهم بالليل التمر والشعير، فبلغ ذلك تُبَّع فرقَّ لهم وآمنهم، فنزلوا إليه فقال لهم: إني قد استطبت بلادكم ولا أراني إلا مقيماً فيكم فقالوا له: إنه ليس ذاك لك، إنها مهاجر نبي وليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك فقال لهم: إني مخلف فيكم من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره، فخلف حيين الأوس والخزرج، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود وكانت اليهود تقول لهم: أما لو قد بعث محمد ليخرجنكم من ديارنا وأموالنا، فلما بعث الله عزوجل محمداً (صلی الله علیه و آله) آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود وهو قول الله عزوجل: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الكَافِرِينَ».
أقول: يدل هذا الحديث على أن اليهود كانوا في المدينة قبل الأوس والخزرج، وقد تحالفوا، لكن الأنصار صاروا أقوى منهم لمحيطهم العربي، فاحتاج اليهود إلى أن يتحالفوا معهم ويكونوا في جوارهم.
وفي المحتضر/276، عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: «إن الله تعالى أخبر رسوله (صلی الله علیه و آله) بما كان من إيمان الأمم السابقة. وإن اليهود قبل ظهوره كانوا يستفتحون على أعدائهم بذكره والصلاة عليه، وكان الله عزوجل أمر اليهود في أيام موسى وبعده إذا دهمهم أمرٌ ودهمتهم داهية أن يدعوا الله بمحمد وآله (صلی الله علیه و آله)، وكانوا يفعلون ذلك ويستنصرون به، حتى كانت اليهود من أهل المدينة قبل ظهور النبي (صلی الله علیه و آله) بسنين كثيرة يفعلون ذلك، ويكفون البلاء والداهية الدهياء».
وفي تفسير القمي: 1/32: «فكانت اليهود يقولون للعرب قبل مجئ النبي (صلی الله علیه و آله): أيها العرب هذا أوان نبي يخرج بمكة ويكون هجرته بالمدينة، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم، في عينيه حمرة وبين كتفيه خاتم النبوة، يلبس الشملة ويجتزي بالكسرة والتميرات، ويركب الحمار عُرْيَةً، وهو الضحوك القتال، يضع سيفه على عاتقه ولا يبالي بمن لاقى. يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر، وليقتلنكم الله به يا معشر العرب قتل
ص: 58
عاد، فلما بعث الله نبيه بهذه الصفة حسدوه وكفروا به كما قال الله: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ».
وفي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /393: «قال أميرالمؤمنين (علیه السلام): وكانت اليهود قبل ظهورمحمد (صلی الله علیه و آله) بعشر سنين تعاديهم أسد وغطفان ويقصدون أذاهم، وكانوا يستدفعون شرورهم وبلاءهم بسؤالهم ربهم بمحمد وآله الطيبين، حتى قصدتهم في بعض الأوقات أسد وغطفان في ثلاثة آلاف فارس إلى بعض قرى اليهود حوالي المدينة، فتلقاهم اليهود وهم ثلاث مائة فارس، ودعوا الله بمحمد وآله الطيبين الطاهرين فهزموهم وقطعوهم...فلما ظهر محمد (صلی الله علیه و آله) حسدوه، إذ كان من العرب، فكذبوه»!
وفي الدر المنثور: 1/88: «كانت يهود بني قريظة والنضير قبل أن يبعث محمد يستفتحون الله به يدعون على الذين كفروا ويقولون: اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الأمي إلا نصرتنا عليهم، فينصرون»! والإستفتاح على العدو: طلب النصر عليه، ويشمل الإستعانة عليه بأحد، أو شيء، أو دعاء.
وجبل حَدَد «معجم البلدان: 2/229» «مطل على تيماء..قال النابغة: ساق الرفيدات من جَوْشٍ ومن حَدَدِ» واحتمل المجلسي تصحيفه عن حداد، وقد يكون الشاعر خففه.
هذا، وقول أهل البیت (علیهم السلام) إن هجرة اليهود إلى الجزيرة كانت بعد المسيح (علیه السلام) يرد ما زعمه بعض الكتاب الغربيين من أنه كان في الجزيرة مواطنون يهود كأبناء إسماعيل (علیه السلام) . كما أن تُبَّعاً ملك اليمن والعرب،كان بعد عيسى (علیه السلام) وقد أسكن الأنصار في المدينة، فكثروا فهابهم اليهود وتحالفوا معهم.
اشتهر خبر الحاخام يوسف اليهودي من مكة، ففي كمال الدين/196، عن علي بن إبراهيم عن رجاله: «كان بمكة يهودي يقال له يوسف، فلما رأى النجوم يقذف بها وتتحرك قال: هذا نبي قد ولد في هذه الليلة، وهو الذي نجده في كتبنا
ص: 59
أنه إذا ولد وهو آخر الأنبياء، رُجمت الشياطين وحجبوا عن السماء.
فلما أصبح جاء إلى نادي قريش فقال: يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود؟قالوا: لا.قال: أخطأكم والتوراة، ولد إذاً بفلسطين، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم! فتفرق القوم فلما رجعوا إلى منازلهم أخبر كل رجل منهم أهله بما قال اليهودي فقالوا: لقد ولد لعبدالله بن عبدالمطلب ابنٌ في هذه الليلة، فأخبروا بذلك يوسف اليهودي فقال لهم: قبل أن أسألكم أو بعده؟ قالوا: قبل ذلك، قال: فاعرضوه عليَّ، فمشوا إلى باب آمنة فقالوا: أخرجي ابنك ينظر إليه هذا اليهودي، فأخرجته في قماطه فنظر في عينيه، وكشف عن كتفيه فرأى شامة سوداء بين كتفيه وعليها شعرات، فلما نظر إليه وقع على الأرض مغشياً عليه، فتعجب منه قريش وضحكوا منه فقال: أتضحكون يا معشر قريش، هذا نبي السيف، ليبيرنكم، وقد ذهبت النبوة من بني إسرائيل إلى آخر الأبد..الخ.».
كما انتشر بين العرب خبر بَحِيرا الراهب الآتي، وإخباره بنبوة نبينا (صلی الله علیه و آله) وتحذيره عمه أباطالب (رحمة الله) من خطر اليهود عليه! ومن جهة أخرى: ملأت آذان الأوس والخزرج بشائر حلفائهم اليهود بالنبي (صلی الله علیه و آله)، فكان ذلك سبب إيمانهم به. وروت المصادر قصة أسعد بن زرارة، أحد زعماء الأوس، لما ذهب إلى مكة ليتحالف مع قريش ضد الخزرج، فرأى النبي (صلی الله علیه و آله) وأسلم:
قال الطبرسي في إعلام الورى: 1/138: «وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم النضير وقريظة وقينقاع، أن هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة، لنقتلنكم به يا معشر العرب..
فلما سمع أسعد هذا قال له: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله...والله يا رسول الله لقد كنا نسمع من اليهود خبرك ويبشروننا بمخرجك، ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقني إليك، والله ما جئت إلا لطلب الحلف على قومنا، وقد آتانا الله بأفضل مما أتيت له»!
ص: 60
صرح اليهود بأن سبب عدائهم للنبي (صلی الله علیه و آله) أنه من غيرهم وهم يريدونه منهم! وقد أغمي على الحاخام يوسف لما ولد (صلی الله علیه و آله) لأن النبوة كما قال: ذهبت من
بني إسرائيل إلى الأبد! «وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل»! أسباب النزول/17.
وطلبوا منه (صلی الله علیه و آله) أن يعلن أنه رسولٌ خاص لهم ليؤمنوا به!
ففي أمالي الصدوق/ 254، عن علي (علیه السلام): «جاء نفر من اليهود إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: يا محمد، أنت الذي تزعم أنك رسول الله، وأنك الذي يوحى إليك كما أوحي إلى موسى بن عمران؟ فسكت النبي (صلی الله علیه و آله) ساعة، ثم قال: نعم، أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا خاتم النبيين وإمام المتقين ورسول رب العالمين.
قالوا: إلى من، إلى العرب أم إلى العجم أم إلينا؟ فأنزل الله عزوجل هذه الآية: قُلْ «يا محمد» يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً».
ونشط اليهود من أول بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) في تعليم قريش الخطط لعدائه (صلی الله علیه و آله) وقتله! فكانوا يتبادلون معهم المشورة. ففي تفسير الطبري: 15/238: «بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء».
وتطور تعاونهم حتى وصل إلى تحشيد الأحزاب لغزو المدينة واستئصال محمد وبني عبدالمطلب، بزعمهم.ثم واصلوا عملهم مع قريش بعد هزيمة الأحزاب، وكانوا يضعون الخطط لقتله (صلی الله علیه و آله) وأخذ خلافته، وإبعاد عترته!
لذا يجب علينا في دراسة السيرة رصد نشاط اليهود في حياة النبي (صلی الله علیه و آله) وتأثيرهم على قادة قريش، ورصد مجموعة الصحابة الذين كانوا يدرسون عندهم، ويتصلون بهم وقد ابتكر لهم النبي (صلی الله علیه و آله) إسم «المُتَهَوِّكِين» وحذر المسلمين منهم!
ص: 61
وقوله تعالى يكشف اتفاقية سرية بين قريش واليهود ضد النبي (صلی الله علیه و آله)! قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ.
محمّد: 25-26.
وقد بقي اليهود في جزيرة العرب خمسة قرون، وتكلموا العربية، وكان العرب يحترمونهم ويرجعون إليهم في مسائل التنبؤ بالمستقبل، واستمر ذلك في الصحابة حتى بعد بعثة النبي (صلی الله علیه و آله)!
فقد كانت عائشة زوجة النبي (صلی الله علیه و آله) وأبوها معجبين بالثقافة اليهودية!
روى مالك في الموطأ: 2/943: «أن أبابكر دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها! فقال أبوبكر: إرقيها بكتاب الله». فهي تثق بدعاء العجوز اليهودية أكثر مما تثق بنفسها وما علمها النبي (صلی الله علیه و آله)! وسواء قصد أبوها: إرقيها بكتاب الله، القرآن، أو التوراة، فهو يعلن أن اليهودية بمستوى أن ترقي زوجة النبي (صلی الله علیه و آله)!
وقد قلد فقهاء السلطة عائشة وأفتوا بأنه يجوز للمسلم أن يسترقي اليهودي!
والخلاصة: أن اليهود كانوا مقربين ولهم كلمتهم في «دار الخلافة» في المدينة، وفي «بلاط الخلافة» بالشام. وكان حاخاماتهم مستشارين ثقافيين وسياسيين للخليفة، فأثروا في سياسة الدولة وفي ثقافة الأمة تأثيراً كبيراً!
عندما هاجر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة،كتب مع فئات اليهود معاهدة تعايش:
أما بنو قينقاع الصاغة، فنقضوا الصلح، فسار إليهم النبي (صلی الله علیه و آله) بعد عشرين يوماً من وقعة بدر، فتحصنوا فحاصرهم خمسة عشر يوماً حتى نزلوا على حكمه فأوثقهم كتافاً، ووهبهم لحليفهم المنافق عبدالله بن سلول، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة، فخرجوا إلى أذرعات الشام، وكانوا ست مئة مقاتل.
وأما بنو النضير، فتآمروا على النبي (صلی الله علیه و آله) ليقتلوه ونزلت فيهم سورة الحشر، فبعث
ص: 62
إليهم أن أخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، فأرسل إليهم عبدالله بن أبي، أن لاتخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يموتون دونكم وينصركم بنو قريظة وحلفاؤكم من غطفان، فبعث رئيسهم حيي بن أخطب إلى النبي (صلی الله علیه و آله): إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك! فكبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكبر أصحابه!
وأمر علياً (علیه السلام) بالمسير إليهم فحاصرهم وقتل نخبة فرسانهم، ولم ينصرهم عبدالله بن أبيّ، ولا بنو قريظة، ولاحلفاؤهم من غطفان!
وبعد أيام من الحصار قالوا للنبي (صلی الله علیه و آله): نخرج من بلادك فأعطنا أموالنا فقال: لا، ولكن تخرجون ولكم ما حملت الإبل، فخرجوا إلى وادي القرى والشام.
وأما بنو قريظة، فبقوا على صلحهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) حتى ذهب زعماؤهم إلى مكة وتحالفوا مع أبي سفيان لغزو المدينة في حرب الأحزاب، ثم تجولوا على قبائل نجد والجزيرة يحثونهم على حرب النبي (صلی الله علیه و آله)، ويعدونهم بتمر خيبر.
وعندما حاصرالأحزاب المدينة مزق بنو قريظة عهدهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) لكنهم طلبوا من الأحزاب رهائن حتى لا يذهبوا ويتركوهم وحدهم مقابل النبي، فلم يعطوهم، ولما انهزم الأحزاب سار إليهم النبي (صلی الله علیه و آله) فحاصرهم حتى نزلوا على حكم حليفهم سعد بن معاذ، فحكم بقتل من حرض منهم وكانوا ثلاث مئة.
وأما يهود خيبر، فكانوا أكبر قوة لليهود، وقد شاركوا في مؤامراتهم على النبي (صلی الله علیه و آله) فقصدهم في السنة السابعة للهجرة، وأخضعهم وانتصرعليهم.
ص: 63
فقد استجاب الله دعاء إبراهيم وإسماعيل (صلی الله علیه و آله) لما بنىا البيت فقالا: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
وهذه الأمة من ذرية إسماعيل (علیه السلام) لا تنطبق إلا على النبي والأئمة من آله (صلی الله علیه و آله) . وقد روى الثقفي في الغارات: 1/200، رسالة علي (علیه السلام) لمعاوية، وفيها: «ولكل نبي دعوة في خاصة نفسه وذريته وأهله.قال إبراهيم وإسماعيل (صلی الله علیه و آله) وهما يرفعان القواعد من البيت (علیهم السلام) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، فنحن الأمة المسلمة. وقالا: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ.فنحن أهل هذه الدعوة ورسول الله (صلی الله علیه و آله) منا ونحن منه،بعضنا من بعض وبعضنا أولى ببعض في الولاية والميراث: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».
وفي الكافي: 5/14 أن الإمام الصادق (علیه السلام) حصرالأمة المأذون لها بالدعوة في قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ. بالأمة المسلمة من ذرية إبراهيم (علیه السلام) فقال: «ثم أخبر عن هذه الأمة ومن هي وأنها من ذرية إبراهيم وذرية إسماعيل (علیهما السلام) من سكان الحرم، ممن لم يعبدوا غير الله قط! الذين وجبت لهم الدعوة دعوة إبراهيم وإسماعيل من أهل المسجد الذين أخبر عنهم في كتابه أنه أذهب عنهم الرجس».
ص: 64
وفي كتاب سليم/406: «إنا أهل بيت دعا الله لنا أبونا إبراهيم (علیه السلام) فقال: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ،فإيانا عنى الله بذلك خاصة.ونحن الذين عنى الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.. إلى آخر السورة، فرسول الله الشاهد علينا، ونحن شهداء الله على خلقه، وحججه
في أرضه».
وفي الكافي: 1/392 أن الإمام الباقر (علیه السلام): «نظر إلى الناس يطوفون حول الكعبة فقال: هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية! إنما أمروا أن يطوفوا بها، ثم ينفروا إلينا فيُعْلِمونا ولايتهم ومودتهم، ويعرضوا علينا نصرتهم! ثم قرأ هذه الآية: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ». أي لم يقل: إليها!
وفي تفسير العياشي: 2/233، عنه (علیه السلام) قال: «ينبغي للناس أن يحجوا هذا البيت ويعظموه لتعظيم الله إياه، وأن يلقونا حيث كنا، نحن الأدلاء على الله».
وفي دعائم الإسلام: 1/31، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «لم يكن من الأمم السالفة والقرون الخالية والأسلاف الماضية ولا سمع به أحد أشد ظلماً من هذه الأمة، فإنهم يزعمون أنه لافرق بينهم وبين أهل بيت نبيهم (صلی الله علیه و آله) ولا فضل لهم عليهم، فمن زعم ذلك من الناس فقد أعظم على الله الفرية وارتكب بهتاناً عظيماً وإثماً مبيناً! وهو بذلك القول برئ من محمد وآل محمد حتى يتوب ويرجع إلى الحق بالإقرار بالفضل لمن فضله الله عزوجل عليه...فأصحاب دعوة إبراهيم وإسماعيل رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة (علیهم السلام)، ومن كان متولياً لهؤلاء من ولد إبراهيم وإسماعيل فهو من أهل دعوتهما، لأن جميع ولد إسماعيل قد عبدوا الأصنام، غير رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين وكانت دعوة إبراهيم وإسماعيل لهم».
يقصد (علیه السلام) أصول هذا الفرع وهو فرع عبدالمطلب إلى إسماعيل:.
ص: 65
قال الله تعالى: جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الحَرَامَ وَالهَدْىَ وَالقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمٌ. إِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. المائدة: 97-98.
إِنَّ أَوَلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ العَالَمِينَ. آل عمران: 96-97.
وَإِذْ بَوَأْنَا لآبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ. ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ.حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ. ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ. لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ.الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالمُقِيمِى الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلادِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ. الحج: 25-37.
قال الله تعالى: وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا المُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا
ص: 66
العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. الأنفال: 34-35.
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ. وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ. البقرة: 124-131.
تقول التوراة الموجودة إن سارة حسدت ضرتها هاجر، فطلبت من إبراهيم (علیه السلام) أن يطردها مع طفلها! فطردهما إلى برية سيناء، ثم سكنا في برية فاران، أي مكة!
وتؤكد توراتهم أن عهد الله تعالى بالإمامة والخلافة في الأرض، إنما كان لإبراهيم وابنه إسحاق وذريته، ولا يشمل إسماعيل وذريته أبداً!
تقول الفقرات /25-30 من العهد القديم: «قال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك. فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابناً وتدعو إسمه إسحاق، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده. وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً. اثني عشر رئيساً يلد. وأجعله أمة كبيرة. ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت في السنة الآتية... ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمرح، فقالت
ص: 67
لإبراهيم: أطرد هذه الجارية وابنها لأن ابن هذه الجارية لايرث مع ابني إسحاق. فقبح الكلام جداً في عيني إبراهيم لسبب ابنه، فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك. في كل ما تقول لك سارة إسمع لقولها، لأنه بإسحق يدعى لك نسل، وابن الجارية أيضاً سأجعله أمة لأنه نسلك.
فبكر إبراهيم صباحاً وأخذ خبزاً وقربة ماء وأعطاهما لهاجر، واضعاً إياهما على كتفها والولد وصرفها، فمضت وتاهت في برية بئر سبع، ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار ومضت وجلست مقابله بعيداً نحو رمية قوس، لأنها قالت لا أنظر موت الولد فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت فسمع الله صوت الغلام، ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها: مالك يا هاجر لا تخافي، لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو، قومي إحملي الغلام وشدي يدك به، لأني سأجعله أمة عظيمة. وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام، وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس وسكن في برية فاران، وأخذت له أمةً زوجةً من أرض مصر».
وفي نص آخر: «وبعد أن حملت سارة نظرت إلى سيدتها باحتقار،لأنها كانت عاقراً، فطردتها سيدتها، ولاقاها ملاك الرب في الطريق وأمرها أن ترجع إلى سيدتها وإلى بيت إبراهيم، ووعدها بأنها ستلد إبناً تسميه إسماعيل، وأنه يكون أباً لجمهور من الناس وأنه سيسكن البرية كحمار وحشي»! قاموس الكتاب المقدس/74 تك: 16 5-14
وفي سفر التثنية/إصحاح: 33: «وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة لهم».
وفي سفر حيقوق/إصحاح: 3: «الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران. سلاه. جلاله غطى السماوات. والأرض امتلأت من تسبيحه. وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع. وهناك استتار قدرته».
وسيناء: محل نزول الوحي على موسى. وسعير: محل بعثة عيسى. وفاران: جبال مكة
ص: 68
التي تلألأت بنبوة محمد (صلی الله علیه و آله)! وهي حجة واضحة لنبينا محمد (صلی الله علیه و آله) .
وفي التوراة والإنجيل/1140 موقع: arabicbible: «ستبيتين في صحاري بلاد العرب يا قوافل الددانيين. فاحملوا يا أهل تيماء الماء للعطشان واستقبلوا الهاربين بالخبز. لأنهم قد فروا من السيف المسلول والقوس المتوتر ومن وطيس المعركة. لأنه هذا ما قاله لي الرب: في غضون سنة مماثلة لسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار، وتكون بقية الرماة الأبطال من أبناء قيدار قلة. لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم».
هذا كل ما أوردته توراتهم عن سكن إسماعيل (علیه السلام) في مكة، وقد أهملت عن عمد تجديد إبراهيم وإسماعيل (علیهما السلام) بناء الكعبة! لأنه يكشف التخطيط الرباني للأمة الآخرة من ذرية إسماعيل:، وإخبار بأن الله سينقل النبوة اليهم.
أما أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) فبينت مكانة الكعبة، وأن أصلها كان قبل آدم (علیه السلام)، وأنها نزلت على آدم (علیه السلام) ياقوتة حمراء وكانت قواعدها زبرجدة خضراء، ثم عفيت بعد نوح، فأمر الله تعالى إبراهيم (علیه السلام) أن يسكن عندها طفله إسماعيل وأمه هاجر (علیهما السلام)، وبعث جبرئيل (علیه السلام) فاحتفر بئراً لشرابهم وشراب الحاج.
ثم أمر الله إبراهيم (علیه السلام) أن يجدد بناءها مع ابنه إسماعيل (علیه السلام) عندما صار يافعاً فجدداها، وأمره أن يدعو الناس إلى حجها، ويريهم مناسكهم، فدعا الناس واستجابوا له وحج بهم، ثم أمره الله تعالى أن يذبح إسماعيل فأطاعه، وفداه الله بكبش كما قَصَّ القرآن.
وتزوج إسماعيل (علیه السلام) من قبيلة جرهم العربية، ثم توفيت أمه هاجر (علیهما السلام) فدفنها في المسجد عند الكعبة، وأمره الله أن يجعل حول قبرها حِجْراً لئلا يدوسه الناس، وأدخله في المطاف!
كما بينت الأحاديث تقديس العرب للكعبة، والتزامهم بالعمرة في رجب وبالحج في ذي الحجة.. إلى عشرات العناوين والتفصيلات عن الكعبة ومكانتها،
ص: 69
وعن آل إبراهيم علیهم السلام.الكافي: 4/201، علل الشرائع: 2/586 وتفسير القمي: 1/60.
وروت شبيهاً بها مصادر السنة كالبخاري: 4/114.لكنها تأثرت بالإسرائيليات.
يتعجب الإنسان كيف استطاع إبراهيم صلوات الله عليه أن يجمع العرب على تقديس الكعبة والحج اليها، مع أنه لم يكن حاكماً عليهم ولا كان يعيش بينهم!
فلا بد من القول بوجود إعجاز رباني في الأمر، وجه العرب إلى البيت الذي بناه هذا القديس البابلي، الذي أحرقه نمرود فلم يحترق!
وقد نصت على ذلك أحاديث النبي وأهل بيته (صلی الله علیه و آله)، في تفسير قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ.
وقد أسمع الله دعوة إبراهيم (علیه السلام) حتى لمن كانوا في أصلاب آبائهم: قال الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي4/205»: «فقال: أيها الناس إني إبراهيم خليل الله، إن الله يأمركم أن تحجوا هذا البيت فحجوه، فأجابه من يحج إلى يوم القيامة،وكان أول من أجابه من أهل اليمن».
وقال الإمام الباقر (علیه السلام) «علل الشرائع2/420»: «صار بإزاء أبي قبيس فنادى في الناس بالحج، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، إلى أن تقوم الساعة».
وروى نحوه الحاكم وصححه: 2/389: «يا أيها الناس كتب عليكم الحج حج البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض».
وسرعان ما تحققت المعجزة وصارت مكة موسماً في ذي الحجة وفي رجب، ومجمعاً لقبائل العرب وسوقاً رأوا فيه المنافع التي قال الله عنها: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ. وكان إسماعيل وأبناؤه، وأصهاره من قبيلة جرهم، يخدمون الحجاج ويعلمونهم الحج والعمرة.
ص: 70
وكان ملوك التبابعة يحترمون الكعبة، قال الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي 4/215»:
«إن تُبَّعًا لما أن جاء من قبل العراق وجاء معه العلماء وأبناء الأنبياء، فلما انتهى إلى هذا الوادي لهذيل أتاه أناس من بعض القبائل فقالوا: إنك تأتي أهل بلدة قد لعبوا بالناس زماناً طويلاً حتى اتخذوا بلادهم حرماً وبَنِيَّتَهم رباً أو ربةً! فقال: إن كان كما تقولون قتلت مقاتليهم وسبيت ذريتهم وهدمت بنيتهم. قال: فسالت عيناه حتى وقعتا على خديه! قال: فدعى العلماء وأبناء الأنبياء فقال: أنظروني وأخبروني لما أصابني هذا؟ قال: فأبوا أن يخبروه حتى عزم عليهم قالوا: حدثنا بأي شئ حدثت نفسك؟قال: حدثت نفسي أن أقتل مقاتليهم وأسبي ذريتهم وأهدم بنيتهم! فقالوا: إنا لا نرى الذي أصابك إلا لذلك، قال: ولم هذا؟ قالوا: لأن البلد حَرَم الله والبيت بيت الله، وسكانه ذرية إبراهيم خليل الرحمن. فقال: صدقتم فما مَخرجي مما وقعت فيه؟ قالوا: تُحدث نفسك بغير ذلك، فعسى الله أن يرد عليك، قال: فحدث نفسه بخير، فرجعت حدقتاه حتى ثبتتا مكانهما قال: فدعى بالقوم الذين أشاروا عليه بهدمها فقتلهم، ثم أتى البيت وكساه وأطعم الطعام ثلاثين يوماً،كل يوم مائة جزور، حتى حملت الجفان إلى السباع في رؤوس الجبال، ونثرت الأعلاف في الأودية للوحوش، ثم انصرف من مكة إلى المدينة فأنزل بها قوماً من أهل اليمن من غسان وهم الأنصار».
وكانت بعض قبائل العرب لا تحج البيت وهم الغساسنة في الشام وغيرهم ممن تنصروا، ونصارى نجران، وقسم من طئ على مشارف الشام، وكان القياصرة ومن والاهم يبذلون جهداً ليثنوا العرب عن الحج إلى الكعبة.
وكان من أهداف طليحة الأسدي الذي ادعى النبوة، وهاجم المدينة بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) بستين يوماً، بعشرين ألف مقاتل، فنهض علي (علیه السلام) وتلاميذه وهاجموهم ليلاً، وقتل قائدهم وهزمهم.
وقال (علیه السلام) عن تلك الفترة: «حتى رأيت راجعة من الناس قد رجعت من الإسلام تدعو إلى محق دين محمد (صلی الله علیه و آله) وملة إبراهيم (علیه السلام)».
ص: 71
أي يريدون إزالة الإسلام، وحتى الحج إلى الكعبة الذي بقي من ملة إبراهيم (علیه السلام)! كشف المحجة / 176، راجع قراءة جديدة في حروب الردة للمؤلف.
وكان قيصر يؤيد ردة بني أسد ومن معهم من طئ، لأنه كان يتهيأ لحرب النبي (صلی الله علیه و آله) ويُحَضِّرُ دولة الغساسنة، وأبا عامر الفاسق وجماعته في المدينة، والأكيدر الكندي في دومة الجندل، وقد وثَّق ملك الشام الغساني علاقته بطيئ حتى تنصرعدي بن حاتم، وأهدى قيصر سيوفاً ثمينة لصنمي طيئ، فأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) علياً وجاء بأسرى من طيئ! فلا بد أن قيصراً شجع طليحة على حملته!
ومع ذلك، فإن أكثرية قبائل العرب وجمهرتها كانت تؤمن بالكعبة وتحج اليها.
ذكر المسعودي في مروج الذهب: 1/265 وغيره من المؤرخين، أن ساسان بن بابك ملك الفرس حج إلى الكعبة وكان يعتقد بها، وكان يدعي أنه من ذرية إبراهيم (علیه السلام)، قال: «وكانت الفرس تهدي إلى الكعبة أموالًا في صدرالزمان وجواهر، وقد كان ساسان بن بابك هذا، أهدى غزالَيْن من ذهب وجوهراً وسيوفاً وذهباً كثيراً». حتى غلبت خزاعة جرهماً فرمى الحارث بن مضاض الغزالين في زمزم، ودفنها فضاع أثرهما، حتى استخرجهما عبدالمطلب (علیه السلام) .
وقد يكون ساسان أهدى إلى الكعبة لكسب قلوب قبائل العرب، لأن الأكاسرة المتأخرين كانوا لا يقدسونها.
ص: 72
السبب: أنهم إذا اعترفوا بأن آباء النبي (صلی الله علیه و آله) مؤمنون، فهم ورثة إسماعيل وإبراهيم (علیهما السلام)، فيكون الوارث عبدالمطلب ثم النبي (صلی الله علیه و آله) ثم أبوطالب وعلي (علیه السلام) فلايبقى لخلفاء قريش شئ! لذلك اخترعوا أن يساووا بين آباء النبي (صلی الله علیه و آله) وآبائهم الذين قاوموه وكفروا به، فقالوا إنهم جميعاً كفار ولا أحد أولى بوراثة النبي (صلی الله علیه و آله)، فكل قرشي مثل كل هاشمي له الحق أن يرث سلطانه (صلی الله علیه و آله)!
وهم صادقون بحق آبائهم، فتاريخهم غير مشرف وأكثرهم لعنهم النبي (صلی الله علیه و آله) .
وقد وصل عدوانهم إلى أوْجِهِ فزعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال إن آباءه كفار في النار! وكذب عليه أنس فقال إن رجلاً سأله، صحيح مسلم1/133: «يا رسول الله، أين أبي؟ قال: في النار. فلما قفى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار»!
وقال السهيلي في الروض الأنف: 1/194: «وفي الصحيح أيضاً أنه صلى الله عليه و آله وسلم قال: استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها، فلم يأذن لي. وفي مسند البزار من حديث بريدة أنه حين أراد أن يستغفر لأمه، ضرب جبريل في صدره وقال له: لاتستغفر لمن كان مشركاً، فرجع وهو حزين».
فانظر إلى هذه الخشونة التي وصفوا بها الله الرحمن الرحيم، ورسوله (صلی الله علیه و آله)!
ص: 73
والعجيب أن أكثرهم صحح أحاديث الطعن في آباء النبي (صلی الله علیه و آله) ولم يردَّها إلا قليل من علمائهم المتأخرين!
قال الصالحي في سبل الهدى: 1/260: «قال السهيلي في الروض الأنف بعد إيراده حديث مسلم: وليس لنا نحن أن نقول ذلك في أبويه صلى الله عليه وسلم: لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات. وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وسئل القاضي أبوبكر بن العربي أحد الأئمة المالكية (رحمة الله) عن رجل قال: إن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار؟ فأجاب: بأن من قال ذلك فهو ملعون لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. قال: ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه إنه في النار»!
وعلى قوله فمسلم صاحب الصحيح ملعون لأنه نسب ذلك إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) .
ومن العجيب أن الطاعنين أنفسهم اعترفوا ببطلان قولهم، حيث رووا أن الله تعالى اختار بني هاشم وميزهم على قريش، ولا يمكن أن يختارهم وهم كفارٌ!
وقد عقد الهيثمي باباً فی «مجمع الزوائد 8/215» في كرامة أصل النبي (صلی الله علیه و آله) روى فيه عن ابن عباس ووثقه أن معنى قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ: من صلب نبي إلى نبي حتى صرت نبياً. فدل ذلك على أن كل آبائه مؤمنون أنبياء، ولو لأنفسهم! ثم روى غضب النبي (صلی الله علیه و آله) لقول أحدهم: «إن مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن! وقول أحدهم: إنما مثل محمد نخلة نبتت في الكَبا«المزبلة»! فقال (صلی الله علیه و آله): أيها الناس من أنا؟ قالوا أنت رسول الله، قال: أنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب. ألا إن الله عزوجل خلق خلقه، ثم فرقهم فرقتين فجعلني في خير الفريقين، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيرهم بيتاً و
خيرهم نفساً».
وفي الدر المنثور: 3/294 والمستدرك: 4/73 والخصال/36: «قسم الله تبارك وتعالى أهل الأرض قسمين فجعلني في خيرهما، ثم قسم النصف الآخر على ثلاثة، فكنت خير الثلاثة، ثم اختار العرب من الناس، ثم اختار قريشاً من العرب، ثم اختار بني
ص: 74
هاشم من قريش، ثم اختار بني عبدالمطلب من بني هاشم، ثم اختارني من بني عبدالمطلب».
ورد النبي (صلی الله علیه و آله) على حقد القرشيين رداً عنيفاً قاصماً، فقال لهم وهو على المنبر: فليسألني الطاعن بأسرتي: إبنُ مَن هو؟! فسأله صحابي عن أبيه، فقال له: إن أباك فلان الراعي! وكانت أول مرة يَجْبَهُ فيها أحداً بمثل هذا!
لكن القرشيين لا يرتدعون ولا تنكسر أعينهم، فقد أصروا على الإنتقاص من آبائه (صلی الله علیه و آله) لينفوا وراثتهم لإبراهيم (علیه السلام)! راجع: العقائد الإسلامية: 3/275.
قال المفيد في أوائل المقالات/45:«اتفقت الإمامية على أن آباء رسول الله (صلی الله علیه و آله) من لدن آدم إلى عبدالله بن عبدالمطلب:مؤمنون بالله عزوجل موحدون له. واحتجوا في ذلك بالقرآن والأخبار،قال الله عزوجل: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ. وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لم يزل ينقلني من أصلاب الطاهرين، إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا. وأجمعوا على أن عمه أباطالب مات مؤمناً، وأن آمنة بنت وهب كانت على التوحيد، وأنها تحشر في جملة المؤمنين».
قال أبو حيان «البحر المحيط: 7/47»: «ذهبت الرافضة إلى أن آباء النبي كانوا مؤمنين».
وقد وافقنا غيره من علمائهم فصاروا رافضة في هذا الموضوع، مثل الماوردي، والرازي في كتابه أسرار التنزيل، والسنوسي، والقاضي عياض، والتلمساني شارح الشفاء، وألف السيوطي رسائل لإثبات إيمانهم.الصحيح: 2/186.
والصحيح عندي أن آباءه (صلی الله علیه و آله) كانوا على دين إبراهيم (علیه السلام)، وأن الله كلفهم بالحنيفية ولم يكلفهم باليهودية ولا المسيحية، وقد ثبتوا على حنيفية إبراهيم (علیه السلام)، بينما انحرفت عنها قبائل قريش الأخرى.
والأدلة على ذلك عديدة، منها ما رواه الأصبغ بن نباتة (رحمة الله) قال: «سمعت
ص: 75
أميرالمؤمنين صلوات الله عليه يقول: والله ما عَبَدَ أبي ولا جدي عبدالمطلب ولا هاشم ولاعبدمناف، صنماً قط! قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم (علیه السلام) متمسكين به».كمال الدين/174.
ويؤيده ما رواه البخاري: 2/98: «لما حضرت أباطالب الوفاة جاءه رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أباجهل بن هشام وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأبي طالب: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال أبوجهل وعبدالله بن أبي أمية: يا أباطالب أترغب عن ملة عبدالمطلب!
فلم يزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبوطالب:
آخر ما كلمهم هو على ملة عبدالمطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله تعالى فيه: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ».
ومع أن رواية البخاري عندنا مكذوبة، لكنا نستشهد باعترافها بأن أباطالب قال إنه على ملة عبدالمطلب، أي ملة إبراهيم (علیه السلام) .
وفي تفسيرابن عطية: 4/293: «أنا على ملة عبدالمطلب والأشياخ». «ونحوه تفسير الثعلبي: 5/100 وأسباب النزول /178». ويبدو أن كلمة الأشياخ أضافها رواة السلطة وقصدهم بهم أشياخ قريش، لا أشياخ أبي طالب بمعنى آبائه:.
وقد رووا أن أشياخ قريش سألوا أباطالب: هل أسلم؟ فكان يقول لهم: أنا على ملة عبدالمطلب أو ملة إبراهيم (علیه السلام)، ليخفف من عدائهم إذا قال لهم إنه أسلم.
ومما يدل على كذب رواية البخاري أن أباجهل لم يحضروفاة أبي طالب، وأن آية: مَا كَان لِلَّنِبيِّ.. لم تنزل يومها بل هي من سورة التوبة التي نزلت في رجوع النبي (صلی الله علیه و آله) من تبوك في السنة التاسعة، أي بعد وفاة أبي طالب (علیه السلام) بأكثر من عشر سنين.
وفي كمال الدين/171: «كان عبدالمطلب وأبوطالب (علیهما السلام) من أعرف العلماء وأعلمهم بشأن النبي (صلی الله علیه و آله) وكانا يكتمان ذلك عن الجهال وأهل الكفر والضلال».
وفي الكافي: 1/444 من خطبة للإمام الصادق (علیه السلام): «تُبشر به كلُّ أمة مَن بعدها،
ص: 76
ويدفعه كل أب إلى أب من ظهر إلى ظهر، لم يخلطه في عنصره سفاح، ولم ينجسه في ولادته نكاح، من لدن آدم إلى أبيه عبدالله، في خير فرقة، وأكرم سبط، وأمنع رهط، وأكلأ حمل، وأودع حِجْر».
فقد أسس هاشم (علیه السلام) رحلتي الشتاء والصيف. قال أبو نصر البخاري في كتابه سرّ السلسلة العلوية /3: «أول من رفع الله تعالى من قريش قبل النبوة أربعة: هاشم، والمطلب، وعبد شمس، ونوفل. خرج هاشم في ألف من قريش إلى الشام، فأخذ من قيصر ملك الروم عهداً لقريش ليتجروا في بلاده. وخرج المطلب إلى اليمن فأخذ من ملوك اليمن عهداً لهم، وركب نوفل البحر فأخذ لهم من النجاشي عهداً».«كان هاشم يُدعى القمر، ويسمى زادُ الركب».عمدة الطالب/25.
«وكان يقال لهاشم والمطلب: البدران لجمالهما». الكامل لابن الأثير: 2/17.
«وكان هاشم أول من سنَّ الرحلتين، فكان يرحل في الشتاء إلى اليمن، والى الحبشة فيكرمه النجاشي، ويرحل في الصيف إلى الشام وبها مات، وربما وصل إلى أنقرة فيدخل على قيصر فيكرمه. ومن خصال بني هاشم ما عبرعنها علي بن أبي طالب: خصصنا بخمس: فصاحة، وصباحة، وسماحة، ونجدة، وحظوة». قبائل العرب لكحالة: 3/1207، في مصادره ابن خلدون: 2/328 والطبري: 5/23 و 9/48.
وقد مَنَّ الله على قريش بفعل هاشم (علیه السلام) فقال: لإيلافِ قُرَيْشٍ.إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ.فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ.الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.
لكن قريشاً لاتشكر نعم ربها، ولذلك رووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يقرأ السورة فيقول: ويلُ أمكم قريش، رحلةَ الشتاء والصيف! في موضع: لإيلافِ قُريش». تاريخ دمشق23/228، الزوائد 7/143،كبير الطبراني 24/178وأحمد 6/460.
وأسس هاشم إطعام الحجيج: «إنما سمي هاشماً لهشمه الثريد للحاج، وكانت
ص: 77
إليه الوفادة والرفادة، وفيه يقول مطرود بن كعب الخزاعي:
عمرو العلى هَشَم الثريد لقومه *** ورجالُ مكةَ مُسْنِتُونَ عجافُ».
«أصاب الناس سنة جدب شديد، فخرج هاشم إلى الشام، وقيل بلغه ذلك وهو بغزة من الشام، فاشترى دقيقاً وكعكاً، وقدم به مكة في الموسم فهشم الخبز والكعك ونحر الجزر، وجعله ثريداً وأطعم الناس حتى أشبعهم، فسمى بذلك هاشماً، وكان يقال له: أبو البطحاء وسيد البطحاء».الطبري: 2/8 واليعقوبي: 1/245.
وفي العدد القوية/140: «كان لهاشم خمسة بنين: عبدالمطلب وأسد ونضلة وصيفي وأبوصيفي. وسُمِّيَ هاشماً لهشمه الثريد للناس في زمن المسغبة، وكنيته أبو نضلة، وإسمه عمرو العلى. قال ابن الزِّبَعْرَى:
كانت قريشٌ بيضةً فتفلَّقَتْ *** فالمخُّ خالصُها لعبد مُناف
الرايشون وليس يوجد رايشٌ *** والقائلونَ هلمَّ للأضياف
والخالطونَ فقيرهم بغنيهم *** حتى يكون فقيرهم كالكافي
عمرو العلى هشمَ الثريد لقومه *** ورجالُ مكة مسنتون عجافِ
نصَّت أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) على أن الله تعالى أمر آدم أن يوصي لابنه الأصغر هابيل (علیهما السلام)، فأوصى له فحسده قابيل، فتباهلا بالقربان فتقبل الله قربان هابيل دون قابيل، فزاد حسد قابيل لأخيه حتى قتله!
ففي تفسير العياشي: 1/312: «عن سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبدالله (علیه السلام): جعلت فداك إنهم يزعمون أن قابيل إنما قتل هابيل لأنهما تغايرا على أختهما؟ فقال له: يا سليمان تقول هذا! أما تستحيي أن تروى هذا على نبي الله آدم! فقلت: جعلت فداك ففيمَ قتل قابيل هابيل؟ فقال: في الوصية. ثم قال لي: يا سليمان إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى آدم أن يدفع الوصية وإسم الله الأعظم إلى هابيل، وكان قابيل أكبر منه، فبلغ ذلك قابيل فغضب فقال: أنا أولى بالكرامة والوصية! فأمرهما أن يقربا قرباناً
ص: 78
بوحيٍ من الله إليه ففعلا، فقبل الله قربان هابيل، فحسده قابيل فقتله!
فقلت: جعلت فداك فممن تناسل ولد آدم، هل كانت أنثى غير حواء، وهل كان ذكر غير آدم؟ فقال: يا سليمان إن الله تبارك وتعالى رزق آدم من حواء قابيل وكان بكر ولده، ومن بعده هابيل، فلما أدرك قابيل ما يدرك الرجال أظهر الله له جنية وأوحى إلى آدم أن يزوجها قابيل ففعل ذلك آدم، ورضي بها قابيل وقنع، فلما أدرك هابيل ما يدرك الرجال أظهر الله له حوراء، وأوحى الله إلى آدم أن يزوجها من هابيل ففعل ذلك.
فقُتل هابيل والحوراء حامل فولدت الحوراء غلاماً فسماه آدم هبة الله، فأوحى الله إلى آدم أن ادفع إليه الوصية واسم الله الأعظم.
وولدت حواء غلاماً فسماه آدم شيث بن آدم، فلما أدرك ما يدرك الرجال أهبط الله له حوراء وأوحى إلى آدم أن يزوجها من شيث ابن آدم، ففعل فولدت الحوراء جارية فسماها آدم حورة، فلما أدركت الجارية زوج آدم حورة بنت شيث من هبة الله بن هابيل فنسل آدم منهما. فمات هبة الله بن هابيل فأوحى الله إلى آدم أن ادفع الوصية واسم الله الأعظم، وما أظهرتك عليه من علم النبوة، وما علمتك من الأسماء إلى شيث بن آدم. فهذا حديثهم يا سليمان».
أقول: إن حال هاشم وأخيه أمية شبيهة بحال قابيل وهابيل، فقد اتفق المؤرخون على نُبل هاشم (علیه السلام) وتميزه، وأن أباه عبدمناف أوصى له بمفتاح البيت ومواريث إسماعيل (علیه السلام): «وكان مناف وصَّى إلى هاشم، ودفع إليه مفتاح البيت وسقاية الحاج، وقوس إسماعيل».العدد القوية/140.
وقال الطبري: 2/13: «ووليَ هاشم بعد أبيه عبدمناف، السقاية والرفادة». وروت المصادركلها أن أخاه أمية حسده وعاداه، ودعاه إلى المنافرة! ومعنى المنافرة أن يحتكم المتنافران إلى كاهن أو حكيم يقبلان بحكمه!
قال الطبري: 2/1: «فحسده أمية بن عبد شمس بن عبدمناف، وكان ذا مال فتكلف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش، فغضب
ص: 79
ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة! فكره هاشم ذلك لسنه وقدره، ولم تَدَعْهُ قريش وأحفظوه، قال فإني أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق، تنحرها ببطن مكة، والجلاء عن مكة عشر سنين. فرضي بذلك أمية وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي، فنفَّر هاشماً عليه «حكم لهاشم أنه أفضل» فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين، فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية..وتوارث ذلك بنوهما».
وروى الطبري: 2/13، أنهما تنافرا إلى النجاشي ملك الحبشة و«أن عبد شمس وهاشماً توأمان وإن أحدهما ولد قبل صاحبه وإصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه، فنحيت عنها فسال من ذلك دم، فتطير من ذلك فقيل: تكون بينهما دماء»!
وروى ابن عساكر: 9/220 قصة المعمر اليماني مع معاوية: «قال معاوية: إني لأحب أن ألقى رجلاً قد أتت عليه سن وقد رأى الناس، يخبرنا عما رأى، فقال بعض جلسائه: ذلك رجل بحضرموت! فأرسل إليه فأتيَ به فقال له...فأخبرني هل رأيت هاشماً؟ قال: نعم رأيته رجلاً طوالاً حسن الوجه، بين عينيه غرة بركة. قال: فهل رأيت أمية؟ قال: نعم رأيته رجلاً قصيراً أعمى، يقال إن في وجهه لشراً أو شؤماً! قال: فهل رأيت محمداً؟ قال: من محمد؟قال: رسول الله، قال: ويحك ألا فخَّمته كما فخمه الله فقلت رسول الله (صلی الله علیه و آله)! قال: فأخبرني ما كانت صناعتك؟ قال: كنت رجلاً تاجراً. قال: فما بلغت تجارتك؟ قال: كنت لا أشتري عيباً، ولا أرد ربحاً! قال له: سلني، قال: أسألك أن تدخلني الجنة»!
وقالوا: «مات هاشم بغزة وعمره خمس وعشرون سنة وذلك الثبت».«معجم البلدان: 4/202، 3/40». وفي طبقات ابن سعد: 1/78: «فاشتكى، فأقاموا عليه حتى مات، فدفنوه بغزة، ورجعوا بتركته إلى وُلده».
لكن الظاهر أن عمره (رحمة الله) كان في الستينات كما يشير قول الراوي: ودعاه إلى المنافرة فكره هاشم ذلك لسنه وقدره.ويؤيد قولنا أنه أنشأ علاقات مع ملوك عصره، وكانت له سفرات إلى الحبشة والشام واليمن، ووصل إلى أنقرة فأكرمه قيصر.
ص: 80
والمرجح أن أعداءه سقوه السم لأنه أول رجل من أولاد إسماعيل (علیه السلام) كانت له زعامة مطلقة في العرب واحترام من ملوك عصره. وكان لحاسده أمية علاقات باليهود، فقد يكون دبَّر سُمَّه على يد أصدقائه اليهود.
قال ابن قتيبة في المعارف/319: «كان أمية بن عبد شمس خرج إلى الشام فأقام بها عشر سنين، فوقع على أمَةٍ لِلَخْم يهودية من أهل صفورية يقال لها ترنا، وكان لها زوج من أهل صفورية يهودي، فولدت له ذكوان فادعاه أمية واستلحقه، وكناه أبا عمرو ثم قدم به مكة، فلذلك قال النبي (صلی الله علیه و آله) لعقبة يوم أمر بقتله: إنما أنت يهودي من أهل صفورية»!
وفي رواية: «فقال عقبة: يا محمد ناشدتك بالله والرحم! فقال له (صلی الله علیه و آله): وهل أنت إلا علج من أهل صفورية! لأنت في الميلاد أكبر من أبيك الذي تدعى له».
وفي المنمق/97: «فخلف أبو عمرو على امرأة أبيه بعده، فأولدها أبان، وهو أبو معيط! ويقال استحلق ذكوان أيضاً أبان».
وروى ذلك ابن قتيبة في المعارف/319، وقال: «ولَّاه عمر على صدقات بني تغلب. وولَّاه عثمان الكوفة، بعد سعد بن أبي وقّاص، فصلَّى بأهلها وهو سكران»! راجع: الطبقات: 1/75، المنمق/97، الطبري: 1/371و2/13، ابن الأثير: 2/16، النزاع والتخاصم/49، إمتاع الأسماع: 10/6، سبل الهدى: 1/271، السيرة الحلبية: 1/7، المنتظم: 2/212، أعلام النبوة/251، نهاية الإرب/3253، أنساب الأشراف/39، معجم ما استعجم: 3/837، العدد القوية/140وشيخ المضيرة/159.
تشهد سيرة آباء النبي (صلی الله علیه و آله) خاصةً عبدالمطلب وأبي طالب، بأنهم من كبار المؤمنين، وأنهم الخط الوارث لإبراهيم وإسماعيل:، فلم يعبدوا الأصنام، بل كانوا يفتخرون بأنهم على ملة أبيهم إبراهيم وإسماعيل.
وقد ميزهم الله تعالى حتى في شكلهم فورَّثهم جمال إبراهيم (علیه السلام)! ولما رأى
ص: 81
أبرهة عبدالمطلب: «فجعل ينظر في وجهه، فراقه حسنه وجماله وهيئته فقال له: هل كان في آبائك مثل هذا النور الذي أراه لك والجمال؟ قال: نعم أيها الملك، كل آبائي كان لهم هذا الجمال والنور والبهاء.فقال له أبرهة: لقد فقتم الملوك فخراً وشرفاً، ويحق لك أن تكون سيد قومك. ثم أجلسه معه على سريره».أمالي الطوسي/80.
وفي أمالي الطوسي/682: «سرير أبرهة لما دخل عليه عبدالمطلب، انحنى ومال»!
«أول من خضب بالسواد من العرب.وكان أبيض مديد القامة».الأعلام: 4/154.
قال اليعقوبي: 2/11: «كان لكل واحد من ولد عبدالمطلب شرف وذكر وفضل وقدر ومجد. وحج عامر بن مالك ملاعب الأسنة البيت فقال: رجال كأنهم جمالٌ جون «دُهْم» فقال: بهؤلاء تُمنع مكة!
وحج أكثم بن صيفي في ناس من بني تميم فرآهم يخترقون البطحاء كأنهم أبرجة الفضة، يلحفون الأرض بحبراتهم «جببهم الطويلة»! فقال: يابني تميم إذا أحب الله أن ينشئ دولة أنبت لها مثل هؤلاء، هؤلاء غرس الله لا غرس الرجال».
وفي المنمق/34: «لم يكن في العرب عدة بني عبدالمطلب أشرف منهم ولا أجسم ليس منهم رجل إلا أشم العرنين، يشرب أنفه قبل شفتيه، ويأكل الجذع ويشرب الفرق». «يأكل الخروف الصغير، ويشرب سطل المخيض».
ظهر ماء زمزم لهاجر وإسماعيل (علیهما السلام) بمعجزة، وكان نبعاً صغيراً، ثم كثر الواردون عليه، فشكى إسماعيل لأبيه (علیهما السلام) قلة الماء فأمره الله أن يحفر بئراً فحفره، ونزل جبرئيل (علیه السلام) وأمره أن يسمي ويضرب في زوايا البئر الأربعة، فضرب إبراهيم فانفجرت أربع عيون فقال جبرئيل (علیه السلام): «إشرب يا إبراهيم وادع لولدك فيها بالبركة، وخرج إبراهيم وجبرئيل (علیهما السلام) جميعاً من البئر فقال له: أفض عليك يا إبراهيم وطف حول البيت، فهذه سقيا سقاها الله ولد إسماعيل».الكافي: 4/204.
ص: 82
فزمزم سُقْيَا الله تعالى لبني إسماعيل (علیه السلام) خاصة ومنهم تصل إلى الناس.
وبعد قرون غاض ماء زمزم، حتى أعاده الله تعالى على يد عبدالمطلب (علیه السلام)، فحسده زعماء قريش وأرادوا أن يأخذوه منه! وأجبروه على الإحتكام إلى كاهنة في مشارف الشام فذهب معهم، وفي الطريق نفد ماؤهم فأظهر الله له آية ونبع الماء من تحت خف ناقته، فسلموا له لكن موقتاً، كما سلم اليهود لمريم (علیها السلام) موقتاً!
قال السيوطي في الدر المنثور: 3/220: «وأخرج الأزرقي والبيهقي في الدلائل عن علي بن أبي طالب رضيالله عنه قال: قال عبدالمطلب إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال إحفر طيبة... فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته فقاموا إليه فقالوا: يا عبدالمطلب إنها بئر إسماعيل، وإن لنا فيها حقاً فأشركنا معك فيها، فقال: ما أنا بفاعل إن هذا الأمر خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم. قالوا: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نحاكمك. قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم. قالوا: كاهنة من سعد هذيل. قال: نعم، وكانت بأشراف الشام فركب عبدالمطلب ومعه نفر من بني عبدمناف، وركب من كل ركب من قريش نفر، والأرض إذ ذاك مفاوز، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض المفاوز، بين الحجاز والشام فنيَ ماء عبدالمطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا ممن معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم وقالوا: إنا في مفازة نخشى فيها على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلما رأى عبدالمطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك فمرنا بما شئت. قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم لنفسه لما بكم الآن من القوة، وكلما مات رجل دفنه أصحابه في حفرته ثم واروه، حتى يكون آخركم رجلاً، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعاً! قالوا: سمعنا ما أردت. فقام كل رجل منهم يحفر حفرته ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً، ثم إن عبدالمطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا لعجز، ما نبتغي لأنفسنا حيلة! عسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، إرحلوا فارتحلوا حتى فرغوا ومن معهم من قريش ينظرون إليهم
ص: 83
وما هم فاعلون، فقام عبدالمطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت انفجرت من تحت خفها عين من ماء عذب! فكبَّرعبدالمطلب وكبَّر أصحابه ثم نزل فشرب وشربوا واستقوا حتى ملؤوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل التي معه من قريش فقال: هلمَّ الماء، قد سقانا الله تعالى، فاشربوا واستقوا! فقالت: القبائل التي نازعته: قد والله قضى الله لك يا عبدالمطلب علينا!والله لا نخاصمك في زمزم فارجع إلى سقايتك راشداً! فرجع ورجعوا معه، ولم يمضوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين زمزم».روته عامة المصادر، مثل ابن سعد: 1/83، اليعقوبي: 1/248، ابن إسحاق: 1/5، ابن هشام: 1/94، ابن كثير: 1/169، الحلبية: 1/55 وابن الأثير: 2/13.
وقوله: فكبَّرعبدالمطلب وكبَّر أصحابه. قد يكون بمعنى هتفوا تعجباً كالتكبير، وقد يكون التكبير موجوداً من حنيفية إبراهيم (علیه السلام) فأظهره الإسلام.
في الكافي: 4/219 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان في الكعبة غزالان من ذهب وخمسة أسياف، فلما غَلبت خزاعةُ جِرْهَمَ على الحرم ألقت جرهمُ الأسياف والغزالين في بئر زمزم، وألقوا فيها الحجارة وطموها وعَمَّوْا أثرها، فلما غلب قصي على خزاعة لم يعرفوا موضع زمزم، وعميَ عليهم موضعها، فلما غلب عبدالمطلب (علیه السلام) وكان يفرش له في فناء الكعبة ولم يكن يفرش لأحد هناك غيره، فبينما هو نائم في ظل الكعبة فرأى في منامه أتاه آتٍ فقال له: إحفر بَرَّة، قال: وما برة؟ ثم أتاه في اليوم الثاني فقال: إحفر طيبة، ثم أتاه في اليوم الثالث فقال: إحفر المصونة، قال: وما المصونة؟ ثم أتاه في اليوم الرابع فقال: إحفر زمزم لا تُنزح ولا تُذم، سَقْيُ الحجيج الأعظم، عند الغراب الأعصم، عند قرية النمل.
وكان عند زمزم حِجْرٌ يخرج منه النمل فيقع عليه الغراب الأعصم في كل يوم يلتقط النمل، فلما رأى عبدالمطلب هذا عرف موضع زمزم، فقال لقريش: إني أمرت في أربع ليال في حفر زمزم، وهي مأثرتنا وعزنا فهلموا نحفرها، فلم يجيبوه إلى ذلك، فأقبل
ص: 84
يحفرها هو بنفسه، وكان له ابن واحد وهو الحارث وكان يعينه على الحفر، فلما صعب ذلك عليه تقدم إلى باب الكعبة ثم رفع يديه ودعا الله عزوجل ونذر له إن رزقه عشر بنين أن ينحر أحبهم إليه تقرباً إلى الله عزوجل، فلما حفر وبلغ الطويَّ طويَّ إسماعيل، وعلم أنه قد وقع على الماء، كبَّر وكبرت قريش وقالوا: يا أبا الحارث هذه مأثرتنا ولنا فيها نصيب، قال لهم: لم تعينوني على حفرها، هي لي ولولدي إلى آخر الأبد». ونحوه ابن إسحاق: 1/3، ابن هشام: 1/92.
وفي الكافي: 4/220 عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «لما احتفر عبدالمطلب زمزم وانتهى إلى قعرها، خرجت عليه من إحدى جوانب البئر رائحة منتنة أفظعته، فأبى أن ينثني، وخرج ابنه الحارث عنه، ثم حفر حتى أمعن فوجد في قعرها عيناً تخرج عليه برائحة المسك.
رؤيا عبدالمطلب وهو في داخل زمزم:
ثم احتفر فلم يحفر إلا ذراعاً، حتى تجلاه النوم فرأى رجلاً طويل الباع، حسن الشعر، جميل الوجه، جيد الثوب، طيب الرائحة، وهو يقول: إحفر تغنم، وجُدَّ تسلم، ولا تدخرها للمقسم، الأسياف لغيرك، والبئر لك، أنت أعظم العرب قدراً، ومنك يخرج نبيها ووليها، والأسباط النجباء الحكماء العلماء البصراء، والسيوف لهم، وليسوا اليوم منك ولا لك، ولكن في القرن الثاني منك. بهم ينير الله الأرض، ويخرج الشياطين من أقطارها، ويذلها في عزها ويهلكها بعد قوتها، ويذل الأوثان، ويقتل عُبَّادها حيث كانوا، ثم يبقى بعده نسل من نسلك هو أخوه ووزيره ودونه في السن.. لا يعصيه حرفاً، ولا يكتمه شيئاً ويشاوره في كل أمر هجم عليه.
وجد عبدالمطلب أسيافاً بجنبه:
واستعيا عنها عبدالمطلب«عن الحفر»فوجد ثلاثة عشر سيفاً مسندة إلى جنبه، فأخذها وأراد أن يثب فقال: وكيف ولم أبلغ الماء! ثم حفر فلم يحفر شبراً حتى بداله قرن الغزال ورأسه فاستخرجه، وفيه طُبع: لا إله إلا الله، محمد رسول الله
ص: 85
علي ولي الله، فلان خليفة الله«المهدي (علیه السلام)».
فسأل الراوي الإمام الكاظم (علیه السلام): فلان متى كان قبله أو بعده؟ قال: لم يجئ بعد ولاجاء شئ من أشراطه. فخرج عبدالمطلب وقد استخرج الماء وأدرك وهو يصعد، فإذا أسود له ذنب طويل يسبقه بِداراً إلى فوق، فضربه فقطع أكثر ذنبه ثم طلبه ففاته، وفلانٌ«المهدي (علیه السلام)»قاتله إن شاء الله.
تكملة الرؤيا في حجر الكعبة:
و[كان] من رأي عبدالمطلب (علیه السلام) أن يبطل الرؤيا التي رآها في البئر، ويضرب السيوف صفائح البيت، فأتاه الله بالنوم فغشيه وهو في حجر الكعبة، فرأى ذلك الرجل بعينه وهو يقول: يا شيبة الحمد أحمد ربك، فإنه سيجعلك لسان الأرض وتتبعك قريش خوفاً ورهبة وطمعاً، ضع السيوف في مواضعها.
ثم جاءه في منامه:
واستيقظ عبدالمطلب فأجابه«الملاك»إنه يأتيني في النوم فإن يكن من ربي فهو أحب إليَّ، وإن يكن من شيطان فأظنه مقطوع الذنب، فلم ير شيئاً ولم يسمع كلاماً. فلما أن كان الليل أتاه في منامه بعدة من رجال وصبيان فقالوا له: نحن أتباع وَلدك، ونحن من سكان السماء السادسة. السيوف ليست لك: تزوج في مخزوم تَقْوَ، واضرب بعدُ في بطون العرب، فإن لم يكن معك مال فلك حسب، فادفع هذه الثلاثة عشرسيفاً إلى وُلْدِ المخزومية ولا يَبان لك أكثر من هذا، وسيف لك منها واحد، سيقع من يدك فلا تجد له أثراً، إلا أن يستجنه جبل كذا وكذا، فيكون من أشراط قائم آل محمد.
فانتبه عبدالمطلب وانطلق والسيوف على رقبته، فأتى ناحية من نواحي مكة، ففقد منها سيفاً كان أرقَّها عنده، فيظهر من ثَمَّ.
ثم دخل معتمراً وطاف بها على رقبته والغزالين، أحداً وعشرين طوافاً، وقريش تنظر إليه وهو يقول: اللهم صدق وعدك فأثبت لي قولي، وانشر ذكري وشد عضدي، وكان هذا ترداد كلامه، وما طاف حول البيت بعد رؤياه في البئر ببيت شعر حتى مات. ولكن قد ارتجز على بنيه يوم أراد نحر عبدالله، فدفع الأسياف جميعها إلى بني
ص: 86
المخزومية إلى الزبير وإلى أبي طالب وإلى عبدالله، فصارلأبي طالب من ذلك أربعة أسياف: سيف لأبي طالب، وسيف لعلي، وسيف لجعفر، وسيف لطالب، وكان للزبير سيفان، وكان لعبدالله سيفان، ثم عادت فصارت لعلي الأربعة الباقية: اثنين من فاطمة واثنين من أولادها، فطاح سيف جعفر يوم أصيب فلم يُدْرَ في يد من وقع حتى الساعة. ونحن نقول: لايقع سيف من أسيافنا في يد غيرنا إلا رجل يعين به معنا، إلا صار فحماً.
قال: وإن منها لواحداً في ناحية يخرج كما تخرج الحية فيبين منه ذراع وما يشبهه فتبرق له الأرض مراراً، ثم يغيب، فإذا كان الليل فعل مثل ذلك، فهذا دأبه حتى يجيئ صاحبه، ولو شئت أن أسمي مكانه لسميته، ولكن أخاف عليكم من أن أسميه فتسموه، فينسب إلى غير ما هو عليه».
قوله: وانتهى إلى قعرها: يدل على أن حفرها القديم كان معلوماً وقعرها واسعاً.
وخرج ابنه الحارث عنه: أي لم يتحمل الرائحة الكريهة، فكأن الله أراد أن يبقى عبدالمطلب وحده، ليخصه بآياته. حتى تجلاه النوم: بعدما وجد عيناً برائحة المسك.
فرأى رجلاً طويل الباع: هو الملاك الذي رآه بعدها في حجر الكعبة، وكأنه لايأتي إلا في النوم: فأتاه الله بالنوم فغشيه وهو في حجر الكعبة، فرأى ذلك الرجل بعينه.
ومنك يخرج نبيها ووليها والأسباط النجباء..: هذه بشار ة لعبدالمطلب
رضيالله عنه بالنبي والأئمة من ذريته (صلی الله علیه و آله) وقد سماه له محمداً (صلی الله علیه و آله) .
ومعنى: ليسوا اليوم منك، أنهم ليسوا نفس أولادك الموجودين، ولا أنهم يولدون لك مباشرة، بل هم من ذريتك في القرن الثاني.
والسيوف لهم: رمز القوة والنصرة والتأييد الإلهي. وعددها ثلاثة عشر، وهي رمز لأسهم هؤلاء من نصرة النبي (صلی الله علیه و آله) . وسيف طالب يدل على إيمانه رضيالله
ص: 87
عنه ونصرته للنبي (صلی الله علیه و آله)، وليس فيها سيف لعقيل (رحمة الله) .
يبقى بعده نسل من نسلك هو أخوه ووزيره: هذه بشارة له بولده علي (علیه السلام) .
واستعيا عنها: أي تعب فأراد ترك الحفر، لكنه عاود الحفر فوجد غزال الذهب. وفيه طُبع: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله، فلان خليفة الله: هذه بشارة له بالنبي بإسمه (صلی الله علیه و آله) وعلي باسمه (علیه السلام)،والمهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً باسمه (علیه السلام) . وهو يدل على أن عبدالمطلب سماه محمداً (صلی الله علیه و آله) بإلهام ربه عزوجل.
فإذا أسود له ذنب طويل: كانت زمزم واسعة ومنحدرها متدرج، تشبه عين المغراس في المدينة، وقد نزلت إليها في درج. ورأى عبدالمطلب وهو صاعد منها ثعباناً أسود فضربه فقطع أكثر ذنبه ولم يُقتل، وهو يرمز إلى أعداء أولاده:.
وقوله: وفلانٌ «المهدي (علیه السلام)» قاتله إن شاء الله: يظهر أنه من كلام الإمام الكاظم (علیه السلام) .
أن يبطل الرؤيا التي رآها في البئر: أراد عبدالمطلب أن لايعمل برؤياه، وأن يستعمل السيوف في صنع باب الكعبة.
فلما أن كان الليل أتاه في منامه بعدة من رجال وصبيان: أي أتاه نفس الرجل ومعه جماعة، وهم ملائكة، ومعنى أنهم من السماء السادسة، ومن أتباع النبي (صلی الله علیه و آله): أنهم أنصار خاصون له سيأتون في المستقبل لنصرته (صلی الله علیه و آله) .
فقالوا له: تزوج في مخزوم تَقْوَ: أي تكلم هؤلاء الملائكة من أتباع النبي (صلی الله علیه و آله)، وأمروه أن يتزوج فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم،أم عبدالله والد النبي (صلی الله علیه و آله) وأم شقيقيه أبي طالب والزبير، وهذا يدل على مكانتها عند الله تعالى.
واضرب بعد في بطون العرب: أي تزوج غيرها أيضاً من قبائل العرب الأخرى.
فدفع الأسياف جميعها إلى بني المخزومية: وهي سهمهم من نصرة النبي (صلی الله علیه و آله) .
وسيف لك منها واحد، سيقع من يدك فلا تجد له أثراً: هو سيف المهدي (علیه السلام) وكان أرق السيوف، أي أمضاها، وقد أمروه أن يحمل الأسياف ويخرج من مكة، ففقد السيف في ناحية من مكة. وكأن خروج عبدالمطلب من مكة رمز لهجرة النبي (صلی الله علیه و آله) . وفقدانه السيف ليجنه الجبل ويحفظه للمهدي (علیه السلام) .
ص: 88
فيظهر من ثَمَّ: أي يظهر السيف من هناك لنصرة المهدي (علیه السلام) عند خروجه فيأخذه، وهو رمز قوته التي يعطيه إياها الله تعالى، وهو نفسه السيف الذي يخرج في جبل في مكة ويلمع، ثم يغيب حتى يظهر صاحبه المهدي (علیه السلام)، وقد ورد في علامة المهدي (علیه السلام): «وخرج صاحب هذا الأمر من المدينة إلى مكة بتراث رسول الله (صلی الله علیه و آله) .فقلت: ما تراث رسول الله؟ قال: سيف رسول الله ودرعه وعمامته وبرده وقضيبه ورايته ولأمته وسرجه، حتى ينزل مكة فيخرج السيف من غمده، ويلبس الدرع وينشر الراية والبردة والعمامة ويتناول القضيب بيده، ويستأذن الله في ظهوره».الكافي: 8/224.
ولكن أخاف عليكم من أن أسميه فتسموه، فينسب إلى غير ما هو عليه: أي أخاف أسمي الذي عنده السيف الآن، وهو الإمام الكاظم (علیه السلام) نفسه، لئلا يقال ذلك، فيتصور السلطان أنه يريد الخروج عليه.
لايقع سيف من أسيافنا في يد غيرنا إلا رجل يعين به معنا إلا صار فحماً: هذا يؤكد أن السيوف بمعنى نصرتهم:وفي كل واحد منها سر، فإذا وقع في يد مخالف لهم، بطل سره وتحول إلى فحم.
أقول: هذه الآيات والكرامات، وهذه الرؤيا، كافية لأن يعتقد المنصف بأن عبدالمطلب (علیه السلام) من كبار الأولياء. لكن حسد قريش منعهم من الإقرار!
وفي الكافي: 1/447 قال الإمام الصادق (علیه السلام): «يبعث عبدالمطلب أمة وحده، عليه بهاء الملوك، وسيماء الأنبياء (علیهم السلام)، وذلك أنه أول من قال بالبداء».
ومعناه أنه على درجة عالية من الإيمان والتسليم المطلق لله تعالى فيما يفعله حتى لو كان بخلاف توقعنا. فقد أنبأه الله أنه سيدفع جيش أبرهة، فأخبر أهل مكة وأبرهة بذلك، وفي نفس الوقت دعا ربه أن يدفع عن بيته، ثم خاطبه قائلاً:
إن كنت تاركهم وقب- *** -لتنا فأمرٌ ما بدا لك
أي إني مسلِّمٌ لأمرك ومؤمن بك، حتى لو لم تفعل ما أخبرتني به!
ص: 89
روى المؤرخون جميعاً أنه كان لعبدالمطلب بئر في الطائف يسمى ذا الهرم، حفره بعد زمزم، وكان مع بستانه بيد ثقيف، فأخذوه وأنكروه، ونافروه إلى سطيح الكاهن، فظهرت له آية في الطريق كما ظهرت في مخاصمة قريش له في زمزم.
قال اليعقوبي: 1/248: «وكان عبدالمطلب لما حفر زمزم صار إلى الطائف فاحتفر بها بئراً يقال لها ذو الهرم، فكان يأتي أحياناً فيقيم بذلك الماء، فأتى مرة فوجد به حيين من قيس عيلان، وهم بنو كلاب وبنو الرباب، فقال عبدالمطلب: الماء مائي وأنا أحق به، وقال القيسيون: الماء ماؤنا ونحن أحق به. قال: فإني أنافركم إلى من شئتم يحكم بيني وبينكم، فنافروه إلى سطيح الغساني، وكان كاهن العرب يتنافرون إليه، فتعاهد القوم وتعاقدوا على أن سطيحاً إن قضى بالماء لعبدالمطلب فعلى كلاب وبني الرباب مائة من الإبل لعبدالمطلب، وعشرون لسطيح، وإن قضى سطيح بالماء للحيين، فعلى عبدالمطلب مائة من الإبل للقوم وعشرون لسطيح، فانطلقوا وانطلق عبدالمطلب بعشرة نفر من قريش فيهم حرب بن أمية فجعل عبدالمطلب لا ينزل منزلاً إلا نحر جزوراً وأطعم الناس، فقال القيسيون: إن هذا الرجل عظيم الشأن جليل القدر شريف الفعل، وإنا نخشى أن يطمع حاكمنا بهذا فيقضي له بالماء، فانظروا لا نرضى بقول سطيح حتى نخبئ له خبأ، فإن أخبرنا ما هو رضينا بحكمه وإلا لم نرض به. فبينا عبدالمطلب في بعض الطريق إذ فني ماؤه وماء أصحابه، فاستسقى القيسيين من فضل مائهم فأبوا أن يسقوهم، وقالوا: أنتم الذين تخاصموننا وتنازعوننا في مائنا، والله لا نسقيكم! فقال عبدالمطلب: أيهلك عشرة من قريش وأنا حي! لأطلبن لهم الماء حتى ينقطع خيط عنقي وأُبلي عذراً، فركب راحلته وأخذ الفلاة فبينا هو فيها، إذ بركت راحلته وبصر به القوم، فقالوا: هلك عبدالمطلب! فقال القرشيون: كلا والله لهو أكرم على الله من أن يهلكه وإنما مضى لصلة الرحم، فانتهوا إليه وراحلته تفحص بكركرتها على ماء عذب رويٍّ، قد ساح على ظهر الأرض، فلما رأى القيسيون ذلك أهرقوا أسقيتهم، وأقبلوا نحوهم ليأخذوا من الماء، فقال القرشيون: كلا والله،
ص: 90
ألستم الذين منعتمونا فضل ماءكم؟ فقال عبدالمطلب: خلوا القوم، فإن الماء لا يمنع! فقال القيسيون: هذا رجل شريف سيد، وقد خشينا أن يقضى له علينا، فلما وصلوا إلى سطيح قالوا: إنا قد خبأنا لك خبأ، وأخذ إنسان منهم تمرة في يده فقال: فأخبرنا ما هو؟ فقال: خبأتم لي ما طال فسمك، ثم أينع فما هلك، ألق التمرة من يدك..قالوا: إقض بيننا! قال: قد قضيت. اختصمتم أنتم وعبدالمطلب في ماء بالطائف يقال له ذو الهرم، فالماء ماء عبدالمطلب، ولا حق لكم فيه، فأدوا إلى عبدالمطلب مائة من الإبل وإلى سطيح عشرين، ففعلوا.
وانطلق عبدالمطلب ينحر ويطعم، حتى دخل مكة، فنادى مناديه: يا معشر أهل مكة إن عبدالمطلب يسألكم بالرحم، لما قام كل رجل منكم حدثته نفسه أن يغنيني عن هذا الغرم، فأخذ مثل ما حدثته نفسه. فقاموا وأخذوا من بعير واثنين وثلاثة على قدر ما حدثت كل امرئ منهم نفسه، وفضلت بعد ذلك جزائر، فقال عبدالمطلب لابنه أبي طالب: أي بني! قد أطعمت الناس، فانطلق بهذه الجزائر، فانحرها على أبي قبيس، حتى يأكلها الطير والسباع، ففعل أبوطالب ذلك، فأصابها الطير والسباع. قال أبوطالب:
ونطعم حتى يأكل الطير فضلنا *** إذا جعلت أيدي المفيضين تَرْعُدُ».
ورواه البلاذري في أنساب الأشراف: 1/74، الميداني في مجمع الأمثال: 1/47، الحموي في معجم البلدان: 5/403، ابن حبيب في المنمق/94 وابن سعد في الطبقات: 1/87.
كعبة نجران بدل الكعبة
بنى نصارى نجران كنيسة ودعوا العرب إلى حجها. ففي معجم البلدان: 5/268: «كعبة نجران هذه، يقال بِيعَة بناها بنو عبدالملك بن الديان الحارثي على بناء الكعبة، وعظموها مضاهاة للكعبة، وسموها كعبة نجران، وكان فيها أساقفة مقيمون، وهم الذين جاؤوا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ودعاهم إلى المباهلة».
«كان لآل عبدالمدان بن الديان سادة بني الحارث بن كعب، وكان بناؤه مربعاً
ص: 91
مستوي الأضلاع والأقطار مرتفعاً من الأرض، يُصعد إليه بدرجة على مثال بناء الكعبة، فكانوا يحجونه هم وطوائف من العرب، ممن يحل الأشهر الحرم، ولا يحجون الكعبة، وتحجه خثعم قاطبة.
وكان أهل ثلاثة بيوتات يتبارون في البِيَع وزَيِّها: آل المنذر بالحيرة، وغسان بالشام، وبنو الحارث بن كعب بنجران، ويعتمدون ببنائها المواضع الكثيرة الشجر والرياض والمياه، وكانوا يجعلون في حيطانها وسقوفها الفسافس والذهب. وكان على ذلك بنو الحارث إلى أن أتى الله بالإسلام، فجاء النبيَّ (صلی الله علیه و آله) منهم العاقب والسيد وغيرهما للمباهلة، فاستعفوا منها». معجم ما استعجم: 2/603.
وبنو عبدالمدان كانوا حكام نجران وقساوستها، وكانوا يهوداً فتنصروا.
كعبة صنعاء بدل الكعبة
وبنى أبرهة حاكم اليمن كعبةً بصنعاء ودعا الناس للحج اليها، ثم قصد بجيشه الكعبة ليهدمها! قال تعالى: ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَاكُولٍ.!
قال في معجم البلدان: 3/427 و494: «بنى أبرهة بصنعاء القُلِّيْس وأخذ الناسَ بالحج إليه، وبناه بناء عجيباً.. مدينة لم يَرَ الناس أحسن منها، ونقشها بالذهب والفضة والزجاج والفسيفساء، وألوان الأصباغ، وصنوف الجواهر، وجعل فيها خشباً له رؤوس كرؤوس الناس، ولكَّكَهَا بأنواع الأصباغ، وجعل لخارج القبة بُرنساً، فإذا كان يوم عيدها كشف البرنس عنها فيتلألأ رخامها مع ألوان أصباغها، حتى تكاد تلمع البصر.
الصنعاني قال: رأيت مكتوباً على باب القُلَّيس وهي الكنيسة التي بناها أبرهة على باب صنعاء بالمسْند: بنيتُ هذا لك من مالك ليذكر فيه إسمك، وأنا عبدك.
ولما استتم أبرهة بنيان القليس كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب.
قال عبدالرحمن بن محمد: سميت القُلَّيس لارتفاع بنيانها وعلوها، ومنه القلانس
ص: 92
لأنها في أعلى الرؤوس..وكان أبرهة قد استذل أهل اليمن في هذه الكنيسة وجشمهم فيها أنواعاً من السخر، وكان ينقل إليها آلات البناء كالرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب، من قصر بلقيس صاحبة سليمان (علیه السلام)، وكان من موضع هذه الكنيسة على فراسخ، وكان فيه بقايا من آثار ملكهم، فاستعان بذلك على ما أراده من بناء هذه الكنيسة وبهجتها وبهائها، ونصب فيها صلباناً من الذهب والفضة، ومنابر من العاج والآبنوس.
فبقيت من ذلك العهد بما فيها من العدد والآلات من الذهب والفضة ذات القيمة الوافرة والقناطير من المال، لايستطيع أحد أن يأخذ منه شيئاً، إلى زمان
أبي العباس السفاح، فذكر له أمرها فبعث إليها خاله الربيع بن زياد الحارثي عامله على اليمن، وأصحبه رجالاً من أهل الحزم والجلَد، حتى استخرج ما كان فيها من الآلات والأموال، وخربها حتى عفى رسمها وانقطع خبرها، وكان الذي يصيب من يريدها من الجن منسوباً إلى كَعِيتْ وامرأته، صنمان كانا بتلك الكنيسة بنيت عليهما! فلما كُسر كَعِيت وامرأته أصيب الذي كسرهما بجذام، فافتتن بذلك رعاع اليمن وقالوا: أصابه كعيت»!
أقول: لعل قصر بلقيس كان في غير مأرب، لأنهم قالوا إنه على بعد فراسخ من صنعاء أي قليلة، ومأرب على فراسخ كثيرة، كما يدل النص على طمع الدوانيقي وحرصه على جمع المال، ولهذا سمي أبا الدوانيق.
وقد ذكروا أن رجلاً من العرب دخل كعبة أبرهة وأحدث فيها، فغضب أبرهة وحلف أن يهدمَ الكعبة في مكة وخرج بجيشه اليها، ولا يبعد أن تكون القصة مكذوبة من أبرهة لتبررغزوه للكعبة ليهدمها ويجبر العرب على حج قُلَّيْسِه! راجع عن كعبة صنعاء: تاريخ الطبري: 1/550، تفسيره: 30/386 وابن خلدون: 2 ق: 1/61.
في الكافي: 4/216 عن هشام بن سالم، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما أقبل
ص: 93
صاحب الحبشة بالفيل يريد هدم الكعبة، مروا بإبل لعبدالمطلب فاستاقوها، فتوجه عبدالمطلب إلى صاحبهم يسأله رد إبله عليه، فاستأذن عليه فأذن له وقيل له: إن هذا شريف قريش أو عظيم قريش، وهو رجل له عقل ومروة، فأكرمه وأدناه، ثم قال لترجمانه: سله ما حاجتك؟ فقال له: إن أصحابك مروا بإبل لي فاستاقوها فأحببت أن تردها عليَّ، قال: فتعجب من سؤاله إياه رد الإبل وقال: هذا الذي زعمتم أنه عظيم قريش وذكرتم عقله، يدع أن يسألني أن أنصرف عن بيته الذي يعبده! أما لو سألني أن أنصرف عن هَدِّه لانصرفت له عنه! فأخبره الترجمان بمقالة الملك فقال له عبدالمطلب: إن لذلك البيت رباً يمنعه، وإنما سألتك رد إبلي لحاجتي إليها،
فأمر بردها عليه.
ومضى عبدالمطلب حتى لقي الفيل على طرف الحرم، فقال له: محمود! فحرك رأسه فقال له: أتدري لما جئ بك؟ فقال برأسه: لا، فقال: جاؤوا بك لتهدم بيت ربك أفتفعل؟ فقال برأسه: لا. قال: فانصرف عنه عبدالمطلب.
وجاؤوا بالفيل ليدخل الحرم، فلما انتهى إلى طرف الحرم امتنع من الدخول فضربوه فامتنع، فأداروا به نواحي الحرم كلها، كل ذلك يمتنع عليهم فلم يدخل! وبعث الله عليهم الطيركالخطاطيف في مناقيرها حجر كالعدسة أو نحوها، فكانت تحاذي برأس الرجل ثم ترسلها على رأسه فتخرج من دبره، حتى لم يبق منه أحد إلا رجل هرب! فجعل يحدث الناس بما رأى إذا طلع عليه طائر منها فرفع رأسه فقال: هذا الطير منها، وجاء الطير حتى حاذى برأسه ثم ألقاها عليه فخرجت من دبره فمات»!
وفي الطبقات: 1/92 والطبري: 1/557: «فأمر برد إبله عليه، فلما قبضها قلدها النعال وأشعرها وجعلها هدياً وبثها في الحرم، لكي يصاب منها شئ فيغضب رب الحرم! وأوفى عبدالمطلب على حراء، ومعه عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، ومطعم بن عدي، وأبو مسعود الثقفي، فقال عبدالمطلب:
لاهُمَّ إن المرءَ يمنعُ *** رحله فامنع حلالك
لا يغلبنَّ صليبهم *** ومحالهم عدواً محالك
ص: 94
ونزل عبدالمطلب من حراء، فأقبل عليه رجلان من الحبشة فقبلا رأسه وقالا له: أنت كنت أعلم».
وفي كنز الفوائد/81، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما ظهرت الحبشة باليمن وجَّه يكسوم ملك الحبشة بقائدين من قواده، يقال لأحدهما أبرهة والآخر أرباط في عشرة من الفيلة كل فيل في عشرة آلاف، لهدم بيت الله الحرام، فلما صاروا ببعض الطريق وقع بأسهم بينهم واختلفوا، فقتل أبرهة أرباط واستولى على الحبش، فلما قارب مكة طرد أصحابه عيراً لعبدالمطلب بن هاشم، فصار عبدالمطلب إلى أبرهة، وكان ترجمان أبرهة والمستولي عليه ابن داية لعبدالمطلب، فقال الترجمان لأبرهة: هذا سيد العرب وديَّانها فأجلَّه وأعظمه، ثم قال لكاتبه: سله ما حاجته؟ فسأله فقال: إن أصحاب الملك طردوا لي نعماً! فأمر بردها ثم أقبل على الترجمان فقال: قل له عجباً لقوم سودوك ورأسوك عليهم حيث تسألني في عير لك، وقد جئت لأهدم شرفك ومجدك، ولو سألتني الرجوع عنه لفعلت! فقال: أيها الملك إن هذه العير لي وأنا ربها فسألتك إطلاقها، وإن لهذه البَنِيَّة رباً يدفع عنها! قال: فإني غاد لهدمها حتى أنظر ماذا يفعل! فلما انصرف عبدالمطلب حلَّ أبرهة بجيشه، فإذا هاتف يهتف في السحر الأكبر: يا أهل مكة أتاكم أهل عكة بجحفل جرار يملأ الأندار ملء الجفار، فعليهم لعنة الجبار! فأنشأ عبدالمطلب:
أيها الداعي لقد أسمعتني *** كلَّمَا قُلْتَ وما بي من صَمَمْ
إن للبيت لرباً مانعاً *** من يُرده بأثامٍ يصطلم
رامهُ تُبَّعُ في أجناده *** حميرٌ والحيُّ من آل إرم
هلكت بالبغي فيه جرهمٌ *** بعد طَسْمٍ وجَديسٍ وجُثَمْ
وكذاك الأمر فيمن كاده *** ليس أمر الله بالأمر الأَمَم
نحن آلُ الله فيما قد خلا *** لم يزل ذاك على عهد ابْرَهَمْ
ص: 95
لم يزل لله فينا حجةٌ *** يدفع الله بها عنها النقم
نعرف الله وفينا شيمة *** صلة الرحم ونوفي بالذمم
ولنا في كل دور كرة *** نعرف الدين وطوراً في العجم
فإذا ما بلغ الدور إلى *** منتهى الوقت أتى طيْرُ القدم
بكتاب فصلت آياته *** فيه تبيان أحاديث الأمم
فلما أصبح عبدالمطلب جمع بنيه وأرسل الحارث ابنه الأكبر إلى أعلى جبل أبي قبيس فقال: أنظر يا بني ماذا يأتيك من قبل البحر؟ فرجع فلم ير شيئاً، فأرسل واحداً بعد آخر من ولده، فلم يأته أحد منهم عن البحر بخبر. فدعا ولده عبدالله وإنه لغلام حين أيفع وعليه ذؤابه تضرب إلى عجزه، فقال له: إذهب فداك أبي وأمي فاعلُ أبا قبيس وانظر ماذا ترى يجئ من البحر؟ فنزل مسرعاً فقال:
يا سيد النادي، رأيت سحاباً من قِبل البحر مُقبلاً، يُسْفِلُ تارةً ويرتفع أخرى! إن قلت غيماً قلته، وإن قلت جهاماً خلته، يرتفع تارةً، وينحدر أخرى!
فنادى عبدالمطلب: يا معشر قريش، أدخلوا منازلكم فقد أتاكم الله بالنصر من عنده، فأقبلت الطير الأبابيل في منقار كل طير حجر وفي رجليه حجران، فكان الطائرالواحد يقتل ثلاثة من أصحاب أبرهة! كان يلقي الحجر في قمة رأس الرجل فيخرج من دبره! وقد قص الله تبارك وتعالى نبأهم فقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ».
أقول: هذه الفقرة الوحيدة التي وصلت الينا من كلام عبدالله والد نبينا (صلی الله علیه و آله)، وهي تدل على أدبه وبلاغته سلام الله عليه، فخطابه لأبيه عبدالمطلب مميز بتعبيره واحترامه، ثم وصف سرب طيور الأبابيل بأنها سحاب، قد يكون غيماً فيه مطر، أو جهاماً أي غيماً أفرغ مطره. العين:3/397.
ثم وصف سربها بأنه يسفل ثم يرتفع، ثم وصفه بأنه يرتفع ثم ينحدر، وهذا من أبلغ الوصف. وقد فهم عليه أبوه (علیهما السلام)، وعرف أنها الطيور الموعودة له من ربه، في منامه أو بهاتف من الملائكة هاتفه، سلام الله عليهم.
ص: 96
وقالوا إنها أشبه بطائر السنونو، قد تكون ملائكة عذاب على شكل طيور.
هذا، وقد روى في البحار: 62/233 هلاك أبرهة فقال: «وأصيب أبرهة حتى تساقط أُنملةً أنملة، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر! حتى انصدع صدره عن قلبه، وانفلت وزيره وطائرٌ يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي، فقص عليه القصة، فلما انتهى وقع عليه الحجر، فخرَّ ميتاً بإذن الله بين يديه»!
ومعناه أن وزير أبرهة ذهب إلى أثيوبيا ليخبر النجاشي، فتبعه طائر الأبابيل وصبر عليه حتى أكمل القصة للمك، فرماه بالقنبلة الربانية، وهي
حجر السِّجِّيل!
لما ظهرت آية الأبابيل بجيش أبرهة، سطع إسم الكعبة وعبدالمطلب في بلاد العرب وخارجها، وتوافد العرب إلى الحج أكثر من السابق، معتزين بحجهم إلى الكعبة، متبركين بوارث إبراهيم ولي الله عبدالمطلب (علیهما السلام)، وتولى سقايتهم من زمزم التي وهبها له الله، وضيافتهم بثريد أبيه هاشم المشهور. وصار عبدالمطلب سيد العرب بلا منازع، فزاد الحسد في صدور زعماء قريش!
وبعد سنتين من هلاك أبرهة حكم اليمن ابنه مسروق، وبعد سنتين من حكمه نجح سيف بن ذي يزن باستقدام كتيبة من كسرى، وقاتل مسروق بن أبرهة فقتله، ودخل صنعاء فاتحاً، وتَوَّجَ الجيش الفارسي ابن ذي يزن ملكاً على اليمن.
روى الصدوق (رحمة الله) في كمال الدين/176: «لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة وذلك بعد مولد النبي (صلی الله علیه و آله) بسنتين، أتاه وفد العرب وأشرافها وشعراؤها بالتهنئة، تمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثار قومه،
فأتاه وفد من قريش ومعهم عبدالمطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وعبدالله بن جدعان، وأسد بن خويلد بن عبدالعزى، ووهب بن عبدمناف،
في أناس من وجوه قريش فقدموا عليه صنعاء». في حديث طويل، ذكر فيه
ص: 97
احترام سيف بن ذي يزن لعبدالمطلب احتراماً خاصاً، وإخباره بقرب عصر نبي في مكة وتمنى لو يدركه لينصره، فقال له: «إذا ولد بتهامة، غلام بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، ولكم به الدعامة إلى يوم القيامة. فقال له عبدالمطلب: أبيت اللعن، لقد أبتُ بخبر ما آب بمثله وافد، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته «جزيته» عن مَسَارِّه إياي ما ازدادَ به سروراً، فقال ابن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد فيه، إسمه محمد، يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه، وقد ولد سراراً والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً ليعز بهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه.. فهل أحسست شيئاً مما ذكرته؟ فقال: كان لي ابن وكنت به معجباً وعليه رفيقاً، فزوجته بكريمة من كرائم قومي إسمها آمنة بنت وهب، فجاءت بغلام سميته محمداً، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه. فقال ابن ذي يزن: إن الذي قلتُ لك كما قلتُ لك، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود، فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً».والمنمق/426. راجع: الأخبار الطوال/63، اليعقوبي: 1/165و 2/9 والطبقات: 5/533.
أعداء النبي وآله (صلی الله علیه و آله) هم أعداء أجدادهم قبل الإسلام! وقد قال (صلی الله علیه و آله): «الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا». البخاري: 4/122.
ورويناه عن الإمام الصادق (علیه السلام) بلفظ أدق: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فمن كان له في الجاهلية أصل فله في الإسلام أصل». الكافي: 8/177.
وعندما تحسن وضع قريش الإقتصادي، بفضل رحلتي الشتاء والصيف، وتعاظم موسم الحج إلى الكعبة بعد آية أصحاب الفيل، ازدحمت مكة في الموسم، وكثرت تعديات القرشيين على الحجاج والتجار الوافدين إلى مكة!
وكانت المشكلة أمام عبدالمطلب أنه إذا أراد منع الظلم وقفت قبيلة الظالم معه تناصره! فرأى أن ينشئ حلفاً قبلياً ليمنع قبيلة الظالم أن تنصره، فأسس حلف الفضول، وكان أصل هذا الحلف لأخوال أبناء إسماعيل (علیه السلام) .
ص: 98
ففي أنساب الأشراف/13: «كان في جرهم رجال يردون المظالم، يقال لهم فضيل وفضال ومفضل وفضل، فتحالفوا على ذلك».
وروى اليعقوبي أن قريشاً بدأت بتشكيل حلف ضد عبدالمطلب، وروى أن الحلفین عبدالطلب كان السابق، مما يدل على أن الحلفين كانا متزامنين.
قال اليعقوبي: 1/248: «ولما رأت قريش أن عبدالمطلب قد حاز الفخر، طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزُّوا، وكان أول من طلب ذلك بنو عبدالدار لما رأت حال عبدالمطلب، فمشت بنو عبدالدار إلى بني سهم فقالوا: إمنعونا من بني
عبدمناف... فتطيَّب بنو عبدمناف وأسد وزهرة وبنو تيم وبنو الحارث بن فهر، [وخزاعة] فسموا حلف المطيبين. فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرةً وقالوا: من أدخل يده في دمها ولعق منه فهو منا! فأدخلت أيديها بنو سهم، وبنو عبدالدار، وبنو مخزوم، وبنو جمح، وبنو عدي، فسموا اللعقة».
قال ابن بكار: «كان بنو سهم وبنو جمح أهل بغي وعدوان، فأكثروا من ذلك».شرح النهج: 15/224.
وكانت خزاعة هي ركن حلف عبدالمطلب، قال في المنمق/87: «وكتبوا كتاباً كتبه لهم أبو قيس بن عبدمناف بن زهرة، وكان بنو زهرة يكرمون عبدالمطلب لصهره فكان الكتاب: هذا ما تحالف عليه عبدالمطلب ورجالات بني عمرو من خزاعة ومن معهم من أسلم ومالك، تحالفوا على التناصر والمؤاساة، حلفاً جامعاً غير مفرق، الأشياخ على الأشياخ، والأصاغر على الأكابر، والشاهد على الغائب، تعاهدوا وتعاقدوا ما شرقت الشمس على ثبير، وما حن بفلاة بعير. عقده عبدالمطلب بن هاشم، ورجال بني عمرو فصاروا يداً دون بني النضر، فعلى عبدالمطلب النصرة لهم على كل طالب وتر في بر أو بحر أو سهل أو وعر، وعلى بني عمرو النصرة لعبدالمطلب وولده على جميع العرب، في الشرق أو الغرب أو الحزَن أو السهب، وجعلوا الله على ذلك كفيلاً، وكفى بالله حميلاً.
ثم علقوا الكتاب في الكعبة، فقال عبدالمطلب:
ص: 99
سأوصي زبيراً إن توافت منيتي *** بإمساك ما بيني وبين بني عمرو
وأن يحفظ الحلف الذي سن شيخه *** ولا يلحدن فيه بظلم ولاغدر
هم حفظوا الإلَّ القديم وحالفوا *** أباك فكانوا دون قومك من فهر
وفي تصديق ذلك قول عمرو بن سالم للنبي (صلی الله علیه و آله) حين أغارت عليهم بنو بكر فقتلوا من قتلوا من خزاعة:
لا هُمَّ إني ناشدٌ محمدا *** حلف أبينا وأبيه الأتلدا».
وجدَّد الزبير بن عبدالطلب حلف الفضول وحضره النبي (صلی الله علیه و آله)، وروت ذلك عامة المصادر كمحمد بن حبيب في كتابه المنمق/186، عن حكيم بن حزام قال: «كان حلف الفضول منصرف قريش من الفجار وبينه وبين الفيل عشرون سنه، ورسول الله صلى الله عليه يومئذ ابن عشرين سنة، قالوا: وكان الفجار في شوال وكان الحلف في ذي القعدة، وكان هذا الحلف أشرف حلف جرى، وكان أول من تكلم فيه ودعا إليه الزبير بن عبدالمطلب، وذلك أن الرجل من العرب أو غيرها من العجم ممن كان يقدم بالتجارة ربما ظُلم بمكة، وكان الذي جرَّ ذلك أن رجلاً من بني زبيد قدم بسلعة فباعها من العاص بن وائل السهمي فظلمه ثمنها، فناشده الزبيدي في حقه فلم يعطه، فأتى الزبيدي الأحلاف: عبدالدار ومخزوماً وجمح وسهماً وعدياً، فأبوا أن يعينوه وزبروه وزجروه! فلما رأى الزبيدي الشر وافى على أبي قبيس قبل طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة وصاح:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته *** ببطن مكة نائي الدار والنفر
ومحرمٍ أشعث لم يقض عمرته *** يا للرجال وبين الحجر والحجر
إن الحرام لمن تمَّتْ كرامته *** ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
قال فمشى في ذلك الزبير بن عبدالمطلب وقال: ما لهذا مَتْرك، فاجتمعت
بنو هاشم وزهرة وتيم في دار عبدالله بن جدعان، فصنع لهم طعاماً، فتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام، قياماً يتماسحون صعداً، وتعاقدوا وتعاهدوا بالله قائلين لنكونن
ص: 100
مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه ما بل بحر صوفة وفي التأسي في المعاش. فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وقال الزبير بن عبدالمطلب فيه:
حلفتُ لنعقدنْ حلفاً عليهم *** وإن كنا جميعاً أهلَ دار
نسميه الفضولَ إذا عقدنا *** يعزُّ به الغريبُ لذي الجوار
ويعلم من حوالي البيت أنا *** أباة الضيم نمنع كل عار
«ذكر قاسم بن ثابت في غريب الحديث أن رجلاً من خثعم قدم مكة حاجاً أو معتمراً، ومعه ابنة له يقال لها القَتُول، من أوضأ نساء العالمين، فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج وغيبها عنه، فقال الخثعمي: من يعديني على هذا الرجل؟ فقيل له عليك بحلف الفضول، فوقف عند الكعبة ونادى: يالِ حلف الفضول! فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب وقد انتضوا أسيافهم يقولون: جاءك الغوث فما لك؟! فقال: إن نبيهاً ظلمني في بنتي وانتزعها مني قسراً. فساروا معه حتى وقفوا على باب داره فخرج إليهم فقالوا له: أخرج الجارية ويحك، فقد علمت من نحن وما تعاقدنا عليه! فقال: أفعل ولكن متعوني بها الليلة! فقالوا:
قبحك الله، ولا شخب لقحة، فأخرجها إليهم».
«وكان الزبير بن عبدالمطلب شجاعاً أبياً، وجميلاً بهياً، وكان خطيباً شاعراً، وسيداً جواداً.. وبنو هاشم هم الذين ردوا على الزبيدي ثمن بضاعته، وكانت عند العاص بن وائل، وأخذوا للبارقي ثمن سلعته من أبي بن خلف الجمحي. وهم الذين انتزعوا من نبيه بن الحجاج قتول الحسناء».شرح النهج: 15/203و205.
وقال اليعقوبي: 2/17: «حضر رسول الله (صلی الله علیه و آله) حلف الفضول وقد جاوز العشرين، وقال بعد ما بعثه الله: حضرت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما يسرني به حُمر النَّعم، ولو دعيت إليه اليوم لأجبت. وكان سبب حلف الفضول أن قريشاً تحالفت أحلافاً كثيرة على الحمية والمنعة، فتحالف المطيبون وهم بنو عبدمناف وبنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم وبنو الحارث بن فهر، على أن لا يسلموا الكعبة ما أقام حراء وثبير وما بلَّ بحرٌ صوفة. وصنعت عاتكة بنت عبدالمطلب
ص: 101
طيباً فغمسوا أيديهم فيه... فتذممت قريش فقاموا فتحالفوا ألا يظلم غريب ولا غيره، وأن يؤخذ للمظلوم من الظالم». وابن هشام: 1/85 والمنمق/187.
لقد أمضى النبي (صلی الله علیه و آله) هذا الحلف وتبناه، ودعا به الإمام الحسين (علیه السلام) لما منعوا دفن أخيه عند جده (صلی الله علیه و آله)،ثم دعا به ما أراد معاوية أن يصادر أمواله. أنساب الأشراف/13.
روى في الخصال/313:«عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: يا علي إن عبدالمطلب سَنَّ في الجاهلية خمس سُنن أجراها الله له في الاسلام، حرم نساء الآباء على الأبناء فأنزل الله عزوجل: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ. ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس وتصدق به فأنزل الله عزوجل: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئْ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ. الآية.. ولما حفر زمزم سماها سقاية الحاج، فأنزل الله: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ.الآية. وسن في القتل مائة من الإبل فأجرى الله عزوجل ذلك في الاسلام، ولم يكن للطواف عدد عند قريش فسن فيهم عبدالمطلب سبعة أشواط، فأجرى الله ذلك في الاسلام.
يا علي إن عبدالمطلب كان لايستقسم بالأزلام، ولا يعبدالأصنام، ولا يأكل ما ذبح على النصب، ويقول: أنا على دين أبي إبراهيم (علیه السلام)».
وقال اليعقوبي (رحمة الله): 2/10: «وكان عبدالمطلب جد رسول الله (صلی الله علیه و آله) يكفله، وعبدالمطلب يومئذ سيد قريش غير مدافع، قد أعطاه الله من الشرف ما لم يعط أحداً، وسقاه زمزم وذا الهرم «بئر في الطائف» وحَكَّمته قريش في أموالها، وأطعم في المَحْل حتى أطعم الطير والوحوش في الجبال. قال أبوطالب:
ونُطعمُ حتى تأكل الطيرُ فضلَنا *** إذا جُعلت أيدي المفيضين ترعدُ
ورفض عبادة الأصنام ووحَّد الله عزوجل، ووفى بالنذر، وسن سنناً نزل القرآن بأكثرها، وجاءت السنة من رسول الله بها وهي: الوفاء بالنذور، ومائة من الإبل في الدية، وألا تنكح ذات محرم، ولا تؤتى البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموؤودة، والمباهلة، وتحريم الخمر، وتحريم الزناء، والحد عليه،
ص: 102
والقرعة، وألا يطوف أحد بالبيت عرياناً، وإضافة الضيف، وألا ينفقوا إذا حجوا إلا من طيب أموالهم، وتعظيم الأشهر الحرم، ونفي ذوات الرايات».
لقد أغمضوا عيونهم عن كرامات عبدالمطلب وآياته، في حفر زمزم، وفي هجوم أصحاب الفيل، وإخباره بنبوة حفيده (صلی الله علیه و آله)، وافتخار النبي (صلی الله علیه و آله) يوم حنين بنبوته وبجده عبدالمطلب! البخاري: 4/28. وفي الواحدة منها كفاية لمن كان له قلب.
بل زعموا أن رجلاً سأل النبي (صلی الله علیه و آله) عن أبيه؟ فقال: إن أبي وأباك في النار. مسلم: 1/132. وحاشا أباه من النار، وحاشاه (صلی الله علیه و آله) من هذه الجلافة!
«وخرجوا هاربين يطلبون الشعاب، ومنهم من طلب الجبال، ومنهم من ركب البحر، قال: فعند ذلك قالوا لعبدالمطلب: ما يمنعك أن تهرب مع الناس؟ قال: أستحيي من الله أن أهرب عن بيته وحرمه، فوالله لا برحت من مكاني ولا نأيت عن بيت ربي، حتى يحكم الله بما يشاء..قال: فلما نظر عبدالمطلب إلى الكعبة خالية قال: «اللهم أنت أنيس المستوحشين ولا وحشة معك، فالبيت بيتك والحرم حرمك والدار دارك، ونحن جيرانك، تمنع عنه ما تشاء». البحار: 15/66.
ولما ظهرت آياته في حملة أصحاب الفيل، سماه المنصفون من قريش إبراهيم الثاني: «فكانت قريش تقول: عبدالمطلب إبراهيم الثاني». تاريخ اليعقوبي: 1/10.
كان عرب الجزيرة وعرب العراق يقدسون صنم العُزَّى أكثر من غيره، ويقدمون له القرابين: «وكان للعزى منحرٌ ينحرون فيه هداياهم، يقال له الغبغب... قال الشاعر: والراقصات إلى منى بالغبغب». معجم البلدان: 4/185.
وفي أحُد: «نادى المشركون بشعارهم: يا لَلعزى يا لَهُبل، وأوجعوا في المسلمين قتلاً ذريعاً، وولَّى من ولَّى منهم يومئذ، وثبت رسول الله (صلی الله علیه و آله)». الطبقات: 2/42.
ص: 103
وكانت حروبٌ بين المناذرة التابعين للفرس في العراق، والغساسنة التابعين للروم في الشام، وكان المنذر بن ماء السماء وثنياً، فأسرَ ابن ملك الغساسنة الحارث بن شمر في حربه معه، فذبحه قرباناً للعزى! خطط الشام: 1/67.
وفي المفصل في تاريخ العرب: 11/239: «وقد كان آل لخم ملوك الحيرة، ينحرون الأسرى قرباناً للعزى. وقد زعم بعض المؤرخين السريان أن المنذر بن ماء السماء ضحى بأربع مائة راهبة للعزى»!
في هذا الجو، نذر عبدالمطلب (رحمة الله) لله تعالى إذا رزقه عشرة أبناء، أن يذبح أحدهم قرباناً له هدياً للكعبة، فكان عمله مقابلةً لعَبَدَة الأصنام والنصارى ودعوة لهم أن يعبدوا رب بيت إبراهيم (علیه السلام)، ويقدموا قرابينهم له وليس للعزى!
أما الإشكال الذي نراه في عمله فسببه عدم معرفتنا لمستنده الشرعي في نذره أن يذبح ابنه، ثم مستنده في طريقة وفائه به بالقرعة بينه وبين الإبل. لكن ما ثبت عن شخصيته (علیه السلام) وإيمانه العميق وإلهام الله تعالى إياه بحفر زمزم، وظهور المعجزة له لما أرادت قريش أخذها منه، وإخباره بآية أصحاب الفيل، وغير ذلك من آياته يدل على أنه ما نذر ولا تحلل من نذره، إلا بحجة من ربه تعالى.
روى في دعائم الإسلام: 2/522 عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه تجب القرعة فيما أشكل وذكر القرعة في قصة يونس (علیه السلام)، وفي كفالة مريم (علیه السلام)، وقصة عبدالمطلب: «نذر ذبح من يولد له فولد له عبدالله أبو رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فألقى الله عليه محبته، فألقى عليه السهام وعلى إبل ينحرها يتقرب بها مكانه، فلم تزل السهام تقع عليه وهو يزيد حتى بلغت مائة، فوقع السهم على الإبل فأعاد السهام مراراً وهي تقع على الإبل، فقال: الآن علمت أن ربي قد رضي ونحرها».
روى الصدوق في العيون:2 /189 عن علي بن فضال أنه سأل الإمام الرضا (علیه السلام) عن معنى قول النبي (صلی الله علیه و آله): أنا ابن الذبيحين فقال: «يعني إسماعيل بن إبراهيم الخليل،
ص: 104
وعبدالله بن عبدالمطلب. أما إسماعيل فهو الغلام الحليم الذي بشر الله به إبراهيم: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، ولم يقل له يا أبت افعل ما رأيت. سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.
فلما عزم على ذبحه فداه الله بذبح عظيم بكبش أملح، يأكل في سواد ويشرب في سواد وينظر في سواد، ويمشي في سواد، ويبول ويبعر في سواد، وكان يرتع قبل ذلك في رياض الجنة أربعين عاماً، وما خرج من رحم أنثى، وإنما قال الله جل وعز له كن فكان، ليفدي به إسماعيل، فكل ما يذبح بمنى فهو فدية لإسماعيل إلى يوم القيامة. فهذا أحد الذبيحين.
وأما الآخر فإن عبدالمطلب كان تعلق بحلقة باب الكعبة، ودعا الله عزوجل أن يرزقه عشرة بنين، ونذر لله عزوجل أن يذبح واحداً منهم متى أجاب الله دعوته فلما بلغوا عشرة قال: قد وفى الله لي فَلَأفِيَنَّ لله عزوجل، فأدخل وُلده الكعبة وأسهم بينهم فخرج سهم عبدالله أبي رسول الله وكان أحب ولده إليه، ثم أجالها ثانية فخرج سهم عبدالله، ثم أجالها ثالثة فخرج سهم عبدالله، فأخذه وحبسه وعزم على ذبحه، فاجتمعت قريش ومنعته من ذلك، واجتمع نساء عبدالمطلب يبكين ويصحن، فقالت له ابنته عاتكة: يا أبتاه أعذر فيما بينك وبين الله عزوجل في قتل ابنك. قال: فكيف أعذر يا بنية فإنك مباركة؟ قالت: أعمد إلى تلك السوائم التي لك في الحرم فاضرب بالقداح على ابنك وعلى الإبل وأعط ربك حتى يرضى. فبعث عبدالمطلب إلى إبله فأحضرها وعزل منها عشراً وضرب السهام فخرج سهم عبدالله، فما زال يزيد عشراً عشراً حتى بلغت مائة، فضرب فخرج السهم على الإبل، فكبَّرت قريش تكبيرة ارتجت لها جبال تهامة، فقال عبدالمطلب: لا، حتى أضرب بالقداح ثلاث مرات، فضرب ثلاثاً كل ذلك يخرج السهم على الإبل، فلما كان في الثالثة اجتذبه الزبير وأبوطالب وإخوانه من تحت رجليه، فحملوه وقد انسلخت جلدة خده الذي كان على الأرض، وأقبلوا يرفعونه ويقبلونه، ويمسحون عنه
ص: 105
التراب. وأمر عبدالمطلب أن تنحر الإبل بالحزورة، ولا يمنع أحد منها وكانت مائة».
وأضاف الصدوق (رحمة الله): «ولولا أن عبدالمطلب كان حُجَّةً وأن عزمه على ذبح ابنه عبدالله شبيهُ بعزم إبراهيم على ذبح ابنه إسماعيل:، لمَا افتخر النبي (صلی الله علیه و آله) بالإنتساب إليهما،لأجل أنهما الذبيحان في قوله (علیه السلام): أنا ابن الذبيحين.
والعلة التي من أجلها رفع الله عزوجل الذبح عن إسماعيل هي العلة التي من أجلها رفع الذبح عن عبدالله وهي كون النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) في صلبهما. فببركة النبي والأئمة (صلی الله علیه و آله) رفع الله الذبح عنهما، فلم تجر السنة في الناس بقتل أولادهم».
وفي الفقيه: 4/368: «يا علي أنا ابن الذبيحين. يا علي أنا دعوة أبي إبراهيم (علیه السلام)».
وتدل الرواية عن الإمام الباقر (علیه السلام) «الفقيه:3/89»على أن الله تعالى نهى عبدالمطلب عن ذبح ولده وأمره بالقرعة، وقد يكون ذلك بعد كلام عاتكة، قال (علیه السلام): «أول من سوهم عليه مريم بنت عمران، وهو قول الله عزوجل: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، والسهام ستة، ثم استهموا في يونس (علیه السلام) لما ركب مع القوم فوقعت السفينة في اللجة، فاستهموا فوقع السهم على يونس ثلاث مرات قال: فمضى يونس إلى صدر السفينة، فإذا الحوت فاتح فاه فرمى نفسه.
ثم كان عند عبدالمطلب تسعة بنين، فنذر في العاشر إن رزقه الله غلاماً أن يذبحه فلما ولد عبدالله لم يكن يقدر أن يذبحه ورسول الله (صلی الله علیه و آله) في صلبه، فجاء بعشر من الإبل فساهم عليها وعلى عبدالله، فخرجت السهام على عبدالله فزاد عشراً، فلم تزل السهام تخرج على عبدالله ويزيد عشراً، فلما أن خرجت مائة خرجت السهام على الإبل فقال عبدالمطلب: ما أنصفت ربي فأعاد السهام ثلاثاً، فخرجت على الإبل فقال: الآن علمت أن ربي قد رضي، فنحرها».
ومعناه أن الله تعالى نهاه عن ذبحه بالإلهام، وأمره أن يفديه بما استقرت عليه القرعة.
ونلاحظ في هذا الموضوع أن النبي (صلی الله علیه و آله) ضحى في حجة الوداع بمئة ناقة، وهي عدد فداء جده عبدالله (علیه السلام)، وأشرك فيها علياً (علیه السلام) لشراكته في وراثة عبدالمطلب:.
ص: 106
زعم أهل الكتاب أن الذبيح إسحاق (علیهما السلام)، وأن الله فداه وأرسل جبرئيل (علیه السلام) بكبش وأمره أن يذبحه بدله.
قال في تفسير الكاشف: 6/352: «ولا مصدر لهذا القول إلا إسرائيليات كعب الأحبار، وحسد اليهود لأبناء إسماعيل، وليس هذا بكثير على بني إسرائيل».
أقول: إن الأدلة على أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق (علیهما السلام)، كثيرة:
الأول: أن توراتهم وتلمودهم ومصادرهم لم تذكر أن الذبيح إسحاق (علیه السلام)، وإنما هو قول حاخاماتهم، خاصة كعب الأحبار، وقد نسبوه إلى عمر وعلي وابن عباس وغيرهم. وعدم ذكره في مصادرهم دليل على أن الذبيح ليس إسحاق (علیه السلام) وإلا لذكرته مصادرهم بشكل واسع، وجعلوا مكانه مزاراً وافتخروا به. فالصحيح أنهم ادعوه بعد بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) ونزول القرآن بقصة ذبح إسماعيل (علیهما السلام) .
الثاني: صحح العلماء حديث: أنا ابن الذبيحين. رواه الحاكم: 2/554، صححه الذهبي، السرخسي: 8/141، بدائع الصنائع: 5/85، تخريج الأحاديث: 3/177. وفيض القدير:3/762.
الثالث: قال جمهور علماء المسلمين إن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق (علیهما السلام) .
قال العجلوني في كشف الخفاء: 1/199: «إسماعيل هو الذبيح على القول الصواب
عند علماء الصحابة والتابعين».
وقال الطوسي في أماليه/457: «قال أبو المفضل «الشيباني»: اختلف الناس في الذبيح وقول النبي (صلی الله علیه و آله): أنا ابن الذبيحين، يعني إسماعيل وعبدالله أباه (علیهما السلام) . والعرب مجمعة أن الذبيح هو إسماعيل. وأنا أقول: اختلفت روايات العامة والخاصة في الذبيح من هو؟ والصحيح أنه إسماعيل لمكان الخبر، ولإجماع علماء أهل البیت (علیهم السلام) على أنه إسماعيل».
الرابع: صحح الصدوق في معاني الأخبار/391: «عن داود بن كثير الرقي قال: قلت لأبي عبدالله (علیه السلام): أيهما كان أكبر إسماعيل أو إسحاق، وأيهما كان الذبيح؟
ص: 107
فقال: كان إسماعيل أكبر من إسحاق بخمس سنين، وكان الذبيح إسماعيل، وكانت مكة منزل إسماعيل، وإنما أراد إبراهيم أن يذبح إسماعيل أيام الموسم بمنى. قال: وكان بين بشارة الله لإبراهيم بإسماعيل وبين بشارته بإسحاق:خمس سنين، أما تسمع لقول إبراهيم (علیه السلام) حيث يقول: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. إنما سأل الله عزوجل أن يرزقه غلاماً من الصالحين، وقال في سورة الصافات: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، يعني إسماعيل من هاجر. فقال: ففدى إسماعيل بكبش عظيم.فقال أبوعبدالله (علیه السلام): ثم قال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ، يعني بذلك إسماعيل قبل البشارة بإسحاق. فمن زعم أن إسحاق أكبر من إسماعيل وأن الذبيح إسحاق، فقد كذب بما أنزل الله عزوجل في القرآن من نبئهما».
فقد استدل الإمام (علیه السلام) بنص الآيات وسياقها، وأن الذبيح الغلام الذي دعا إبراهيم (علیه السلام) ربه أن يهبه له فوهبه وهو إسماعيل، ثم رزقه بعده إسحاق فقال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، فكيف يبشره بأنه نبي، ثم يأمره بذبحه!
وهذه آياته في سياقها: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ للَّجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَالْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ. سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ. وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ. الصافات: 99- 113.
وفي الكاشف: 6/352: فإنه يدل بصراحة على أن المبشر به والساعي والذبيح صفات لموصوف واحد، وهو الولد البكر لإبراهيم، وبكر إبراهيم هو إسماعيل باتفاق المسلمين والنصارى واليهود، فلقد جاء في التوراة الإصحاح 16 الآية 15
من سفر التكوين ما نصه بالحرف: «وكان إبرام ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام». أي إبراهيم.
وإذا عطفنا على هذا ما جاء في التوراة من السفر المذكور الإصحاح 17 الآية 17
ص: 108
وما بعدها: إن الله لما بشر إبراهيم بإسحاق من سارة سقط على وجهه، وقال في قلبه: هل يولد لي وأنا ابن مائة سنة وسارة بنت تسعين؟ إذا جمعنا بين الآيتين تكون حصيلتهما أن إسماعيل هوالولد البكر، وأنه يكبر اسحق بأربعة عشر عاماً، وبينا أن البكر هو الذبيح».
الخامس: في كتاب أضواء على المسيحية للدكتور شلبي/66: «يقول برنابا: فكلم الله حينئذ إبراهيم قائلاً: خذ ابنك البكر واصعد الجبل لتقدمه ذبيحة. والبكر هو إسماعيل (علیه السلام)، وقد ولد إسحاق (علیه السلام) بعده بسبع سنين».
السادس: قوله تعالى: «وبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. حيث جاءت هذه البشارة لإبراهيم بإسحاق جزاءً له على طاعته لله في ذبح ولده البكر، فلا بد وهذه هي الحال، أن يكون زمن إسحاق متأخراً عن زمن الذبيح». تفسير الكاشف 6/352.
السابع: قوله تعالى في الآية 71 من سورة هود: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ومِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ، فإن اللَّه بشّر سارة بإسحاق وبولده يعقوب في آن واحد، فكيف يأمر بذبح إسحاق بعد أن بشّر به وبنسله؟ وما ذا تقول سارة عندما تسمع الأمر بذبح وليدها بعد أن سمعت البشارة به وبولده!
الثامن: نسبوا إلى علي (علیه السلام) من أن الذبيح هو إسحاق، والصحيح أنه إسماعيل (علیهما السلام) . ففي أمالي الطوسي/338، عن الإمام الرضا (علیه السلام)، عن آبائه عن علي (علیه السلام) قال: الذبيح إسماعيل.
وبذلك يتضح أن القول بأن الذبيح إسحاق مكذوب، أو تصحيف في الإسم.
اختار الله بني عبدالمطلب من العالم:
كان النبي (صلی الله علیه و آله) يجهر بأن الله تعالى اختار من العالم بني عبدالمطلب فقال (صلی الله علیه و آله): «قسم الله تبارك وتعالى أهل الأرض قسمين فجعلني في خيرهما، ثم قسم النصف الآخر على ثلاثة فكنت خير الثلاثة، ثم اختار العرب من الناس،
ص: 109
ثم اختار قريشاً من العرب، ثم اختار بني هاشم من قريش، ثم اختار بني عبدالمطلب من بني هاشم، ثم اختارني من بني عبدالمطلب». الخصال/36 وغيره.
وكان (صلی الله علیه و آله) يفتخر بنبوته وجده عبدالمطلب (علیه السلام)!
ففي حنين هرب المسلمون مع أنهم كانوا اثني عشر ألفاً! وثبت النبي (صلی الله علیه و آله) و
بنو هاشم، وافتخر بنبوته وبجده عبدالمطلب: «كان القوم قد كمنوا في شعاب الوادي ومضايقه فما راعنا إلا كتائب الرجال، فانهزم بنو سليم وكانوا على المقدمة وانهزم مَن وراءهم، وبقي علٌّي (علیه السلام) ومعه الراية، فقال مالك بن عوف: أروني محمداً، فأروه إياه فحمل عليه فلقيه أيمن بن عبيدة وهو ابن أم أيمن فالتقيا فقتله مالك.. فقام النبي (صلی الله علیه و آله) في ركاب سرجه حتى أشرف عليهم وقال: الآن حمى الوطيس: أنا النبي لا كذبْ أنا ابن عبدالمطلبْ».
وفي صحيح بخاري: 4/28: «نزل فجعل يقول: أنا النبي لاكذب أنا ابن عبدالمطلب. قال فما رؤي من الناس يومئذ أشد منه».
وبنو عبدالمطلب لا يفرون أبداً!
وعليهم قامت معارك الإسلام! فقد كانوا أبطال بدر، وثبتوا في أحُد وخيبر وغيرها، في حين فرَّ الجميع. وفي حنين: «انهزموا بأجمعهم فلم يبق منهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) إلا عشرة أنفس، تسعة من بني هاشم خاصة وعاشرهم أيمن بن أم أيمن، فقتل أيمن وثبت تسعة النفر الهاشميون حتى ثاب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من كان انهزم، فرجعوا أولاً فأولاً». الإرشاد: 1/140.
بعثه الله لبني عبدالمطلب خاصة وللناس عامة:
قال لهم: «يا بني عبدالمطلب إن الله بعثني إلى الخلق كافة وبعثني إليكم خاصة، فقال عزوجل: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ. أنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم، وتدخلون بهما الجنة وتنجون بهما من النار: شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فمن يجيبني إلى هذا الأمرويؤازرني عليه وعلى القيام به، يكن
ص: 110
أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي». الإرشاد: 1/49 ومسند الشاميين: 2/66.
وكان النبي (صلی الله علیه و آله) مخولاً من بني عبدالمطلب:
فعندما طلب أسرى خيبرمن النبي (صلی الله علیه و آله) أن يُطلق سراحهم، قال لهم: «أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لله ولكم. وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله فردت الأنصار ما كان في أيديها من الذراري والأموال».
أمالي الصدوق/591.
وَعَدَهم النبي (صلی الله علیه و آله) الشفاعة وكان يميزهم عن غيرهم:
قال (صلی الله علیه و آله): «يا بني عبدالمطلب إن الصدقة لاتحل لي ولا لكم، ولكني قد وعدت الشفاعة «قال أبوعبدالله (علیه السلام): إشهدوا لقد وعدها» فما ظنكم يا بني عبدالمطلب إذا أخذت بحلقة باب الجنة، أتروني مؤثراً عليكم غيركم».التهذيب: 4/58.
وقال الإمام الباقر (علیه السلام): «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يصنع بمن مات من بني هاشم خاصة شيئاً لا يصنعه بأحد من المسلمين! كان إذا صلى على الهاشمي ونضح قبره بالماء، وضع كفه على القبر حتى ترى أصابعه في الطين، فكان الغريب يقدم أو المسافر من أهل المدينة فيرى القبر الجديد عليه أثر كف رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فيقول: من مات من آل محمد (صلی الله علیه و آله)». الكافي: 3/200 والتهذيب: 1/460.
وأكرم الله بني هاشم فشرَّع لهم ميزانية خاصة:
وهي الخمس فقال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئْ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَللَّرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَئْ قَدِيرٌ. ومع ذلك حرموهم منه!
قال ابن قدامة: 2/519: «لانعلم خلافاً في أن بني هاشم لاتحل لهم الصدقة المفروضة، وقد قال النبي (صلی الله علیه و آله): إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس. وعن أبي هريرة قال: أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة فقال النبي (صلی الله علیه و آله): كِخْ كِخْ، ليطرحها! وقال: أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة! متفق عليه».
ص: 111
وفي الكافي: 1/540 عن الإمام الكاظم (علیه السلام): «وإنما جعل الله هذا الخمس خاصة لهم دون مساكين الناس وأبناء سبيلهم، عوضاً لهم من صدقات الناس، تنزيهاً من الله لقرابتهم برسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكرامةً من الله لهم عن أوساخ الناس، فجعل لهم خاصة من عنده ما يغنيهم به عن أن يصيرهم في موضع الذل والمسكنة..
وهؤلاء الذين جعل الله لهم الخمس هم قرابة النبي (صلی الله علیه و آله) الذين ذكرهم الله فقال: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ، وهم بنو عبدالمطلب الذكر منهم والأنثى، ليس فيهم من أهل بيوتات قريش ولا من العرب أحد».
وحذرهم النبي (صلی الله علیه و آله) أن يغتروا بنسبهم ويتركوا العمل:
قال الإمام الباقر (علیه السلام): «قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) على الصفا فقال: يا بني هاشم، يا بني عبدالمطلب إني رسول الله إليكم وإني شفيق عليكم، وإن لي عملي ولكل رجل منكم عمله، لاتقولوا إن محمداً منا وسندخل مدخله، فلا والله ما أوليائي منكم ولا من غيركم يا بني عبدالمطلب إلا المتقون. ألا فلا أعرفكم يوم القيامة تأتون تحملون الدنيا على ظهوركم ويأتون الناس يحملون الآخرة، ألا إني قد أعذرت إليكم فيما بيني وبينكم، وفيما بيني وبين الله عزوجل فيكم». الكافي: 8/182.
وأتمَّ النبي (صلی الله علیه و آله) الحجة عليهم فأوصاهم بطاعة علي (علیه السلام):
فعن الإمام زين العابدين، في حديث وفاة النبي (صلی الله علیه و آله): «قال علي (علیه السلام): فلقد رأيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإن رأسه ليثقل ضعفاً وهو يقول ويسمع أقصى أهل البیت وأدناهم: إن أخي ووصيي ووزيري وخليفتي في أهلي علي بن أبي طالب، يقضي ديني وينجز موعدي. يا بني هاشم يا بني عبدالمطلب، لاتبغضوا علياً، ولا تخالفوا أمره فتضلوا، ولاتحسدوه وترغبوا عنه فتكفروا». أمالي الطوسي/600.
وكان حقد اليهود وقريش على كل بني عبدالمطلب::
قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) لحاخام يهودي: «وأما الخامسة يا أخا اليهود، فإن قريشاً والعرب تجمعت وعقدت بينها عقداً وميثاقاً، لاترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتقتلنا معه معاشر بني عبدالمطلب، ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى
ص: 112
أناخت علينا بالمدينة، واثقة بأنفسها فيما توجهت له». الخصال/368.
وصححوا حديث أبناء عبدالمطلب سادة أهل الجنة:
فقد رواه ابن ماجة 2/1368 عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «نحن ولد عبدالمطلب سادة أهل الجنة: أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي». والحاكم: 3/211، وصححه على شرط مسلم، وتاريخ بغداد: 9/434 وفيه: نحن سبعة بنو عبدالمطلب سادات أهل الجنة، أنا وعلي أخي وعمي حمزة وجعفر والحسن والحسين والمهدي». وتلخيص المتشابه: 1/197، الفردوس: 1/53، البيان للشافعي/488 وغيرها.
وفي كتاب سُلَيْم بن قيس (رحمة الله) /245: «كانت قريش إذا جلست في مجالسها فرأت رجلاً من أهل البیت (علیهم السلام) قطعت حديثها، فبينما هي جالسة إذ قال رجل منهم ما مثل محمد في أهل البیت إلا كمثل نخلة نبتت في كُناسة! فبلغ ذلك رسول الله فغضب ثم خرج فأتى المنبر فجلس عليه حتى اجتمع الناس، ثم قام
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال..».وأورد خطبة طويلة في فضله وفضل أهل بيته:جاء فيها: «ألا ونحن بنو عبدالمطلب سادة أهل الجنة، أنا وعلي وجعفر وحمزة والحسن والحسين وفاطمة والمهدي». ورواه أمالي الصدوق/384، غيبة الطوسي/113، العمدة/52 و430 والطرائف: 1/176.
وفي دلائل الإمامة/256، عن الأصبغ بن نباتة، قال: «كنا مع علي بالبصرة وهو على بغلة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد اجتمع هو وأصحاب محمد فقال: ألا أخبركم بأفضل خلق الله عند الله يوم يجمع الرسل؟ قلنا: بلى يا أميرالمؤمنين، قال: أفضل الرسل محمد وإن أفضل الخلق بعدهم الأوصياء، وأفضل الأوصياء أنا، وأفضل الناس بعد الرسل والأوصياء الأسباط، وإن خيرالأسباط سبطا نبيكم، يعني الحسن والحسين. وإن أفضل الخلق بعد الأسباط الشهداء، وإن أفضل الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، قال ذلك النبي (صلی الله علیه و آله)، وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين مخضبان بكرامةٍ خص الله عزوجل بها نبيكم، والمهدي منا في آخر الزمان، لم يكن في أمة من الأمم مهدي ينتظر غيره».
ص: 113
أقول: كفى بهذا الحديث الشريف حجة ودليلاً على مكانة هؤلاء العظماء من أبناء عبدالمطلب:، فهو يفضح كل ما رووه من تفضيل زيد وعمرو عليهم!
وتقدمت له أبيات في غزو أبرهة للكعبة، وكلها إيمان ويقين بالنصر، وفيها نبوءة بنبوة حفيده (صلی الله علیه و آله) وبدولة العدل الإلهي على يد ولده المهدي (علیه السلام)! قال:
نحن آلُ الله فيما قد خلا *** لم يزل ذاك على عهد ابْرَهَمْ
لم يزل لله فينا حجةٌ *** يدفع الله بها عنها النقم
نعرف الله وفينا شيمةٌ *** صلة الرحم ونوفي بالذمم
ولنا في كل دور كَرَّةٌ *** نعرف الدين وطوراً في العجم
فإذا ما بلغ الدورُ إلى *** منتهى الوقت أتى طيْرُ القدم
بكتاب فصلت آياته *** فيه تبيان أحاديث الأمم
وطير القدم مثلٌ ضربه عبدالمطلب (رحمة الله) لأصحاب ولده الإمام المهدي (علیه السلام) الذين يجمعهم الله له في ليلة من أقاصي العالم، ليكونوا وزراءه.
فقد روى علي بن يقطين عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «من أعز أخاه في الله وأهان أعداءه في الله، وتولى ما استطاع نصيحته، أولئك يتقلبون في رحمة الله، ومثلهم مثل طير يأتي بأرض الحبشة في كل صيفة يقال له «القَدَم» فيبيض ويفرخ بها، فإذا كان وقت الشتاء صاح بفراخه فاجتمعوا إليه وخرجوا معه من أرض الحبشة، فإذا قام قائمنا اجتمع أولياؤنا من كل أوب! ثم تمثل بقول عبدالمطلب:
فإذا ما بلغ الدور إلى *** منتهى الوقت أتى طيْرُ القدم
بكتاب فصلت آياته *** فيه تبيان أحاديث الأمم
مستدرك الوسائل: 13/137 وجامع أحاديث الشيعة: 17/297.
وفي أمالي الصدوق/243: «قال الريان بن الصلت: أنشدني الرضا (علیه السلام) لعبدالمطلب:
ص: 114
يعيب الناس كلهم زماناً *** وما لزماننا عيب سوانا
نعيب زماننا والعيب فينا *** ولو نطق الزمان بنا هجانا
وأن الذئب يترك لحم ذئب *** ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
لبسنا للخداع مسوك طيب *** وويلٌ للغريب إذا أتانا»
وعيون أخبار الرضا 2/190.
قال الإمام الباقر (علیه السلام) كما في الخصال/452: «سئل رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن ولد عبدالمطلب فقال: عشرة والعباس»! وخيرهم: عبدالله، وأبوطالب، والزبير، وحمزة. وذرية عبدالله وأبي طالب خير البشر، وشذ من أبناء عبدالمطلب أبولهب إلى النار.
وفي تاريخ اليعقوبي: 2/11: «وكان لعبدالمطلب من الولد الذكور عشرة، ومن الإناث أربع: عبدالله أبو رسول الله (صلی الله علیه و آله) . وأبوطالب وهو عبدمناف. والزبير وهو أبو الطاهر. وعبدالكعبة وهو المقوم. وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وهي أم أم حكيم البيضاء. وعاتكة وبرة وأروى وأميمة بنات عبدالمطلب. والحارث وهو أكبر ولد عبدالمطلب وبه كان يكنى. وقثم. وأمهما صفية بنت جندب بن حجير بن زباب بن حبيب بن سوأة بن عامر بن صعصعة. وحمزة وهو أبو يعلى أسد الله وأسد رسول الله، وأمه هالة بنت وهيب بن عبدمناف بن زهرة، وهي أم صفية بنت عبدالمطلب. والعباس، وضرار، أمهما نتيلة بنت جناب بن كليب بن النمر بن قاسط. وأبولهب وهو عبدالعزى، وأمه لُبنى بنت هاجر بن عبدمناف بن ضاطر الخزاعي. والغيداق وهو حجل وإنما سمى الغيداق لأنه كان أجود قريش وأطعمهم للطعام، وأمه ممنعة بنت عمرو بن مالك بن نوفل الخزاعي. فهؤلاء أعمام رسول الله وعماته».
والسؤال هنا: ما معنى قول النبي (صلی الله علیه و آله): عشرة والعباس؟
ص: 115
والجواب: أن العباس عبدٌ لثلاثة من إخوته من بني عبدالمطلب،
ولذا عدَّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحده، لأنه عبد لإخوته، لأن أمه أمةً لهم أحَلّواها لأبيهما عبدالمطلب لتخدمه، فحملت منه بالعباس.
ففي «الكافي: 8/259»: «توفي مولى لرسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يخلف وارثاً فخاصم فيه ولد العباس أبا عبدالله (علیه السلام) وكان هشام بن عبدالملك قد حج في تلك السنة، فجلس لهم فقال داود بن علي: الولاء لنا.وقال أبوعبدالله (علیه السلام): بل الولاء لي. فقال داود بن علي: إن أباك قاتل معاوية. فقال: إن كان أبي قاتل معاوية فقد كان حظ أبيك فيه الأوفر ثم فرَّ بخيانته. وقال: والله لأطوقنك غداً طوق الحمامة، فقال له داود بن علي: كلامك هذا أهون علي من بعرة في وادي الأزرق، فقال: أما إنه واد ليس لك ولا لأبيك فيه حق!
قال فقال هشام: إذا كان غداً جلست لكم، فلما أن كان من الغد خرج
أبوعبدالله ومعه كتاب في كرباسة، وجلس لهم هشام، فوضع أبوعبدالله (علیه السلام) الكتاب بين يديه، فلما أن قرأه قال: أعدوا لي جندل الخزاعي وعكاشة الضمري، وكانا شيخين قد أدركا الجاهلية، فرمى بالكتاب إليهما فقال: تعرفان هذه الخطوط؟ قالا: نعم، هذا خط العاص بن أمية، وهذا خط فلان وفلان لفلان من قريش. وهذا خط حرب بن أمية، فقال هشام: يا أبا عبدالله أرى خطوط أجدادي عندكم؟ فقال: نعم، قال: فقد قضيت بالولاء لك، قال: فخرج وهو يقول:
إن عادت العقرب عدنا لها *** وكانت النعل لها حاضرهْ
قال فقلت: ما هذا الكتاب جعلت فداك؟قال: فإن نتيلة كانت أمةً لأم الزبير وأبي طالب وعبدالله، فأخذها عبدالمطلب فأولدها فلاناً، فقال له الزبير: هذه الجارية ورثناها من أمنا، وابنك هذا عبد لنا، فتحمل عليه ببطون قريش، قال فقال: قد أجبتك على خلة على أن لا يتصدر ابنك هذا في مجلس، ولايضرب معنا بسهم. فكتب عليه كتاباً وأشهد عليه، فهو هذا الكتاب».
أقول: معنى ذلك أن العباس وأولاده مضافاً إلى أنهم من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة، فهم عبيد لأبناء عبدالمطلب: الزبير، وأبي طالب، وعبدالله، الذين كانت أم
ص: 116
العباس أمةً لأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائد بن عبدالله بن عمر بن مخزوم «دلائل النبوة/99» وقد أحلوها لأبيهم فتزوجها، فَوُلْدُها تبعاً لها ملكٌ لهم، لأنهم أحلوها لأبيهم ولم يبيعوها.
ونلاحظ أن المؤرخين «تاريخ دمشق 26/276» قالوا إن أم العباس نتيلة بنت جناب، ثم قالوا: وقيل أو يقال: ابنة مالك بن خباب بن كليب،من بني النمر بن قاسط. وزعموا أن ابنها ضاع فنذرت أن تكسوا الكعبة حريراً. لكن هذه القصة لأم ضرار بن عبدالمطلب، سرقوها وجعلوها لأم العباس!
وقد رواها ابن حبيب في المنمق/36، والبلاذري في أنساب الأشراف: 1/90، قالا: «كان ضرار بن عبدالمطلب من فتيان قريش، جمالاً، وعقلاً، وهيبة، وسخاء، وإن أمه نتيلة أضلته فكاد عقلها يذهب جزعاً عليه، وكانت كثيرة المال، فجعلت تنشد في المواسم وتقول:
أضللت أبيض كالخصاف *** للفتية الغرِّ بني مناف
ثم لعمري منتهى الأضياف *** سنَّ لفهر سُنَّةَ الإيلاف
في القرِّ حين القر والأصياف
فجعلت لمن جاء به هنيدة، ونذرت أن تكسو البيت إن رده الله عليها. فمر بها حسان بن ثابت حاجاً في نفر من قومه، فرأى جزعها عليه فقال:
وأمّ ضرار تنشد الناس والهاً *** فيالبني النجَّار ما ذا أضلَّتِ
ولو أن ما تلقى نتيلة غدوة *** بأركان رضوى مثله ما استقلَّتِ
فأتاها به رجل من جذام فوفت له بجعلها وكست البيت ثياباً بيضاً وقالت:
الحمد لله وليِّ الحمدِ *** قد ردَّ ذو العرش عليَّ وُلدي
من بعد أن جوَّلتُ في مَعَدِّ *** أشكره ثم أفي بعهدي.
فقد أخذوا قصة أم ضرار بن عبدالمطلب ونسبوها إلى أم العباس»!
ص: 117
وسببه أن حكومات قريش قررت أن تنشر في المسلمين أن آباء النبي (صلی الله علیه و آله) وأسرته كلهم كفار، ومنعت أن يروي المسلمون سيرتهم ومناقبهم.
وقد بينا في مقدمة هذه السيرة، أن الحكومات تبنت سياسة إبادة كنوز السيرة وعلوم الإسلام، وإحراق كتب شيعة أهل البیت (علیهم السلام)، ويكفي مثالاً على ذلك: كُتب جابر بن يزيد الجعفي، وكُتب أحمد ابن عقدة، وكُتب سليمان الأعمش، وهم علماء موثقون عندنا وعندهم! فقد أحرقوها أو فقدت في أيام تشريدهم وتلاميذهم! وقد بلغت مؤلفاتهم نحو أربع مئة ألف حديث، أي مئتي مجلداً!
قال مسلم في مقدمة صحيحه: 1/15: «الجراح بن مليح يقول: سمعت جابراً يقول: عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر «الباقر (علیه السلام)» عن النبي صلى عليه وسلم كلها»!
في الكافي: 1/446، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «نزل جبرئيل على النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول: إني قد حرمت النار على صلب أنزلك، وبطن حملك، وحجر كفلك، فالصلب صلب أبيك عبدالله بن عبدالمطلب، والبطن الذي حملك فآمنة بنت وهب، وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب. وفي رواية ابن فضال: وفاطمة بنت أسد».
ص: 118
وأضافت رواية الخصال/293: «وفي بيت آواك وهو عبدمناف بن عبدالمطلب أبوطالب، وفي أخ كان لك في الجاهلية. قيل: يا رسول الله من هذا الأخ؟ فقال: كان أنسي وكنت أنسه، وكان سخياً يطعم الطعام.
قال مصنف هذا الكتاب رضيالله عنه: إسم هذا الأخ الجلاس بن علقمة».
أقول: هؤلاء كلهم من أهل الجنة:، وهذه الشفاعة كرامة خاصة أهداها الله إلى نبيه (صلی الله علیه و آله) بتكريمهم من أجله ورفع درجتهم في الجنة. وليس معناها كما تخيل البعض أنهم بدونها من أهل النار.
وقد روى في الكافي: 5/50 افتخار النبي (صلی الله علیه و آله) بأمه وجداته، قال الإمام الصادق (علیه السلام): «أغار المشركون على سرح المدينة فنادى فيها مناد: يا سوء صباحاه! فسمعها رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الخيل، فركب فرسه في طلب العدو، وكان أول أصحابه لحقه:
أبوقتادة على فرس له، كان تحت رسول الله (صلی الله علیه و آله) سرج دفتاه ليف ليس فيه أشر ولا بطر، فطلب العدو فلم يلقوا أحداً، وتتابعت الخيل فقال أبو قتادة: يا رسول الله إن العدو قد انصرف، فإن رأيت أن نستبق؟ فقال: نعم، فاستبقوا فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) سابقاً عليهم، ثم أقبل عليهم فقال: أنا ابن العواتك من قريش، إنه لهوَ الجواد البحر، يعني فرسه».
وقد افتخر بأمهاته (صلی الله علیه و آله) كما افتخر بجده عبدالمطلب (علیه السلام)، ولا يمكن أن يفتخر بمشركين أو مشركات من أهل النار.
وفسرالمحقق البحراني العواتك فقال في الحدائق: 22/356: «جَمْعُ عاتكة وهي المرأة المجمرة بالطيب، وكان هذا الإسم لثلاث نسوة من أمهاته (صلی الله علیه و آله): إحداهن عاتكة بنت هلال، أم عبدمناف بن قصي، والثانية عاتكة بنت مرة بن هلال، أم هاشم بن عبدمناف، والثالثة عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال،
أم وهب أبي آمنة أم النبي (صلی الله علیه و آله)، فالأولى من العواتك عمة الثانية، والثانية عمة الثالثة. قيل: وبنو سليم كانوا يفتخرون بهذه الولادة.وقيل: العواتك في جدات
ص: 119
النبي (صلی الله علیه و آله) تسع، ثلاث من بني سليم وهن المذكورات، والبواقي من غيرهم».
قال الفتال النيسابوي/138: «إعلم أن الطائفة المحقة قد اجتمعت على أن أباطالب وعبدالله بن عبدالمطلب وآمنة بنت وهب:، كانوا مؤمنين».
وقد ركزالأئمة (علیهم السلام) المكانة الدينية لعبدالله وآمنة وعبدالمطلب رضيالله عنهم. قال داود الرقي وهومن كبار أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 4/544»: «دخلت على أبي عبدالله (علیه السلام) ولي على رجل مال قد خفت تَوَاهُ «ذهابه» فشكوت إليه ذلك، فقال لي: إذا صرت بمكة فطف عن عبدالمطلب طوافاً وصل ركعتين عنه، وطُف عن أبي طالب طوافاً وصل عنه ركعتين، وطف عن عبدالله طوافاً وصل عنه ركعتين، وطف عن آمنة طوافاً وصل عنها ركعتين، وطف عن فاطمة بنت أسد طوافاً وصل عنها ركعتين، ثم ادع أن يرد عليك مالك.
قال ففعلت ذلك ثم خرجت من باب الصفا، وإذا غريمي واقف يقول: يا داود حبستني! تعال إقبض مالك».
«قال محمد بن مسعود الكازروني في كتاب المنتقى: ولد عبدالله لأربع وعشرين سنة مضت من ملك كسرى أنوشروان، فبلغ سبع عشرة سنة ثم تزوج آمنة، فلما حملت برسول الله (صلی الله علیه و آله) توفي، وذلك أن عبدالله بن عبدالمطلب خرج إلى الشام في عير من عيرات قريش يحملون تجارات، ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا، فمروا بالمدينة وعبدالله بن عبدالمطلب يومئذ مريض، فقال: أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضاً شهراً، ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبدالمطلب عن عبدالله، فقالوا خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض، فبعث إليه عبدالمطلب أعظم ولده الحارث فوجده قد توفي في دار النابغة، فرجع إلى أبيه فأخبره، فوجد عليه عبدالمطلب وإخوته وأخواته وجداً
ص: 120
شديداً، ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يومئذ حمل، ولعبدالله يوم توفي خمس وعشرون سنة».
بحار الأنوار: 15/124.
ويؤيده ما تقدم عن الإمام الصادق (علیه السلام) في أصحاب الفيل: «فدعا ولده عبدالله وإنه لغلام حين أيفع، وعليه ذؤابه تضرب إلى عجزه، فقال له: اذهب فداك أبي وأمي فَاعْلُ أبا قبيس، وانظر ماذا ترى يجئ من البحر».
وعام الفيل هو عام ولادة النبي (صلی الله علیه و آله) وهذا يعني أن أباه كان شاباً في أول شبابه، فلا تصح رواية أنه كان ابن خمس وعشرين سنة أو ثلاثين.«فقال له: إذهب فداك أبي وأمي فاعلُ أبا قبيس وانظر ماذا ترى يجئ من البحر؟ فنزل مسرعاً فقال: يا سيد النادي، رأيت سحاباً من قِبل البحر مُقبلاً، يُسْفِلُ تارةً ويرتفع أخرى! إن قلت غيماً قلته وإن قلت جهاماً خلته، يرتفع تارةً، وينحدر أخرى!
فنادى عبدالمطلب: يا معشر قريش، أدخلوا منازلكم فقد أتاكم الله بالنصر».
وقد كانت عادتهم التزويج المبكر، ففي إكمال الدين/196: «لما بلغ عبدالله بن عبدالمطلب زوجه عبدالمطلب آمنة بنت وهب الزهري، فلما تزوج بها حملت برسول الله (صلی الله علیه و آله)».
وقال اليعقوبي: 2/9: «وكان تزويج عبدالله بن عبدالمطلب لآمنة بنت وهب بعد حفر زمزم بعشر سنين، وقيل بضع عشرة سنة. وبين فداء عبدالمطلب لابنه وبين تزويجه إياه سنة..وكان بين تزويج أبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأمه وبين مولده على ما روى جعفر بن محمد عشرة أشهر، وقال بعضهم سنة وثمانية أشهر».
روى المؤرخون أن عبدالمطلب رضيالله عنه خطب في مجلس واحد آمنة بنت وهب لابنه عبدالله رضيالله عنه، وخطب لنفسه بنت عمها هالة بنت أهيب.
ففي تاريخ دمشق: 3/418: «أن عبدالمطلب خرج إلى اليمن فلقيه رجل من
ص: 121
اليهود له علم، فنظر إلى عبدالمطلب فقال: أرني منك شيئين، فقال عبدالمطلب: وإني أريك ما لم يكن عورة، فقال لا أريد العورة، أريد أن أنظر إلى أنفك وإلى كفيك فقال: أنظر، فقال له: أبسط كفيك فبسطهما فقال: أما في أحد كفيك ملك، وأما أنفك فإن فيه النبوة، ولا يتم ذلك إلا في بني زهرة، هل لك في شاعة؟ قال: لا. قال فتزوج في بني زهرة. قال: فلما رجع عبدالمطلب تزوج هالة بنت وهيب، وزوج عبدالله آمنة بنت وهب».
قال الحاكم: 3/192: «كانت في حجر عمها أهيب بن عبدمناف بن زهرة، وإن عبدالمطلب بن هاشم جاء بابنه عبدالله بن عبدالمطلب أبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فتزوج عبدالله آمنة بنت وهب، وتزوج عبدالمطلب هالة بنت أهيب بن عبدمناف بن زهرة، وهي أم حمزة بن عبدالمطلب في مجلس واحد، وكان»حمزة«قريب السن من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخاه من الرضاعة».
وروى ابن شاذان في الفضائل/6، عن الواقدي أن عقيل بن أبي وقاص أجرى عقد قران عبدالله بآمنة (علیهما السلام) فقال لوهب: «يا أبا الوداح زوجتَ كريمتك آمنة من ابن سيدنا عبدالمطلب على صداق أربعة آلاف درهم بيض هجرية جياد وخمس مائة مثقال ذهب أحمر؟ قال: نعم. ثم قال: يا عبدالله قبلت بهذا الصداق يا أيها السيد الخاطب، قال: نعم. ثم دعا لهما بالخير والكرامة، ثم أمر وهب أن تقدم المائدة فقدمت مائدة خضرة، فأتى من الطعام الحار والبارد والحلو والحامض فأكلوا وشربوا. قال ونثر عبدالمطلب على ولده قيمة ألف درهم من النثار، وكان متخذاً من مسك بنادق، ومن عنبر، ومن سكر ومن كافور. ونثر ذهب بقيمة ألف درهم عنبر».
أقول: والرواية طويلة، ذكرت أن عبدالله دخل بعروسه في ذلك اليوم، ولا بد أن يكون المخاطب عم آمنة أهيب أخ وهب لأنه كان وليها، وكان أبوها وهب توفي، كما تقدم. على أن هذه الرواية ربما كانت موضوعة.
ص: 122
في الكافي: 1/439: «حملت به أمه في أيام التشريق، عند الجمرة الوسطى، وكانت في منزل عبدالله بن عبدالمطلب».
وقال السهيلي: 1/183: «قال الزبير»بن بكار: «كان مولده في رمضان.وهذا القول موافق لقول من قال إن أمه حملت به في أيام التشريق. وذكروا أن الفيل جاء مكة في المحرم، وأنه ولد بعد مجئ الفيل بخمسين يوماً. وهو الأكثر والأشهر».
والمتفق عليه أن ولادته (صلی الله علیه و آله) في ربيع الأول، فلا يمكن أن يكون حمله في أيام التشريق في ذي الحجة. ولعل سبب الإشتباه أن عرس عبدالله كان في بيت أبيه عبدالمطلب في منى عند الجمرة، وهو البيت الذي بايع فيه الأنصار بيعة العقبة، فاشتبه الراوي وأضاف اليه الزمان، وتصور أنه كان في أيام التشريق.
ويؤيد ما قلناه الرواياتُ التي ذكرت مكان الحمل به دون زمانه، كقول الإمام الباقر (علیه السلام) «الكافي 4/209»: «أراد أن يذبحه، أي إسماعيل في الموضع الذي حملت أم رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند الجمرة الوسطى، فلم يزل مضربهم يتوارثون به كابر عن كابر، حتى كان آخر من ارتحل منه علي بن الحسين (علیه السلام) في شئ كان بين بني هاشم وبين بني أمية، فارتحل فضرب بالعرين».
رووا أن كاهنةً رأت النور في غرة والد النبي (صلی الله علیه و آله) فطلبت منه أن يتزوجها لتحمل منه، ولعله خبر صحيح لأن توقع ولادة النبي الموعود كان منتشراً.
قال الطبري: 2/6: «خرج عبدالمطلب بعبدالله ليزوجه ومر به على كاهنة من خثعم يقال لها فاطمة بنت مُر، متهودة من أهل تُبالة، قد قرأت الكتب، فرأت في وجهه نوراً، فقالت له: يافتى هل لك أن تقع عليَّ الآن وأعطيك مائة من الإبل.. فمضى به فزوجه آمنة بنت وهب بن عبدمناف بن زهرة».
ص: 123
وقال ابن سعد: 1/95: «المرأة التي عرضت نفسها على عبدالله بن عبدالمطلب: وقد اختلف علينا فيها، فمنهم من يقول كانت قتيلة بنت نوفل بن أسد بن عبدالعزى بن قصي أخت ورقة بن نوفل..وكانت تنظر وتعتاف» تتفرس«فمر بها عبدالله بن عبدالمطلب فدعته يستبضع منها، ولزمت طرف ثوبه، فأبى.. ومنهم من يقول كانت فاطمة بنت مُرّ الخثعمية».
وقال في الروض الأنف: 1/178: «وفي غريب ابن قتيبة: أن التي عرضت نفسها عليه هي: ليلى العدوية».
قال ابن سعد: 1/99: «خرج عبدالله بن عبدالمطلب إلى الشام إلى غزة، في عير من عيرات قريش يحملون تجارات، ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا، فمروا بالمدينة وعبدالله بن عبدالمطلب يومئذ مريض، فقال: أنا أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضاً شهراً، ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبدالمطلب عن عبدالله فقالوا: خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض فبعث إليه عبدالمطلب أكبر ولده الحارث فوجده قد توفي، ودفن في دار النابغة وهو رجل من بني عدي بن النجار في الدار التي إذا دخلتها فالدويرة عن يسارك، وأخبره أخواله بمرضه وبقيامهم عليه وما ولوا من أمره، وأنهم قبروه. فرجع إلى أبيه فأخبره فَوَجَدَ عليه عبدالمطلب وإخوته وأخواته وَجْداً شديداً». وفي رواية أن أباه عبدالمطلب أرسله إلى المدينة ليمتار لهم تمراً.
قال البلاذري في أنساب الأشراف: 1/96: «ورث رسول الله (صلی الله علیه و آله) من أبيه أم أيمن واسمها بركة فأعتقها، وخمسة أجمال أوارك«تأكل الأراك»وقطعة غنم، وسيفاً مأثوراً وورقاً«سيفاً قديماً ونقداً»فكانت أم أيمن تحضنه ويسميها أمي. وقال بعض الرواة: ورث أم أيمن من أمه، فأعتقها».
ص: 124
وورث النبي عن أبيه غلامه شَقْران الذي شارك في تجهيزه. تاريخ دمشق: 4/271.
قال الطبري: 2/5: «فخرج به عبدالمطلب حتى أتى به وهب بن عبدمناف بن زهرة، ووهب يومئذ سيد بني زهرة سناً وشرفاً، فزوجه آمنة بنت وهب، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً، وهي لِبَرَّة بنت عبدالعزى».
وتقدم في رواية الصدوق (رحمة الله) «كمال الدين/176» أن سيف بن ذي يزن كان يتوقع ظهور النبي (صلی الله علیه و آله) وأنه قال لعبدالمطلب: «هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد فيه، إسمه محمد، يموت أبوه وأمه ويكلفه جده وعمه، وقد ولد سراراً والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً، ليعز بهم أولياؤه، ويذل بهم أعداءه.. فهل أحسست شيئاً مما ذكرته؟ فقال: كان لي ابن وكنت به معجباً وعليه رفيقاً، فزوجته بكريمة من كرائم قومي، إسمها آمنة بنت وهب، فجاءت بغلام سميته محمداً، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه. فقال ابن ذي يزن: إن الذي قلتُ لك كما قلتُ لك، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود، فإنهم له أعداء».والمنمق/426. راجع: الأخبار الطوال/63، اليعقوبي: 1/165و 2/9، الطبقات: 5/533.
قال الصدوق في كمال الدين/196: «لما بلغ عبدالله بن عبدالمطلب زوجه عبدالمطلب آمنة بنت وهب الزهري، فلما تزوج بها حملت برسول الله (صلی الله علیه و آله)، فروي عنها أنها قالت: لما حملت به لم أشعر بالحمل ولم يصبني ما يصيب النساء من ثقل الحمل، فرأيت في نومي كأن آت أتاني فقال لي: قد حملت بخير الأنام، فلما حان وقت الولادة خف علي ذلك حتى وضعته، وهو يتقي الأرض بيده وركبتيه، وسمعت قائلاً يقول: وضعت خير البشرفعوذيه بالواحد الصمد من شر كل باغ وحاسد. فولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول يوم الإثنين. فقالت آمنة: لما سقط إلى الأرض اتقى الأرض بيديه
ص: 125
وركبتيه ورفع رأسه إلى السماء، وخرج مني نور أضاء ما بين السماء والأرض.
ورُميت الشياطين بالنجوم وحجبوا عن السماء، ورأت قريش الشهب والنجوم تسير في السماء ففزعوا لذلك وقالوا: هذا قيام الساعة، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة فأخبروه بذلك، وكان شيخاً كبيراً مجرباً فقال: أنظروا إلى هذه النجوم التي تهتدوا بها في البر والبحر، فإن كانت قد زالت فهو قيام الساعة وإن كانت هذه ثابته فهو لأمر قد حدث.
وأبصرت الشياطين ذلك فاجتمعوا إلى إبليس فأخبروه أنهم قد منعوا من السماء ورموا بالشهب، فقال: أطلبوا فإن أمراً قد حدث، فجالوا في الدنيا ورجعوا وقالوا: لم نر شيئاً، فقال: أنا لهذا، فخرق ما بين المشرق والمغرب فلما انتهى إلى الحرم وجد الحرم محفوفاً بالملائكة، فلما أراد أن يدخل صاح به جبرئيل (علیه السلام) فقال: إخسأ يا ملعون، فجاء من قبل حراء فصار مثل الصَُّرد [العصفور] قال: يا جبرئيل ما هذا؟ قال: هذا نبي قد ولد وهو خير الأنبياء، قال: هل لي فيه نصيب؟ قال: لا، قال: ففي أمته؟ قال: بلى، قال: قد رضيت».
وفي الكافي: 1/454 و 8/302 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان حيث طَلَقَتْ آمنة بنت وهب وأخذها المخاض بالنبي (صلی الله علیه و آله) حضرتها فاطمة بنت أسد امرأة أبي طالب فلم تزل معها حتى وضعت. لما ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) فُتح لآمنة بياض فارس وقصور الشام، فقالت إحداهما للأخرى: هل ترين ما أرى؟ فقالت: وما ترين؟ قالت: هذا النور الذي قد سطع ما بين المشرق والمغرب! فبينما هما كذلك إذا دخل عليهما أبوطالب فقال لهما: ما لكما من أي شئ تعجبان؟ فأخبرته فاطمة بالنور الذي قد رأت، فقال لها أبوطالب: ألا أبشرك؟ فقالت: بلى، فقال: أما إنك ستلدين غلاماً يكون وصي هذا المولود».
وفي الكافي: 1/452: «إصبري سبتاً أبشرك بمثله إلا النبوة، وقال: السبت ثلاثون سنة. وكان بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأميرالمؤمنين (علیه السلام) ثلاثون سنة».
يدل هذا على أن أباطالب وعبدالمطلب يعلمان بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله) وإمامة علي (علیه السلام) .
ص: 126
قال رواة السلطة إن النبي (صلی الله علیه و آله) ولد يوم الإثنين، وقال أهل البیت (علیهم السلام): وُلِد يوم الجمعة فجراً، ففي قرب الإسناد/299، عن علي بن جعفر قال: «جاء رجل إلى أخي «موسى بن جعفر (علیه السلام)» فقال له: جعلت فداك، إني أريد الخروج فادع لي. قال: ومتى تخرج؟ قال: يوم الإثنين. فقال له: ولمَ تخرج يوم الإثنين؟ قال: أطلب فيه البركة،لأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وُلد يوم الإثنين. فقال: كذبوا! وُلد رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم الجمعة، وما من يوم أعظم شؤماً من يوم الإثنين، يوم مات فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وانقطع فيه وحي السماء، وظُلمنا فيه حقنا!
ألا أدلك على يوم سَهْلٍ ألانَ الله تبارك وتعالى لداود فيه الحديد؟ فقال الرجل: بلى جعلت فداك. قال: أخرج يوم الثلاثاء».
وفي الحدائق الناضرة: 17/423 ملخصاً: «كان مولده بمكة في شعب أبي طالب يوم الجمعة بعد طلوع الفجر، سابع عشر شهر ربيع الأول عام الفيل، وهذا هو المشهور بين أصحابنا رضوان الله عليهم. وقيل لاثنتي عشرة مضت من الشهر، وقيل اليوم العاشر منه، وقيل الثاني. وبُعث (صلی الله علیه و آله) في اليوم السابع والعشرين من رجب، وله أربعون سنة. وقُبض بالمدينة يوم الإثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة عشر من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة. ونقل في الدروس قولاً بأنه قبض لاثنتي عشرة من شهر ربيع الأول، واختاره الكليني..وذكر جمع من أصحابنا منهم الشيخ في التهذيب والعلامة في المنتهى أنه قبض مسموماً».
وقال الكليني في الكافي: 1/439: «ولدته في شعب أبي طالب في دار محمد بن يوسف، في الزاوية القصوى عن يسارك وأنت داخل الدار، وقد أخرجت الخيزران ذلك البيت فصيرته مسجداً يصلي الناس فيه...
وتوفي أبوه عبدالله بن عبدالمطلب بالمدينة عند أخواله وهو ابن شهرين، وماتت أمه آمنة بنت وهب بن عبدمناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وهو ابن أربع سنين، ومات عبدالمطلب وللنبي (صلی الله علیه و آله) نحو ثمان
ص: 127
سنين، وتزوج خديجة، وهو ابن بضع وعشرين سنة».
«الدار التي اشتراها محمد بن يوسف أخو الحجاج من ورثة عقيل بن أبي طالب بمائة ألف دينار، ثم صيرتها الخيزران أم الرشيد مسجداً يصلي فيه الناس ويزورونه ويتبركون به، وبقي على حالته تلك، فلما أخذ الوهابيون مكة في عصرنا هذا هدموه ومنعوا من زيارته! على عادتهم في المنع من التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، وجعلوه مربطاً للدواب».أعيان الشيعة: 1/219 والصحيح: 2/68.
أقول: إسم المكان شعب أبي طالب (رحمة الله)، أو شعب بني هاشم، ويسمونه الآن شِعب علي (علیه السلام)، وقد رأيتُه سنة 1961ميلادية وكان واضح المعالم، وفي يسار مدخله بيت عبدالله والد النبي (صلی الله علیه و آله) وهو مكان مولده الشريف، وكان يومها مكتبة باسم: مكتبة مكة، ثم أراد مشايخهم هدمه فمنعتهم الحكومة خوفاً من المسلمين، فأبقوخالياً إلى يومنا هذا سنة 1438، ينتظرون فرصة لهدمه!
ورأيت يومها بيت أبي طالب (رحمة الله) داخل الشعب إلى اليمين، في مكان مرتفع، وقد جعلوه مدرسة باسم: مدرسة النجاح، ثم أزالوه مع البيوت، وأزالوا أكثر الجبلين اللذين يقع الشعب بينهما.
وفي الجهة الغربية مقابل شعب أبي طالب، بيت خديجة (علیها السلام) وكان في سوق الليل أو سوق الذهب، ويسمى: مولد فاطمة الزهراء (علیها السلام)، وجعلوه مدرسة للبنات، ثم أزالوه فيما أزالوا، بل أمعنوا في أذاهم للنبي (صلی الله علیه و آله) فجعلوه مرافق!
فكأن لهؤلاء الوهابية عداوةً مع آثار النبي وآله الأطهار (صلی الله علیه و آله) فهم يبادرون إلى إزالتها حتى لو كانت مساجد أو مملوكة للناس! لكنهم حافظوا على حصن عدو الإسلام اليهودي كعب بن الأشرف، الذي حاول اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله) وأبقوه بسوره وساحته وبئره، وغرفه العشرة، بعهدة بلدية المدينة المنورة، جنب حديقة البلدية العامة! وتجد صورته في شبكة النت!
ص: 128
قال الإمام الباقر (علیه السلام) «الكافي: 8/300»: «لما ولد النبي (صلی الله علیه و آله) جاء رجل من أهل الكتاب «الحاخام يوسف» إلى ملأ من قريش فيهم هشام بن المغيرة، والوليد بن المغيرة، والعاص بن هشام، وأبو وجزة بن أبي عمرو بن أمية، وعتبة بن ربيعة، فقال: أوُلدَ فيكم مولودٌ الليلة؟ فقالوا: لا، قال: فولد إذاً بفلسطين غلام اسمه أحمد به شامة كلون الخزِّ الأدكن، ويكون هلاك أهل الكتاب واليهود على يديه، قد أخطاكم والله يا معشر قريش! فتفرقوا وسألوا فأخبروا أنه ولد لعبدالله بن عبدالمطلب غلام، فطلبوا الرجل فلقوه فقالوا: إنه قد ولد فينا والله غلام! قال: قبل أن أقول لكم أو بعدما قلت لكم؟ قالوا: قبل أن تقول لنا، قال: فانطلقوا بنا إليه حتى ننظر إليه، فانطلقوا حتى أتوا أمه فقالوا: أخرجي ابنك حتى ننظر إليه، فقالت: إن ابني والله لقد سقط وما سقط كما يسقط الصبيان، لقد اتقى الأرض بيديه ورفع رأسه إلى السماء فنظر إليها، ثم خرج منه نور حتى نظرت إلى قصور بصرى، وسمعت هاتفاً في الجو يقول: لقد ولدته سيد الأمة، فإذا وضعته فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، وسميه محمداً، قال: فأخرجيه، فأخرجته فنظر إليه ثم قلبه ونظر إلى الشامة بين كتفيه فخرَّ مغشياً عليه!فأخذوا الغلام فأدخلوه إلى أمه وقالوا: بارك الله لك فيه. فلما خرجوا أفاق فقالوا له: ما لك ويلك؟ قال: ذهبت نبوة بني إسرائيل إلى يوم القيامة، هذا والله من يُبيرهم!ففرحت قريش بذلك، فلما رآهم قد فرحوا قال: قد فرحتم!أما والله ليسطون بكم سطوةً يتحدث بها أهل المشرق والمغرب».
و في أمالي الصدوق/360، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان إبليس لعنه الله يخترق السماوات السبع، فلما ولد عيسى (علیه السلام) حجب عن ثلاث سماوات. وكان يخترق أربع سماوات، فلما ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) حجب عن السبع كلها، ورميت الشياطين بالنجوم، وقالت قريش: هذا قيام الساعة الذي كنا نسمع أهل الكتب يذكرونه! وقال عمرو بن أمية، وكان من أزجر أهل الجاهلية: أنظروا
ص: 129
هذه النجوم التي يهتدى بها، ويعرف بها أزمان الشتاء والصيف، فإن كان رمي بها فهو هلاك كل شئ، وإن كانت ثبتت ورمي بغيرها، فهو أمرحدث!
وأصبحت الأصنام كلها صبيحة مولد النبي (صلی الله علیه و آله) ليس منها صنم إلاوهو منكبٌّ على وجهه، وارتجس في تلك الليلة إيوان كسرى، وسقطت منه أربعة عشر شرفة، وغاضت بحيرة ساوة، وفاض وادي السماوة، وخمدت نيران فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ورأى المؤبذان «عالم المجوس» في تلك الليلة في المنام إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة وانسربت في بلادهم، وانقصم طاق الملك كسرى من وسطه، وانخرقت عليه دجلة العوراء، وانتشر في تلك الليلة نور من قبل الحجاز، ثم استطار حتى بلغ المشرق، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح مُنكَّساً، والملك مُخْرَسّاً لايتكلم يومه ذلك.
وانتزع عِلْمُ الكهنة وبطل سحر السحرة، ولم تبق كاهنة في العرب إلا حجبت عن صاحبها، وعظمت قريش في العرب، وسموا آل الله عزوجل. قال أبوعبدالله الصادق (علیه السلام): إنما سموا آل الله عزوجل، لأنهم في بيت الله الحرام. وقالت آمنة: إن ابني والله سقط فاتقى الأرض بيده، ثم رفع رأسه إلى السماء فنظر إليها، ثم خرج مني نور أضاء له كل شئ، وسمعت في الضوء قائلاً يقول: إنك قد ولدت سيد الناس فسميه محمداً، وأتيَ به عبدالمطلب لينظر إليه وقد بلغه ما قالت أمه، فأخذ فوضعه في حجره، ثم قال:
الحمد لله الذي أعطاني *** هذا الغلام الطيب الأردانِ
قد ساد في المهد على الغلمانِ
ثم عوذه بأركان الكعبة وقال فيه أشعاراً.
قال: وصاح إبليس لعنه الله في أبالسته فاجتمعوا إليه فقالوا: ما الذي أفزعك يا سيدنا؟ فقال لهم: ويلكم، لقد أنكرت السماء والأرض منذ الليلة، لقد حدث في الأرض حدث عظيمٌ ما حدث مثله منذ رفع عيسى بن مريم، فاخرجوا وانظروا ما هذا الحدث الذي قد حدث، فافترقوا ثم اجتمعوا إليه فقالوا: ما وجدنا شيئاً!
ص: 130
فقال إبليس: أنا لهذا الأمر. ثم انغمس في الدنيا فجالها حتى انتهى إلى الحرم فوجد الحرم محفوفاً بالملائكة، فذهب ليدخل فصاحوا به فرجع، ثم صار مثل الصِّر وهو العصفور فدخل من قبل حراء فقال له جبرئيل: وراءك لعنك الله. فقال له: حرف أسألك عنه يا جبرئيل، ما هذا الحدث الذي حدث منذ الليلة في الأرض؟ فقال له: ولد محمد (صلی الله علیه و آله)! فقال له: هل لي فيه نصيب؟ قال: لا. قال: ففي أمته؟ قال: نعم. قال: رضيت».
وفي دعائم الإسلام: 2/142 في قوله تعالى في سورة الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا: «عن علي (علیه السلام) قال: كنا مع رسول الله ذات ليلة إذ رمي نجم فاستضاء، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) للقوم: ما كنتم تقولون في وقت الجاهلية إذا رأيتم مثل هذا؟ قالوا: كنا نقول: مات عظيم وولد عظيم، فقال: فإنه لايرمى بها لموت أحد ولا لحياة أحد، ولكن ربنا إذا قضى أمراً سبَّح حملة العرش فقالوا: قضى ربنا بكذا، فيسمع ذلك أهل السماء التي تليهم فيقولون ذلك حتى يبلغ ذلك أهل السماء الدنيا. فتسترق الشياطين السمع، فربما اعتقلوا شيئاً فأتوا به الكهنة، فيزيدون وينقصون، فتخطئ الكهنة وتصيب.
ثم إن الله منع السماء بهذه النجوم فانقطعت الكهانة فلا كهانة، وتلا قول الله عزوجل: إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ. وقوله جل ثناؤه: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَداً».
في الصحيح: 2/63: «هو أبوالقاسم محمد (صلی الله علیه و آله) بن عبدالله، بن عبدالمطلب شيبة الحمد، بن هاشم، بن عبدمناف، بن قصي، بن كلاب، بن مرة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن نضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان.
قالوا: إن هذا هو المتفق عليه من نسبه الشريف، أما ما فوقه ففيه اختلاف
ص: 131
كثير، غير أن مما لا شك فيه هو أن نسب عدنان ينتهي إلى إسماعيل (علیه السلام) .
وروي أنه (صلی الله علیه و آله) قال: إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا».
وفي نهاية الإرب في معرفة أنساب العرب: 1/10: «أما عمود نسب النبي (صلی الله علیه و آله) فعلى ما ذكره ابن إسحاق في السيرة وتبعه عليه ابن هشام... ثم أكمل النسب فقال: بن عدنان، بن أدد، بن مقوم، بن ناحور، بن تارخ، بن يعرب، بن يشجب، بن نابت، بن إسماعيل، بن إبراهيم، بن تارخ وهو آزر، بن تاخور بن شارخ، بن أرغو، بن فالغ، بن عابر، بن شالخ، بن أرفخشد، بن سام، بن نوح، بن لامك، بن متوشلخ، بن أخنوخ وهو إدريس، بن يرد، بن مهلائيل، بن قنين، بن يافت بن شيث، بن آدم (علیه السلام) .والإتفاق على هذا النسب الشريف إلى عدنان. وفيما بعد عدنان إلى إسماعيل فيه خلاف كثير».
وفي شعب الإيمان للبيهقي: 2/137: «نسبة رسول الله (صلی الله علیه و آله) صحيحة إلى عدنان، وما وراء ذلك فليس فيه شئ يعتمد.. وذلك لاختلاف النسابين في ذلك، منهم من يزيد ومنهم من ينقص، ومنهم من يُغَيِّر».
أقول: اتفق المؤرخون على أسماء أجداد النبي (صلی الله علیه و آله) إلى عدنان، وهم واحد وعشرون جداً، ثم ذكروا ثمانية أجداد إلى إبراهيم (علیه السلام)، وسبعاً وعشرين جداً إلى آدم (علیه السلام)، لكن هذا لايتفق مع المدة التي رووها، وهي 600 سنة إلى عيسى (علیه السلام)، ثم1270سنة إلى موسى (علیه السلام)، ثم 500 سنة إلى إبراهيم (علیه السلام)، خاصة إذا افترضنا لكل ثلاثة آباء قرناً.
وقد بنوا كلامهم وكتبهم على رواية اليهود بأن عمر الأرض سبعة آلاف سنة! وروى العياشي: 1/31 عن الصادق (علیه السلام) أن الله أسكن في الأرض الملائكة والجن قبل آدم، وأنه قدر لآدم عشرة آلاف عام. لكنها ضعيفة لايعتمد عليها.
وروي عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) أنه قال لأبي حمزة الثمالي: «أتظن أن الله لم يخلق خلقاً سواكم؟ بلى والله لقد خلق الله ألف ألف آدم، وألف ألف عالم، وأنت والله في آخر تلك العوالم». مشارق أنوار اليقين/60.
وأقوال المؤرخين في عمرالإنسان على الأرض كلها ظنونٌ ليس فيها علم ولا اطمئنان، وكذا قول علماء الطبيعة إن عمرالإنسان على الأرض ملايين السنين.
ص: 132
ومعنى قوله (صلی الله علیه و آله): إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا، أن ما بأيديكم بعد عدنان غيردقيق، ولعل معناه أن معلوماتكم عن التاريخ خطأ، وتصحيحها متشعب ولم يؤمر به النبي (صلی الله علیه و آله)! راجع الإختصاص/50، البحار: 54/86، ابن خلدون: 2 ق: 1/3 و298، الحاكم: 2/598، كشف الخفاء: 2/314، تفسير الرازي: 19/179
وقصة الحضارة مجلد: 34.
أكثر المؤرخون والمحدثون من الرواية في رضاع النبي (صلی الله علیه و آله)، وضاعت الحقيقة لتفاوت مروياتهم ووجود المكذوب فيها. فقالوا: إن أمه لم ترضعه لأنها كانت قليلة اللبن، أو أرضعته أياماً قليلة، ثم أرضعته ثويبة أمة أبي لهب أياماً، ثم جاءت حليمة! وقصدهم بذلك مدح أبي لهب والطعن في أسرة النبي (صلی الله علیه و آله) ولذا قالوا: إن المرضعات زهدن فيه لأنه يتيم، مع أنه جده عبدالمطلب رئيس قريش والعرب، ومطعم الحجيج، والناس تتنافس للتعامل معه!
والصحيح أن أمه (علیها السلام) أرضعته مدة سنة أو أكثر، ثم أعطته إلى حليمة لينشأ في باديتهم قرب الطائف، كما كانت عادة أهل مكة.
قال الشهيد الثاني (رحمة الله) في شرح اللمعة: 5/165 والمسالك: 1/376: «قال النبي (صلی الله علیه و آله): أنا أفصح العرب بَيْدَ أني من قريش ونشأت في بني سعد، وارتضعت من بني زهرة».فافتخر بالرضاع كما افتخر بالنسب، وهذه القبائل أفصح العرب.
وفي الإختصاص/187، أن أعرابياً سأله: «يا رسول الله من أَدَّبَكَ؟ قال: الله أدبني وأنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، وربيت في حجرٍ من هوازن».
ورواه من السنيين: النووي في المجموع: 18/227، ابن حجر في تلخيص الحبير: 4/13 والمهذب في فقه الشافعي للشيرازي: 3/145.
فرضاعه الأول (صلی الله علیه و آله) من أمه آمنة بنت وهب (علیها السلام) هو الأصل والمؤثر في شخصيته. ورضاعه الثاني من حليمة تكميلٌ أو إضافة! فقوله (صلی الله علیه و آله): ارتضعت
ص: 133
من بني زهرة، معناه رضاعاً كاملاً عرفاً، لمدة سنة ونحوها.
وتتعجب من كثرة روايتهم: «أنا أفصح من نطق بالضاد، بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد». وقلة روايتهم حديث رضاعه من أمه (صلی الله علیه و آله)، وكذلك كثرة روايتهم افتخاره بنشأته في بني سعد، كالذي رواه الطبراني في الكبير: 6/36: «عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أنا النبي لا كذب، أنا بن عبدالمطلب، أنا أعرب العرب، ولدتني قريش ونشأت في بني سعد بن بكر، فأنى يأتيني اللحن». والسيوطي في الصغير: 1/411 والخصائص: 1/63 والعجلوني: 1/206 وابن قتيبة في المعارف/132، ابن منظور: 3/99 والفائق: 1/9و126.
والظاهر أنه (صلی الله علیه و آله) كرر ذلك في مناسبات عديدة، ليذعن العرب لنبوته، ففي معاني الأخبار/320: «عن محمد بن إبراهيم التميمي قال: كنا عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) فنشأت سحابة فقالوا: يا رسول الله هذه سحابة ناشئة. فقال: كيف ترون قواعدها؟ قالوا: يا رسول الله ما أحسنها وأشد تمكنها، قال: كيف ترون بواسقها؟قالوا: يا رسول الله ما أحسنها وأشد تراكمها.قال: كيف ترون جونها؟ قالوا: يا رسول الله ما أحسنه وأشد سواده.قال: فكيف ترون رحاها؟ قالوا: يا رسول الله ما أحسنها وأشد استدارتها. قال: فكيف ترون برقها أخفواً أم وميضاً أم يشق شقاً؟ قالوا: يا رسول الله بل يشق شقاً، فقال رسول الله: الحيا. فقالوا: يا رسول الله ما أفصحك، وما رأينا الذي هو أفصح منك! فقال: وما يمنعني من ذلك، وبلساني نزل القرآن بلسان عربي مبين.
ثم روى الصدوق (رحمة الله) تفسيره عن أبي عبيد قال: «القواعد: هي أصولها المعترضة في آفاق السماء، وأحسبها تشبه بقواعد البيت وهي حيطانه، والواحدة قاعدة، قال الله عزوجل: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ. وأما البواسق ففروعها المستطيلة إلى وسط السماء إلى الأفق الآخر، وكذلك كل طويل فهو باسق، قال الله عزوجل: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ. والجُون هو الأسود اليحمومي وجمعه جُوَن. وأما قوله: فكيف ترون رحاها، فإن رحاها استدارة السحابة في السماء ولهذا قيل: رحا الحرب، وهو الموضع الذي يستدار فيه لها، والخَفْوُ الإعتراض من البرق في نواحي الغيم وفيه لغتان، ويقال: خفا البرق يخفو خفواً ويخفى خفياً. والوميض: أن يلمع قليلاً
ص: 134
ثم يسكن، وليس له اعتراض، وأما الذي يشق شقاً فاستطالته في الجو إلى وسط السماء، من غير أن يأخذ يميناً ولا شمالاً. قال مصنف هذا الكتاب: والحيا: المطر».
تناقضت روايتهم في كيفية أخذ حليمة له ومدة إرضاعها إياه! ولم أجد ما يطمأن اليه في ذلك عن أئمة أهل البیت (علیهم السلام)، والمؤكد أن عبدالمطلب (رحمة الله) سلمه إلى زوجها الحارث السعدي، فأخذه إلى منازلهم في بادية الطائف، وأرضعته حليمة مدة من الزمن، وأعادته إلى جده فأكرمهم.
ومن المقولات الكاذبة قولهم إنه (صلی الله علیه و آله) كان يتيماً فزهدت فيه المرضعات، مع أنه حفيد عبدالمطلب زعيم العرب! وكذلك قولهم إن ثويبة أو ثويبية مولاة أبي لهب أرضعته (صلی الله علیه و آله)! وغرضهم تخفيف العذاب عن أبي لهب «البخاري: 6/125»لأنه حليف أعداء النبي (صلی الله علیه و آله) الذين حكموا من بعده!
وقال الكراجكي (رحمة الله) في كنز الفوائد/72: «وشرف الله تعالى حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية برضاعه وخصها بتربيته، وكانت ذات عقل وفضل، فروت من آياته ما يبهر عقول السامعين، وأغناها الله ببركته في الدنيا والدين، وكان لايرضع إلا من ثديها اليمين. قال ابن عباس: ألهم العدل حتى في رضاعه، لأنه علم أن له شريكاً، فناصفه عدلاً منه (صلی الله علیه و آله)! قالت حليمة: ولم أر قط ما يُرى للأطفال، طهارةً ونظافةً، وإنما كان له وقت واحد ثم لايعود إلى وقته من الغد، وما كان شئ أبغض إليه من أن يرى جسده مكشوفاً، فكنت إذا كشفته يصيح حتى أستر عليه..وكان بنوسعيد يرون البركات بمقامه معهم وسكناه بينهم، حتى أنهم كانوا إذا عرض لدوابهم بؤس أتوا بها إليه ليمسها بيده، فيزول ما بها وتعود إلى أحسن حالها! ولم يزل كذلك إلى أن ردته حليمة إلى أهله، فاشتمل عليه جده عبدالمطلب يحبوه التُّحف ويمنحه الطُّرف، ويعد قريشاً به ويخبرهم بما يكون من حاله، إلى أن دنت وفاته فوضعه في حجر أبي طالب وأوصاه به،
ص: 135
وأمره بحياطته ورعايته، وعرفه ما يكون من أمره».
وفي المناقب: 1/32: «وروي عن حليمة أنه جلس محمد وهو ابن ثلاثة أشهر، ولعب مع الصبيان وهو ابن تسعة، وطلب مني أن يسير مع الغنم يرعى وهو ابن عشرة، وناضل الغلمان بالنبل وهو ابن خمسة عشر، وصارع الغلمان وهو ابن ثلاثين «شهراً» ثم رددته إلى جده».
وحديث المناقب الآنف إنها أعادته وعمره ثلاثون شهراً أي سنتين ونصفاً. قريب من قول ابن الجوزي في عيون التاريخ: 1/18: «ثم أرضعته حليمة بنت عبدالله السعدية، وردته إلى أمه بعد سنتين وشهرين».
لكن في رواية العدد القوية/122 والمناقب: 1/149 عن كتاب العروس وتاريخ الطبري: «ثم أرضعته حليمة السعدية، فلبث فيهم خمس سنين».
وفي صفوة الصفوة/27: «وقال ابن قتيبة: لبث فيهم خمس سنين..فكان عند أمه آمنة إلى أن بلغ ست سنين، ثم خرجت به إلى المدينة إلى أخواله بني عدي بن النجار تزورهم به ومعها أم أيمن تحضنه فأقامت به عندهم شهراً، ثم رجعت به إلى مكة، فتوفيت بالأبواء، فقبرها هنالك».
وفي تاريخ الذهبي: 1/46: «ثم أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية وأخذته معها إلى أرضها، فأقام معها في بني سعد نحو أربع سنين، ثم ردته إلى أمه».
وروى ابن سعد أنها جاءت به بعد أربع سنين لما جاء الملكان وشقا صدره، ثم عادت به فبقي سنة! لكن خبر شق الصدر عندنا مكذوب. والمرجح عندنا: أن أمه (صلی الله علیه و آله) أرضعته سنة أو نحوها،ثم أخذته حليمة السعدية فبقي عندها في بني سعد نحو أربع سنين. ويحتمل أن تكون حليمة في مدة وجوده عندها، تأتي به إلى أمه فيبقى أياماً أو شهراً، ثم تاخذه، لأن مكان حليمة قرب الطائف وهو على بعد يومين أو أقل من مكة، وهذه مسافة قريبة يومها.
ص: 136
رويَ أن حليمة السعدية توفيت قبل هجرته (صلی الله علیه و آله) فبكى لها.
وفي الكافي: 2/161 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أتته أخت له من الرضاعة، فلما نظر إليها سُرَّ بها وبسط ملحفته لها فأجلسها عليها، ثم أقبل يحدثها ويضحك في وجهها، ثم قامت وذهبت وجاء أخوها فلم يصنع به ما صنع بها، فقيل له يا رسول الله صنعت بأخته ما لم تصنع به وهو رجل؟ فقال: لأنها كانت أبرُّ بوالديها منه».
وفي جواهر العقود: 2/161: «روي أن وفد هوازن قدموا على النبي (صلی الله علیه و آله) فكلموه في سبي أوطاس: فقال رجل من بني سعد: يا محمد، إنا لو كنا ملَّحْنَا للحارث بن
أبي شمر«أي أرضعنا لملك الشام» أو للنعمان بن المنذر «ملك الحيرة» ثم نزل منزلك هذا منا لحفظ ذلك لنا، وأنت خير المكفولين فاحفظ ذلك. وإنما قالوا له ذلك لأن حليمة التي أرضعت النبي كانت من بني سعد».
وفي البحار: 22/262: «لم يكن لرسول الله (صلی الله علیه و آله) قرابة من جهة أمه إلا من الرضاعة فإن أمه آمنة بنت وهب لم يكن لها أخ ولا أخت. إلا أن بني زهرة يقولون: نحن أخواله لأن آمنة منهم، ولم يكن لأبويه عبدالله وآمنة ولد غيره.. وكان له خالةٌ من الرضاعة يقال لها سلمى، وهي أخت حليمة بنت أبي ذؤيب، وله أخوان من الرضاعة عبدالله بن الحارث وأنيسة بن الحارث، أبوهما الحارث بن عبدالعزى بن سعد بن بكر بن هوزان».
وسمتها الرواية الشيماء، وسماها في الفضائل/87: حُرَّة، وروى قصتها مع الحجاج، قال: «لما وردت حرة بنت حليمة السعدية على الحجاج بن يوسف الثقفي فمثلت بين يديه قال لها: الله جاء بك، فقد قيل عنك إنك تفضلين علياً على أبي بكر وعمر وعثمان؟! فقالت: لقد كذب الذي قال إني أفضله على هؤلاء خاصة؟ قال: وعلى من غير هؤلاء؟ قالت: أفضله على آدم ونوح ولوط وإبراهيم وعلى موسى وداود وسليمان وعيسى بن مريم! فقال لها: ويلك أقول
ص: 137
لك إنك تفضلينه على الصحابة وتزيدين عليهم سبعة من الأنبياء من أولي العزم من الرسل؟إن لم تأت ببيان ما قلت وإلا ضربت عنقك! فقالت: ما أنا مفضلته على هؤلاء الأنبياء، ولكن الله عزوجل فضله عليهم في القرآن..الخ.».
أقول: لعل هذه ابنة الشيماء أخت النبي (صلی الله علیه و آله) من الرضاعة، فلو كانت نفسها لكان عمرها في زمن الحجاج أكثر من مئة سنة!
هذا، وقد رووا كثيراً من معجزاته (صلی الله علیه و آله) في رضاعه ونشأته في بني سعد، وبعضها مقبول، وأكثرها مرسل، وبعضها مردود، كحديث شق الصدر.
كان قبر عبدالله والد نبينا (صلی الله علیه و آله) في المدينة المنورة مزاراً إلى الأمس، بناه المسلمون من قديم وآخرهم سلاطين مصر والدولة العثمانية، وقد زرته في سنة 1964 وسنة 1965ميلادية، وكان بيتاً داخل سوق المدينة غربي المسجد، وكانت واجهة بابه الخارجي وعتبته أحجاراً، نقشت عليها كتيبة بالعربية والتركية. وقد أقفله مشايخ الوهابية يومها مقدمة لهدمه!
أما الآن فأزالوه ودخل مكانه في توسعة ساحة المسجد النبوي، ولم يبق له أثر!
كما أن قبر والدته آمنة (علیها السلام) في الأبواء في طريق مكة، كان مزاراً للأوفياء لنبيهم وأسرته (صلی الله علیه و آله)، ويعرف مكانه اليوم باسم «الخريبة» في منطقة الفرع.
قال في مراصد الإطلاع: 1/19: «الأبواء: قرية من أعمال الفرع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً. وبالأبواء قبر آمنة أم النبي».
وقد أفتى فقهاؤنا باستحباب زيارة قبروالديه (صلی الله علیه و آله) وهذا نص زيارة أمه آمنة (علیها السلام):
«السلام عليك أيتها الطاهرة المطهرة، السلام عليك يا من خصها الله بأعلى الشرف، السلام عليك يا من سطع من جبينها نور سيد الأنبياء فأضاءت به الأرض والسماء. السلام عليك يا من نزلت لأجلها الملائكة وضربت لها حجب الجنة.
السلام عليك يا من نزلت لخدمتها الحور العين وسقنها من شراب الجنة وبشرنها
ص: 138
بولادة خير الأنبياء. السلام عليك يا أم رسول الله، السلام عليك يا أم حبيب الله. فهنيئاً لك بما آتاك الله من فضله، والسلام عليك وعلى رسول الله ورحمة الله وبركاته».
وشذ الوهابية عن كافة المسلمين فحرموا زيارة قبر أم النبي3وعاقبوا من زاره!
ثم طغوا وفجَّروا القبر بالديناميت!
وكتب عبدالحسين البصري في شبكة الموسوعة الشيعية: 28/3 /2000 موضوعاً بعنوان«ديناميت السلفية»! قال فيه:
«للتاريخ فقط، ولتبقى صفحة سوداء في وجة خوارج العصر، نؤرخ لحدث وقع أصاب كبد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ألا وهو تفجير قبر آمنه بنت وهب أم رسول الله (صلی الله علیه و آله)، الواقع في الأبواء وذلك في الثامن من مارس سنة 2000 ميلادي!
ألا لعنة الله على القوم الظالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
ثم كتب في رد مزاعم الوهابيين بأن زيارة قبر آمنة (علیها السلام) شرك بالله تعالى!
قال الحموي في معجم البلدان: 1/79: «وبالأبواء قبر آمنة بنت وهب أم النبي وكان السبب في دفنها هناك أن عبدالله والد رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان قد خرج إلى المدينة يمتار تمراً فمات بالمدينة، فكانت زوجته آمنة بنت وهب بن عبدمناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، تخرج في كل عام إلى المدينة تزور قبره، فلما أتى على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ست سنين خرجت زائرة لقبره ومعها عبدالمطلب وأم أيمن حاضنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما صارت بالأبواء منصرفةً إلى مكة ماتت بها، ويقال إن أباطالب زار أخواله بني النجار بالمدينة، وحمل معه آمنة أم رسول الله، فلما رجع منصرفاً إلى مكة، ماتت آمنة بالأبواء».
وقال ابن سعد: 1/116: «فنزلت به في دار النابغة فأقامت به عندهم شهراً. فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يذكر أموراً كانت في مقامه ذلك: لما نظر إلى أطَمِ بني عدي
ص: 139
بن النجار عرفه وقال: كنت ألاعب أنيسة جارية من الأنصار على هذا الأطم، وكنت مع غلمان من أخوالي نطيِّر طائراً كان يقع عليه. ونظر إلى الدار فقال: هاهنا نزلت بي أمي وفي هذه الدار قبر أبي عبدالله بن عبدالمطلب، وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار.
وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إليه، فقالت أم أيمن: فسمعت أحدهم يقول هو نبي هذه الأمة وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كله من كلامه،
ثم رجعت به أمه إلى مكة فلما كانوا بالأبواء توفيت آمنة بنت وهب فقبرها هناك، فرجعت به أم أيمن على البعيرين اللذين قدموا عليهما مكة، وكانت تحضنه مع أمه ثم بعد أن ماتت. فلما مرَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) في عمرة الحديبية بالأبواء قال: إن الله قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فأتاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأصلحه وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكاء رسول الله (صلی الله علیه و آله)».
أقول: زعم أتباع مذاهب الخلافة أن والدة النبي (صلی الله علیه و آله) كافرة وأنها في جهنم! وزعموا أنه استأذن ربه في زيارة قبرها وهو في طريقه إلى الحديبية فأذن له، فبكى وأجهش بالبكاء طويلاً وأبكى المسلمين معه، لكنه استأذن ربه أن يستغفر لها فلم يأذن له، وأبقاها في نار جهنم والنبي (صلی الله علیه و آله) يرى عذابها!
ففي شرح مسند أبي حنيفة للقاري/335: «فمكث طويلاً ثم اشتد بكاؤه حتى ظننا أنه لا يسكن.. قال: استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، فاستأذنته في الشفاعة فأبى! فبكيت رحمة لها»!
وفي تفسير الطبري: 11/58: «وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها حتى نزلت: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ»!
وفي السيرة الحلبية: 1/173: «وفي رواية إن جبريل ضرب في صدره قال:
لا تستغفر لمن مات مشركاً، فما رؤى باكياً أكثر منه يومئذ»!
وقال محمد ناصر الألباني في أحكام الجنائز/187: «عن أبي هريرة قال:
ص: 140
زار النبي (صلی الله علیه و آله) قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي»! وصحيح مسلم: 3/65 وأبو داود: 2/72.
وهكذا صوروا الرحمن الرحيم عزوجل خشناً قاسياً،لايرحم عواطف نبيه الإنسانية تجاه والدته، ولا يعبأ ببكائه وحرقته عليها، ولايسمح له أن يقول: اللهم اغفر لها! فالمهم عندهم أن يكون آباء النبي (صلی الله علیه و آله) وأمهاته في النار! حتى لايكونوا مؤمنين فيرثوا إسماعيل (علیه السلام) وتكون الخلافة في عترة النبي (صلی الله علیه و آله)!
ومن تناقضهم أنهم كذبوا أنفسهم، فرووا أن هذه الآية نزلت قبل الحديبية وأن سبب نزولها غير هذا! ثم كذبوا أنفسهم في موضع آخر فرووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) شفع لعمه أبي طالب فنقله من قعر جهنم إلى ضحضاحها!صحيح بخاري: 4/247!
ثم كذبوا أنفسهم فرووا في قوله تعالى: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ «قال (صلی الله علیه و آله): أجورهم: يدخلهم الجنة، ويزيدهم من فضله: الشفاعة فيمن وجبت لهم النار، ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا». الدر المنثور: 2/249.
وروى ابن ماجة: 2/1215: «يُصَفُّ الناس يوم القيامة صفوفاً فَيَمُرُّ الرجل من أهل النار على الرجل فيقول: يا فلان أما تذكر يوم استسقيت فسقيتك شربة؟ قال: فيشفع له. ويمر الرجل فيقول: أما تذكر يوم ناولتك طهوراً؟ فيشفع له»!
فتراهم عندما يصلون إلى والدي النبي (صلی الله علیه و آله) وأجداده وعمه أبي طالب: يضيقون رحمة الله وشفاعة نبيه (صلی الله علیه و آله) حتى لا تشملهم، ويقلدون اليهود فينسبون إلى الله تعالى الشدة والقسوة على رسوله (صلی الله علیه و آله)!
والسبب: أنهم بحاجة إلى تكفير أسرته، ليرثوا سلطانه، ويبعدوا عترته:!
1. كانت أم أيمن حاضنة النبي (صلی الله علیه و آله)، ورثها من أبيه فأعتقها: «وورث خمسة أجمال أوارك «يرعون الأراك» وقطيعة غنم، وسيفاً مأثوراً «تاريخياً» وورِقاً «نقداً». «المناقب: 1/147 والطبقات: 1/100».«كان إسمها بركة، فأعتقها وزَوَّجها
ص: 141
عبيد الخزرجي بمكة، فولدت له أيمن فمات زوجها فزوجها النبي (صلی الله علیه و آله) من زيد، فولدت له أسامة، أسود يشبهها، فأسامة وأيمن أخَوَان لأم».البحار: 22/263.
كانت جارية سوداء نوبية «كتاب سليم/389» «فلما ولدت آمنة النبي بعدما توفي أبوه، حضنته أم أيمن حتى كبر، ثم أعتقها النبي (صلی الله علیه و آله) ثم أنكحها زيد بن حارثة. توفيت بعد النبي (صلی الله علیه و آله) بخمسة أشهر». قاموس الرجال: 12/193.
روي أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة، فليتزوج أم أيمن، فتزوجها زيد بن حارثة، فولدت له أسامة بن زيد». الطبقات: 8/224.
وكانت أم أيمن تخطئ في العربية: «قالت يوم حنين: سبت الله أقدامكم، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أسكتي يا أم أيمن فإنك عسراء اللسان». الطبقات: 8/225.
2. لما توفيت آمنة والدة النبي (صلی الله علیه و آله) في رجوعها من المدينة: «فرجعت به أم أيمن على البعيرين اللذين قدموا عليهما مكة، وكانت تحضنه مع أمه، ثم بعد أن ماتت». الطبقات: 1/116.
3. في الطبقات: 1/117 وتاريخ دمشق: 3/85: «قال عبدالمطلب لأم أيمن وكانت تحضن رسول الله: يا بركة لا تغفلي عن ابني، فإني وجدته مع غلمان قريباً من السدرة، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني هذا نبي هذه الأمة.
وكان عبدالمطلب لا يأكل طعاماً إلا قال: عليَّ بابني فيؤتى به إليه، فلما حضرت عبدالمطلب الوفاة أوصى أباطالب بحفظ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحياطته».
4. قالت أم أيمن عن النبي (صلی الله علیه و آله): «ما رأيته شكى، صغيراً ولا كبيراً، جوعاً ولا عطشاً! كان يغدو فيشرب من زمزم، فأعرض عليه الغداء فيقول: لا أريده أنا شبعان». «الطبقات: 1/168». وقالت: «رأيته وهو ابن ثمان سنين يبكي خلف سرير عبدالمطلب، حتى دفن بالحجون». الطبقات: 1/119 والبحار: 15/162.
5. كان النبي (صلی الله علیه و آله) يقول لها: يا أُمَّهْ، ويزورها في بيتها.«الطبقات: 8/223». ويثق بها، فقد وضع عندها أمانات الناس: «فلما أراد الهجرة سلمها إلى أم أيمن، وأمر علياً (علیه السلام) أن يردها». الحدائق الناضرة: 21/433.
ص: 142
6. وكذبوا على النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه كان يبول في إناء فشربت أم أيمن بوله، قالوا أنه بال ذات مرة في قدح وكان تحت سريره، قالت أم أيمن: «فقمت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبي (صلی الله علیه و آله) قال: يا أم أيمن قومي فأهريقي ما في تلك الفخارة. قلت: قد والله شربت مافيها! قال فضحك النبي (صلی الله علیه و آله) ثم قال: لن تشتكي بطنك». نيل الأوطار: 1/106 والمناقب: 1/108.
وضعفه في مجمع الزوائد لكنه صحح مثله: 8/270: «كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان يبول فيه ويضعه تحت سريره فقام فطلبه فلم يجده فسأل فقال أين القدح قالوا شربته سُرَّة خادم أم سلمة، التي قدمت معها من أرض الحبشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد احتظرت من النار بحظار».
وجوَّز ذلك الشافعي وغيره وحكموا بطهارة بول النبي (صلی الله علیه و آله) . المعتبر: 1/410.
وروي أن أم أيمن: «ما مرضت حتى كان مرضها الذي ماتت فيه».نيل الأوطار: 1/106.
لكنها رواية مكذوبة ولعلها من أجل تبرير عمل بعضهم!«راجع مسند الجعد/41». لأن بيت النبي (صلی الله علیه و آله) كان فيه كنيف، وفيه بيت للنار وللتنور، أي مطبخ. وفيه غرفة كبيرة يستقبل فيها الناس تفتح على المسجد، وفيه غرفة لابنته فاطمة (علیها السلام)، وغرفة للخادم. قال علي (علیه السلام) «النوادر/200 و227»: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا أراد أن يتنخع وبين يديه ناس، غطى رأسه ثم دفنه، وإذا أراد أن يبزق فعل مثل ذلك، وكان إذا أراد الكنيف غطى رأسه».
وقال (علیه السلام): «علمني رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا دخلت الكنيف أن أقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبيث والخبائث المخبث، النجس الرجس الشيطان الرجيم».
فقد كانت الكُنف منشرة، ولهذا نردُّ حديث أنه كان يبول في إناء من فخار أو عيدان، وأن فلانة أو فلانة شربت بوله (صلی الله علیه و آله) .
وكذا نردُّ حديث عائشة الذي يزعم أن بيت النبي (صلی الله علیه و آله) كان مدة بلا كنيف! قالت: «البخاري: 3/155»: «فخرجت أنا وأم مسطح قِبَل المناصع متبرزنا، لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا وأمرنا أمر
ص: 143
العرب الأول في البرية».فهذا يصح في بيت أبيها، وليس في بيت النبي (صلی الله علیه و آله) .
روى البيهقي: 1/93: «عن ابن عمر: دخلت بيت حفصة فحانت مني التفاتة فرأيت كنيف رسول الله (صلی الله علیه و آله) مستقبل القبلة». وقد توهم عبدالله في جهته.
ولهذا لا يصح ما رواه البخاري: 1/45: «إن أزواج النبي كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح، فكان عمر يقول للنبي أجب نساءك، فلم يكن رسول الله يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر: ألا قد عرفناك يا سودة، حرصاً على أن ينزل الحجاب فأنزل الله الحجاب».
فهو موضوع لإثبات أن آية حجب نساء النبي (صلی الله علیه و آله) نزلت بطلب عمر: «وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ».
7. وهاجرت أم أيمن مع ابنها أيمن وصغيرها أسامة،فقد واعدهم عليٌّ (علیه السلام): «أن يتسللوا ويتخفوا إذا ملأ الليل بطن كل واد، إلى ذي طوى» فوافوه هناك، ومعهم عدد من مستضعفي المسلمين. أمالي الطوسي/469 وسبل الهدى: 3/267.
8. وكانت تعيش في المدينة مع زوجها زيد وتساعد الزهراء (علیها السلام) في عمل البيت، ففي أمالي الطوسي/669، عن علي (علیه السلام) قال: «زارنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد أهدت لنا أم أيمن لبناً وزبداً وتمراً، فقدمناه فأكل منه ثم قام النبي (صلی الله علیه و آله) إلى زاوية البيت فصلى ركعات، فلما كان في آخر سجوده بكى بكاءً شديداً، فلم يسأله أحد منا إجلالاً له، فقام الحسين (علیه السلام) فقعد في حجره وقال له: يا أبت لقد دخلت بيتنا فما سررنا بشئ كسرورنا بدخولك، ثم بكيت بكاء غمنا فلمَ بكيت؟ فقال: يا بني أتاني جبرئيل آنفاً فأخبرني أنكم قتلى، وأن مصارعكم شتى! فقال: يا أبت فما لمن يزور قبورنا على تشتتها؟ فقال: يا بني، أولئك طوائف من أمتي يزورونكم يلتمسون بذلك البركة، وحقيق عليَّ أن آتيهم يوم القيامة حتى أخلصهم من أهوال الساعة من ذنوبهم، ويسكنهم الله الجنة».
9. لما تزوجت فاطمة (علیها السلام) أمر النبي (صلی الله علیه و آله) أم أيمن فكانت تساعدها، وروت عدة أحاديث في سيرتها، وسيرة العترة الطاهرة:.
ص: 144
منها: عن ولادة الحسين (علیه السلام) وفضل تربته وأنها من بطحاء الجنة، وأنها أطهر بقاع الأرض، وأعظمها حرمة. السجود على الأرض للأحمدي/140 والبحار: 98/114.
ومنها: معجزة الرحى: وقد رواها الجميع وأن الزهراء (علیها السلام) شكت إلى أبيها (صلی الله علیه و آله) ما تلقى من الرحى. «المجموع 19/374 وشرح مغني ابن قدامة 8/146». وقالت: «مضيت ذات يوم إلى منزل سيدتي ومولاتي فاطمة لأزورها في منزلها وكان يوما حاراً من أيام الصيف، فأتيت إلى باب دارها وإذا أنا بالباب مغلق، فنظرت من شق الباب وإذا بفاطمة نائمة عند الرحى ورأيت الرحى تدور وتطحن البر، وهي تدور من غير يد تديرها، والمهد أيضاً إلى جنبها والحسين نائم فيه والمهد يهتز ولم أر من يهزه! ورأيت كفاً تسبح لله قريباً من كف فاطمة. قالت أم أيمن: فتعجبت من ذلك فتركتها ومضيت إلى سيدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقلت: يا رسول الله إني رأيت اليوم عجباً ما رأيت مثله أبداً.فقال لي: ما رأيت يا أم أيمن؟ فقلت: إني قصدت منزل فاطمة فلقيت الباب مغلقاً فإذا أنا بالرحى تطحن البر وهي تدور من غير يد، ورأيت مهد الحسين يهتز من غير يد تهزه ورأيت كفاً يسبح لله قريباً من كف فاطمة! فقال: يا أم أيمن إعلمي أن فاطمة صائمة، وهي متعبة والزمان قيض، فألقى الله عليها النعاس فنامت، فسبحان من لا ينام، فوكل الله ملكاً يطحن عنها قوت عيالها وأرسل ملكاً آخر، يهز مهد ولدها الحسين لئلا يزعجها عن نومها، ووكل الله تعالى ملكا آخر يسبح الله عزوجل قريباً من كف فاطمة ثواب تسبيحه لها، لأن فاطمة لم تفتر عن ذكر الله عزوجل فإذا نامت جعل الله ثواب تسبيح ذلك الملك لفاطمة».مدينة المعاجز: 4/47.
10. أكرم الله أم أيمن ببركة الزهراء (علیها السلام): «خرجت إلى مكة لما توفيت فاطمة قالت: لا أرى المدينة بعدها! فأصابها عطش شديد في الجحفة حتى خافت على نفسها، فكسرت عينيها نحو السماء ثم قالت: يا رب أتعطشني وأنا خادمة بنت نبيك؟ قال: فنزل إليها دلو من ماء الجنة فشربت». المناقب: 1/116.
11. كانت طيبة بسيطة وأخبر النبي (صلی الله علیه و آله) أنها من أهل الجنة، وكانت تعرف
ص: 145
إمامة علي (علیه السلام) ولا تعرف إمامة بقية الأئمة (علیهم السلام) .
وقد سألها النبي (صلی الله علیه و آله) يوماً عن علي (علیه السلام): «أثَم أخي؟ قالت: وكيف يكون أخوك وقد أنكحته ابنتك؟ قال: فإنه كذلك». الطبقات: 8/23.
وفي الكافي: 2/405: «عن إسماعيل الجعفي قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن الدين الذي لايسع العباد جهله؟فقال: الدين واسع، ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم!قلت: جعلت فداك فأحدثك بديني الذي أنا عليه؟ فقال: بلى، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله، وأتولاكم وأبرأ من عدوكم، ومن ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم. فقال: ما جهلت شيئاً، هو والله الذي نحن عليه. قلت: فهل سلم أحد لايعرف هذا الأمر؟ فقال: لا إلا المستضعفين. قلت: من هم؟ قال: نساؤكم وأولادكم، ثم قال: أرأيت أم أيمن، فإني أشهد أنها من أهل الجنة، وما كانت تعرف ما أنتم عليه».
يعني كانت قاصرة الذهن أو شبه قاصرة عن إدراك منظومة الأئمة (علیهم السلام) بعد النبي (صلی الله علیه و آله)، ومع ذلك فهي من أهل الجنة لأن الله تعالى يطلب من الشخص قدر ما آتاه من الإدراك والتعقل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا.
12. أمَّرَ النبي (صلی الله علیه و آله) في مرض وفاته أسامة بن زيد على جيش لغزو الروم الذين قتلوا أباه زيداً.وكان أسامة في السابعة عشرة من عمره «الفصول للجصاص1/159» وأمره النبي (صلی الله علیه و آله) بالمسير ولعن من تخلف عنه، وكان ذلك: «لأربع ليال بقين من صفر سنة 11من الهجرة وعسكر بالجرف. فلم يبق أحد من المهاجرين الأولين والأنصار إلا اشتد لذلك وتهيأ للخروج، منهم أبوبكر، وعمر، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص». المراجعات/368 مستدرك سفينة البحار: 5/36و209.
وقال ابن حجر في فتح الباري: 8/115، وهو من كبار أئمة السلطة: «وقد أنكر ابن تيمية في كتاب الرد على ابن المطهر أن يكون أبوبكر وعمر في بعث أسامة، ومستند ما ذكرناه ما أخرجه الواقدي بأسانيده في المغازي، وذكره ابن سعد أواخر الترجمة النبوية بغير إسناد، وذكره ابن إسحاق في السيرة المشهورة ولفظه: بدأ برسول الله (صلی الله علیه و آله) وجعه
ص: 146
يوم الأربعاء فأصبح يوم الخميس فعقد لأسامة فقال: أغز في سبيل الله وسر إلى موضع مقتل أبيك، فقد وليتك هذا الجيش. فذكر القصة وفيها: لم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة منهم أبوبكر وعمر.. وعند الواقدي أن عدة ذلك الجيش كانت ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة من قريش».
وكان هدف النبي (صلی الله علیه و آله) أن يخلي المدينة لعلي (علیه السلام) ويبعد عنها الطامعين في خلافته وقد عملوا للتأثير على أم أيمن، فطلبت من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يؤخر إرسال أسامة لأنه قلق عليه فلم يقبل (صلی الله علیه و آله) وأكد أمره له بالمسير بالجيش.
ثم أشاعوا اعتراضهم على تأمير أسامة على شيوخ قريش والأنصار،وهو شاب أسود ابن سبع عشرة سنة! فغضب النبي (صلی الله علیه و آله) وخرج وهو مريض وصعد المنبر ومدح أسامة وأمره بالحركة، ولعن من تخلف عنه!
فتحرك أسامة فعاد القرشيون إلى أم أيمن، فأرسلت إلى ولدها أن لا يتحرك بجيشه لأن حال النبي (صلی الله علیه و آله) قد ثقلت! فاستغلوا بساطتها رحمها الله.
13. لكنها عندما توفي النبي (صلی الله علیه و آله) استنكرت مسارعتهم إلى السقيفة وبيعتهم أبابكر، فجاءت اليهم وقالت: «يا أبابكر، ما أسرع ما أبديتم حسدكم لآل محمد! فأمر بها عمر فأخرجت من المسجد». كتاب سُليم/157و389.
14. عندما صادروا تركة النبي (صلی الله علیه و آله)، واحتجت الزهراء (علیها السلام) على أبي بكر، طلب منها شهوداً. قال الإمام الصادق (علیه السلام): «فجاءت فاطمة (علیها السلام) إلى أبي بكر، فقالت يا أبابكر منعتني عن ميراثي من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخرجت وكيلي من فدك، وقد جعلها لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأمر الله. فقال لها هاتي على ذلك شهوداً، فجاءت بأم أيمن فقالت: لا أشهد حتى أحتج يا أبابكر عليك بما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقالت: أنشدك الله ألست تعلم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: إن أم أيمن من أهل الجنة؟ قال بلى. قالت: فأشهد أن الله أوحى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله): وَآتِ ذا القُرْبَى حَقَّه، فجعل فدك لفاطمة بأمر الله. وجاء علي (علیه السلام) فشهد بمثل ذلك، فكتب لها كتاباً بفدك ودفعه إليها، فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟
ص: 147
فقال أبوبكر: إن فاطمة ادعت في فدك وشهدت لها أم أيمن وعلي فكتبت لها بفدك، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فمزقه».تفسير القمي: 2/155 ونحوه العياشي: 2/278.
15. كانت أم أيمن ثقة الزهراء (علیها السلام) قال الصادق (علیه السلام): «لما نعي إلى فاطمة نفسها أرسلت إلى أم أيمن وكانت أوثق نسائها عندها وفي نفسها».علل الشرائع: 1/187.
16. «اشترى عبدالمطلب أم أيمن من جيش أبرهة، وتوفيت بعد النبي (صلی الله علیه و آله) بشهورقليلة فتح الباري: 7/70 وكانت في السبعينات.لكن رواة الخلافة أخروا وفاتها عشر سنين ليقولوا إنها رضيت على أبي بكر وعمر ومدحته وقالت يوم قتل: اليوم وَهَى الإسلام». تاريخ البخاري الصغير: 1/88 وتاريخ دمشق: 4/302.
17. أيمن بن عبيد أفضل من أخيه أسامة بن زيد، فقد استشهد أيمن دفاعاً عن النبي (صلی الله علیه و آله) في حنين لما فرَّ عنه المسلمون، وهاجمه عوف بن مالك زعيم هوازن ليقتله: فاعترضه أيمن: «فالتقيا فقتله مالك». ولم يصل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) . المناقب: 1/181، تاريخ دمشق: 4/257، ذخائر العقبى/198 وكبير الطبراني: 1/288.
قال المفيد في الإرشاد: 1/140 ونحوه الإستيعاب: 2/813: «فلم يبق منهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) إلا عشرة أنفس، تسعة من بني هاشم خاصة وعاشرهم أيمن بن أم أيمن، فقتل أيمن (رحمة الله) وثبت تسعة النفر الهاشميون، حتى ثاب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من كان انهزم.وقال العباس بن عبدالمطلب في هذا المقام:
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة *** وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا
وقولي إذا ما الفضل شد بسيفه *** على القوم أخرى يا بني ليرجعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه *** لما ناله في الله لا يتوجع
يعني به أيمن بن أم أيمن».
18. أما أسامة بن زيد ابن أم أيمن فعاش في كنف النبي وعترته (صلی الله علیه و آله) . وكان أسود قوي البنية وقد أمَّرَه النبي (صلی الله علیه و آله) على سرية، ثم أمَّره في مرض وفاته على جيش من ثلاثة آلاف مقاتل، وكان في الثامنة عشرة أو السابعة عشرة. وعاد من معسكره في الجرف بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) ولم يبايع أبابكر حتى بايع علي (علیه السلام) . وتوفي أسامة زمن معاوية سنة 54 هجرية.
ص: 148
في الكافي: 1/448، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «كان عبدالمطلب يُفرش له بفناء الكعبة، لا يُفرش لأحد غيره، وكان له وُلْدٌ يقومون على رأسه فيمنعون من دنا منه، فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو طفل يدرج حتى جلس على فخذيه، فأهوى بعضهم إليه لينحيه عنه، فقال له عبدالمطلب: دع ابني فإن المُلك قد أتاه»!
وفي رواية كمال الدين/171، عن ابن عباس، قال: «دعوا ابني فوالله إن له لشأناً عظيماً، إني أرى أنه سيأتي عليكم يوم وهو سيدكم، إني أرى غرته غرة تسود الناس، ثم يحمله فيجلسه معه ويمسح ظهره ويقبله ويقول: ما رأيت قبلة أطيب منه ولا أطهر قط، ولا جسداً ألين منه، ولا أطيب منه. ثم يلتفت إلى أبي طالب وذلك أن عبدالله وأباطالب لأم واحدة، فيقول: يا أباطالب إن لهذا الغلام لشأناً عظيماً فاحفظه واستمسك به، فإنه فردٌ وحيدٌ، وكن له كالأم، لا يوصل إليه بشئ يكرهه، ثم يحمله على عنقه فيطوف به أسبوعاً.
وكانت هذه حاله حتى أدركت عبدالمطلب الوفاة، فبعث إلى أبي طالب، ومحمد على صدره وهو في غمرات الموت، وهو يبكي ويلتفت إلى أبي طالب ويقول: يا أباطالب أنظر أن تكون حافظاً لهذا الوحيد الذي لم يشم رائحة أبيه، ولا ذاق شفقة أمه، أنظر يا أباطالب أن يكون من جسدك بمنزلة كبدك، فإني قد تركت بنيَّ كلهم وأوصيتك به، لأنك من أم
ص: 149
أبيه. يا أباطالب إن أدركت أيامه فاعلم أني كنت من أبصر الناس وأعلم الناس به، فإن استطعت أن تتبعه فافعل، وانصره بلسانك ويدك ومالك، فإنه والله سيسودكم ويملك ما لم يملك أحد من بني آبائي. يا أباطالب ما أعلم أحداً من آبائك مات عنه أبوه على حال أبيه، ولا أمه على حال أمه، فاحفظه لوحدته، هل قبلت وصيتي فيه؟
فقال: نعم قد قبلت واللهُ عليَّ بذلك شهيد، فقال عبدالمطلب: فمدَّ يدك إليَّ فمد يده إليه فضرب يده على يده ثم قال عبدالمطلب: الآن خفَّ عليَّ الموت!
ثم لم يزل يقبله ويقول: أشهد أني لم أقبل أحداً من ولدي أطيب ريحاً منك، ولا أحس وجهاً منك، ويتمنى أن يكون قد بقي حتى يدرك زمانه!
فمات عبدالمطلب وهو (صلی الله علیه و آله) ابن ثمان سنين، فضمه أبوطالب إلى نفسه لا يفارقه ساعة من ليل ولا نهار، وكان ينام معه لا يأتمن عليه أحداً»!
قال اليعقوبي: 2/12، «أوصى لأبي طالب برسول الله (صلی الله علیه و آله) وبزمزم، وقال له:
وصيك يا عبدمناف بعدي *** بمفرد بعد أبيه فرد
فارقه وهو ضجيع المهد *** فكنت كالأم له في الوجد
تدنيه من أحشائها والكبد *** فأنت من أرجى بَنِيَّ عندي
لدفع ضيم أو لشد عقد
وتوفي عبدالمطلب ولرسول الله ثماني سنين، ولعبدالمطلب مائة وعشرون سنة وقيل مائة وأربعون سنة، وأعظمت قريش موته، وغُسل بالماء والسدر، وكانت قريش أول من غسل الموتى بالسدر، ولُفَّ في حلتين من حلل اليمن قيمتهما ألف مثقال ذهب، وطرح عليه المسك حتى سترهُ، وحمل على أيدي الرجال عدة أيام، إعظاماً وإكراماً وإكباراً لتغييبه في التراب!
واحتبى«جلس» ابنه بفناء الكعبة لما غيب عبدالمطلب، واحتبى ابن جدعان التيمي من ناحية، والوليد بن ربيعة المخزومي، فادعى كل واحد الرئاسة».
ص: 150
قال اليعقوبي: 2/12: «كان أصحاب الكتاب لايزالون يقولون لعبدالمطلب في رسول الله منذ ولد، فيعظم بذلك ابتهاج عبدالمطلب، فقال: أما والله لئن نَفَستني قريش الماء، يعني ماءً سقاه الله من زمزم، وذي الهرم «بئر» لتنفسني غداً الشرف العظيم، والبناء الكريم، والعز الباقي، والسناء العالي، إلى آخر الدهر ويوم الحشر! وتوالت على قريش سنون مجدبة حتى ذهب الزرع وقحل الضرع ففزعوا وقالوا: قد سقانا الله بك مرة بعد أخرى، فادع الله أن يسقينا، وسمعوا صوتاً ينادي من بعض جبال مكة: معشر قريش إن النبي الأمي منكم، وهذا أوان تَوَكُّفه، ألا فانظروا منكم رجلاً عظاماً جساماً له سنٌّ يدعو إليه وشرفٌ يعظم عليه، فليخرج هو وولده ليمسوا من الماء ويلتمسوا من الطيب ويستلموا الركن، وليدع الرجل وليؤمِّن القوم، فخصبتم ما شئتم إذن وغُثتم!
فلم يبق أحد بمكة إلا قال: هذا شيبة الحمد، هذا شيبة الحمد! فخرج عبدالمطلب ومعه رسول الله وهو يومئذ مشدود الإزار، فقال عبدالمطلب: اللهم سادَّ الخَلة، وكاشف الكُربة، أنت عالمٌ غير مُعلم، مسؤولٌ غير مُبَخَّل، وهؤلاء عُبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك، يشكون إليك سنيهم التي أقحلت الضرع، وأذهبت الزرع، فاسمعنَّ اللهم، وأمطرنَّ غيثاً مَريعاً مغدقاً. فما راموا حتى انفجرت السماء بمائها، وكظ الوادي بثجه»، وفي ذلك يقول بعض قريش:
بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا *** وقد فقدنا الكرى واجلوَّذَ المطر
مناً من الله بالميمون طائرُهُ *** وخيرِ من بُشرت يوماً به مضر
مبارك الأمر يستسقى الغمام به *** ما في الأنام له عدلٌ ولا خَطَر
وقد اشتهرت رواية رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم، وفيها: «قام فاعتضد ابن ابنه محمداً فرفعه على عاتقه، وهو يومئذ غلام قد أيفع أو كرب، ثم قال... فورب الكعبة ما راموا حتى انفجرت السماء
ص: 151
بمائها... فسمعت شِيخان قريش وجلتها: عبدالله بن جدعان، وحرب بن أمية، وهشام بن المغيرة يقولون لعبدالمطلب: هنيئاً لك سيد البطحاء»! الدعاء للطبراني/606، معجمه الكبير: 24/260، مجمع الزوائد: 2/214، شرح النهج: 7/271 وغيرها.
ومعنى: قد أيفع أو كرب: أنه كان صبياً يافعاً قارب البلوغ، فكان يبدو كبير السن للناظر، وإن كان سنه أصغر من ذلك (صلی الله علیه و آله) .
وكان جده يعتمد عليه في المهمات!ففي الكافي: 1/447 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان عبدالمطلب أرسل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى رعاته في إبل قد ندَّت له ليجمعها فأبطأ عليه، فأخذ بحلقة باب الكعبة وجعل يقول: يا رب أتهلك آلك إن تفعل فأمرٌ ما بدا لك! فجاء رسول الله بالإبل، وقد وجه عبدالمطلب في كل طريق وفي كل شعب في طلبه.. ولما رأى رسول الله أخذه فقبله وقال: يا بني لاوجهتك بعد هذا في شئ، فإني أخاف أن تُغتال فتقتل».
وقال اليعقوبي: 2/10: «رجع من بني سعد ابن أربع سنين أو خمس وهو في خلق ابن عشر وقوته».
«توفي عبدالمطلب في شهر ربيع الأول وللنبي (صلی الله علیه و آله) ثماني سنين من عمره، فكفله أبوطالب أحسن كفالة». كنز الفوائد/72.
«فكان خير كافل، وكان أبوطالب سيداً شريفاً مطاعاً مهيباً..وخرج به إلى بُصْرَى من أرض الشام وهو ابن تسع سنين، وقال: والله لا أكلك إلى غيري!
وربته فاطمة بنت أسد بن هاشم امرأة أبي طالب وأم أولاده جميعاً، يروى عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما توفيت وكانت مسلمة فاضلة أنه قال: اليوم ماتت أمي! وكفنها بقميصه ونزل في قبرها واضطجع في لحدها، فقيل له: يا رسول الله لقد اشتد جزعك على فاطمة! قال: إنها كانت أمي، إنْ كانت لتُجيع صبيانها وتشبعني، وتشعثهم وتدهنني، وكانت أمي». تاريخ اليعقوبي: 2/13.
وفي أمالي الصدوق/390، عن ابن عباس: «قال: يا فاطمة أنا محمد سيد ولد آدم ولا
ص: 152
فخر، فإن أتاك منكر ونكير فسألاك: من ربك؟فقولي: الله ربي ومحمد نبيي، والإسلام ديني، والقرآن كتابي، وابني إمامي ووليي. ثم قال: اللهم ثبت فاطمة بالقول الثابت. ورويَ أنه (صلی الله علیه و آله) قال: يا علي أدخل، يا حسن أدخل، فدخلا القبر، فلما فرغ مما احتاج إليه قال له: يا علي أخرج، يا حسن أخرج فخرجا، ثم زحف النبي (صلی الله علیه و آله) حتى صار عند رأسها، ثم قال: يا فاطمة أنا محمد سيد ولد آدم ولا فخر، فإن أتاك منكر ونكير فسألاك: من ربك؟فقولي: الله ربي ومحمد نبيي، والإسلام ديني، والقرآن كتابي، وابني إمامي ووليي».
أقول: توفيت فاطمة بنت أسد3في شوال في السنة الرابعة أو الخامسة، فدعا النبي (صلی الله علیه و آله) سبطه الحسن وعمره نحو سنتين، لينزل في قبرها إيذاناً بمكانته، ولعله إشارة إلى أن هذه بقعته (علیه السلام) . مستدرك سفينة البحار: 5/207و 8/256.
وفي الحدائق الناضرة: 22/634 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كانت أول امرأة هاجرت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من مكة إلى المدينة على قدميها»!
وروى الحاكم: 3/108: «لما ماتت فاطمة بنت أسد كفنها رسول الله (صلی الله علیه و آله) في قميصه وصلى عليها وكبر عليها سبعين تكبيرة، ونزل في قبرها فجعل يومي في نواحي القبر كأنه يوسعه ويسوي عليها، وخرج من قبرها وعيناه تذرفان وحثى في قبرها. فلما ذهب قال له عمر بن الخطاب: يا رسول الله رأيتك فعلت على هذه المرأة شيئاً لم تفعله على أحد! فقال: يا عمر إن هذه المرأة كانت أمي التي ولدتني! إن أباطالب كان يصنع الصنيع وتكون له المأدبة، وكان يجمعنا على طعامه، فكانت هذه المرأة تفضل منه كله نصيبنا فأعود فيه. وإن جبريل أخبرني عن ربي عزوجل أنها من أهل الجنة، وأخبرني جبريل أن الله تعالى أمر سبعين ألفاً من الملائكة يصلون عليها»!
وعقد في مجمع الزوائد: 9/256 بابا: مناقب فاطمة بنت أسد رضيالله عنها.
ص: 153
اشتهر قول أبي طالب (رحمة الله) في مدح النبي (صلی الله علیه و آله) في قصيدته اللامية العصماء:
وأبيضُ يُستسقى الغَمامُ بوجهه *** ثمالُ اليتامى عصمة للأرامل
ورووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) طلب أن يُنشدوه القصيدة،كما في بدائع الصنائع: 1/283، البخاري: 2/15، أحمد: 2/93 وأمالي المفيد/301، قال: «جاء أعرابي إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: والله يا رسول الله لقد أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا غنم يغط، ثم أنشأ يقول:
أتيناك يا خير البرية كلها *** لترحمنا مما لقينا من الأزْلِ
أتيناك والعذراءُ يُدمى لُبانها *** وقد شُغلت أم الصبي عن الطفل
وألقى بكفيه الفتيُّ استكانةً *** من الجوع ضعفاً ما يُمِرُّ وما يُحلي
ولا شئ مما يأكل الناس عندنا *** سوى الحنظل العاميِّ والعلهز الفَسْل
وليس لنا إلا إليك فرارن *** وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقال رسول الله لأصحابه: إن هذا الأعرابي يشكو قلة المطر وقحطاً شديداً!
ثم قام يجر رداءه حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وكان مما حمد ربه أن قال: الحمد لله الذي علا في السماء فكان عالياً، و في الأرض قريباً دانياً، أقرب إلينا من حبل الوريد. ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، مريئاً مريعاً، غدقاً طبقاً، عاجلاً غير رائث، نافعاً غير ضائر، تملأ به الضرع، وتنبت به الزرع، وتحيي به الأرض بعد موتها. فما رد يديه إلى نحره حتى أحدق السحاب بالمدينة كالإكليل والتفت السماء بأردافها، وجاء أهل البطاح يضجون يا رسول الله: الغرق الغرق، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): اللهم حوالينا ولا علينا، فانجاب السحاب عن السماء، فضحك رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: لله در أبي طالب، لو كان حياً لقرَّت عيناه، من ينشدنا قوله؟ فقام عمر فقال: عسى أردت يا رسول الله:
وما حملت من ناقة فوق رحلها *** أبرُّ وأوفى ذمةً من محمد
فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ليس هذا من قول أبي طالب، بل من قول حسان بن ثابت، فقام علي بن أبي طالب فقال: كأنك أردت يا رسول الله قوله:
ص: 154
وأبيضُ يُستسقى الغمامُ بوجهه *** ربيعُ اليتامى عصمةٌ للأراملِ
يلوذُ به الهُلاَّكُ من آل هاشمٍ *** فهم عنده في نعمةٍ وفواضل
كذبتم وبيت الله نُبزي محمداً *** ولما نطاعنْ دونه ونقاتل
ونُسلمه حتى نُصَرَّع حوله *** ونَذهل عن أبنائنا والحلائل
فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أجل. فقام رجل من بني كنانة فقال:
لك الحمد والحمد ممن شكرْ *** سقينا بوجه النبي المطر
دعا الله خالقه دعوةً *** وأشخص منه إليه البصر
ولم يك إلا كقلب الرداء *** وأسرع حتى أتانا المطر
دفاق العزائل جم البعاق *** أغاث به الله عَلْيَا مُضر
فكان كما قاله عمه *** أبو طالب ذا رواء غزر
به الله يسقي صيوبَ الغمام *** فهذا العيان وذاك الخبر
فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): بوأك الله يا كناني بكل بيت قلته بيتاً في الجنة».
وستأتي لامية أبي طالب، وقول ابن كثير إنها أبلغ من المعلقات السبع!
وقال ابن حجر في فتح الباري: 2/412: «قال السهيلي: فإن قيل: كيف قال أبوطالب يستسقى الغمام بوجهه، ولم يره قط استسقى، إنما كان ذلك منه بعد الهجرة؟ وأجاب بما حاصله: أن أباطالب أشار إلى ما وقع في زمن عبدالمطلب حيث استسقى لقريش والنبي (صلی الله علیه و آله) معه غلام...وهذا البيت من أبيات في قصيدة لأبي طالب ذكرها ابن إسحاق في السيرة بطولها، وهي أكثر من ثمانين بيتاً، قالها لما تمالأت قريش على النبي، ونَفَّروا عنه من يريد الإسلام».
وفي خزانة الأدب: 2/61: «قال السهيلي في الروض الأنف: إن أباطالب قد شاهد من ذلك في حياة عبدالمطلب، ما دله على ما قال».
وقول السهيلي والبغدادي صحيح، فقد أجدبت قريش فشكت إلى عبدالمطلب فاستسقى بالنبي (صلی الله علیه و آله)، ثم أجدبت فشكت إلى أبي طالب فاستسقى بالنبي (صلی الله علیه و آله)،
ص: 155
وإنما حذفوه من السيرة حسداً لأبي طالب (رحمة الله) وأولاده!
وقال عنها في المناقب: 1/119: «والسبب في ذلك أنه كان قحط في زمن أبي طالب فقالت قريش: إعتمدوا اللات والعزى، وقال آخرون إعتمدوا مناة الثالثة الأخرى، فقال ورقة بن نوفل: أنى تؤفكون وفيكم بقية إبراهيم وسلالة إسماعيل أبوطالب فاستسقوه، فخرج أبوطالب وحوله أغيلمة من بني عبدالمطلب، وسطهم غلام كأنه شمس دِجَنَّة «مشرقة» تجلت عنها غمامة، فأسند ظهره إلى الكعبة ولاذ بإصبعه، وبصبصت الأغيلمة حوله، فأقبل السحاب في الحال. فأنشأ أبوطالب اللامية»!
وروى آخرون هذه المعجزة بتفصيل، كفخار بن معد في كتابه: الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب/311، والصالحي في سبل الهدى: 2/137، والذهبي في تاريخه: 1/52، بسند صحيح عندهم، عن أبان بن تغلب، عن جلهمة بن عرفطة قال:
«إني لبالقاع من نِمْرة، إذ أقبلت عيرٌ من أعلى نجد، فلما حاذت الكعبة إذا غلام قد رمى بنفسه عن عجز بعير، فجاء حتى تعلق بأستار الكعبة، ثم نادى يا رب البنية أجرني! وإذا شيخ وسيم قسيم عليه بهاء الملك ووقار الحكماء، فقال: ما شأنك يا غلام فأنا من آل الله وأجير من استجار به؟ قال: إن أبي مات وأنا صغير وإن هذا استعبدني وقد كنت أسمع أن لله بيتاً يمنع من الظلم، فلما رأيته استجرت به. فقال له القرشي: قد أجرتك يا غلام قال: وحبس الله يد الجندعي إلى عنقه. قال جلهمة: فحدثت بهذا الحديث عمرو بن خارجة وكان قِعْدَد الحي، فقال: إن لهذا الشيخ ابناً يعني أباطالب. قال: فهويت رحلي نحو تهامة أكسع بها الحدود وأعلوا بها الكدان حتى انتهيت إلى المسجد الحرام، وإذا قريش عزين، قد ارتفعت لهم ضوضاء يستسقون فقائل منهم يقول: اعتمدوا اللات والعزى! وقائل يقول: اعتمدوا مناة الثالثة الأخرى. وقال شيخ وسيم قسيم حسن الوجه جيد الرأي: أنى تؤفكون وفيكم باقية إبراهيم وسلالة إسماعيل؟ قالوا له: كأنك عنيت أباطالب! قال: إيهاً. فقاموا بأجمعهم وقمت معهم فدققنا عليه بابه فخرج إلينا رجل حسن الوجه مصفر، عليه إزار قد اتشح به، فثاروا إليه فقالوا: يا أباطالب قحط الوادي وأجدب العباد، فهلم فاستسق، فقال: رويدكم
ص: 156
زوال الشمس وهبوب الريح، فلما زاغت الشمس أو كادت، خرج أبوطالب معه غلام كأنه دِجَنٌّ «سماءٌ لحسنه» تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبوطالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بإصبعه الغلام، وبصبصت الأغيلمة حوله، وما في السماء قزعة فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا، وأغدق واغدودق، وانفجر له الوادي، وأخصب النادي والبادي! وفي ذلك يقول أبوطالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ربيع اليتامى عصمة للأرامل
تطيف به الهلاك من آل هاشم *** فهم عنده في نعمة وفواضل
وميزان عدل لا يخيس شعيرة *** ووزان صدق وزنه غير عائل
أقول: كفى بهذا الحديث وهذه القصيدة دليلاً على إيمان أبي طالب (علیه السلام) بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله) من صغره! ولكن الذهبي وأمثاله من أتباع القرشيين والأمويين أشربوا في قلوبهم الإعراض عن عترة نبيهم (صلی الله علیه و آله)، بل كرههم»!
قال علي بن يوسف الحلي (رحمة الله) في العدد القوية/118: «وخرج مع عمه أبي طالب في تجارة إلى الشام وله تسع سنين، وقيل اثنتا عشرة سنة». وفي الخرائج: 1/71 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «فلما انتهى به إلى بصرى وفيها راهب لم يكن يكلم أهل مكة إذا مروا به، ورأى علامة رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الركب، رأى غمامة تظله في مسيره، ونزل تحت شجرة قريبة من صومعته فتثنت أغصان الشجرة عليه والغمامة على رأسه بحالها، فصنع لهم طعاماً فاجتمعوا عليه وتخلف محمد (صلی الله علیه و آله)، فلما نظر بحيرا إليهم ولم ير الصفة التي يعرف قال: فهل تخلف منكم أحد؟ قالوا: لا واللات والعزى إلا صبي، فاستحضره فلما لحظ إليه نظر إلى أشياء من جسده قد كان يعرفها من صفته فلما تفرقوا قال: ياغلام أتخبرني عن أشياء أسألك عنها؟ قال: سل. قال: أنشدك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه! وإنما أراد أن يعرف لأنه سمعهم يحلفون بهما، فذكروا أن
ص: 157
النبي (صلی الله علیه و آله) قال له: لا تسألني باللات والعزى، فإني والله لم أبغض بغضهما شيئاً قط!
قال: فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه؟ قال: فجعل يسأله عن حاله في نومه وهيئته وأموره، فجعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يخبره، فكان يجدها موافقة لما عنده.
فقال له: إكشف عن ظهرك فكشف عن ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على الموضع الذي يجده عنده، فأخذه الإفكل وهو الرعدة، واهتز الديراني فقال: من أبو هذا الغلام؟ قال أبوطالب: هو ابني. قال: لا والله لا يكون أبوه حياً. قال أبوطالب: إنه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وهو ابن شهرين. قال: صدقت. قال: فارجع بابن أخيك إلى بلادك واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأته وعرفوا منه الذي عرفت ليبغينه شراً! فخرج أبوطالب فرده إلى مكة».
وفي رواية كمال الدين/187: «لما بلغَ رسول الله (صلی الله علیه و آله)، أراد أبوطالب أن يخرج إلى الشام في عير قريش، فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتشبث بالزمام وقال: يا عم على من تخلفني لا على أمٍّ ولا على أب؟! وقد كانت أمه توفيت فرقَّ له أبوطالب ورحمه وأخرجه معه...فلما نظر إليه بحيرى قال: من هذا الغلام؟ قالوا: ابن هذا وأشاروا إلى أبي طالب.. فقال بحيرى: رُدَّ هذا الغلام إلى بلاده، فإنه إن علمت به اليهود ما أعلم منه قتلوه! فإن لهذا شأناً من الشأن، هذا نبي هذه الأمة، هذا نبي السيف».
وفي قرب الإسناد/213، من حديث للإمام الكاظم (علیه السلام) مع حاخامات اليهود: «قالوا: إنا نجد في التوراة أن الله تبارك وتعالى آتى إبراهيم وولده الكتاب والحكم والنبوة وجعل لهم الملك والإمامة، وهكذا وجدنا ذرية الأنبياء لا تتعداهم النبوة والخلافة والوصية، فما بالكم قد تعداكم ذلك وثبت في غيركم، ونلقاكم مستضعفين مقهورين لا تُرقب فيكم ذمة نبيكم؟! فدمعت عينا أبي عبدالله (علیه السلام) ثم قال: نعم لم تزل أمناء الله مضطهدة مقهورة مقتولة بغير حق، والظلمة غالبة، وقليل من عباد الله الشكور! قالوا: صدقت، فما أعطي نبيكم من الآيات اللاتي نفت الشك عن قلوب من أرسل إليهم؟ قلت: آيات كثيرة أعدها إن شاء الله...
ومن ذلك: أنه توجه إلى الشام قبل مبعثه مع نفر من قريش، فلما كان بحيال بحيراء
ص: 158
الراهب نزلوا بفناء ديره، وكان عالماً بالكتب وقد كان قرأ في التوراة مرور النبي (صلی الله علیه و آله) به وعرف أوان ذلك، فأمر فدعى إلى طعامه، فأقبل يطلب الصفة في القوم فلم يجدها، فقال: هل بقي في رحالكم أحد؟ فقالوا: غلامٌ يتيم. فقام بحيراء الراهب فاطَّلع فإذا هو برسول الله (صلی الله علیه و آله) نائم وقد أظلته سحابة! فقال للقوم: أدعوا هذا اليتيم، ففعلوا وبحيراء مشرف عليه، وهو يسير والسحابة قد أظلته فأخبر القوم بشأنه، وأنه سيبعث فيهم رسولاً، وما يكون من حاله وأمره! فكان القوم بعد ذلك يهابونه ويجلونه، فلما قدموا أخبروا قريشاً بذلك، وكان عند خديجة بنت خويلد فرغبت في تزويجه وهي سيدة نساء قريش».
وفي كمال الدين/182: «لما فارقه بحيرى بكى بكاء شديداً وأخذ يقول: يا ابن آمنة كأني بك وقد رمتك العرب بوترها، وقد قطعك الأقارب! ولو علموا لكنت لهم بمنزلة الأولاد، ثم التفت إليَّ وقال: أما أنت ياعم فارع فيه قرابتك الموصولة..».
وفي العدد القوية/132، أن بحيرا قال للنبي (صلی الله علیه و آله): «يا من بذكره تعمر المساجد،كأني بك قد قدمت الأجناد والخيل الجياد، وتبعك العرب والعجم طوعاً وكرهاً، وكأني باللات والعزى قد كسرتهما، وقد صار البيت العتيق لايملكه غيرك، تضع مفاتيحه حيث تريد، كم من بطل من قريش والعرب تصرعه، معك مفاتيح الجنان والنيران، ومعك الذبح الأكبر وهلاك الأصنام! أنت الذي لا تقوم الساعة حتى يدخل الملوك كلها في دينك صاغرة قمئة! فلم يزل يقبل رجليه مرة ويديه مرة ويقول: لئن أدركت زمانك لأضربن بين يديك بالسيف ضرب الزند بالزند. أنت سيد ولد آدم وسيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين. والله لقد بكت له البيع والأصنام والشياطين، فهي باكية إلى يوم القيامة! وأنت دعوة إبراهيم وبشرى عيسى، أنت المقدس المطهر من أنجاس الجاهلية»!
أقول: روى ابن هشام قصة بحيرا: 1/116 وحذف منها ما يتعلق بإيمان أبي طالب (علیه السلام)!
وفي رواية ابن إسحاق: 2/55: «فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن، فأسرعْ به إلى
ص: 159
بلاده. فخرج به عمه أبوطالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام. فزعموا فيما يتحدث الناس أن زبيراً وتماماً ودريساً، وهم نفر من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب أشياء فأرادوه، فردهم عنه بحيرا، وذكرهم الله عزوجل وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا لم يخلصوا إليه، حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا! فقال أبوطالب في ذلك من الشعر يذكر مسيره برسول الله (صلی الله علیه و آله) وما أرادوا منه أولئك النفر، وما قال بحيرا:
إن ابن آمنة النبي محمداً *** عندي بمثل منازل الأولاد
لما تعلق بالزمام رحمته *** والعيس قد قلَّصن بالأزواد
فارفضَّ من عَيْنَيَّ دمعٌ ذارفٌ *** مثلُ الجمان مفرَّقُ الأفراد
راعيت فيه قرابةً موصولة *** وحفظت فيه وصية الأجداد
وأمرته بالسير بين عمومةٍ *** بيض الوجوه مصالت الأنجاد
ساروا لأبعد طيةٍ معلومة *** فلقد تباعدَ طيةُ المرتاد
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا *** لاقوا على شرفٍ من المرصاد
حبراً فأخبرهم حديثاً صادقاً *** عنه وردَّ معاشر الحساد
قوماً يهوداً قد رأوا ما قد رأى *** ظِل الغمام وعزَّ ذي الأكباد
ساروا لقتل محمد فنهاهم *** عنه وأجهد أحسن الإجهاد
فثنى زبيرٌ بَحِيراً فانثنى *** في القوم بعد تجادل وبعاد
ونهى دريساً فانتهى عن قوله *** حبر يوافق أمره برشاد
وقال أبوطالب أيضاً:
ألم ترني من بعد همٍّ هممته *** كأن لا يراني راجعاً لمعاد
بأحمد لما أن شددت مطيتي *** برحلي وقد ودعته بسلام
بكى حَزَناً والعيس قد فصلت بنا *** وأخذتُ بالكفين فضلَ زمام
ص: 160
ذكرتُ أباه ثم رقرقتُ عبرة *** تجود من العينين ذات سجام
فقلت تروح راشداً في عمومة *** مواسين في البأساء غير لئام
فرحنا مع العير التي راح أهلها *** شآمي الهوى والأصل غير شآمي
فلما هبطنا أرض بصرى تشوفوا *** لنا فوق دور ينظرون بسام
فجاد بحيرا عند ذلك حاشداً *** لنا بشراب طيب وطعام
فقال اجمعوا أصحابكم لطعامنا *** فقلنا جمعنا القوم غير غلام
يتيم، فقال ادعوه إن طعامنا *** كثير عليه اليوم غير حرام
فلما رآه مقبلاً نحو داره *** يوقيه حر الشمس ظل غمام
حنا رأسه شبه السجود وضمه *** إلى نحره والصدر أي ضمام
وأقبل ركب يطلبون الذي رأى *** بحيرا من الأعلام وسط خيام
فثار إليهم خشية لعرامهم *** وكانوا ذوي دهى معا وعرام
دريساً وتمَّاماً وقد كان فيهم *** زبيراً وكل القوم غير نيام
فجاءوا وقد هموا بقتل محمد *** فردهم عنه بحسن خصام
بتأويله التوراة حتى تفرقوا *** وقال لهم: ما أنتم بطغام
فذلك من أعلامه وبيانه *** وليس نهار واضحٌ كظلام
وقال أبوطالب أيضاً:
بكى طرباً لما رآنا محمد *** كأن لا يراني راجعاً لمعاد
فبتُّ يجافيني تهللُ دمعه *** وقربته من مضجعي ووسادي
فقلت له قرب قعودك وارتحل *** ولا تخشى مني جفوةً ببلادي
وخل زمام العيسى وارتحل بنا *** على عزمة من أمرنا ورشاد
ورح رائحاً في الراشدين مشيعاً *** لذي رحم في القوم غير معاد
فرحنا مع العير التي راح ركبها *** يؤمون من غوري أرض إباد
ص: 161
فما رجعوا حتى رأوا من محمد *** أحاديث تجلو غم كل فؤاد
وحتى رأوا حبار كل مدينة *** سجوداً له من عصبة وفراد
زبيراً وتماماً وقد كان شاهداً *** دريساً وهموا كلهم بفساد
فقال لهم قولاً بحيرا وأيقنوا *** له بعد تكذيب وطول بعاد
كما قال للرهط الذين تهودوا *** وجاهدهم في الله كل جهاد
فقال ولم یملك له النصح رده *** فإن له أرصاد كل مضاد
فإني أخاف الحاسدين وإنه *** أخو الكتب مكتوب بكل مداد»
وابن عساكر: 3/10، سبل الهدى: 2/142 ودلائل النبوة: 2/29 وغيرها.
قال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأنْجِيلِ.. «الأعراف: 157» وقال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الأنعام: 20.
وقال: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يدي مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..الصف: 6.
وقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأنْجِيلِ كَزَرْعٍ أخرج شَطْأَهُ... «آخر سورة الفتح». وغيرها من الآيات.
وقد شاعت وذاعت قصص علماء النصارى واليهود في مكة والجزيرة، واتفقت الرواية على أن بحيراء الراهب النصراني واسمه نسطور «تاريخ دمشق: 3/10» قد آمن بالنبي (صلی الله علیه و آله) عندما رآه وكلمه وكان في الثانية عشرة من عمره أو دونها، وأن أحبار اليهود أرادوا قتله (صلی الله علیه و آله) فنهاهم بحيراء كما ذكر أبوطالب في شعره، وأقنعهم بأنهم إن أرادوا فسيمنعهم الله تعالى لأنه قضى أن يكون النبي الخاتم (صلی الله علیه و آله) .
وفي الخرائج: 1/71 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «فنشأ رسول الله في حجر أبي طالب، فبينا هو غلام يجئ بين الصفا والمروة إذ نظر إليه رجل من أهل الكتاب فقال: ما اسمك؟ قال: إسمي محمد.
ص: 162
قال: ابن من؟ قال: ابن عبدالله. قال: ابن من؟ قال: ابن عبدالمطلب. قال: فما اسم هذه وأشار إلى السماء؟ قال السماء. قال: فما اسم هذه وأشار إلى الأرض؟ قال: الأرض. قال فمن ربهما؟ قال: الله. قال: فهل لهما رب غير الله؟ قال: لا».
أقول: إحفظ عندك أن علماء اليهود والنصارى كانوا يعرفون النبي (صلی الله علیه و آله)، كما نصت الآيات وتواترت الأحاديث والأخبار، وأنهم بشروا به قبل ولادته، وعرفوا يوم ولادته من علامات النجوم، ثم عرفوه بصفته لما رأوه، وأخبروا عمه أباطالب وغيره، وشاع ذلك وذاع في مكة وبين العرب!
يضاف إلى ذلك ما دل على أنه (صلی الله علیه و آله) كان نبياً يرافقه ملك من طفولته، وأن جده عبدالمطلب وعمه أباطالب (علیهما السلام) كان يعرفان أن سيبعث نبياً، وسيكذبه قومه ويحاولون قتله فيهاجر، ويحاربونه فينصره الله ويخضع له العرب.
إحفظ هذه الحقائق، لأنك سترى أن رواة الحكومات يظهرونها أحياناً، ويطمسونها أحياناً! فقد طمسوها عند حديث عائشة في كيفية بدء الوحي! وطمسوها لينفواوجود صحابة قرشيين منافقين، بحجة أنه لم يكن للنبي (صلی الله علیه و آله) دولة تجذب أحداً ليسلم طمعاً، مع أن خبر نبوته (صلی الله علیه و آله) كان يستهوي مغمورين في قبائلهم لاتباعه طمعاً بموقع في دولته! فهو ابن عبدالمطلب زعيم العرب، وقد شهد له علماء اليهود والنصارى بأنه سيحكم العرب، وهو يعد الناس بأنه سيملك كنوز كسرى وقيصر! فمن الطبيعي أن يطمع عديدون في موقع في دولته ليخرج من فقره ومهانته!
وهؤلاء الأشخاص أخطر على الإسلام من المنافقين العاديين، لأنهم أصحاب طموح سياسي، ولذلك سماهم الله تعالى «مرضى القلوب» وذكرهم في أوائل سور القرآن فقال في المدثر: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً.. وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً.. «المدثر 31». ثم تحدث عنهم في اثنتي عشرة آية! ووصفهم بأنهم وقحون، يفرون في الحرب، ويحملون النبي (صلی الله علیه و آله) مسؤولية الهزيمة،لأنه لم يشركهم في القيادة!
ص: 163
قال عنهم في آيات أحُد: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئٍْ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَالايُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئْ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا! آل عمران: 154.
وكاد القرآن أن يسميهم لما وصفهم بأنهم كانوا في مكة مستعجلين ليقاتل النبي قريشاً ببني هاشم الشجعان ليقطفوا هم الثمار، لكنهم لما كتب القتال في بدر نكصوا وخوفوا النبي (صلی الله علیه و آله) من قريش! فذكَّرهم الله بنفاقهم في مكة وقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً.. النساء: 77.
قال الطبري: 5/233: «نزلت في قوم من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد.. فلما فرض عليهم القتال شقَّ عليهم»!
وفي برهان الزركشي: 1/422: «فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا! هذه الإشارة للفريق الذين نافقوا، من القوم الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ».
وقال ابن حجر: «نزلت في عبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص وهما من بني زهرة، وقدامة بن مظعون، والمقداد بن الأسود، وذلك أنهم استأذنوا في قتال كفار مكة لما يلقون منهم من الأذى فقال: لم أؤمر بالقتال، فلما هاجر إلى المدينة وأذن بالقتال، كره بعضهم ذلك»! أسباب النزول: 2/918.والحاكم: 2/66، وصححه بشرط بخاري.، وفسرها النسائي: 6/3 والبيهقي: 9/11، بابن عوف وأصحابه.
وكذبوا على المقداد (رحمة الله) فجعلوه منهم، مع أنهم رووا قوله للنبي (صلی الله علیه و آله): «يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن إمض ونحن معك! فكأنه سُرِّيَ عن رسول الله». البخاري: 5/187.
ومعناه أن النبي (صلی الله علیه و آله) غضب من أهل آية: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، وليس من المقداد (رحمة الله)!
قال الرازي: 10/184: «والأولى حمل الآية على المنافقين،لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، ولا شك أن من هذا كلام المنافقين... فالمعطوف في المنافقين وجب أن يكون المعطوف عليهم فيهم أيضاً».
ص: 164
ففي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /155: «كان يسافر إلى الشام مضارباً لخديجة بنت خويلد، وكان من مكة إلى بيت المقدس مسيرة شهر، فكانوا في حَمَارَّة القيظ يصيبهم حرتلك البوادي، وربما عصفت عليهم فيها الرياح، وسفت عليهم الرمال والتراب، وكان الله تعالى في تلك الأحوال يبعث لرسول الله (صلی الله علیه و آله) غمامة تظله فوق رأسه، تقف بوقوفه وتزول بزواله، إن تقدم تقدمت وإن تأخر تأخرت، وإن تيامن تيامنت وإن تياسر تياسرت، فكانت تكفُّ عنه حر الشمس من فوقه، وكانت تلك الرياح المثيرة لتلك الرمال والتراب، تُسفيها في وجوه قريش ووجوه رواحلهم، حتى إذا دنت من محمد (صلی الله علیه و آله) هدأت وسكنت، ولم تحمل شيئاً من رمل ولا تراب، وهبَّت عليه ريحٌ باردة لينة، حتى كانت قوافل قريش يقول قائلها: جوار محمد أفضل من خيمة! فكانوا يلوذون به ويتقربون إليه، فكان الرَّوْح يصيبهم بقربه، وإن كانت الغمامة مقصورة عليه. وكان إذا اختلط بتلك القوافل غرباء، فإذا الغمامة تسير في موضع بعيد منهم».
وفي شرح الأخبار: 1/183: «ولما انتهى إليها عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما قد فشا واستفاض عنه من الخبر، أرسلت إليه في أن تعطيه مالاً يتجر لها به إلى الشام، ففعل..وربح في تلك التجارة ما لم
ص: 165
يربح أحد مثله، فلما قدم بذلك على خديجة قالت لغلامها ميسرة: ما أعظم أمانة محمد وبركته، ما ربحت في تجارة قط كربحي فيما أبضعته معه. فقال لها ميسرة: وأعظم من ذلك ما سمعته فيه ورأيته منه! قالت: وما هو؟ فأخبرها بخبر الراهب وخبر الغمامة».
وفي سيرة ابن إسحاق: 2/59 وابن هشام: 1/121: «فلما أخبرها ميسرة عما أخبرها به بعثت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ..يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك مني وشرفك في قومك، وسطتك فيهم، وأمانتك عندهم، وحسن خلقك، وصدق حديثك».
وفي مسارِّ الشيعة للمفيد/49: «وفي اليوم العاشر منه «ربيع الأول» تزوج النبي (صلی الله علیه و آله) بخديجة بنت خويلد أم المؤمنين، لخمس وعشرين سنة من مولده».
في الكافي: 5/374 والفقيه: 3/397 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما أراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يتزوج خديجة بنت خويلد، أقبل أبوطالب في أهل بيته ومعه نفر من قريش، حتى دخل على ورقة بن نوفل عم خديجة، فابتدأ أبوطالب بالكلام فقال: الحمد لرب هذا البيت، الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل، وأنزلنا حرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه. ثم إن ابن أخي هذا يعني رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ممن لايوزن برجل من قريش إلا رجح به، ولا يقاس به رجل إلا عظم عنه، ولا عِدل له في الخلق، وإن كان مقلاً في المال فإن المال رفدٌ جارٍ وظلٌّ زائل، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها، والمهر عليَّ في مالي، الذي سألتموه عاجله وآجله. وله ورب هذا البيت حظ عظيم ودين شائع ورأي كامل.
ثم سكت أبوطالب، وتكلم عمها وتلجلج وقَصُر عن جواب أبي طالب، وأدركه القطع والبهر! وكان رجلاً من القسيسين، فقالت خديجة مبتدئة: يا عماه إنك وإن كنت أولى بنفسي مني في الشهود، فلست أولى بي من نفسي، قد زوجتك يا محمد نفسي والمهر عليَّ في مالي، فأمر عمك فلينحر ناقة فَلْيُولِمْ بها وادخل على أهلك! قال
ص: 166
أبوطالب: إشهدوا عليها بقبولها محمداً، وضمانها المهر في مالها! فقال بعض قريش: يا عجباه، المهر على النساء للرجال!
فغضب أبوطالب غضباً شديداً وقام على قدميه، وكان ممن يهابه الرجال ويُكره غضبه، فقال: إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر، وإذا كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلا بالمهر الغالي! ونحرأبوطالب ناقة، ودخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأهله. وقال رجل من قريش يقال له عبدالله بن غنم:
هنيئاً مريئاً يا خديجة قد جرت *** لك الطير فيما كان منك بأسعد
تزوجته خير البرية كلها *** ومن ذا الذي في الناس مثل محمد
به بشر البران عيسى بن مريمٍ *** وموسى بن عمران فيا قرب موعد
أقرت به الكتاب قدماً بأنه *** رسول من البطحاء هاد ومهتد»
أقول: نص الحديث على أن الشاعر قرشي، لكن علماء الرجال ترجموا لعبدالله بن غنم الأشعري أو الأزدي، ويظهر أنه صحابي وقد قال شعره بعد الإسلام.
وذلك كما وهبت سارة كل أموالها لإبراهيم (علیهما السلام)،فقد فسر ابن عباس قوله تعالى: وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى: «فأغناك بمال خديجة، ثم زادك من فضله فجعل دعائك مستجاباً، حتى لودعوت على حجرأن يجعله الله لك ذهباً لنقل عينه إلى مرادك، وأتاك بالطعام حيث لا طعام، وأتاك بالماء حيث لاماء، وأغاثك بالملائكة حيث لامغيث، فأظفرك بهم على أعدائك».معاني الأخبار/53. وعمدة القاري: 19/299.
وفي البحار: 16/71: «يا معاشر العرب إن خديجة تشهدكم على أنها قد وهبت نفسها ومالها، وعبيدها، وخدمها، وجميع ما ملكت يمينها، والمواشي، والصداق، والهدايا، لمحمد (صلی الله علیه و آله)».
وفسرالإمام الرضا (علیه السلام) آية: وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى «العيون: 2/177»بأنه جعله مستجاب الدعوة، والآية مطلقة تشمل مال خديجة والغنائم التي أحلها الله له، وغيرها.
ص: 167
ويقع في الجهة المقابلة لشعب بني هاشم، وهو في سوق الليل معروفٌ بمولد فاطمة (علیها السلام)، وقد زرته في السبعينات ميلادية حتى هدمه الوهابية وأزالوه، في حملتهم على آثار النبي (صلی الله علیه و آله) وآثار الإسلام!
ولما كتبت قريش صحيفة مقاطعة بني هاشم ليسلموهم النبي (صلی الله علیه و آله) فيقتلوه اضطر النبي (صلی الله علیه و آله) أن يترك بيته ويدخل مع بني هاشم في شعب أبي طالب، وتحملت خديجة (علیها السلام) معه سنوات المحاصرة، فأرسل الله جبرئيل ليقرئها السلام ويسليها عن فقدان بيتها، ويبشرها بأن الله تعالى بني لها بيتاً في الجنة.
وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يذكرها كل عمره ويمدحها، ولما فتح مكة نصب خيمته على قبرها، فكانت عائشة تحسدها وتغار منها: «قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة»! صحيح بخاري: 8/195.
وفي فتح الباري: 7/102: «عن هشام بن عروة: ما حسدت امرأة قط ما حسدت خديجة، حين بشرها النبي ببيت».
وهذا ينسجم مع طبيعة المرأة واهتمامها ببيتها، وحسدها لضرتها إذا كان بيتها أحسن، فكيف إذا بناه الله تعالى لخديجة (علیها السلام) وأرسل جبرئيل (علیه السلام) يبشرها به! فهو يستحق من عائشة أعلى درجات الحسد، كما قالت!
ولم تذكر عائشة هنا صفة بيت خديجة، لكنها بعد ذلك هونت من شأنه وقالت إنه بيت من قصب وسعف نخل! فنسب بعض الرواة وصفه بأنه بيت من قصب إلى النبي (صلی الله علیه و آله)! لكن بعضهم أبقاه على النص النبوي بأنه من لؤلؤة ولا صخب فيه ولا نصب. فقد قال الإمام الباقر (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لفاطمة (علیها السلام): إن جبرئيل (علیه السلام) عهد إليَّ أن بيت أمك خديجة في الجنة بين بيت مريم ابنة عمران وبين بيت آسية امرأة فرعون، من لؤلؤة جوفاء لاصخب فيه ولا نصب».شرح الأخبار:3/17.
وكذلك هي بيوت كبار الأولياء من ياقوت ومرجان، ففي نظم درر السمطين للحنفي/183، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 1/666 عن أبي سعيد الخدري أن
ص: 168
النبي (صلی الله علیه و آله): «مر في السماء السابعة، قال: فرأيت فيها لمريم ولأم موسى، ولآسية امرأة فرعون، ولخديجة بنت خويلد، قصوراً من الياقوت، ولفاطمة بنت محمد سبعين قصراً من مرجان أحمر، مكللةً باللؤلؤ».
وروى عددٌ من مصادرهم حديث بيت خديجة (علیها السلام) بدون قصب كما رويناه! ففي فضائل الصحابة للنسائي/75: «بشر رسول الله خديجة ببيت في الجنة لاصخب فيه ولا نصب». وسنن النسائي: 5/94، الجامع الصغير: 2/247
وتاريخ الذهبي: 1/238.
لكن عائشة جعلت بيت خديجة كوخاً من قصب! «بشر خديجة ببيت من الجنة من قصب، لاصخب فيه ولانصب»! صحيح بخاري: 2/203.
وبينت سبب القصب «فتح الباري: 1/27» فقالت: «ماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، فقال النبي: رأيت لخديجة بيتاً من قصب، لاصخب فيه ولا نصب».
وفي مسند أبي يعلى: 4/41 من حديث المعراج، أن النبي (صلی الله علیه و آله): «سئل عن خديجة لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن؟ فقال: أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب»!
وصحح في مجمع الزوائد: 9/416: «ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن»!
فبيت خديجة (علیها السلام) من قصب لأنها لم تصلِّ، وبيت عائشة من لؤلؤ لأنها صلَّت! لكن الصلاة يا أمنا عائشة فرضت في أول البعثة، وروى الجميع أن خديجة (علیها السلام) كانت تصلي مع النبي (صلی الله علیه و آله) إلى أن توفيت قبيل هجرته! فكيف قلت: لم تُصَلِّ!
إنها فضيحة حسد عائشة لخديجة (علیها السلام) على بيتها في الجنة، فجعلته من قصب، وأنكرت صلاة خديجة، وأخرت تشريع الصلاة إلى ما بعد موت خديجة!
وجاء المعذرون ومنهم البخاري «فتح الباري: 7/104» ليغطوا حسد عائشة، فجعلوا معنى بيت القصب: قضبان الذهب! لكن اللغة العربية تأبى ذلك، فالقصب نبات، ولم يرد وصفاً لقصور الجنة في أي حديث صحيح!
ص: 169
وهدفه أن يعرِّف المسلمين قدرها، وكانت عائشة تعلن حسدها لها، فيغضب النبي (صلی الله علیه و آله) عليها! ففي السيرة الحلبية: 3/401: «قالت له وقد مدح خديجة: ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين، قد أبدلك الله خيراً منها! فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: والله ما أبدلني الله خيراً منها»!
وقال ابن إسحاق: 5/228: «أهدي لرسول الله (صلی الله علیه و آله) جزور أو لحم، فأخذ عظماً منها فتناوله بيده فقال له: إذهب به إلى فلانة»صديقة خديجة«فقالت له عائشة: لكأنه ليس في الأرض امرأة إلا خديجة! فقام رسول الله مغضباً فلبث ما شاء الله، ثم رجع فإذا أم رومان فقالت: يا رسول الله ما لك ولعائشة إنها حَدَث وأنت أحق من تجاوز عنها، فأخذ بشدق عائشة وقال: ألست القائلة: كأنما ليس على الأرض امرأة إلا خديجة!والله لقد آمنت بي إذ كفر قومك ورزقت مني الولد وحرمتموه»!
وفي العمدة/394، أنه (صلی الله علیه و آله) طرد عائشة! «فقال (صلی الله علیه و آله): قومي عني فقامت إلى ناحية من البيت». ولعلها تكلمت بعد قيامها فأخذ بشدقها! ولم تبين الرواية كيف أخذ بشدقها، هل سدَّه ليسكتها، أم ضغط عليه تأديباً لها!
وفي الخصال/405، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) منزله فإذا عائشة مقبلة على فاطمة تصايحها وهي تقول: والله يا بنت خديجة ما ترينَ إلا أن لأمك علينا فضلاً، وأي فضل كان لها علينا، ما هي إلا كبعضنا! فسمع مقالتها لفاطمة، فلما رأت فاطمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكت فقال: ما يبكيك يا بنت محمد؟ قالت: ذكرت أمي فتنقصتها فبكيت! فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم قال: مه يا حميراء فإن الله تبارك وتعالى بارك في الودود الولود، وإن خديجة رحمها الله ولدت مني طاهراً وهو عبدالله وهو المطهر، وولدت مني القاسم وفاطمة [وأم كلثوم ورقية وزينب] وأنت ممن أعقم الله رحمها، فلم تلدي شيئاً»!
أقول: وضعنا أسماء البنات الثلاث بين معقوفين، لأنه يوجد خلاف في أنهن بناته (صلی الله علیه و آله) أو ربائبه، وقوله (صلی الله علیه و آله): أعقم الله رحمها، يدل على أن الله تعالى حصر ذريته بفاطمة (علیها السلام) .لكن رغم توبيخ النبي (صلی الله علیه و آله) لعائشة ونهيها واصلت حسدها لخديجة! ولها
ص: 170
قصص في حساسيتها منها مع فاطمة (علیها السلام)، لكن سلوك فاطمة الرباني فرض على عائشة احترامها فكانت تقول: «ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة من فاطمة إلا أن يكون الذي ولدها». الإستيعاب: 4/1896، الزوائد: 9/201 وصححه. «كان بينهما شئ فقالت عائشة: يارسول الله سلها فإنها لاتكذب». أبو يعلى: 8/153.
فلا يجوز قبول روايات عائشة في خديجة (علیها السلام)، بعد اعترافها بحسدها المفرط لها، ولا قول حكيم بن حزام المتعصب لعائشة، قال: «كان عمر رسول الله يوم تزوج خديجة خمساً وعشرين سنة، وعمرها أربعون سنة. بينما قال ابن عباس: كان عمرها ثمانياً وعشرين سنة، رواهما ابن عساكر! وقال ابن جرير: كان ابن سبع وثلاثين سنة، وكذا نقل البيهقي عن الحاكم، وكان عمرها إذ ذاك خمساً وثلاثين، وقيل خمساً وعشرين سنة». سيرة ابن كثير: 1/265.
لكنه لم يتزوج إلا لمصلحة الإسلام ولا تزوج على خديجة. ففي الكافي: 5/389 أن أبابكر الحضرمي سأل الإمام الباقر (علیه السلام): «عن قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ؟ كم أحل له من النساء؟قال: ما شاء من شئ. قلت: قوله عزوجل: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ؟ فقال: لاتحل الهبة إلا لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وأما لغير رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلا يصلح نكاح إلا بمهر. قلت: أرأيت قول الله عزوجل: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ؟ فقال: إنما عنى به لايحل لك النساء التي حرم الله في هذه الآية: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ.. إلى آخرها، ولو كان الأمر كما تقولون كان قد أحل لكم ما لم يحل له، لأن أحدكم يستبدل كلما أراد ولكن ليس الأمر كما يقولون. إن الله عزوجل أحل لنبيه (صلی الله علیه و آله) أن ينكح من النساء ما أراد إلا ما حرم عليه في هذه الآية».
ص: 171
ثم روى تسمية نساء النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: «عائشة، وحفصة، وأم حبيب بنت أبي سفيان بن حرب، وزينب بنت جحش، وسودة بنت زمعة، وميمونة بنت الحارث، وصفية بنت حي بن أخطب، وأم سلمة بنت أبي أمية، وجويرية بنت الحارث. وكانت عائشة من تيم، وحفصة من عدي، وأم سلمة من بني مخزوم، وسودة من بني أسد بن عبدالعزى، وزينب بنت جحش من بني أسد وعدادها من بني أمية، وأم حبيب بنت أبي سفيان من بني أمية، وميمونة بنت الحارث من بني هلال، وصفية بنت حي بن أخطب.
ومات (صلی الله علیه و آله) عن تسع نساء وكان له سواهن التي وهبت نفسها للنبي (صلی الله علیه و آله) وخديجة بنت خويلد أم ولده، وزينب بنت أبي الجون التي خدعت، والكندية».
ونشرت ذلك عائشة وهي تتحدث عن غيرتها منها، قال ابن البطريق في العمدة/394: «عن أم رومان «أم عائشة» قالت: كان لرسول الله جارة قد أوصته خديجة أن يتعاهدها، فحضرعنده شئ من المأكل فأمر بإعطائها وقال: هذه أمرتني خديجة بأن أتعاهدها فقالت عائشة: وكنت أحسدها لكثرة ذكره لها».
وعندما أفاء الله على رسوله (صلی الله علیه و آله) أموال بني النضير ومنها فدك، أمره الله أن يفي لخديجة فيعطي فدكاً لابنتها فاطمة (علیها السلام) . ونزل قوله تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ.«إن الله يأمرك أن تؤتى ذا القربى حقه.قال: يا جبرئيل ومن قرباي، وما حقهم؟قال: أعط فاطمة حوائط فدك، واكتب لها كتاباً.وهي من ميراثها من أمها خديجة». قصص الأنبياء/345 والمناقب: 1/122.
وقد أجمع المسلمون على أن أموال بني النضير كانت خالصة للنبي (صلی الله علیه و آله)، وفيها نزل قوله تعالى: وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ. الكافي: 1/539، المعتبر: 2/633 والبخاري: 3/227 و 4/209.
ص: 172
فقد ربته وأحبته كما أحبه النبي (صلی الله علیه و آله) ووفت بذلك لفاطمة بنت أسد في تربيتها للنبي (صلی الله علیه و آله)، وقد أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) يوماً في مهمة فتأخر فتخوف عليه فذهبت خديجة تبحث عنه! «وافتقد علياً (علیه السلام) ذات يوم فلم يعلم مكانه حتى أمسى فاشتد غمه به، فرأت أثر الغم عليه خديجة رضوان الله عليها، فقالت: يا رسول الله ما هذا الغم الذي أراه عليك؟قال: غاب علي منذ اليوم فما أدري ما صُنِع به..
فخرجت خديجة في الليل تلتمس خبر علي، فوافقته فأعلمته باغتمام رسول الله (صلی الله علیه و آله) بغيبته، وألفته مقبلاً إليه، فسبقته تبشره فقام قائماً فحمد الله تعالى رافعاً يديه». شرح الأخبار: 2/205 وتفسير فرات/547.
وفي مناقب ابن سليمان: 1/304: «قالت خديجة: فمضيت فأخبرت رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإذا هو قائم يقول: اللهم فرج غمي بأخي علي، فإذا بعلي قد جاء فتعانقا».
قال العلامة الحلي في منهاج الكرامة/75: «وعظموا أمر عائشة على باقي نسوانه، مع أنه (صلی الله علیه و آله) كان يكثر من ذكر خديجة بنت خويلد، وقالت له عائشة: إنك تكثر من ذكرها وقد أبدلك الله خيراً منها. وأذاعت سر رسول الله (صلی الله علیه و آله) . وقال لها النبي (صلی الله علیه و آله): إنك تقاتلين علياً وأنت ظالمة. ثم إنها خالفت أمر الله تعالى في قوله: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ، وخرجت في ملأ من الناس تقاتل علياً (علیه السلام) على غير ذنب، لأن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان وكانت هي كل وقت تأمر بقتله وتقول: أقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً! فلما بلغها قتله فرحت بذلك، ثم سألت: من تولى الخلافة؟ فقالوا: علي، فخرجت لقتاله على دم عثمان. فأي ذنب كان لعلي (علیه السلام) على ذلك؟ وكيف استجاز طلحة والزبير مطاوعتها على ذلك؟وبأي وجه يلقون رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره وأخرجها من منزلها وسافر بها كان أشد الناس عداوة»!
ص: 173
ففي أمالي الطوسي/463: «إن رسول الله قال: ما نفعني مال قط مثلما نفعني مال خديجة، وكان رسول الله يفك من مالها الغارم والعاني، ويحَمل الكَلَّ، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة، ويحمل من أراد منهم الهجرة.
وكانت قريش إذا رحلت عيرها في الرحلتين يعني رحلة الشتاء والصيف، كانت طائفة من العير لخديجة، وكانت أكثر قريش مالاً، وكان (صلی الله علیه و آله) ينفق منه ما شاء في حياتها، ثم ورثها هو وولدها بعد مماتها».
وروى البخاري: 5/80 قول عمر لأسماء بنت عميس: «سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله منكم! فغضبت وقالت: كلا والله كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسوله (صلی الله علیه و آله)! وأيم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ونحن كنا نُؤذى ونُخاف. قال لها (صلی الله علیه و آله): ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان».
وقد ورَّثت حسنها لابنتها وأحفادها،ففي المناقب: 3/170عن الإمام الحسن (علیه السلام) قال: «صوَّر الله عزوجل علي بن أبي طالب في ظهر أبي طالب على صورة محمد، فكان علي بن أبي طالب أشبه الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكان الحسين بن علي أشبه الناس بفاطمة (علیها السلام)، وكنت أنا أشبه الناس بخديجة الكبرى3».
المشهور أن زينب وأم كلثوم بنات النبي (صلی الله علیه و آله) من خديجة (علیها السلام) ويوجد قول قوي بأنهن بنات أخت خديجة، وقد توفيت أمهن فربتهن خالتهن خديجة، فعُرفن ببنات محمد (صلی الله علیه و آله)! وأن خديجة لم تتزوج قبل النبي (صلی الله علیه و آله)، وأن عمرها عند زواجها كان بضعاً وعشرين، وكان عمرها لما ماتت خمسين سنة، حسب رواية البيهقي.
ص: 174
وقد تبنى هذا الرأي بعض كتاب السيرة القدماء والمعاصرين فقال إنهن ربائب. قال في المناقب: 1/138: «وروى أحمد البلاذري، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي، وأبوجعفر في التلخيص: أن النبي (صلی الله علیه و آله) تزوج بها وكانت عذراء، يؤكد ذلك ما ذَكر في كتابي الأنوار والبدع، أن أم كلثوم وزينب كانتا ابنتي هالة أخت خديجة».
وقد ألف الباحث السيد جعفر مرتضى كتاب: «بنات النبي (صلی الله علیه و آله) أم ربائبه؟» تجده في: http: //www.aqaed.com/shialib/books/all/banat/index.html
وذكر فيه تناقض روايتهم في تاريخ زواج النبي (صلی الله علیه و آله) وفي ولادة أولاده، وزواج بناته، فبعضها ذكر أنه (صلی الله علیه و آله) تزوج بها قبل البعثة بثلاث سنين، وبعضها قال إن أولاده منها ولدوا جميعاً بعد البعثة، إلا ولده عبدالمطلب، وبعضها ذكر أن آية: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ، نزلت بعد موت ابنه القاسم، الذي كان أكبر أولاده.
كما استدل بنصوص على أن زينب هي بنت أخت خديجة (علیها السلام) من زوجها أبي هند المخزومي، ومنها نص كتاب الإستغاثة، ونص المناقب المتقدم.
واستدل بقول النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي: «يا علي، أوتيتَ ثلاثاً لم يؤتهن أحدٌ ولا أنا: أوتيت صهراً مثلي، ولم أوت أنا مثلي»! فدل على أن علياً صهره الوحيد.
وقول ابن عمر في صحيح بخاري: 5/157: «أما عثمان فكان الله عفا عنه، وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه! وأما علي فابن عم رسول الله وختنه، وأشار بيده فقال: هذا بيته حيث ترون». فذكر الصهر لعلي ولم يذكره لعثمان!
ويؤيد هذا الرأي ما رواه الحاكم: 2/200وصححه على شرط الشيخين: عن عروة، عن خالته عائشة في زينب بنت النبي (صلی الله علیه و آله) وكان زوجها الربيع بن العاص الأموي أسيراً في بدر، فأرسلت فداءه فأطلقه النبي (صلی الله علیه و آله) ووعده الربيع أن يأذن لها بالهجرة، فأذن لها وخرج بها من مكة زيد بن حارثة وأبو رافع وأخ زوجها فمنعته قريش، وضرب ناقتها هبَّار بن الأسود، فوقعت زينب وأسقطت جنينها ثم سمحت لها قريش فهاجرت. قال عروة إن عائشة روت القصة وقالت: «فكان
ص: 175
رسول الله يقول: هي أفضل بناتي، أصيبت فيَّ. فبلغ ذلك علي بن الحسين فانطلق إلى عروة فقال: ما حديثٌ بلغني عنك تحدثه تنتقص فيه حق فاطمة (علیها السلام)! فقال: والله ما أحب أنَّ لي ما بين المشرق والمغرب وأني أنتقص فاطمة حقاً هو لها! وأما بعدُ فلك أن لا أحدث به أبداً! قال عروة: وإنما كان هذا قبل نزول آية: أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ».
ومعناه أن الإمام زين العابدين (علیه السلام) وبَّخ عروة على روايته أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال إن زينب أفضل بناته، فتنصل عروة ووعد أن لايرويه، مع أنه قول خالته عائشة! ثم قال معتذراً عنها: وإنما كان هذا قبل نزول آية: أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ. ومعناه أن النبي (صلی الله علیه و آله) عبَّرعن زينب بابنته قبل أن تنزل آية تحريم تسمية المتبنى إبناً وقد نزل ذلك في سورة الأحزاب سنة خمس للهجرة، أما بعدها فلم يقل عن زينب: بنتي لأنها كانت متبناة! فهذا حديث صحيح بشرط الشيخين يشهد بأن زينب ربيبة! فالقول بأنهن ربائب قوي علمياً، لكنه يحتاج إلى مؤيدات أخرى لينهض في مقابل النصوص على أنهن بنات النبي (صلی الله علیه و آله) من خديجة.
قال أبو الفتح الكراجكي في كتابه: التعجب من أغلاط العامة/101: «ومن عجيب أمرهم مثل هذا: قولهم: إن عثمان بن عفان ذو النورين، واعتقادهم من نحلته هذا بأنه تزوج بابنتين كانتا فيما زعموا لرسول الله من خديجة بنت خويلد، وقد اختلفت الأقوال فيهما، فمن قائل: أنهما ربيبتاه وأنهما ابنتا خديجة من سواه. ومن قائل: إنهما ابنتا أخت خديجة من أمها، وإن خديجة ربتهما لما ماتت أختها في حياتها، وقال إن اسم أبيهما هالة. ومن قال إنهما ابنتا النبي يعلم أنهما ليستا كفاطمة البتول (علیها السلام) في منزلتها، ولا يدانيانها في مرتبتها، فيسمون عثمان لأجل تزويجه بهما، (مع ما روي من أنه قتل إحداهما): ذا النورين، ولايقولون: إن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) ذو النورين، وهو أبو السبطين السيدين الإمامين الشهيدين الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، وشنفي العرش، وريحانتي نبي الرحمة، وولدي ابنته فاطمة البتول سيدة نساء العالمين، والأئمة الهادين، صلوات الله عليهم أجمعين».
ص: 176
قال الحاكم في المستدرك: 3/483ه: «تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، في جوف الكعبة».
وقال في أعيان الشيعة: 1/323: «ورد أنه (علیه السلام) ولد في جوف الكعبة أعزها الله، في يوم الجمعة في الثالث عشر من شهر رجب، وأن هذه فضيلة اختصه الله بها، لم تكن لأحد قبله ولا بعده. وقد صرح بذلك عدد كبير من العلماء ورواة الأثر، ونظمها الشعراء والأدباء، وذلك مستفيض عند شيعة أهل البیت (علیهم السلام)،كما أنه كذلك في كتب غيرهم، حتى لقد قال الحاكم وغيره: تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد.الخ.». قال السيد الحميري المتوفى سنة 173:
ولدته في حرم الإله وأمنه *** والبيت حيثُ فناؤه والمسجدُ
بيضاءُ طاهرة الثياب كريمةٌ *** طابت وطاب وليدها والمولد
في ليلة غابت نحوس نجومها *** وبدا مع القمر المنير الأسعد
ما لفَّ في خرق القوابل مثله *** إلا ابنُ آمنةَ النبيُّ محمدُ
وقال في الصحيح من سيرة الإمام علي (علیه السلام): 1/98: «لكن نفوس شانئي علي (علیه السلام) قد نفست عليه هذه الفضيلة التي اختصه الله بها، فحاولت تجاهل كل أقوال العلماء والمؤرخين ورواة الحديث والأثر، والضرب بها عرض الجدار! حيث نجدهم وبكل جرأة ولا مبالاة، يثبتون
ص: 177
ذلك لرجل آخر غير علي (علیه السلام)، بل ويحاولون التشكيك في ما ثبت لعلي أيضاً، حتى لقد قال في كتاب النور: حكيم بن حزام ولد في جوف الكعبة، ولا يعرف ذلك لغيره! وأما ما روي من أن علياً ولد فيها فضعيف عند العلماء»!
وقال المعتزلي في شرح النهج: 1/14: «كثير من الشيعة يزعمون أنه ولد في الكعبة والمحدثون لا يعترفون بذلك، ويزعمون أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام».
أقول: أول من ادعى ولادة حكيم في الكعبة ابن عمه الزبير بن بكار، في كتابه: جمهرة نسب قريش: 1/353، قال: «دخلت أم حكيم بن حزام الكعبة مع نسوة من قريش وهي حامل متمٌّ بحكيم بن حزام، فضربها المخاض في الكعبة، فأُتيت بنطع حيت أعجلتها الولادة، فولدت حكيم بن حزام في الكعبة على النطع».
ويكفي لرده أنه لم يروه إلا الزبيريون، وبغضهم لعلي (علیه السلام) مشهور للعام والخاص. قال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين/315، عن عبدالله بن الزبير: «وهو الذي بقي أربعين جمعة لايصلي على النبي (صلی الله علیه و آله) في خطبته، حتى التاث عليه الناس، فقال: إن له أهل بيت سوء إذا صليت عليه أو ذكرته أتلعوا أعناقهم واشرأبوا لذكره وفرحوا بذلك، فلا أحب أن أقر عينهم بذكره»!وهذا من غرائب النصب والحقد!
وتدل شهادة الحاكم: 3/483 بأن ولادة علي (علیه السلام) في الكعبة متواترةٌ عند الجميع، على أن السلطة غيبت نصوصها، ونشرت بدلها كذبة ابن بكار الزبيري لمصلحة ابن عمه حكيم بن حزام، وكلاهما من النواصب!
وقد ذكرنا في المقدمة أن السلطة أبادت أحاديث جابر بن يزيد الجعفي وكانت سبعين ألف حديث، وأحاديث ابن عقدة وكانت أكثر من ثلاث مائة ألف حديث!
هذا، وقد رويت كيفيات لولادته (علیه السلام) في الكعبة، ولعل أصحها رواية يزيد بن قعنب، التي رواها سعيد بن جبير عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن آبائه:، قال ابن قعنب «أمالي الصدوق/194»: «كنت جالساً مع العباس بن عبدالمطلب وفريق من بني عبدالعزى
ص: 178
بإزاء بيت الله الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أميرالمؤمنين (علیه السلام) وكانت حاملة به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق، فقالت: رب إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل (علیه السلام) وأنه بني البيت العتيق، فبحق الذي بنیٰ هذا البيت، وبحق المولود الذي في بطني لما يسرت علي ولادتي. قال يزيد بن قعنب: فرأينا البيت وقد انفتح من ظهره ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا والتزق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أن ذلك أمر من أمر الله عزوجل.
ثم خرجت بعد الرابع وبيدها أميرالمؤمنين (علیه السلام)، ثم قالت: إني فضلت على من تقدمني من النساء، لأن آسية بنت مزاحم عبدت الله عزوجل سراً في موضع لا يحب أن يعبدالله فيه إلا اضطراراً، وإن مريم بنت عمران هزت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطباً جنياً، وإني دخلت بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنة وأرزاقها، فلما أردت أن أخرج هتف بي هاتف: يا فاطمة سمه علياً فهو علي والله العلي الأعلى، يقول: إني شققت إسمه من إسمي، وأدبته بأدبي، ووقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي، ويقدسني ويمجدني، فطوبى لمن أحبه وأطاعه، وويل لمن أبغضه وعصاه»!
ورُويت لولادته (علیه السلام) كيفية أخرى عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) عن زيدة بنت قريبة بن العجلان من بني ساعدة «مناقب ابن المغازلي/25» قال (علیه السلام): «كنت جالساً مع أبي ونحن زائران قبرَ جدنا (علیه السلام) وهناك نسوان كثيرة، إذ أقبلت امرأة منهن فقلت لها: من أنت يرحمك الله؟ قالت: أنا زيدة بنت قريبة بن العجلان من بني ساعدة، فقلت لها: فهل عندك شئ تُحدثينا؟ فقالت: إي والله حدثتني أُمي أُم عمارة بنت عُبادة بن نَضْلَة بن مالك بن العَجلان الساعدي، أنها كانت ذات يوم في نساء من العرب إذ أقبل أبوطالب كئيباً حزيناً فقلت له: ما شأنك يا أباطالب؟ قال: إن فاطمة بنت أسد في شدة المخاض، ثم وضع يديه على وجهه، فبينا هو كذلك إذ أقبل محمد (صلی الله علیه و آله) فقال له: ما شأنك يا عمِّ؟ فقال: إن فاطمة بنت أسد تشتكي
ص: 179
المَخاضَ، فأخذ بيده وجاء وهي معه فجاء بها إلى الكعبة فأجلسها في الكعبة، ثم قال أجلسي على اسم الله! قال فَطُلِقَت طَلقةً فولدت غلاماً مسروراً نظيفاً منُظّفاً لم أر كَحُسنِ وجهه، فسماه أبوطالب علياً وحَمله النبي (صلی الله علیه و آله) حتى أداه إلى منزلها! قال علي بن الحسين (علیه السلام): فوالله ما سمعتُ بشئ قطُّ إلاّ وهذا أحسنُ منه».
فرواية ابن قعنب تذكر أن فاطمة بنت أسد (علیها السلام) جاءت وحدها إلى الكعبة، ودعت الله تعالى، فانشق لها الجدار ودخلت.
وهذه الرواية تذكر أن أباطالب جاء إلى المسجد الحرام فرآه النبي (صلی الله علیه و آله) فشكا له أن زوجته تشتكي المخاض، فجاء بها النبي (صلی الله علیه و آله) إلى الكعبة، وولدت فيها.
ويمكن الجمع بينهما بأن دعاءها عند الكعبة عندما أتى بها النبي (صلی الله علیه و آله) .
وتوجد رواية بكيفية ثالثة، وإذا لم يمكن الجمع بينها، فالمرجح رواية ابن قعنب بن عتاب التميمي، وقد وثقوه وذكروا أنه كان فارساً، ويظهر أنه ابن عم الحر بن يزيد الرياحي، الذي استشهد مع الحسين (علیه السلام) . أنساب الأشراف: 12/159.
وفي المناقب: 3/59: «عليٌّ (علیه السلام) أول هاشمي ولد من هاشميين، وأول من ولد في الكعبة، وأول من آمن، وأول من صلى، وأول من بايع، وأول من جاهد، وأول من تعلم من النبي (صلی الله علیه و آله)، وأول من صنف».
في ولادته (علیه السلام) في الكعبة إشارة ربانية مهمة إلى مكانته عند الله تعالى، وإن كان هو (علیه السلام) أفضل من الكعبة الشريفة، كما قال الشهيد نور الله التستري في إحقاق الحق/198: «على أن الكلام في تشرف الكعبة بولادته فيها، لا في تشرفه بولادته في الكعبة، فإنه (علیه السلام) هو الكعبة الحقيقية لأهل الإنتباه، وقبلة إقبال المقبلين إلى الله، كما روى عنه (علیه السلام) أنه قال: نحن كعبة الله، ونحن قبلة الله».نهج الإيمان /569.
في أمالي الطوسي/3: «عن مكحول قال: لما كان يوم خيبر خرج رجل من اليهود يقال له مرحب، وكان طويل القامة عظيم الهامة، وكانت اليهود تقدمه لشجاعته ويساره.
ص: 180
قال: فخرج في ذلك اليوم إلى أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فما واقفه قرن إلا قال: أنا مرحب، ثم حمل عليه فلم يثبت له. قال: وكانت له ظئر وكانت كاهنة، وكانت تعجب بشبابه وعظم خلقته، وكانت تقول له: قاتل كل من قاتلك وغالب كل من غالبك، إلا من تسمى عليك بحيدرة، فإنك إن وقفت له هلكت. قال: فلما كثر مناوشته، وبَعُل الناس بمقامه شكوا ذلك إلى النبي (صلی الله علیه و آله) سألوه أن يُخرج إليه علياً فدعا النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) وقال له: يا علي إكفني مرحباً، فخرج إليه أميرالمؤمنين، فلما بصر به مرحب أسرع إليه فلم يره يعبأ به، فأنكر ذلك وأحجم عنه، ثم أقدم وهو يقول: أنا الذي سمتني أمي مرحبا.
فأقبل علي (علیه السلام) بالسيف، وهو يقول: أنا الذي سمتني أمي حيدره.
فلما سمعها منه مرحب هرب ولم يقف خوفاً مما حذرته منه ظئره، فتمثل له إبليس في صورة حبر من أحبار اليهود، فقال: إلى أين يا مرحب؟فقال: قد تسمى عليَّ هذا القرن بحيدرة! فقال له إبليس: فما حيدرة؟ فقال: إن فلانة ظئري كانت تحذرني من مبارزة رجل إسمه حيدرة وتقول: إنه قاتلك.
فقال له إبليس: شوهاً لك، لو لم يكن حيدرة إلا هذا وحده لما كان مثلك يرجع عن مثله، تأخذ بقول النساء وهن يخطئن أكثر مما يصبن، وحيدرة في الدنيا كثير، فارجع فلعلك تقتله، فإن قتلته سدت قومك، وأنا في ظهرك أستصرخ اليهود لك. فرده فوالله ما كان إلا كفَوَاق ناقة حتى ضربه علي (علیه السلام) ضربة سقط منها لوجهه وانهزم اليهود وهم يقولون: قتل مرحب، قتل مرحب!».
أقول: يظهر أن أمه سمته حيدرة وسماه أبوه علياً بتوجيه النبي (صلی الله علیه و آله) . وحيدرة بالعربية الأسد، وورد أن إسمه (علیه السلام) عند اليهود هيدار، ففي الروضة لابن شاذان/222، أن إسم النبي (صلی الله علیه و آله): «في التوراة: ميد ميد، وإسم وصيه: إليا، واسمه في الإنجيل: حمياطا، و إسم وصيه فيها: هيدار»
وفي معاني الأخبار/58، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) في خطبة له: «إسمي في الإنجيل إليا، وفي التوراة برئ، وفي الزبور أري، وعند الهند كبكر،
ص: 181
وعند الروم بطريسا، وعند الفرس جبتر، وعند الترك بثير، وعند الزنج حيتر، وعند الكهنة بويئ، وعند الحبشة بثريك، وعند أمي حيدرة، وعند ظئري ميمون، وعند العرب علي، وعند الأرمن فريق، وعند أبي ظهير».
وفي الفضائل لابن شاذان/175: «وقد رويَ عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: لعلي سبعة عشر إسماً. فقال ابن عباس أخبرنا ما هي يا رسول الله؟ فقال: إسمه عند العرب علي، وعند أمه حيدرة، وفي التوراة إليا، وفي الإنجيل بريا، وفي الزبور قريا، وعند الروم بطرسيا، وعند الفرس نيروز، وعند العجم شميا، وعند الديلم فريقيا، وعند الكرور شيعيا، وعند الزبح حيم، وعند الحبشة تبير، وعند الترك حميرا، وعند الأرمن كركر، وعند المؤمنين السحاب، وعند الكافرين الموت الأحمر، وعند المسلمين وعد، وعند المنافقين وعيد، وعندي طاهر مطهر، وهو جنب الله، ونفس الله، ويمين الله عزوجل».
وربما وجد ارتباط بين هيدار وقيدار، ففي قاموس الكتاب المقدس/751: «قيدار: إسم سامي، معناه قدير أو أسود، وهو ابن إسماعيل الثاني «تك 25: 13» وهو أب لأشهر قبائل العرب، وتسمى بلادهم أيضاً: قيدار».
كان عمر أميرالمؤمنين (علیه السلام) لمَّا بعث النبي (صلی الله علیه و آله) عشر سنين، لكنه كان جسمه ببنية الخمسة عشر، ووعقل أكبر من سنه بكثير، ويكفي دليلاً عليه أن النبي (صلی الله علیه و آله) كلفه بدعوة بني هاشم وإعداد الطعام لهم.
قال العلامة في تذكرة الفقهاء: 6/196: «يوم الثالث عشر منه، ولد مولانا أميرالمؤمنين (علیه السلام) في الكعبة قبل النبوة باثنتي عشرة سنة». والصحيح عشرة سنين.
وقال في الكافي: 1/452: «ولد أميرالمؤمنين (علیه السلام) بعد عام الفيل بثلاثين سنة وقتل (علیه السلام) في شهر رمضان لتسع بقين منه ليلة الأحد سنة أربعين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة، بقي بعد قبض النبي (صلی الله علیه و آله) ثلاثين سنة».
وتواترت في مصادر السنيين رواية ابن عفيف الكندي، قال: «أول شئ علمتُ
ص: 182
من أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) قدمت مكة في عمومة لي، فأرشدنا على العباس بن عبدالمطلب، فانتهينا إليه وهو جالس في زمزم فجلسنا إليه فبينا نحن عنده، أقبل رجل من باب الصفا أبيض تعلوه حمرة، له وفرة جعدة إلى أطراف أذنيه، أشم أقنى الأنف براق الثنايا أدعج العينين، كث اللحية دقيق المسربة، شثن الكفين والقدمين، عليه ثوبان أبيضان، كأنه القمر ليلة البدر، يمشي عن يمينه غلام أمرد حسن الوجه، مراهق أو محتلم، تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها، حتى قصد نحو الحجر فاستلمه، ثم استلمه الغلام، واستلمت المرأة، ثم طاف بالبيت سبعاً، والغلام والمرأة يطوفون معه، ثم استلم الركن ورفع يديه وكبر، وقام الغلام عن يمينه ورفع يديه وكبر، وقامت المرأة خلفهما ورفعت يديها وكبرت، وأطال القنوت ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه من الركوع فقنت وهو قائم، ثم سجد وسجد الغلام والمرأة معه، يصنعان مثلما يصنع يتبعانه. قال: فرأينا شيئاً لم نكن نعرفه بمكة فأنكرنا، فأقبلنا على العباس فقلنا: يا أبا الفضل إن هذا الدين لم نكن نعرفه فيكم، أشئ حدث؟ قال: أجل والله، أما تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا ابن أخي محمد بن عبدالله، والغلام علي بن أبي طالب، والمرأة خديجة بنت خويلد. أما والله ما على ظهر الأرض أحد يعبدالله على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة».والطبراني الكبير: 10/183، شرح النهج:13/225، شواهد التنزيل: 2/302، تاريخ دمشق: 3/265، سير الذهبي: 1/463، ما نزل من القرآن في علي لابن مردويه/49، الحاكم: 3/183، الإستيعاب: 3/1096، الفصول المختارة/273.
وفي رواية أحمد: 1/209 أنه رآهم في موسم الحج في منى خرجوا من خيمة وصلَّوْا. وفي رواية: «وهو يزعم أنه ستفتح عليه كنوز كسرى وقيصر».
في المناقب: 2/29: «ذكر أبو القاسم في أخبار أبي رافع من ثلاثة طرق، أن النبي (صلی الله علیه و آله) حين تزوج خديجة قال لعمه أبي طالب: إني أحب أن تدفع إليَّ بعض
ص: 183
ولدك يعينني على أمري ويكفيني، وأشكر لك بلاك عندي.
فقال أبوطالب: خذ أيهم شئت، فأخذ علياً (علیه السلام)».
وقال علي (علیه السلام): «وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة. وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه، ويمسني جسده ويشمني عرفه. وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه. وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل. ولقد قرن الله به (صلی الله علیه و آله) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ويعلمه محاسن أخلاق العالم ليله ونهاره. ولقد كنت أتبعه اتِّبَاع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه عَلَماً ويأمرني بالإقتداء به. ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة.
ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلی الله علیه و آله) فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال هذا الشيطان أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير، وإنك لعلى خير». نهجالبلاغة: 2/158.
وهذا النص الصحيح يبطل قولهم إن أباطالب (رحمة الله) كان فقيراً لايملك قوت أولاده فأشفق عليه النبي (صلی الله علیه و آله) والعباس، فأخذا بعض أولاده ليخففوا عائلته! فأخذ محمد (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) وأخذ العباس جعفراً!وقد أفاض رواة السلطة العباسية في ذلك، وأخذته منهم بعض مصادرنا لأن ظاهره المديح!
وأصله رواية ابن هشام: 1/162، عن ابن إسحاق، عن مجاهد بن جبر المتوفى سنة 103، قال: «كان من نعم الله على علي بن أبي طالب رضيالله عنه ما صنع الله له وأراده به من الخير، أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبوطالب في عيال كثير فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعمه العباس وكان من أيسر بني هاشم: يا أبا الفضل إن أخاك أباطالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه نخفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلاً وتأخذ أنت رجلاً فنكفلهما عنه. فقال
ص: 184
العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أباطالب فقالا: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى تنكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبوطالب: إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ماشئتما. فأخذ رسول الله علياً فضمه إليه، وأخذ العباس جعفراً فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى بعثه الله نبياً فاتبعه وصدقه، وأخذ العباس جعفراً، ولم يزل جعفر مع العباس حتى أسلم واستغنى عنه». والطبري: 2/57، الحاكم: 3/576، مجمع الزوائد: 8/153، الإستيعاب: 1/37، تفسير الثعلبي: 5/84، مجالس ثعلب/15، تاريخ دمشق: 26/283. وشرح النهج 13/198. ومن مصادرنا: علل الشرائع: 1/169، كشف الغمة: 1/77، روضة الواعظين/86، المناقب: 2/27، العمدة/63، ذخائر العقبى/58، عمدة الطالب/59 وبحار الأنوار: 35/24..الخ.
فالرواية إنما هي قولُ مجاهد بن جبر، مولى بني مخزوم، وعنه أخذها الجميع، وظاهرها مدح لعلي (علیه السلام) بأن فقر أبيه كان السبب في أن يربيه النبي (صلی الله علیه و آله)!
بل رووا عنه (علیه السلام) أنه قال: «أبي ساد فقيراً، وما ساد فقير قبله». اليعقوبي: 2/14.
لكن كيف كان أبوطالب فقيراً، وهو يطعم الحجيج ويسقيهم! وهو ابن عبدالمطلب الذي وَرَّثَه سقاية الحجيج ورفادتهم؟!
وقد روى مادحوا العباس أن أباطالب اقترض منه عشرة آلاف درهم، وأنفقها على الحجيج، وفي السنة الثانية اقترض أربعة عشر ألفاً. تاريخ دمشق: 26/283. فالذي ينفق الألوف لايعجز عن نفقة بيته وهي لا تزيد عن500 درهم في السنة!
ومما يردُّ كلامهم أيضاً أنَّا لم نسمع شيئاً عن طالب عند حمزة، ولا عن جعفر
عند العباس! ولا سمعنا شيئاً عن هذه الأزمة الشديدة على قريش، التي تفرد بذكرها مجاهد، الذي هو صاحب ابن عباس، وهو عباسي الهوى!
إن غرضهم إثبات فقر أبي طالب (رحمة الله) وغنى العباس، وإنفاقه عليه وعلى أولاده، وأن يقولوا إن أباطالب عجز عن نفقات الرفادة والسقاية التي ورثه إياها عبدالمطلب، فاشتراها منه العباس. وأن يجعلوا نشأة علي (علیه السلام) عند النبي (صلی الله علیه و آله) مصادفة! راجع: تاريخ دمشق: 26/283، المستطرف: 1/289، أخبار مكة:
ص: 185
2/106،ومجالس ثعلب/15.
والراوي الثاني لهذه القصة فهو ابن سلام، قال: «لما أمْعَرَ أبوطالب قالت له بنو هاشم: دعنا فليأخذ كل رجل منا رجلاً من ولدك. قال: إصنعوا ما أحببتم إذا خليتم لي عقيلاً، فأخذ النبي علياً..فكان أبوطالب يُدان لسقاية الحاج حتى أعوزه ذلك، فقال لأخيه العباس بن عبدالمطلب وكان أكثر بني هاشم مالاً في الجاهلية: يا أخي قد رأيت ما دخل عليَّ وقد حضر الموسم ولا بد لهذه السقاية من أن تقام للحاج، فأسلفني عشرة آلاف درهم فأسلفه العباس إياها، فأقام أبوطالب تلك السنة بها وبما احتال «هيأ» فلما كانت السنة الثانية وأفِد الموسم«قرب» قال لأخيه العباس: يا أخي إن الموسم قد حضر ولا بد للسقاية من أن تقام، فأسلفني أربعة عشر ألف درهم، فقال: إني قد أسلفتك عام أول عشرة آلاف درهم، ورجوتُ ألا يأتي عليك هذا الموسم حتى تؤديها فعجزت عنها، وأنت تطلب العام أكثر منها، وترجو زعمت ألا يأتي عليك الموسم حتى تؤديها، فأنت عنها أعجز اليوم! هاهنا أمرٌ لك فيه فرج: أدفع إليك هذه الأربعة العشر ألف، فإن جاء موسم قابل ولم توف حقي الأول وهذا، فولاية السقاية إليَّ، فأقوم بها وأكفيك هذه المؤنة إذْ عجزت عنها! فأنعم له أبوطالب بذلك فقال: ليحضر هذا الأمر بنو فاطمة ولا أريد سائر بني هاشم، ففعل أبوطالب وأعاره العباس الأربعة عشرالألف بمحضر منهم ورضاً، فلما كان الموسم العام المقبل لم يكن بد من إقامة السقاية، فقال العباس لأبي طالب: قد أفد الحج وليس لدفع حقي إلي وجه، وأنت لاتقدر أن تقيم السقاية فدعني وولايتها أكفكها وأبريك من حقي ففعل،فكان العباس بن عبدالمطلب يليها وأبوطالب حيٌّ ثم تم لهم ذلك إلى اليوم».
أقول: صاحب هذا الكلام محمد بن سلام الجمحي، وهو من أتباع المتوكل،توفي سنة 231، ولم يسنده إلى أحد حتى إلى مجاهد تلميذ ابن عباس! والرواية موظفة لإثبات أن العباسيين اشتروا السقاية من أبي طالب، بعد أن أوصى له بها عبدالمطلب! والصحيح: أنه لما توفي أبوطالب وهاجر النبي (صلی الله علیه و آله) وحمزة وعلي وجعفر، بقي العباس في مكة فتصدى للسقاية،ولما فتح النبي (صلی الله علیه و آله) مكة سكت عن السقاية!
ص: 186
بل رووا أنه (صلی الله علیه و آله) كره أن يشرب من سقاية العباس، لأنه كان يضع في الماء عنباً أو زبيباً: «عطش النبي (صلی الله علیه و آله) حول الكعبة فاستسقى، فأتي بنبيذ من السقاية فشمَّه فَقَطَّب! فقال عليَّ بذَنوبٍ من زمزم، فصب عليه ثم شرب».فتح الباري: 10/34.
ولما افتخر العباس بالسقاية، نزل قوله تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لايَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ». الكافي: 8/203.
والنتيجة: أن علياً (علیه السلام) ولد قبل زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بنحو سنتين حسب رواية أبي رافع «المناقب 2/29»: «ذكر أبو القاسم في أخبار أبي رافع من ثلاثة طرق، أن النبي (صلی الله علیه و آله) حين تزوج خديجة قال لعمه أبي طالب: إني أحب أن تدفع إليَّ بعض ولدك يعينني على أمري ويكفيني، وأشكر لك بلاك عندي. فقال أبوطالب: خذ أيهم شئت، فأخذ علياً (علیه السلام)».
ويدل قوله (علیه السلام): «وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ويكنفني إلى فراشه، ويمسني جسده ويشمني عرفه. وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه». على أنه كان في السنة الثالثة أو نحوها.
وقالت أمه فاطمة رضيالله عنها كما في رواية ابن قعنب كشف اليقين/23: «فولدت علياً ولرسول الله (صلی الله علیه و آله) ثلاثون سنة، فأحبه رسول الله (صلی الله علیه و آله) حباً شديداً وقال لي: إجعلي مهده بقرب فراشي. وكان (صلی الله علیه و آله) يلي أكثر تربيته، وكان يطهرعلياً في وقت غسله، ويوجره اللبن عند شربه، ويحرك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويحمله على صدره ويقول: هذا أخي ووليي وناصري وصفيي وذخري وكهفي وصهري ووصيي وزوج كريمتي وأميني على وصيتي وخليفتي. وكان يحمله دائماً، ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها».
ومعناه أنه (صلی الله علیه و آله) اهتم بعلي (علیه السلام) من أول ولادته، فكان يربيه ويطعمه وهو مع أمه في بيت أبي طالب، ثم طلبه من عمه أبي طالب (علیه السلام) وكان في نحو السنتين. ويكون عمره (علیه السلام) عند البعثة عشر سنين «فولدت علياً ولرسول الله (صلی الله علیه و آله) ثلاثون سنة» وعاش معه ثلاثاً وثلاثين، وبعده ثلاثين سنة.
ص: 187
في الكافي: 4/217 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن قريشاً في الجاهلية هدموا البيت فلما أرادوا بناءه حيل بينهم وبينه وألقيَ في روعهم الرعب، حتى قال قائل منهم: ليأتِ كل رجل منكم بأطيب ماله، ولا تأتوا بمال اكتسبتموه من قطيعة رحم أو حرام، ففعلوا فَخُلِّيَ بينهم وبين بنائه، فبنوه حتى انتهوا إلى موضع الحجر الأسود فتشاجروا فيه أيهم يضع الحجر الأسود في موضعه حتى كاد أن يكون بينهم شر، فحكَّموا أول من يدخل من باب المسجد، فدخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما أتاهم أمَرَ بثوب فبُسط ثم وضع الحجر في وسطه، ثم أخذت القبائل بجوانب الثوب فرفعوه، ثم تناوله (صلی الله علیه و آله) فوضعه في موضعه، فخصه الله به».
وفي الكافي: 4/217 عن الإمام الصادق (علیه السلام) أيضاً قال: «إنما هدمت قريش الكعبة لأن السيل كان يأتيهم من أعلى مكة فيدخلها فانصدعت، وسرق من الكعبة غزال من ذهب رجلاه من جوهر، وكان حائطها قصيراً، وكان ذلك قبل مبعث النبي (صلی الله علیه و آله) بثلاثين سنة... فلما بلغ البناء إلى موضع الحجرالأسود تشاجرت قريش في موضعه، فقال كل قبيلة: نحن أولى به نحن نضعه فلما كثر بينهم تراضوا بقضاء من يدخل من باب بني شيبة، فطلع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: هذا الأمين قد جاء! فحكموه فبسط رداءه وقال بعضهم كساء طاروني كان له، ووضع الحجر فيه ثم قال: يأتي من كل ربع من قريش رجل، فكانوا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس،
ص: 188
والأسود بن المطلب من بني أسد بن عبدالعزى، وأبو حذيفة بن المغيرة من بني مخزوم، وقيس بن عدي من بني سهم، فرفعوه ووضعه النبي (صلی الله علیه و آله) في موضعه». والبيهقي: 5/72، فتح الباري: 3/351، الطيالسي/18، أوائل ابن أبي عاصم/44، الإستيعاب: 1/35، التنبيه والإشراف/197، تاريخ الذهبي: 1/66، النهاية: 5/171 والشفا: 1/134.
وذكر اليعقوبي: 2/19 أن عمر النبي (صلی الله علیه و آله) كان خمساً وعشرين سنة. «كانت قريش تسمى رسول الله قبل أن ينزل عليه الوحي: الأمين». ابن هشام: 1/124.
بحث العلماء عبادة نبينا (صلی الله علیه و آله) قبل بعثته، وهل كان يعبدالله تعالى حسب شريعة عيسى (علیه السلام) أم لا؟ «البحار 18/272» والصحيح أنه (صلی الله علیه و آله) وأجداده:كانوا فرعاً مستقلاً، مكلفين بحنيفية إبراهيم (علیه السلام) دون غيره من الأنبياء (علیهم السلام)، وأن قريشاً انحرفت عن ملة إبراهيم (علیه السلام) وثبت عليها آباؤه وأخيار أسرته (صلی الله علیه و آله)، ويدل عليه:
1- قول الفتال النيسابوري في روضة الواعظين/52: «إعلم أن الطائفة قد اجتمعت على أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان رسولاً نبياً مستخفياً، يصوم ويصلي على خلاف ما كانت قريش تفعله، مذ كلفه الله تعالى. فإذا أتت أربعون سنة أمرالله عزوجل جبرئيل (علیه السلام) أن يهبط إليه بإظهار الرسالة وذلك في يوم السابع والعشرين من شهر الله الأصم. فاجتاز بميكائيل (علیه السلام) فقال: أين تريد؟ فقال له: قد بعث الله جل وعز نبياً نبي الرحمة وأمرني أن أهبط إليه بالرسالة فقال له ميكائيل: فأجئ معك قال له: نعم، فنزلا ووجد رسول الله نائماً بالأبطح بين أميرالمؤمنين وجعفر بن أبي طالب:فجلس جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، ولم ينبهه جبرئيل إعظاماً له، فقال ميكائيل لجبرئيل: إلى أيهم بعثت؟ قال: إلى الأوسط، فأراد أن ينبهه فمنعه جبرئيل ثم انتبه النبي (صلی الله علیه و آله) فأدى إليه جبرئيل الرسالة عن الله تعالى. فلما نهض جبرئيل ليقوم أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بثوبه. ثم قال: ما اسمك؟ قال له جبرئيل. ثم نهض رسول الله ليلحق بغنمه، فما مر
ص: 189
بشجرة ولامدرة إلا سلمت عليه وهنأته. ثم كان جبرئيل (علیه السلام) يأتيه فلا يدنو منه إلا بعد أن يستأذن عليه، فأتاه يوماً وهو بأعلى مكة فغمز بعقبه بناحية الوادي فانفجرت عين، فتوضأ جبرئيل وتوضأ الرسول (صلی الله علیه و آله)، ثم صلى الظهر وهي أول صلاة فرضها الله عزوجل، وصلى أميرالمؤمنين تلك الصلاة مع رسول الله، ورجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في يومه إلى خديجة فأخبرها، فتوضأت وصلت صلاة العصر من ذلك اليوم».
2- قال الأصبغ بن نباتة: «سمعت أميرالمؤمنين (علیه السلام) يقول: والله ما عبد أبي ولا جدي عبدالمطلب ولاهاشم ولا عبدمناف صنماً قط! قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم (علیه السلام) متمسكين به».كمال الدين/174.
3- تدل آيات تجديد إبراهيم (علیه السلام) للكعبة وإسكانه إسماعيل وذريته:فيها، على أنهم فرع مستقل عن بني إسرائيل ونبواتهم، وامتداد مباشر لإبراهيم ليهدوا الناس إلى حج البيت والطواف به والصلاة عنده، بانتظار النبي الموعود منهم: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَوةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. إبراهيم: 37.
وقال تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ.البقرة: 127-129.
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ. قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.
البقرة: 135-136. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ للذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا.. آل عمران: 68.
4- تقدم في الفصل الأول أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان نبياً قبل آدم، فوضع الله نوره في صلب آدم، ثم ما زال ينقله من صلب طاهر إلى رحم مطهر، حتى أولده من أبويه المؤمنين الطاهرين عبدالله وآمنة (علیها السلام) .
ص: 190
5- تقدم قول أميرالمؤمنين (علیه السلام) يصف النبي (صلی الله علیه و آله): «ولقد قرن الله به (صلی الله علیه و آله) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ويعلمه محاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره». فهو نص على أنه (صلی الله علیه و آله) كان نبياً من فطامه على الأقل، وأن كبيراً من الملائكة كان معه ينبؤه ويعلمه، ثم بعث في الأربعين رسولاً.
6- قال الإمام الباقر (علیه السلام) في الرسول والنبي والمحدث «الكافي: 1/176»: «الرسول الذي يأتيه جبرئيل قُبَلاً «مواجهةً» فيراه ويكلمه فهذا الرسول، وأما النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم (علیه السلام) ونحو ما كان رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من أسباب النبوة قبل الوحي، حتى أتاه جبرئيل (علیه السلام) من عند الله بالرسالة.
وكان محمد (صلی الله علیه و آله) حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيؤه بها جبرئيل ويكلمه بها قُبَلاً. ومن الأنبياء (علیهم السلام) من جمع له النبوة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلمه ويحدثه، من غير أن يكون يرى في اليقظة. وأما المحدَّث فهو الذي يُحَدَّث فيسمع، ولا يُعاين، ولايرى في منامه».
7- نصت أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) على أن جبرئيل جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) عندما كان في سن السابعة والثلاثين، وأخبره أنه سيكون رسولاً، وعلمه الوضوء والصلاة وأن خديجة وعلياً (صلی الله علیه و آله) صدقاه، وكانا يصليان معه.
ففي إعلام الورى: 1/102: «ذكر مبدأ المبعث: ذكر علي بن إبراهيم بن هاشم، وهو من أجلِّ رواة أصحابنا في كتابه: أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما أتى له سبع وثلاثون سنة كان يرى في نومه كأن آتياً أتاه فيقول: يا رسول الله، فينكر ذلك، فلما طال عليه الأمر وكان بين الجبال يرعى غنماً لأبي طالب، فنظر إلى شخص يقول له: يا رسول الله. فقال له: من أنت؟ قال: جبرئيل أرسلني الله إليك ليتخذك رسولاً، فأخبر رسول الله خديجة بذلك، وكانت خديجة قد انتهى إليها خبراليهودي، وخبر بحيراء، وما حدثت به آمنة أمه، فقالت: يا محمد إني لأرجو أن تكون كذلك.
وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يكتم ذلك، فنزل عليه جبرئيل (علیه السلام) وأنزل عليه ماء من السماء فقال: يا محمد قم توضأ للصلاة، فعلمه جبرئيل الوضوء على الوجه
ص: 191
واليدين من المرفق ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين، وعلمه السجود والركوع. فلما تم له أربعون سنة أمره بالصلاة وعلمه حدودها، ولم ينزل عليه أوقاتها، فكان رسول الله يصلي ركعتين ركعتين في كل وقت.
وكان علي بن أبي طالب (علیه السلام) يألفه ويكون معه في مجيئه وذهابه لا يفارقه، فدخل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يصلي، فلما نظر إليه يصلي قال: يا أبا القاسم ما هذا؟ قال: هذه الصلاة التي أمرني الله بها، فدعاه إلى الإسلام فأسلم وصلى معه وأسلمت خديجة، فكان لا يصلي إلا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي وخديجة خلفه.
فلما أتى لذلك أيام دخل أبوطالب إلى منزل رسول الله ومعه جعفر، فنظر إلى رسول الله وعلي بجنبه يصليان، فقال لجعفر: ياجعفرصل جناح ابن عمك فوقف جعفر بن أبي طالب من الجانب الآخر، فلما وقف جعفر على يساره بدر رسول الله (صلی الله علیه و آله) من بينهما وتقدم». وفي المناقب: 1/41: «وأنشأ أبوطالب في ذلك يقول:
إن علياً وجعفراً ثقتي *** عند مُلِمِّ الزمان والكُرَبِ
والله لا أخذل النبيَّ ولا *** يخذله من بَنِيَّ ذو حسب
لاتخذلا وانصرا ابن عمكما *** أخي لأمي من بينهم وأبي»
وفي فوائد أبي الفتح الكراجكي (رحمة الله) /116: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ابتداء طروق الوحي إليه كلما هتف به هاتف، أو سمع من حوله رجفة راجف، أو رأى رؤياً أو سمع كلاماً، يخبر بذلك خديجة وعلياً (صلی الله علیه و آله) ويستسرهما هذه الحال، فكانت خديجة تثبته وتصبره، وكان علي يهنيه ويبشره ويقول له: والله يا ابن العم ما كذب عبدالمطلب فيك، ولقد صدقت الكهان فيما نسبته إليك.
ولم يزل كذلك إلى أن أُمِرَ بالتبليغ، فكان أول من آمن به من النساء خديجة (علیها السلام)، ومن الذكور أميرالمؤمنين علي (علیه السلام)».
8- وفي أمالي الطوسي/260: «عبدالله بن نجي قال: سمعت علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول: صليت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل أن يصلي معه أحد من الناس ثلاث سنين». ورواه الشريف المرتضى في الفصول المختارة/261، وروى عن معاذة العدوية قالت: «سمعت
ص: 192
علياً (علیه السلام) يخطب على منبر البصرة، فسمعته يقول: أنا الصديق الأكبر، آمنت قبل أن يؤمن أبوبكر، وأسلمت قبل أن يسلم. وعن أبي البختري قال (علیه السلام): صليت قبل الناس سبع سنين».
روت مصادر الشيعة والسنة بسند صحيح، أن النبي (صلی الله علیه و آله) صلى هو وخديجة وعلي سبع سنين قبل الناس. والظاهر أنه يقصد أربع سنوات قبل الرسالة، وثلاث سنوات بعدها، حتى أمره الله بالدعوة العامة.
روى الخطيب في المتفق: 3/141 عن أبي أيوب: «قال (صلی الله علیه و آله): صلت الملائكة عليَّ وعلى علي سبع سنين، وذلك أنه لم يصل معي أحد قبله». وفي تاريخ دمشق: 42/39: «ولم ترفع شهادة أن لا إله إلا الله من الأرض إلى السماء، إلا مني ومن علي».
كما رووا قول علي (علیه السلام) صليت قبل الناس بسبع سنين،وطرقه تصل إلى حد التواتر فمن مصادرنا: رواه في الخصال/401: «أنا عبدالله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كذاب، صليت قبل الناس بسبع سنين».
وفي روضة الواعظين/85: «اللهم إني لا أعلم أحداً أسلم قبلي من هذه الأمة غير نبيها، صليت قبل أن يصلي أحد سبعاً...بعث النبي (صلی الله علیه و آله) يوم الإثنين وأسلمت يوم الثلاثاء. عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة سبع سنين، إن أول صلاة ركعنا فيها صلاة العصر، قلت يا رسول الله: ما هذا؟ قال: أمرت به».
وفي أمالي الطوسي/341، عن الإمام الرضا عن آبائه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «إني لأعرف حجراً كان يسلم عليَّ بمكة قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن».
وفي كشف اليقين/167: «ومن كتاب مسند أحمد بن حنبل، عن عبدالله بن عباس قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: أنا عبدالله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر، لايقولها غيري إلا كاذب مفتر، ولقد صليت قبل الناس بسبع سنين.
ومن مسند أحمد: عن ابن أبي ليلى قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الصديقون ثلاثة:
ص: 193
حبيب النجار مؤمن آل ياسين الذي قال: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ. وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: أَتَقْتُلُونَ رجلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ. وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم». والفصول المختارة/260، الغدير: 2/314 و 3/121 والصحيح من السيرة: 4/45. ومن مصادرغيرنا: ابن ماجة: 1/44، الحاكم: 3/111 وصححاه. ومجمع الزوائد: 9/102، بعدة روايات، ابن أبي شيبة: 7/498، الضحاك في الآحاد والمثاني:1/148، النسائي: 5/106، الثعلبي في تفسيره: 5/85، الطبري في الرياض النضرة: 2/209 وابن أبي عاصم في السنة/ 584.
وفي سنن النسائي: 5/107: «ما أعرف أحداً من هذه الأمة عَبَد الله بعد نبيها -مباشرة- غيري، عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة بسبع سنين».
وقال في شرح النهج: 13/200: «أنا الصديق الأكبر، وأنا الفاروق الأول، أسلمت قبل إسلام أبي بكر، وصليت قبل صلاته بسبع سنين. كأنه (علیه السلام) لم يرتض أن يذكر عمر، ولا رآه أهلاً للمقايسة بينه وبينه، وذلك لأن إسلام عمر كان متأخراً»!
أقول: كان نزول جبرئيل (علیه السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله) متعدداً قبل الأربعين، إلى أن نزل بالقرآن في الأربعين، وكان (صلی الله علیه و آله) يخبر علياً وخديجة (علیهما السلام) ويدعوهما إلى الإيمان بعد نزول جبرئيل (علیه السلام) . وفي المرة الأخيرة في غار حراء كان علي وخديجة معه (صلی الله علیه و آله) كما روى ذلك السنة والشيعة، ودعاهما أيضاً بعده فآمنا.
ففي دلائل النبوة للبيهقي: 2/17 و424 ومسلم: 7/58: «عن علي رضيالله عنه قال: كنا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال له: السلام عليك يا رسول الله... قال رسول الله: إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن».
وفي فيض القدير: 3/25: «قيل هو الحجر الأسود، وقيل البارز بزقاق المرفق، وعليه أهل مكة سلفاً وخلفاً». وأضافت رواية الترمذي: 5/253 وغيره: كان يسلم عليَّ ليالي بعثت. ويبدو أنها زياة من الراوي.
ص: 194
اهتم رواة السلطة بأمرين جعلوهما أصلين في البعثة، وأخضعوا لهما ما روي!
الأول: أن نبوته ورسالته (صلی الله علیه و آله) كانتا معاً، وأنه قبل الأربعين كان شخصاً عادياً! وافتروا عليه بأنه كان يذبح للأصنام، ويأكل مما ذُبح لها!
وغاية ما رووه أنه (صلی الله علیه و آله) كان يتعبد قبيل البعثة في حراء، ويرى الرؤيا الصادقة!
والثاني: جعلوا حديث عائشة في البخاري عن بدء الوحي، وَحْياً منزلاً، بكل ما فيه من عنف جبرئيل (علیه السلام) وعدم منطقيته، وغطه وعكه النبي (صلی الله علیه و آله) أي ضربه إياه حتى كاد يخنقه، ثم تركه مذعوراً خائفاً شاكاً في نبوته! فعاد النبي (صلی الله علیه و آله) إلى بيته وهو يرتجف وشكى إلى زوجته فأخذته إلى قسيس من أقاربها، فامتحنه وطمأنه بأنه نبي! ثم زعمت الرواية أن الوحي انقطع عنه فعاد اليه الشك، وحاول أن ينتحر مراراً من خوف الفضيحة، لكن جبرئيل منعه!
وقد أعرضوا عن آيات القرآن وأنه رآه في أفق مبين، لأنها تخالف حديث عائشة، وأعرضوا عن أحاديث صلاة النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) قبل الناس سبع سنين وثلاث سنين، مع أنها عندهم صحيحة، لأنها تعارض رواية عائشة!
ثم اخترعوا أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان في الأربعين، وكان ينزل عليه إسرافيل (علیه السلام) ثلاث سنين، قبل أن ينزل جبرئيل (علیه السلام)!
قال ابن كثير في سيرته: 1/388: «قال الإمام أحمد.. عن عامر الشعبي، أن رسول الله نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشئ ولم ينزل القرآن، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة، عشراً بمكة وعشراً بالمدينة، فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة.
فهذا إسناد صحيح إلى الشعبي...وحديث عائشة لا ينافي هذا فإنه يجوز أن يكون أول أمره الرؤيا، ثم وكل به إسرافيل فحكت عائشة ما جرى له مع جبريل ولم تحك ما جرى له مع إسرافيل، اختصاراً للحديث، أو لم تكن وقفت
ص: 195
على قصة إسرافيل». والإتقان: 1/128، الإستيعاب: 1/36، الدر المنثور 3/302 وعمدة القاري: 1/40 وغيرها.
فقبلوا كلام عامر الشعبي غير المسند لأنه ينسجم مع رواية عائشة!
وافترض الماوردي من عند نفسه: «ستة أحوال نُقل فيهن إلى منزلة بعد منزلة حتى بلغ غايتها» فعقد في أعلام النبوة/308، فصلاً بعنوان: «تَدَرُّجُه (صلی الله علیه و آله) في أحوال النبوة» لكنه جعلها كلها مراحل للخروج من شكه بنبوته إلى اليقين!
قال: «تدرجت إليه أحواله في النبوة حتى علم أنه نبي مبعوث ورسول مبلغ»! وهو ككلام الشعبي تخيلٌ بلا دليل!
أما سبب اختيارهم لإسرافيل وميكائيل بدل جبرئيل:«عبدالرزاق: 3/599» فمن أجل إرضاء اليهود الذين يعادون جبرئيل (علیه السلام)، لأنه نزل بعذابهم!
روى ابن حجر في العجاب: 1/292 عن عمر،أن اليهود قالوا له: «ياابن الخطاب ما أحد أحب إلينا منك إنك تأتينا وتغشانا..قالوا عدونا جبريل وسِلْمُنَا ميكائيل»!
ثم روى أن اليهود قالوا: «لو أن ميكائيل الذي ينزل عليكم اتبعناكم، فإنه ينزل بالرحمة والغيث، وإن جبريل ينزل بالنقمة والعذاب، وهو لنا عدو»!
ص: 196
كان النبي (صلی الله علیه و آله) يعتكف لعبادة ربه عزوجل في جبل حراء في ضاحية مكة، وهو محل اعتكاف أجداده الطاهرين:، وله قمتان متصلتان بقمته الدنيا وفيها غار حراء، والعليا لايمكن صعودها مشياً، وفيها لون أبيض يميز الجبل.
ويمتاز غار حراء بأن المصلي فيه يرى الكعبة، مع أنها في وادٍ بين جبال، لأنه أعلى من الجبال التي حولها، فكأنه مخلوقٌ للعبادة مع استقبال الكعبة ومشاهدتها!
ويسمى المُعْتَكِفُ في جبل حراء مُتَحَنِّفاً أي عابداً لله على ملة إبراهيم الحنيفية، والحنيف المائل إلى الخير، ويقابله الجنيف المائل إلى الشر.
وقال بعضهم يتحنث بالثاء، لكن اللغويين قالوا: «لا أعرف يتحنث إنما هو يتحنف من الحنيفية دين إبراهيم (علیه السلام)». عمدة القاري: 1/49.
ويعتزل المعتكف الناس شهراً أو أياماً، يعبدالله تعالى ويتأمل في آلائه. وكان عبدالمطلب (علیه السلام) يعتكف بحراء، وكان نبينا (صلی الله علیه و آله) يعتكف شهراً في السنة، ويعود إلى مكة فلا يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة.
قال في فتح الباري: 12/213: «مما بقي عندهم من أمور الشرع على سنن الإعتكاف.. إنما لم ينازعوا النبي (صلی الله علیه و آله) في غار حراء مع مزيد الفضل فيه على غيره،لأن جده عبدالمطلب أول من
ص: 197
كان يخلو فيه من قريش، وكانوا يعظمونه لجلالته وكبر سنه، فتبعه على ذلك من كان يتأله، فكان (صلی الله علیه و آله) يخلو بمكان جده وسلَّمَ له ذلك أعمامه».
وروي أن إبراهيم (علیه السلام) بنى الكعبة من أربعة جبال، ففي تاريخ دمشق: 2/348: «فلما كان إبراهيم أراه الله تعالى مكانة البيت، فاتَّبع منه أثراً قديماً، فبناه من طور زيتا، وطور سينا، ومن جبل لبنان، ومن أحد، وجعل قواعده من حراء».
وأقسم أبوطالب (رحمة الله) بالمتعبدين بحراء والزائرين له، فقال في لاميته:
ولما رأيت القوم لا ودَّ فيهم *** وقد قطعوا كل العرى والوسائل
أعوذ برب الناس من كل *** طاعن علينا بسوء أو مُلِحٍّ بباطل
وثور ومن أرسى ثبيراً مكانه *** وراق ليرقى في حراء ونازل
وبالبيت حق البيت من بطن مكةٍ *** وبالله إن الله ليس بغافل
سيرة ابن هشام: 1/154و176
وأوضح نص في بدء بعثته (صلی الله علیه و آله) ما قاله علي (علیه السلام) في أطول خطبه التي تسمى القاصعة: «ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة. ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال هذا الشيطان أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي، ولكنك وزير، وإنك لعلى خير». نهجالبلاغة: 2/157 ومصادر نهجالبلاغة: 3/23.
وقوله (علیه السلام): ولقد سمعت رنة الشيطان..يظهر أن ذلك في أول بعثته (صلی الله علیه و آله) أيام اعتكافه وأن علياً (علیه السلام) كان حاضراً معه كما روي، وقد يكون ذلك في مرة أخرى بعدها.
قال الجاحظ في العثمانية /305: «فجاور في حراء في شهر رمضان، ومعه أهله خديجة، وعلي بن أبي طالب، وخادم».
وفي السيرة الحلبية: 1/383: «كان يخرج لجواره ومعه أهله، أي عياله التي هي خديجة، إما مع أولادها أو بدونهم».
وفي دلائل البيهقي: 2/14 وإمتاع الأسماع: 3/24: «وخرج معه بأهله».
ص: 198
لكن بعضهم تعمد تغييب علي (علیه السلام) حتى عن أخذ الزاد له! قال البخاري: 8/67: «ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها».
ومعنى رنة إبليس: صوت حزنه ورعبه. وروي أنه: «رنَّ أربع رنات: يوم لعن ويوم أهبط إلى الأرض، ويوم بعث النبي (صلی الله علیه و آله)، ويوم الغدير». قرب الإسناد/9.
وأضاف لها في الخصال/263: «وحين أنزلت أم الكتاب».
وفي الطبراني الكبير: 12/9: «لما افتتح النبي (صلی الله علیه و آله) مكة رنَّ إبليس».
وفي شرح النهج: 13/209 عن علي (علیه السلام)، أن الشيطان رنَّ: «صبيحة الليلة التي أسري فيها بالنبي (صلی الله علیه و آله) وهو بالحجر، ولما بايعه الأنصار ليلة العقبة».
وقال أهل البیت (علیهم السلام) إن الوحي بدأ في أفق مبين، لا لبس فيه ولاخوف، واستمر كذلك تصديقاً لقوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالآفُقِ المُبِينِ. وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِينٍ.
ففي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /155: «وأما تسليم الجبال والصخور والأحجار عليه، فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما ترك التجارة إلى الشام، وتصدق بكل ما رزقه الله تعالى من تلك التجارات، كان يغدو كل يوم إلى حراء يصعده، وينظر من قُلله إلى آثار رحمة الله عزوجل، وأنواع عجائب رحمته وبدائع حكمته، وينظر إلى أكناف السماء وأقطار الأرض، والبحار والمفاوز والفيافي، فيعتبر بتلك الآثار، ويتذكر بتلك الآيات ويعبدالله حق عبادته.
فلما استكمل أربعين سنة، نظر الله عزوجل إلى قلبه فوجده أفضل القلوب، وأجلها وأطوعها وأخشعها وأخضعها، فأذن لأبواب السماء ففتحت، ومحمد (صلی الله علیه و آله) ينظر إليها، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمد (صلی الله علیه و آله) ينظر إليهم، وأمر بالرحمة فأنزلت عليه من لدن ساق العرش إلى رأس محمد (صلی الله علیه و آله) وغمرته، ونظر إلى جبرئيل الروح الأمين المطوق بالنور، طاووس الملائكة هبط إليه وأخذ بضبعه وهزه، وقال: يا محمد إقرأ. قال: وما أقرأ؟ قال: يا محمد: إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ. إقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ. عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ.
ثم أوحى إليه ربه عزوجل ما أوحى إليه، ثم صعد جبرئيل إلى العلو.
ص: 199
ونزل محمد (صلی الله علیه و آله) من الجبل وقد غشيه من تعظيم جلال الله، وورد عليه من كبير شأنه ما ركبه به الحمى والنافض، وقد اشتد عليه ما يخافه من تكذيب قريش في خبره، ونسبتهم إياه إلى الجنون، وأنه يعتريه شيطان، وكان من أول أمره أعقل خليقة الله وأكرم براياه، وأبغض الأشياء إليه الشيطان وأفعال المجانين وأقوالهم.
فأراد الله عزوجل أن يشرح صدره ويشجع قلبه، فأنطق الجبال والصخور والمدر، وكلما وصل إلى شئ منها ناداه: السلام عليك يا محمد، السلام عليك يا ولي الله، السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله، أبشر فإن الله عزوجل قد فضلك وجمَّلك وزيَّنك وأكرمك، فوق الخلائق أجمعين من الأولين والآخرين. لا يحزنك قول قريش: إنك مجنون وعن الدين مفتون، فإن الفاضل من فضَّله رب العالمين، والكريم من كرَّمه خالق الخلق أجمعين، فلا يضيقن صدرك من تكذيب قريش وعتاة العرب لك، فسوف يبلغك ربك أقصى منتهى الكرامات، ويرفعك إلى أرفع الدرجات».
وهذا وأمثاله أحاديث صريحة في أن بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) كانت في أفق مبين، وبصيرة ويقين، فلا رعب فيها ولا غط، ولا ريب ولا شك، ولا ورقة بن نوفل، ولا عدَّاساً، ولا نسطوراً، ولا شكاً في النبوة وذهاباً إلى الجبل للإنتحار! فكل ذلك مكذوبات من المشركين، وإن قبلتها عائشة ومن صدقها!
فانظر إلى هذه الصورة الرائعة المنسجمة مع القرآن والعقل وأفعال الله تعالى الحكيمة، وقارنها بالأساطير التي سطرتها الكتب، التي عظموها وعصموها!
كما تدل على أن الصلاة كانت قياماً وسجوداً بلا ركوع، ثم أمر الله بالركوع، ثم فرضت على المسلمين بصيغتها الفعلية في المعراج، في السنة الثانية.
قالت عائشة: إن الوحي بدأ في جَوٍّ عنيف مبهم، بعكس قول أهل البیت (علیهم السلام)! وقد افتتح البخاري صحيحه بروايتها وكررها في كتابه أربع مرات! ولا يمكننا قبولها لأنها
ص: 200
تخالف القرآن والعقل، وتقول إن النبي (صلی الله علیه و آله) كان شاكاً في نبوته! وأنه أمره بأمر غير معقول، ثم اعتدى عليه الملاك وغطه بعنف وخنقه وكاد أن يقتله!
قال بخاري في صحيحه: 8/67: «عن عائشة أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤياً إلا جاءت مثل فَلَقِ الصبح، فكان يأتي حِرَاء فيتحنَّث فيه، وهو التعبدالليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها، حتى فَجَأَه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: إقرأ، فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهْد! ثم أرسلني فقال: إقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ! فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجَهد! ثم أرسلني فقال: إقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ! فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجَهد! ثم أرسلني فقال: إقرأ باسم ربك! ثم أرسلني فقال: إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ..حتى بلغ مَا لَمْ يَعْلَمْ.
فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: زمِّلوني زمِّلوني، فزمَّلوه حتى ذهب عنه الروع فقال يا خديجة مالي؟! وأخبرها الخبروقال: قد خشيت على نفسي! فقالت له: كلا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَل، وتُقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى بن قصي وهو ابن عم خديجة أخو أبيها، وكان امرءاً تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبري فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: أي ابن عم إسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: ابنَ أخي ماذا ترى؟ فأخبره النبي ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً أكون حياً حين يخرجك قومك؟فقال رسول الله: أومُخْرِجِيَّ هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقه أن توفي!
وفَتَر الوحي فترةً حتى حزن النبي (صلی الله علیه و آله) فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً كي
ص: 201
يتردى من رؤس شواهق الجبال! فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه! تبدَّى له جبريل فقال: يامحمد إنك رسول الله حقاًفيسكن لذلك جأشه وتقرُّ نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك! فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل فقال له مثل ذلك»!
قال النووي: 3/199والعيني: 1/50: «غطه وغته وضغطه وعصره وخنقه وغمزه، كله بمعنى واحد»! راجع كتابنا: ألف سؤال وإشكال: 2/180- مسألة: 140.
1- أيهما نصدق: قول الله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ، أم قول عائشة إنه رآه في أفق مرعب وشك مريب، فاحتاج إلى نصراني ليهدئ من رعبه وشكه؟!
2- وكيف نصدق الغط والخنق، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يعرف جبرئيل ولا فهم كلامه! فعاد إلى مكة مرعوباً شاكياً إلى زوجته (علیها السلام)، فطمأنته، لكنه بقي شاكاً فأخذته إلى طبيب هوالقسيس ورقة بن نوفل وعرضته عليه، كما تأخذ المرأة زوجها إلى فوال، فطمأنها بأنه نبي فاطمأنت!
لكن الوحي انقطع عنه فعاد اليه شكه وإحباطه، فقرر أن ينتحر، وذهب مراراً لينفذ قراره من فوق الجبل! لكن جبرئيل جاءه من بعيد، ومنعه من الإنتحار، لكنه عاود محاولات الإنتحار مراراً!
فأين هذا من قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أدعو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أنا وَمَنِ اتَّبَعَنِي. وقوله تعالى: إِنِّي لايَخَافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ. وما هذا الرعب، والشك، وقرار الإنتحار!
3 - بشرت الأنبياء (علیهم السلام) بنبينا (صلی الله علیه و آله)، وتواترت الأخبار بأن اليهود والنصارى وأسرته عرفوا نبوته! فكيف لم يعرفها هو حتى بعد نزول الوحي عليه؟!
4- روينا «الكافي 5/374» عن الإمام الصادق (علیه السلام) أن أباطالب تكلم في خِطبة خديجة (علیهما السلام) ولما أراد ورقة أن يتكلم: «تلجلج وقَصُرعن جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر»! فأين شخصية ورقة الضعيفة مما زعمته له رواية عائشة.
ص: 202
5- ألا يكفي لرد هذه الرواية ما صححوه من أن النبي (صلی الله علیه و آله) عبَدَ الله مع عليٍّ سبع سنين قبل بعثته، وأنه كان نبياً وآدم بين الروح والجسد! مجمع الزوائد: 8/223، أحمد: 4/66 و 5/59 و379،الحاكم: 2/609، ابن شيبة: 8/438، الطبراني الأوسط: 4/2727، الكبير: 12/73، آحاد الضحاك: 5/347، الدر المنثور: 5/184، العجلوني: 2/129 و132، الأحوذي: 10/56،المغني: 3/124 فتح القدير: 4/267 والباقلاني/58.
6- الوضع المنطقي لجبرئيل (علیه السلام) لما نزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله): أن يسلم عليه ويعرفه أنه رسول ربه عزوجل إليه، وأنه اختاره رسولاً وأنه سينزِّل عليه قرآناً، ثم يشرح له مهمته. وأن يكون ذلك في جو اطمئنان ويقين وخشوع، كما نصت رواية أهل البیت (علیهم السلام)، وليس بالتعامل الخشن الذي نسبوه إلى الله تعالى، والذي يشبه أكاذيب اليهود عن عنف ربهم مع أنبيائه (علیهم السلام)! العنف الذي يشبه روايات كهَّان العرب المصابين بالعُصاب عندما يأتيهم جِنِّيُّهُم!
7- كيف يأمره جبرئيل (علیه السلام) بأن يقرأ ولا يفسر له ما يقرأ؟وهل رأيت عاقلاً يأمر أحداً بأمر لا يفهمه ولا يفسره له، بل يضربه ويخنقه إن لم يفعل؟!
-8وكل هذه الطامات في كفة، وعزم النبي (صلی الله علیه و آله) على أن ينتحر في كفة! فكيف يقبلون هذه الفرية على النبي (صلی الله علیه و آله) كقوله وحاشاه: «لا تتحدث بهذا قريش عني أبداً! فلأعمدنَّ إلى حالق من الجبل، ولأطرحن نفسي منه فلأقتلنها ولأستريحن! فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي ولا أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني فانصرفت راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها فقالت: يا أبا القاسم أين كنت،فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي». إلى آخر هذه الخرافة التي تبنتها عائشة فحيرت فيها أتباعها!
9 – كان تبنيهم لهذه الرواية سبباً لافتراء أعداء الإسلام على النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه كان يشك في نبوته، وإن القسيس ورقة بعثه نبياً، وليس الله تعالى!
ص: 203
10 - حاولوا أن ينفوا أن النبي (صلی الله علیه و آله) قرر الإنتحار، فوجدوا في حديث البخاري عبارة: «حتى حزن النبي (صلی الله علیه و آله) فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً كي يتردى» فقالوا إن قوله: فيما بلغنا، قول الزهري وليس قول عائشة! فتح الباري: 12/316.
فجعلوه في رقبة إمامهم الزهري، لينقذوا إمامتهم عائشة! لكن ابن مردويه رواه قطعة واحدة عن عائشة بدون «فيما بلغنا» كما شهد ابن حجر! ثم ذكر ابن حجر/118، روايات أخرى في أن النبي (صلی الله علیه و آله) ذهب لينتحر! راجع الطبقات: 1/196، الطبري: 2/47، تفسيره: 30/ 317، تفسير الصنعاني: 3/327 وابن كثير: 4/265.
لقد افتضحوا فنسبوا إلى نبيهم (صلی الله علیه و آله) مالايقبلون نسبته إلى أنفسهم وأئمتهم! ونسبوا إلى ربهم أنه ظالمٌ يبعث إلى نبيه بأسلوب مبهم مرعب!فتعالى عما يصفون!
وأخيراً يتضح لك خطأ قولها: «وكان يكتب الكتاب العبري فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب». والإنجيل لم يكن بالعبرية، بل بالسريانية.
ففي دلائل البيهقي: 2/160 عن محمد بن إسحاق، قال: «وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدق بما جاء به، ثم إن جبريل أتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين افترضت عليه الصلاة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت له عين من ماء مزن، فتوضأ جبريل ومحمد، ثم صليا ركعتين وسجدا أربع سجدات، ثم رجع النبي قد أقر الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحب من الله، فأخذ بيد خديجة حتى أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة، ثم كان هو وخديجة يصليان سراً.
قال ابن إسحاق: ثم إن علي بن أبي طالب جاء بعد ذلك بيوم فوجدهما يصليان فقال علي: ما هذا يا محمد؟فقال رسول الله: دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وكفر باللات والعزى! فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاض أمراً حتى أحدث به أباطالب. وكره
ص: 204
رسول الله أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره، فقال له: يا علي إذا لم تُسلم فاكتم، فمكث علي تلك الليلة.
ثم إن الله تبارك وتعالى أوقع في قلب علي الإسلام فأصبح غادياً إلى رسول الله حتى جاءه فقال: ماذا عرضت عليَّ يا محمد؟ فقال له رسول الله: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتكفر باللات والعزى وتبرأ من الأنداد، ففعل عليٌّ وأسلم.فمكث علي يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم علي إسلامه ولم يظهره.
وأسلم ابن حارثة، فمكثا قريباً من شهر يختلف علي إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) . وكان مما أنعم الله على علي أنه كان في حجر رسول الله قبل الإسلام». وتاريخ الذهبي: 1/135، أسد الغابة: 4/16، سيرة ابن كثير: 1/428، وسبل الهدى: 2/300.
وهذه تؤيد رواية أهل البیت (علیهم السلام)، وتبطل رواية عائشة! وروى شبيهاً بها القرطبي: 17/87، وتنوير الحوالك: 16/17 وفيه: «فرفعت رأسي فإذا جبريل صافٌّ قدميه بين السماء والأرض يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فجعلت لا أصرف بصري إلى ناحية إلا رأيته كذلك»!
لكنهم لايحبون هذه الأحاديث، لأنها تكذب العنف والغط والخنق! فقد أشربوا في قلوبهم تصديق هذه التخيلات الإسرائيلية وعُصَاب الكُهَّان!
ثم ضخموا فترة انقطاع الوحي، لتتوافق مع هذه التخيلات!
ص: 205
انتشر في مكة خبر أن محمداً أعلن نبوته، فكان كالصاعقة على زعماء قريش لأن برأيهم حركة من بني هاشم لفرض رئاستهم على قريش والعرب، وانقلابٌ على صيغة التوافق في تقسيم مناصب الشرف، وهي: رئاسة قريش، ورايتها، وسقاية الحجاج ورفادتهم! وتركزت أنظارهم على أبي طالب شيخ بني هاشم، لمعرفة موقفه، وهو صاحب شخصية قوية، وكان يومها في نحو الخامسة والسبعين،لأنه توفي قبيل الهجرة وعمره سبع وثمانون. الطبقات: 1/124.
وزاد من تخوفهم أنهم سمعوا من اليهود ومن عبدالمطلب أن نبياً سيبعث من ذريته، وكان يتوقع أن يكون حفيده محمداً، وأوصى به إلى أبي طالب وشدد عليه الوصية بحفظه وإكرامه، فرباه أبوطالب وآثره على أولاده. وقد اشتهر حب أبي طالب له، وتغنى في شعره بفضله وآياته، وشهادة بحيرا الراهب بأنه نبي.
ويبدو أن علياً (علیه السلام) أخبر أباه بأن الملاك نزل على محمد (صلی الله علیه و آله) فذهب أبوطالب إلى بيت النبي وسأله: «يا ابن أخي، آللهُ أرسلك؟ قال: نعم. قال: فأرني آية. قال: أدع لي تلك الشجرة، فدعاها فأقبلت حتى سجدت بين يديه ثم انصرفت. فقال أبوطالب: أشهد أنك صادق، يا علي صِلْ جناح ابن عمك».أمالي الصدوق/711.
ص: 206
وحرص زعماء قريش على معرفة حقيقة موقف أبي طالب، وتخوفوا لما بلغهم أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمره ربه أن يدعو عشيرته الأقربين فدعا بني هاشم، وأخبرهم أن الله بعثه اليهم خاصة ثم إلى الناس عامة، وأمره أن يتخذ منهم من يبايعه على نصرته أخاً ووزيراً ووصياً وخليفة، فاستجاب له الفتى علي (علیه السلام)، فأعلنه أخاه ووزيره وخليفته، وأمر بني هاشم بطاعته! وكان ذلك نبأ عظيماً على زعماء قريش كما وصفه الله تعالى في سورة النبأ، حيث اعتبروا أن بني هاشم أعلنوا مشروعهم في النبوة، وقرروا حماية محمد، وقد اتخذ وزيراً ووصياً له منهم.
لقد قرر زعماء قريش بالإجماع قتل محمد لأن عمله خيانة عظمى، فيجب على عمه أن يسلمه اليهم ليقتلوه!
ولم يتضمن قرارهم أن يسألوه عن دليله أو معجزته! فلا يهمهم أن يكون عنده ذلك أو لايكون! لأن مجرد ادعائه النبوة مؤامرة على بقية القبائل!
وكان قرارهم غريباً فيه جلافة البداوة وخباثة اليهود! لكن الشيطان زينه لهم فذهبوا إلى أبي طالب وطلبوا منه تسليم ابن أخيه لهم ليقتلوه!
فغضب أبوطالب وأعلن حمايته له وحذرهم إن مَسُّوا منه شعرةً! فسكتوا لأنهم يعرفون شجاعة بني هاشم، وأنهم لايُسَلِّمونهم محمداً إلا بحرب!
لكنهم لم يتراجعوا فقاموا بشن حملات افتراء وسخرية من النبي (صلی الله علیه و آله) وقرآنه ووصيه الذي اختاره، فكانوا يقولون: «هذا صفي محمد من بين أهله، ويتغامزون بعلي (علیه السلام)». «المناقب: 3/8». وأخذوا يعملون لاغتياله (صلی الله علیه و آله) ويرصدون من يستجيب لدعوته! وفي المقابل قام أبوطالب (رحمة الله) بتوحيد بني هاشم لحمايته (صلی الله علیه و آله)،وجعل حول النبي (صلی الله علیه و آله) ثلاث حلقات أمنية كما يدل حديث إسلام أبيذر (رحمة الله)، فعندما طلب اللقاء بالنبي (صلی الله علیه و آله) حقق معه أبوطالب (علیه السلام) وواعده اليوم الثاني، وفي اليوم الثاني أخذه إلى حمزة، فحقق معه وسلمه إلى جعفر (علیهما السلام)، فحقق معه جعفر وسلمه إلى علي (علیه السلام)، فحقق معه، ثم أدخله على النبي (صلی الله علیه و آله)!
ص: 207
استمرت هذه المرحلة الصعبة الخطرة ثلاث سنين، حتى أزاح الله من طريق رسوله (صلی الله علیه و آله) عتاة المستهزئين في يوم واحد، وأمره أن يصدع بالدعوة.
فقد قال الإمام الباقر (علیه السلام) كمال الدين/328: «ما أجاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) أحدٌ قبل علي بن أبي طالب وخديجة (علیها السلام)، ولقد مكث رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة ثلاث سنين مختفياً خائفاً يترقب، ويخاف قومه والناس».
وفي تفسير القمي: 1/377: «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ «الحجر: 94-95» فإنها نزلت بمكة بعد أن نُبِّئ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بثلاث سنين...أنزل الله عليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ... دخل أبوطالب إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وهو يصلي وعليٌّ (علیه السلام) بجنبه وكان مع أبي طالب جعفر، فقال له أبوطالب: صِلْ جناح ابن عمك، فوقف جعفر على يسار رسول الله فبدر رسول الله من بينهما، فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يصلي وعلي وجعفر وزيد بن حارثة وخديجة يأتمون به. فلما أتى لذلك ثلاث سنين أنزل الله عليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ. والمستهزؤون برسول الله (صلی الله علیه و آله) خمسة: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن طلاطلة الخزاعي».
وفي تفسير العياشي: 2/253 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إكتتم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة سنين ليس يظهر، وعلي معه وخديجة. ثم أمره الله أن يصدع بما يؤمر فظهر رسول الله فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب».
وفي سيرة ابن إسحاق: 2/126: «ثم إن الله تعالى أمر رسوله (صلی الله علیه و آله) أن يصدع بما جاء به، وأن ينادي الناس بأمره، وأن يدعو إلى الله تعالى، وكان ربما أخفى الشئ واستسر به، إلى أن أمر بإظهاره ثلاث سنين من مبعثه».
وفي سيرة ابن هشام: 1/169: «وكان بين ما أخفى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين فيما بلغني من مبعثه، ثم قال الله تعالى له: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ».
ص: 208
وفي الإستيعاب لابن عبدالبر: 1/34: «ثم نبأه الله تعالى وهو ابن أربعين سنة، وكان أول يوم أوحى الله تعالى إليه فيه يوم الإثنين، فأسر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمره ثلاث سنين أو نحوها، ثم أمره الله تعالى بإظهار دينه والدعاء إليه، فأظهره بعد ثلاث سنين من مبعثه».
وروى الصدوق وغيره أن هذه المرحلة كانت خمس سنين، ففي كمال الدين/344، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «اكتتم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة مختفياً خائفاً خمس سنين ليس يظهر أمره، وعلي (علیه السلام) معه وخديجة، ثم أمره الله عزوجل أن يصدع بما أمر به، فظهر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأظهر أمره». والمناقب: 1/150 ونحوه غيبة الطوسي/332.
وقد يكون المعنى أن اختفاءه (صلی الله علیه و آله) انتهى بعد ثلاث وصدع بدعوته علناً، ثم استمر الخوف عليه من الإغتيال خمس سنين.
فالمجمع عليه أنه (صلی الله علیه و آله) في السنين الثلاث الأولى لم يدع غير بني هاشم. ولم أجد نصاً يذكر أنه جلس في المسجد في هذه المدة، فقد هدده عتاة المستهزئين بأنه إن دعا الناس فسيقتلونه، وأخيراً أنذروه إلى يوم معين ليعلن تراجعه عن نبوته (صلی الله علیه و آله) وإلا قتلوه، فكفاه الله شرهم وقتلهم، وأنزل عليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ!
وبسبب ما تقدم قالت بعض الأحاديث السنية والشيعية إن سنوات البعثة في مكة عشر سنوات، فاستثنت الثلاث الأولى، لأنها خاصة ببني هاشم.
ففي الكافي: 5/7 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن الله عزوجل بعث رسوله (صلی الله علیه و آله) بالإسلام إلى الناس عشر سنين، فأبوا أن يقبلوا حتى أمره بالقتال. فالخير في السيف وتحت السيف. والأمر يعود كما بدأ». يقصد ظهور المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
1.توالى نزول القرآن، وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يتلوه على المسلمين، ويوصله إلى المشركين فيستهزئون به، وكانت بعض الآيات تنزل جواباً لهم.
2. آمن له علي وخديجة (علیهما السلام) وعمه أبوطالب وابنه جعفر وعمه حمزة ومولاه
ص: 209
زيد رضيالله عنهم، وأمره الله أن يدعو عشيرته الأقربين ويتخذ منهم وصياً، ففعل.
3. أخبرعن نبوته فشاع خبرها، واستنفرت قريش ضده، وبدأت حملتها.
4. نهض أبوطالب (علیه السلام) لنصرته، وحشد معه كل بني هاشم، وشذ منهم أبولهب، واستخفى النبي (صلی الله علیه و آله) من فراعنة قريش وشياطينهم.
5. آمن له أفراد من قبائل قريش وغفار والحلفاء والعبيد، سراً على تخوف.
6. كان للنبي (صلی الله علیه و آله) لقاءات بزعماء قريش لإقامة الحجة عليهم، لكنها قليلة.
السرية التي يضخمونها في هذه المرحلة، إنما كانت في أسماء المسلمين الجدد الذين لايستطيعون إعلان إسلامهم خوفاً من قريش، أو الذين أمرهم النبي (صلی الله علیه و آله) بإخفاء إسلامهم لمصلحة الدعوة، كأبي طالب وحمزة.
أما النبوة فلم تبق سرية لأنه خبرها انتشر من أول يوم، ومكة صغيرة: 40 ألفاً. كما أن نزول القرآن كان متواصلاً والنبي (صلی الله علیه و آله) يتلوه ويوصل آياته إلى قريش وغيرها. وقد نزلت في هذه السنوات سور عديدة.
قال ابن النديم في الفهرست/28، والزركشي في البرهان: 1/193: «أول ما نزل من القرآن بمكة: إِقْرَأ باسْمِ رَبِّكَ، ثم نون، ثم والقلم، ثم يا أيها المزمل، ثم المدثر، ثم تبت يدا أبي لهب، ثم إذا الشمس كورت، ثم سبح اسم ربك الأعلى، ثم والليل إذا يغشى، ثم والفجر، ثم والضحى، ثم ألم نشرح، ثم والعشر، ثم والعاديات، ثم إنا أعطيناك الكوثر، ثم ألهاكم التكاثر، ثم أرأيت الذي، ثم قل يا أيها الكافرون، ثم سورة الفيل، ثم الفلق، ثم الناس، ثم قل هو الله أحد، ثم والنجم إذا هوى، ثم عبس».
وردَّت بعض السور مقولات المشركين، ووصفت عاصفتهم على النبي (صلی الله علیه و آله) لما بلغهم خبر نبوته! ففي سورة القلم نقرأ قوله تعالى: فَلا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ. وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ. وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ...
وفي سورة المزمل نقرأ: وَاصْبِرْ عَلَى مَايَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً. وَذَرْنِي وَالمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ
ص: 210
وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً...
وفي سورة المدثر: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا. وَبَنِينَ شُهُودًا. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً. سَأُرْهِقْهُ صَعُودًا..
وفي سورة التكوير جواب الذين قالوا إنه (صلی الله علیه و آله) مجنون: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ. وَمَاصَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ. وَلَقَدْ رَآهُ بِالآفُقِ المُبِينِ. وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِينٍ. وَمَاهُو بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ.
وفي المرسلات جواب من سخروا من الصلاة: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ.
وفي سورة قاف جواب تكذيبهم للنبوة: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا شَئٌ عَجِيبٌ. فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ.
اتفق المفسرون والمحدثون على أن آيات: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ. نزلت بعد ثلاث سنين من البعثة، فبدأ النبي (صلی الله علیه و آله) مرحلة جديدة هي مرحلة الإعلان والصدع بالدعوة لكل الناس، بعد أن أزال الله من طريقه العقبة الأساسية وأهلك المستهزئين الخمسة في يوم واحد!
فكل نص مبني على وجود أحد منهم بعد ذلك التاريخ خطأ أو مكذوب! وبه يظهر عوار عدد من نصوص رواة السلطة:
فمنها: روايتهم التي تتنافى مع الخطر الشديد والحيطة التي كان فيها النبي (صلی الله علیه و آله) في تلك الفترة، مثل إيمان أبي بكر وغيره، لأنه لو صح ذلك لرووا ردة فعل قريش كردة فعلها على إسلام أبيذر، وخالد بن سعيد، وعمار بن ياسر ووالديه، وخباب بن الأرت، وغيرهم ممن أسلم في تلك الفترة!
ومنها: زعمهم أن النبي (صلی الله علیه و آله) صدع بدعوته العامة من السنة الأولى، وأنه عندما أمره الله في سورة الشعراء: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ.. صعد على الصفا ونادى
ص: 211
كل قريش يا آل فلان ويا آل فلان..الخ. والصحيح أنه دعا بني هاشم فقط، وأن دعوته العامة بدأت بعد ثلاث سنين، بعد هلاك المستهزئين.
ومنها: تضخيم دار الأرقم، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يلتقي فيها بالمسلمين قبل السنة الثالثة، وقد جعلوا أحداثاً وقعت بعد السنة الثالثة في دار الأرقم، ومنها سورة عبس التي ربطوها بابن أم مكتوم مع أنها نزلت قبل إسلامه!
ومنها أن عمر جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في دار الأرقم وأعز الله به الإسلام بعد ذلته، وتكاملوا أربعين رجلاً فخرجوا يتحدون قريشاً، فخافت قريش وسكتت!
ومنها: خطأ ما رواه بخاري: 4/242 من حماية العاص بن وائل لعمرعندما أسلم لأن العاص أحد المستهزئين الستة الذين هلكوا في السنة الثالثة، وعمر أسلم في السنة السادسة بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة،كما نص عليه ابن هشام: 1/229 وغيره، قال: «كان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الحبشة». وكان هلاك المستهزئين ومنهم العاص بن وائل، قبل ذلك بسنوات!
ومنها: أن من المتفق عليه أن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى،كان أحد المستهزئين وهلك في السنة الثالثة، لكنهم رووا أنه بكى على أولاده الذين قتلوا في بدر! قال ابن هشام: 2/474: «وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة بن الأسود، وعقيل بن الأسود، والحارث بن زمعة وكان يحب أن يبكى على بنيه...الخ.». والطبري: 2/161، ابن كثير: 2/480. راجع: الصحيح: 3/171.
ومنها: تخليطهم أو كذبهم في سبب نزول السور والآيات، فتراهم يذكرون إسم أحد المستهزئين الخمسة في سورة نزلت بعد سورة الحجرمع أنه هلك عند نزولها! بل ذكروا بعضهم في معركة بدر وبعدها!
لذلك وجب أن نرد روايات أسباب النزول إلا قليلاً منها كآية: واصْدَعْ بمَا تُؤمر المتقدمة.. فقد أجمعوا على أنها نزلت في السنة الثالثة، وأن سورة صاد نزلت بعد أن صدع (صلی الله علیه و آله) بدعوته،وجاء زعماء قريش إلى أبي طالب (رحمة الله) فدعاهم إلى الإسلام!
ففي الكافي: 2/649 بسند صحيح عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «أقبل أبوجهل بن هشام
ص: 212
ومعه قوم من قريش، فدخلوا على أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك قد آذانا وآذى آلهتنا، فادعه ومره فليكف عن آلهتنا ونكف عن إلهه، قال فبعث أبوطالب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فدعاه، فلما دخل النبي (صلی الله علیه و آله) لم ير في البيت إلا مشركاً فقال: السلام على من اتبع الهدى، ثم جلس، فخبَّره أبوطالب بما جاؤوا له، فقال: أوَهَل لهم في كلمة خير لهم من هذا، يسودون بها العرب ويطؤون أعناقهم؟ فقال أبوجهل: نعم، وما هذه الكلمة؟ فقال: تقولون لا إله إلا الله. قال: فوضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا هُرَّاباً، وهم يقولون: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق! فأنزل الله تعالى في قولهم: صاد. وَالقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ..».
فالذي جاء إلى أبي طالب هو أبوجهل الذي ورث زعامة بني مخزوم بعد هلاك الوليد بن المغيرة، وبعد مجيئه نزلت سورة صاد جواباً على كلامه، فلا تصح الروايات التي تذكر أن الوليد كان حياً عند نزولها.
ومنها: خلطهم في الروايات التي تذكر أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يذهب إلى أفنية قريش ويدعوهم إلى الإسلام قبل هلاك المستهزئين، كالذي رواه الحاكم: 3/577 وأبو يعلى: 12/176 ومجمع الزوائد: 6/14 وصححه: «جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أباطالب إن ابن أخيك يأتينا في أفنيتنا وفي نادينا فيسمعنا ما يؤذينا به، فإن رأيت أن تكفه عنا فافعل...فقال له أبوطالب: يا ابن أخي والله ما علمت إن كنت لي لمطاعاً وقد جاء قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وفي ناديهم تسمعهم ما يؤذيهم، فإن رأيت أن تكف عنهم؟ فحلق ببصره إلى السماء فقال: والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار. فقال أبوطالب: والله ما كذب ابن أخي قط، إرجعوا راشدين».
فالحديث مسوق لتعذير قريش في شكايتها من النبي (صلی الله علیه و آله)، والوقت المزعوم لهذا الحديث قبل انتهاء الثلاث سنوات، وهذا لا يصح، لأنه (صلی الله علیه و آله) لم يذهب إلى نواديهم قبل ذلك أبداً، بل نشك في ذهابه اليهم بعدها، لأنه كان يدعو إلى ربه في
ص: 213
المسجد وحوله، وكان يقصد القبائل في موسم الحج، ويطلب منهم النصرة.
وأخيراً، فإن سبب جعلهم بعض هؤلاء الخمسة أحياء بعد هلاكهم أن أولادهم وأقاربهم صاروا حكاماً وشركاء في دولة «الخلافة» كعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وزمعة بن الأسود من أسد عبدالعزى، وعبدالرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري، وأقارب الحارث بن طلاطلة الخزاعي، فأراد الرواة إظهار مكانة آبائهم حتى في كفرهم، فكذبوا، ولا حافظة لكذوب!
اشتهر عند الكتَّاب المعاصرين تقسيم مراحل دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) في مكة إلى المرحلة السرية، ثم مرحلة دار أبي الأرقم، ثم مراحل الإضطهاد والهجرة إلى الحبشة والمدينة. فقلدوا الحكومات التي غيبت مراحل هامة من السيرة لتحذف أدوار بني هاشم والعترة النبوية:! غيبوا المرحلة الأولى حيث بعثه الله تعالى إلى بني هاشم خاصة، مع أنهم أنفسهم رووا قوله (صلی الله علیه و آله): «يا بني عبدالمطلب إني بعثت إليكم خاصة، وإلى الناس عامة». تفسير ابن كثير: 3/363 وتفسير مقاتل: 2/466.
وروينا: «مكث رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة بعد ما جاءه الوحي عن الله تبارك وتعالى ثلاثة عشر سنة، منها ثلاث سنين مختفياً خائفاً لايظهر حتى أمره الله أن يصدع بما أمر به، فأظهر حينئذ الدعوة».غيبة الطوسي/333.
كما أهمل كتَّاب السيرة مرحلة ما قبل محاصرة النبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم في شعب أبي طالب وما بعدها، وكان الحصار في السنة الخامسة، واستمر بضع سنوات!
كما أهملوا مرحلتين تقدمتا في حديث النبي (صلی الله علیه و آله) من مصادرهم: «صَلَّتْ الملائكة عليَّ وعلى عليٍّ سبع سنين، وذلك أنه لم يصل معي أحد قبله».
وقول علي (علیه السلام): «صليت مع النبي (صلی الله علیه و آله) قبل الناس ثلاث سنين، وسبع سنين».
وكذا مرحلة ما قبل الإسراء والمعراج في السنة الثانية للبعثة، وما بعدها.
ومرحلة ما قبل وفاة أبي طالب (رحمة الله) وما بعدها، حيث فقد النبي (صلی الله علیه و آله) ناصره وحاميه
ص: 214
القوي، اضطر أن يذهب إلى الطائف ليطلب من ثقيف حمايته من قريش، ثم كان أحياناً يختبئ مع علي (علیه السلام) من قريش في الحجون.
ومرحلة ما قبل بيعة الأنصار سراً للنبي (صلی الله علیه و آله) في موسم الحج، وما بعدها...
وكذا مرحلة الثلاث سنين التي زعموا أن الله بعث فيها إسرافيل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) يعلمه ويوجهه، ولم ينزل عليه قرآناً حتى أنزله مع جبرئيل (علیه السلام) .
أهملوا كل ذلك وغيبوه، وركزوا على مرحلة السرية بمفهوم خاطئ، ومرحلة دار أبي الأرقم بتضخيم خيالي! كما كذبوا في انتعاش النبي (صلی الله علیه و آله) بإسلام أبي بكر وإنفاقه عليه عند فقره! وقوة الإسلام بعمر وإعزازه بعد ذلته! مع أن راوياً واحداً لم يرو أن أبابكر أوصل صاع طحين إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في سنوات الحصار يوم وصل بهم الأمر إلى أن أكلوا ورق الشجر من الجوع، ومص أطفالهم الرمل من العطش! ولا رووا أين كان عمر عند تهديد قريش للنبي (صلی الله علیه و آله) واستنفارها بعد أبي طالب لقتله، حتى اضطر لطلب حماية ثقيف، واضطر لأن يختبئ في الحجون!
إن إهمالهم لهذه المراحل، خاصة مرحلة دعوة الأقربين، واختراعهم أدواراً افترضوها لزيد وعمرو.. يضع يدك على غرضهم من التحريف، ويجعلك تشك فيما يروونه من أدوار مناقبية لمن صاروا حكاماً فيما بعد، ويجعلك تدقق في النصوص لتكشف الأدوار التي غيبوها لعلي وحمزة وجعفر وغيرهم من بني هاشم، ومعهم كبار الصحابة السابقون الأولون: أبوذر، وعمار، والمقداد، وأبو سلمة، وخالد بن سعيد، وخباب، ومصعب، وسلمان، رضوان الله عليهم!
ص: 215
بعد بعثت مباشرة أمره الله بدعوة بني هاشم، وأنزل عليه من سورة الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ الأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُبِينٍ... وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ. ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ. وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ أَلشَّيَاطِينُ. وَمَا يَنْبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ. إِنَّهُمْ عَنِ أَلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ. فَلاتَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ. وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ وَأَخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ أَتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِئٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى العَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ.
فجمعهم النبي (صلی الله علیه و آله) وكانوا أربعين رجلاً، ودعاهم إلى الإسلام واختار منهم وزيره ووصيه وخليفته،كما أمره ربه. وفي هذه المدة دوَّى خبر البعثة في أندية قريش حتى جاءهم خبر اجتماع بني هاشم وأن محمداً (صلی الله علیه و آله) طلب منهم وزيراً يبايعه على نصرته، فاستجاب له ابن عمه علي فاتخذه وزيراً ووصياً وخليفة! فرأوا ذلك نبأً عظيماً يؤكد أن نبوة بني هاشم مشروع هاشمي لحكم العرب، فقرروا بالإجماع العمل لقتل النبي (صلی الله علیه و آله)!
وقد عبَّر صاحب الصحيح: 3/59 بتعبير يوهم أن دعوة العشيرة الأقربين كان في المرحلة العلنية، قال: «بعد السنوات الثلاث الأولى بدأت مرحلة جديدة وخطيرة وصعبة هي مرحلة الدعوة العلنية إلى الله تعالى. وقد بدأت أولاً على نطاق ضيق نسبياً حيث نزل عليه
ص: 216
قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ». انتهى.
لكن آية إنذار العشيرة نزلت في أول البعثة، وأثارهم اختياره وصياً منهم! وكفى بحديث إسلام أبيذر دليلاً على خطورة السنوات الأولى على حياته (صلی الله علیه و آله) . أما آية المستهزئين فنزلت بعد ثلاث سنين.
وقد روته المصادر الأصلية، وصححه علماء الجرح والتعديل، وألفوا فيه كتباً وفصولاً، وعرف بإسم حديث الدار، وحديث الوصية، لكن أتباع الحكومات أفتوا بأنه: يجب إنكاره، ومنعه من التداول تحت طائلة العقوبة القصوى!
قال المفيد (رحمة الله) في الإرشاد: 1/49: «أجمع على صحته نُقاد الآثار، حين جمع رسول الله (صلی الله علیه و آله) بني عبدالمطلب في دار أبي طالب وهم أربعون رجلاً يومئذ، يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً فيما ذكره الرواة، وأمر أن يُصنع لهم فخذ شاة مع مُد من البُر، ويُعَدَّ لهم صاعٌ من اللبن، وقد كان الرجل منهم معروفاً بأكل الجذعة «الذبيحة» في مقام واحد، وشرب الفرق «السطل» من الشراب في ذلك المقام.
وأراد (صلی الله علیه و آله) بإعداد قليل الطعام والشراب لجماعتهم إظهارالآية لهم في شبعهم وريهم مما كان لا يشبع الواحد منهم ولا يرويه. ثم أمر بتقديمه لهم فأكلت الجماعة كلها من ذلك اليسير حتى تملَّوا منه، فلم يبن ما أكلوه منه وشربوه فيه فبهرهم بذلك، وبين لهم آية نبوته وعلامة صدقه ببرهان الله تعالى فيه.
ثم قال لهم بعد أن شبعوا من الطعام ورووا من الشراب: يا بني عبدالمطلب، إن الله بعثني إلى الخلق كافة، وبعثني إليكم خاصة، فقال عزوجل: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ، وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم، وتدخلون بهما الجنة، وتنجون بهما من النار، شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني عليه وعلى القيام به، يكن أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي
ص: 217
من بعدي. فلم يجب أحد منهم، فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): فقمت بين يديه من بينهم وأنا إذ ذاك أصغرهم سناً وأحمشهم ساقاً وأرمصهم عيناً، فقلت: أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر. فقال: أجلس، ثم أعاد القول على القوم ثانية فصمتوا، وقمت فقلت مثل مقالتي الأولى، فقال: أجلس. ثم أعاد على القوم مقالته ثالثةً فلم ينطق أحد منهم بحرف، فقلت: أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر، فقال: أجلس، فأنت أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي. فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب: يا أباطالب، ليهنك اليوم إن دخلت في دين ابن أخيك، فقد جعل ابنك أميراً عليك!
وهذه منقبة جليلة اختص بها أميرالمؤمنين (علیه السلام) ولم يشركه فيها أحد من المهاجرين الأولين ولا الأنصار، ولا أحد من أهل الإسلام، وليس لغيره عِدْلٌ لها من الفضل ولامقارب على حال».
وفي رواية روضة الواعظين/52: «قال لهم: إني بعثت إلى الأسود والأبيض والأحمر، وإن الله عزوجل أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وإني لا أملك لكم من الله حظاً إلا أن تقولوا: لا إله إلا الله. فقال أبولهب لعنه الله: لهذا دعوتنا؟!
ثم تفرقوا عنه، فأنزل الله تعالى: تبَّتْ يَدَا أبي لهبَ وتَبْ..الخ.ثم دعاهم دفعة ثانية فأطعمهم وسقاهم كالدفعة الأولى، ثم قال لهم: يا بني عبدالمطلب: أطيعوني تكونوا ملوك الأرض وحكامها، وما بعث الله نبياً إلا جعل له وصياً وأخاً ووزيراً فأيكم يكون أخي ووزيري ووصي ووارثي وقاضي ديني؟ فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام) وهو أصغر القوم سناً: أنا يا رسول الله، فلذلك كان وصيه.
ورويَ أنه جمعهم خمسة وأربعون رجلاً منهم أبولهب، فظن أبولهب أنه يريد أن ينزع عما دعاهم إليه فقام إليه، فقال له: يا محمد، هؤلاء عمومتك وبنوعمك قد اجتمعوا فتكلم واعلم أن قومك ليست لهم بالعرب طاقة، فقام (صلی الله علیه و آله) خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله.والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم حقاً خاصة والى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن كما تعلمون، ولتجزون بالإحسان إحساناً، وبالسوء سوءً، وإنها الجنة أبداً
ص: 218
والنار أبداً. إنكم أول من أُنذرتم».
فقد طلب منهم أن يؤمنوا به، وأن يبايعه رجل على نصرته ويتفرغ معه للدعوة، فيتخذه وزيراً وأخاً ووصياً وخليفةً. وكان أبوطالب وحمزة يومها مسلمين لكنهما سكتا لأن النبي (صلی الله علیه و آله) أمرهما أن يكتما إيمانهما، فلو أعلنا لأعلنت قريش الحرب عليهم.
أما جعفر فكان مسلماً، ولعله سكت ليجيب علي (علیه السلام) لأنه يعلم ميل النبي (صلی الله علیه و آله) اليه، فلما أعلن عليٌّ قبوله أعلنه النبي (صلی الله علیه و آله) وزيراً وخليفة، فأخبربذلك أنه
يعيش بعده!
لكن المخالفين للنبي في أهل بيته، لا يحبون رؤية وجه الحديث ولا سماع صوته!
لأنه نصٌّ على أن النبي (صلی الله علیه و آله) اتخذ علياً (علیه السلام) بأمر ربه وصياً وخليفة!وهو ينقض ما بنوا عليه أمرهم بعد وفاته من أنه لم يوص إلى أحد وتَرَكَ الأمر لهم!
لذا منعوا رواية هذا حديث الدار أو حرفوه،كالطبري حيث رواه في تاريخه: 2/217 بنص المفيد المتقدم، ثم كتمه في تفسيره: 19/148 فقال: «فأيكم يؤازرني على هذا الأمرعلى أن يكون أخي وكذا وكذا! قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً، وأخمشهم ساقاً: أنا يا نبي الله أكون وزيرك. فأخذ برقبتي، ثم قال: إن هذا أخي وكذا وكذا، فاسمعوا له وأطيعوا، قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع»!
وتبعه ابن كثير في تفسيره: 3/364 والنهاية: 3/53 فلم ينقل من تاريخ الطبري كما هي عادته، واختار تفسيره لأن الحديث فيه محرف!
أما ابن تيمية فقال في منهاج السنة/299: «فإن هذا الحديث ليس في شئ من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل: لا في الصحاح ولا في المسانيد. والسنن والمغازي والتفسير التي يذكر فيها الإسناد الذي يحتج به، وإذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل فيها الصحيح والضعيف، مثل تفسيرالثعلبي والواحدي والبغوي، بل وابن جرير وابن أبي حاتم، لم يكن مجرد رواية واحد
ص: 219
من هؤلاء دليلاً على صحته باتفاق أهل العلم، فإنه إذا عرف أن تلك المنقولات فيها صحيح وضعيف، فلا بد من بيان أن هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف. وهذا الحديث غايته أن يوجد في بعض كتب التفسير التي فيها الغث والسمين، وفيها أحاديث كثيرة موضوعة مكذوبة».
لكن ابن تيمية معروف بأنه ينفي الواضحات ويرد الأحاديث الصحيحة، ويكفي في هذا الحديث أنه رواه عدد وفير من أئمة الحديث مثل: ابن إسحاق، والنسائي، والبزار، وسعيد بن منصور، والطبراني في الأوسط، والحاكم في المستدرك، وابن حنبل، وابن مردويه، وأبي حاتم، والطحاوي، وأبي نعيم، والبغوي، والمقدسي، وابن عساكر، والبيهقي في الدلائل..الخ.
وقد أشكل بعضهم بوجود الراوي أبي مريم الأنصاري فيه، وهوعن عبدالغفار بن القاسم، وهو شيخ شعبة بن الحجاج الذي يلقبونه بأميرالمؤمنين في الحديث وكان يوثقه ويمدحه.
وأشكل بعضهم بربيعة بن ناجذ الأزدي في طريق له، لكن وثقه الألباني في صحيحته: 4/582. راجع تناقضات الألباني: 2/212 وحديث الدار للميلاني والصحيح: 3/158.
وأما محمد حسنين هيكل فأورده سليماً في كتابه: حياة محمد، في الطبعة الأولى في صفحة 104، ثم حرفه في الطبعة الثانية صفحة 139، لقاء شراء الوهابية ألف نسخة من كتابه بخمس مائة جنيه! راجع:فلسفة التوحيد والولاية/179للشيخ مغنية.
وقد اتضح ذلك من آية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ، ومن حديث الدار.
وكانت محسومة من يوم كان النبي (صلی الله علیه و آله) يعرض نفسه على قبائل العرب، ويطلب منهم أن يحموه ليبلغ رسالة ربه، فيطلبون منه أن تكون لهم خلافته، فيجيبهم إن الأمر لله وقد اختار له أهلاً، وعليهم أن لا ينازعوا الأمر أهله!
قال ابن هشام: 2/289: «أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عزوجل،
ص: 220
وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء. قال فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك! فأبوا عليه».
وكانت الخلافة محسومة بعشرات الأحاديث النبوية، التي صرح فيها بمكانة علي (علیه السلام) وأوصى به الأمة بعده.
وكانت محسومة برفعه بيده في حجة الوداع وقوله: من كنت مولاه فعلي مولاه!
وكانت محسومة بأعماله وأقواله العديدة، في مرض وفاته. لكن قريشاً لا تريد أن تَقنع، ثم أتباعها الذين عاندوا مثلها، أو أحسنوا فيها الظن.
اتفق الرواة على أن سورة النبأ نزلت في الثلاث سنوات الأولى، ويؤيد ذلك أنها لاتتضمن إلّا عن التساؤل عن النبأ العظيم الذي حيرهم! قال تعالى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ.عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ. كَلا سَيَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ. أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَادًا. وَالجِبَالَ أَوْتَادًا. وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً. وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا.. الخ. «النبأ: 1-9» فقد كانت البعثة عند نزولها في أولها، وكان زعماء قريش يتساءلون عن النبأ العظيم، وهو عندهم أن بني هاشم انشقوا على قريش، وادعى ابنهم النبوة واختار ابن عمه خليفةً له، ولم يحسب لهم حساباً، وكأن غير بني هاشم لا وجود لهم!
فزعماء بطون قريش لايهمهم مضمون دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) ولامعجزاته، لأنهم لايفهمون من النبوة إلا أنها انشقاق بني هاشم على قريش!
كما أنهم حساسون فيمن يستخلفه للنبوة، هل هو من بني هاشم أو من غيرهم؟ وقد أرادوا التأكد، فكلفوا أبا سفيان بأن يستطلع الأمر، كما روى في المناقب 2/276 عن تفسيرالقطان، بسند صحيح عندهم، عن وكيع، عن سفيان،
ص: 221
عن السدي، عن عبد خير، عن علي (علیه السلام) قال: «أقبل صخر بن حرب حتى جلس إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد هذا الأمر بعدك لنا أم لِمَنْ؟ قال: يا صخر، الأمر بعدي لمن هو بمنزلة هارون من موسى! قال: فأنزل الله تعالى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ.الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ. منهم المصدق بولايته وخلافته ومنهم المكذب بهما! ثم قال: كَلَّا. وردَّ عليهم: سَيَعْلَمُون: خلافته بعدك أنها حق. ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُون: يقول: يعرفون ولايته وخلافته إذ يُسألون عنها في قبورهم فلايبقى ميت في شرق ولا غرب ولا في بر ولا في بحر إلا ومنكر ونكير يسألانه عن الولاية لأميرالمؤمنين بعد الموت يقولان للميت: من ربك، وما دينك، ومن نبيك، ومن إمامك؟»!
وفي الكافي: 1/207 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال له الثمالي: «جعلت فداك إن الشيعة يسألونك عن تفسير هذه الآية: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ. قال فقال: هي في أميرالمؤمنين صلوات الله عليه، كان أميرالمؤمنين يقول: ما لله عزوجل آيةٌ هي أكبر مني، ولا لله من نبأٌ أعظم مني».
وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 1/9: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): يا علي أنت حجة الله، وأنت باب الله، وأنت الطريق إلى الله، وأنت النبأ العظيم، وأنت الصراط المستقيم».
وفي المناقب: 2/277: «قال السوسي:
إذا نادت صوارمه سيوفاً *** فليس لها سوى نعمٍ جواب
طعام سيوفه مهج الأعادي *** وفيض دم الرقاب لها شراب
وبين سنانه والدرع صلحٌ *** وبين البيض والبيض اصطحاب
هو النبأ العظيم وفلك نوح *** وباب الله وانقطع الخطاب
وفي المزار للمفيد/78: «السلام عليك يا سيد الوصيين، السلام عليك يا حجة الله على الخلق أجمعين، السلام عليك أيها النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون وعنه مسؤولون». وفي عيون المعجزات/136: «من ألقابه (علیه السلام): النبأ العظيم».
وورد عن أهل البیت (علیهم السلام) أن معنى: كَلا سَيَعْلَمُونَ. أنهم سيعلمون عند ظهور الإمام المهدي (علیه السلام)، ثم يعلمون يوم القيامة أن الإسلام حق بإمامة العترة:.
ص: 222
راجع: معجم أحاديث الإمام المهدي (علیه السلام): 5/377 وتفسير القمي: 2/401.
أقول: هذا هو التفسير الصحيح للنبأ العظيم، وهذا الذي أرَّق القرشيين وتساءلوا عنه واختلفوا فيه، وتداولوا الموقف منه. وليس النبأ العظيم الآخرة، كما زعم بعضهم فإن لسان حال المشركين: فليقل محمد إنه يوجد خمسون آخرة! ولا هو القرآن، فلينزل عليه خمسون قرآناً! ولا هو سب أصنامهم، فإنما هي أحجار نصبوها، وهم مستعدون أن يبيعوها بثمن جيد!
بل ليس النبأ العظيم النبوة بنفسها، فهم مستعدون لأن «يقبلوا» النبوة على صعوبتها عليهم، لكن بشرط أن يعطيهم القيادة بعده!
أما قيادة بني هاشم بعده، فهي الكفر العظيم والنبأ العظيم!
قال الإمام الصادق (علیه السلام): «النَّبَأ العَظِيم: الولاية».الكافي: 1/418.
وقد فسرأتباع الخلافة النبأ العظيم بالقيامة أو القرآن، بدون مستند إلا أقوال مفسري الدولة الأموية! فقال مجاهد هو القيامة وروي عن قتادة، وقال قتادة هو القرآن، وروي عن ابن زيد، والحسن البصري!«عبدالرزاق: 3/342 والطبري: 30/4». فتراهم أبعدوا تساؤل قريش واختلافهم عن أحداث البعثة!
ونلاحظ أنهم رووا ربطها بالبعثة، لكنهم أعرضوا عنها! قال الطبري: 30/3: «عن الحسن قال: لما بعث النبي جعلوا يتساءلون بينهم فأنزل الله: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ. عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ، يعني الخبر العظيم»!
والعجيب أن بعض مفسرينا ترددوا بين التفسيرين! قال في جوامع الجامع: 3/710: «وهو نبأ يوم القيامة والبعث، أو أمر الرسالة ولوازمها».
ووافق بعضهم مفسري الحكومات، ففي الميزان: 17/223 النبأ العظيم في سورة صاد بالقرآن، قال: «وهو أوفق بسياق الآيات السابقة المرتبطة بأمر القرآن» ثم فسره في سورة النبأ: 20/163 بالقيامة وقال: «في بعض الأخبار أن النبأ العظيم علي (علیه السلام)
وهو من البطن».
وتبعه صاحب تفسير الأمثل: 14/555 و 19/317 وعقد عنواناً: «الولاية والنبأ
ص: 223
العظيم» ذكر فيه أن تفسير النبأ العظيم بالولاية من الباطن، وأورد بعض رواياته وحاول أن يجمع بينه وبين تفسير النبأ العظيم بالمعاد!
وقد فاتهم أن الذي كان يؤرق زعماء قريش ويتساءلون عنه إنما هو نبأ بعثة النبي واتخاذه وصياً من بني هاشم، فهذا هو الظاهر الأنسب بالسياق، وليس من الباطن! أما القرآن والقيامة وكل عقائد الإسلام، فكانت أقل وقعاً عليهم من النبوة والوصاية، فكيف تصير ظاهراً، وتصير النبوة والإمامة بعدها باطناً.
بل كيف تكون أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) الصريحة المستفيضة تفسيراً بالباطن؟!
ص: 224
قال الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي 1/449»: «إن مَثَلَ أبي طالب مثلُ أصحاب الكهف، أسرُّوا الإيمان وأظهروا الشرك، فآتاهم الله أجرهم مرتين. قيل له: إنهم يزعمون أن أباطالب كان كافراً؟ فقال: كذبوا كيف يكون كافراً وهو يقول:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً *** نبياً كموسى خُطَّ في أول الكتب»!
أقول: تواترت أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) بإسلام أبي طالب رضيالله عنه، وشعره صريح بإسلامه، وقد صنف العلماء في إيمانه رسائل وكتباً مفردة. وتقدم أنه كان يؤمن بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله) قبل بعثته وينتظر ذلك، وعندما بعثه الله تعالى آمن به، وواجه عاصفة قريش ضده، فقد جاء زعماء قريش اليه يطلبون منه أن يتراجع محمد (صلی الله علیه و آله) عن نبوته، أو يسلمه اليهم ليقتلوه!
فردهم أبوطالب وهددهم، وأقنع بني هاشم بحماية النبي (صلی الله علیه و آله) من قريش، مستفيداً من نفوذه وشجاعة بني هاشم ومجدهم، وقد استخدم شاعريته في بعث حميتهم، ولعل أول شعر قاله في ذلك:
«حتى متى نحن على فترةٍ *** يا هاشماً والقومُ في جَحْفَلِ
تدعونَ بالخيل على رقبة *** منَّا لدى خوفٍ وفي معزل
ص: 225
كالحرة السوداء تغلو بها *** سرعانها في سبسبٍ مَجهل
عليهم الترك على رعلةٍ *** مثل القطا الساري للمنهل
ياقوم ذودوا عن جماهيركم *** بكل مفضال على مسبل
حديد خمس لهزٌ خده *** مآرثُ الأفضل فالأفضل
عريض ستٍّ لهبٌ خصرُهُ *** يصان بالتذليق في مجدل
فکم قد شهدت الحرب في فتية *** عند الوغى في عَثْيَر القسطل
لا متنحينَ إذا جئتهم *** وفي هياج الحرب كالأشبل
فلما استجاب لأبي طالب بنو هاشم وبنو المطلب، وثق بأمره في نصرة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وجهر في مقاومة بطون قريش، وقال:
منعنا الرسول رسول المليكْ *** ببيض تلألا كلمع البروقْ
بضرب يذيب بدون النهاب *** حذار الوتائر والخنفقيق
أذب وأحمي رسول المليك *** حماية عم عليه شفيق
وما إن أدب لأعدائه *** دبيب البكار حذار الفنيق
ولكن أزير لهم سامياً *** كما زار ليث بغيل مضيق
ولما رأى من قومه ما سره من حدبهم معه، جعل يمدحهم ويذكر قديمهم، ويذكر فضل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيهم ليشتد لهم رأيهم فيه، فقال:
إذا اجتمعت يوماً قريشٌ لمفخر *** فعبدمنافٍ سِرُّها وصَمِيمُها
وإن حصلت أشرافُ عبدمنافها *** ففي هاشمٍ أشرافُها وقديمُها
وإن فخرت يوماً فإن محمداً *** هو المصطفى من سرها وكريمها
تداعت قريش غثُّها وسمينُها *** علينا فلم تظفر وطاشت حلومها
وكنّا قديماً لا نقرّ ظلامة *** إذا ما ثنوا صَعر الخدود نقيمها
ونحمي حماها كل يومِ كريهة *** ونضرب عن أحجارها من يرومها
ص: 226
المناقب والمثالب للقاضي النعمان المغربي/86، سيرة ابن إسحاق: 2/129وغيره.
«عجبت لحلمٍ ياابن شيبةحادثٍ *** وأحلام أقوامٍ لديك سخافِ
يقولون شايعْ من أراد محمداً *** بسوء وقم في أمره بخلاف
أصاميم إمَّا حاسدٌ ذو خيانة *** وإمّا قريب منك غير مُصاف
فلا تتركن الدهر منه ذمامه *** وأنت امرؤٌ من خير عبدمناف
ولا تتركنه ما حييت وأطعمن *** وكن رجلاً ذا نجدة وعفاف
تذود العدى من ذروة هاشمية *** ألا فهمُ في الناس خير إلاف
فإن له قربى لديك قريبة *** وليس بذي حلف ولا بمضاف
ولكنه من هاشم من صميمها *** إلى أبحر فوق البحور طواف
وزاحم جميع الناس عنه وكن له *** وزيراً على الأعداء غير مخاف
فإن غضبت منه قريش فقل لها *** بني عمنا هل قومكم بضعاف
فما بالنا تعشون منا ظلامة *** وما بال أرحام هناك جوافي
وما قومنا بالقوم يخشون ظلمنا *** ولا نحن فيما ساءهم بخفاف
ولكننا أهل الحفائظ والنهى *** وعز ببطحاء الحطائم واف»
ابن إسحاق: 4/189.
لكن أبا لهب ساء توفيقه فانضم إلى أعداء النبي (صلی الله علیه و آله)، فذمه أبوطالب!
قال ابن إسحاق: 2/131: «أقبل أبوطالب على أبي لهب حين ظافر عليه قومه ونصب العداوة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) مع من نصب له، وكان أبولهب للخزاعية، وكان أبوطالب وعبدالله أبو رسول الله والزبير لفاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، فغمزه أبوطالب بأم له يقال لها سماحيج، وأغلظ له في القول:
مستعرضُ الأقوام يخبرْهم *** عذري وما أن جئت من عذر
ص: 227
فاجعل فلانة وابنها عوضاً *** لكرائم الأكفاء والصهر
واسمع نوادرمن حديث صادق *** تهوين مثل جنادل الصخر
إنا بنو أم الزبير وفحلها *** حملت بنا للطيب والطُّهر
حرَّمت منا صاحباً ومؤازراً *** وأخاً على السراء والضر»
«ثم قال أبوطالب في شعر قاله حين أجمع لذلك من نصرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) والدفاع عنه، على ما كان من عداوة قومه وفراقهم له:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوَسَّدَ في التراب دفينا
فاجهد لأمرك ما عليك غضاضة *** أبشر وقرَّ بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح *** فلقد صدقت وكنت ثمَّ أمينا
وعرضت ديناً قد علمت بأنه *** من خير أديان البرية دينا
لولا الملامةَ أو حذاري سبةً *** لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
فلما قالت قريش لقد سفه أحلامنا وعاب ديننا وسب آباءنا، فوالله لا نُقِرُّ بهذا أبداً! وقام أبوطالب دون رسول الله وكان أحب الناس إليه، فشمر في شأنه ونادى قومه قال قصيدة يعوِّر فيها منهم. ويقصد لاميته. ابن إسحاق: 2/136.
«قالت قريش لأبي لهب: إن أباطالب هو الحائل بيننا وبين محمد، ولو قتلته لم ينكر أبوطالب، وأنت برئ من دمه ونحن نؤدي الدية وتسود قومك، قال: فإني أكفيكموه، فنزل أبولهب إليه وتسلقت امرأته الحائط حتى وقفت على رسول الله فصاح به أبولهب فلم يلتفت إليه وكانا لا ينقلان قدماً ولا يقدران على شئ حتى انفجر الصبح وفرغ النبي من الصلاة! فقال أبولهب: يا محمد أطلقنا، قال: لا أطلق عنكما أو تضمنا لي أنكما لا تؤذياني، قالا: قد فعلنا، فدعا ربه فرجعا». المناقب لابن شهر آشوب: 1/115.
ص: 228
قال أبو رافع: «أقبل أبولهب بعد بدر يجر رجليه، فقال الناس هذا أبوسفيان بن حرب قد قدم، فاجتمع عليه الناس فقال له أبولهب: هلم إلي يا ابن أخي فعندك لعمري الخبر، فجاء حتى جلس بين يديه فقال له: يا ابن أخي خبرني خبر الناس قال: نعم والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يضعون السلاح فينا حيث شاؤوا! ووالله مع ذلك ما لمت الناس لقيَنا رجالٌ بيضٌ على خيل بلق لا والله ما تليق شيئاً يقول ما تبقي شيئاً..
فوالله ما مكث إلا سبعاً حتى مات، ولقد تركه إبناه في بيته ثلاثاً ما كيد فناؤه حتى أنتن، وكانت قريش تتقي هذه القرحة يعني العدسة كما تتقي الطاعون، حتى قال لهما رجل من قريش: ويحكما ألا تستحيان إن أباكما في بيته قد أنتن لا تدفنانه! فقالا: إنا نخشی عدوى هذه القرحة! فقال انطلقا فأنا أعينكما عليه، فوالله ما غسلوه إلا قذفاً بالماء عليه من بعيد ما يدنون منه، ثم إنهم احتملوه إلى أعلى مكة فأسندوه إلى جدار ثم رضموا عليه الحجارة»! تاريخ دمشق:67/171.
قال ابن إسحاق: 2/133: «ثم إن قريشاً حين عرفت أن أباطالب أبى خذلان رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإسلامه، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعدواتهم، مشوا اليه ومعهم عمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له فيما بلغنا: يا أباطالب قد جئناك بفتى قريش عمارة بن الوليد، جمالاً وشباباً ونهادة، فهو لك نصره وعقله، فاتخذه ولداً لا تنازع فيه، وخل بيننا وبين ابن أخيك، هذا الذي فارق دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومه وسفه أحلامهم، فإنما رجل كرجل، لنقتله، فإن ذلك أجمع للعشيرة وأفضل في عواقب الأمور مغبة. فقال لهم أبوطالب: والله ما أنصفتموني! تعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابن أخي تقتلونه! هذا والله لا يكون أبداً، أفلا تعلمون أن الناقة إذا فقدت ولدها لم تحن إلى غيره!
ص: 229
فقال له المطعم بن عدي بن نوفل بن عبدمناف: لقد أنصفك قومك يا أباطالب، وما أراك تريد أن تقبل ذلك منهم! فقال أبوطالب للمطعم بن عدي: والله ما أنصفتموني، ولكنك قد أجمعت على خذلاني ومظاهرة القوم عليَّ، فاصنع ما بدا لك، أو كما قال أبوطالب!
فحقب الأمر عند ذلك وجمعت للحرب، وتنادى القوم ونادى بعضهم بعضاً فقال أبوطالب عند ذلك، وإنه يعرض بالمطعم ويعم من خذله من بني عبدمناف، ومن عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه فيما طلبوا منه:
ألا قل لعمرو والوليد ومطعم *** ألا ليت حظي من حياطتكم بكر
من الخور حبحابٌ كثير رغاؤه *** يرش على الساقين من بوله قطر
تخلف خلف الورد ليس بلاحقٍ *** إذا ما على الفيفاء تحسبه وبر
أرى أخوينا من أبينا وأمنا *** إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر
يلي لهما أمر ولكن تجرجما *** كما جرجمت من رأس ذي العلق الصخر
هما أغمزا للقوم في أخويهما *** وقد أصبحا منهم أكفهما صفر
أخص خصوصاً عبد شمس ونوفلاً *** هما نبذانا مثلما نبذ الجمر
فأقسمت لا ينفك منهم مجاور *** يجاورنا ما دام من نسلنا شفر
هما اشتركا في المجد من لا أخاله *** من الناس إلا أن يرس له ذكر
وليداً أبوه كان عبداً لجدنا *** إلى علجة زرقاء جاش بها البحر
وتيمٌ ومخزومٌ وزهرةُ منهمُ *** وكانوا لنا مولى إذا ابتغيَ النصر
فقد سفهت أحلامهم وعقولهم *** وكانوا كجفر شرما جهلت جفر».
ورواها ابن هشام: 1/173 وقال: «تركنا منها بيتين أقذع فيهما». والمناقب والمثالب للقاضي المغربي/87 . وذكر في الغدير: 7/361 الأبيات الثلاثة التي حذفها ابن هشام:
وما ذاك إلا سؤدد خصنا به *** إلهُ العباد واصطفانا له الفخر
رجال تمالوا حاسدين وبغضةً *** لأهل العلى فبينهم أبداً وتر
وليد أبوه كان عبداً لجدنا *** إلى علجة زرقاء جاش بها البحر
ص: 230
يقصد أن الوليد بن المغيرة كان عبداً لهاشم، وأمه رومية وابوه ليس المغيرة! وقد صدقه القرآن فقال عن الوليد: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ.مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ.أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ.
وقد اتفق المفسرون على أنها نزلت في الوليد، ففي تفسير الجلالين/758، وابن إسحاق: 2/140: «دعيٌّ في قريش وهو الوليد بن المغيرة، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة». وفي رواية أنه أكبر من أبيه بثمانية عشرة سنة.
وفي المناقب: 1/52: روى ابن بابويه في كتاب النبوة عن زين العابدين (علیه السلام): «أنه اجتمعت قريش إلى أبي طالب ورسول الله (صلی الله علیه و آله) عنده فقالوا: نسألك من ابن أخيك النَّصَف، قال: وما النصف منه؟ قالوا: يكف عنا ونكف عنه فلا يكلمنا ولا نكلمه، ولا يقاتلنا ولا نقاتله. ألا إن هذه الدعوة قد باعدت بين القلوب وزرعت الشحناء وأنبتت البغضاء! فقال: يا ابن أخي، أسمعت؟ قال: يا عم لو أنصفني بنو عمي لأجابوا دعوتي وقبلوا نصيحتي! إن الله تعالى أمرني أن أدعو إلى دينه الحنيفية ملة إبراهيم، فمن أجابني فله عند الله الرضوان والخلود في الجنان، ومن عصاني قاتلته حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
فقالوا: قل له يكف عن شتم آلهتنا فلا يذكرها بسوء. فنزل «فيما بعد»: قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ. فقالوا: قل له أرسله الله إلينا خاصة أم إلى الناس كافة؟ قال: بل أرسلت إلى الناس كافة إلى الأبيض والأسود، ومن على رؤس الجبال، ومن في لجج البحار ولأدعون فارس والروم: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا. فتجبرت قريش واستكبرت وقالت: والله لو سمعت بهذا فارس والروم لاختطفتنا من أرضنا، ولقلعت الكعبة حجراً حجراً! فنزل «فيما بعد» وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَئْ. وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيل».
ص: 231
هو عمارة بن الوليد بن المغيرة، فأبوه الوليد رئيس المستهزئين بالنبي (صلی الله علیه و آله) ورئيس قبيلة مخزوم، والوحيد الذي وصفه الله تعالى في القرآن بالزنيم!
فقد بلغ من كيده أنه أخذ ابنه عمارة إلى أبي طالب ليعطيه إياه بدل محمد، ويعطيهم محمداً (صلی الله علیه و آله) فيقتلونه! وكان عمارة يومها متزوجاً وله أولاد!
وتصور ابن عبدالبر أنه ابن الوليد بن الوليد فيكون ابن أخ خالد «الإستيعاب: 4/1557»لكنه ابن الوليد الأب، وأخ خالد،كما نص عليه في شرح النهج: 6/304. وكان عمارة جميلاً فاتكاً ماجناً، وذكر ابن حبيب في المنمق/130، أن عمر بن الخطاب كان يخدمه في سفره فأراد أن يقتله فهرب عمر منه. وكان عمارة يشبه عمرو بن العاص في دهائه ومجونه، وقد أرسلتهما قريش إلى النجاشي يطلبان منه إرجاع المسلمين المهاجرين اليهم!
قال ابن أبي شيبة: 8/465: «وكان عمرو بن العاص رجلاً قصيراً، وكان عمارة بن الوليد رجلاً جميلاً». وذكر قصتهما لما سافرا في البحر فشربا خمراً، وأراد عمارة زوجة عمرو وألقاه في البحر ليغرقه، فنجا عمرو وعاد إلى السفينة، وأخذ يخطط لقتل عمارة، فأرسل إلى أبيه العاص: «أن اخلعني وتبرأ من جريرتي إلى بني المغيرة وسائر بني مخزوم، وخشي على أبيه أن يتبع بجريرته، فلما قدم الكتاب على العاص بن وائل، مشى إلى رجال بني المغيرة وبني مخزوم فقال: إن هذين الرجلين قد خرجا حيث علمتم، وكلاهما فاتك صاحب شر، غير مأمونين على أنفسهما، ولا أدري ما يكون منهما، وإني أبرأ إليكم من عمرو وجريرته، فقد خلعته.
فقال عند ذلك بنو المغيرة وبنو مخزوم: وأنت تخاف عمراً على عمارة! ونحن فقد خلعنا عمارة وتبرأنا إليك من جريرته فخل بين الرجلين، قال قد فعلت! فخلعوهما وبرئ كل قوم من صاحبهم وما يجرى منه».شرح النهج: 6/304.
ثم أوقع ابن العاص بعمارة عند النجاشي، وأثبت للنجاشي أنه يخونه في جاريته فعاقبوه وقيل سحروه، فهام على وجهه مع الوحوش حتى مات!
قال العلامة في تحرير الأحكام: 5/397: «والسحر الذي يجب به القتل هو ما يعدُّ في
ص: 232
العرف سحراً، كما نقل الأموي في مغازيه أن النجاشي دعا السواحر فنفخن في إحليل عمارة بن الوليد، فهام مع الوحش فلم يزل معها إلى إمارة عمر بن الخطاب فأمسكه إنسان فقال: خَلِّنِي وإلا مِتُّ! فلم يُخله فمات من ساعته»!
والأموي: المؤرخ صاحب الأوزاعي الوليد بن مسلم مولى الأمويين توفي سنة195، له مصنفات في الحديث والتاريخ والمغازي. الديباج: 1/34
وهدية العارفين: 2/500.
أبرز من تصدى للنبي (صلی الله علیه و آله) من قريش خمسة فراعنة سماهم الله تعالى «المستهزئين» رئيسهم وعقلهم الوليد بن المغيرة المخزومي، كان يجمعهم ويضع لهم الخطط، وقد ناقشواالنبي (صلی الله علیه و آله) فأقام لهم الأدلة على نبوته وأراهم المعجزات التي طلبوها، فلم يزدهم ذلك إلا كفراً وعتواً! وكثرمجيؤهم إلى أبي طالب ليسلمهم النبي (صلی الله علیه و آله) ليقتلوه! فرفض كلامهم بشدة، وحشَد بني هاشم لحماية النبي (صلی الله علیه و آله)!
وتوالى نزول القرآن فاعتبروه تحدياً لهم وسبّاً لآلهتهم. ولما قرب موسم الحج للسنة الثانية من البعثة قام الوليد بتوحيد موقفهم أمام العرب الوافدين!
«ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولاتختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً. قالوا فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول فيه. قال: بل أنتم فقولوا، أسمع. قالوا: نقول كاهن. قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول مجنون. قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تَخَالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.
ص: 233
قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر، قد رأينا السُّحَّار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لَعَذِقٌ وإن فرعه لجُناه، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته.
فلما أقبلت العرب خرجوا يجلسون على طرقها يحذرون منه كل من قدم ويقولون: حدث عندنا ساحر، فإياكم أن يهلككم بسحره! وأنزل الله عزوجل في ذلك في الوليد بن المغيرة: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا. وَبَنِينَ شُهُودًا. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا. سَأُرْهِقْهُ صَعُودًا. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ البَشَرِ. سَأُصْلِيهِ سَقَرَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ. لاتُبْقي وَلاتَذَرُ. لَوَاحَةٌ لِلْبَشَرِ. عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ. «المدثر 11-30». فلم يزالوا يقولون ذلك لكل من جاء من ناحية من نواحي بلاد العرب، حتى صدروا عن الحج وأغروهم به واستنصروهم عليه، فوعدهم كثير منهم النصرة، وانتشر ذلك من أمرهم في العرب. وخاف أبوطالب دهماءها واجتماعها على رسول الله (صلی الله علیه و آله) للحمية في دينها، وتحريض قريش عليه واستنفارهم إليه، وأشفق من ذلك على رسول الله (صلی الله علیه و آله) إشفاقاً شديداً، فلم يرَ في دفع ذلك عنه إلا إصلاح جانب العرب له.
وكان إظهار أبي طالب ما يظهره من التمسك بدين العرب تقيّة عليه وذباً عنه، لأنه لو أظهر الإسلام كما أظهره حمزة لرفضته العرب ولم تلتفت إليه... وكان أبوطالب سيداً من سادات العرب، تعرف له حقه ولا تكاد تدخل فيما يسوءه، ولا تظاهره إلاّ بالمعروف وهو على دينها، فقال شعره الذي استعطف العرب به وتودد إلى أشرافها فيه، ليصرفهم عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخبرهم أنه على دينهم لم يبدّله».المناقب والمثالب/92، لأبي حنيفة النعمان المغربي المتوفى:363، الإكتفاء: 1/218، للكلاعي الأندلسي المتوفى: 634. وابن إسحاق: 2/131 وكلها تصرح بأن أباطالب كان مسلماً.
ص: 234
قال ابن كثير في النهاية: 3/70: «قال ابن إسحاق: ولما خشي أبوطالب دهم العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في شعره أنه غير مسلم لرسول الله، ولا تاركه لشئ أبداً، حتى يهلك دونه».
ثم أورد ابن كثير القصيدة برواية ابن هشام، ورد على تشكيك بعضهم في نسبة بعض أبياتها إلى أبي طالب، قال: «قال ابن هشام: هذا ما صح لي من هذه القصيدة،وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها. قلتُ: هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً، لايستطيع يقولها إلا من نسبت إليه،وهي أفحل من المعلقات السبع، وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعاً، وقد أوردها الأموي في مغازيه مطولة بزيادات أخر».
أقول: يظهر أن أباطالب (رحمة الله) أطلق لاميته في السنة الثانية للهجرة قبل موسم الحج رداً على إعلام قريش الكاذب وتحريضهم العرب على النبي (صلی الله علیه و آله)، وقد جعل بعض كتَّاب السيرة وقتها بعد محاصرة قريش لبني هاشم في الشعب، أو عندما عرضت قريش عليه شاباً بدل النبي (صلی الله علیه و آله)، ولا يصح ذلك.
قال ابن حجر في فتح الباري: 3/442: «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه... وهذا البيت من قصيدة لأبي طالب، ذكرها ابن إسحاق بطولها، وهي أكثر من ثمانين بيتاً، قالها لما تمالأت على النبي (صلی الله علیه و آله) ونفَّروا عنه من يريد الإسلام».
وقال العصامي في سمط النجوم/231: «قلت: لم أظفر من هذه القصيدة إلا بنحو السبعة والثمانية الأبيات في غالب كتب السير، ولم أزل أطلبها حتى ظفرت بغالبها من تاريخ العلامة الحافظ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المسمى دول الإسلام، فنقلتها منه ولله الحمد».
وقوله عجيب، لأن الذهبي أورد منها في تاريخه: 1/162 تسعة عشر بيتاً فقط! فلا بد أنهم حذفوا بقيتها من نسخته المطبوعة!
وقال ابن أبي الحديد: 2/315 بعد أن أورد جملة من شعر أبي طالب: «فكل هذه
ص: 235
الأشعار قد جاءت مجئ التواتر، لأنه إن لم يكن آحادها متواترة فمجموعها يدل على أمر واحد مشترك، وهو تصديق محمد (صلی الله علیه و آله)، ومجموعها متواتر كما أن كل واحدة من قتلات علي (علیه السلام) الفرسان منقولة آحاداً، ومجموعها متواتر يفيدنا العلم الضروري بشجاعته، وكذلك القول فيما روي من سخاء حاتم وحلم الأحنف. قالوا: واتركوا هذا كله جانباً: ما قولكم في القصيدة اللامية التي شهرتها كشهرة قِفَا نَبْكِ. فإن جاز الشك فيها أو في شئ من أبياتها، جاز الشك في: قفا نبك».
وقال الأميني في الغدير: 7/340: «هذه القصيدة ذكر منها ابن هشام في سيرته: 1/286 أربعة وتسعين بيتاً وقال: هذا ما صح لي من هذه القصيدة. وذكر ابن كثير اثنين وتسعين بيتاً في تاريخه: 3/53 وفي رواية ابن هشام ثلاثة أبيات لم توجد في تاريخ ابن كثير. وأضاف الأميني: وذكرها أبو هفان العبدي في ديوان أبي طالب، في مائة وأحد عشر بيتاً، ولعلها تمام القصيدة».
وفي إرشاد الساري: 2/227: «قصيدة جليلة بليغة من بحر الطويل، وعدة أبياتها مائة وعشرة أبيات، قالها لما تمالأ قريش على النبي ونفروا عنه من يريد الإسلام».
وفي عمدة القاري: 3/434: «قصيدة طنانة، وهي مائة بيت وعشرة أبيات أولها:
خليلي ما أُذْني لأول عاذلِ بصغواءَ في حق ولا عند باطل
وذكر منها البغدادي في خزانة الأدب: 1/252 اثنين وأربعين بيتاً مع شرحها... وذكر الآلوسي بعضها في بلوغ الإرب في أحوال العرب: 1/237 وذكر كلمة ابن كثير المتقدمة، وقال: هي مذكورة مع شرحها في كتاب: لب لباب لسان العرب.
وذكر منها السيد زيني دحلان أبياتاً في السيرة النبوية «هامش الحلبية: 1/88» وقال: قال الإمام عبدالواحد السفاقسي في شرح البخاري: إن في شعر أبي طالب هذا دليلاً على أنه كان يعرف نبوة النبي (صلی الله علیه و آله) قبل أن يبعث لما أخبره به بحيرا الراهب وغيره من شأنه، مع ما شاهده من أحواله، ومنها الإستسقاء به في صغره ومعرفة أبي طالب بنبوته (صلی الله علیه و آله) جاءت في كثير من الأخبار، زيادة على أخذها من شعره.
قال الأميني: أنا لا أدري كيف تكون الشهادة والإعتراف بالنبوة، إن لم يكن منها
ص: 236
هذه الأساليب المتنوعة المذكورة في هذه الأشعار! ولو وجد واحد منها في شعر أي أحد أو نثره، لأصفق الكل على إسلامه، لكن جميعها لا يدل على إسلام أبي طالب! فاعجب واعتبر». انتهى.
وقال العسكري في كتابه: أبوطالب حامي الرسول (صلی الله علیه و آله) /108: «وخرجها أبو هفان العبدي توفي: 257 فيما جمعه من شعر أبي طالب، وهو معروف بديوان أبي طالب (علیه السلام) من/2 إلى/12، طبع النجف الأشرف في مائة واحد عشر بيتاً، وخرجناها في كتابنا: الشهاب الثاقب لرجم مكفر أبي طالب (علیه السلام)، نقلاً من كتب عديدة وفيها زيادة على جميع من ذكر القصيدة،وما ذكرناه مائة وستة عشرة بيتاً».
وقال صاحب الصحيح من السيرة: 15/52: «وما دام أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحب لهذه القصيدة أن تذكر في محافل أهل الإيمان، فإنني أحب أن أثبتها هنا ليرغم بها أنف الشانئ والناصب، ولتقر بها عين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعين أبي طالب، وعين ابنه أسد الله الغالب، وعين من هو لشفاعته طالب». وأوردها بمئة وثمانية عشر بيتاً.
ونحن نوردها برواية ابن هشام: 1/176: لأنها الرواية الرسمية، ونثبت أهم ما لم يورده من نسخة الصحيح بين معقوفين.
قال: «فلما خشي أبوطالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره أنه غير مُسَلِّمٍ رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ولا تاركه لشئ أبداً، حتى يهلك دونه، فقال:
[خليليَّ ما أُذني لأول عاذلِ *** بصغواء في حقٍ ولا عند باطلِ]
[خليليَّ إن الرأيَ ليس بشركة *** ولا نهنهٍ عند الأمور التلاتل]
وَلَمّا رَأَيْت القَوْمَ لا وُدّ فِيهِمْ *** وَقَدْ قَطَعُوا كُلّ العُرَى وَالوَسَائِلِ
وَقَدْ صَارَحُونَا بِالعَدَاوَةِ وَالأَذَى *** وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ العَدُوّ المُزَايِلِ
وَقَدْ حَالَفُوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَظِنّةً *** يَعَضّونَ غَيْظًا خَلْفَنَا بِالأَنَامِلِ
ص: 237
صَبَرْت لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ *** وَأَبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ المَقَاوِلِ
وَأَحْضَرْت عِنْدَ البَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي *** وَأَمْسَكْت مِنْ أَثْوَابِهِ بِالوَصَائِل
قِيَامًا مَعًا مُسْتَقْبِلِينَ رِتَاجَهُ *** لَدَى حَيْثُ يَقْضِي حَلْفَهُ كُلّ نَافِلِ
وَحَيْثُ يُنِيخُ الأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ *** بِمُفْضَى السّيُولِ مِنْ إسَافَ وَنَائِلِ
مُوَسّمَةُ الأَعْضَادِ أَوْ قَصِرَاتِهَا *** مُخَيّسَةٌ بَيْنَ السّدِيسِ وَبَازِل
تَرَى الوَدْعَ فِيهَا، وَالرّخَامَ وَزَبْنَةً *** بِأَعْنَاقِهَا مَعْقُودَةً كَالعَثَاكِلِ
أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ مِنْ كُلّ طَاعِنٍ *** عَلَيْنَا بِسُوءِ أَوْ مُلِحّ بِبَاطِلِ
وَمِنْ كَاشِحٍ يَسْعَى لَنَا بِمَعِيبَةِجج *** وَمِنْ مُلْحِقٍ فِي الدّينِ مَا لَمْ نُحَاوِلْ
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ *** وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءَ وَنَازِلِ
وَبِالبَيْتِ حَقّ البَيْتِ مِنْ بَطْنِ مَكّةَ *** وَبِاَللهِ إنّ اللهَ لَيْسَ بِغَافِلِ
وَبِالحَجَرِ المُسْوَدّ إذْ يَمْسَحُونَهُ *** إذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضّحَى وَالأَصَائِلِ
وَمَوْطِئِ إبْرَاهِيمَ فِي الصّخْرِ رَطْبَةً *** عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ
وَأَشْوَاطِ بَيْنَ المَرْوَتَيْنِ إلَى الصّفَا *** وَمَا فِيهِمَا مِنْ صُورَةٍ وَتَمَاثِلِ
وَمَنْ حَجّ بَيْتَ اللهِ مِنْ كُلّ رَاكِبٍ *** وَمِنْ كُلّ ذِي نَذْرٍ وَمِنْ كُلّ رَاجِلِ
وَبِالمَشْعَرِ الأَقْصَى إذَا عَمَدُوا لَهُ *** إلالٍ إلَى مُفْضَى الشّرَاجِ القَوَابِل
وَتَوْقَافِهِمْ فَوْقَ الجِبَالِ عَشِيّةً *** يُقِيمُونَ بِالأَيْدِي صُدُورَ الرّوَاحِلِ
وَلَيْلَةِ جَمْعٍ وَالمَنَازِلِ مِنْ مِنًى *** وَهَلْ فَوْقَهَا مِنْ حُرْمَةٍ وَمَنَازِلِ
وَجَمْعٍ إذَا مَا المُقْرَبَاتُ أَجَزْنه *** سِرَاعًا كَمَا يَخْرُجْنَ مِنْ وَقْعِ وَابِلِ
وَبِالجَمْرَةِ الكُبْرَى إذَا صَمَدُوا لَهَا *** يَؤُمّونَ قَذْفًا رَأْسَهَا بِالجَنَادِلِ
وَكِنْدَةَ إذْ هُمْ بِالحِصَابِ عَشِيّةً *** تُجِيزُ بِهِمْ حُجّاجُ بَكْرِ بْنِ وَائل
حَلِيفَانِ شَدّا عَقْدَ مَا اخْتَلَفَا لَهُ *** وَرَدّا عَلَيْهِ عَاطِفَاتِ الوَسَائِلِ
وَخَطْمِهِمُ سُمْرَ الرّمَاحِ وَشَرْحَهُ *** وَشِبْرِقَهُ وَخْدَ النّعَامِ الحَوَامِلِ
ص: 238
فَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ مَعَاذٍ لِعَائِذِ *** وَهَلْ مِنْ مُعِيذٍ يَتّقِي اللهَ عَاذِلِ
يُطَاعُ بِنَا أَمْرُ العِدَا وَدّ أَنّنَا *** تُسَدّ بِنَا أَبْوَابُ تُرْكٍ وَكَابُلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نَتْرُكُ مَكّةَ *** وَنَظْعَنُ إلا أَمْرُكُمْ فِي بَلابِلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نُبْزَى مُحَمّدًا *** وَلَمّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلِ
وَنُسْلِمُهُ حَتّى نُصرَّع حَوْلَهُ *** وَنَذْهَلُ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالحَلائِلِ
وَيَنْهَضُ قَوْمٌ فِي الحَدِيدِ إلَيْكُمْ *** نُهُوضَ الرّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصّلاصِلِ
وَحَتّى تَرَى ذَا الضّغْنِ يَرْكَبُ رَدْعَهُ *** مِنْ الطّعْنِ فِعْلَ الأَنْكَبِ المُتَحَامِلِ
[أبيت بحمد الله ترك محمد *** بمكة أسلمه لشر القبائل]
[وقال لي الأعداء قاتل عصابة *** أطاعوه، وابغه من جميع الغوائل]
[نقيم على نصر النبي محمد *** نقاتل عنه بالظبى والعواسل]
وَإِنّا لَعَمْرُ اللهِ إنْ جَدّ مَا أَرَى *** لَتَلْتَبِسَن أَسْيَافُنَا بِالأَمَاثِلِ
بِكَفّيْ فَتًى مِثْلَ الشّهَابِ سَمَيْدَعٍ *** أَخِي ثِقَةٍ حَامِي الحَقِيقَةِ بَاسِلِ
شُهُورًا وَأَيّامًا وَحَوْلاً مُجَرّماً *** عَلَيْنَا وَتَأْتِي حِجّةٌ بَعْدَ قَابِلِ
وَمَا تَرْكُ قَوْمٍ لا أَبَا لَك سَيّدًا *** يَحُوطُ الذّمَارَ غَيْرَ ذَرْبٍ مُوَاكِلِ
[وما ترك قوم لا أباً لك سيداً *** يحوط الذمار غير ذرب مواكل]
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ *** ثِمَالَ اليَتَامَى عِصْمَةً لِلأَرَامِلِ
يَلُوذُ بِهِ الهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ *** فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاضِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ أَجْرَى أَسِيدٌ وَبِكْرُهُ *** إلَى بُغْضِنَا إذ جَزّآنَا لآكِلِ
[جزت رحم عنا أسيداً *** وخالداً جزاء مسيء لا يؤخر عاجل]
وَعُثْمَانُ لَمْ يَرْبَعْ عَلَيْنَا وَقُنْفُذٌ *** وَلَكِنْ أَطَاعَا أَمْرَ تِلْكَ القَبَائِلِ
أَطَاعَا أُبَيّا، وَابْنَ عَبْدِ يَغُوثِهُمْ *** وَلَمْ يَرْقُبَا فِينَا مَقَالَةَ قَائِلِ
كَمَا قَدْ لَقِينَا مِنْ سُبَيْعٍ وَنَوْفَلٍ *** وَكُلّ تَوَلّى مُعْرِضًا لَمْ يُجَامِلْ
ص: 239
فَإِنْ يُلْفَيَا، أَوْ يُمْكِنُ اللهُ مِنْهُمَا *** نَكِلْ لَهُمَا صَاعًا بِصَاعِ المُكَايِلِ
وَذَاكَ أَبُو عَمْرٍو أبی غَيْرَ بُغْضِنَا *** لِيُظْعِنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ وَجَامِلِ
يُنَاجِي بِنَا فِي كُلّ مُمْسًى وَمُصْبَحٍ *** فَنَاجِ أَبَا عَمْرٍ بِنَا ثُمّ خَاتِلِ
وَيُؤْلِي لَنَا بِاَللهِ مَا إنْ يَغُشّنَا *** بَلَى قَدْ تَرَاهُ جَهْرَةً غَيْرَ حَائِلِ
أَضَاقَ عَلَيْهِ بُغْضُنَا كُلّ تَلْعَةٍ *** مِنْ الأرض بَيْنَ أَخْشُبٍ فَمَجَادِلِ
وَسَائِلْ أَبَا الوَلِيدِ مَاذَا حَبَوْتنَا *** بِسَعْيِك فِينَا مُعْرِضًا كَالمُخَاتِلِ
وَكُنْت امْرِئِ مِمّنْ يُعَاشُ بِرَأْيِهِ *** وَرَحْمَتِهِ فِينَا وَلَسْت بِجَاهِلِ
[فلست أباليه على ذات نفسه *** فعش ياابن عمي ناعماً غير ماحل]
فَعُتْبَةُ لا تَسْمَعْ بِنَا قَوْلَ كَاشِحٍ *** حَسُودٍ كَذُوبٍ مُبْغِضٍ ذِي دَغَاوِلِ
[وقد خفت إن لم تزدجرهم وترعووا *** تلاقي ونلقى منك إحدى البلابل]
وَمَرّ أَبُو سُفْيَانَ عَنّي مُعْرِضًا *** كَمَا مَرّ قَيْلٌ مِنْ عِظَامِ المَقَاوِلِ
يَفِرّ إلَى نَجْدٍ وَبَرْدِ مِيَاهِهِ *** وَيَزْعُمُ أَنّي لَسْت عَنْكُمْ بِغَافِلِ
وَيُخْبِرُنَا فِعْلَ المُنَاصِحِ أَنّهُ *** شَفِيقٌ وَيُخْفِي عَارِمَاتِ الدّوَاخِلِ
[وأعلم أن لا غافل عن مساءة *** كذاك العدو عند حق وباطل]
[فميلوا علينا كلكم إن ميلكم *** سواء علينا والرياح بهاطل]
أَمُطْعِمُ لَمْ أَخْذُلْك فِي يَوْمِ بَحْدَةٍ *** وَلا مُعْظِمٌ عِنْدَ الأُمُورِ الجَلائِلِ
وَلا يَوْمَ خَصْمٍ إذْ أَتَوْك أَلِدّةً *** أُولِي جَدَلٍ مِنْ الخُصُومِ المَسَاجِلِ
أَمُطْعِمُ إنّ القَوْمَ سَامُوك خُطّةً *** وَإِنّي مَتَى أُوكَلْ فَلَسْت بِوَائِلِ
جَزَى اللهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلاً *** عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلاً غَيْرَ آجِلِ
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لا يُخِيسُ شَعِيرَةً *** لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا *** بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالغَيَاطِلِ
وَنَحْنُ الصّمِيمُ مِنْ ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ *** وَآلِ قُصَيّ فِي الخُطُوبِ الأَوَائِلِ
ص: 240
[وكان لنا حوض السقاية فيهم *** ونحن الذرى منهم وفوق الكواهل]
[فما أدركوا زحلاً ولا سفكوا دماً *** وما خالفوا إلا شرار القبائل]
وَسَهْمٌ وَمَخْزُومٌ تَمَالَوْا وَأَلّبُوا *** عَلَيْنَا العِدَا مِنْ كُلّ طِمْلٍ وَخَامِلِ
[وحث بنو سهم علينا عديَّهم *** عدي بن كعب فاحتبوا في المحافل]
[يعضُّون من غيظ علينا أكفهم *** بلا ترةٍ بعد الحمى والتواصل]
[وشأيظ كانت في لؤي بن غالب *** نفاهم إلينا كل صقر حلاحل]
فَعَبْدَ مَنَافٍ أَنْتُمُ خَيْرُ قَوْمِكُمْ *** فَلا تُشْرِكُوا فِي أَمْرِكُمْ كُلّ وَاغِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ وَهَنْتُمُ وَعَجَزْتُم *** وَجِئْتُمْ بِأَمْرِ مُخْطِئٍ لِلْمَفَاصِلِ
وَكُنْتُمْ حَدِيثاً حَطْبَ قِدْرٍ وَأَنْتُمْ *** أَلانَ حِطَابٌ أَقْدُرٍ وَمَرَاجِلِ
لِيَهْنِئْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عُقُوقُنَا *** وَخِذْلانُنَا، أوَ تَرْكُنَا فِي المَعَاقِلِ
فَإِنْ نَكُ قَوْماً نَتّئِرْ مَا صَنَعْتُمْ *** وَتَحْتَلِبُوهَا لِقْحَةً غَيْرَ بَاهِلِ
وَسَائِطُ كَانَتْ فِي لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ *** نَفَاهُمْ إلَيْنَا كُلّ صَقْرٍ حُلاحِلِ
وَرَهْطُ نُفَيْلٍ شَرّ مَنْ وَطِأَ الحَصَى *** وَأَلأمَ حَافٍ مِنْ مَعَدٍّ وَنَاعِلِ
فَأَبْلِغْ قُصَيّا أَنْ سَيُنْشَرُ أَمْرُنَا *** وَبَشّرْ قُصَيّا بَعْدَنَا بِالتّخَاذُلِ
وَلَوْ طَرَقَتْ لَيْلاً قُصَيّا عَظِيمَةٌ *** إذَا مَا لَجَأْنَا دُونَهُمْ فِي المَدَاخِلِ
وَلَوْ صَدَقُوا ضَرْباً خِلالَ بُيُوتِهِمْ *** لَكُنّا أُسًى عِنْدَ النّسَاءِ المَطَافِلِ
[فإنْ تكُ كعبٌ من لؤيٍّ تجمعت *** فلا بد يوماً مرة من تزايل]
[وإن تكُ كعبٌ من كعوبٍ كبيرة *** فلابد يوماً أنها في مجاهل]
[وكنا بخير قبل تسويد معشر *** هم ذبحونا بالمدى والمقاول]
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا *** بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالغَيَاطِلِ
فَكُلّ صَدِيقٍ وَابْنِ أُخْتٍ نَعُدّهُ *** لَعَمْرِي وَجَدْنَا غِبّهُ غَيْرَ طَائِلِ
سِوَى أَنّ رَهْطًا مِنْ كِلابِ بْنِ مُرّةَ *** بَرَاءٌ إلَيْنَا مِنْ مَعَقّةِ خَاذِلِ
ص: 241
[بني أسد لا تُطْرِقَنَّ على القذى *** إذا لم يقل بالحق مقول قائل]
[ونعم ابن أخت القوم غير مكذب *** زهير حساماً مفرداً من حمائل]
وَهَنّا لَهُمْ حَتّى تَبَدّدَ جَمْعُهُمْ *** وَيَحْسُرَ عَنّا كُلّ بَاغٍ وَجَاهِلِ
وَكَانَ لَنَا حَوْضُ السّقَايَةِ فِيهُمُ *** وَنَحْنُ الكُدَى مِنْ غَالِبٍ وَالكَوَاهِلِ
شَبَابٌ مِنْ المُطَّيّبِينَ وَهَاشِمِ *** كَبِيضِ السّيُوفِ بَيْنَ أَيْدِي الصّيَاقِلِ
فَمَا أَدْرَكُوا ذَحْلاً وَلا سَفَكُوا دَمًا *** وَلا حَالَفُوا إلا أشَرّ القَبَائِلِ
بِضَرْبِ تَرَى الفِتْيَانَ فِيهِ *** كَأَنّهُمْ ضَوَارِي أُسُودٍ فَوْقَ لَحْمٍ خَرَادِلِ
بَنِي أُمّةٍ مَحْبُوبَةٍ هِنْدِكيّة *** بَنِي جمَحَ عُبَيْدِ قَيْسِ بْنِ عَاقِلِ
وَلَكِنّنَا نَسْلٌ كِرَامٌ لِسَادَةِ *** بِهِمْ نُعِيَ الأَقْوَامُ عِنْدَ البَوَاطِلِ
وَنِعْمَ ابْنُ أُخْتِ القَوْمِ غَيْرَ مُكَذّبٍ *** زُهَيْرٌ حُسَامًا مُفْرَدًا مِنْ حَمَائِلِ
أَشَمّ مِنْ الشّمّ البَهَالِيلِ يَنْتَمِي *** إلَى حَسَبٍ فِي حَوْمَةِ المَجْدِ فَاضِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ كَلِفْت وَجْدًا بِأَحْمَدَ *** وَإِخْوَتِهِ دَأْبَ المُحِبّ المُوَاصِلِ
فَلا زَالَ فِي الدّنْيَا جَمَالاً لأهْلِهَا *** وَزَيْنًا لِمَنْ وَالاهُ رَبّ المَشَاكِلِ
فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النّاسِ أَيّ مُؤَمّلٍ *** إذَا قَاسَهُ الحُكّامُ عِنْدَ التّفَاضُلِ
حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشِ *** يُوَالِي إلَهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ
فَوَاَللهِ لَوْلا أَنْ أَجِئَ بِسُبّةِ *** تُجَرّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي المَحَافِلِ
لَكُنّا اتّبَعْنَاهُ عَلَى كُلّ حَالَةٍ *** مِنْ الدّهْرِ جِدّاً غَيْرَ قَوْلِ التّهَازُلِ
[وداستكم منا رجال أعزةٌ *** إذا جردوا أيمانهم بالمناصل]
[رجال كرام غير مِيلٍ نماهمُ *** إلى العز آباء كرام المخاصل]»
[وقفنا لهم حتى تبدد جمعهم *** وحُسِرَ عنا كل باغ وجاهل]
[شباب من المطَّلِّبين وهاشم *** كبيض السيوف بين أيدي الصياقل]
[بضرب ترى الفتيان فيه كأنهم *** ضواري أسود فوق لحم خرادل]
ص: 242
[ولكننا نسلٌ كرام لسادة بهم *** يعتلي الأقوام عند التطاول]
[سيعلم أهل الضغن أيِّي وأيهم *** يفوز ويعلو في ليال قلائل]
[وأيهم مني ومنهم بسيفه يلاقي *** إذا ما حان وقت التنازل]
[ومن ذا يمل الحرب مني ومنهمُ *** ويحمد في الآفاق في قول قائل]
لَقَدْ عَلِمُوا أَنّ ابْنَنَا لا مُكَذّبٌ *** لَدَيْنَا، وَلا يُعْنَى بِقَوْلِ الأَبَاطِلِ
فَأَصْبَحَ فِينَا أَحْمَدُ فِي أَرُومَةٍ *** تُقَصّرُ عَنْهُ سَوْرَةُ المُتَطَاوِلِ]
[كأني به فوق الجياد يقودها *** إلى معشر زاغوا إلى كل باطل]
حَدِبْت بِنَفْسِي دُونَهُ وَحَمَيْته *** وَدَافَعْت عَنْهُ بِالذّرَى وَالكَلاكِلِ
فَأَيّدَهُ رَبّ العِبَادِ بِنَصْرِهِ *** وَأَظْهَرَ دِينًا حَقّهُ غَيْرُ بَاطِلِ
رِجَالٌ كِرَامٌ غَيْرُ مِيلٍ نَمَاهُمْ *** إلَى الخَيْرِ آبَاءٌ كِرَامُ المَحَاصِلِ
فَإِنْ تَكُ كَعْبٌ مِنْ لُؤَيّ صُقَيْبةً *** فَلا بُدّ يَوْماً مَرّةً مِنْ تَزَايُلِ»
[وجُدْتُ بنفسي دونه وحميته *** ودافعت عنه بالذرى والكلاكل]»ج
ورواها القاضي النعمان المغربي في المناقب والمثالب/92، بمئة وسبعة أبيات، وقال: «وفشا شعر أبي طالب هذا في العرب وأمْرُ رسول الله وقيام بني عبد شمس ومن أطاعها عليه، وانتصاب بني هاشم ومن تولاها دونه، وعلموا قديماً ما بين الفئتين من البغضاء وحسد بني عبد شمس بني هاشم...فتوقف من كانوا أغروه من قبائل العرب برسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكذب أكثرهم مقالهم فيه، وذكر أهل يثرب ما كانت اليهود خبَّرتهم وحدَّثتهم به من ظهور نبي فيهم، قد أزف وقت ظهوره وإخبارهم عن شأنه وأموره، فلما بلغهم أمر رسول الله تطلعت أعينهم إليه».
وقال في شرح الأخبار: 3/225: «وكان إظهار أبي طالب ما أظهر من التمسك بدين العرب والرغبة فيه، مع تصديقه لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وإقراره بنبوته، مما أيد الله به أمر محمد (صلی الله علیه و آله) لأنه لو أظهر الإسلام لرفضته العرب، ولم يعضده من عضده منهم على نصرة رسول الله (صلی الله علیه و آله)».
ص: 243
وقد شرح قصيدة أبي طالب بعض العلماء شرحاً موجزاً، كالسهيلي في الروض الأنف: 2/16، وهو من حفاظ القرن السادس. تذكرة الحفاظ للذهبي: 4/1348.
وشرحها صاحب خزانة الأدب: 2/53، عبدالقادر بن عمر البغدادي المتوفى سنة 1093 وأورد منها أربعين بيتاً، وقال: «وقد أحببت أن أوردها هنا منتخبة مشروحة بشرح يوفي المعنى، محبة في النبي صلى الله عليه».
وشرح ابن إسحاق بعض مفرداتها كما نقل ابن هشام: 1/181 قال: «والغياطل: من بني سهم بن عمرو بن هصيص، وأبوسفيان: ابن حرب بن أمية. ومطعم: ابن عدي بن نوفل بن عبدمناف. وزهير: ابن أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وأمه عاتكة بنت عبدالمطلب. قال ابن إسحاق: وأسيد، وبكره: عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبدمناف بن قصي. وعثمان: ابن عبيدالله، أخو طلحة بن عبيدالله التيمي. وقنفذ: ابن عمير بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة. وأبو الوليد: عتبة بن ربيعة. وأبيّ: الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة بن كلاب. قال ابن هشام: وإنما سمى الأخنس لأنه خنس بالقوم يوم بدر، وإنما اسمه أبيّ. وهو من بني علاج وهو علاج بن أبي سلمة بن عوف بن عقدة. والأسود: ابن عبد يغوث بن وهب بن عبدمناف بن زهرة بن كلاب. وسبيع: ابن خالد، أخو بلحارث بن فهر. ونوفل: ابن خويلد بن أسد بن عبدالعزى ابن قصي وهو ابن العدوية، وكان من شياطين قريش، وهو الذي قرن بين أبي بكر الصديق وطلحة بن عبيدالله في حبل حين أسلما، فبذلك كانا يسميان القرينين، قتله علي بن أبي طالب يوم بدر. وأبو عمرو: قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبدمناف. وقوله: وقوم علينا أظنة، بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة. فهؤلاء الذين عدد أبوطالب في شعره من العرب»!
لكن أباطالب (رحمة الله) ذكر غيرهم أشخاصاً وقبائل!
ثم روى ابن هشام قوله (صلی الله علیه و آله) عندما استسقى في المدينة: «لو أدرك أبوطالب هذا اليوم لسره، فقال له بعض أصحابه: كأنك يا رسول الله أردت قوله:
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ...ثِمَالَ اليَتَامَى عِصْمَةً لِلأَرَامِلِ؟ قال أَجل».
وفي عمدة القاري: 7/31: «لله در أبي طالب لو كان حياً لقرت عيناه».
ص: 244
أ. يبلغ شعر أبي طالب (رحمة الله) الذي وصل إلينا نحو ألف بيت، وهو ثروة مهمة لم يعطه العلماء حقه في تدوين السيرة وتوثيقها! وقد رأيت قول الناصبي ابن كثير: «هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً، لايستطيع يقولها إلا من نسبت إليه، وهي أفحل من المعلقات السبع وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعاً»!
فلماذا لم يدرسوها ويعتمدوها؟! ولايذكرون شعر أبي طالب (علیه السلام) إلا عند الضرورة وباختصار، تقرباً وخوفاً من الحكومات! ثم زعموا أنه مات كافراً لينفوا وراثته لعبدالمطلب، فنفيُ الوراثة وتكفير آباء النبي (صلی الله علیه و آله) وأسرته أمرٌ مهم عندهم، لأنها تنقض أساس خلافة السقيفة!
ب. يكشف شعر أبي طالب (رحمة الله) عن أمور وأحداث في السيرة النبوية لم يسجلها الرواة والمؤلفون، أو عتَّموا عليها، فمنها أن قريشاً قررت إجلاء بني هاشم من مكة إن لم يسلموهم النبي (صلی الله علیه و آله) ليقتلوه! وعملوا لتنفيذ ذلك فأحبطه أبوطالب:
كذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نُبْزَى مُحَمّدًا *** وَلَمّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلٍ
وَنُسْلِمُهُ حَتّى نُصْرَعَ حَوْلَهُ *** وَنَذْهَلُ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالحَلائِلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نَتْرُكُ مَكّةً *** وَنَظْعَنُ إلا أَمْرُكُمْ فِي بَلابِل
وذَاكَ أَبُو عَمْرٍو أبیٰ غَيْرَ بُغْضِنَا *** لِيُظْعِنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ وَجَامِلِ
يُنَاجِي بِنَا فِي كُلّ مُمْسًى وَمُصْبَحٍ *** فَنَاجَ أَبَا عَمْرٍ بِنَا ثُمّ خَاتِلِ
وَيُؤْلِي لَنَا بِاَللهِ مَا إنْ يَغُشّنَا *** بَلَى قَدْ تَرَاهُ جَهْرَةً غَيْرَ حَائِلِ
وأبو عمرو المنافق هو: قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبدمناف، وهذا يدل على أن حساد بني هاشم من أقربائهم كبني نوفل وأمية، كانوا مع قرار نفيهم!
ج. ومن ذلك أن أباطالب (رحمة الله) أشار في شعره إلى أعمال عدائية قامت بها قبائل أو شخصيات معينة، لم يكشفها الرواة! لاحظ قوله (رحمة الله):
لَعَمْرِي لَقَدْ أَجْرَى أَسِيدٌ وَبِكْرُهُ *** إلَى بُغْضِنَا إذ جَزّآنَا لآكِلِ
ص: 245
[جزت رحم عنا أسيداً وخالداً *** جزاء مسئ لا يؤخرعاجل]
وَعُثْمَانُ لَمْ يَرْبَعْ عَلَيْنَا وَقُنْفُذٌ *** وَلَكِنْ أَطَاعَا أَمْرَ تِلْكَ القَبَائِلِ
أَطَاعَا أُبَيّا، وَابْنَ عَبْدِ يَغُوثِهُمْ *** وَلَمْ يَرْقُبَا فِينَا مَقَالَةَ قَائِلِ
كَمَا قَدْ لَقِينَا مِنْ سُبَيْعٍ وَنَوْفَلٍ *** وَكُلّ تَوَلّى مُعْرِضًا لَمْ يُجَامِلْ
فَإِنْ يُلْفَيَا، أَوْ يُمْكِنُ اللهُ مِنْهُمَا *** نَكِلْ لَهُمَا صَاعًا بِصَاعِ المُكَايِلِ
وَمَرّ أَبُو سُفْيَانَ عَنّي مُعْرِضًا *** كَمَا مَرّ قَيْلٌ مِنْ عِظَامِ المَقَاوِلِ
يَفِرّ إلَى نَجْدٍ وَبَرْدِ مِيَاهِهِ *** وَيَزْعُمُ أَنّي لَسْت عَنْكُمْ بِغَافِلِ
وَيُخْبِرُنَا فِعْلَ المُنَاصِحِ أَنّهُ *** شَفِيقٌ وَيُخْفِي عَارِمَاتِ الدّوَاخِلِ
[وأعلم أن لا غافلٌ عن مساءة *** كذاك العدو عند حق وباطل]
[فميلوا علينا كلكم إن ميلكم *** سواء علينا والرياح بهاطل]
أَمُطْعِمُ لَمْ أَخْذُلْك فِي يَوْمِ بَحْدَة *** وَلا مُعْظِمٌ عِنْدَ الأُمُورِ الجَلائِلِ
أَمُطْعِمُ إنّ القَوْمَ سَامُوك خُطّةً *** وَإِنّي مَتَى أُوكَلْ فَلَسْت بِوَائِلِ
جَزَى اللهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلاً *** عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلاً غَيْرَ آجِلِ
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لا يُخِيسُ شَعِيرَةً *** لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلامُ قَوْمٍ تَبَدّلُو *** بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالغَيَاطِلِ
وَسَهْمٌ وَمَخْزُومٌ تَمَالَوْا وَأَلّبُوا *** عَلَيْنَا العِدَا مِنْ كُلّ طِمْلٍ وَخَامِلِ
[وحث بنو سهم علينا عديَّهم *** عدي بن كعب فاحتبوا في المحافل]
[يعضُّون من غيظ علينا أكفهم *** بلا ترةٍ بعد الحمى والتواصل]
[وشأيظ كانت في لؤي بن غالب *** نفاهم إلينا كل صقر حلاحل]
وَرَهْطُ نُفَيْلٍ شَرّ مَنْ وَطِأَ الحَصَى *** وَأَلأمَ حَافٍ مِنْ مَعَدٍّ وَنَاعِلِ
ولم أجد تعبير«شر من وطأ الحصى» قبل وصف أبي طالب به لعدي، وهم قبيلة عمر، وكانوا قلة لكن لهم دور في عداء النبي (صلی الله علیه و آله) .
ص: 246
ولاحظ قوله (رحمة الله) في قصيدة أخرى:
وليد أبوه كان عبداً لجدنا *** إلى علجة زرقاء جاش بها البحر
وتيم ومخزوم وزهرة منهم *** فكانوا لنا مولى إذا بغي النصر
فقد سفهت أحلامهم وعقولهم *** فكانوا كجفر بئس ما صنعت جفر
والوليد هو أبو خالد بن الوليد، أحد المستهزئين الخمسة سنن البيهقي 9/8 وقد أخبر أبوطالب أن أمه رومية، كانت أمَةً لهاشم!
د. ولاحظ قوله (رحمة الله) في المعجزة التي ظهرت في أبي جهل: «لما جاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو ساجد، وبيده حجر يريد أن يرميه به، فلما رفع يده لصق الحجر بكفه»!
أفيقوا بني غالب وانتهوا *** عن الغي من بعض ذا المنطق
وإلا فإني إذن خائفٌ *** بوائقَ في داركم تلتقي
تكون لغيركم عبرةً *** ورب المغارب والمشرق
كما ذاق من كان من قبلكم *** ثمودٌ وعادٌ فمن ذا بقي
غداة أتاهم بها صرصرٌ *** وناقة ذي العرش قد تستقي
فحل عليهم بها سخطةٌ *** من الله في ضربة الأزرق
غداة يعض بعرقوبها *** حساماً من الهند ذا رونق
وأعجب من ذاك في أمركم *** عجائب في الحجر الملصق
بكف الذي قام من خبثه *** إلى الصابر الصادق المتقي
فأثبته الله في كفه *** على رغمة الجائر الأحمق
أحيمق مخزومكم إذ غوى *** لغي الغواة ولم يَصدق»
كنز الفوائد/75، أبوطالب حامي الرسول/21، ابن إسحاق: 4/192 ولم يجزم بنسبتها إلى أبي طالب!
فلا بد من تتبع الأحداث التي أرخها أبوطالب رضيالله عنه، أو أشار اليها، وفيها مفردات جديدة في السيرة، أهملها الرواة أو جهلوها، فينبغي بحث نصوصها ومؤيداتها، أو ما يعارضها في السيرة الحكومية الرسمية.
ص: 247
قال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَالسَّمِيعُ الْبَصِيرُ. الإسراء 1.
وقال تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى. وَهُوَ بِالآفُقِ الأَعْلَى. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى.فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى. النجم 1-18.
فمطلع سورة الإسراء في الإسراء، أما المعراج فآياته في سورة النجم.
وقال المفسرون واللغويون: السُّرى هو السير بالليل فقط «لسان العرب 4/389» لكن قوله تعالى: أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً، يدل على أن الإسراء مطلق السير، ولذا قال: لَيْلاً.
وتبلغ أحاديث الإسراء والمعراج في مصادر الطرفين مئات الصفحات، وغرضنا هنا إيراد مختارٍ منها، يعطي تصوراً شاملاً عن المعراج، ثم نشير إلى بعض الروايات المكذوبة فيه.
مذهب عامة الشيعة أن معراج النبي (صلی الله علیه و آله) كان بروحه وجسده. قال المجلسي في روضة المتقين: 2/218: «وأما المعراج فأخباره أكثر من أن تحصى، وإنكاره كفر.. ثم حمل على عائشة
ص: 248
ومعاوية، لأنهما أنكرا المعراج بالجسم وجعلاه بالروح»!
و قال النويري في نهاية الأرب: 16/293: «اختلف العلماء على ثلاث مقالات، فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح وأنه رؤيا منام. وذهبت طائفة إلى أن الإسراء كان بالجسد يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح. والذي عليه الأكثرون وقال به معظم السلف أنه إسراء بالجسد وفي اليقظة. قال القاضي عياض بن موسى بن عياض: وهذا هو الحق، وهو قول ابن عبّاس وجابر وأنس وحذيفة..وهو قول الطبرى، وابن حنبل، وغيرهما، وقد أبطلوا حجج من قال خلاف ذلك بأدلَّة يطول علينا شرحها. قال القاضي عياض: وعليه تدل الآية، إذ لو كان مناماً لقال: بروح عبده، ولم يقل: بِعَبْدِه.وقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وما طَغى. ولو كان مناماً لما كانت فيه آية ولا معجزة».
الإسراء: سَفَر النبي (صلی الله علیه و آله) من مكة إلى الكوفة،ثم إلى جبل الطور وبيت المقدس، إشارةً إلى أنه وارث آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى:.
والمعراج: عروجه (صلی الله علیه و آله) إلى السماء، وكان ذلك في أوائل البعثة، وكأنه برنامج إعداد للنبي (صلی الله علیه و آله) بأن يريه ربه ما شاء من ملكوته وآياته الكبرى.
ففي أمالي الصدوق/213: «عن ثابت بن دينار قال: سألت زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (علیه السلام) عن الله جل جلاله هل يوصف بمكان؟ فقال: تعالى الله عن ذلك.قلت: فلمَ أسرى بنبيه محمد (صلی الله علیه و آله) إلى السماء؟قال: ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه. قلت: فقول الله عزوجل: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى؟ قال: ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) دنا من حجب النور، فرأى ملكوت السماوات، ثم تدلى (صلی الله علیه و آله) فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض حتى ظن أنه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى».
وفي الإحتجاج: 1/327 أن حَبْراً قال لأميرالمؤمنين (علیه السلام): «هذا سليمان قد
ص: 249
سخرت له الرياح فسارت به في بلاده، غُدُوُّها شهر ورواحها شهر؟ قال له (علیه السلام): لقد كان ذلك، ومحمد (صلی الله علیه و آله) أعطي ما هو أفضل من هذا، إنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، وعرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام، في أقل من ثلث ليلة، حتى انتهى إلى ساق العرش فدنى بالعلم فتدلى من الجنة على رفرف أخضر، وغشيَ النور بصره، فرأى عظمة ربه عزوجل بفؤاده، ولم يرها بعينه، فكان كقاب قوسين بينه وبينها، أو أدنى».
أقول: هذا يدل على أن التدلي كان مرات، ومن عدة أمكنة، لمشاهدة ملكوت الأرض، ولمشاهدة آيات الله وعظمته فيها.
قال العيني في عمدة القاري: 4/39: «قيل إن الإسراء كان مرتين، مرة بروحه مناماً، ومرة بروحه وبدنه يقظة. ومنهم من يدعي تعدد الإسراء في اليقظة أيضاً، حتى قال إنه أربع إسرا آت. وزعم بعضهم أن بعضها كان بالمدينة، ووفَّق أبو شامة في روايات حديث الإسراء بالجمع بالتعدد، فجعله ثلاث إسرا آت، مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط على البراق، ومرة من مكة إلى السماوات على البراق أيضاً. ومرة من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات».
وقال ابن عباس: «كان المعراج مرتين، بعد النبوة بسنتين، فالأول معراج العجائب والثاني معراج الكرامة». المناقب: 1/153.
ورجح في الصحيح من السيرة: 3/25 أنه مرتان، طبق رواية الكافي: 1/443 لكن سندها غيرتام، بينما صح عن أهل البیت (علیهم السلام) أنه مرات، فعن الإمام الصادق (علیه السلام): «عرج بالنبي (صلی الله علیه و آله) إلى السماء مائة وعشرين مرة. ما من مرة إلا وقد أوصى الله النبي (صلی الله علیه و آله) بولاية علي والأئمة (علیهم السلام) من بعده، أكثر مما أوصاه بالفرايض».
بصائر الدرجات/99، الخصال/600، المحتضر/44 والفوائد الطوسية/140.
ومما يدل على أن المعراج وقع أيضاً في أواخر نبوته (صلی الله علیه و آله)، ما رواه الصدوق في الأمالي /696،
ص: 250
عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث أسري به إلى السماء، لم يمر بخلق من خلق الله إلا رأى منه ما يحب، من البِشْر واللطف والسرور به، حتى مر بخلق من خلق الله فلم يلتفت إليه ولم يقل له شيئاً، فوجده قاطباً عابساً فقال: يا جبرئيل، ما مررت بخلق من خلق الله إلا رأيت البشر واللطف والسرور منه إلا هذا، فمن هذا؟ قال: هذا مالك خازن النار، وهكذا خلقه ربه! قال: فإني أحب أن تطلب إليه أن يريني النار. فقال له جبرئيل: إن هذا محمداً رسول الله، وقد سألني أن أطلب إليك أن تريه النار. قال: فأخرج له عنقاً منها فرآها، فما افترَّ ضاحكاً حتى قبضه الله عزوجل».
ونحوه في كتاب الحسين بن سعيد/99 وفيه: «فكشف له طبقاً من أطباقها».
فهذا الحديث الصحيح يدل على أنه لم يضحك بعده حتى توفي فهو في أواخر حياته الشريفة، ومعراجه الأول كان في أوائل بعثته، وقد ضحك بعده في مناسبات عديدة.
في أمالي الصدوق/738: «دين الإمامية هو الإقرار بتوحيد الله تعالى ذكره، ونفي التشبيه عنه وتنزيهه عما لا يليق به، والإقرار بأنبياء الله ورسله وحججه وملائكته وكتبه، والإقرار بأن محمداً هو سيد الأنبياء والمرسلين..وبمعراج النبي (صلی الله علیه و آله) إلى السماء السابعة، ومنها إلى سدرة المنتهى، ومنها إلى حجب النور، وبمناجاة الله عزوجل إياه، وأنه عرج به بجسمه وروحه على الصحة والحقيقة لا على الرؤيا في المنام، وأن ذلك لم يكن لأن الله عزوجل في مكان هناك، لأنه متعال عن المكان، ولكنه عزوجل عرج به تشريفاً له وتعظيماً لمنزلته، وليريه ملكوت السماوات كما أراه ملكوت الأرض، ويشاهد ما فيها من عظمة الله عزوجل وليخبر أمته بما شاهد في العلو من الآيات والعلامات».
وفي رسالة الإعتقادات للصدوق (رحمة الله) /79: «واعتقادنا في الجنة والنار أنهما مخلوقتان
ص: 251
وأن النبي (صلی الله علیه و آله) قد دخل الجنة، ورأى النار، حين عرج به».
إن المعراج حدثٌ ضخمٌ، ومفرداته كثيرة، وقد تبلغ موضوعاته مائتي عنوان، وهذا طبيعي، لأنه جولة في الأرض على ربوع الأنبياء السابقين:، وجولاتٌ في السماوات السبع، أرى الله فيها رسوله (صلی الله علیه و آله) آيات ملكوته الكبرى. أراه جميع الأنبياء (علیهم السلام)، والجنة بأعلى نعيمها، وطرفاً من النار والمعذبين فيها.
وأراه مشاهد ستحدث من مستقبل أمته، وأراه الأئمة من ذريته:، وعلمه علم ما يكون. وفي كل واحد من هذه المواضيع: عناوين، وفروع، وتفاصيل.
وقد أفاضت مصادرنا في رواية أحاديث المعراج التي بينت مقام النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة من عترته:، ومقام شيعتهم وما يجري عليهم من اضطهاد، وما أعد الله لهم من نصر في نهاية المطاف، ودرجات عالية في الآخرة.
يوجد رأي نادر للباحث السيد جعفر مرتضى، ذكره في رسالة عن البيت المعمور، وفي كتابه الصحيح من السيرة: 3/147 مفاده: أن المقصود بالمسجد الأقصى في آية الإسراء هو البيت المعمور في السماء وليس مسجد بيت المقدس، وأن المسجد الذي يدخله المؤمنون مرتين هو المسجد الحرام، قال:
«الظاهر أن المراد به هو المسجد الحرام، أما المسجد الأقصى الذي حصل الإسراء إليه، والذي بارك الله حوله، فهو في السماء».
واستدل على ذلك برواية أن النبي صلى بالأنبياء (علیهم السلام) في المسجد الأقصى، وهو البيت المعمور: «انتهى جبرئيل إلى البيت المعمور وهو المسجد الأقصى، فلما دنا منه أتى جبرئيل عيناً فتوضأ منها ثم قال يا محمد توضأ». اليقين لابن طاووس/294.
وفي تفسير القمي: 2/243 ونوادر المعجزات/66: «عن إسماعيل الجعفي قال: كنت في المسجد الحرام قاعداً وأبوجعفر (علیه السلام) في ناحية، فرفع رأسه فنظر إلى السماء مرة وإلى الكعبة مرة، ثم قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى..
ص: 252
وكرر ذلك ثلاث مرات، ثم التفت إليَّ فقال: أي شئ يقولون أهل العراق في هذه الآية يا عراقي؟ قلت: يقولون أسري به من المسجد الحرام إلى البيت المقدس، فقال: لا، ليس كما يقولون، ولكنه أسريَ به من هذه وأشار بيده إلى الأرض، إلى هذه وأشار بيده إلى السماء، وقال: ما بينهما حرم. قال: فلما انتهى به إلى سدرة المنتهى تخلف عنه جبرئيل (علیه السلام) فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا جبرئيل في هذا الموضع تخذلني؟ فقال: تقدم أمامك، فوالله لقد بلغت مبلغاً لم يبلغه أحد من خلق الله قبلك.فرأيت من نور ربي وحال بيني وبينه السبحة. قلت: وما السبحة
جعلت فداك؟ فأومئ بوجهه إلى الأرض وأومى بيده إلى السماء وهو يقول جلال
ربي ثلاث مرات. قال يا محمد! قلت: لبيك يا رب قال: فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت سبحانك لا علم لي إلا ما علمتني.
قال فوضع يده أي يد القدرة بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي. قال: فلم يسألني عما مضى ولا عما بقي إلا علمته. قال: يا محمد فيمَ اختصم الملأ الأعلى؟ قال قلت: يا رب في الدرجات والكفارات والحسنات.
فقال: يا محمد قد انقضت نبوتك وانقطع أُكلك، فمن وصيك؟ فقلت: يا رب قد بلوت خلقك فلم أر من خلقك أحداً أطوع لي من علي؟ فقال: ولي يا محمد. فقلت: يا رب إني قد بلوت خلقك فلم أر في خلقك أحداً أشد حباً لي من علي بن
أبي طالب. قال: ولي يا محمد، فبشره بأنه راية الهدى وإمام أوليائي ونورٌ لمن أطاعني، والكلمة التي ألزمتها المتقين، من أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد أبغضني، مع ما أني أخصه بما لم أخص به أحداً. فقلت: يا رب أخي وصاحبي ووزيري ووارثي، فقال إنه أمر قد سبق أنه مبتلى ومبتلى به، مع ما أني قد نحلته ونحلته ونحلته ونحلته، أربعة أشياء عقدها بيده ولا يفصح بها عقدها».
أقول: في هذا الحديث عناصر قوة، لكن فيه عناصر خلل توجب التوقف فيه، أهمها ما يوافق المخالفين في التجسيم، أو ما يوهم التجسيم.
ومنها وجود روايات تعارضه وتدل على أن المسجد الأقصى مسجد
ص: 253
بيت المقدس، منها ما رواه في الكافي: 3/491 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «جاء رجل إلى أميرالمؤمنين صلوات الله عليه وهو في مسجد الكوفة فقال: السلام عليك يا أميرالمؤمنين ورحمة الله وبركاته فرد عليه، فقال: جعلت فداك إني أردت المسجد الأقصى، فأردت أن أسلم عليك وأودعك، فقال له: وأي شئ أردت بذلك؟ فقال: الفضل جعلت فداك، قال: فبع راحلتك وكل زادك، وصلِّ في هذا المسجد فإن الصلاة المكتوبة فيه حجة مبرورة، والنافلة عمرة مبرورة، والبركة فيه على اثني عشر ميلاً، يمينه يمن ويساره مكر، وفي وسطه عين من دهن، وعين من لبن، وعين من ماء شراب للمؤمنين، وعين من ماء طهر للمؤمنين. منه سارت سفينة نوح، وكان فيه نسر ويغوث ويعوق، وصلى فيه سبعون نبياً وسبعون وصياً، أنا أحدهم. وقال بيده في صدره: ما دعا فيه مكروب بمسألة في حاجة من الحوائج، إلا أجابه الله
وفرج عنه كربته».
فلو صحت الرواية التي تسمي البيت المعمور في السماء المسجد الأقصى أوبيت المقدس، فدلالتها على تعدد المسجد الأقصى أولى من دلالتها على البدلية.
لذلك نستقرب أن يكون المسجد الأقصى اسماً للبيت المعمور وبيت المقدس معاً.
في الكافي: 1/251: «قال رجل لأبي جعفر (علیه السلام): يا ابن رسول الله لا تغضب عليَّ قال: لماذا؟ قال: لما أريد أن أسألك عنه، قال: قل. قال: ولا تغضب؟ قال: ولا أغضب. قال: أرأيت قولك في ليلة القدر تنزل الملائكة والروح فيها إلى الأوصياء يأتونهم بأمر لم يكن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد علمه؟ أو يأتونهم بأمر كان رسول الله يعلمه؟وقد علمت أن رسول الله مات وليس من علمه شئ إلا وعلي (علیه السلام) له واع!
قال أبوجعفر (علیه السلام): مالي ولك أيها الرجل ومن أدخلك علي؟
قال: أدخلني عليك القضاء لطلب الدين. قال: فافهم ما أقول لك: إن رسول الله لما أسري به لم يهبط حتى أعلمه الله جل ذكره علم ما قد كان وما سيكون، وكان
ص: 254
كثير من علمه ذلك جملاً، يأتي تفسيرها في ليلة القدر.وكذلك كان علي بن أبي طالب (علیه السلام) قد علم جمل العلم ويأتي تفسيره في ليالي القدر، كما كان مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) . قال السائل: أوما كان في الجمل تفسير؟ قال: بلى، ولكنه إنما يأتي بالأمر من الله تعالى في ليالي القدر إلى النبي وإلى الأوصياء:: إفعل كذا وكذا، لأمر قد كانوا علموه، أمروا كيف يعملون فيه؟
قلت: فسر لي هذا. قال: لم يمت رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلا حافظاً لجمله وتفسيره. قلت: فالذي كان يأتيه في ليالي القدر علم ما هو؟ قال: الأمر واليسر فيما كان قد علم. قال السائل: فما يحدث لهم في ليالي القدر علم سوى ما علموا؟ قال: هذا مما أمروا بكتمانه، ولا يعلم تفسير ما سألت عنه إلا الله عزوجل. قال السائل: فهل يعلم الأوصياء ما لا يعلم الأنبياء؟ قال: لا، وكيف يعلم وصي غير علم ما أوصي إليه. قال السائل: فهل يسعنا أن نقول إن أحداً من الوصاة يعلم ما لايعلم الآخر؟ قال: لا لم يمت نبي إلا وعلمه في جوف وصيه، وإنما تنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بالحكم الذي يحكم به بين العباد.
قال السائل: و ما كانوا علموا ذلك الحكم؟ قال: بلى قد علموه، ولكنهم لا يستطيعون إمضاء شئ منه حتى يؤمروا في ليالي القدر كيف يصنعون إلى السنة المقبلة. قال السائل: يا أبا جعفر لا أستطيع إنكار هذا؟ قال أبوجعفر (علیه السلام): من أنكره فليس منا. قال السائل: يا أبا جعفر أرأيت النبي (صلی الله علیه و آله) هل كان يأتيه في ليالي القدر شئ لم يكن علمه؟ قال: لا يحل لك أن تسأل عن هذا، أما علم ما كان وما سيكون، فليس يموت نبي ولا وصي إلا والوصي الذي بعده يعلمه، أما هذا العلم الذي تسأل عنه فإن الله عزوجل أبي أن يطلع الأوصياء عليه إلا أنفسهم.
قال السائل: يا ابن رسول الله كيف أعرف أن ليلة القدر تكون في كل سنة؟ قال: إذا أتى شهر رمضان فاقرأ سورة الدخان في كل ليلة مائة مرة، فإذا أتت ليلة ثلاث وعشرين فإنك ناظر إلى تصديق الذي سألت عنه».
ص: 255
أقول: لاغرابة في أن يكون الله تعالى علَّم نبيه (صلی الله علیه و آله) وأراه في معراجه كثيراً من المستقبل! لأن كل ما سيحدث في هذا الكون مخزون في علم الله تعالى الذي أحاط بكل شئ، ونحن نرى في المنام أموراً من المستقبل، ثم تحدث كما رأيناها تماماً، فكأن ذلك المنام لقطة من المستقبل المخزون!
كما يدلنا هذا الحديث الشريف العميق على أن تعليم الله تعالى لرسوله (صلی الله علیه و آله) ولأوصيائه:له نظام وأصول، في توقيته، وتدرجه، وإمضائه، والسماح ببيانه، بما يحفظ لهم الإختيار، ويحفظ المسار الصحيح لتبليغهم رسالات ربهم. قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيء عَدداً. الجن: 26-28.
في الكافي: 8/279: «عن المفضل بن عمر قال: كنت عند أبي عبدالله (علیه السلام) بالكوفة أيام قدم على أبي العباس «السفاح» فلما انتهينا إلى الكناسة قال: هاهنا صلب عمي زيد (رحمة الله)، ثم مضى حتى انتهى إلى طاق الزياتين وهو آخر السراجين، فنزل وقال: إنزل فإن هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأول الذي خطه آدم (علیه السلام)، وأنا أكره أن أدخله راكباً. قال قلت: فمن غيَّره عن خطته؟ قال: أما أول ذلك الطوفان في زمن نوح (علیه السلام)، ثم غيره أصحاب كسرى ونعمان، ثم غيَّره بعدُ زياد بن أبي سفيان. فقلت: وكانت الكوفة ومسجدها في زمن نوح (علیه السلام)؟فقال لي: نعم يا مفضل، وكان منزل نوح وقومه في قرية على منزل من الفرات، مما يلي غربي الكوفة، قال: وكان نوح (علیه السلام) رجلاً نجاراً فجعله الله عزوجل نبياً وانتجبه، ونوح أول من عمل سفينة تجري على ظهر الماء.
قال: ولبث نوح (علیه السلام) في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عزوجل فيهزؤون به ويسخرون منه، فلما رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلايَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا. فأوحى الله عزوجل إلى نوح أن اصنع سفينة وأوسعها وعجل عملها، فعمل نوح سفينة في مسجد الكوفة بيده، فأتى بالخشب من بُعد حتى فرغ منها.
ص: 256
قال: المفضل ثم انقطع حديث أبي عبدالله (علیه السلام) عند زوال الشمس فقام فصلى الظهر والعصر ثم انصرف من المسجد، فالتفت عن يساره وأشار بيده إلى موضع دار الداريين، وهو موضع دار ابن حكيم وذاك فرات اليوم، فقال لي: يا مفضل، هاهنا نصبت أصنام قوم نوح (علیه السلام): يغوث ويعوق ونسراً.
ثم مضى حتى ركب دابته فقلت: جعلت فداك في كم عمل نوح سفينته حتى فرغ منها؟ قال: في دورين، قلت: وكم الدورين؟ قال: ثمانين سنة. قلت: وإن العامة يقولون: عملها في خمس مائة عام، فقال: كلا كيف والله يقول: وَوَحْيِنَا.
قال قلت: فأخبرني عن قول الله عزوجل: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ، فأين كان موضعه وكيف كان؟فقال: التنور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة المسجد. فقلت له: فإن ذلك موضع زاوية باب الفيل اليوم. ثم قلت له: وكان بدء خروج الماء من ذلك التنور؟ فقال: نعم إن الله عزوجل أحب أن يرى قوم نوح آية، ثم إن الله تبارك وتعالى أرسل عليهم المطر يفيض فيضاً، وفاض الفرات فيضاً، والعيون كلهن فيضاً، فغرقهم الله عز ذكره، وأنجى نوحاً ومن معه في السفينة. فقلت له: كم لبث نوح في السفينة حتى نضب الماء وخرجوا منها؟ فقال: لبثوا فيها سبعة أيام ولياليها، وطافت بالبيت أسبوعاً، ثم استوت على الجودي، وهو فرات الكوفة. فقلت له: إن مسجد الكوفة قديم؟فقال: نعم، وهو مصلى الأنبياء (علیهم السلام) ولقد صلى فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين أسري به إلى السماء، فقال له جبرئيل: يا محمد هذا مسجد أبيك آدم، ومصلى الأنبياء (علیهم السلام)، فانزل فصل فيه فنزل فصلى فيه.. ثم إن جبرئيل عرج به إلى السماء».
وفي رواية في تفسير القمي: 2/3 أن جبرئيل (علیه السلام) أنزل النبي (صلی الله علیه و آله) في المدينة فصلى فيها، وأخبره أنها مهاجره، وصلى في طور سيناء عند قبر موسى (علیه السلام)، وفي بيت لحم مولد عيسى (علیه السلام) .
أقول: «روى الطبري: 3/145 أن سلمان وحذيفة كانا رائدي جيش فتح العراق فارتادا لهم مكاناً لنزولهم، فخرج سلمان حتى أتى الأنبار، فسار في غربي الفرات
ص: 257
لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة. وخرج حذيفة في شرقي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة، والكوفة على حصباء، وكل رملة حمراء يقال لها سهلة، وكل حصباء ورمل هكذا متخلطين فهو كوفة، فأتيا عليها وفيها دَيْرَات ثلاثة: دير حرقة ودير أم عمرو ودير سلسلة، وخصاص خلال ذلك، فأعجبتهما البقعة».
وفي فتوح البلاذري: 2/354 أن سلمان الفارسي قال: «الكوفة قبة الإسلام، يأتي على الناس زمان لا يبقى مؤمن إلا وهو بها، أو يهوي قلبه إليها».
ولا بد أن يكون عمله (رحمة الله) بتوجيه علي (علیه السلام) باب مدينة علم النبي (صلی الله علیه و آله) .
كانت مدة المعراج الأول أقل من ثلث ليلة، حسب رواية الاحتجاج: 1/327. وكان وقته الثلث الأخير من الليل، كما في الخرائج: 1/85.
وفي تفسير العياشي، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) صلى العشاء الآخرة وصلى الفجر في الليلة التي أسريَ به فيها بمكة. وكان أبوطالب أمرعلياً وجعفراً وحمزة بالتناوب لحراسته، وكان يتفقد مكانه في الليل! ولما لم يجده خاف أن يكون القرشيون قتلوه، فبعث من يبحث عنه، واستدعى شباب بني هاشم ووزع عليهم سيوفاً قصيرة أو شفاراً، وأمرهم أن يكون كل واحد منهم بجانب زعيم قرشي فإذا أمرهم فليقتل كل منهم من بجنبه من الزعماء،وأولهم أبوجهل! مناقب ابن شهرآشوب: 1/156 وروضة الواعظين/59.
وفي تاريخ اليعقوبي: 2/26: «قال لهم: إن رأيتموني ومحمداً معي فأمسكوا حتى آتيكم، وإلا فليقتل كل رجل منكم جليسه ولاتنتظروني. فوجدوه على باب
أم هانئ، فأتى به بين يديه حتى وقف على قريش فعرَّفهم ما كان منه!فأعظموا ذلك وجلَّ في صدورهم، وعاهدوه وعاقدوه أنهم لايؤذون رسول الله، ولا يكون منهم إليه شئ يكرهه أبداً».
وفي الخرائج للراوندي: 1/85: «لما رجع من السُّرى نزل على أم هاني بنت أبي طالب
ص: 258
فأخبرها فقالت: بأبي أنت وأمي والله لئن أخبرت الناس بهذا ليكذبنَّك من صدَّقَك، وكان أبوطالب قد فقده تلك الليلة فجعل يطلبه وجمع بني هاشم، ثم أعطاهم المُدى، وقال لهم: إذا رأيتموني قد دخلت وليس معي محمد فليضرب كل رجل منكم جليسه، والله لا نعيش نحن ولا هم وقد قتلوا محمداً.
فخرج في طلبه وهو يقول: يا لها عظيمة إن لم يواف رسول الله مع الفجر، فتلقاه على باب أم هاني حين نزل من البراق فقال: يا ابن أخي، إنطلق فادخل بين يديَّ المسجد، وسلَّ سيفه عند الحجر وقال: يا بني هاشم أخرجوا مُداكم. فقال: لو لم أره ما بقي منكم شِفْر ٌ«أحد» أو عشنا، فاتقته قريش منذ يوم أن يغتالوه.
ثم حدثهم محمد (صلی الله علیه و آله)، فقالوا: صف لنا بيت المقدس. قال: إنما دخلته ليلاً، فأتاه جبرئيل فقال: أنظر إلى هناك، فنظر إلى البيت فوصفه وهو ينظر إليه، ثم نعت لهم ما كان لهم من عير ما بينهم وبين الشام».
لكن ابن سعد: 1/202 جعل الحادثة عندما جاء زعماء قريش إلى أبي طالب وعرضوا عليه أن يعطوه رجلاً بدل النبي (صلی الله علیه و آله)، ونزلت سورة صاد فاشمأزوا منها! قال: «فلما كان مساء تلك الليلة فقد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجاء أبوطالب وعمومته إلى منزله فلم يجدوه فجمع فتياناً من بني هاشم وبني المطلب، ثم قال: ليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة ثم ليتبعني فإذا دخلت المسجد فلينظركل فتى منكم فليجلس إلى عظيم من عظمائهم فيهم ابن الحنظلية يعني أباجهل، فإنه لم يغب عن شر، إن كان محمد قد قتل! فقال الفتيان نفعل».
وفي الغدير: 7/350، عن الحجة لفخار بن معد، عن ابن الجوزي عن الواقدي: «كان أبوطالب بن عبدالمطلب لايغيب صباح النبي ولا مساءه، ويحرسه من أعدائه ويخاف أن يغتالوه، فلما كان ذات يوم فقده فلم يره... فلما وقف عليهم والغضب في وجهه قال لعبيده: أبرزوا ما في أيديكم فأبرز كل واحد منهم ما في يده، فلما رأوا السكاكين قالوا: ما هذا يا أباطالب؟ قال: ما ترون، إني طلبت محمداً فلم أره منذ يومين فخفت أن تكونوا كدتموه ببعض شأنكم، فأمرت
ص: 259
هؤلاء أن يجلسوا حيث ترون وقلت لهم: إن جئت وليس محمد معي فليضرب كل منكم صاحبه الذي إلى جنبه ولا يستأذني فيه ولو كان هاشمياً! فقالوا: وهل كنت فاعلاً؟فقال: إي ورب هذه وأومى إلى الكعبة! فقال له المطعم بن عدي بن نوفل وكان من أحلافه: لقد كدت تأتي على قومك؟ قال: هو ذلك. ومضى به وهو يقول:
إذهب بُنَيَّ فما عليك غضاضةٌ *** إذهب وقَرَّ بذاك منك عيونا
والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي *** ولقد صدقت وكنت قبل أمينا
وذكرت ديناً لا محالة إنه *** من خير أديان البرية دينا
فرجعت قريش على أبي طالب بالعتب والإستعطاف، وهو لا يحفل بهم»!
أقول: لايبعد أن يكون عمل أبي طالب (رحمة الله) قد تكرر منه لحماية النبي (صلی الله علیه و آله) وتهديد قريش.
في أمالي الصدوق/533، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما أسري برسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى بيت المقدس حمله جبرئيل على البراق، فأتيا بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء (علیهم السلام) وصلى بها، ورده فمرَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) في رجوعه بِعِيرٍ لقريش وإذا لهم ماء في آنية وقد أضلوا بعيراً لهم وكانوا يطلبونه، فشرب رسول الله (صلی الله علیه و آله) من ذلك الماء وأهرق باقيه! فلما أصبح رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لقريش: إن الله جل جلاله قد أسرى بي إلى بيت المقدس، وأراني آثار الأنبياء (علیهم السلام) ومنازلهم، وإني مررت بعير لقريش في موضع كذا وكذا وقد أضلوا بعيراً لهم، فشربت من مائهم وأهرقت باقي ذلك. فقال أبوجهل: قد أمكنتكم الفرصة منه فسلوه كم الأساطين فيها والقناديل؟ فقالوا: يا محمد إن هاهنا من قد دخل بيت المقدس، فصف لنا كم أساطينه وقناديله ومحاريبه؟ فجاء جبرئيل فعلق صورة بيت المقدس تجاه وجهه، فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه! فلما أخبرهم قالوا: حتى تجئ العير ونسألهم عما قلت. فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) تصديق ذلك أن العير تطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق. فلما كان من الغد
ص: 260
أقبلوا ينظرون إلى العقبة ويقولون: هذه الشمس تطلع الساعة، فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم العير حين طلع القرص يقدمها جمل أورق، فسألوهم عما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: لقد كان هذا، ضل جمل لنا في موضع كذا وكذا، ووضعنا ماء فأصبحنا وقد أهريق الماء! فلم يزدهم ذلك إلا عتواً»!
وفي الكافي: 8/262 عن الإمام الصادق (علیه السلام): «ثم قال: هذه عير بني فلان تقدم مع طلوع الشمس يتقدمها جمل أورق أو أحمر، قال: وبعثت قريش رجلاً على فرس ليردها، قال: وبلغ مع طلوع الشمس، قال قرطة بن عبد عمرو: يا لهفاً ألا أكون لك جذعاً، حين تزعم أنك أتيت بيت المقدس ورجعت من ليلتك»!
ونحوه في الخرائج: 1/141، عن علي (علیه السلام)،وفيه: «فلما كان اليوم الثالث خرجوا إلى باب مكة لينظروا صدق ما أخبر به محمد (صلی الله علیه و آله) قبل طلوع الشمس، فهم كذلك إذا طلعت العير عليهم بطلوع الشمس في أولها الجمل الأحمر! فتعجبوا من ذلك! وسألوا الذين كانوا مع العيرفقالوا مثل ما قال محمد (صلی الله علیه و آله) في إخباره عنهم. فقالوا: هذا أيضاً من سحر محمد»!
وفي تفسير العياشي: 2/137 في قول الله عزوجل: وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ، قال: «فأجابهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في كل ما سألوه عنه فلم يؤمن منهم إلا قليل، وهو قول الله تبارك وتعالى: وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ. ثم قال أبوعبدالله (علیه السلام): نعوذ بالله أن لا نؤمن بالله وبرسوله. آمنا بالله وبرسوله (صلی الله علیه و آله)».
روى في الكافي: 8/376: «أتى جبرئيل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالبراق أصغرمن البغل وأكبر من الحمار، مضطرب الأذنين، عينيه في حافره، وخطاه مد بصره، إذا انتهى إلى جبل قصرت يداه وطالت رجلاه، فإذا هبط طالت يداه وقصرت رجلاه، أهدب العرف الأيمن، له جناحان من خلفه».
في أمالي الصدوق/534: «رجلاها أطول من يديها، خَطْوُها مدُّ البصر، فلما
ص: 261
أراد النبي أن يركب امتنعت فقال جبرئيل (علیه السلام): إنه محمد، فتواضعت حتى لصقت بالأرض. قال فركب فكلما هبطت ارتفعت يداها وقصرت رجلاها، وإذا صعدت ارتفعت رجلاها وقصرت يداها، فمرت به في ظلمة الليل على عيرٍ مُحَمَّلة، فنفرت العير من دفيف البراق، فنادى رجل في آخر العير غلاماً له في أول العير: يافلان، إن الإبل قد نفرت»!
وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 1/35 ومسند زيد بن علي/497، قال (صلی الله علیه و آله): «هي دابة من دواب الجنة، ليست بالطويل ولا بالقصير، فلو أن الله أذن لها لجالت الدنيا في جرية واحدة، وهي أحسن الدواب لوناً».
وفي الخرائج: 1/84: «فوقفه على باب خديجة ودخل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فمرح البراق، فخرج إليه جبرئيل (علیه السلام) فقال: أسكن فإنما يركبك أحب خلق الله إليه». وفي روضة الواعظين/53: «ومضى إلى بيت المقدس، ثم إلى السماء الدنيا، فتلقته الملائكة فسلمت عليه، وتطايرت بين يديه، حتى انتهى إلى السماء السابعة».
وفي مسند زيد بن علي/449: «قال أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام): لما بدأ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بتعليم الأذان أتى جبريل بالبراق فاستصعب عليه: ثم أتاه بدابة يقال لها براقة فاستصعبت عليه، فقال لها جبريل أسكني براقة، فما ركبك أحد أكرم على الله منه فسكنت، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) فركبتها حتى انتهت إلى الحجاب الذي يلي الرحمن تبارك وتعالى، فخرج ملك من وراء الحجاب، فقال الله أكبر الله أكبر، قال فقلت: يا جبريل ومن هذا الملك، قال: والذي أكرمك بالنبوءة ما رأيت هذا الملك قبل ساعتي هذه! فقال: الله أكبر، الله أكبر، فنودي من وراء الحجاب: صدق».
وفي صحيح البخاري: 4/77: «وأتيتُ بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار البراق فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا، قيل من هذا؟ قال جبريل. قيل: ومن معك؟ قيل: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به».
ويفهم من دعاء إقبال الأعمال: 2/51 أن الله تعالى علم رسوله (صلی الله علیه و آله) بعض أسمائه الحسنى فسخر له البراق: وباسمك الذي سخرت به البراق لمحمد صلواتك عليه وآله.
ص: 262
روى الحاكم: 3/153، والطوسي والصدوق في أماليهما /35/275، قال النبي (صلی الله علیه و آله): «وأبعث على البراق، خطوها عند أقصى طرفها، وتبعث فاطمة (علیها السلام) أمامي».
وفي الخصال/203: «عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما في القيامة راكب غيرنا ونحن أربعة، فقام إليه العباس بن عبدالمطلب فقال: من هم يا رسول الله؟ فقال: أما أنا فعلى البراق ووجهها كوجه الإنسان وخدها كخد الفرس، وعرفها من لؤلؤ مسموط، وأذناها زبرجدتان خضراوان، وعيناها مثل كوكب الزهرة، تتوقدان مثل النجمين المضيئين، لها شعاع مثل شعاع الشمس، ينحدر من نحرها الجمان، مطوية الحلق طويلة اليدين والرجلين، لها نفس كنفس الآدميين، تسمع الكلام وتفهمه، وهي فوق الحمار ودون البغل.
قال العباس: ومن يا رسول الله؟ قال (صلی الله علیه و آله): وأخي صالح على ناقة الله عزوجل التي عقرها قومه، قال العباس: ومن يا رسول الله؟ قال: وعمي حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله، سيد الشهداء على ناقتي العضباء، قال العباس: ومن يا رسول الله؟ قال: وأخي علي على ناقة من نوق الجنة، زمامها من لؤلؤ رطب عليها محمل من ياقوت أحمر، قضبانه من الدر الأبيض، على رأسه تاج من نور عليه حلتان خضراوان، بيده لواء الحمد وهو ينادي: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً رسول الله. فيقول الخلائق ما هذا إلا نبي مرسل أو ملك مقرب، فينادي مناد من بطنان العرش: ليس هذا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا حامل عرش، هذا علي بن أبي طالب وصي رسول رب العالمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين»! ونحوه أمالي الطوسي/258.
وقال الصدوق في الخصال: هذا حديث غريب لما فيه من ذكر البراق ووصفه، وذكر حمزة بن عبدالمطلب.
وفي أمالي الصدوق/275: «لن يركب إلا أربعة: أنا وعلي وفاطمة وصالح
نبي الله».
ص: 263
أقول: تفاوتت الرواية في عد الركبان فبعضها عد منهم الزهراء (علیها السلام) فيكونون خمسة، ومنهم عدهم أربعة فيكون المقصود الرجال. ولم تبين الرواية مكان ركوبهم أو زمانه. على أن أسانيدها ليست قوية.
روى القمي في تفسيره: 1/60 عن الإمام الصادق (علیه السلام) أن الله تعالى حمل إبراهيم على البراق إلى مكة.وروي أن المهدي (علیه السلام) يأتيه جبرئيل بالبراق فيركبه من المدينة إلى مكة: «فيأخذ بيده ويصافحه ويسلم عليه ويقول له: قم ويجيؤه بفرس يقال له البراق فيركبه ثم يأتي إلى جبل رضوى، فيأتي محمد (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) فيكتبان له عهداً منشوراً يقرؤه على الناس، ثم يخرج إلى مكة والناس يجتمعون بها. قال: فيقوم رجل منه فينادي: أيها الناس هذا طلبتكم قد جاءكم يدعوكم إلى ما دعاكم إليه رسول الله. قال: فيقوم هو بنفسه فيقول: أيها الناس أنا فلان بن فلان، أنا ابن نبي الله، أدعوكم إلى ما دعاكم إليه نبي الله. فيقومون إليه ليقتلوه فيقوم ثلاث مائة وينيف على الثلاث مائة فيمنعونه، منه خمسون من أهل الكوفة، وسائرهم من أفناء الناس لايعرف بعضهم بعضاً، اجتمعوا على غير ميعاد».
معجم المهدي: 3/198.
في الكافي: 1/236 عن الإمام الصادق (علیه السلام) أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما عرض على عمه العباس قبول ديونه وعداته فاعتذر، ثم عرضها على علي (علیه السلام) فقبلها، فأمر بإحضارها، وفيه: «يا بلال عليَّ بالمغفر والدرع والراية... والقميصين: القميص الذي أسري به فيه، والقميص الذي جُرح فيه يوم أحد... فقال: إقبضها
في حياتي».
أقول: يظهر من أحاديث المعراج أن النبي (صلی الله علیه و آله) ركب على وسيلة خاصة، وأنه استعمل الإسم الأعظم، وأنه لبس قميصاً خاصاً.
ص: 264
روى البخاري عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: 4/249: «ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى».
فسدرة المنتهى عند هذا الراوي شجرة سدر، لكن ثمرها نبق كبير، الواحدة منه بقدر قربة ماء كبيرة، من قِلال هجر البحرين، أوهجر المدينة!
وهذا تبسيط عامي لسدرة المنتهى، لكن أهل البیت (علیهم السلام) رووا أنها شجرة خاصة في عوالم أنوار الله تعالى، وأن منطقتها آخر ما يمكن أن يصل اليه مخلوق.
ففي الإحتجاج: 1/361: «ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى. يعني: محمداً كان عند سدرة المنتهى، حيث لا يجاوزها خلق من خلق الله عزوجل».
وفي المحاسن: 2/334: «قال أبوجعفر (علیه السلام): إنما سميت سدرة المنتهى، لأن أعمال
أهل الأرض تصعد بها الملائكة الحفظة إلى محل السدرة. وقال: الحفظة الكرام البررة دون السدرة، يكتبون ما ترفعه إليهم الملائكة من أعمال العباد في الأرض وينتهون بها إلى محل السدرة».
وفي قرب الإسناد/101: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الورقة منها تظل الدنيا، وعلى كل ورقة ملك يسبح الله، يخرج من أفواههم الدر والياقوت، تبصر اللؤلؤة مقدار خمس مائة عام، وما سقط من ذلك الدر والياقوت يخزنه ملائكة موكلون به يلقونه في بحر من نور، يخرجون كل ليلة جمعة إلى سدرة المنتهى، فلما نظروا إليَّ رحبوا بي وقالوا: يا محمد مرحباً بك، فسمعت اضطراب ريح السدرة وخفقة أبواب الجنان، قد اهتزت فرحاً لمجيئك، فسمعت الجنان تنادي: واشوقاه إلى علي وفاطمة والحسن والحسين».
وفي دلائل الامامة/100: «عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: لما زوج رسول الله (صلی الله علیه و آله) فاطمة من علي (علیهما السلام) أتاه أناس من قريش فقالوا: إنك زوجت علياً بمهر قليل! فقال: ما أنا زوجت علياً ولكن الله زوجه ليلة أسريَ بي إلى السماء، فصرت عند سدرة المنتهى أوحى الله إلى السدرة:
ص: 265
أن انثري ما عليك، فنثرت الدر والجوهر والمرجان، فابتدر الحور العين فالتقطن، فهن يتهادينه ويتفاخرن به، ويقلن: هذا من نثار فاطمة بنت محمد».
عقد في الكافي: 1/95 باباً في تنزيه الله تعالى عن الخضوع لقوانين الزمان والمكان، والرؤية بالعين، وروى فيه بضعة عشر حديثاً، منها حديثان عن الكندي الفيلسوف يعقوب بن يوسف، من رسالتين بعث بهما إلى الإمام العسكري (علیه السلام):
1- عن يعقوب بن إسحاق قال: «كتبت إلى أبي محمد «الحسن العسكري (علیه السلام)» أسأله كيف يعبدالعبد ربه وهو لا يراه؟ فوقع (علیه السلام): يا أبا يوسف، جل سيدي ومولاي والمنعم عليَّ وعلى آبائي أن يرى. وسألته: هل رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ربه؟ فوقع (علیه السلام): إن الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب».
2- عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: «جاء حبر إلى أميرالمؤمنين صلوات الله عليه فقال: يا أميرالمؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ قال فقال: ويلك ما كنت أعبد رباً لم أره! قال: وكيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان».
3- عن عاصم بن حميد قال: «ذاكرت أبا عبدالله (علیه السلام) فيما يروون من الرؤية فقال: الشمس جزء من سبعين جزءً من نور الكرسي والكرسي جزء من سبعين جزءً من نور العرش، والعرش جزء من سبعين جزءً من نور الحجاب، والحجاب جزء من سبعين جزءً من نور الستر، فإن كانوا صادقين فليملؤوا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب».
4- عن صفوان بن يحيى قال: «سألني أبو قرة المحدث أن أدخله على أبي الحسن الرضا (علیه السلام) فاستأذنته في ذلك فأذن لي، فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال أبو قرة: إنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين، فقسم الكلام لموسى ولمحمد الرؤية!
ص: 266
فقال أبو الحسن (علیه السلام): فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس: لاتُدْرِكُهُ الأبْصَار، ولا يحُيطون به علماً، ولَيْسَ كمثلهِ شَئ، أليس محمد؟ قال: بلى. قال: كيف يجيئ رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: لاتدركه الأبصار، ولا يحيطون به علماً، وليس كمثله شئ، ثم يقول أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً وهو على صورة البشر؟! أما تستحون! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر!
قال أبو قرة: فإنه يقول: ولقد رآه نزلةً أخرى، فقال أبو الحسن (علیه السلام): إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: ما كذب الفؤاد ما رأى، يقول: ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه، ثم أخبر بما رأى فقال: لقد رأى من آيات ربه الكبرى، فآيات الله غير الله، وقد قال الله: وَلَا يُحِيطُونَ بِه عِلْما، فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة! فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات؟ فقال أبو الحسن (علیه السلام): إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها، وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علماً، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شئ».
5 - عن داود بن القاسم أبي هاشم الجعفري قال: «قلت لأبي جعفر «الإمام الجواد (علیه السلام)»: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ؟ فقال: يا أبا هاشم أوهام القلوب أدق من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها، ولا تدركها ببصرك، وأوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون»!
6- عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام): قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لما أسري بي إلى السماء، بلغ بي جبرئيل مكاناً لم يطأه قط جبرئيل.فكُشف له فأراه الله من نور عظمته ما أحب.
وفي الكافي: 1/443: «فخلى عنه فقال له: يا جبرئيل تخليني على هذه الحالة؟فقال: إمضه، فوالله لقد وطأت مكاناً ما وطأه بشر، وما مشى فيه بشرٌ قبلك».
7- وروى الصدوق في التوحيد/117، بسند صحيح عن أبي الصلت الهروي قال: «قلت لعلي بن موسى الرضا (علیهما السلام): يا ابن رسول الله، فما معنى الخبر
ص: 267
الذي رووه أن ثواب لا إله إلا الله النظر إلى وجه الله؟ فقال (علیه السلام): يا أبا الصلت من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه الله أنبياؤه ورسله وحججه صلوات الله عليهم، هم الذين بهم يتوجه إلى الله وإلى دينه ومعرفته، وقال الله عزوجل: كل من عليها فان و يبقى وجه ربك. وقال عزوجل: كل شئ هالك إلا وجهه».
قال البخاري: 8/205 في حديث فرض الصلاة وأن موسى (علیه السلام) قال له إرجع وأطلب من الله تخفيف الصلاة عن أمتك: «فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت، فعلا به إلى الجبار وهو في مكانه فوضع عنه عشراً»!
ورووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) رأى الله على صورة شاب أمرد، يلبس قبقاباً من ذهب! وتبناه ابن تيمية في منهاج السنة/634 وفي نقض التأسيس: 3/241، فقال: «سئل ابن عباس هل رأى محمد ربه؟ قال: نعم. قال: وكيف رآه؟قال: في صورة شاب دونه ستر من لؤلؤ،كأن قدميه في خضرة.. وهذا يدل على أنه رآه. وأخبر أنه رآه في صورة شاب دونه ستر وقدميه في خضرة، وأن هذه الرؤية هي المعارضة بالآية والمجاب عنها بما تقدم، فيقتضي أنها رؤية عين، كما في الحديث الصحيح المرفوع عن قتادة عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): رأيت ربي في صورة شاب أمرد، له وفرة، جعد، قطط، في روضة خضراء»!
وكذلك تبناه في كتابه بيان تلبيس الجهمية/223، ونقل عن الطبراني أنه قال: «روى هذا الحديث جماعة من الأئمة الثقات عن حماد بن سلمة، عن قتادة.. ونقل عن ابن صدقة الحافظ قوله: من لم يؤمن بحديث عكرمة فهو زنديق!
ثم روى أن عبدالله بن عمر سأل ابن عباس فأجابه: نعم رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب، على كرسي من ذهب، تحمله أربعة من الملائكة».
ثم قال ابن تيمية: «وعلى الروايات الثلاث اعتمد ابن خزيمة في تثبيت الرؤية حيث قال: باب ذكر الأخبار المأثورة في إثبات رؤية النبي (صلی الله علیه و آله) خالقه العزيز العليم المحتجب عن أبصار بريته قبل اليوم الذي يجزي الله كل نفس ما كسبت، وذكر أن الله
ص: 268
نبيه خصَّ محمداً (صلی الله علیه و آله) بالرؤية كما خص إبراهيم (علیه السلام) بالخلة من بين جميع الرسل والأنبياء جميعاً، وكما خص موسى (علیه السلام) بالكلام، كل واحد بفضيلة، كما أخبرنا عزوجل في محكم تنزيله بقوله: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ. البقرة 253.
ثم اشتمل حديث هشام الدستوائي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس، قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليهم وذكر حديث الحكم عن عكرمة الذي فيه صورة شاب..فأما خبر قتادة والحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، وخبر عبدالله بن أبي سلمة، عن ابن عباس، فبينٌ واضحٌ أن ابن عباس رضيالله عنهما كان يثبت أن النبي (صلی الله علیه و آله) رأى ربه، وهذا من كلامه يقتضي أنه اعتمد هذه الطرق، وأنها تفيد رؤية العين لله».
وزعم ابن تيمية أن كل ما في التوراة من تجسيم يطابق السنة! ولذا رد الأحاديث التي تنفي الرؤية بالعين، وتشبث بأحاديث التجسيم حتى الضعيفة كحديث لقيط العقيلي في العماء، وحديث أم الطفيل عن معبودهم الشاب الأمرد، اللابس نعلين من ذهب، وحديث الأوعال والأسد والثور التي تحمل عرشه، كما في التوراة، وحديث طقطقة العرش وصريره وأزيزه، لأن خشبه جديد كمحمل الجمل! وأنه يفضل من العرش أربع أصابع، فيُقعد فيها إلى جانبه من يحبه...إلخ.
فالتوراة في عقيدته هي الأساس، والسنة يجب أن تخضع لها، والقرآن أيضاً!
وقال ابن باز«4/368 رقم2331»: «خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً! وهو حديث صحيح ولا غرابة في متنه.. الضمير في قوله: على صورته، يعود على الله، بدليل ما جاء في رواية أخرى صحيحة: على صورة الرحمن»!
وقال الألباني أيضاً في فتاويه/506: «هل أنكم تثبتون صفة الهرولة لله تعالى؟ جواب: الهرولة كالمجئ والنزول صفات ليس يوجد عندنا ما ينفيها.
وأثبت له ابن باز صفة الهرولة، قال في فتاويه: 5/374: «ومن
ص: 269
تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً...أما التأويل للصفات وصرفها عن ظاهرها فهو مذهب أهل البدع من الجهمية والمعتزلة».
ورووا أن الله يجلس على كرسي ويُجلس حوله النبيين::2/58: «عن أنس: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أتاني جبريل وفي يده كالمرآة البيضاء...قال لأن ربك تبارك وتعالى اتخذ في الجنة وادياً من مسك أبيض، فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه تبارك وتعالى، ثم حف كرسيه منابر من ذهب مكللة بالجواهر، ثم يجئ النبيون حتى يجلسوا عليها»!
ووصف البدوي أمية بن الصلت ربه وزعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) صدَّقه«الإصابة 549»:
رجل وثور تحت رجل يمينه *** والنسر للأخرى وليثٌ مرصد
والشمس تطلع كل آخر ليلةٍ *** فجراً وتصبح لونها يتوقد
تأبى فما تطلع لهم في وقتها *** إلا معذبةً، وإلا تُجلدُ».
وفي جزء الشعر للنابلسي/90: أخرجه أحمد في المسند: 1/256، وقد صحح العلامة أحمد شاكر إسناده وابن أبي شيبة في المصنف: 8/505، برقم: 6064 وأبو يعلى في مسنده:4/365.
وأصله رواية البخاري: «3 /30و 4/178 ومسلم: 1/96»: «أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟قالوا: الله ورسوله أعلم قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش». أما أهل البیت (علیهم السلام) فردوا كل هذه الروايات وكل أنواع التجسيم والتشبيه.
في الكافي: 3/302 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «لما أسري برسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى السماء فبلغ البيت المعمور، وحضرت الصلاة فأذن جبرئيل وأقام، فتقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وصَفَّ الملائكةُ والنبيون خلف محمد (صلی الله علیه و آله)».
وفي علل الشرائع: 1/8 عن الإمام الصادق (علیه السلام): «فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): تقدم يا جبرئيل، فقال له: إنا لانتقدم على الآدميين، منذ أُمرنا بالسجود لآدم».
وفي الكافي: 8/120: «عن أبي الربيع قال: حججنا مع أبي جعفر (علیه السلام) في السنة التي
ص: 270
كان حج فيها هشام بن عبدالملك، وكان معه نافع مولى عبدالله بن عمر بن الخطاب «من علماء النصارى والسلطة» فنظر نافع إلى أبي جعفر (علیه السلام) في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس فقال نافع: يا أميرالمؤمنين من هذا الذي قد تداكَّ عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة، هذا محمد بن علي!فقال: أشهد لآتينه فلأسألنه عن مسائل لايجيبني فيها إلا نبي أو ابن نبي أو وصي نبي! قال: فاذهب إليه وسله لعلك تخجله، فجاء نافع حتى اتكأ على الناس ثم أشرف على أبي جعفر (علیه السلام) فقال: يا محمد بن علي إني قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وقد عرفت حلالها وحرامها، وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلا نبي أو وصي نبي أو ابن نبي! قال: فرفع أبوجعفر (علیه السلام) رأسه فقال: سل عما بدا لك. فقال: أخبرني كم بين عيسى وبين محمد من سنة؟ قال: أخبرك بقولي أو بقولك؟ قال: أخبرني بالقولين جميعاً. قال: أما في قولي فخمس مائة سنة، وأما في قولك فست مائة سنة. قال: فأخبرني عن قول الله عزوجل لنبيه: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ. من الذي سأل محمد وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة؟! قال: فتلا أبوجعفر (علیه السلام) هذه الآية: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا، فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمداً (صلی الله علیه و آله) حيث أسرى به إلى بيت المقدس أن حشر الله عز ذكره الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين ثم أمر جبرئيل فأذن شفعاً وأقام شفعاً، وقال في أذانه: حي على خير العمل، ثم تقدم محمد فصلى بالقوم فلما انصرف قال لهم: على ما تشهدون وما كنتم تعبدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله أخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا.. فولَّى «نافع» من عنده وهو يقول: أنت والله أعلم الناس حقاً حقاً، فأتى هشاماً فقال له: ما صنعت؟ قال: دعني من كلامك هذا، والله أعلم الناس حقاً حقاً، وهو ابن رسول الله حقاً، ويحق لأصحابه أن يتخذوه نبياً».
أقول: نصت أكثر الأحاديث على صلاة النبي (صلی الله علیه و آله) بالأنبياء (علیهم السلام) في البيت المعمور
ص: 271
في السماء الرابعة، وقد يوهم هذا الحديث بأن الصلاة في بيت المقدس وهو بعيد.
وفي نوادر المعجزات/72، ونحوه في العياشي: 2/128 عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: «فلما أقام الصلاة قال: يا محمد قم فصل بهم واجهر بالقرآن إلى خلفك وزمرٍ من الملائكة والنبيين لايعلم عددهم إلا الله، فتقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فصلى بهم جميعاً ركعتين، فجهر بهما بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، فلما سلم وانصرف من صلاته أوحى الله تعالى إليه كلمح البصر: يا محمد: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ. قال: فالتفت رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى من خلفه من الأنبياء فقال: على ما تشهدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأن لكل نبي منا خلفا وصياً من أهله، ما خلا هذا فإنه لا عصبة له، يعنون بذلك عيسى بن مريم (علیه السلام) . ونشهد أنك سيد النبيين، ونشهد أن علياً وصيك سيد الأوصياء، وعلى ذلك أخذت مواثيقنا».
وفي مائة منقبة لابن أحمد القمي/150، عن ابن عباس: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما عرج بي إلى السماء انتهى بي المسير مع جبرئيل إلى السماء الرابعة، فرأيت بيتاً من ياقوت أحمر فقال جبرئيل هذا هو البيت المعمور، خلقه الله تعالى قبل السماوات والأرضين بخمسين ألف عام، قم يا محمد فصلِّ إليه.. ثم أمر الله تعالى حتى اجتمع جميع
الرسل والأنبياء».
وروى الحاكم في المعرفة/96، عن عبدالله بن عمر: «قال النبي (صلی الله علیه و آله): يا عبدالله أتاني ملك فقال: يا محمد، وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا، على ما بعثوا؟ قال قلت: على ما بعثوا؟ قال على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب! قال الحاكم: ولم نكتبه إلا عن بن مظفر، وهو عندنا حافظ ثقةٌ مأمون».
وعن أبي هريرة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «لما أسري بي ليلة المعراج اجتمع عليَّ الأنبياء في السماء فأوحى الله إلي: سلهم يا محمد بماذا بعثتم؟ قالوا: بعثنا على شهادة أن لا إله إلا الله، وعلى الإقرار بنبوتك والولاية لعلي بن أبي طالب». رواه في خصائص الوحي المبين/170، عن الإستيعاب. وفي الطرائف/101، عن أبي نعيم، وفي ينابيع المودة: 2/246، عن أبي هريرة. ونهج الحق/183، عن ابن عبدالبر وغيره. ومنهاج الكرامة/ 130، وفي هامشه الصراط المستقيم 1/181، عن الثعلبي والزمخشري في
ص: 272
الكشاف: 4/94 والكنجي في كفاية الطالب/136. وأورده في نفحات الأزهار: 5/260 و 16/366، وردَّ في: 20/392 و396، على إنكار ابن تيمية وجود الحديث، وبحث سنده في مصادر السنة.
روى القمي في تفسيره: 1/246 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «أول من سبق من الرسل إلى: بَلَى، محمد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وذلك أنه كان أقرب الخلق إلى الله تبارك وتعالى، وكان بالمكان الذي قال له جبرئيل لما أسري به إلى السماء: تقدم يا محمد فقد وطأت موطئاً لم يطأه ملك مقرب ولا نبي مرسل! ولولا أن روحه ونفسه كانت من ذلك المكان لما قدر أن يبلغه، فكان من الله عزوجل كما قال الله: قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، أي بل أدنى».
وفي المحتضر/266، في حديث الجالوت النصراني: «فقال رسول الله: يا جالوت، ليلة أسري بي إلى السماء أوحى الله تعالى إليَّ أن: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا.. على ما بعثوا؟ فقلت لهم: على ماذا بعثتم؟قالوا: على نبوتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة من ذريتكما. ثم أوحى إليَّ أن التفت إلى يمين العرش، فالتفت فإذا علي، والحسن، والحسين، وعلي، ومحمد، وجعفر، وموسى، وعلي، ومحمد، وعلي، والحسن، والمهدي، في ضحضاح من نور يُصلون. فقال الرب تعالى: هؤلاء الحجج أوليائي، وهذا منهم المنتقم من أعدائي. قال الجالوت فقلت: هؤلاء المذكورون في التوراة والإنجيل والزبور».
في تفسير القمي: 2/168 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما أسري بي إلى السماء رأيت ملكاً من الملائكة بيده لوح من نور، لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، مقبلاً عليه كهيئة الحزين، فقلت من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا ملك الموت مشغول في قبض الأرواح. فقلت: أدنِني منه يا جبرئيل لأكلمه، فأدناني منه فقلت له: يا ملك الموت، أكل من مات أو هو ميت فيما بعد أنت تقبض روحه؟ قال: نعم. قلت: وتحضرهم بنفسك؟ قال: نعم، وما الدنيا كلها عندي
ص: 273
فيما سخرها الله لي ومكنني منها، إلا كالدرهم في كف الرجل يقلبه كيف يشاء، وما من دار في الدنيا إلا وأدخلها في كل يوم خمس مرات، وأقول إذا بكى أهل البیت على ميتهم: لا تبكوا عليه، فإن لي إليكم عودة وعودة حتى لا يبقى منكم أحد! فقال رسول الله: (صلی الله علیه و آله) كفى بالموت طامة يا جبرئيل! فقال جبرئيل: إنما بعد الموت أطم وأعظم من الموت».
وفي الكافي: 3/136 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) على رجل من أصحابه وهو يجود بنفسه فقال: يا ملك الموت إرفق بصاحبي فإنه مؤمن، فقال: أبشر يا محمد فإني بكل مؤمن رفيق، واعلم يا محمد أني أقبض روح ابن آدم فيجزع أهله فأقوم في ناحية من دارهم فأقول: ما هذا الجزع! فوالله ما تعجلناه قبل أجله، وما كان لنا في قبضه من ذنب! فإن تحتسبوا وتصبروا تؤجروا، وإن تجزعوا تأثموا وتوزروا، واعلموا أن لنا فيكم عودة ثم عودة! فالحذر الحذر إنه ليس في شرقها ولا في غربها أهل بيت مدر ولا وبر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات، ولأنا أعلم بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم، ولو أردت قبض روح بعوضة ما قدرت عليها حتى يأمرني ربي بها! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنما يتصفحهم في مواقيت الصلاة، فإن كان ممن يواظب عليها عند مواقيتها لقنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونحى عنه ملك الموت إبليس».
وفي نوادر المعجزات/66، عن أميرالمؤمنين (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي لمَّا عرج بي إلى السماء سلم عليَّ ملك الموت ثم قال لي: يا محمد ما فعل ابن عمك علي؟ قلت: وكيف سألتني عنه يا عزرائيل؟ قال: إن الله تعالى أمرني أن أقبض أرواح الخلائق كلهم إلا أنت وابن عمك، فالله تعالى يقبض أرواحكما بيده».
في تفسير القمي: 1/95، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «هذه الآية مشافهة الله تعالى لنبيه ليلة أسريَ به إلى السماء، قال النبي (صلی الله علیه و آله): انتهيت إلى محل سدرة المنتهى وإذا بورقة
ص: 274
منها تظل أمة من الأمم، فكنت من ربي كقاب قوسين أو أدنى، كما حكى الله عزوجل، فناداني ربي تبارك وتعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ. فقلت أنا مجيباً عني وعن أمتي: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. فقال الله: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ. فقلت: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَانَا. وقال الله: لا أؤاخذك، فقلت: رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاتُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. البقرة: 285-286.
فقال الله تعالى: قد أعطيتك ذلك لك ولأمتك.فقال الصادق (علیه السلام): ما وفد إلى الله تعالى أحد أكرم من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، حيث سأل لأمته هذه الخصال».
وفي المحاسن: 1/136 عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لقد أسرى بي فأوحى الله إلي من وراء الحجاب ما أوحى، وشافهني من دونه بما شافهني، فكان فيما شافهني أن قال: يا محمد، من أذلَّ لي ولياً فقد أرصد لي بالمحاربة، ومن حاربني حاربته، قال فقلت: يا رب ومن وليك هذا؟فقد علمت أنه من حاربك حاربته، فقال: ذلك من أخذت ميثاقه لك ولوصيك ولورثتكما بالولاية».
عقيدتنا أن الله تعالى ليس كمثله شئ ولاتدركه الأبصار، ولا يخضع لقوانين المكان والزمان فهو خالقهما، ومعنى قوله: وكَلَّمَ اللهُ موسَى تكليماً: أنه خلق صوتاً في شجرة أو في جبل، فكان موسى يسمع الصوت من جميع الجهات كما روي.
قال أميرالمؤمنين (علیه السلام): «فسبحان من توحد في علوه، فليس لشئ منه امتناع، ولا له بطاعة أحد من خلقه انتفاع، إجابته للداعين سريعة، والملائكة له في السماوات والأرض مطيعة. كلم موسى تكليماً بلا جوارح وأدوات، ولا شفةٍ ولا لهوات، سبحانه وتعالى عن الصفات، فمن زعم أن إلهَ الخلق محدود، فقد جهل الخالق المعبود». التوحيد للصدوق/79 وفتح الباري: 13/383.
ص: 275
ولا بد أن يكون الصوت الذي كلم الله به موسى صوتاً يحبه موسى، وقد روي أنه صوت أخيه هارون (علیهما السلام)، وكذلك الأمر في نبينا محمد (صلی الله علیه و آله) عندما عرج به، فقد روى الفريقان أن الله تعالى كلمه بصوت علي (علیه السلام) .
روى الموفق الخوارزمي في المناقب/78، عن عبدالله بن عمر قال: «سمعت رسول الله وسئل بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج؟ فقال: خاطبني بلغة علي بن أبي طالب فألهمني أن قلت يا رب خاطبتني أنت أم علي؟ فقال يا أحمد أنا شئ ليس كالأشياء، لا أقاس بالناس، ولا أوصف بالشبهات، خلقتك من نوري وخلقت علياً من نورك، فاطلعت على سرائر قلبك فلم أجد في قلبك أحب إليك من علي بن أبي طالب. خاطبتك بلسانه كيما يطمئن قلبك». ومنهاج الكرامة/90.
وفي المحتضر للحسن بن سليمان الحلي/ 146، عن ابن عباس من حديث المعراج: «فناداني ربي: يا أحمد! وعزتي وجلالي وجودي ومجدي وارتفاعي في علو مكاني لقد اطلعت على سرك وما استكن في صدرك فلم أجد أحداً أحب إليك من علي في سرك فخاطبتك بلسانه، لتطمئن إلى الكلام وتهدأ في الخطاب، ولو خاطبتك بلسان الجبروت لما استطعت أن تسمع».
وفي الإحتجاج: 1/230 عن القاسم بن معاوية قال: «قلت لأبي عبدالله (علیه السلام): هؤلاء يروون حديثاً في معراجهم أنه لما أسري برسول الله رأى على العرش مكتوباً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أبوبكر الصديق!فقال: سبحان الله غيروا كل شئ حتى هذا! قلت: نعم. قال: إن الله عزوجل لما خلق العرش كتب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله علي أميرالمؤمنين، ولما خلق الله عزوجل الماء كتب في مجراه: لا إله إلا الله محمد رسول الله علي أميرالمؤمنين... فإذا قال أحدكم: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فليقل علي أميرالمؤمنين».
وقال في الصحيح من السيرة: 3/15: «وإذا كان الإسراء قد حصل قبل إسلامه بمدة طويلة، فلايبقى مجال لتصديق ما يذكر هنا من أنه قد سمي صديقاً حينما صدق رسول الله (صلی الله علیه و آله) في قضية الإسراء، ولا لما يذكرونه من أن ملكاً كان يكلم رسول الله
ص: 276
حين المعراج بصوت أبي بكر «الدر المنثور: 4/155». وقد صرح الحفاظ بكذب طائفة من تلك الروايات. والصحيح أنه كلمه بصوت علي (علیه السلام)».
في الكافي: 2/352 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «لما أسري بالنبي (صلی الله علیه و آله) قال: يا رب ما حال المؤمن عندك؟ قال: يا محمد من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وأنا أسرع شئ إلى نصرة أوليائي. وما ترددت عن شئ أنا فاعله كترددي عند وفاة المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الغنى ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفقر ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك. وما يتقرب إلي عبد من عبادي بشئ أحب إلي مما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته».
اتفقت المصادر على أن تشريع فريضة الصلاة اليومية كان في معراج النبي (صلی الله علیه و آله)، ويبدو أنه في أول معراج له، ففي تهذيب الأحكام: 2/60 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «لما أسري برسول الله (صلی الله علیه و آله) فبلغ البيت المعمور حضرت الصلاة فأذن جبرئيل (علیه السلام) وأقام فتقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وصفَّ الملائكة والنبيون خلف رسول الله (صلی الله علیه و آله) .
قال فقلنا له: كيف أَذَّنَ؟ فقال: الله أكبر الله أكبر،أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، حي على خير العمل حي على خير العمل. الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله لا إله إلا الله.
والإقامة مثلها إلا أن فيها قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، بين حي على
ص: 277
خير العمل حي على خير العمل، وبين الله أكبر الله أكبر، فأمر بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) بلالاً، فلم يزل يؤذن بها حتى قبض الله رسوله (صلی الله علیه و آله)».
وفي نوادر المعجزات/72 والعياشي: 2/128: «فلما أقام الصلاة قال: يا محمد قم فصل بهم واجهر بالقرآن إلى خلفك وزمرٍ من الملائكة والنبيين لايعلم عددهم إلا الله، فتقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فصلى بهم جميعاً ركعتين، فجهر بهما بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، فلما سلم وانصرف من صلاته أوحى الله تعالى إليه كلمح البصر: يا محمد: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ. قال: فالتفت رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى من خلفه من الأنبياء فقال: على مَ تشهدون؟ قالوا: نشهد أنك سيد النبيين، ونشهد أن علياً وصيك سيد الأوصياء، وعلى ذلك أخذت مواثيقنا».
أقول: ما تقدم هوالأذان في مذهبنا، وقد حذف منه عمر«حي على خير العمل»لكن ابنه عبدالله كان يؤذن بها ويقول: هو الأذان الأول! «نيل الأوطار: 2/19». أما أشهد أن علياً ولي الله، فنقولها استحباباً بعد الشهادة بالنبوة، لأنه يستحب كلما شهدت بالنبوة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) أن تشهد بالولاية لعلي والعترة:.
قال السيد الخوئي (رحمة الله) «صراط النجاة: 3/318» في جواب سؤال: هل وردت رواية من المعصوم باستحبابها؟ فقال: الرواية واردة باستحباب الشهادة بالولاية له (علیه السلام) متى شُهد بالنبوة لا في خصوص الأذان والإقامة، ولذا لا نعدها جزءً منهما». وقال السيد السيستاني «منهاج الصالحين/191»: «الشهادة لعلي (علیه السلام) بالولاية وإمرة المؤمنين مكملة للشهادة بالرسالة ومستحبة في نفسها،وإن لم تكن جزء من الأذان ولا الإقامة، وكذا الصلاة على محمد وآل محمد (صلی الله علیه و آله) عند ذكر اسمه الشريف».
كما روت مصادر الطرفين أن الله تعالى فرض على النبي (صلی الله علیه و آله) خمسين صلاة كل يوم ثم قال له موسى (صلی الله علیه و آله) إن أمتك لاتطيق، فاطلب من الله تعالى أن يخفف عنها فطلب النبي (صلی الله علیه و آله) من ربه فجعلها خمس صلوات.
ففي الفقيه: 1/198: «عن زيد بن علي (رحمة الله) قال: سألت أبي سيد العابدين (علیه السلام) فقلت له: يا أبه أخبرني عن جدنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما عرج به إلى السماء وأمره ربه عزوجل بخمسين
ص: 278
صلاة، كيف لم يسأله التخفيف عن أمته حتى قال له موسى بن عمران (علیه السلام) إرجع إلى ربك فسله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك؟ فقال: يا بني، إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لايقترح على ربه عزوجل ولا يراجعه في شئ يأمره به، فلما سأله موسى (علیه السلام) ذلك وصار شفيعاً لأمته إليه لم يجز له رد شفاعة أخيه موسى (علیه السلام)، فرجع إلى ربه يسأله التخفيف إلى أن ردها إلى خمس صلوات. قال: فقلت له: يا أبه، فلم لم يرجع إلى ربه عزوجل ولم يسأله التخفيف من خمس صلوات وقد سأله موسى (علیه السلام) أن يرجع إلى ربه ويسأله التخفيف؟ فقال: يا بني، أراد (صلی الله علیه و آله) أن يحصل لأمته التخفيف مع أجرخمسين صلاة، لقول الله عزوجل: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا.ألا ترى أنه (صلی الله علیه و آله) لما هبط إلى الأرض نزل عليه جبرئيل فقال: يا محمد، إن ربك يقرؤك السلام ويقول: إنها خمس بخمسين: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ للَّعَبِيدِ. قال فقلت له: يا أبه، أليس الله تعالى ذكره لا يوصف بمكان؟ فقال: بلى،تعالى الله عن ذلك. فقلت: فما معنى قول موسى (علیه السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله): إرجع إلى ربك؟ فقال: معناه معنى قول إبراهيم (علیه السلام): إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ، ومعنى قول موسى (علیه السلام): وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لتَرْضَى طه/84، ومعنى قوله عزوجل: فَفِرُّوا إلى الله، يعني حجوا إلى بيت الله. يا بُني، إن الكعبة بيت الله فمن حج بيت الله فقد قصد إلى الله، والمساجد بيوت الله فمن سعى إليها فقد سعى إلى الله وقصد إليه، والمصلي ما دام في صلاته فهو واقف بين يدي الله جل جلاله، وأهل موقف عرفات هم وقوف بين يدي الله عزوجل. وإن لله تبارك وتعالى بقاعاً في سماواته فمن عرج به إلى بقعة منها، فقد عرج به إليه، ألا تسمع الله عزوجل يقول: تَعْرُجُ الملَائكةُ والرُّوحُ إليْه. ويقول عزوجل في قصة عيسى (علیه السلام): بَلْ رَفَعَهُ الله إليْه، ويقول عزوجل: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ».
ملاحظات
1. شرح الإمام زين العابدين (علیه السلام) لولده زيد رضوان الله عليه، في هذا الحديث سبب عدم اقتراح النبي (صلی الله علیه و آله) على ربه، وسبب قبوله اقتراح موسى (علیه السلام)، ثم معنى
ص: 279
رجوعه إلى ربه أي إلى المكان الذي كلمه منه.وقد جعله المجسمة مكان الله تعالى!
2. نلاحظ أن الشيعة والسنة رووا أن تشريع الصلاة بصورتها الفعلية تكوَّن من أحداث مراسم خضوع النبي (صلی الله علیه و آله) لربه في معراجه.
ونلاحظ أن أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) أكثر دقة وتفصيلاً، ومنطقية.
ردَّت أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) رواية السلطة بأن تشريع الأذان كان بسبب أن بعض الصحابة وهو عمر بن الخطاب أو أبيُّ بن كعب أو عبدالله بن زيد، رأى الأذان في منامه، فاقترحه على النبي (صلی الله علیه و آله) فأدخله في الإسلام!
ففي الكافي: 3/482 عن عمر بن أذينة أن الإمام الصادق (علیه السلام) قال له: «ما تروي هذه الناصبة؟ فقلت: جعلت فداك في ماذا؟ فقال: في أذانهم وركوعهم وسجودهم؟ فقلت: إنهم يقولون: إن أبي بن كعب رآه في النوم! فقال: كذبوا فإن دين الله عزوجل أعز من أن يرى في النوم!قال: فقال له سدير الصيرفي: جعلت فداك فأحدث لنا من ذلك ذكراً، فقال أبوعبدالله (علیه السلام): إن الله عزوجل لما عرج بنبيه إلى سماواته السبع، أما أولاهن فبارك عليه، والثانية علمه فرضه، فأنزل الله محملاً من نور فيه أربعون نوعاً من أنواع النور، كانت محدقة بعرش الله تغشي أبصار الناظرين. أما واحد منها فأصفر، فمن أجل ذلك اصفرَّت الصفرة، وواحد منها أحمر فمن أجل ذلك احمرت الحمرة، وواحد منها أبيض، فمن أجل ذلك ابيضَّ البياض، والباقي على ساير عدد الخلق من النور والألوان، في ذلك المحمل حلق وسلاسل من فضة.
ثم عرج به إلى السماء، فنفرت الملائكة إلى أطراف السماء وخرت سجداً وقالت: سبوح قدوس ما أشبه هذا النور بنور ربنا، فقال جبرئيل (علیه السلام): الله أكبر الله أكبر. ثم فتحت أبواب السماء، واجتمعت الملائكة فسلمت على النبي (صلی الله علیه و آله) أفواجاً.. الحديث..». وذكر فيه تشريع الأذان والصلاة.
كما روينا أن التكبيرات السبع المستحبة في أول الصلاة، جاءت من تكبير
ص: 280
النبي (صلی الله علیه و آله) عندما تخطى الحجب السبع. ثم من تعليمه التكبير للحسين (علیه السلام) لما كبَّر أمامه يعلمه التكبير، حتى وصل إلى التكبيرة السابعة، فكبر الحسين (علیه السلام) وانفتح لسانه. راجع: الكافي: 3/487، علل الشرائع: 2/332 والمختلف للعلامة الحلي: 2/186.
وقد يقال: كيف يشرع الله تعالى استحباب التكبير للأمة ست مرات قبل تكبيرة الإحرام، بسبب أن الحسين (علیه السلام) لم ينفتح لسانه بالتكبير إلا في المرة السابعة؟ وجوابه: كما شرع الله تعالى وجوب السعي في الحج، بسبب سعي هاجر3بين الصفا والمروة تطلب الماء! والحسين (علیه السلام) أفضل من هاجر3.
في كامل الزيارات/547، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما أسري بالنبي (صلی الله علیه و آله) إلى السماء قيل له: إن الله تبارك وتعالى يختبرك في ثلاث لينظر كيف صبرك؟
قال: أسلِّمُ لأمرك يا رب، ولا قوة لي على الصبر إلا بك، فما هن؟
قيل له: أولاهن: الجوع والأثرة على نفسك وعلى أهلك، لأهل الحاجة!
قال: قبلت يا رب ورضيت وسلمت، ومنك التوفيق والصبر.
وأما الثانية، فالتكذيب والخوف الشديد، وبَذْلُكَ مهجتك في محاربة أهل الكفر بمالك ونفسك، والصبر على ما يصيبك منهم ومن أهل النفاق من الأذى والألم في الحرب والجراح.قال: قبلت يا رب ورضيت وسلمت، ومنك التوفيق والصبر.
وأما الثالثة، فما يلقي أهل بيتك من بعدك من القتل، أما أخوك علي فيلقى من أمتك الشتم والتعنيف والتوبيخ والحرمان والجحد والظلم، وآخر ذلك القتل، فقال: يا رب قبلت ورضيت، ومنك التوفيق والصبر.
قال: وأما ابنتك فتظلم وتحرم ويؤخذ حقها غصباً الذي تجعله لها، وتضرب وهي حامل، ويدخل عليها وعلى حريمها ومنزلها بغير إذن، ثم يمسها هوان وذل، ثم لا تجد مانعاً، وتطرح ما في بطنها من الضرب، وتموت من ذلك الضرب!
ص: 281
قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، قبلت يا رب وسلمت، ومنك التوفيق للصبر. ويكون لها من أخيك ابنان، يقتل أحدهما غدراً ويسلب ويطعن، تفعل به ذلك أمتك، قلت: يا رب قبلت وسلمت، إنا لله وإنا إليه راجعون، ومنك التوفيق للصبر. وأما ابنها الآخر فتدعوه أمتك للجهاد ثم يقتلونه صبراً، ويقتلون ولده ومن معه من أهل بيته ثم يسلبون حرمه، فيستعين بي وقد مضى القضاء مني فيه بالشهادة له ولمن معه، ويكون قتله حجة على من بين قطريها، فيبكيه أهل السماوات وأهل الأرضين جزعاً عليه، وتبكيه ملائكة لم يدركوا نصرته.
ثم أخرج من صلبه ذكراً به أنصرك، وإن شبحه عندي تحت العرش يملأ الأرض بالعدل ويطبقها بالقسط، يسير معه الرعب، يقتل حتى يُشك فيه.
قلت: إنا لله.فقيل: إرفع رأسك، فنظرت إلى رجل أحسن الناس صورة وأطيبهم ريحاً، والنور يسطع من بين عينيه ومن فوقه ومن تحته، فدعوته فأقبل إليَّ وعليه ثياب النور وسيماء كل خير، حتى قبَّل بين عينيَّ، ونظرت إلى الملائكة قد حفوا به لايحصيهم إلا الله عزوجل. فقلت: يا رب لمن يغضب هذا، ولمن أعددت هؤلاء، وقد وعدتني النصر فيهم فأنا أنتظره منك.
وهؤلاء أهلي وأهل بيتي وقد أخبرتني مما يلقون من بعدي، ولئن شئت لأعطيتني النصر فيهم على من بغى عليهم، وقد سلمت وقبلت ورضيت، ومنك التوفيق والرضا، والعون على الصبر. فقيل لي: أما أخوك فجزاؤه عندي جنة المأوي نزلاً، بصبره، أفلج حجته على الخلائق يوم البعث، وأوليه حوضك يسقي منه أولياءكم ويمنع منه أعداءكم، واجعل عليه جهنم برداً وسلاماً، يدخلها ويخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من المودة، وأجعل منزلتكم في درجة واحدة في الجنة. وأما ابنك المخذول المقتول، وابنك المغدور المقتول صبراً، فإنهما مما أزين بهما عرشي، ولهما من الكرامة سوى ذلك مما لا يخطر على قلب بشر، لما أصابهما من البلاء، فعليَّ فتوكل. ولكل من أتى قبره في الخلق من الكرامة، لأن زواره زوارك وزوارك زواري وعليَّ كرامة زواري، وأنا أعطيه ما سأل، وأجزيه جزاء يغبطه من نظر إلى عظمتي إياه، وما
ص: 282
أعددت له من كرامتي.
وأما ابنتك فإني أوقفها عند عرشي فيقال لها: إن الله قد حكمك في خلقه فمن ظلمك وظلم ولدك فاحكمي فيه بما أحببت، فإني أجيز حكومتك فيهم..الخ.».
من العناصر البارزة في أحاديث المعراج في مصادرنا والى حدٍّ في مصادر أتباع السلطة: المكانة الخاصة لعترة النبي (صلی الله علیه و آله) عند الله تعالى.
ويكفينا من مصادرهم الحديث الذي نص على أن إسم النبي (صلی الله علیه و آله) عند الله تعالى مقرونٌ بإسم علي والأئمة من عترته:، تفسيراً لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. «الأنفال 62». قال القاضي عياض في الشفاء: 1/174: «وروى ابن قانع القاضي عن أبي الحمراء قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما أسري بي إلى السماء إذا على العرش مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي»! ورواه الحسكاني بطرق متعددة في شواهد التنزيل: 1/298، في: 1/293و294، عن أنس و/295، عن جابر، /297، عن أبي الحمراء. والدر المنثور: 3/199 عن ابن عساكر عن أبي هريرة، وفي: 4/153، عن أنس، الخطيب في تاريخه: 11/173، عن أبي الحمراء، كذا ابن عساكر: 16/456، في: 42/336، عن جابر بن عبدالله، في/360، عن أبي هريرة و: 47/344، عن أنس..الخ.
وروته مصادرنا، كالصدوق في أماليه/284، عن أبي هريرة، وأبي الحمراء. والخزاز القمي في كفاية الأثر/74، كاملاً، قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما عرج بي إلى السماء رأيت على ساق العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله أيدته بعلي ونصرته. ورأيت اثني عشر إسماً مكتوباً بالنور فيهم علي بن أبي طالب وسبطيَّ وبعدهما تسعة أسماء: علياً علياً ثلاث مرات، ومحمد ومحمد مرتين، وجعفر وموسى والحسن. والحجة يتلألأ من بينهم، فقلت: يا رب أسامي من هؤلاء؟ فناداني ربي جل جلاله: هم الأوصياء من ذريتك، بهم أثيب وأعاقب». ونحوه في/105، عن أبي أمامة.
وروى في كفاية الأثر/116، في أحداث حرب الجمل: «نزل أبوأيوب في بعض
ص: 283
دور الهاشمیين فجمعنا إليه ثلاثين نفساً من شيوخ أهل البصرة، فدخلنا إليه وسلمنا عليه وقلنا: إنك قاتلت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ببدر وأحد المشركين، والآن جئت تقاتل المسلمين. فقال: والله لقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول لعلي: إنك تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين قلنا: آلله إنك سمعت من رسول الله في علي؟ قال: سمعته يقول: علي مع الحق والحق معه، وهو الإمام والخليفة بعدي، يقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل، وابناه الحسن والحسين سبطاي من هذه الأمة، إمامان إن قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما، والأئمة بعد الحسين تسعة من صلبه، ومنهم القائم الذي يقوم في آخر الزمان كما قمت في أوله ويفتح حصون الضلالة. قلنا: فهذه التسعة من هم؟ قال: هم الأئمة بعد الحسين خلف بعد خلف. قلنا: فكم عهد إليك رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يكون بعده من الأئمة؟ قال: اثنا عشر. قلنا: فهل سماهم لك؟ قال: نعم إنه قال (صلی الله علیه و آله): لما عُرج بي إلى السماء نظرت إلى ساق العرش فإذا هو مكتوب بالنور: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي ونصرته بعلي. ورأيت أحد عشر إسماً مكتوباً بالنور على ساق العرش بعد علي، منهم الحسن والحسين وعلياً علياً علياً ومحمداً ومحمداً، وجعفراً وموسى والحسن، والحجة. قلت: إلهي من هؤلاء الذين أكرمتهم وقرنت أسماءهم باسمك؟ فنوديت: يا محمد هم الأوصياء بعدك والأئمة، فطوبى لمحبيهم والويل لمبغضيهم! قلنا: فما لبني هاشم؟ قال: سمعته يقول لهم: أنتم المستضعفون من بعدي. قلنا: فمن القاسطين والناكثين والمارقين؟ قال: الناكثين الذين قاتلناهم، وسوف نقاتل القاسطين والمارقين، فإني والله لا أعرفهم غير أني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: في الطرقات بالنهروانات»!
وروى نحوه/136، عن حذيفة بن اليمان وفي آخره: «يا محمد إنهم هم الأوصياء والأئمة بعدك، خلقتهم من طينتك، فطوبى لمن أحبهم والويل لمن أبغضهم، فبهم أنزل الغيث وبهم أثيب وأعاقب. قال حذيفة: ثم رفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) يده إلى السماء ودعا بدعوات فسمعته فيما يقول: اللهم اجعل العلم والفقه في عقبي وعقب عقبي، وفي زرعي وزرع زرعي». ورواه في/224 و185 وشبيهه/216.
ص: 284
وطبيعي أن لا يقبل علماء السلطة أمثال هذه الأحاديث، لأنها تحكم على السقيفة بأنها مؤامرة ضد النبي (صلی الله علیه و آله) وعترته!
ونلاحظ ضعف تضعيفهم لهذه الأحاديث مما كتبه اثنان من أكبر علمائهم المتخصصين في الجرح والتعديل! فقد كتب الذهبي «ميزان الإعتدال: 1/530»: «الحسين بن إبراهيم البابي.. وله حديث آخر واه: ابن عدي، عن عيسى بن محمد، عنه، عن حميد، عن أنس، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما عرج بي رأيت على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلى ونصرته بعلي. وهذا اختلاق».
وروى الذهبي نحوه في: 2/76، عن أشعث ابن عم الحسن بن صالح..«قال
أبو نعيم الحافظ: أخبرنا أبو علي بن الصواف... حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة فساقه بنحوه... ساقه الخطيب عن أبي نعيم في ترجمة الحسن هذا. وقد روى الكسائي عن ابن فضيل وجماعة. وقال النسائي والدارقطني: متروك». انتهى.
وقال ابن حجر في لسان الميزان: 2/268: «عن أنس قال قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما عُرج بي رأيت على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي ونصرته بعلي. وهذا اختلاق بيِّن.. ورواه ابن عساكر في ترجمة الحسن بن أحمد ابن هشام السلمي بسنده إليه عن أبي جعفر محمد بن عبدالله البغدادي، حدثني محمد بن الحسن بباب الأبواب ثنا حميد الطويل فذكر مثله، وهو موضوع لا ريب فيه، لكني لا أدري من وضعه! وقال ابن عدي لما أخرجه: هذا حديث باطل والحسين مجهول. وقد ذكره عياض من وجه آخر رواه عن أبي الحمراء».انتهى.
أقول: رأيت أنهما ضعفا طريقاً أو طريقين للحديث، وغيَّبا الطرق العديدة الأخرى له، وهي لاتخفى على المتخصص أمثالهما!
على أن تضعيفهما لأشعث ابن عم صالح بن حي لاوجه له عندهما لأنه صحابي، وابن عمه الحسن بن حي إمام عندهما، وقد شهد الطبراني وأبو نعيم بأنه كان يفضل على ابن عمه الحسن بن صالح! المعجم الأوسط: 5/343 وحلية الأولياء: 7/256.
ثم لم يكتفوا برد الحديث بالإستنكار والحيلة، حتى وضعوا أحاديث تزعم أن
ص: 285
النبي (صلی الله علیه و آله) رأى في معراجه أسماء أبي بكر وعمر وعثمان مقرونة بإسمه الشريف!
قال في ميزان الإعتدال: 3/117: «وروى علي بن جميل عن جرير... عن ابن عباس عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: لما عرج بي إلى السماء رأيت على ساق العرش مكتوباً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أبوبكر الصديق، عمر الفاروق، عثمان ذو النورين. تابعه شيخ مجهول يقال له معروف بن أبي معروف البلخي، عن جرير».
ونقل ابن حجر في لسان الميزان: 4/209، عن ابن عدي وغيره أن هذا الحديث موضوع أو مسروق! قال: «حدث بالبواطيل عن ثقات الناس ويسرق الحديث. وقال الحاكم وأبو سعيد النقاش: روى عن عيسى بن يونس وجرير بن عبدالحميد بأحاديث موضوعة. وقال أبو نعيم: روى عن جرير وغيره المناكير». انتهى.
وهذا من تغطيتهم لبطلان تكذيبهم لحديث «أيدته بعلي..» فهم يأتون بحديث موضوع في مدح خلفائهم الثلاثة ويردونه، ليردوا معه الأحاديث في حق علي (علیه السلام) أو يجعلوه مساوياً لحديثهم المكذوب! راجع: نفحات الأزهار: 5/234 و240، الشهادة بالولاية في الأذان/29، تراثنا: 59/19، الصحيح من السيرة: 3/15 والمراجعات/249.
في الكافي: 2/46: «قال أميرالمؤمنين (علیه السلام): قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الله خلق الإسلام فجعل له عرصةً وجعل له نوراً وجعل له حصناً وجعل له ناصراً، فأما عرصته فالقرآن، وأما نوره فالحكمة، وأما حصنه فالمعروف، وأما أنصاره فأنا وأهل بيتي وشيعتنا، فأحبوا أهل بيتي وشيعتهم وأنصارهم، فإنه لما أسري بي إلى السماء الدنيا فنسبني جبرئيل (علیه السلام) لأهل السماء استودع الله حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب الملائكة، فهو عندهم وديعة إلى يوم القيامة، ثم هبط بي إلى أهل الأرض، فنسبني إلى أهل الأرض فاستودع الله عزوجل حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب مؤمني أمتي، فمؤمنوا أمتي يحفظون وديعتي في أهل بيتي إلى يوم القيامة. ألا فلو أن الرجل من أمتي عبدالله عزوجل عمره أيام الدنيا ثم لقي الله عزوجل مبغضا لأهل بيتي
ص: 286
وشيعتي، ما فرج الله صدره إلا عن النفاق».
وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/237، عن آبائه:: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما خلق الله خلقاً أفضل مني ولا أكرم عليه مني! قال علي (علیه السلام): فقلت: يا رسول الله فأنت أفضل أم جبرئيل؟ فقال (صلی الله علیه و آله): يا علي إن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين، وفضلني على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك، وإن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا!
يا علي، الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا.
يا علي، لولا نحن ما خلق الله آدم (علیه السلام) ولا حواء، ولا الجنة ولا النار ولا السماء ولا الأرض! فكيف لا نكون أفضل من الملائكة، وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه، لأن أول ما خلق الله عزوجل أرواحنا فأنطقها بتوحيده وتمجيده، ثم خلق الملائكة، فلما شاهدوا أرواحنا نوراً واحداً استعظمت أمرنا، فسبحنا لتعلم الملائكة أنا خلق مخلوقون وأنه منزه عن صفاتنا، فسبحت الملائكة بتسبيحنا ونزهته عن صفاتنا! فلما شاهدوا عظم شأننا هللنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله وأنا عبيد ولسنا بآلهه يجب أن نعبد معه أو دونه! فقالوا: لا إله إلا الله. فلما شاهدوا كبر محلنا كبَّرنا لتعلم الملائكة أن الله أكبر من أن ينال عظم المحل إلا به! فلما شاهدوا ما جعله الله لنا من العزة والقوة، فقلنا: لا حول ولا قوه إلا بالله، لتعلم الملائكة أنه لا حول لنا ولا قوة إلا بالله. فلما شاهدوا ما أنعم الله به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة، قلنا: الحمد لله، لتعلم الملائكة ما يستحق لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمه، فقالت الملائكة: الحمد لله. فبنا اهتدوا إلى معرفه توحيد الله عزوجل وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده.
ثم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لنا وإكراماً، وكان سجودهم لله عزوجل عبودية، ولآدم إكراماً وطاعة لكوننا في صلبه، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة، وقد سجدوا لآدم كلهم
ص: 287
أجمعون. وإنه لما عُرج بي السماء أذَّنَ جبرئيل مثنى مثنى وأقام مثنى مثنى، ثم قال لي: تقدم يا محمد، فقلت لجبرئيل: أتقدم عليك؟ قال: نعم، لأن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه وملائكته أجمعين وفضلك خاصه. قال: فتقدمت فصليت بهم ولا فخر، فلما انتهيت إلى حجب النور قال لي جبرئيل: تقدم يا محمد، وتخلفَ عني، فقلت له: يا جبرئيل في مثل هذا الموضع تفارقني؟! فقال: يا محمد انتهاء حدي الذي وضعني الله عزوجل فيه إلى هذا المكان، فإن تجاوزته احترقت أجنحتي بتعديَّ حدود ربي جل جلاله، فزخَّ بي النور زخة حتى انتهيت إلى ما شاء الله عزوجل من علو مكانه، فنوديت فقلت: لبيك ربي وسعديك تباركت وتعاليت. فنوديت: يا محمد أنت عبدي وأنا ربك، فإياي فأعبد وعليَّ فتوكل فإنك نوري في عبادي، ورسولي إلى خلقي، وحجتي على بريتي. لك ولمن تبعك خلقت جنتي، ولمن خالفك خلقت ناري، ولأوصيائك أوجبت كرامتي، ولشيعتهم أوجبت ثوابي.فقلت: يا رب ومن أوصيائي؟ فنوديت: يا محمد أوصياؤك المكتوبون على ساق عرشي. فنظرت وأنا بين يدي ربي جل جلاله إلى ساق العرش فرأيت اثني عشر نوراً في كل نور سطر أخضر عليه إسم وصيٍّ من أوصيائي، أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم مهدي أمتي، فقلت: يا رب هؤلاء أوصيائي بعدي؟ فنوديت: يا محمد هؤلاء أوصيائي وأحبائي وأصفيائي وحججي بعدك على بريتي، وهم أوصياؤك وخلفاؤك وخير خلقي بعدك.
وعزتي وجلالي لأظهرن بهم ديني، ولأعلين بهم كلمتي، ولأطهرن الأرض بآخرهم من أعدائي، ولأملكنه مشارق الأرض ومغاربها، ولأسخرن له الرياح، ولأذللن له السحاب الصعاب، ولأرقينه في الأسباب، ولأنصرنه بجندي، ولأمدنه بملائكتي، حتى يعلن دعوتي، ويجمع الخلق على توحيدي، ثم لأديمن ملكه، ولأداولن الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة».
وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/60، عن أميرالمؤمنين (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما أسري بي إلى السماء أوحى إلى ربي جل جلاله فقال: يا محمد إني اطلعت إلى الأرض اطَّلاعةً فاخترتك منها فجعلتك نبياً، وشققت لك من إسمي إسماً، فأنا المحمود
ص: 288
وأنت محمد. ثم اطلعت الثانية فاخترت منها علياً وجعلته وصيك وخليفتك وزوج ابنتك وأباذريتك، وشققت له إسماً من أسمائي، فأنا العلي الأعلى وهو علي. وجعلت فاطمة والحسن والحسين من نوركما، ثم عرضت ولايتهم على الملائكة، فمن قبلها كان عندي المقربين.
يا محمد لو أن عبداً عبدني حتى ينقطع ويصير كالشن البالي، ثم أتاني جاحداً لولايتهم ما أسكنته جنتي ولا أظللته تحت عرشي! يا محمد أتحب أن تراهم؟ قلت: نعم يا ربي، فقال عزوجل: إرفع رأسك فرفعت رأسي فإذا أنا بأنوار علي وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي، والحجة بن الحسن قائم في وسطهم كأنه كوكب دري! قلت: رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الأئمة، وهذا القائم الذي يحل حلالي ويحرم حرامي، وبه أنتقم من أعدائي، وهو راحة لأوليائي، وهو الذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين، فيخرج اللات والعزى طريين فيحرقهما، فلفتنةُ الناس بهما يومئذ أشد من فتنه العجل والسامري».
وكمال الدين/252. وبعضه غيبة الطوسي/147 والعلل: 1/5.
وفي كتاب التوحيد للصدوق/117: «عن عبدالسلام بن صالح الهروي قال: قلت لعلي بن موسى الرضا (علیه السلام): يا ابن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث إن المؤمنين يزورون ربهم من منازلهم في الجنة؟ فقال (علیه السلام): يا أبا الصلت إن الله تبارك وتعالى فضل نبيه محمد (صلی الله علیه و آله) على جميع خلقه من النبيين والملائكة، وجعل طاعته طاعته ومتابعته متابعته، وزيارته في الدنيا والآخرة زيارته، فقال عزوجل: من يطع الرسول فقد أطاع الله. وقال: إن الذين يبايعونك إنما
يبايعون الله يد الله فوق أيديهم. وقال النبي (صلی الله علیه و آله): من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله. إن درجة النبي (صلی الله علیه و آله) في الجنة أرفع الدرجات، فمن زاره إلى درجته في الجنة من منزله فقد زار الله تبارك وتعالى. قال: فقلت له: يا ابن رسول الله
ص: 289
فما معنى الخبر الذي رووه أن ثواب لا إله إلا الله النظر إلى وجه الله؟ فقال (علیه السلام): يا أبا الصلت من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه الله أنبياؤه ورسله وحججه صلوات الله عليهم، هم الذين بهم يتوجه إلى الله وإلى دينه ومعرفته، وقال الله عزوجل: كل من عليها فان ويبقى وجه ربك. وقال عزوجل: كل شئ هالك إلا وجهه. فالنظر إلى أنبياء الله ورسله وحججه:في درجاتهم ثواب عظيم للمؤمنين يوم القيامة. وقد قال النبي (صلی الله علیه و آله): من أبغض أهل بيتي وعترتي لم يرني ولم أره يوم القيامة. وقال (علیه السلام): إن فيكم من لا يراني بعد أن يفارقني. يا أبا الصلت إن الله تبارك و تعالى لا يوصف بمكان، ولا تدركه الأبصار والأوهام.
فقال قلت له: يا ابن رسول الله فأخبرني عن الجنة والنار أهما اليوم مخلوقتان؟ فقال: نعم وإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد دخل الجنة، ورأى النار لما عرج به إلى السماء، قال فقلت له: إن قوماً يقولون إنهما اليوم مقدرتان غير مخلوقتين؟
فقال (علیه السلام): ما أولئك منا ولا نحن منهم. من أنكر خلق الجنة والنار فقد كذب النبي (صلی الله علیه و آله) وكذبنا، ولا من ولايتنا على شئ، ويخلد في نار جهنم، قال الله عزوجل: هذه جهنم التي يكذب بها، المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن.
وقال النبي (صلی الله علیه و آله): لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلته، فتحول ذلك نطفة في صلبي، فلما أهبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة (علیها السلام)، ففاطمة حوراء إنسية، وكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة». والعيون: 2/ 106 وأمالي الصدوق/545.
وروى في المحاسن: 1/180 وفضائل الشيعة/35، مشاهدة النبي (صلی الله علیه و آله) للجنة، وتفسير قوله تعالى: ما أخفي لهم من قرة أعين. وروى في المحتضر/78، قول الملائكة للنبي (صلی الله علیه و آله): «أنتم أول خلق خلقه الله...فلما خلقنا كنا نمر بأرواحكم فنسبح بتسبيحكم،ونحمد بتحميدكم، ونهلل بتهليلكم ونكبر بتكبيركم، ونقدس بتقديسكم، ونمجد بتمجيدكم».
وفي أمالي الصدوق/731: «ناداني ربي جل جلاله: يا محمد، أنت عبدي وأنا ربك،
ص: 290
فلي فاخضع، وإياي فاعبد، وعليَّ فتوكل، وبي فثق، فإني قد رضيت بك عبداً وحبيباً ورسولاً ونبياً، وبأخيك علي خليفة... وبك وبه وبالأئمة من ولده أرحم عبادي وإمائي، وبالقائم منكم أعمر أرضي بتسبيحي وتهليلي وتقديسي وتكبيري وتمجيدي، وبه أطهر الأرض من أعدائي وأورثها أوليائي، وبه أجعل كلمة الذين كفروا بي السفلى وكلمتي العليا، وبه أحيي عبادي وبلادي بعلمي، وله أظهر الكنوز والذخائر بمشيئتي، وإياه أظهر على الأسرار والضمائر بإرادتي، وأمده بملائكتي لتؤيده على إنفاذ أمري وإعلان ديني، ذلك وليي حقاً، ومهدي عبادي صدقاً».
وفي نوادر المعجزات/74 وأمالي الطوسي/343 و354، عن الإمام الحسين (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما عرج بي إلى السماء، وصرت إلى سدرة المنتهى، أوحى الله إلي: يا محمد، قد بلوت خلقي، فمن وجدت أطوعهم؟ قلت: يا رب علياً. قال: صدقت يا محمد. ثم قال: هل اخترت لأمتك خليفة من بعدك، يعلمهم ما جهلوا من كتابي ويؤدي عني؟ قلت: اللهم اختر لي فإن اختيارك خير من اختياري. قال: قد اخترت لك علياً فاتخذه لنفسك خليفة ووصياً، فإني قد نحلته علمي وحلمي، وهو أميرالمؤمنين حقاً، لم ينلها أحد قبله وليست لأحد بعده».
وفي أمالي الصدوق/375، أن الله تعالى قال لنبيه (صلی الله علیه و آله): «إن علياً إمام أوليائي، ونور لمن أطاعني...فلما أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام)، خرَّ ساجداً شكراً لله تعالى».
وفي أمالي الصدوق/433 و563 والطرائف/413: «نادى مناد من وراء الحجاب: نعم الأب أبوك إبراهيم، ونعم الأخ أخوك عليٌّ، فاستوص به».
وفيه/566 711 والخصال/115: «كلمني ربي جل جلاله فقال: يا محمد. فقلت: لبيك ربي. فقال: إن علياً حجتي بعدك على خلقي، وإمام أهل طاعتي».
وفي أمالي المفيد/173: «نوديت: يا محمد، إستوص بعلي خيراً، فإنه سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين يوم القيامة».
وفي أمالي الطوسي/295، أن الله أوحى اليه في علي (علیه السلام): «إقریٰ علي بن أبي طالب
ص: 291
أميرالمؤمنين السلام، فما سميت بهذا أحداً قبله ولا أسمي بهذا أحداً بعده».
وفي الخرائج: 2/811، أن الله خلق ملائكة بصورة النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي والأئمة (علیهم السلام) .
وروى الخزاز في كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر:/72، وما بعدها عدة أحاديث عن الصحابة، في تسمية النبي (صلی الله علیه و آله) للأئمة من عترته، وأنه رأى أنوارهم ومثالهم في معراجه.. منها قوله (صلی الله علیه و آله): «لما عرج بي إلى السماء وبلغت سدرة المنتهى ودعني جبرئيل (علیه السلام)، فقلت: حبيبي جبرئيل أفي هذاالمقام تفارقني؟ فقال: يا محمد إني لا أجوز هذا الموضع فتحترق أجنحتي. ثم زج بي في النور ما شاء الله، فأوحى الله إلي: يا محمد إني اطلعت إلى الأرض اطلاعة فاخترتك منها فجعلتك نبياً ثم اطلعت ثانيةً فاخترت منها عليا فجعلته وصيك ووارث علمك والإمام بعدك، وأخرج من أصلابكما الذرية الطاهرة والأئمة المعصومين خزان علمي، فلولاكم ما خلقت الدنيا ولا الآخرة ولا الجنة ولا النار. يا محمد أتحب أن تراهم؟ قلت: نعم يا رب. فنوديت: يا محمد إرفع رأسك، فرفعت رأسي فإذا أنا بأنوار علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والحجة يتلألأ من بينهم كأنه كوكب دري. فقلت: يا رب من هؤلاء ومن هذا؟ قال: يا محمد هم الأئمة بعدك المطهرون من صلبك، وهو الحجة الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ويشفي صدور قوم مؤمنين. قلنا: بآبائنا وأمهاتنا أنت يا رسول الله لقد قلت عجباً. فقال (علیه السلام): وأعجب من هذا أن قوماً يسمعون مني هذا ثم يرجعون على أعقابهم بعد إذ هداهم الله ويؤذوني فيهم، لا أنالهم الله شفاعتي».
وفي النص على الأئمة الإثني عشر/74 و244، قال (صلی الله علیه و آله): «لما عرج بي إلى السماء رأيت على ساق العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي ونصرته. ورأيت اثني عشر إسماً مكتوباً بالنور، فيهم علي بن أبي طالب وسبطيّ، وبعدهما تسعة أسماء علياً علياً ثلاث مرات، ومحمد محمد مرتين، وجعفر وموسى والحسن، والحجة يتلألأ من بينهم، فقلت: يا رب أسامي من هؤلاء؟ فناداني ربي جل جلاله: هم الأوصياء
ص: 292
من ذريتك، بهم أثيب وأعاقب».
وفي/105، عن أبي أمامة وفيه: «فنوديت: يا محمد هم الأئمة بعدك والأخيار من ذريتك». وفي/110، عن واثلة، وفيه: «أتحب أن تراهم يا محمد؟ قلت: نعم يا رب. قال: إرفع رأسك، فرفعت رأسي فإذا أنا بأنوار الأئمة بعدي اثنا عشر نوراً، قلت: يا رب أنوار من هي؟ قال: أنوار الأئمة بعدك أمناء معصومون».
وروى في/137، تفسير قوله تعالى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ: «فطوبى لمن أحبهم والويل لمن أبغضهم، فبهم أنزل الغيث وبهم أثيب وأعاقب. ثم رفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسلم يده إلى السماء ودعا بدعوات فسمعته فيما يقول: اللهم اجعل العلم والفقه في عقبي، وعقب عقبي، وفي زرعي، وزرع زرعي».
وفي/185، عن أم سلمة عن النبي (صلی الله علیه و آله): «لما أسري بي إلى السماء نظرت فإذا مكتوب على العرش: لا إله إلا الله محمد رسول الله أيدته بعلي ونصرته بعلي، ورأيت أنوار علي وفاطمة والحسن والحسين وأنوار علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي، ورأيت نور الحجة يتلألأ من بينهم كأنه كوكب دري، فقلت: يا رب من هذا ومن هؤلاء؟ فنوديت يا محمد هذا نور علي وفاطمة وهذا نور سبطيك الحسن والحسين، وهذه أنوار الأئمة بعدك من ولد الحسين مطهرون معصومون، وهذا الحجة يملأ الدنيا قسطا وعدلاً».
وفي شرح الأخبار: 2/415، أن الله تعالى أمر رسوله أن يبلغ السلام إلى علي (علیه السلام) . وقال في كنز الفوائد/259: «وقد جاء في الحديث أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) رأى في السماء لما عرج به ملكاً على صورة أميرالمؤمنين (علیه السلام)، وهذا خبر قد اتفق أصحاب الحديث على نقله، حدثني به من طريق العامة الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن الحسن بن شاذان القمي، ونقلته من كتابه المعروف بإيضاح دقائق النواصب، وقرأته عليه بمكة في المسجد الحرام سنة اثنتي عشرة وأربعمائة قال.».
وفي شرح الأخبار: 3/468، عن عمار، وفيه: «إني اصطفيتك لنفسي وانتجبتك
ص: 293
لرسالتي، وأنت نبيي ورسولي وخير خلقي، ثم الصديق الأكبر علي وصيك، خلقته من طينتك وجعلته وزيرك، وابناك الحسن والحسين...».
في الكافي: 1/444 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: إن الله مثل لي أمتي في الطين، وعلمني أسماءهم كما علم آدم الأسماء كلها، فمر بي أصحاب الرايات فاستغفرت لعلي وشيعته. إن ربي وعدني في شيعة علي خصلة. قيل: يا رسول الله وما هي؟ قال: المغفرة لمن آمن منهم، وأن لا يغادر منهم صغيرة ولا كبيرة، ولهم تبدل السيئات حسنات».
وفي قرب الإسناد/101، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما أسري بي إلى السماء وانتهيت إلى سدرة المنتهى، قال: إن الورقة منها تظل الدنيا وعلى كل ورقة ملك يسبح الله، يخرج من أفواههم الدر والياقوت، تبصر اللؤلؤة مقدار خمسمائة عام، وما سقط من ذلك الدر والياقوت يخزنه ملائكة موكلون به يلقونه في بحر من نور، يخرجون كل ليلة جمعة إلى سدرة المنتهى. فلما نظروا إليَّ رحبوا بي وقالوا: يا محمد مرحباً بك. فسمعت اضطراب ريح السدرة وخفقة أبواب الجنان قد اهتزت فرحاً لمجيئك، فسمعت الجنان تنادي: واشوقاه إلى علي وفاطمة والحسن والحسين».
يلفتك في المعراج أحاديث كثيرة يغلب عليها العامية، وأحاديث فيها عنف وقسوة، وأحاديث غير معقولة، كأنها منسوخة من مقولات اليهود عن ربهم وأنبيائهم، وأحاديث فيها تجسيم وتشبيه لله تعالى بخلقه!
وقد تتبعت حديث المرأة المعلقة بثدييها في جهنم، لأنها لم ترضع أولادها، فلم أجد ذلك في أحاديث أهل البیت (علیهم السلام)، لأن إرضاع الأم بنص القرآن مستحب وليس واجباً، فكيف يظلم الله تعالى المرأة التي لم ترضع ابنها؟
وكذا حديث امتحان الله للنبي (صلی الله علیه و آله) بأقداح خمر ولبن وماء، وحديث رؤية
ص: 294
الأنبياء (علیهم السلام) في قبورهم يصلون، وكأن الآخرة فيها تكليف بالصلاة، وكأن الله عنده أزمة سكن فأسكن أنبياءه:في قبوررهم!
فهذه الروايات تدل على أن العامية والعنف جاءا من رواة السلطة، وقد يكون تسرب منهم شئ إلى مصادرنا. وهذه نماذج من أحاديثهم:
رووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) ربط البراق كالدابة: «عن أنس أن رسول الله قال: فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس، فربطتُ الدابة بالحلقة التي كان يربط بها الأنبياء، ثم دخلتُ فصليتُ فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل: أصبت الفطرة». ابن شيبة: 8/443.
فهو يزعم أن البراق قد يفلت من يد النبي (صلی الله علیه و آله)!وأن الأنبياء لهم مكان في القدس يربطون به دوابهم! ثم يقول إن جبرئيل ثقب الصخرة وربط رسن البراق بثقبها!
قال ابن حجر في فتح الباري: 7/160: «ووقع في رواية بريدة عند البزار: لما كان ليلة أسري به، فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها، فشد بها البراق. ونحوه للترمذي»!
وروى ابن أبي شيبة: 8/445 نقاشاً للراوي زرّ بن حبيش،مع حذيفة قال: قيل لحذيفة: وربط الدابة بالحلقة التي يربط بها الأنبياء؟ فقال: أوَكان يخاف أن تذهب وقد أتاه الله بها؟!
قال البخاري في صحيحه: 5/224: «قال أبو هريرة أتيَ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليلة أسريَ به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما فأخذ اللبن. قال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك»!
وفي الإكتفاء: 1/234: «أتيَ بثلاثة آنية، إناء فيه لبن وإناء فيه خمر وإناء فيه ماء،
ص: 295
قال: فسمعت قائلاً يقول: إن أخذ الماء فغرق وغرقت أمته، وإن أخذ الخمر فغوى وغوت أمته، وإن أخذ اللبن هدى وهديت أمته»!
فكيف يخيره الله بين الحرام والحلال؟ وكيف يجوز أن يختار النبي (صلی الله علیه و آله) الخمر، وكيف يؤثِّر اختياره على أمته كلها، فتضل وتغوي، أو تغرق بالماء!
زعمت أحاديث المعراج أن الله شق صدر النبي (صلی الله علیه و آله) قبل المعراج، وأخرج منه علقة الشر! وهي سهم الشيطان، ثم غسله فصار سليماً! وقد تناقضت روايتهم في ذلك فزعموا أنه شق صدره وهو عند حليمة السعدية، ورووا أن ذلك كان قبيل المعراج، وبينهما نحو أربعين سنة، ثم زعموأن شق الصدر كان أربع مرات.
قال مسلم في صحيحه: 1/101: «عن أنس بن مالك: أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أتاه جبرئيل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه وصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه ثم أعاده في مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون.قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره.وكان ذلك هو سبب إرجاعه إلى أمه».
وقال البخاري: 8/203: «ليلة أسري برسول الله (صلی الله علیه و آله) من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه، ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته، حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده، حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشواً إيماناً وحكمة فحشا به صدره ولغاديده يعني عروق حلقه، ثم أطبقه، ثم عرج
ص: 296
به إلى السماء الدنيا فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد. قال: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. قالوا: فمرحباً به وأهلاً».
وفي عمدة القاري بشرح البخاري: 16/116: «كان نائماً بين عمه حمزة وابن عمه جعفر بن أبي طالب. قوله: وأوسطهم: هو النبي (صلی الله علیه و آله)». وقال شاعرهم:
لقد شُقَّ صدرٌ للنبي محمد *** مراراً لتشريف وذا غاية المجد
فأولى له التشريف فيها مؤثلٌ *** لتطهيره من مضغة في بني سعد
وثانيةً كانت له وهو يافع *** وثالثةً للمبعث الطيب الند
ورابعة عند العروج لربه *** وذا باتفاق فاستمع يا أخا الرشد
وخامسة فيها خلاف تركتها *** لفقدان تصحيح لها عند ذي النقد
نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز لرفاعة الطهطاوي/56.
وعقيدتنا أن ذلك كله مكذوب، وأن الله تعالى صفَّاه واصطفاه وطهره منذ خلقه في الدنيا وقبل ذلك، ولا نقبل أحاديث شق الصدر جملةً وتفصيلاً.
رووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) رأى أنبياء يصلون في قبورهم: «قال: ليلة أسري بي مررت على موسى وهو يصلي في قبره». مسند أحمد: 5/59.
وكأن الله تعالى عنده أزمة سكن في الآخرة، مع أن جنته عرضها كعرض السماوات والأرض! ثم إن الموت ينهي التكليف فلا صلاة في الآخرة، والدنيا دار عملٍ ولا حساب والآخرة دار حسابٍ ولا عمل. لكن الراوي عامي جاهل!
زعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «ثم انطلق بي حتى مرَّ بي على نسوة معلقات بثديهن، تنهش ثديهن الحيات! قال قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء اللاتي يمنعن أولادهن ألبانهن».تاريخ دمشق: 29/331.
ص: 297
وهذه عقوبة ظالمة تخالف نص القرآن، قال تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ! فالأم لها الحق أن لا ترضع طفلها، وأن تطلب على إرضاعه أجرة، فكيف يعذبها الله تعالى في الآخرة؟!
ثم كيف يمكن تعليق المرأة بثدييها؟!وهل هذه إلا قسوة من ذهن راوٍ بدوي؟!
وقال ابن هشام في السيرة: 2/273: «ثم رأيت نساء معلقات بثديهن، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم».
ورواه الصالحي في سيرته على أنه منام للنبي (صلی الله علیه و آله)، فقال: 7/265: «روى الطبراني في الكبير: 8/156 برجال الصحيح، والبيهقي في كتاب عذاب القبر، والأصبهاني في الترغيب، عن أبي أمامة قال: خرج علينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعد صلاة الصبح فقال: إني رأيت رؤيا هي حق تعقلونها، أتاني جبريل (علیه السلام) فأخذ بيدي.. ثم انطلقنا فإذا نحن بنساء معلقات بعراقيبهن، مصوبة رؤوسهن تنهش أثداءهن الحيَّات! فقلت: ما هؤلاء؟ قال: الذين يمنعن أولادهم من ألبانهن»!
وفي تفسير عبدالرزاق: 2/368 وتفسير الطبري: 15/17 وتفسير الثعلبي: 6/66: «ثم نظرت فإذا أنا بنساء معلقات بثديهن، ونساء منكسات بأرجلهن!قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هن اللائي يزنين ويقتلن أولادهن».
وفي سيرة ابن هشام: 2/275: «ثم رأيت نساء معلقات بثديهن، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم».
روت مصادرنا رواية واحدة عن النساء المعلقات في جهنم، أوردها الصدوق (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/13 قال: «حدثنا علي بن عبدالله الوراق رضيالله عنه قال: حدثنا محمد بن أبي عبدالله الكوفي، عن سهل بن زياد الآدمي، عن عبدالعظيم بن عبدالله الحسني، عن محمد بن علي الرضا، عن أبيه الرضا عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه
ص: 298
أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) قال: «دخلت أنا وفاطمة على رسول الله فوجدته يبكى بكاءً شديداً، فقلت: فداك أبي وأمي يا رسول الله ما الذي أبكاك؟ فقال: يا علي ليلة أسري بي إلى السماء، رأيت نساء من أمتي في عذاب شديد، فأنكرت شأنهن فبكيت لما رأيت من شدة عذابهن. ورأيت امرأة معلقة بشعرها يغلي دماغ رأسها. ورأيت امرأة معلقة بلسانها والحميم يصب في حلقها ورأيت امرأة معلقة بثدييها. ورأيت امرأة تأكل لحم جسدها والنار توقد من تحتها. ورأيت امرأة قد شد رجلاها إلى يديها وقد سلط عليها الحيات والعقارب. ورأيت امرأة صماء عمياء خرساء في تابوت من نار، يخرج دماغ رأسها من منخرها، وبدنها متقطع من الجذام والبرص. ورأيت امرأة معلقة، برجليها تَنُّور من نار.ورأيت امرأة تقطع لحم جسدها من مقدمها ومؤخرها بمقاريض من نار. ورأيت امرأة تحرق وجهها ويداها وهي تأكل أمعاءها. ورأيت امرأة رأسها رأس الخنزير وبدنها بدن الحمار، وعليها ألف ألف لون من العذاب. ورأيت امرأة على صورة الكلب والنار تدخل في دبرها وتخرج من فيها، والملائكة يضربون رأسها وبدنها بمقامع من نار!
فقالت فاطمة (علیها السلام): حبيبي وقرة عيني، أخبرني ما كان عملهن وسيرتهن حتى وضع الله عليهن هذا العذاب؟ فقال: يا بنيتي، أما المعلقة بشعرها فإنها كانت لا تغطي شعرها من الرجال. وأما المعلقة بلسانها فإنها كانت تؤذي زوجها.
وأما المعلقة بثدييها فإنها تمتنع من فراش زوجها. وأما المعلقة برجليها فإنها كانت تخرج من بيتها بغير إذن زوجها. وأما التي تأكل لحم جسدها فإنها كانت تزين بدنها للناس. والتي شُد يداها إلى رجليها وسلط عليها الحيات والعقارب فإنها كانت قذرة الوضوء قذرة الثياب وكانت لا تغتسل من الجنابة والحيض ولا تتنظف، وكانت تستهين بالصلاة.
وأما الصماء العمياء الخرساء، فإنها كانت تلد من الزنا فتعلقه في عنق زوجها.
وأما التي تقرض لحمها بالمقاريض، فإنها كانت تعرض نفسها على الرجال.
ص: 299
وأما التي كانت تحرق وجهها وبدنها وتأكل أمعاءها، فإنها كانت قوادة.
وأما التي كان رأسها رأس الخنزير وبدنها بدن الحمار، فإنها كانت نمامة كذابة.
وأما التي كانت على صورة الكلب والنار تدخل في دبرها وتخرج من فيها، فإنها كانت قينة نواحة حاسدة. ثم قال (علیه السلام) ويل لامرأة أغضبت زوجها، وطوبى لامرأة رضيَ عنها زوجها».
أقول: لا يكفي رواية الصدوق (رحمة الله) لهذا الحديث للوثوق به، فهو أولاً من مروياته عن مشايخ بغداد، وثانياً في سنده سهل بن زياد الآدمي، وقد اتهمه بعض علمائنا بأنه ضعيف كذاب، ووثقه جماعة من المتأخرين، لكن حتى لو صح مروياته فلا يمكن قبول الحديث بل لانشك في أنه موضوع. وثالثاً لا يمكن قبول متنه لأنه لا يعقل أن يعاقب الله تعالى بهذا العذاب الزوجة التي لم ترضع ابنها كما في بعض رواياته، أو لا تطيع زوجها في المقاربة! «وأما المعلقة بثدييها فإنها تمتنع من فراش زوجها».
1. أخروا وقت المعراج إلى قبيل هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) لأجل تصحيح كلام عائشة! فقد قال القاري في شرح الشفا: 1/222 و393: «ذكرالنووي أن معظم السلف وجمهور المحدثين والفقهاء، على أن الإسراء والمعراج كان بعد البعثة بستة عشر شهراً». لكن رواة السلطة أخروه لأن عائشة قالت إن بيت خديجة في الآخرة من قصب، لأنها لم تصل، والصلاة شرعت في المعراج، فيكون بعد وفاتها.
قال في فتح الباري: 7/154: «تقدم أن عائشة جزمت بأن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلاة». وتقدم أن بشارة النبي (صلی الله علیه و آله) لخديجة (علیها السلام): بيت في الجنة لاصخب فيه ولا نصب. ولا ذكر فيه للقصب! فضائل الصحابة/75 للنسائي وسنن النسائي: 5/94، الجامع الصغير: 2/247 وتاريخ الذهبي: 1/238.
لكن عائشة جعلته بيتاً من قصب، وبررته بأن خديجة ماتت قبل أن تصلي! قالت: «ماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): رأيت لخديجة بيتاً من قصب،
ص: 300
لاصخب فيه ولا نصب». فتح الباري: 1/27.
2- أَعْطَوْا أبابكر لقب الصدِّيق، وجعلوا سببه أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما عُرج به أخبر المشركين فكذبوه وكذبه قسم من المسلمين! لكن أبابكرصدقه فسمي الصديق! «فحدثهم، فمن بين مُصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً، وارتد ناس ممن كان آمن به، وسعى رجال إلى أبي بكر فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق. قال: أتصدقه على ذلك؟ قال إني لأصدقه على أبعد من ذلك فسمي الصديق». تخريج الأحاديث والآثار: 2/256، تاريخ الخلفاء/29، عن الحاكم عن عائشة وجَوَّدَهُ، الرياض النضرة: 1/404، الكشاف: 2/437، الإستيعاب:3/966، تفسير البغوي: 3/96، البيضاوي: 3/430، أبي حيان: 6/6، أبي السعود: 5/155وغيرها.
ولكي يصح ذلك جعلوا إسلام أبي بكر قبل المعراج! أو أخروا وقت المعراج ليكون بعد إسلام أبي بكر! لكن سعد بن أبي وقاص شهد بأن أبابكر أسلم متأخراً، فقال ابنه محمد: «قلت لأبي: أكان أبوبكر أولكم إسلاماً؟ فقال: لا، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين، ولكن كان أفضلنا إسلاماً». الطبري: 2/60.
ورووا ما يدل على أن إسلامه كان في السنة السابعة أو بعدها، وأن شخصاً من قبيلة أسد كان يربطه هو وطلحة بحبل ويحبسهما ويعذبهما فسميا القرينين، لأن قبيلة تيم ملحقة أو متحالفة مع بني أسد عبدالعزى. الإصابة: 6/77.
وروى البخاري: 3/59 عن عائشة، أن أبابكر خرج مهاجراً خوفاً من قريش «حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدَّغِنَّة» فأجاره، وهو سيد الأحابيش القارة أي الرماة: «فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبابكر، وقالوا لابن الدغنة: مُرْ أبابكر فليعبد ربه في داره، فليصل وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن»
ثم ذكرت أنه رد إلى ابن الدغنة جواره قبيل هجرته إلى المدينة.
3. قال القاضي عياض في الشفاء: 1/174: «وروى ابن قانع القاضي