السیرة النبویه عند اهل البیت علیهم السلام

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: الکوراني العاملي، علی، 1944 - م. Kurani,Ali

عنوان واسم المؤلف: السیرة النبویة عند اهل البیت علیهم السلام/ علی الکورانی العاملی.

تفاصيل المنشور: قم: دار النشر المعروف، 1438 ق.= 2017 م.= 1396.

مواصفات المظهر: 3 ج. /

لسان: العربية.

ISBN: 9786006612881

ملحوظة: الطبعة الثانية. / ملحوظة: ج. 2 (الطبعة الثانية: 1438 ق. = 2017 م.).

ملحوظة: نُشر هذا الكتاب لأول مرة عام 2008 تحت عنوان «جواهرالتاریخ: السیرةالنبویة عند اهل البیت (ع)» عن طريق المنشورات باقیات تم نشره.

عنوان آخر: جواهرالتاریخ: السیرةالنبویة عند اهل البیت (ع).

مشكلة: محمد(ص)، پیامبر اسلام، 53 قبل الهجرة- 11 ق. / مشكلة: 632 .Muhammad, Prophet, d

مشكلة: التقليد النبوي/ مشكلة: * Wonts of the Prophet

مشكلة: دين الاسلام -- تاریخ -- از آغاز تا 11 ق/ مشكلة: 632 Islam -- History -- To

تصنيف ديوي: 93 / 297

ترتيب الكونجرس: 1396 9ج 9ک / 46 / BP24

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 4793168

حالة الاستماع: فیپا

السيرة النبوية عند أهل البيت علیهم السلام (1)

المؤلف: علي الکَوراني

الناشر: دارالمعروف، قم المقدّسة.

الطبعة: الأولی.

تاریخ النشر: ذيقعدة 1438 ه.ق - July 2017

المطبعة: باقری - قم المقدّسة.

عدد المطبوع: 3000 نسخة.

شابک: 1- 88 - 6612 - 600 - 978

دار المعروف

للطباعة و النشر

مرکز النشر والتوزیع:

إيران - قم المقدّسة - شارع مصلّی القدس - رقم الدّار: 682 . ص-ب: 158 - 37156 تلفون: 32926175 25 (0)0098

جمیع الحقوق محفوظة ومسجلة للمؤلف

www.maroof.org

Email: nashremaroof@gmail.com

ص: 1

المجلد 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

السيرة النبوية عند أهل البيت علیهم السلام

علی الکورانی العاملی

المجلد الأول

الطبعة الثانية- منقحة ومزيدة

2017-1438

دارالمعروف

ص: 3

ص: 4

مقدمة الطبعة الثانية

بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم

الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأفضلُ الصلاة وأتمُّ السلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد فقد وفقني الله تعالى لكتابة السيرة النبوية عند أهل البيت (علیهم السلام)، وكتبت عن علي والزهرا ء صلوات الله عليهما، وعن الإمام الحسن السبط (علیه السلام)، وكذلك عن الأئمة زين العابدين، والكاظم، والجواد، والهادي، والعسكري، وعدة مجلدات عن الإمام المهدي صلوات الله عليهم.

وقد طالبني بعض العلماء الأجلاء بأن أكمل هذه الدورة في سيرة النبي وأهل البیت الأطهار (علیهم السلام)، فاستخرت الله تعالى وبدأت بتلبية طلبهم.

أسأله تعالى أن يهب لي التوفيق لإكمال هذا العمل المبارك، وأن يجعله ذخراً ليوم وقوفي بين يديه عزوجل، يوم يفوز به الفائزون بولاية النبي وآله الأطهار (صلی الله علیه و آله) .

كتبه بقم المشرفة: علي الكوراني العاملي

في الثاني والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1436

ص: 5

ص: 6

تمهيد

أهمية السيرة النبوية

للسيرة النبوية أهمية خاصة عند المسلم، فهي إيمانٌ وعلمٌ، وفقهٌ للرسول والرسالة، وتعريفٌ له بنبيه الذي ينتمي اليه، ويتقرب إلى ربه بالإقتداء به (صلی الله علیه و آله) .

وأشهر كتاب وصل الينا في السيرة ما عُرف بسيرة محمد بن إسحاق بن يسار «توفي 151»ثم اختصره وغيَّرَ فيه عبدالملك بن هشام «توفي218» فعُرف بسيرة ابن هشام، وذكر في أوله أنه تارك من سيرة ابن إسحاق: «أشعاراً ذكرها لم أرَ أحداً من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يُشَنَّعُ الحديث به، وبعضٌ يسوءُ بعض الناس ذكره»!

ومعناه أنه أراد كسب رضا العباسيين الذين ألف لهم كتابه، والذين يزعمون أن جدهم العباس وارث النبي (صلی الله علیه و آله)، ويزعم المنصور أنه رأى النبي (صلی الله علیه و آله) في منامه: «وعقد له لواءً أسود وعممه بعمامة من ثلاثة وعشرين دوراً، وأوصاه بأمته، وقال له: خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة»!

فأصدر المنصور أمره للمسلمين بتدوين رؤياه وقال: «ينبغي لكم أن تثبتوها في ألواح الذهب، وتعلقوها في أعناق الصبيان»! تاريخ بغداد: 1/85، تاريخ دمشق: 32/301، رواه ابن كثير

في النهاية: 10/129 وحكم بصحة المنام!

على أن سيرة ابن إسحاق أيضاً فيها مشكلات، فقد غَيَّر فيها في مراحل حياته،

ص: 7

حيث كان أول أمره يتشيع للحسنيين، ثم صار مع خصومهم العباسيين. وعاش في المدينة، ثم نفي منها إلى البصرة، وفارس، ثم عاش في بغداد. ولهذا صار لكتابه روايات متعددة، وقد اعتمد ابن هشام على رواية زياد البكائي دون غيرها، بينما قال في مقدمة القطعة التي عثروا عليها في المغرب: «ولسيرة ابن إسحق رواة غير البكائي، وابن بكير، وبكر بن سليمان، وسلمة بن الفضل، أوصلها مطاع الطرابيشي في كتابه: رواة المغازي والسير إلى واحد وستين راوياً».«ابن إسحاق: موقع الوراق».

ويظهر أن نسخ هؤلاء الرواة فيها «تعديلات» ابن إسحاق على كتابه، وأنه حذف منه كثيراً من مناقب أهل البیت (علیهم السلام)، وما يمس بني أمية وبني عباس!

ومن أمثلة ذلك حذف إسم العباس من أسرى بدر، مع أنه متواتر، وحذف ابن هشام لحديث الدار الذي نص على وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام)، عند نزول قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ.

لذلك، فإن القيمة العلمية لسيرة ابن هشام وابن إسحاق منخفضة، وعلى الباحث فحص روايتها، ومقارنتها بالروايات الأخرى.

كانت الخلافة تحرق مصادر السيرة!

اتفقت المصادر على أن أول من صنف في السيرة: عبيدالله بن أبي رافع مولى النبي (صلی الله علیه و آله) وهو قبطي: «هو أول من صنف في المغازي والسير». الذريعة: 17/153.

قال في الشيعة وفنون الإسلام/84: «الفصل الثامن في تقدم الشيعة في علم السير، فأول من وضعه عبيدالله بن أبي رافع مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، صنف في ذلك على عهد أميرالمؤمنين (علیه السلام)». وكان أبوه أبو رافع (رحمة الله) مرجعاً: «كان ابن عباس يأتي أبا رافع فيقول: ما صنع النبي (صلی الله علیه و آله) يوم كذا؟ ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها».تقييد العلم لابن عبدالبر/92 والإصابة لابن حجر: 4/125.

فأين هذا الكنز الثمين: كتاب ابن أبي رافع (رحمة الله)؟ لقد أحرقته الحكومات، ولا تعجب فقد كان الإحراق من صلب سياساتهم!

ص: 8

قال الزبير بن بكار في الموفقيات/222، وهو من علماء السلطة: «قدم سليمان بن عبدالملك إلى مكة حاجاً سنة 82 ﻫ،فأمر أبان بن عثمان أن يكتب له سير النبي (صلی الله علیه و آله) ومغازيه فقال له أبان: هي عندي قد أخذتها مصححةً ممن أثق به. فأمر سليمان عشرة من الكتاب بنسخها فكتبوها في رق، فلما صارت إليه نظر، فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين وفي بدر، فقال: ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل! فإما أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم، وإما أن يكونوا ليس هكذا! فقال أبان: أيها الأمير لايمنعنا ما صنعوا أن نقول بالحق، هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا! فقال سليمان: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتى أذكره لأميرالمؤمنين لعله يخالفه، ثم أمر بالكتاب فحُرِق! ورجع فأخبر أباه عبدالملك بن مروان بذلك الكتاب، فقال عبدالملك: وما حاجتك أن تَقْدِمْ بكتاب ليس لنا فيه فضل، تُعَرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها! قال سليمان: فلذلك أمرت بتحريق ما نسخته»!

فالميزان عند الخليفة: أن يكون في الكتاب مدحٌ لبني أمية، أما إذا كان فيه مدحٌ لآخرين فيقول لابنه: «وما حاجتك أن تَقْدِم بكتاب ليس لنا فيه فضل»!

وترى في هذا النص أن الخلافة تتبنى سياسة التعتيم والتجهيل، فقد قال لابنه: تُعَرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها! وقد طبقها الإبن وحرق ما كتبوه له!

كنوزٌ من السيرة وعلوم الإسلام أحرقتها السلطة!

حرصت الحكومات القرشية على إحراق كتب شيعة أهل البیت (علیهم السلام) وإبادتها، ومع ذلك سلمت من نارهم ثروة كبيرة، تغطي كثيراً من فصول السيرة النبوية وليس كلها، ونراها أحياناً تستفيض بأوسع من السيرة الحكومية.

ويكفيك مثالاً على سياستهم في إبادة العلم: كُتب جابر بن يزيد الجعفي، وكُتب أحمد بن عقدة، وكُتب سليمان الأعمش، وهم علماء موثقون عندنا وعندهم! فقد أحرقوا كتبهم أو فقدت من تلاميذهم في سنوات تشريدهم وتقتيلهم! وقد بلغت مؤلفاتهم نحو أربع مئة ألف حديث، أي مئتي مجلداً!

ص: 9

قال مسلم في مقدمة صحيحه /15: «الجراح بن مليح يقول: سمعت جابراً يقول: عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر «الباقر (علیه السلام)» عن النبي (صلی الله علیه و آله) كلها»!

وقد أحضر المنصور سليمان الأعمش ليلاً ليمنعه من رواية مناقب علي (علیه السلام) وقال له: «فأخبرني بالله وقرابتي من رسول الله كم رويت من حديث علي بن أبي طالب وكم من فضيلة من جميع الفقهاء؟ قلت: شئ يسير يا أميرالمؤمنين! قال: كم؟ قلت: مقدار عشرة آلاف حديث وما يزداد! قال: يا سليمان ألا أحدثك بحديث في فضائل علي يأكل كل حديث رويته عن جميع الفقهاء؟ فإن حلفت لا ترويه لأحد من الشيعة حدثتك به»! فضائل علي (علیه السلام) لابن المغازلي/226.

وقال الشهيد نور الله التستري في الصوارم المهرقة/214: «إن أهل بغداد أجمعوا على أنه لم يظهر من زمان ابن مسعود إلى زمان ابن عقدة، من يكون أبلغ منه في حفظ الحديث. وأيضاً قال الدارقطني: سمعت منه أنه قال: قد ضبطت ثلاث مائة ألف حديث من أحاديث أهل البیت وبني هاشم:،وحفظت مائة ألف حديث بأسانيدها! ونقل الذهبي عن عبدالغني بن سعيد أنه قال: سمعت عن الدارقطني قال: إن ابن عقدة يعلم ما عند الناس، ولا يعلم الناس ما عنده!

وقال الثلاثة: إن ابن عقدة كان يقعد في جامع براثا من الكوفة، ويذكر مثالب الشيخين عند الناس، فلهذا تركوا بعض أحاديثه، وإلا فلا كلام في صدقه».

وقد اشتبه الراوي فمسجد براثا في بغداد، ومسكن ابن عقدة الكوفة.

وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ: 3/840: «قال الحاكم ابن البيِّع: سمعت أبا علي الحافظ يقول: ما رأيت أحفظ لحديث الكوفيين من أبي العباس بن عقدة.

وعن ابن عقدة قال: أنا أجيب في ثلاث مائة ألف حديث من حديث أهل البیت وبني هاشم. حدث بهذا عنه الدارقطني. وعن ابن عقدة قال: أحفظ مائة ألف حديث بأسانيدها.. وقال أبو سعد الماليني: أراد ابن عقدة أن ينتقل، فكانت كتبه ست مائة حملة». وذكر نحوه في وسائل الشيعة: 20/131 وذكر قول الشيخ الطوسي فيه: «أمره في الثقة والجلالة والحفظ أشهر من أن يذكر».

ص: 10

وفي مجلة تراثنا: 21/180: «أفرد الذهبي رسالة عن حياته، مذكورة في مؤلفاته في مقدمة سير أعلام النبلاء باسم: ترجمة ابن عقدة. ترجم له أعلام العامة بكل تجلة وتبجيل ووثقوه، وأثنوا على علمه وحفظه وخبرته وسعة اطلاعه، وأرخوا ولادته ليلة النصف من المحرم سنة 249، ووفاته في7 ذي القعدة سنة (علیها السلام) 32. ومن المؤسف أن هذا الرجل العظيم لم يبق من مؤلفاته الكثيرة الكبيرة سوى وريقات توجد في دار الكتب الظاهرية بدمشق، ضمن المجموعة رقم4581، باسم: جزء من حديث ابن عقدة من الورقة: 9-15»!

أما اليوم فلا تجد حتى الترجمة التي كتبها الذهبي لابن عقدة!

ويتضح حجم جريمة الحكومات في تضييع علم العترة:لوعرفت أن كل ألفي حديث تبلغ مجلداً تقريباً، وأن صحيح بخاري ومسلم وبقية الكتب الستة مع حذف المكرر تبلغ: 9780 حديثاً، وكل ما في الصحيحين: 2980 حديثاً.

http: //www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=2586 9

فتكون أحاديث جابر بن يزيد الجعفي خمساً وثلاثين مجلداً، أو سبعة أضعاف البخاري ومسلم وبقية الكتب الستة. والعشرة آلاف حديث التي يرويها سليمان الأعمش في فضائل أميرالمؤمنين (علیه السلام) وحدها أكثر من مجموع الكتب الستة!

أما أحاديث أحمد بن عقدة عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فتبلغ خمسين مجلداً، وأحاديثه عن أهل البیت (علیهم السلام) وبني هاشم، مئة وخمسين مجلداً!

ولم تكتفِ السلطة بمصادرة الكتب وإحراقها، حتى أفتى علماؤها بأن كل من روى شيئاً فيه نقد ولو بسيط لأبي بكر وعمر، فحكمه أن يدفن حياً!

قال الذهبي في ميزان الإعتدال: 2/75، عن العلل لأحمد بن حنبل: 3/8: «قال عبدالله بن أحمد: سألت ابن معين عنه» «زكريا بن يحيى الكسائي» «فقال: رجل سوء يحدث بأحاديث سوء. قلت: فقد قال لي: إنك كتبت عنه؟ فحول وجهه وحلف بالله إنه لا أتاه ولا كتب عنه. وقال: يستأهل أن يحفر له بئر فيلقى فيها»!

وقال عنه ابن تيمية في منهاج السنة: 7 - 232: «لا يحتج به باتفاق أهل العلم، فإن

ص: 11

زكريا بن يحيى الكسائي قال فيه يحيى: رجل سوء يحدث بأحاديث يستأهل أن يحفر له بئر فيلقى فيها.قال ابن عدي: كان يحدث بأحاديث في مثالب الصحابة».

فهل يجوز أن تخسر أجيال الأمة ثروة عظيمة بسبب روايات تنتقد بعض الصحابة؟ أمَا كان الواجب على علماء الأمة أن يرووها ويردوا عليها؟! لكنهم صاروا أعداء العلم، لأنهم أطاعوا سياسة التعتيم والتجهيل الأموي التي قال عنها الخليفة لابنه: «تُعَرِّف

أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها»!

فحضرة الخليفة الذي يحدد ما يسمح بمعرفته للناس، ويحرق كل ما لم يعجبه!

القرآن مصدر للسيرة لكنهم ضيعوا أسباب نزوله!

كان جبرئيل (علیه السلام) ينزل بآيات القرآن فيبلغها النبي (صلی الله علیه و آله) للصحابه، لكنهم لم يحفظوا أسباب نزولها وأوقاتها! بل نرى أن الصحابة صلوا مع النبي (صلی الله علیه و آله) على مئات الجنائز، ثم اختلفوا هل كان يُكَبِّر على الجنازة أربع تكبيرات، أو خمساً!

إن هذه الحالة من عدم الضبط في الأمة، تستوجب وجود إمام بعد النبي (صلی الله علیه و آله) عنده علم الكتاب ليبينه للأجيال بعلمٍ ويقين، لابظنون واحتمالات كما فعل الصحابة! ولذا أمر الله تعالى نبيه (صلی الله علیه و آله) فأعدَّ علياً (علیه السلام) وصياً وخليفة وإماماً، وعلمه علم الكتاب، فجمعه بأمر النبي (صلی الله علیه و آله) في حياته، وأكمل جمعه عند وفاته.

لكن قريشاً أبعدت علياً والعترة:عن السلطة، ولم تقبل منهم حتى نسخة القرآن التي جاءهم بها علي (علیه السلام)، خوفاً من أن تكون في غير مصلحتها: «فلما توسطهم وضع الكتاب بينهم قال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وهذا الكتاب وأنا العترة! فقام إليه الثاني فقال له: إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله فلا حاجة لنا فيكما! فحمل الكتاب وعاد به بعد أن ألزمهم الحجة»! المناقب: 1/320.

فقد كان (علیه السلام) مأموراً من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يعرضه عليهم، فإن لم يقبلوه احتفظ به عندالأئمة من ذريته:حتى يظهره المهدي (علیه السلام)، وتركهم يجمعونه كما يريدون، حتى لايكون للأمة

ص: 12

قرآنان.راجع: تدوين القرآن/182، ألف سؤال وإشكال: 1/243.

ولهذا السبب تخبطت الأمة في علوم القرآن وأسباب نزول آياته، فانظر من باب المثال إلى تهافت كلامهم في آخر آية نزلت، مع أنهم كانوا يومها ألوفاً:

1. روى أحمد: 1/36 في مسنده عن ابن المسيب أن عمر سئل عن آية الربا فلم يعرفها فقال إنها آخر آية! «وإن رسول الله قبض ولم يفسرها»!

2. وفي البخاري: 5/115: «وآخر آية نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ».

3. وفي البخاري: 5/182: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ، آخر ما نزل».!

4. وفي مستدرك الحاكم: 2/338 وصححه على شرط الشيخين: «آخر ما نزل من القرآن: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ». يقصد الآيتين: 128 و129من سورة التوبة.

5. وفي صحيح مسلم: 8/243: «تَعْلمُ آخر سورة نزلت من القرآن نزلت جميعاً؟ قلت نعم، إذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفَتْح. قال: صدقت».

6. وفي الطبراني الكبير: 12/19: «آخر آية أنزلت: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ». يقصد الآية: 281 من سورة البقرة!

7. وكأن السيوطي استحى من تهافت أحاديثهم الصحيحة في آخر ما نزل فأجملها في الإتقان: 1/101، ولم يعددها كما عدد الأقوال في أول ما نزل!

وهذا التناقض يوجب سقوط رواياتهم، فلا يبقى للباحث في أسباب النزول إلا ما قاله أهل البیت (علیهم السلام) أو المجمع عليه وهو قليل، كآية: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ، المجمع على نزولها بعد ثلاث سنين من البعثة، وأن الدعوة قبلها كانت لبني هاشم خاصة حتى كفاه الله المستهزئين. وهي مقطع مهم في السيرة، لأنها تعين سنة هلاك عدد من الفراعنة، وتنفي وجود دعوة عامة قبل ذلك التاريخ.

شعر أبي طالب (علیه السلام) مصدر للسيرة

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «كان أميرالمؤمنين (علیه السلام) يعجبه أن يُرْوَى شعرأبي طالب وأن يُدَوَّن وقال: تَعَلَّمُوهُ وعلموه أولادكم فإنه كان على دين الله.وفيه علمٌ كثير». وسائل

ص: 13

الشيعة: 17/331، إيمان أبي طالب للمفيد/10 ومكاتيب الرسول للأحمدي: 1/378.

وقد وصلنا منه نحو ألف بيت، وهي تكشف حقائق مهمة من سيرة النبي (صلی الله علیه و آله) من قبل البعثة، في كفالة عمه، وآياته التي شاهدها الراهب بحيرا، ومحاولة اليهود قتله، ثم بِعثته وتكذيب قومه له، إلى قرب هجرته (صلی الله علیه و آله)!

قال الصالحي الشامي في سبل الهدى: 2/142: «وقال أبوطالب في هذه السفرة قصائد، منها ما ذكره ابن إسحاق، وأبو هفان في ديوان شعر أبي طالب..الخ.».

وأبو هفان أقدم من جمع شعر أبي طالب (رحمة الله) وشَرَحَه، وهو عبدالله بن أحمد بن حرب بن مهزَّم البصري النحوي، صاحب كتاب أشعار عبدالقيس.«الذريعة: 14 /195 وإيضاح المكنون: 2/49». وذكره النجاشي كتبه في رجاله/218، وقال: «مشهور في أصحابنا وله شعر في المذهب. وبنو مهزم بيت كبير بالبصرة في عبدالقيس».

وقد اشتهر من شعر أبي طالب لاميته الرائعة، التي أرخ فيها لهيجان طغاة قريش ضد النبي (صلی الله علیه و آله) في مطلع نبوته، وقد مدحها العلماء حتى النواصب، لكنهم لم يستشهدوا بها في تدوينهم السيرة النبوية، لأنها تفضح زعماء قريش!

وأوردها ابن كثير في النهاية: 3/70 برواية ابن هشام، ورد تشكيك بعضهم في نسبة بعض أبياتها إلى أبي طالب، وقال عنها: «قلت: هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً، لايستطيع أن يقولها إلا من نسبت إليه، وهي أفحل من المعلقات السبع وأبلغ في تأدية المعنى منها جميعاً، وقد أوردها الأموي في مغازيه مطولة بزيادات أخر».ويقصد بالأموي المؤرخ الوليد بن مسلم صاحب الأوزاعي مولى الأمويين توفي سنة 195، له مصنفات في الحديث والتاريخ والمغازي. الديباج: 1/34.

لكن أتباع السلطة أعرضوا عنها متعمدين لأنهم يبغضون علياً (علیه السلام)، وقد يصل بغضهم بسببه إلى النبي (صلی الله علیه و آله)، ولاعذر لهم في ترك شعر أبي طالب حتى لو اعتبروه كافراً (رحمة الله)، لأن شعره وثائق من شاهدٍ على أحداث السيرة.

ص: 14

أهل البیت (علیهم السلام) أدرى بسيرة جدهم (صلی الله علیه و آله) وأصدق

يشهد الجميع بأن الأئمة من أهل البیت (علیهم السلام): علياً والحسنين وزين العابدين والباقر والصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري والمهدي: أعرف بسيرة جدهم (صلی الله علیه و آله) وأصدق من غيرهم، ومع ذلك يُعرضون عنهم متعمدين ويأخذون السيرة من رواة مغرضين ويجعلون قولهم ديناً يدينون به! وكمثال على ذلك ما نسبوه إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه اقتص من أشخاص قتلوا رعاة إبل الصدقة، ففقأ عيونهم بمساميرمحماة، ثم أحرقهم بالنار أو تركهم ينزفون!

فقد رواه بخاري عن أنس: 1/64 قال: «قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة «مرضوا من هوائها» فأمر لهم النبي بلقاح «نوق حلوبة» وأن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي النبي (صلی الله علیه و آله) واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جئ بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسُمِّرَتْ أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون»!

وفي: 4/22: «أمر بمسامير فأحميت فكحَّلهم بها، وطرحهم بالحرة حتى ماتوا»!

وقد رووا استنكار أهل البیت (علیهم السلام) لهذه التهمة للنبي (صلی الله علیه و آله) لكنهم لم يقبلوا منهم!

قال الإمام الباقر (علیه السلام): «إن أول ما استحل الأمراء العذاب لكذبة كذبها أنس بن مالك على رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه سمَّرَ يد رجل إلى الحائط! ومن ثَم استحل الأمراء العذاب»!

علل الشرائع: 2/541، راجع ألف سؤال وإشكال: 2/440.

وقد أفتى الشافعي بجواز التعذيب. «الأم: 4/259» قال: «وكان علي بن حسين ينكر حديث أنس في أصحاب اللقاح..قال: والله ما سمل رسول الله عيناً، ولا زاد أهل اللقاح على قطع أيديهم وأرجلهم».

وهكذا جعلت السلطة أنس الصحابي كذاباً على النبي (صلی الله علیه و آله) لإثبات مشروعية تعذيب مخالفيها، وانتزاع الإعتراف منهم لقتلهم! ولو قبلوا من أهل البیت (علیهم السلام) تبرئة النبي (صلی الله علیه و آله)، وكذبوا رواة السلطة لكانوا علماء بحق!

ص: 15

هدف الكتاب وفروقه عن السيرة الرسمية

1. اهتم علماؤنا بالسيرة وألفوا فيها كتباً وفصولاً. وكتب أخيراً العالم الصديق السيد جعفر مرتضى العاملي موسوعته: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله)، في أكثر من ثلاثين مجلداً، حاكم فيها بتفصيل مسائل السيرة الرسمية عند حكومات الخلافة القرشية. لكن بقيت الحاجة إلى سيرة تركز على أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) وكلمات علماء مذهبهم. لذا قمت بتدوين أحداث السيرة متتبعاً أولاً رواية أئمة أهل البیت (علیهم السلام) ثم كلام علماء مذهبهم، أو ما ارتضوه من رواية غيرهم.

وكان لابد أحياناً من محاكمة الرواية المشهورة بما يناسب الكتاب، لتكتمل الصورة الناصعة لسيرة النبي (صلی الله علیه و آله) منزهةً عن أهواء الحكام، وتخليط رواتهم.

أما فروقها عن السيرة الحكومية الرسمية فتعرفه بمقارنة فهرسها بفهارس السِّيَر الرسمية، لتجد أولاً التسلسل المنطقي والعمق العلمي و الحداثة في كل فصل، وتجد العنونة حيث لم يعنونوا، وفروقاً في أسباب الأحداث، وإظهاراً لحقائق كثيرة، وكشفاً لتحريف الرواية الحكومية.

2. نعتقد بعصمة نبينا (صلی الله علیه و آله) عصمة شاملة قبل البعثة وبعدها، في تبليغ الرسالة، وفي أموره الشخصية، بدليل: قوله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. وقول علي (علیه السلام): ولقد قرنالله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم. فقد كان النبي (صلی الله علیه و آله) من طفولته نبياً، أما في الأربعين فبعث رسولاً.

أما قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى «الضحیٰ: 6، 7، 8»: فمعناه أن من نعم الله عليك أنه هيأ لك جدك عبدالمطلب وعمك أباطالب (صلی الله علیه و آله) فكفلاك في يتمك ونشأتك. ومن نعمه عليك أنه هداك من صغرك، لكنك كنت متحيراً ضالاً فيما يجب عليك عمله، فهداك بالرسالة إلى دعوة الناس إلى دينه. ووجدك عائلاً عليك نفقة بيتك ومن تريد مساعدتهم، فأغناك بخديجة فوهبتك ثروتها، كما وهبت سارة ثروتها لإبراهيم (علیه السلام) .

ص: 16

وأفرط بعض أتباع السلطة ففسروا: وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى، بأنه (صلی الله علیه و آله) كان كافراً والعياذ بالله! ورده الرازي في تفسيره: 31/216، وفسره بأن النبي (صلی الله علیه و آله) كان ضالاً عن النبوة، لأنه لم يكفر بالله تعالى طرفة عين. ومذهبنا أنه (صلی الله علیه و آله) كان نبياً من صغره، وكان يرافقة ملك من لدن أن كان فطيماً، فلا بد أن يكون معنى الضلال الحيرة فيما يجب أن يفعله لهداية الناس، وليس الحيرة في ربه عزوجل.

قال الشريف المرتضى (رحمة الله) في تنزيه الأنبياء (علیهم السلام) /150: «في معنى هذه الآية أجوبة: أولها: أنه أراد وجدك ضالاً عن النبوة فهداك إليها، أو عن شريعة الإسلام التي نزلت عليه وأمر بتبليغها إلى الخلق. لأن الضلال هو الذهاب والإنصراف فلا بد من أمر يكون منصرفاً عنه». وقال أهل البیت (علیهم السلام) إن معنى آوى: آوى اليك المؤمنين، ومعنى فهدى: هداهم اليك».تنزيه الأنبياء/151. عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/177، كتاب عصمة الأنبياء للفخر الرازي/92، أخذ أكثره من تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى (رحمة الله)!

3. نعتقد بإيمان آباء النبي (صلی الله علیه و آله) إلى إسماعيل وإبراهيم وآدم:، وأن أجداده وعمه أباطالب كانوا على ملة إبراهيم (علیه السلام) الحنيفية، ولم يكونوا مكلفين باليهودية ولا بالمسيحية.

4. كان اليهود ينتظرون بعثة النبي الخاتم من الجزيرة، وجاءت لذلك مجموعات منهم بعد عيسى (علیه السلام)، وسكنت في وادي القرى، وخيبر، والمدينة، ومكة، وغيرها.

5. في السابعة والثلاثين من عمره (صلی الله علیه و آله) كان يأتيه جبرئيل (علیه السلام) ويعلمه، وفي الأربعين بدأ نزول الوحي عليه، وكان في أفق مبين واضح كما نص القرآن، ولم يكن في جو عُنفٍ وشكٍّ كما يرويه البخاري، بل نعتبر ذلك من طعن قريش في نبينا (صلی الله علیه و آله) أو من جهالة الراوي.

6. انتشر خبر بعثته (صلی الله علیه و آله) فاستشاط زعماء قريش غضباً، واتخذوا قراراً بقتله قبل أن يسمعوا حجته! لأنه نقض اتفاقية توزيع مناصب الشرف بين قبائل قريش ودعا إلى

ص: 17

زعامة بني هاشم! ثم أمره الله تعالى أن يدعو عشيرته الأقربين ويتخذ منهم وزيراً ووصياً، فقام بذلك، فزاد ذلك من غضب قريش واعتبروه نبأ عظيماً،لأنه جعل وصيه من عشيرته بني هاشم!

فالمرحلة الأولى من الدعوة، كانت خاصة ببني هاشم وتوحيدهم لحماية النبي (صلی الله علیه و آله) ومدتها ثلاث سنوات، لم يَدْعُ فيها النبي (صلی الله علیه و آله) غيرهم، حتى أهلك الله الفراعنة المستهزئين الخمسة وأوحى اليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ، فبدأ بالدعوة العامة.

وقد حرَّف رواة السلطة سِرِّيَّة الدعوة، لأن سريتها انحصرت بمن كتموا إسلامهم خوفاً من قريش كعمار، أو كتموه حرصاً على نجاح الدعوة كأبي طالب وحمزة.

أما النبوة وآيات القرآن وسوره فكانت علنية.

7. ضخَّم رواة السلطة دار الأرقم وجعلوها مرحلة في دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) لإثبات مناقب لبعض القرشيين، وادعوا أن المسلمين خرجوا من دار الأرقم إلى المرحلة العلنية، ولا وجود لمرحلة دار الأرقم أصلاً، ولا لإسلام عمر وأبي بكر في الفترة الأولى.

8. كانت الهجرة إلى الحبشة مرة واحدة، ولم يرجع المسلمون خطأ كما زعموا لما مدح النبي (صلی الله علیه و آله) أصنام قريش، ووصفها بأنها الغرانيق العلى وأن شفاعتها ترجى.

9. بيَّنا الرواية الصحيحة لمحاصرة النبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم في شعب أبي طالب، ومدتها، ورددنا ما ادعوه لبعض زعماء قريش أنهم عملوا لنقض صحيفة المحاصرة!

10. بينا أن الصحيح أن وفاة أبي طالب وخديجة (علیهما السلام) كانت قبل هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) بسنة وأشهر، وليس بثلاث سنوات، كما قيل.

11. عرض النبي (صلی الله علیه و آله) نفسه على نحو ثلاثين قبيلة ليحموه من قريش فيبلغ رسالة ربه، وقبلت بعضه القبائل حمايته بشرط أن تكون لها الخلافة بعده فرفض، وأخذ البيعة من الأنصار على أن يحموه وأهل بيته كما يحمون أنفسهم وذراريهم ولاينازعوهم الأمر.

ص: 18

12. زاد الخطر على حياة النبي (صلی الله علیه و آله) بعد وفاة عمه أبي طالب (رحمة الله) حتى اختبأ لفترة في الحجون، وتصاعد عملهم لقتله حتى طوقوا بيته فخرج مهاجراً بدون أن يشعروا، وأنام علياً (علیه السلام) مكانه. وفي طريقه (صلی الله علیه و آله) وجد أبابكر وغلامه فأخذهما معه، وجاء علي في اليوم التالي إلى الغار وجهزهم فهاجروا، ومعهم دليلهم عبدالله بن أريقط الجهني.

13. أدى علي (علیه السلام) أمانات النبي (صلی الله علیه و آله) في مكة، ونجا من محاولة اغتيال، وكانت هجرته ببقية أهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله) الهجرة العلنية الوحيدة، وبعثت له قريش مجموعة فرسان ليردوه، فقتل قائدهم وانهزم الباقون. وكان النبي (صلی الله علیه و آله) في انتظاره في قباء، ولما وصل اليه أخبره أن الله أنزل فيه وفي الفواطم آيات تمدحهم.

14. طلب أبوبكر من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يدخل المدينة ولاينتظر علياً (علیه السلام) في قباء، فأصر على انتظاره، فغضب أبوبكر وتركه في قباء وذهب إلى السنح، ولم يحضر هو ولا عمر في قُباء ولا في دخول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة.

15. أرسى النبي (صلی الله علیه و آله) أسس دولته في المدينة، وعقد معاهدات مع اليهود، وآخى بين المسلمين واختار علياً (علیه السلام) فآخاه.

16. كان انتصار المسلمين في بدر كاسحاً، وقامت المعركة على أكتاف بني هاشم، وكان بطلها الأكبر علي (علیه السلام)،حيث قتل أكثر نصف السبعين فارساً، وقتل المسلمون أقل من نصفهم. ونزلت آية تأكيد الخمس لبني هاشم، وكان تشريع الخمس قبل بدر.

17. نزلت سورة الأنفال بعد بدر وفيها ذم مرضى القلوب، وتوبيخ بعضهم لفرارهم من الصف الأول، واختلافهم على الغنائم، واتهامهم النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه أخفى عباءة!

ولم يستفد الصحابة من توبيخهم في بدر فانهزموا في أحُد وتركوا النبي (صلی الله علیه و آله) لسيوف المشركين، وطعنوا في قيادته وإدارته وقالوا: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا! وثبت مع النبي (صلی الله علیه و آله) أبو دجانة ونسيبة فجرحا، وثبت عليٌّ (علیه السلام) وقاتل وحده حتى

دفع الله المشركين وهزمهم!

ص: 19

18. وفي غزوة الأحزاب طالت محاصرة المشركين للمدينة نحو شهر، فخاف المسلمون وفرَّ أكثرهم من المرابطة وتسللوا إلى المدينة بأعذار مختلفة! حتى بقي مع النبي (صلی الله علیه و آله) ذات ليلة في حراسة الخندق اثنا عشر شخصاً فقط! وتواطأ بعضهم مع المشركين فعبَّروا فرساناً منهم من نقطة من الخندق بقيادة فارس العرب عمرو بن ود العامري، فدعا النبي (صلی الله علیه و آله) الصحابة إلى مبارزته فخافوا، فبرز اليه علي (علیه السلام) وقتله وقتل بعض رفاقه، فهرب الباقون ووقع الرعب في المشركين، وأرسل الله عليهم الريح فتمت هزيمتهم.

19. في غزوة النبي (صلی الله علیه و آله) ليهود بني قينقاع والنظير وقريظة، كان بطل الإسلام عليٌّ (علیه السلام) فقتل عدداً من أبطالهم، فخضعوا لشروط النبي (صلی الله علیه و آله) بالجلاء عن المدينة.

20. وكان لعلي (علیه السلام) أدوار في غزوة الحديبية، فعتَّم عليها رواة السلطة، وبيَّناها!

21. وكانت خيبر قسمين: حصون النطاة وأهمها حصن ناعم، وحصون الشق وأهمها حصن القموص. فحاصر النبي (صلی الله علیه و آله) حصن ناعم وهاجمه علي (علیه السلام) فدحا بابه وفتحه، ثم أبقاه النبي (صلی الله علیه و آله) هناك لترتيب وضعها، واتجه إلى حصن القموص فحاصره لمدة شهر أو نحوه، فكان المسلمون يهاجمونه يومياً تقريباً ويرجعون مهزومين! حتى طلبوا من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يحضر علياً (علیه السلام) فأحضره وأخبرهم أنه سيفتح الحصن، فهاجم علي (علیه السلام) الحصن وحده ودحا بابه الحديدي الثقيل، وقتل بطلهم مرحباً، وفتح الحصن!

22. وفي غزوة حنين انهزم المسلمون، وكانوانحو عشرة آلاف، فثبت مع النبي (صلی الله علیه و آله) بنو هاشم فقط، وقاتل علي (علیه السلام) وحده فقتل أربعين من حملة الرايات، وحقق النصر!

ثم حاصر النبي (صلی الله علیه و آله) حصن الطائف، وكان المسلمون يهاجمونه فلم يستطيعوا فتحه، وكان علي (علیه السلام) في مهمة عسكرية، فاتفق النبي (صلی الله علیه و آله) مع ثقيف وأنهى حصار الطائف.

23. بعد حنين أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) إلى اليمن مرات، فاستكمل فتحها وترتيب

ص: 20

أوضاعها، وكانت له فيها جولات وبطولات، أخفاها رواة السلطة.

24. تتميز هذه السيرة بتسليط الضوء على خلافة النبي (صلی الله علیه و آله) وإثبات أنها كانت مطروحة من أول بعثته لما أمره الله تعالى بأن يدعو عشيرته الأقربين، ويطلب منهم وزيراً يبايعه على دعوته ليتخذه أخاً ووصياً، فاستجاب له علي (علیه السلام) فأعلنه: «أخاه ووزيره ووصيه وخليفته من بعده» وأمرهم بطاعته، فقال أبولهب لأبي طالب: لقد أمرك بأن تطيع ابنك هذا!

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يعرض نفسه على القبائل لتحميه، فاستجابت له عدة قبائل، لكنها اشترطت أن تكون لها الخلافة بعده، فلم يقبل.

ثم كانت الخلافة مطروحة عند منافسي علي (علیه السلام) فانقسم المسلمون في عهد النبي (صلی الله علیه و آله) إلى شيعة علي ومبغضيه، وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يمدح علياً (علیه السلام) وشيعته، ويذم من أبغضهم.

ثم كانت مطروحة بعد فتح مكة، وكانت الشغل الشاغل لقريش وحلفائها اليهود، فحاولوا اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله) مراراً، ليأخذوا دولته ويفرضوا خليفة منهم!

في الختام ننبه إلى أن مصادرنا هي من طبعة برنامجنا «مكتبة أهل البیت (علیهم السلام) - الإصدار الثاني». وننبه إلى أنا قد نذكر الصلاة على النبي (صلی الله علیه و آله) كاملة وهي في المصدر ناقصة.

نسأل الله تعالى بجاه أحب خلقه اليه محمد وآله الطاهرين (صلی الله علیه و آله) أن يتقبل منا هذا العمل ويشملنا بشفاعته صلوات الله عليه وآله المعصومين.

كتبه بقم المشرفة: علي الكَوْراني العاملي

غرة ربيع المولد1429 ثم في ربيع المولد سنة1436

ص: 21

ص: 22

الفصل الأول: أول ماخلق الله نورالنبی (صلی الله علیه و آله)

1- عوالم وجودنا قبل هذا العالم

إن وجودنا الفعلي ليس أول وجودنا ولا آخره، فقد تظافرت الأدلة من القرآن والسنة وكشوف العلم، على أنا كنا موجودين في عوالم قبل عالمنا هذا، واشتهر منها عالم الذر الذي قال الله تعالى عنه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا..

وقد نصت الآيات والأحاديث على أن الله امتحن الناس في عالم الذر امتحاناً كاملاً شاملاً، وأن عملنا في هذا العالم تطبيقٌ لما اخترناه بإرادتنا الكاملة هناك.

وورد أن الناس تعارفت أرواحهم في عالم الذر، فائتلفوا أو اختلفوا.

ويسمى عالم الأظلة أيضاً، وفي بعض الروايات عالم الأشباح النورانية، وعالم الأنوار الأولى، وأنه أول ظلال أو فَئْ خلقه الله تعالى من نور عظمته.

كما ورد إسم عالم الطينة، بمعنى الأصل الذي خلق منه الناس.

كما أن قوله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً، يشير إلى عالمٍ للإنسان حين كان شيئاً ولكن غير مذكور. راجع العقائد الإسلامية: 1/60.

ص: 23

2- خلق الله نور نبينا وآله (صلی الله علیه و آله) قبل هذا العالم

وأحاديثه في مصادرنا ومصادر غيرنا كثيرة، وقد بحثها السيد الميلاني في المجلد الخامس من «نفحات الأزهار»، ونورد منها:

أ. ما نص على أن الله تعالى خلق نور النبي (صلی الله علیه و آله) قبل خلق الخلق، كما في الخصال/481 عن علي (علیه السلام): «إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد (صلی الله علیه و آله) قبل أن خلق السماوات والأرض والعرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار، وقبل أن خَلَقَ آدم ونوحاً وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى:...

وخلق الله عزوجل معه اثني عشر حجاباً: حجاب القدرة، وحجاب العظمة، وحجاب المنة، وحجاب الرحمة، وحجاب السعادة وحجاب الكرامة، وحجاب المنزلة، وحجاب الهداية، وحجاب النبوة، وحجاب الرفعة، وحجاب الهيبة، وحجاب الشفاعة. ثم حبس نور محمد (صلی الله علیه و آله) في حجاب القدرة اثني عشر ألف سنة وهو يقول: سبحان ربي الأعلى، وفي حجاب العظمة أحد عشر ألف سنة وهو يقول: سبحان عالم السر، وفي حجاب المنة عشرة آلاف سنة وهو يقول: سبحان من هو قائم لا يلهو..الخ.».

فهو صريح بأنه (صلی الله علیه و آله) خلقه الله تعالى قبل كل شئ.

ب. ومنها أن عترة النبي (صلی الله علیه و آله) خلقوا مع نوره (صلی الله علیه و آله) ففي الكافي: 1/442: «قال لي أبوجعفر (علیه السلام): يا جابر إن الله أول ما خلق خلق محمداً وعترته الهداة المهتدين، فكانوا أشباح نور بين يدي الله. قلت: وما الأشباح؟ قال: ظل النور، أبدان نورانية بلا أرواح، وكان مؤيداً بروح واحدة وهي روح القدس فبه كان يعبدالله وعترته، ولذلك خلقهم حلماء علماء بررة أصفياء، يعبدون الله بالصلاة والصوم والسجود والتسبيح والتهليل، ويصلون الصلوات، ويحجون ويصومون».

ج. ومنها أن نبينا (صلی الله علیه و آله) أول من أجاب في عالم الذر عندما خلق الله البشر، وامتحنهم، ففي بصائر الدرجات/83،عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن بعض قريش قال لرسول الله (صلی الله علیه و آله): بأي شئ سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إني كنت

ص: 24

أول من أقرَّ بربي، وأول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيين و: أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى، وكنت أنا أول نبي قال بلى، فسبقتهم بالإقرار بالله».

د. ومنها: أن الله تعالى بعث نبينا (صلی الله علیه و آله) نبياً للناس في عالم الأظلة، ففي تفسير العياشي: 2/126، عن زرارة وحمران، عن أبي جعفر وأبي عبدالله (صلی الله علیه و آله) قالا: «إن الله خلق الخلق وهي أظلة فأرسل رسوله محمداً (صلی الله علیه و آله) فمنهم من آمن به ومنهم من كذبه، ثم بعثه في الخلق الآخر فآمن به من كان آمن في الأظلة، وجحده من جحد به يومئذ، فقال: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ».

وفي بصائر الدرجات/104: «سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى. قال: يعني به محمداً (صلی الله علیه و آله)،حيث دعاهم إلى الإقرار بالله في الذر الأول».

ه. ومنها: أن النبي وآله (صلی الله علیه و آله) كانوا حول العرش، وأنهم الكلمات التي تلقاها آدم (علیه السلام) ففي شرح الأخبار: 3/6، عن صفوان الجمال قال: «دخلت على أبي عبدالله جعفر بن محمد (علیه السلام) وهو يقرأ هذه الآية: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، ثم التفت إليَّ فقال: يا صفوان إن الله تعالى ألهم آدم (علیه السلام) أن يرمي بطرفه نحو العرش فإذا هو بخمسة أشباح من نور يسبحون الله ويقدسونه، فقال آدم: يا رب من هؤلاء؟ قال: يا آدم صفوتي من خلقي، لولاهم ما خلقت الجنة ولا النار، خلقت الجنة لهم ولمن والاهم، والنار لمن عاداهم. لو أن عبداً من عبادي أتى بذنوب كالجبال الرواسي، ثم توسل إليَّ بحق هؤلاء لعفوت له. فلما أن وقع آدم في الخطيئة قال: يا رب بحق هؤلاء الأشباح إغفر لي، فأوحى الله عزوجل إليه: إنك توسلت إلي بصفوتي وقد عفوت لك. قال آدم: يا رب بالمغفرة التي غفرت إلا أخبرتني من هم؟ فأوحى الله إليه: يا آدم هؤلاء خمسة من ولدك، لعظيم حقهم عندي اشتققت لهم خمسة أسماء من أسمائي، فأنا المحمود وهذا محمد، وأنا الأعلى وهذا علي، وأنا الفاطر وهذه فاطمة، وأنا المحسن وهذا الحسن، وأنا الإحسان وهذا الحسين».

ص: 25

و. ومنها: أن الله تعالى خلق أربعة عشر معصوماً (علیهم السلام) من نور عظمته، ففي المحتضر /228، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «إن الله عزوجل خلق أربعة عشر نوراً من نور عظمته قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فهي أرواحنا. فقيل له: يا ابن رسول الله عُدَّهم بأسمائهم فمن هؤلاء الأربعة عشر نوراً؟ فقال: محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والتسعة من ولد الحسين، تاسعهم قائمهم. ثم عدهم بأسمائهم وقال: نحن والله الأوصياء الخلفاء من بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ونحن المثاني التي أعطاها الله تعالى نبينا محمداً (صلی الله علیه و آله)، ونحن شجرة النبوة،ومنبت الرحمة، ومعدن الحكمة، ومصباح العلم، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، وموضع سر الله، ووديعة الله جل اسمه في عباده، وحرم الله الأكبر، وعهده المسؤول عنه، فمن وفى بعهدنا فقد وفى بعهد الله، ومن خفره فقد خفر ذمة الله وعهده، عرفنا من عرفنا، وجهلنا من جهلنا. نحن الأسماء الحسنى الذين لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا، ونحن والله الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه.

إن الله تعالى خلقنا فأحسن خلقنا، وصورنا فأحسن صورنا، وجعلنا عينه على عباده، ولسانه الناطق في خلقه، ويده المبسوطة عليهم بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه، وبابه الذي يدل عليه، وخزان علمه، وتراجمة وحيه، وأعلام دينه، والعروة الوثقى، والدليل الواضح لمن اهتدى، وبنا أثمرت الأشجار، وأينعت الثمار، وجرت الأنهار، ونزل الغيث من السماء، ونبت عشب الأرض، وبعبادتنا عبدالله تعالى ولولانا لما عرف الله تعالى، وأيم الله لولا كلمة سبقت وعهد أخذ علينا لقلت قولاً يعجب منه أو يذهل منه الأولون والآخرون».

ز. ومنها: أحاديث خلق نور علي (علیه السلام) مع نور النبي (صلی الله علیه و آله)، وقد رواها الجميع، ففي مناقب علي لأبي بكر بن مردويه/285، أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزئين، فجزءٌ أنا وجزء علي».

كما روى ابن مردويه بسنده عن الباقر (علیه السلام) عن آبائه عن جده (صلی الله علیه و آله)، قال: «كنت أنا وعلي

ص: 26

نوراً بين يدي الله تعالى من قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله تعالى آدم سلك ذلك النور في صلبه، فلم يزل الله تعالى ينقله من صلب إلى صلب، حتى أقره في صلب عبدالمطلب، فقسمه قسمين: قسماً في صلب عبدالله، وقسماً في صلب أبي طالب، فعلي مني وأنا منه، لحمه لحمي، ودمه دمي، فمن أحبه فبحبي أحبه، ومن أبغضه فببغضي أبغضه».

ومثله الخصال للصدوق/640،وأمالي الطوسي/183، وفيه: «فجعل في عبدالله نصفاً، وفي أبي طالب نصفاً، وجعل النبوة والرسالة فيَّ، وجعل الوصية والقضية في علي، ثم اختار لنا إسمين اشتقهما من أسمائه، فالله المحمود وأنا محمد، والله العلي وهذا علي، فأنا للنبوة والرسالة وعلي للوصية والقضية».

ورواه العلامة في كشف اليقين/11ونهج الحق/212، عن ابن مردويه وابن حنبل، وابن المغازلي وفيه: «حتى قسمه جزءين، فجعل جزءً في صلب عبدالله، وجزءً في صلب أبي طالب فأخرجني نبياً، وأخرج علياً ولياً».

ح. ومنها أن الله تعالى خلق نور نبيه (صلی الله علیه و آله) وخلق معه نور علي وفاطمة (علیهما السلام) .

«ففي الكافي: 1/441»: «عن محمد بن سنان قال: كنت عند أبي جعفر الثاني (علیه السلام) فأجريت اختلاف الشيعة فقال: يا محمد إن الله تبارك وتعالى لم يزل متفرداً بوحدانيته، ثم خلق محمداً وعلياً وفاطمة:فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها، وفوض أمورها إليهم، فهم يحلون ما يشاؤون ويحرمون ما يشاؤون، ولن يشاؤوا إلا أن يشاء الله

تبارك وتعالى.

ثم قال: يا محمد، هذه الديانة التي من تقدمها مرق، ومن تخلف عنها محق، ومن لزمها لحق، خذها إليك يا محمد».

ص: 27

3- أحاديث خلق نور النبي (صلی الله علیه و آله) في مصادر السنيين

أ. روت عدداً منها مصادرهم وصححوا بعضها وضعفوا أكثرها، وجردوه من ذكر العترة! ففي مجمع الزوائد: 8/223: «عن ميسرة العجر، قال: قلت يا رسول الله متى كتبت نبياً؟ قال: وآدم بين الروح والجسد. رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح».

ب. وأشهرها حديث: كنت أنا وعليٌّ نوراً بين يدي الرحمان، رواه ابن حنبل في فضائل الصحابة: 2/262، عن سلمان قال: «سمعت حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله عزوجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلقالله آدم قسم ذلك النور جزءين، فجزء أنا وجزء علي».

وقد اجتزأه ابن حنبل، لأن نصه كما في تاريخ دمشق: 42/67: «كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله، مطيعاً، يسبح الله ذلك النور ويقدسه، قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام. فلما خلق الله آدم رَكَزَ ذلك النور في صلبه، فلم نَزل في شئ واحد حتى افترقنا في صلب عبدالمطلب، فجزءٌ أنا وجزءٌ علي».

وهذا النص مجتزأ أيضاً، فقد نقله في شرح النهج: 9/171 عن الفردوس وقال: «رواه أحمد في المسند، وفي كتاب فضائل علي، وذكره صاحب كتاب الفردوس، وزاد فيه: ثم انتقلنا حتى صرنا في عبدالمطلب، فكان لي النبوة ولعلي الوصية».

ولا تجده في مسند أحمد فلا بد أنه حذف، وبقي في مناقب الصحابة، أما في الفردوس فنصه الموجود: 3/283 كرواية أحمد، وكذا في الرياض النضرة للطبري/392!

ج. ومنها حديث العرباض رواه أحمد: 4/127: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إني لعبدالله وخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت. وكذلك أمهات النبيين يَرَيْن».ورواه الحاكم: 2/418 و600 و608، صححه، وكنز العمال: 11/409، 11/418 و449 و450 والدر المنثور: 1/139 و 5/184 و207 و 6/213.

وفي مجمع الزوائد: 8/223: رواه أحمد بأسانيد، والبزار والطبراني.. رجاله رجال الصحيح».

د. ومنها: حديث: أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر،قال في كشف الخفاء: 1/265

ص: 28

«رواه عبدالرزاق بسنده عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شئ خلقه الله قبل الأشياء؟ قال: يا جابر، إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم، ولا جنة ولا نار، ولا ملك ولا سماء ولا أرض، ولا شمس ولا قمر، ولا جني ولا إنسي! فلما أراد الله أن يخلق الخلق قَسَم ذلك النور أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول حملة العرش، ومن الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأول السماوات، ومن الثاني الأرضين، ومن الثالث الجنة والنار. ثم قسم الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله، ومن الثالث نور إنسهم وهو التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.. الحديث..

كذا في المواهب، وقال فيها أيضاً: واختُلف هل القلم أول المخلوقات بعد النور المحمدي أم لا؟ فقال الحافظ أبو يعلى الهمداني: الأصح أن العرش قبل القلم، لما ثبت في الصحيح عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قدر الله مقاديرالخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء. فهذا صريح في أن التقدير وقع بعد خلق العرش...

وقيل: الأولية في كل شئ بالإضافة إلى جنسه، أي أول ما خلق الله من الأنوار نوري، وكذا باقيها. وفي أحكام ابن القطان فيما ذكره ابن مرزوق عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: كنت نوراً بين يدي ربي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام... قال الشبراملسي: ليس المراد بقوله من نوره ظاهره من أن الله تعالى له نور قائم بذاته لاستحالته عليه لأن النور لايقوم إلا بالأجسام، بل المراد خلق من نور مخلوقٍ له قبل نور محمد، وأضافه إليه تعالى، لكونه تولى خلقه. ثم قال: ويحتمل أن الإضافة بيانية، أي خلق نور نبيه من نور

ص: 29

هو ذاته تعالى، لكن لابمعنى أنها مادة خلق نور نبيه منها، بل بمعنى أنه تعالى تعلقت إرادته بإيجاد نور بلا توسط شئ في وجوده، قال: وهذا أولى الأجوبة نظير ما ذكره البيضاوي في قوله تعالى: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، حيث قال: أضافه إلى نفسه تشريفاً وإشعاراً بأنه خلق عجيب، وأن له مناسبة إلى حضرة الربوبية».

ه. وروى في كنز العمال 12/427، حديث ابن عباس وشعر حسان قال: سئل النبي: «فداك أبي وأمي أين كنت وآدم في الجنة؟ فقال (صلی الله علیه و آله): كنت في صلبه وركب بي السفينة في صلب أبي نوح وقذف بي في صلب أبي إبراهيم، لم يلتق أبواي قط على سفاح، لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسنة إلى الأرحام الطاهرة، مصفى مهذباً، ولا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما، قد أخذ الله بالنبوة ميثاقي وبالإسلام عهدي، ونشر في التوراة والإنجيل ذكري، وبين كل نبي صفتي، تشرق الأرض بنوري، والغمام لوجهي، وعلمني كتابه، ورقى بي في سمائه، وشق لي إسماً من أسمائه، فذو العرش محمود وأنا محمد.ووعدني أن يحبوني بالحوض والكوثر، وأن يجعلني أول مشفع، ثم أخرجني من خير قرن لأمتي، وهم الحمادون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.قال ابن عباس: فقال حسان:

من قبلها طبت في الظلال *** وفي مستودع حيث يُخصف الورق

ثم سكنت البلاد لا بشرٌ *** أنت ولا نطفة ولا علق

مطهر تركب السفين وقد *** ألجم أهل الضلالة الغرقُ

تنقل من صلب إلى رحم *** إذا مضى عالم بدا طبق»

ومجمع الزوائد: 8/217، نحوه المناقب: 1/27، نسبو ه إلى العباس والصحيح أنه لحسان.

4- ملاحظات على أحاديث نور النبي (صلی الله علیه و آله)

اشارة

1. إن ابتداء خلق الكون بخلق نور النبي (صلی الله علیه و آله) حقيقةٌ كبيرة في تكوين الكون وإدارته، وتسمى الحقيقة المحمدية. وهي تدل على أن النبي (صلی الله علیه و آله) مشروع خاص لايقاس به أحد حتى الأنبياء (علیهم السلام) .ومعه عترته المعصومون علي وفاطمة والحسنان والتسعة من

ص: 30

ذرية الحسين علیهم السلام، الذين خلق نورهم مع نوره أو اشتقه منه، فهم جزءٌ لا يتجزأ من الحقيقة المحمدية. وهذا يفتح باباً لتفسير مقاماتهم:.

2.لايمكن لأحد أن ينفي أن الله تعالى بَدَأَ خلق الكون بنور محمد (صلی الله علیه و آله) لأن قدرتنا المعرفية لاتسمح لنا بالنفي أو الإثبات! فلم نكن حاضرين عندما بدأ الله تعالى خلقه، ولا وسائل عندنا لمعرفة ذلك، إلا بما أخبرنا به الوحي إلى النبي (صلی الله علیه و آله) .

فيجب أن نعترف بأن معلوماتنا محدودة رغم تطور العلم وكشفه الكثير عن النور والأشعة، واستفادة العلماء منها في الطب والحرب. ورغم اكتشاف آينشتاين نظرية النسبية الخاصة والعامة، اللتين تجعلان الزمن ركناً في وجود المادة، وتقدمان حقائق جديدة عن النور والحركة، وعن تحولها إلى طاقة وبالعكس، وإمكانية سفر الإنسان في المستقبل وفي الماضي!

إلا أنا مع كل ذلك، لا نعرف كيف بدأ الله تعالى خلق الكون، وغاية ما توصل اليه العلماء مرحلة الغيوم السديمية، ثم وصلوا إلى أنه كان قبلها بحرغاز سائل.

فمسائل بدء الخلق ثم تنويعه وتطويره، من الأسرار التي هي فوق قدرتنا!

3. حاول أتباع الخلافة تحريف أحاديث خلق نور النبي (صلی الله علیه و آله) وآله:، فجعلوها في أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة ومعاوية، أو في قريش كلها، لتشمل الذين اتخذوهم أئمة مقابل أهل البیت (علیهم السلام) . ثم حذفوا منها ما يشهد بإيمان آباء النبي (صلی الله علیه و آله) وأمهاته إلى إبراهيم ثم إلى آدم:، كالذي رواه السيوطي في الدر المنثور: 3/295: «ثم لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، حتى أخرجني من بين أبويَّ، لم يلتقيا على سفاح قط».

وسبب حذفهم لها أنها تثبت وراثة النبي لآبائه المؤمنين:ووراثة عترته له، فلا يبقى محل لزيد وعمرو! وأشد نص عليهم حديث نور محمد (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) وإن رووه هم، لأن فيه: «ثم انتقلنا حتى صرنا في عبدالمطلب فكان لي النبوة ولعلي الوصية». فهو يعني أن علياً وصي النبي (صلی الله علیه و آله) بأمر الله تعالى، فتكون بيعة السقيفة مخالفة لوصية النبي (صلی الله علیه و آله)!

ص: 31

رواياتهم التي تحاول تحريف أحاديث النور

قال السيوطي في الدر المنثور: 3/295: «عن ابن عباس أن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه، فلما خلق الله آدم ألقى ذلك النور في صلبه. قال رسول الله: فأهبطني الله إلى الأرض في صلب آدم، وجعلني في صلب نوح، وقذف بي في صلب إبراهيم، ثم لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، حتى أخرجني من بين أبويَّ لم يلتقيا على سفاح قط».

ورواه في ذيل تاريخ بغداد: 2/94 والخصائص: 1/66، وقال: «ويشهد لهذا ما أخرج الحاكم والطبراني عن خريم بن أوس قال: هاجرت إلى رسول الله منصرفه من تبوك فسمعت العباس يقول: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك...». وذكر شعر حسان..

وقال القاضي عياض: 1/82: «ويشهد بصحة هذا الخبر شعر العباس المشهور».

ويلاحظ أن القسم الأول من الحديث كلام ابن عباس وقد جعلوه للنبي (صلی الله علیه و آله) فصارت قريش كلها بمن فيها أئمة الكفر كأبي جهل وأبي لهب، نوراً قبل خلق آدم (علیه السلام)!

ولذا قال الحلبي في سيرته: 1/48: «قوله: فأهبطني، ينبغي أن لايكون معطوفاً على ما قبله من قوله: إن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله تعالى..الخ. فيكون نوره من جملة نور قريش، وإنه انفرد عن نور قريش، وأودع في صلب نوح..»!

ولهم تحريف آخر لمصلحة خلفاء قريش!

ففي تفسير الثعلبي: 7/111 والقرطبي: 12/286: «قال رسول الله: إن الله تعالى خلقني من نوره، وخلق أبابكر من نوري، وخلق عمر وعائشة من نور أبي بكر، وخلق المؤمنين من أمتي من الرجال من نور عمر، وخلق المؤمنات من أمتي من النساء من نور عائشة، فمن لم يحبني ويحب أبابكر وعمر وعائشة فما له من نور، فنزلت عليه: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ».

وقال في السيرة الحلبية: 1/241: «وفي رواية: لما انتقل النور إلى سبابته قال يا رب هل بقي في ظهري من هذا النور شئ؟ قال: نعم نور أخصاء أصحابه. فقال: يا رب اجعله

ص: 32

في بقية أصابعي، فكان نور أبي بكر في الوسطى، ونور عمر في البنصر، ونور عثمان في الخنصر، ونور علي في الإبهام. فلما أكل من الشجرة، عاد ذلك النور إلى ظهره»!

وقال السيد الميلاني في نفحات الأزهار: 5/190:

«حديث موضوع آخر في فضل الشيخين: قال السيوطي: أبو نعيم في أماليه.. عن أبي هريرة مرفوعاً: خلقني الله من نوره، وخلق أبابكر من نوري، وخلق عمر من نور أبي بكر، فخلق أمتي من نور عمر، وعمر سراج أهل الجنة. قال أبو نعيم: هذا باطل.. وقال في الميزان: هذا خبر كذب، ما حدث به واحد من الثلاثة، وإنما الآفة عندي فيه المنبجي لا يعرف... فإذا كان هذا الحديث موضوعاً باعتراف أبي نعيم والذهبي والسيوطي وابن عراق، فإن خبر خلق الثلاثة قبل آدم (علیه السلام) وكونهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) على يمين العرش، كذب بالأولوية».

أقول: ومثله في تاريخ دمشق: 30/164: «قال: حدثني جبريل أن الله لما خلق الأرواح اختار روح أبي بكر الصديق من بين الأرواح، وجعل ترابها من الجنة وماءها من الحيوان، وجعل له قصراً في الجنة من درة بيضاء، مقاصيرها فيها من الذهب والفضة البيضاء، وإن الله تعالى آلى على نفسه ألا يسأله عن حَسَنة ولايسأله عن سيئة»!

هذا، وقد كثرت مكذوباتهم في فضائل أبي بكر وعمر حتى زكمت أنوفهم! قال في كشف الخفاء: 2/419: «وباب فضائل أبي بكر الصديق رضيالله عنه أشهر المشهورات من الموضوعات، كحديث: إن الله يتجلى للناس عامة ولأبي بكر خاصة! وحديث: ما صب الله في صدري شيئاً إلا وصببته في صدر أبي بكر! وحديث: كان إذا اشتاق إلى الجنة قبَّل شيبة أبي بكر! وحديث: أنا وأبوبكر كفرسي رهان! وحديث: إن الله لما اختار الأرواح اختار روح أبي بكر»!

راجع: نفحات الأزهار: 5/13و 11/208 والوضاعون للأميني/387.

4. نلاحظ أن أخبار خلق نور النبي (صلی الله علیه و آله) مغيبةٌ عند أتباع الخلافة، فلا تسمعها في مساجدهم وخطبهم، ولاتراها في مناهجهم التربوية. اللهم إلا ما أخذه منها

ص: 33

بعض الصوفية، وبنوا عليه بناءاتهم. وهذا السلوك المتعمد في الإعراض عن ذكر مقامات النبي (صلی الله علیه و آله) موروث من طلقاء قريش الذين كانوا في زمنه (صلی الله علیه و آله) يسمون خيار الصحابة «عُبَّاد محمد»! ويتهمونهم بالغلو فيه لأنهم يؤمنون بمقاماته (صلی الله علیه و آله) ويتعبدون بأوامره ونصوصه!

وقد ورثهم في عصرنا بدوٌ أجلاف متعصبون لقريش وبني أمية، فقالوا «محمد طارش ومات» أي مبعوث أوصل رسالة وانتهى، وهو الآن لا ينفع!

بل قال شيخهم«عصاي هذه أنفع من محمد»! وقد ناقشني أحد مشايخهم في نسبة هذا الكلام لابن عبدالوهاب، فقلت له لا بأس: أنت هل ترى أن عصاك أفضل أم النبي (صلی الله علیه و آله) الآن؟ فبَكِمَ ولم يجب!

وقد حرم هؤلاء القساة الجفاة زيارة قبره (صلی الله علیه و آله)! وحكموا على المسلمين بالغلو والشرك لمجرد قولهم: «يا رسول الله إشفع لنا عند الله»!

وقد بحثنا ذلك في المجلد الخامس من العقائد الإسلامية، والمجلد الثاني من ألف سؤال وإشكال، وذكرنا أن طعن «القرشيات» في شخصية النبي (صلی الله علیه و آله) أسوأ من طعن الإسرائيليات في أنبياء الله الماضين:.

ص: 34

الفصل الثاني: جزيرة العرب في عصر النبی (صلی الله علیه و آله)

1- أحوال العرب في عصر النبي (صلی الله علیه و آله)

1- كان للعرب دول

كان للعرب في عصر النبي (صلی الله علیه و آله) دولة في اليمن، وكانوا في جزيرة العرب قبائل لاتضمهم دولة، وفي العراق قبائل بشكل دولة تحت نفوذ الفرس، وفي الشام والأردن دولة تحت نفوذ الروم،وكانوا في مصر أقلية تحت حكم القبط والروم.

ويمكن تقدير عدد العرب في كل الجزيرة بنصف مليون نسمة. لأن غاية ما أمكن لقريش أن تحشده من مكة لحرب الأحزاب أربعة آلاف مقاتل فلو حسبنا مقاتلاً من كل سبعة أشخاص يكون عددها في مكة وحولها أقل من أربعين ألفاً. وحشدت قبائل عرب الجزيرة نحو ثلاثين ألفاً، فلا يزيد عددها عن نصف مليون نسمة، وإن بالغنا قلنا مليون نسمة.

وكان عدد سكان المدينة في حرب الأحزاب نحو خمسة آلاف نسمة «الصحيح: 9/182»وعند وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) اثني عشرألفاً، وقد يكون عدد سكان المناطق القريبة من المدينة مثل عددها.

وذكر ابن حجر«فتح الباري: 81/15» أن عدد الذين أرسلهم النبي (صلی الله علیه و آله) في جيش أسامة ليبعدهم عن المدينة ثلاثة آلاف فيهم سبع مئة قرشي! قال: «لم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة، منهم أبوبكر وعمر...وعند الواقدي أيضاً أن عدة ذلك الجيش كانت ثلاثة آلاف فيهم سبع مائة من قريش».

ص: 35

وهذا يعني أن عدة آلاف من طلقاء قريش جاؤوا إلى المدينة بعد فتح مكة، فوصل عدد سكانها إلى اثني عشر ألفاً.

أما عرب اليمن فكانوا نحو مليون، وعرب العراق والشام وفلسطين نحو مليون. فيكون مجموع العرب في الجزيرة وخارجها أقل من ثلاثة ملايين نسمة.

2- الحالة الإقتصادية للعرب

كان اليمانيون يعيشون على الزراعة وتربية المواشي، والتجارة وبعض الصناعات، وكذا العرب في مصر والعراق والشام وفلسطين. وكان عرب الجزيرة في فقر شديد، تكثر فيهم الغارات والنهب، فليس في الجزيرة إلا واحات قليلة للزراعة، ومراعٍ شحيحة للماشية. وكان لقريش تجارة بين الحجاز واليمن والشام ومصر، في رحلتي الشتاء والصيف.

3- أديان العرب قبل الإسلام

كان عرب الجزيرة والعراق وثنيين، يعبدون أصناماً عديدة، أهمها: هُبَل واللات والعُزَّى ومُنَاة، وكان فيهم بقية من دين إبراهيم (علیه السلام) .

وكان فيهم أقلية يهودية، في وادي القرى وتيماء وخيبر وضواحي المدينة ومكة.

وكانت وثنية اليمنيين غير حادة، وفيهم أقلية يهودية في صنعاء وغيرها، وأقلية مسيحية في نجران وحولها. أما عرب الشام وفلسطين ومصر، فانتشرت فيهم المسيحية، بحكم كونهم تحت النفوذ الروماني.

قال الإمام الصادق «الكافي: 4/212»: «إن العرب لم يزالوا على شئ من الحنيفية: يصلون الرحم، ويُقْرُون الضيف، ويحجُّون البيت، ويقولون إتقوا مال اليتيم فإن مال اليتيم عِقال، ويكفُّون عن أشياء من المحارم مخافة العقوبة، وكانوا لا يُمْلَى لهم إذا انتهكوا المحارم، وكانوا يأخذون من لحاء شجر الحرم فيعلقونه في أعناق الإبل فلا يجترئ أحد أن يأخذ من تلك الإبل حيثما ذهبت، ولا يجترئ أحد أن يعلق من غير لحاء شجر الحرم، أيهم فعل ذلك عوقب. وأما اليوم فأمليَ لهم، ولقد جاء أهل

ص: 36

الشام فنصبوا المنجنيق على أبي قبيس، فبعث الله عليهم سحابة كجناح الطير، فأمطرت عليهم صاعقة، فأحرقت سبعين رجلاً حول المنجنيق».

ومعنى كلامه (علیه السلام) أن الله تعالى أملى للعرب بعد الإسلام فلم يعاقبهم إذا تعدوا على حرمة الحرم، إلا في حالات قليلة، منها عندما تحصن ابن الزبير في الحرم وهاجمه يزيد سنة 63 هجرية، ثم هاجمه عبدالملك سنة 73، فعاقبهم الله تعالى بصاعقة، فلم يتعظوا ولم ينتهوا وأغواهم الحجاج، فتركهم الله في غيهم!

قال الطبري: 5/29: «فرعدت السماء وبرقت وعلا صوت الرعد والبرق على الحجارة فاشتمل عليها «غلب صوتها»! فأعظم ذلك أهل الشام فأمسكوا أيديهم، فرفع الحجاج بَرْكة قبائه فغرزها في منطقته، ورفع حجر المنجنيق فوضعه فيه، ثم قال: إرموا، ورمى معهم! قال: ثم أصبحوا، فجاءت صاعقة تتبعها أخرى فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلاً فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: يا أهل الشأم لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة، هذه صواعق تهامة، هذا الفتح قد حضر فأبشروا! إن القوم يصيبهم مثل ما أصابكم!

فصَعَقَتْ من الغد فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون. وأنتم على الطاعة وهم على خلاف الطاعة»!

وفي نهاية ابن كثير: 8/363: «فنزلت صاعقة على المنجنيق فأحرقته، فتوقف أهل الشام عن الرمي والمحاصرة فخطبهم الحجاج فقال: ويحكم ألم تعلموا أن النار كانت تنزل على من كان قبلنا فتأكل قربانهم إذا تقبل منهم! فلولا أن عملكم مقبول ما نزلت النار فأكلته! فعادوا إلى المحاصرة»!

4- كان العرب أميين

كان العرب أميين أي ليس لهم كتاب سماوي. قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) «نهجالبلاغة: 1/199»: «أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً (صلی الله علیه و آله) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً، ولايدَّعي نبوةً ولا وحياً، فقاتل بمن أطاعه من عصاه، يسوقهم إلى

ص: 37

منجاتهم، ويبادر بهم الساعة أن تنزل بهم. يحسر الحسير، ويقف للكسير فيقيم عليه حتى يُلحقه غايته، إلا هالكاً لا خير فيه، حتى أراهم منجاتهم، وبوأهم محلتهم، فاستدارت رحاهم، واستقامت قناتهم. وأيم الله لقد كنتُ من ساقتها حتى تولت بحذافيرها، واستوسقت في قيادها، ما ضعفتُ ولا جبنتُ، ولا خنتُ ولا وهنتُ. وأيم الله لأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته».

ومن خطبة له (علیه السلام): «إن الله بعث محمداً (صلی الله علیه و آله) نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل، وأنتم معشرالعرب على شر دينٍ وفي شر دار، متنخَّوْنَ بين حجارة خُشْن وحيات صُمّ، تشربون الكدَر، وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة». نهجالبلاغة: 1/66.

5- وكان العرب مجتمعاً محارباً

ففي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/281: «قلت له: جعلت فداك، لم سموا العرب أولادهم بكلب ونمر وفهد، وأشباه ذلك؟ قال: كانت العرب أصحاب حرب فكانت تُهَوِّلُ على العدو بأسماء أولادهم، ويسمون عبيدهم: فرج ومبارك وميمون، وأشباه ذلك، يتيمنون بها».

6- تكلم خمسة أنبياء بالعربية

روي أن الله تعالى بعث أربعة أنبياء يتكلمون العربية، فعن الإمام الحسين (علیه السلام) قال: «كان علي بن أبي طالب (علیه السلام) بالكوفة في الجامع إذ قام إليه رجل من أهل الشام فسأله عن مسائل فكان فيما سأله أن قال له: أخبرني عن خمسة من الأنبياء تكلموا بالعربية؟فقال: هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد، صلوات الله عليهم». الخصال/319.

وروي عن الباقر (علیه السلام): «أول من شق لسانه بالعربية إسماعيل بن إبراهيم، وكان أبوه يقول له وهما يبنيان البيت (علیهم السلام) يا إسماعيل هابي ابن، أي أعطني حجراً، فيقول له إسماعيل بالعربية: يا أبت هاك حجراً، فإبراهيم يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة». التبيان: 1/463.

ص: 38

وفي تحف العقول/297: «أول من شق لسانه بالعربية إسماعيل بن إبراهيم (صلی الله علیه و آله) وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان لسانه على لسان أبيه وأخيه، فهو أول من نطق بها وهو الذبيح».وفتح الباري: 6/286، عن علي (علیه السلام)، الجامع الصغير: 1/435 والقرطبي 1/283.

أقول: لابد أن يكون معنى الحديث أن إسماعيل (علیه السلام) أول من تكلم من أولاد إبراهيم بالعربية، وهي لغة محيطه من قبيلة جرهم وعرب الجنوب، أما لغته قبلها فكانت كأبيه وإخوته البابلية أو السريانية، ولغة أمه القبطية.

هذ ا، وقد رويت أحاديث في تكون اللغات، وهي مرسلة أو ضعيفة، يقلُّ فيها الصحيح، وزعم بعضها أن العربية لغة آدم (علیه السلام) ولغة أهل الجنة، والمعقول أن تكون لغة أهل الجنة أبلغ من كل لغات الدنيا.

7- إقرؤوا القرآن بألحان العرب

أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بإعراب القرآن وقراءته بألحان العرب، ففي الكافي: 2/614 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «أعربوا القرآن فإنه عربي،قال النبي (صلی الله علیه و آله): إن الرجل الأعجمي من أمتي ليقرأ القرآن بعجمية فترفعه الملائكة على عربية...قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق، وأهل الكبائر، فإنه سيجيئ من بعدي أقوام يُرَجِّعُون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية، لايجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة،وقلوب من يعجبه شأنهم»!

وعن الإمام الرضا (علیه السلام)، أن علي بن الحسين كان يقرأ القرآن: «فربما مرَّ به المارُّ فصُعق من حسن صوته، وإن الإمام لو أظهر من ذلك شيئاً لما احتمله الناس من حسنه! قلت: ألم يكن رسول الله (صلی الله علیه و آله) يصلي بالناس ويرفع صوته بالقرآن؟ فقال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يُحَمِّل الناس من خلفه ما يطيقون»!

ص: 39

8- أوجب الإسلام على عرب البادية الهجرة

وحرم عليهم التعرب بعد الهجرة، ففي النوادر لأحمد بن عيسى الأشعري/26: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا رضاع بعد فطام، ولا وِصال في صيام، ولا يُتْمَ بعد احتلام، ولا صمت يوم إلى الليل، ولا تعرب بعد الهجرة، ولا هجرة بعد الفتح، ولا طلاق قبل النكاح، ولا عتق قبل ملك، ولا يمين لولد مع والده ولا لمملوك مع مولاه ولا لمرأة مع زوجها، ولا نذر في معصية، ولا يمين في قطيعة رحم».

وفي النوادر/28، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لايصلح للأعرابي أن ينكح المهاجرة، يخرج بها من أرض الهجرة فيتعرب بها، إلا أن يكون قد عرف السنة والحجة، وإن أقام بهذا في أرض الهجرة فهو مهاجر».

9- الهجرة إلى طلب العلم

معنى الهجرة إلى طلب العلم: الهجرة إلى الأئمة (علیهم السلام)، ففي معاني الأخبار/265: «عن حذيفة بن منصور قال: سمعت أبا عبدالله (علیه السلام) يقول: المتعرب بعد الهجرة، التارك لهذا الأمر بعد معرفته». وهو مأخوذ من قوله تعالى: وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ.

وفي معاني الأخبار/157: عن عبدالمؤمن الأنصاري قال: قلت لأبي عبدالله (علیه السلام): «إن قوماً رووا أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: إن اختلاف أمتي رحمة؟ فقال: صدقوا، قلت: إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب؟ قال: ليس حيث ذهبت وذهبوا، إنما أراد قول الله عزوجل: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ. فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويختلفوا إليه فيتعلموا، ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم، إنما أراد اختلافهم من البلدان، لا اختلافاً في دين الله، إنما الدين واحد».

10- العروبة باللغة وليست بالنسب

نقل النبي (صلی الله علیه و آله) العروبة من النسب إلى اللغة، فعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «صعد

ص: 40

رسول الله (صلی الله علیه و آله) المنبر يوم فتح مكة فقال: أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها، ألا إنكم من آدم (علیه السلام) وآدم من طين، ألا إن خير عباد الله عبد اتقاه، إن العربية ليست بأبٍ والد، ولكنها لسانٌ ناطق، فمن قصر به عمله لم يبلغه حسبه». الكافي: 8/246 ودعائم الإسلام: 2/198.

11- وجَّه الإسلام عصبية العرب إلى التعصب للخير

فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): «فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور، التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل، بالأخلاق الرغيبة، والأحلام العظيمة، والأخطار الجليلة، والآثار المحمودة. فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبر، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض. واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال، وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم. فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت العافية فيه عليهم وانقادت النعمة له معهم...

فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل، فما أشد اعتدال الأحوال، وأقرب اشتباه الأمثال! تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم، يحتازونهم عن ريف الآفاق وبحر العراق وخضرة الدنيا إلى منابت الشيح، ومهافي الريح، ونكد المعاش! فتركوهم عالة مساكين إخوان دَبَر وَوَبَر، أذلَّ الأمم داراً، وأجدبهم قراراً، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها، ولا إلى ظل ألفة يعتمدون على عزها! فالأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة، في بلاء أزْل، وإطباق جهْل! من بنات موءودة، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة!

ص: 41

فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولاً، فعقد بملته طاعتهم وجمع على دعوته ألفتهم، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها، وأسالت لهم جداول نعيمها، والتفت الملة بهم في عوائد بركتها، فأصبحوا في نعمتها غرقين، وعن خضرة عيشها فكهين، قد تربعت الأمور بهم، في ظل سلطان قاهر وآوتهم الحال إلى كنف عز غالب. وتعطفت الأمور عليهم في ذرى ملك ثابت فهم حكام على العالمين، وملوك في أطراف الأرضين، يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم، ويمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم، لا تُغمز لهم قناة، ولا تُقرع لهم صفاة.

ألاوإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهلية. واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعراباً، وبعد الموالاة أحزاباً، ما تتعلقون من الإسلام إلا اسمه، ولاتعرفون من الإيمان إلا رسمه تقولون النار ولا العار، كأنكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه، انتهاكاً لحريمه ونقضاً لميثاقه الذي وضعه الله لكم حرماً في أرضه وأمناً بين خلقه.

وإنكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر، ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم، إلا المقارعة بالسيف حتى يحكم الله بينكم».«نهجالبلاغة: 2/150». وفي الكافي: 8/162عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: «إن الله يعذب الستة بالستة: العرب بالعصبية، والدهاقين بالكبر، والأمراء بالجور، والفقهاء بالحسد، والتجار بالخيانة، وأهل الرساتيق بالجهل».

2- أعلن النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) سيد العرب!

قالت قبائل قريش لبني هاشم: «أما رضيتم يا بني قصي أنكم ذهبتم بالحجابة والندوة والسقاية واللواء، حتى جئتمونا زعمتم نبي منكم»! «مجمع الزوائد: 6/70». ثم صَبَّت قريش حقدها على علي (علیه السلام) لأنه بطل معارك النبي (صلی الله علیه و آله) وقاتل فرسانها، فكانت تسميه قتَّال العرب! فأمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يسميه «سيد العرب»!

فقد روى الحاكم: 3/124، وصححه: «عن سعيد بن جبير عن عائشة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال:

ص: 42

أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب». ورواه في مجمع الزوائد: 9/131.

وروى في: 9/116عن أنس أن رسول الله قال: «مَنْ سيد العرب؟قالوا أنت يا رسول الله، فقال أنا سيد ولد آدم، وعليٌّ سيد العرب». والطبراني الأوسط:2/127.

وفي الطبراني الكبير: 3/88: «قال رسول الله: يا أنس إنطلق فادع لي سيد العرب يعني علياً، فقالت عائشة: ألست سيد العرب؟ قال: أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب. فلما جاء علي أرسل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الأنصار فأتوه فقال لهم: يا معشر الأنصار، ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: هذا علي فأحبوه بحبي وأكرموه لكرامتي، فإن جبريل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عزوجل».

وفي تاريخ بغداد: 11/90 عن سلمة بن كهيل قال: «مرَّ علي أبي طالب على النبي وعنده عائشة فقال لها: إذا سرك أن تنظري إلى سيد العرب فانظري إلى علي بن أبي طالب! فقالت: يا نبي الله ألست سيد العرب؟ فقال: أنا إمام المسلمين وسيد المتقين. إذا سرك أن تنظري إلى سيد العرب فانظري إلى علي بن أبي طالب».

وفي تاريخ دمشق: 42/305، عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رجل يا رسول الله أنت سيد العرب؟ قال: لا، أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب! وإنه لأول من ينفض الغبار عن رأسه يوم القيامة قبلي علي».

وفي الخصال/561، قال (صلی الله علیه و آله): «وأبناؤه الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة».

أقول: أراد النبي (صلی الله علیه و آله) بذلك أن يؤكد مكانة علي (علیه السلام)، ويرد الهجمة التي كانت تشنها قريش المشركة على بني هاشم وعلي (علیه السلام)، لكن حملتها استمرت عليه بعد النبي (صلی الله علیه و آله) مع الأسف! على يد المتأثرين بقريش من المسلمين.

فقد غصَّ أتباع الخلافة بحديث: علي سيد العرب، لأنه يجعل علياً (علیه السلام) سيداً لقبائل قريش وزعمائها، فحاولوا تضعيف الحديث كما فعل الهيثمي في مجمع الزوائد، بحجة أن في سنده ابن عبدالله الأهتم، وقال إنه شيعي ضعفه أبو داود!

وردَّ عليهم علماؤهم كالحافظ ابن الصديق المغربي في رسالته: إرغام المبتدع

ص: 43

الغبي بجواز التوسل بالنبي/58، فذكر له عدة طرق، وقال عن ابن الأهتم: «ذكره ابن أبي حاتم في الجرح ولم يجرحه. وهو بصري والبصريون أبعد الناس عن التشيع».

أما الذهبي إمام السلفيين النواصب، فاعترف في تاريخه: 3/635 بصحته مرغماً! ورواه في ميزان الإعتدال: 4/115 عن حذيفة بن اليمان بسند صحيح، قال: «لما تهيأ علي يوم خيبر للحملة قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي بأبي أنت، والذي نفسي بيده إن معك من لايخذلك، هذا جبرائيل عن يمينك بيده سيف لو ضرب به الجبال لقطعها، فاستبشر بالرضوان والجنة. يا علي إنك سيد العرب وأنا سيد ولد آدم. الحديث بطوله». ولم يكمل الذهبي رواية الحديث، لأن فيه مديحاً لعلي (علیه السلام) بأنه كرار غير فرار تعريضاً بفلان وفلان ممن فرُّوا في خيبر!

لكن يظهر أن مزاج الذهبي كان سيئاً حيث روى بعضه وقال باطل«لسان الميزان: 4/289»

وقال الصديق المغربي في رسالته في التوسل: «تحامل الذهبي على الحكم بوضع الحديث، لفهمه أن الحديث يقتضي تفضيل علي على الشيخين، وعلى أساس هذا الفهم رد هو وغيره كثيراً من الأحاديث في فضل علي، وحكموا بوضعها أو نكارتها، ولم يسلم من نقدهم بهذا الفهم إلا قليل.. بل يستنكرون الحديث الوارد في فضله، ولو لم يكن في سنده شيعي»!

وقال: «حكم بوضعه في مقدمة كتبها لبعض الرسائل، مستدلاً على وضعه بأن روح التشيع واضحة في الحديث، ولا أدري أين هذا التشيع الذي وضح له من الحديث! مع أن الحديث له شواهد وطرق! وعلى قوله هذا وقاعدته الفارغة، ينبغي ألا نقبل حديثاً في فضل علي ولو تواتر، لا سيما إذا كان يخبر بفضل لعلي لايوجد لغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، كحديث: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره! وهكذا إذا اتبع الإنسان كلَّ جاهل، وأجاب كلَّ صارخ، ولم يُعمل النظر ويبحث عن الأقوال قبل قائلها، فإنه يردُّ السنة الصحيحة جملة، ويعطي مع ذلك السلاح لأعداء الدين وملاحدة العصر في رد ما لايعجبهم ويوافق هواهم، من حديث سيد المرسلين!

ص: 44

وقد أقر الحافظ العسقلاني الذهبي على وضعه، فانظر لسان الميزان: 4/289 وقول الذهبي: موضوع، غلوٌّ غير مقبول! ذلك أن الحديث ورد من غير طريق

ابن علوان وعمر الوجيهي، فرواه الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك..».

ثم ذكر له عدة طرق، وبعضها صحيح على شرط الشيخين، وذكر أحاديث مشابهة ردوها رغم صحتها، لأنها تفضل علياً (علیه السلام) على غيره! ورواه: ابن أبي شيبة: 7/474،

تاريخ بغداد: 11/90، تاريخ دمشق: 42/304، 64/192، بعدة طرق، ذيل تاريخ بغداد: 5/60، السيرة الحلبية: 2/736 ونفحات الأزهار: 9/174.

أما معنى قول النبي (صلی الله علیه و آله) إن علياً (علیه السلام) ينهض من قبره قبل النبي (صلی الله علیه و آله) أنه يحمل لواءه يوم القيامة، ويكون أمامه مقدمة لموكبه.

3- وصف جاهلية العرب

1- وصفها المغيرة بن شعبة لعامل كسرى

کما في صحيح بخاري: 4/63: «حتى إذا كنا بأرض العدو وخرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً، فقام ترجمان فقال: ليكلمني رجل منكم، فقال المغيرة: سل عما شئت؟قال: ما أنتم؟ قال: نحن أناس من العرب، كنا في شقاء شديد، وبلاء شديد، نمص الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبدالشجر والحجر، فبينا نحن كذلك، إذ بعث رب السماوات ورب الأرضين تعالى ذكره وجلت عظمته، الينا نبياً من أنفسنا، نعرف أباه وأمه».

2- و وصفها جعفر بن أبي طالب للنجاشي

فقال: «كنا قوماً أهل جاهلية نعبدالأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه»! أحمد: 1/2020.

ص: 45

3- و وصف علي (علیه السلام) جاهلية العرب

فقال كما في نهجالبلاغة: 1/199 من خطبة له (علیه السلام): «أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً (صلی الله علیه و آله) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً، ولا يدَّعي نبوةً، ولا وحياً، فقاتل بمن أطاعه من عصاه، يسوقهم إلى منجاتهم، ويبادر بهم الساعة أن تنزل بهم. يحسر الحسير، ويقف الكسير فيقيم عليه حتى يلحقه غايته، إلا هالكاً لا خير فيه حتى أراهم منجاتهم، وبوأهم محلتهم، فاستدارت رحاهم، واستقامت قناتهم. وأيم الله لقد كنتُ من ساقتها، حتى تولت بحذافيرها، واستوسقت في قيادها، ما ضعفتُ ولا جبنتُ، ولا خنتُ ولا وهنتُ. وأيم الله لأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته».

ومن خطبة له (علیه السلام): «إن الله بعث محمداً (صلی الله علیه و آله) نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل وأنتم معشر العرب على شر دين، وفي شر دار، مُنِيخون بين حجارة خُشْن، وحيات صُمّ، تشربون الكدَر، وتأكلون الجَشَب، وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم. الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة».

وقد تقدم ذلك، وفي خطبه وكلماته (علیه السلام) وصف مفصل لجاهلية العرب، ووصف لعودتها بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله)!

4- و وصفت الزهراء (علیها السلام) جاهلية العرب

في خطبتها البليغة بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) بأسبوعين، حيث ذكَّرتهم بنعمة النبي (صلی الله علیه و آله) عليهم. وقد روت خطبتها مصادر الشيعة والسنة، وجاء فيها قولها (علیها السلام):

«ابتعثه الله إتماماً لأمره، وعزيمةً على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير رحمته، فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عكفاً على نيرانها، عابدةً لأوثانها، منكرةً لله مع عرفانها، فأنار الله بأبي محمداً (صلی الله علیه و آله) ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها، وجلى عن الأبصار عماها...وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القد، أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلی الله علیه و آله) بعد اللتيا والتي، وبعد أن مني ببهم الرجال

ص: 46

وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن الشيطان، أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيداً في أولياء الله، مشمراً ناصحاً، مجداً كادحاً لاتأخذه

في الله لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرون من القتال!

فلما اختار الله لنبيه (صلی الله علیه و آله) دار أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهرت فيكم حسيكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم ووردتم غير شربكم. هذا، والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لما يقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة! ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين..». الإحتجاج: 1/131.

4- نشر كعب الأحبار أمنياته بهلاك العرب!

استطاع كعب الأحبار أن يقنع عمر بن الخطاب في خلافته بأن الإسلام كالبعير سيكبر عن قريب ويهرم وينتهي! وأن قريشاً والعرب سيهلكون ويبادون! وأن الكعبة ستهدم فلا تبنى أبداً! ومكة تخرب فلا تعمر أبداً!

ففي مسند أحمد: 3/463: «كنت في مجلس فيه عمر بن الخطاب بالمدينة فقال لرجل من القوم: يا فلان كيف سمعت رسول الله ينعتُ الإسلام؟ قال: سمعت رسول الله يقول: إن الإسلام بدأ جذعاً ثم ثنياً ثم رباعياً ثم سديسياً ثم بازلاً. فقال عمر بن الخطاب: فما بعد البزول إلا النقصان»! البزول أقصى سن البعير-

الصحاح: 4/1321.

ص: 47

وهكذا صارت فرية كعب الأحبار حديثاً نبوياً في أصح كتب الخلافة!

فقد روى أحمد: 1/23، عن عمر أنه سمع رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «سيخرج أهل مكة ثم لايعبر بها إلا قليل، ثم تمتلئ وتبنى، ثم يخرجون منها فلا يعودون فيها أبداً»! ورواه مسلم: 8/183 ورواه بخاري في صحيحه وعقد باباً: 2/159 باب هدم الكعبة!

وفي الفتن لنعيم بن حماد: 1/398: «لاتستريبوا في هلكة قريش، فإنهم أول من يهلك حتى أن النعل لتوجد في المزبلة فيقال خذوا هذه النعل إنها لنعل قرشي». وقد بحثنا ذلك وردينا عليه، في كتاب ألف سؤال وإشكال: 1/492.

5- ردَّ أهل البیت (علیهم السلام) على فرية كعب عن العرب

وقد ردَّ أهل البیت (علیهم السلام) فرية كعب بهلاك الأمة. فقد روى الصدوق «الخصال/475»عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أبشروا ثم أبشروا، ثلاث مرات، إنما مثل أمتي كمثل غيث لا يدرى أوله خير أم آخره، إنما مثل أمتي كمثل حديقة أطعم منها فوج عاماً، ثم أطعم منها فوج عاماً، لعل آخرها فوجاً يكون أعرضها بحراً وأعمقها طولاً وفرعاً وأحسنها جَناً! وكيف تهلك أمة أنا أولها، واثنا عشر من بعدي من السعداء وأولي الألباب، والمسيح عيسى بن مريم آخرها؟ولكن يهلك بين ذلك نَتَجُ الهَرَج، ليسوا مني ولست منهم».

6- زعموا أن العرب لا يكونون من الأبدال!

زعم رواة السلطة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لايصل العربي إلى درجة الأولياء الأبدال! قال القرطبي في تفسيره: 3/259: «واختلف العلماء في الناس المدفوع بهم الفساد من هم؟ فقيل هم الأبدال، وهم أربعون رجلاً كلما مات واحد بدَّل الله آخر».

وقال أبو داود في سننه: 2/30 عن عنبسة بن عبدالواحد القرشي الأموي: «كنا نقول إنه من الأبدال، قبل أن نسمع أن الأبدال من الموالي»!

وقال في سؤالات الآجري: 1/204: «سئل أبو داود عن عنبسة بن عبدالواحد القرشي قال: سمعت محمد بن عيسى يقول: كنا نرى أنه من الأبدال حتى سمعنا أن الأبدال

ص: 48

من الموالي.. عن عطاء قال قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الأبدال من الموالي، ولا يبغض الموالي إلا منافق». وتاريخ بغداد: 12/279 وتهذيب الكمال: 22/421.

وصححه المناوي: 3/220 وقال: «من علامتهم أيضاً أنه لايولد لهم...وهذه الأخبار وإن فرض ضعفها جميعها، لكن لايُنكر تقوي الحديث الضعيف بكثرة طرقه وتعدد مخرجيه إلا جاهل بالصناعة الحديثية، أو معاند متعصب».

وفي تهذيب الكمال: 7/264: «كان حماد بن سلمة يعد من الأبدال، وعلامة الأبدال أن لا يولد لهم، تزوج سبعين امرأة فلم يولد له»!

وعدوا أكثر من عشرين من أئمتهم من غير العرب من الأبدال!

وزعم ابن عربي أن أصحاب المهدي (علیه السلام) كلهم من العجم! قال في الفتوحات: 3/ 328: «وهم من الأعاجم ما فيهم عربي، لكن لايتكلمون إلا بالعربية»!

لكن أئمة أهل البیت (علیهم السلام) ساوَوْا بين العرب والعجم، ونصوا على أن أصحاب المهدي (علیه السلام) فيهم العرب والعجم، قال الإمام الباقر (علیه السلام) كما في غيبة الطوسي/284: «يبايع القائم بين الركن والمقام ثلاث مائة ونيف عدة أهل بدر. فيهم النجباء من أهل مصر، والأبدال من أهل الشام، والأخيار من أهل العراق».

7- أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بظلم قريش لأهل بيته (علیهم السلام)

روى ابن حماد: 1 / 310 عن عبدالله بن مسعود قال: بينما نحن عند رسول الله إذ جاء فتية من بني هاشم فتغير لونه! قلنا: يا رسول الله ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه، فقال: «إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي هؤلاء سيلقون بعدي بلاء وتطريداً وتشريداً حتى يأتي قوم من هاهنا من نحو المشرق أصحاب رايات سود يسألون الحق فلا يعطونه، مرتين أو ثلاثاً، فيقاتلون فينصرون، فيعطون ما سألوا فلا يقبلوه، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملؤها عدلاً كما ملؤوها ظلماً، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبواً على الثلج، فإنه المهدي». «ورواه ابن أبي شيبة: 15/235، بنحوه. وابن ماجة: 2 /1366، رواه

ص: 49

ابن المنادي/44، الحاكم: 4/464»، وفيه: «أتينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخرج إلينا مستبشراً يعرف السرور في وجهه، فما سألناه عن شئ إلا أخبرنا به، ولا سكتنا إلا ابتدأنا، حتى مرت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين، فلما رآهم التزمهم وانهملت عيناه، فقلنا: ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه، قال: إنا أهل بيت اختار لنا الله الآخرة على الدنيا، وإنه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً وتشريداً في البلاد، حتى ترتفع رايات سود من المشرق فيسألون الحق فلايعطونه، ثم يطلبونه فلايعطونه، ثم يسألونه فلا يعطونه فيقاتلون فينصرون. فمن أدركه منكم أو من أعقابكم فليأت إمام أهل بيتي ولو حبواً على الثلج،فإنها رايات هدى يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه إسمي وإسم أبيه إسم أبي، فيملك الأرض فيملؤها قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً». ورواه البزار: 4 / 310، 354، الداني / 92، كابن شيبة بتفاوت يسير، نحوه جامع السيوطي: 3 / 101، وزوائد ابن ماجة / 527، المعجم الأوسط: 6 / 327 والسنن في الفتن: 5 / 1029، بروايتين وفيه:

«بينما نحن عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذ قال: يجئ قوم من هاهنا وأشار بيده نحو المشرق أصحاب رايات سود يسألون الحق فلا يعطونه، مرتين أو ثلاثاً، فيقاتلون فينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه،حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤها عدلاً كما ملؤوها ظلماً. فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبواً على الثلج».

وقال نقاد الحديث عن رواية زائدة التي فيها: واسم أبيه إسم أبي: إنها زيادة في الحديث زادها زائدة بن قدامة.

ورواه من مصادرنا: دلائل الإمامة/233 و 235، بعدة روايات عن ابن مسعود، كابن حماد بتفاوت يسير. ومناقب أميرالمؤمنين لمحمد بن سليمان: 2/110، بنحوه عن ابن مسعود، وملاحم ابن طاووس/52، عن ابن حماد، وفي/161، عن فتن زكريا، وكشف الغمة:3 / 262، عن أربعين أبي نعيم. وفي / 268، عن البيان للشافعي. والعدد القوية / 90، كرواية دلائل الإمامة الثانية بتفاوت يسير، والثالثة، وإثبات الهداة: 3/595، عن كشف الغمة، والبحار: 51 /82، عن كشف الغمة، و: 51/83 عن أربعين الحافظ أبي نعيم..الخ.

«لكن أدق نصوصه حديث الإمام الباقر (علیه السلام) الذي رواه النعماني/273، عن أبي خالد

ص: 50

الكابلي، عن الإام الباقر (علیه السلام) قال: كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فيعطون ما سألوه فلا يقبلونه حتى يقوموا، ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم. قتلاهم شهداء. أما إني لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر».

والنتيجة: أن هذا الحديث المعروف بحديث الرايات السود، متواتر بالمعنى، لأنه روي عن صحابة متعددين بطرق متعددة، يعلم منها أن مضمونه صدر عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأخبر عن ظلامة أهل بيته:وأنها تستمر حتى يأتي قوم من المشرق يمهدون لمهديهم: فيظهر ويسلمونه رايتهم، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

8- سينقذ الله العرب بيد أهل البیت (علیها السلام)

أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بأن الله عزوجل سينقذ قريشاً والأمة بأهل بيته:، ففي كمال الدين/230: «قال علي لرسول الله (صلی الله علیه و آله): يا رسول الله أَمِنَّا الهداة أم من غيرنا؟ قال: بل منا الهداة إلى الله إلى يوم القيامة، بنا استنقذهم الله عزوجل من ضلالة الشرك، وبنا يستنقذهم من ضلالة الفتنة، وبنا يصحبون إخواناً بعد ضلالة الفتنة، كما بنا أصبحوا إخواناً بعد ضلالة الشرك. وبنا يختم الله كما بنا فتح الله».

وفي أمالي المفيد/288، عن علي (علیه السلام) قال: «لما نزلت على النبي (صلی الله علیه و آله): إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ، قال لي: يا علي إنه قد جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ، فإذا رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَابًا. يا علي إن الله قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي كما كتب عليهم جهاد المشركين معي، فقلت: يا رسول الله وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد؟ قال: فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وهم مخالفون لسنتي وطاعنون في ديني!

فقلت: فعلامَ نقاتلهم يا رسول الله وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله؟فقال: على إحداثهم في دينهم، وفراقهم لأمري، واستحلالهم دماء عترتي! قال فقلت: يا رسول الله إنك كنت وعدتني الشهادة فسل الله تعالى أن

ص: 51

يعجلها لي! فقال: أجل، قد كنت وعدتك الشهادة فكيف صبرك إذا خضبت هذه من هذا، وأومى إلى رأسي ولحيتي؟ فقلت: يا رسول الله أما إذا بينت لي ما بينت فليس بموطن صبر، ولكنه موطن بشرى وشكر. فقال: أجل فأعدَّ للخصومة فإنك مخاصِم أمتي. قلت: يا رسول الله أرشدني الفلج، قال: إذا رأيت قوماً قد عدلوا عن الهدى إلى الضلال فخاصمهم، فإن الهدى من الله والضلال من الشيطان.

يا علي إن الهدى هو اتباع أمر الله دون الهوى والرأي! وكأنك بقوم قد تأولوا القرآن، وأخذوا بالشبهات، واستحلوا الخمر بالنبيذ، والبخس بالزكاة، والسحت بالهدية! قلت: يا رسول الله فما هم إذا فعلوا ذلك، أهم أهل ردة أم أهل فتنة؟ قال: هم أهل فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل!

فقلت: يا رسول الله العدل منا أم من غيرنا؟ فقال: بل منا، بنا يفتح الله وبنا يختم وبنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك، وبنا يؤلف الله بين القلوب بعد الفتنة، فقلت:

الحمد لله على ما وهب لنا من فضله».

ومنها: في كنز العمال: 16/196، من وصية النبي (صلی الله علیه و آله): «يا علي إن القوم سيفتنون ويفتخرون بأحسابهم وأموالهم، ويزكون أنفسهم، ويمنون بدينهم على ربهم، ويتمنون رحمته ويأمنون عقابه، ويستحلون حرامه بالمشتبهات الكاذبة، فيستحلون الخمر بالنبيد، والسحت بالهدية، والربا بالبيع... إلى أن ينقذهم الله بنا أهل البیت عند ظهورنا.. يا علي: بنا فتح الله الإسلام وبنا يختمه، وبنا أهلك الأوثان ومن يعبدها، وبنا يقصم كل جبار وكل منافق، حتى إنا لنقتل في الحق مثل من قُتل في الباطل. يا علي: إنما مثل هذه الأمة مثل حديقة أطعمت فوجاً عاماً، ثم فوجاً عاماً، فلعل آخرها فوجاً أن يكون أثبتها أصلاً، وأحسنها فرعاً، وأحلاها جنىً، وأكثرها خيراً وأوسعها عدلاً، وأطولها ملكاً».

وكان الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 8/266»: «إذا ذكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: بأبي وأمي وقومي وعشيرتي! عجبٌ للعرب كيف لا تحملنا على رؤوسها، والله عزوجل يقول في كتابه: وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا! فبرسول الله (صلی الله علیه و آله) أنقذوا».

ص: 52

وفي المسترشد لمحمد بن جرير الطبري الشيعي/374، والإحتجاج للطبرسي: 1/93 والإمامة والسياسة: 1/18، من حديث طويل عن السقيفة: «أن أبابكر دعا علياً إلى البيعة فامتنع وقال: إني لأخو رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا يقولها غيري إلا كذاب، وأنا والله أحق بهذا الأمر منكم وأنتم أولى بالبيعة لي، إنكم أخذتم هذا الأمر من العرب بالحجة وتأخذونه منا أهل البیت غصباً وظلماً! احتججتم على العرب بأنكم أولى الناس بهذا الأمر منهم بقرابة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأعطوكم المقادة وسلموا لكم الأمر، فأنا أحتج عليكم بما احتججتم به على العرب، فنحن والله أولى بمحمد (صلی الله علیه و آله) منكم، فأنصفونا من أنفسكم إن كنتم تؤمنون بالله، واعرفوا لنا من هذا الأمر ما عرفته لكم العرب، وإلا فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون!

فقال أبو عبيدة بن الجراح: يا أبا الحسن أبوبكر أقوى على هذا الأمر، وأشد احتمالاً، فارض به وسلم له، وأنت بهذا الأمر خليق وبه حقيق في فضلك وقرابتك وسابقتك! فقال لهم علي: أنا أحق بهذا الأمر منه وأنتم أولى بالبيعة لي! أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتأخذونه منا أهل البیت غصباً، ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأعطوكم المقادة وسلموا لكم الإمارة. وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار، أنا أولى برسول الله حياً وميتاً، وأنا وصيه ووزيره ومستودع سره وعلمه، وأنا الصديق الأكبر والفاروق الأعظم، أول من آمن به وصدقه، وأحسنكم بلاءً في جهاد المشركين، وأعرفكم بالكتاب والسنة، وأفقهكم في الدين، وأعلمكم بعواقب الأمور، وأذربكم لساناً وأثبتكم جناناً، فعلامَ تنازعونا هذا الأمر!

أنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا الأمر مثل ما عرفته لكم الأنصار، وإلا فبوؤوا بالظلم والعدوان وأنتم تعلمون.

فقال عمر: إنك لست متروكاً حتى تبايع طوعاً أو كرهاً! فقال علي: إحلب حلباً لك شطره، أشدد له اليوم ليرد عليك غداً! إذاً والله لا أقبل قولك، ولا

ص: 53

أحفل بمقامك ولا أبايع! فقال أبوبكر: مهلاً يا أبا الحسن، ما نشك فيك ولا نُكرهك!

فقام أبو عبيدة إلى علي فقال: يا ابن عم لسنا ندفع قرابتك ولا سابقتك ولا علمك ولا نصرتك، ولكنك حدث السن، وكان لعلي يومئذ ثلاث وثلاثون سنة، وأبوبكر شيخ من مشايخ قومك وهو أحمل لثقل هذا الأمر، وقد مضى الأمر بما فيه فسلم له، فإن عمَّرك الله يسلموا هذا الأمر إليك، ولا يختلف فيك اثنان. فقال علي (علیه السلام): يا معشر قريش، الله الله، لا تخرجوا سلطان محمد (صلی الله علیه و آله) من بيته إلى بيوتكم، فإنكم إن تدفعونا أهل البیت عن مقامه في الناس وحقه تؤزروا! والله إنه لفينا لا فيكم، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحق بعداً، وتفسدوا قديمكم بشر من حديثكم.. وكثر الكلام في هذا المعنى وارتفع الصوت وخشي عمر أن يصغي الناس إلى قول علي، ففسح المجلس وقال: إن الله يقلب القلوب، ولا تزال يا أبا الحسن ترغب عن قول الجماعة، فانصرفوا يومهم ذلك».

9- تحذيرات النبي (صلی الله علیه و آله) للعرب من الطغيان

روى البخاري: 4/109، 176، 8/104: «عن زينب ابنة جحش أن النبي (صلی الله علیه و آله) دخل عليها فزعاً يقول: لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها! قالت زينب فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث».

وفي البخاري: 8/88: «قال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدوق يقول: هلكة أمتي علي يدي غَلَمَةٍ من قريش. فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة! فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت! فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام، فإذا رآهم غلماناً أحداثاً قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم! قلنا أنت أعلم».

وفي مسند أحمد: 2/390، عن أبي هريرة قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «وَيْلٌ للعرب من شر قد اقترب! فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع قوم دينهم

ص: 54

بعرض من الدنيا قليل المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر».

وفي مسند أحمد: 1/319: «إذا رأيت الأمَة ولدت ربتها أو ربها، ورأيت أصحاب الشاء تطاولوا بالبنيان، ورأيت الحفاة الجياع العالة، كانوا رؤوس الناس، فذلك من معالم الساعة وأشراطها. قال: يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومن أصحاب الشاء والحفاة الجياع العالة؟ قال: العرب».

وفي الكافي: 8/103: «سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً؟ قال: ما تقولون في ذلك؟ قلت: نقول: هم الأفجران من قريش: بنو أمية، وبنو المغيرة، قال: هي والله قريش قاطبة. إن الله تبارك وتعالى خاطب نبيه (صلی الله علیه و آله) فقال إني فضلت قريشاً على العرب، وأتممت عليهم نعمتي وبعثت إليهم رسولي، فبدلوا نعمتي كفراً، وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ».

10- رفض الأئمة (علیهم السلام) تعصب العرب ضد الشعوب الأخرى

مَيَّزَ الحكام القرشيون العرب على غيرهم من الشعوب، واصر أهل البیت (علیهم السلام) على المساواة بينهم وجوز تزويجهم من بعضهم. واشتكى الموالي إلى علي (علیه السلام)، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 5/318»: «أتت الموالي أميرالمؤمنين (علیه السلام) فقالوا: نشكو إليك هؤلاء العرب إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يعطينا معهم العطايا بالسوية، وزوج سلمان وبلالاً وصهيباً، وأبوا علينا هؤلاء وقالوا لا نفعل! فذهب إليهم أميرالمؤمنين (علیه السلام) فكلمهم فيهم فصاح الأعاريب: أبينا ذلك يا أبا الحسن أبينا ذلك! فخرج وهو مغضب يجر رداءه وهو يقول: يا معشر الموالي إن هؤلاء قد صيروكم بمنزلة اليهود والنصارى يتزوجون إليكم ولا يزوجونكم، ولا يعطونكم مثل ما يأخذون، فاتجروا بارك الله لكم، فإني قد سمعت رسول الله يقول: الرزق عشرة أجزاء، تسعة أجزاء في التجارة، وواحدة في غيرها».

وفي الكافي: 5/345: «لقي هشام بن الحكم بعض الخوارج فقال: يا هشام ما تقول في العجم، يجوز أن يتزوجوا في العرب؟ قال: نعم. قال: فالعرب يتزوجوا

ص: 55

من قريش؟ قال: نعم، قال: فقريش يتزوجوا في بني هاشم؟ قال: نعم. قال: عمن أخذت هذا؟ قال: عن جعفر بن محمد (علیه السلام) سمعته يقول: أتتكافأ دماؤكم، ولا تتكافأ فروجكم»؟!

وقال الكاظم (علیه السلام) كما في الخصال/123: «الناس ثلاثة: عربي ومولى وعلج، فأما العرب فنحن، وأما المولى فمن والانا، وأما العلج فمن تبرأ منا وناصبنا».

وفي الكافي: 8/226، عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: «كان عند أبي الحسن موسى (علیه السلام) رجل من قريش فجعل يذكر قريشاً والعرب، فقال له أبو الحسن (علیه السلام) عند ذلك: دع هذا، الناس ثلاثة: عربي ومولى وعلج، فنحن العرب، وشيعتنا الموالي، ومن لم يكن على مثل ما نحن عليه فهو علج! فقال القرشي: تقول هذا يا أبا الحسن، فأين أفخاذ قريش والعرب؟! فقال أبو الحسن: هو ما قلت لك»!

الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 8/166»: «نحن بنو هاشم، وشيعتنا العرب وسائر الناس الأعراب...نحن قريش، وشيعتنا العرب، وسائر الناس علوج الروم».

وقال الصادق (علیه السلام) «الكافي: 8/316»: «والله لايحبنا من العرب والعجم إلا أهل البيوتات والشرف والمعدن، ولا يبغضنا من هؤلاء وهؤلاء إلا كل دَنِسٍ مُلْصَق».

ص: 56

الفصل الثالث: اليهود في الجزيرة العربية

1- هاجر اليهود إلى الجزيرة ينتظرون النبي الموعود

هاجر جماعات من اليهود مع أحبارهم بعد المسيح (علیه السلام) إلى الجزيرة العربية، بانتظار النبي الأخير الذي وعدهم أنبياؤهم:بأنه سيظهر فيها.

قال إسحاق بن عمار «الكافي: 8/310»: «سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ؟ قال: كانوا قوماً فيما بين محمد وعيسى صلى الله عليهما، وكانوا يتوعدون أهل الأصنام بالنبي (صلی الله علیه و آله) ويقولون: ليخرجن نبي فليكسرن أصنامكم، وليفعلن بكم وليفعلن، فلما خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) كفروا به».

وفي الكافي: 8/308، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كانت اليهود تجد في كتبها أن مهاجر محمد (صلی الله علیه و آله) ما بين عير وأحد، فخرجوا يطلبون الموضع فمروا بجبل يسمى حَداد فقالوا: حداد وأحد سواء، فتفرقوا عنده فنزل بعضهم بتيماء وبعضهم بفدك وبعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم، فمرَّ بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه وقال لهم أمرُّ بكم ما بين عير وأحد، فقال له: إذا مررت بهما فآذنَّا بهما، فلما توسط بهم أرض المدينة قال لهم: ذاك عير وهذا أحد، فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا: قد أصبنا بغيتنا، فلا حاجة لنا في إبلك فاذهب حيث شئت! وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر: أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا، فكتبوا إليهم: أنا قد استقرت بنا الدار واتخذنا الأموال وما أقربنا منكم، فإذا كان ذلك

ص: 57

فما أسرعنا إليكم. فاتخذوا بأرض المدينة الأموال، فلما كثرت أموالهم بلغ تُبَّعٌ فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم، وكانوا يَرِقُّونَ لضعفاء أصحاب تُبَّع فيلقون إليهم بالليل التمر والشعير، فبلغ ذلك تُبَّع فرقَّ لهم وآمنهم، فنزلوا إليه فقال لهم: إني قد استطبت بلادكم ولا أراني إلا مقيماً فيكم فقالوا له: إنه ليس ذاك لك، إنها مهاجر نبي وليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك فقال لهم: إني مخلف فيكم من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره، فخلف حيين الأوس والخزرج، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود وكانت اليهود تقول لهم: أما لو قد بعث محمد ليخرجنكم من ديارنا وأموالنا، فلما بعث الله عزوجل محمداً (صلی الله علیه و آله) آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود وهو قول الله عزوجل: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الكَافِرِينَ».

أقول: يدل هذا الحديث على أن اليهود كانوا في المدينة قبل الأوس والخزرج، وقد تحالفوا، لكن الأنصار صاروا أقوى منهم لمحيطهم العربي، فاحتاج اليهود إلى أن يتحالفوا معهم ويكونوا في جوارهم.

وفي المحتضر/276، عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: «إن الله تعالى أخبر رسوله (صلی الله علیه و آله) بما كان من إيمان الأمم السابقة. وإن اليهود قبل ظهوره كانوا يستفتحون على أعدائهم بذكره والصلاة عليه، وكان الله عزوجل أمر اليهود في أيام موسى وبعده إذا دهمهم أمرٌ ودهمتهم داهية أن يدعوا الله بمحمد وآله (صلی الله علیه و آله)، وكانوا يفعلون ذلك ويستنصرون به، حتى كانت اليهود من أهل المدينة قبل ظهور النبي (صلی الله علیه و آله) بسنين كثيرة يفعلون ذلك، ويكفون البلاء والداهية الدهياء».

وفي تفسير القمي: 1/32: «فكانت اليهود يقولون للعرب قبل مجئ النبي (صلی الله علیه و آله): أيها العرب هذا أوان نبي يخرج بمكة ويكون هجرته بالمدينة، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم، في عينيه حمرة وبين كتفيه خاتم النبوة، يلبس الشملة ويجتزي بالكسرة والتميرات، ويركب الحمار عُرْيَةً، وهو الضحوك القتال، يضع سيفه على عاتقه ولا يبالي بمن لاقى. يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر، وليقتلنكم الله به يا معشر العرب قتل

ص: 58

عاد، فلما بعث الله نبيه بهذه الصفة حسدوه وكفروا به كما قال الله: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ».

وفي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /393: «قال أميرالمؤمنين (علیه السلام): وكانت اليهود قبل ظهورمحمد (صلی الله علیه و آله) بعشر سنين تعاديهم أسد وغطفان ويقصدون أذاهم، وكانوا يستدفعون شرورهم وبلاءهم بسؤالهم ربهم بمحمد وآله الطيبين، حتى قصدتهم في بعض الأوقات أسد وغطفان في ثلاثة آلاف فارس إلى بعض قرى اليهود حوالي المدينة، فتلقاهم اليهود وهم ثلاث مائة فارس، ودعوا الله بمحمد وآله الطيبين الطاهرين فهزموهم وقطعوهم...فلما ظهر محمد (صلی الله علیه و آله) حسدوه، إذ كان من العرب، فكذبوه»!

وفي الدر المنثور: 1/88: «كانت يهود بني قريظة والنضير قبل أن يبعث محمد يستفتحون الله به يدعون على الذين كفروا ويقولون: اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الأمي إلا نصرتنا عليهم، فينصرون»! والإستفتاح على العدو: طلب النصر عليه، ويشمل الإستعانة عليه بأحد، أو شيء، أو دعاء.

وجبل حَدَد «معجم البلدان: 2/229» «مطل على تيماء..قال النابغة: ساق الرفيدات من جَوْشٍ ومن حَدَدِ» واحتمل المجلسي تصحيفه عن حداد، وقد يكون الشاعر خففه.

هذا، وقول أهل البیت (علیهم السلام) إن هجرة اليهود إلى الجزيرة كانت بعد المسيح (علیه السلام) يرد ما زعمه بعض الكتاب الغربيين من أنه كان في الجزيرة مواطنون يهود كأبناء إسماعيل (علیه السلام) . كما أن تُبَّعاً ملك اليمن والعرب،كان بعد عيسى (علیه السلام) وقد أسكن الأنصار في المدينة، فكثروا فهابهم اليهود وتحالفوا معهم.

2- أخبر اليهود العرب بولادة النبي الموعود (صلی الله علیه و آله)

اشتهر خبر الحاخام يوسف اليهودي من مكة، ففي كمال الدين/196، عن علي بن إبراهيم عن رجاله: «كان بمكة يهودي يقال له يوسف، فلما رأى النجوم يقذف بها وتتحرك قال: هذا نبي قد ولد في هذه الليلة، وهو الذي نجده في كتبنا

ص: 59

أنه إذا ولد وهو آخر الأنبياء، رُجمت الشياطين وحجبوا عن السماء.

فلما أصبح جاء إلى نادي قريش فقال: يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود؟قالوا: لا.قال: أخطأكم والتوراة، ولد إذاً بفلسطين، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم! فتفرق القوم فلما رجعوا إلى منازلهم أخبر كل رجل منهم أهله بما قال اليهودي فقالوا: لقد ولد لعبدالله بن عبدالمطلب ابنٌ في هذه الليلة، فأخبروا بذلك يوسف اليهودي فقال لهم: قبل أن أسألكم أو بعده؟ قالوا: قبل ذلك، قال: فاعرضوه عليَّ، فمشوا إلى باب آمنة فقالوا: أخرجي ابنك ينظر إليه هذا اليهودي، فأخرجته في قماطه فنظر في عينيه، وكشف عن كتفيه فرأى شامة سوداء بين كتفيه وعليها شعرات، فلما نظر إليه وقع على الأرض مغشياً عليه، فتعجب منه قريش وضحكوا منه فقال: أتضحكون يا معشر قريش، هذا نبي السيف، ليبيرنكم، وقد ذهبت النبوة من بني إسرائيل إلى آخر الأبد..الخ.».

كما انتشر بين العرب خبر بَحِيرا الراهب الآتي، وإخباره بنبوة نبينا (صلی الله علیه و آله) وتحذيره عمه أباطالب (رحمة الله) من خطر اليهود عليه! ومن جهة أخرى: ملأت آذان الأوس والخزرج بشائر حلفائهم اليهود بالنبي (صلی الله علیه و آله)، فكان ذلك سبب إيمانهم به. وروت المصادر قصة أسعد بن زرارة، أحد زعماء الأوس، لما ذهب إلى مكة ليتحالف مع قريش ضد الخزرج، فرأى النبي (صلی الله علیه و آله) وأسلم:

قال الطبرسي في إعلام الورى: 1/138: «وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم النضير وقريظة وقينقاع، أن هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة، لنقتلنكم به يا معشر العرب..

فلما سمع أسعد هذا قال له: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله...والله يا رسول الله لقد كنا نسمع من اليهود خبرك ويبشروننا بمخرجك، ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقني إليك، والله ما جئت إلا لطلب الحلف على قومنا، وقد آتانا الله بأفضل مما أتيت له»!

ص: 60

3- سبب معاداة اليهود للنبي (صلی الله علیه و آله) أنه من بني إسماعيل!

صرح اليهود بأن سبب عدائهم للنبي (صلی الله علیه و آله) أنه من غيرهم وهم يريدونه منهم! وقد أغمي على الحاخام يوسف لما ولد (صلی الله علیه و آله) لأن النبوة كما قال: ذهبت من

بني إسرائيل إلى الأبد! «وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل»! أسباب النزول/17.

وطلبوا منه (صلی الله علیه و آله) أن يعلن أنه رسولٌ خاص لهم ليؤمنوا به!

ففي أمالي الصدوق/ 254، عن علي (علیه السلام): «جاء نفر من اليهود إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: يا محمد، أنت الذي تزعم أنك رسول الله، وأنك الذي يوحى إليك كما أوحي إلى موسى بن عمران؟ فسكت النبي (صلی الله علیه و آله) ساعة، ثم قال: نعم، أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا خاتم النبيين وإمام المتقين ورسول رب العالمين.

قالوا: إلى من، إلى العرب أم إلى العجم أم إلينا؟ فأنزل الله عزوجل هذه الآية: قُلْ «يا محمد» يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً».

ونشط اليهود من أول بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) في تعليم قريش الخطط لعدائه (صلی الله علیه و آله) وقتله! فكانوا يتبادلون معهم المشورة. ففي تفسير الطبري: 15/238: «بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء».

وتطور تعاونهم حتى وصل إلى تحشيد الأحزاب لغزو المدينة واستئصال محمد وبني عبدالمطلب، بزعمهم.ثم واصلوا عملهم مع قريش بعد هزيمة الأحزاب، وكانوا يضعون الخطط لقتله (صلی الله علیه و آله) وأخذ خلافته، وإبعاد عترته!

لذا يجب علينا في دراسة السيرة رصد نشاط اليهود في حياة النبي (صلی الله علیه و آله) وتأثيرهم على قادة قريش، ورصد مجموعة الصحابة الذين كانوا يدرسون عندهم، ويتصلون بهم وقد ابتكر لهم النبي (صلی الله علیه و آله) إسم «المُتَهَوِّكِين» وحذر المسلمين منهم!

ص: 61

وقوله تعالى يكشف اتفاقية سرية بين قريش واليهود ضد النبي (صلی الله علیه و آله)! قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ.

محمّد: 25-26.

وقد بقي اليهود في جزيرة العرب خمسة قرون، وتكلموا العربية، وكان العرب يحترمونهم ويرجعون إليهم في مسائل التنبؤ بالمستقبل، واستمر ذلك في الصحابة حتى بعد بعثة النبي (صلی الله علیه و آله)!

فقد كانت عائشة زوجة النبي (صلی الله علیه و آله) وأبوها معجبين بالثقافة اليهودية!

روى مالك في الموطأ: 2/943: «أن أبابكر دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها! فقال أبوبكر: إرقيها بكتاب الله». فهي تثق بدعاء العجوز اليهودية أكثر مما تثق بنفسها وما علمها النبي (صلی الله علیه و آله)! وسواء قصد أبوها: إرقيها بكتاب الله، القرآن، أو التوراة، فهو يعلن أن اليهودية بمستوى أن ترقي زوجة النبي (صلی الله علیه و آله)!

وقد قلد فقهاء السلطة عائشة وأفتوا بأنه يجوز للمسلم أن يسترقي اليهودي!

والخلاصة: أن اليهود كانوا مقربين ولهم كلمتهم في «دار الخلافة» في المدينة، وفي «بلاط الخلافة» بالشام. وكان حاخاماتهم مستشارين ثقافيين وسياسيين للخليفة، فأثروا في سياسة الدولة وفي ثقافة الأمة تأثيراً كبيراً!

4- كتب النبي (صلی الله علیه و آله) عهداً مع اليهود للتعايش

عندما هاجر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة،كتب مع فئات اليهود معاهدة تعايش:

أما بنو قينقاع الصاغة، فنقضوا الصلح، فسار إليهم النبي (صلی الله علیه و آله) بعد عشرين يوماً من وقعة بدر، فتحصنوا فحاصرهم خمسة عشر يوماً حتى نزلوا على حكمه فأوثقهم كتافاً، ووهبهم لحليفهم المنافق عبدالله بن سلول، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة، فخرجوا إلى أذرعات الشام، وكانوا ست مئة مقاتل.

وأما بنو النضير، فتآمروا على النبي (صلی الله علیه و آله) ليقتلوه ونزلت فيهم سورة الحشر، فبعث

ص: 62

إليهم أن أخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، فأرسل إليهم عبدالله بن أبي، أن لاتخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يموتون دونكم وينصركم بنو قريظة وحلفاؤكم من غطفان، فبعث رئيسهم حيي بن أخطب إلى النبي (صلی الله علیه و آله): إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك! فكبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكبر أصحابه!

وأمر علياً (علیه السلام) بالمسير إليهم فحاصرهم وقتل نخبة فرسانهم، ولم ينصرهم عبدالله بن أبيّ، ولا بنو قريظة، ولاحلفاؤهم من غطفان!

وبعد أيام من الحصار قالوا للنبي (صلی الله علیه و آله): نخرج من بلادك فأعطنا أموالنا فقال: لا، ولكن تخرجون ولكم ما حملت الإبل، فخرجوا إلى وادي القرى والشام.

وأما بنو قريظة، فبقوا على صلحهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) حتى ذهب زعماؤهم إلى مكة وتحالفوا مع أبي سفيان لغزو المدينة في حرب الأحزاب، ثم تجولوا على قبائل نجد والجزيرة يحثونهم على حرب النبي (صلی الله علیه و آله)، ويعدونهم بتمر خيبر.

وعندما حاصرالأحزاب المدينة مزق بنو قريظة عهدهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) لكنهم طلبوا من الأحزاب رهائن حتى لا يذهبوا ويتركوهم وحدهم مقابل النبي، فلم يعطوهم، ولما انهزم الأحزاب سار إليهم النبي (صلی الله علیه و آله) فحاصرهم حتى نزلوا على حكم حليفهم سعد بن معاذ، فحكم بقتل من حرض منهم وكانوا ثلاث مئة.

وأما يهود خيبر، فكانوا أكبر قوة لليهود، وقد شاركوا في مؤامراتهم على النبي (صلی الله علیه و آله) فقصدهم في السنة السابعة للهجرة، وأخضعهم وانتصرعليهم.

ص: 63

الفصل الرابع: مكانة الكعبة عند العرب

1- بَوَّأَ الله الكعبة لإبراهيم وذريته (علیهم السلام) وسماهم الأمة المسلمة

فقد استجاب الله دعاء إبراهيم وإسماعيل (صلی الله علیه و آله) لما بنىا البيت فقالا: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.

وهذه الأمة من ذرية إسماعيل (علیه السلام) لا تنطبق إلا على النبي والأئمة من آله (صلی الله علیه و آله) . وقد روى الثقفي في الغارات: 1/200، رسالة علي (علیه السلام) لمعاوية، وفيها: «ولكل نبي دعوة في خاصة نفسه وذريته وأهله.قال إبراهيم وإسماعيل (صلی الله علیه و آله) وهما يرفعان القواعد من البيت (علیهم السلام) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، فنحن الأمة المسلمة. وقالا: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ.فنحن أهل هذه الدعوة ورسول الله (صلی الله علیه و آله) منا ونحن منه،بعضنا من بعض وبعضنا أولى ببعض في الولاية والميراث: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

وفي الكافي: 5/14 أن الإمام الصادق (علیه السلام) حصرالأمة المأذون لها بالدعوة في قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ. بالأمة المسلمة من ذرية إبراهيم (علیه السلام) فقال: «ثم أخبر عن هذه الأمة ومن هي وأنها من ذرية إبراهيم وذرية إسماعيل (علیهما السلام) من سكان الحرم، ممن لم يعبدوا غير الله قط! الذين وجبت لهم الدعوة دعوة إبراهيم وإسماعيل من أهل المسجد الذين أخبر عنهم في كتابه أنه أذهب عنهم الرجس».

ص: 64

وفي كتاب سليم/406: «إنا أهل بيت دعا الله لنا أبونا إبراهيم (علیه السلام) فقال: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ،فإيانا عنى الله بذلك خاصة.ونحن الذين عنى الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.. إلى آخر السورة، فرسول الله الشاهد علينا، ونحن شهداء الله على خلقه، وحججه

في أرضه».

وفي الكافي: 1/392 أن الإمام الباقر (علیه السلام): «نظر إلى الناس يطوفون حول الكعبة فقال: هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية! إنما أمروا أن يطوفوا بها، ثم ينفروا إلينا فيُعْلِمونا ولايتهم ومودتهم، ويعرضوا علينا نصرتهم! ثم قرأ هذه الآية: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ». أي لم يقل: إليها!

وفي تفسير العياشي: 2/233، عنه (علیه السلام) قال: «ينبغي للناس أن يحجوا هذا البيت ويعظموه لتعظيم الله إياه، وأن يلقونا حيث كنا، نحن الأدلاء على الله».

وفي دعائم الإسلام: 1/31، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «لم يكن من الأمم السالفة والقرون الخالية والأسلاف الماضية ولا سمع به أحد أشد ظلماً من هذه الأمة، فإنهم يزعمون أنه لافرق بينهم وبين أهل بيت نبيهم (صلی الله علیه و آله) ولا فضل لهم عليهم، فمن زعم ذلك من الناس فقد أعظم على الله الفرية وارتكب بهتاناً عظيماً وإثماً مبيناً! وهو بذلك القول برئ من محمد وآل محمد حتى يتوب ويرجع إلى الحق بالإقرار بالفضل لمن فضله الله عزوجل عليه...فأصحاب دعوة إبراهيم وإسماعيل رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة (علیهم السلام)، ومن كان متولياً لهؤلاء من ولد إبراهيم وإسماعيل فهو من أهل دعوتهما، لأن جميع ولد إسماعيل قد عبدوا الأصنام، غير رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين وكانت دعوة إبراهيم وإسماعيل لهم».

يقصد (علیه السلام) أصول هذا الفرع وهو فرع عبدالمطلب إلى إسماعيل:.

ص: 65

2- أولياء الكعبة هم إبراهيم وذريته المنصوص عليهم (علیهم السلام)

قال الله تعالى: جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الحَرَامَ وَالهَدْىَ وَالقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمٌ. إِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. المائدة: 97-98.

إِنَّ أَوَلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ العَالَمِينَ. آل عمران: 96-97.

وَإِذْ بَوَأْنَا لآبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ. ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ.حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ. ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ. لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ.الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالمُقِيمِى الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلادِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ. الحج: 25-37.

3- الإمامة عهد الله لإبراهيم وإسماعيل وبعض ذريتهما (علیهم السلام)

قال الله تعالى: وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا المُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا

ص: 66

العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. الأنفال: 34-35.

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ. وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ. البقرة: 124-131.

4- نصوص التوراة عن إسكان إبراهيم ذريته في مكة

تقول التوراة الموجودة إن سارة حسدت ضرتها هاجر، فطلبت من إبراهيم (علیه السلام) أن يطردها مع طفلها! فطردهما إلى برية سيناء، ثم سكنا في برية فاران، أي مكة!

وتؤكد توراتهم أن عهد الله تعالى بالإمامة والخلافة في الأرض، إنما كان لإبراهيم وابنه إسحاق وذريته، ولا يشمل إسماعيل وذريته أبداً!

تقول الفقرات /25-30 من العهد القديم: «قال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك. فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابناً وتدعو إسمه إسحاق، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده. وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً. اثني عشر رئيساً يلد. وأجعله أمة كبيرة. ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت في السنة الآتية... ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمرح، فقالت

ص: 67

لإبراهيم: أطرد هذه الجارية وابنها لأن ابن هذه الجارية لايرث مع ابني إسحاق. فقبح الكلام جداً في عيني إبراهيم لسبب ابنه، فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك. في كل ما تقول لك سارة إسمع لقولها، لأنه بإسحق يدعى لك نسل، وابن الجارية أيضاً سأجعله أمة لأنه نسلك.

فبكر إبراهيم صباحاً وأخذ خبزاً وقربة ماء وأعطاهما لهاجر، واضعاً إياهما على كتفها والولد وصرفها، فمضت وتاهت في برية بئر سبع، ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار ومضت وجلست مقابله بعيداً نحو رمية قوس، لأنها قالت لا أنظر موت الولد فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت فسمع الله صوت الغلام، ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها: مالك يا هاجر لا تخافي، لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو، قومي إحملي الغلام وشدي يدك به، لأني سأجعله أمة عظيمة. وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام، وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس وسكن في برية فاران، وأخذت له أمةً زوجةً من أرض مصر».

وفي نص آخر: «وبعد أن حملت سارة نظرت إلى سيدتها باحتقار،لأنها كانت عاقراً، فطردتها سيدتها، ولاقاها ملاك الرب في الطريق وأمرها أن ترجع إلى سيدتها وإلى بيت إبراهيم، ووعدها بأنها ستلد إبناً تسميه إسماعيل، وأنه يكون أباً لجمهور من الناس وأنه سيسكن البرية كحمار وحشي»! قاموس الكتاب المقدس/74 تك: 16 5-14

وفي سفر التثنية/إصحاح: 33: «وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة لهم».

وفي سفر حيقوق/إصحاح: 3: «الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران. سلاه. جلاله غطى السماوات. والأرض امتلأت من تسبيحه. وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع. وهناك استتار قدرته».

وسيناء: محل نزول الوحي على موسى. وسعير: محل بعثة عيسى. وفاران: جبال مكة

ص: 68

التي تلألأت بنبوة محمد (صلی الله علیه و آله)! وهي حجة واضحة لنبينا محمد (صلی الله علیه و آله) .

وفي التوراة والإنجيل/1140 موقع: arabicbible: «ستبيتين في صحاري بلاد العرب يا قوافل الددانيين. فاحملوا يا أهل تيماء الماء للعطشان واستقبلوا الهاربين بالخبز. لأنهم قد فروا من السيف المسلول والقوس المتوتر ومن وطيس المعركة. لأنه هذا ما قاله لي الرب: في غضون سنة مماثلة لسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار، وتكون بقية الرماة الأبطال من أبناء قيدار قلة. لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم».

هذا كل ما أوردته توراتهم عن سكن إسماعيل (علیه السلام) في مكة، وقد أهملت عن عمد تجديد إبراهيم وإسماعيل (علیهما السلام) بناء الكعبة! لأنه يكشف التخطيط الرباني للأمة الآخرة من ذرية إسماعيل:، وإخبار بأن الله سينقل النبوة اليهم.

5- وفرة أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) في الكعبة وإبراهيم وإسماعيل (علیهم السلام)

أما أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) فبينت مكانة الكعبة، وأن أصلها كان قبل آدم (علیه السلام)، وأنها نزلت على آدم (علیه السلام) ياقوتة حمراء وكانت قواعدها زبرجدة خضراء، ثم عفيت بعد نوح، فأمر الله تعالى إبراهيم (علیه السلام) أن يسكن عندها طفله إسماعيل وأمه هاجر (علیهما السلام)، وبعث جبرئيل (علیه السلام) فاحتفر بئراً لشرابهم وشراب الحاج.

ثم أمر الله إبراهيم (علیه السلام) أن يجدد بناءها مع ابنه إسماعيل (علیه السلام) عندما صار يافعاً فجدداها، وأمره أن يدعو الناس إلى حجها، ويريهم مناسكهم، فدعا الناس واستجابوا له وحج بهم، ثم أمره الله تعالى أن يذبح إسماعيل فأطاعه، وفداه الله بكبش كما قَصَّ القرآن.

وتزوج إسماعيل (علیه السلام) من قبيلة جرهم العربية، ثم توفيت أمه هاجر (علیهما السلام) فدفنها في المسجد عند الكعبة، وأمره الله أن يجعل حول قبرها حِجْراً لئلا يدوسه الناس، وأدخله في المطاف!

كما بينت الأحاديث تقديس العرب للكعبة، والتزامهم بالعمرة في رجب وبالحج في ذي الحجة.. إلى عشرات العناوين والتفصيلات عن الكعبة ومكانتها،

ص: 69

وعن آل إبراهيم علیهم السلام.الكافي: 4/201، علل الشرائع: 2/586 وتفسير القمي: 1/60.

وروت شبيهاً بها مصادر السنة كالبخاري: 4/114.لكنها تأثرت بالإسرائيليات.

6- عقيدة العرب بالكعبة

يتعجب الإنسان كيف استطاع إبراهيم صلوات الله عليه أن يجمع العرب على تقديس الكعبة والحج اليها، مع أنه لم يكن حاكماً عليهم ولا كان يعيش بينهم!

فلا بد من القول بوجود إعجاز رباني في الأمر، وجه العرب إلى البيت الذي بناه هذا القديس البابلي، الذي أحرقه نمرود فلم يحترق!

وقد نصت على ذلك أحاديث النبي وأهل بيته (صلی الله علیه و آله)، في تفسير قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ.

وقد أسمع الله دعوة إبراهيم (علیه السلام) حتى لمن كانوا في أصلاب آبائهم: قال الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي4/205»: «فقال: أيها الناس إني إبراهيم خليل الله، إن الله يأمركم أن تحجوا هذا البيت فحجوه، فأجابه من يحج إلى يوم القيامة،وكان أول من أجابه من أهل اليمن».

وقال الإمام الباقر (علیه السلام) «علل الشرائع2/420»: «صار بإزاء أبي قبيس فنادى في الناس بالحج، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، إلى أن تقوم الساعة».

وروى نحوه الحاكم وصححه: 2/389: «يا أيها الناس كتب عليكم الحج حج البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض».

وسرعان ما تحققت المعجزة وصارت مكة موسماً في ذي الحجة وفي رجب، ومجمعاً لقبائل العرب وسوقاً رأوا فيه المنافع التي قال الله عنها: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ. وكان إسماعيل وأبناؤه، وأصهاره من قبيلة جرهم، يخدمون الحجاج ويعلمونهم الحج والعمرة.

ص: 70

وكان ملوك التبابعة يحترمون الكعبة، قال الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي 4/215»:

«إن تُبَّعًا لما أن جاء من قبل العراق وجاء معه العلماء وأبناء الأنبياء، فلما انتهى إلى هذا الوادي لهذيل أتاه أناس من بعض القبائل فقالوا: إنك تأتي أهل بلدة قد لعبوا بالناس زماناً طويلاً حتى اتخذوا بلادهم حرماً وبَنِيَّتَهم رباً أو ربةً! فقال: إن كان كما تقولون قتلت مقاتليهم وسبيت ذريتهم وهدمت بنيتهم. قال: فسالت عيناه حتى وقعتا على خديه! قال: فدعى العلماء وأبناء الأنبياء فقال: أنظروني وأخبروني لما أصابني هذا؟ قال: فأبوا أن يخبروه حتى عزم عليهم قالوا: حدثنا بأي شئ حدثت نفسك؟قال: حدثت نفسي أن أقتل مقاتليهم وأسبي ذريتهم وأهدم بنيتهم! فقالوا: إنا لا نرى الذي أصابك إلا لذلك، قال: ولم هذا؟ قالوا: لأن البلد حَرَم الله والبيت بيت الله، وسكانه ذرية إبراهيم خليل الرحمن. فقال: صدقتم فما مَخرجي مما وقعت فيه؟ قالوا: تُحدث نفسك بغير ذلك، فعسى الله أن يرد عليك، قال: فحدث نفسه بخير، فرجعت حدقتاه حتى ثبتتا مكانهما قال: فدعى بالقوم الذين أشاروا عليه بهدمها فقتلهم، ثم أتى البيت وكساه وأطعم الطعام ثلاثين يوماً،كل يوم مائة جزور، حتى حملت الجفان إلى السباع في رؤوس الجبال، ونثرت الأعلاف في الأودية للوحوش، ثم انصرف من مكة إلى المدينة فأنزل بها قوماً من أهل اليمن من غسان وهم الأنصار».

وكانت بعض قبائل العرب لا تحج البيت وهم الغساسنة في الشام وغيرهم ممن تنصروا، ونصارى نجران، وقسم من طئ على مشارف الشام، وكان القياصرة ومن والاهم يبذلون جهداً ليثنوا العرب عن الحج إلى الكعبة.

وكان من أهداف طليحة الأسدي الذي ادعى النبوة، وهاجم المدينة بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) بستين يوماً، بعشرين ألف مقاتل، فنهض علي (علیه السلام) وتلاميذه وهاجموهم ليلاً، وقتل قائدهم وهزمهم.

وقال (علیه السلام) عن تلك الفترة: «حتى رأيت راجعة من الناس قد رجعت من الإسلام تدعو إلى محق دين محمد (صلی الله علیه و آله) وملة إبراهيم (علیه السلام)».

ص: 71

أي يريدون إزالة الإسلام، وحتى الحج إلى الكعبة الذي بقي من ملة إبراهيم (علیه السلام)! كشف المحجة / 176، راجع قراءة جديدة في حروب الردة للمؤلف.

وكان قيصر يؤيد ردة بني أسد ومن معهم من طئ، لأنه كان يتهيأ لحرب النبي (صلی الله علیه و آله) ويُحَضِّرُ دولة الغساسنة، وأبا عامر الفاسق وجماعته في المدينة، والأكيدر الكندي في دومة الجندل، وقد وثَّق ملك الشام الغساني علاقته بطيئ حتى تنصرعدي بن حاتم، وأهدى قيصر سيوفاً ثمينة لصنمي طيئ، فأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) علياً وجاء بأسرى من طيئ! فلا بد أن قيصراً شجع طليحة على حملته!

ومع ذلك، فإن أكثرية قبائل العرب وجمهرتها كانت تؤمن بالكعبة وتحج اليها.

7- أما الأكاسرة الفرس فكان بعضهم يقدسون الكعبة

ذكر المسعودي في مروج الذهب: 1/265 وغيره من المؤرخين، أن ساسان بن بابك ملك الفرس حج إلى الكعبة وكان يعتقد بها، وكان يدعي أنه من ذرية إبراهيم (علیه السلام)، قال: «وكانت الفرس تهدي إلى الكعبة أموالًا في صدرالزمان وجواهر، وقد كان ساسان بن بابك هذا، أهدى غزالَيْن من ذهب وجوهراً وسيوفاً وذهباً كثيراً». حتى غلبت خزاعة جرهماً فرمى الحارث بن مضاض الغزالين في زمزم، ودفنها فضاع أثرهما، حتى استخرجهما عبدالمطلب (علیه السلام) .

وقد يكون ساسان أهدى إلى الكعبة لكسب قلوب قبائل العرب، لأن الأكاسرة المتأخرين كانوا لا يقدسونها.

ص: 72

الفصل الخامس: آباء النبی (صلی الله علیه و آله) موحدون لكن السلطة كَفَّرتهم!

1- لماذا أصر«الخلفاء» على تكفير آباء النبي (صلی الله علیه و آله)

السبب: أنهم إذا اعترفوا بأن آباء النبي (صلی الله علیه و آله) مؤمنون، فهم ورثة إسماعيل وإبراهيم (علیهما السلام)، فيكون الوارث عبدالمطلب ثم النبي (صلی الله علیه و آله) ثم أبوطالب وعلي (علیه السلام) فلايبقى لخلفاء قريش شئ! لذلك اخترعوا أن يساووا بين آباء النبي (صلی الله علیه و آله) وآبائهم الذين قاوموه وكفروا به، فقالوا إنهم جميعاً كفار ولا أحد أولى بوراثة النبي (صلی الله علیه و آله)، فكل قرشي مثل كل هاشمي له الحق أن يرث سلطانه (صلی الله علیه و آله)!

وهم صادقون بحق آبائهم، فتاريخهم غير مشرف وأكثرهم لعنهم النبي (صلی الله علیه و آله) .

وقد وصل عدوانهم إلى أوْجِهِ فزعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال إن آباءه كفار في النار! وكذب عليه أنس فقال إن رجلاً سأله، صحيح مسلم1/133: «يا رسول الله، أين أبي؟ قال: في النار. فلما قفى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار»!

وقال السهيلي في الروض الأنف: 1/194: «وفي الصحيح أيضاً أنه صلى الله عليه و آله وسلم قال: استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها، فلم يأذن لي. وفي مسند البزار من حديث بريدة أنه حين أراد أن يستغفر لأمه، ضرب جبريل في صدره وقال له: لاتستغفر لمن كان مشركاً، فرجع وهو حزين».

فانظر إلى هذه الخشونة التي وصفوا بها الله الرحمن الرحيم، ورسوله (صلی الله علیه و آله)!

ص: 73

والعجيب أن أكثرهم صحح أحاديث الطعن في آباء النبي (صلی الله علیه و آله) ولم يردَّها إلا قليل من علمائهم المتأخرين!

قال الصالحي في سبل الهدى: 1/260: «قال السهيلي في الروض الأنف بعد إيراده حديث مسلم: وليس لنا نحن أن نقول ذلك في أبويه صلى الله عليه وسلم: لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات. وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وسئل القاضي أبوبكر بن العربي أحد الأئمة المالكية (رحمة الله) عن رجل قال: إن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار؟ فأجاب: بأن من قال ذلك فهو ملعون لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. قال: ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه إنه في النار»!

وعلى قوله فمسلم صاحب الصحيح ملعون لأنه نسب ذلك إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

ومن العجيب أن الطاعنين أنفسهم اعترفوا ببطلان قولهم، حيث رووا أن الله تعالى اختار بني هاشم وميزهم على قريش، ولا يمكن أن يختارهم وهم كفارٌ!

وقد عقد الهيثمي باباً فی «مجمع الزوائد 8/215» في كرامة أصل النبي (صلی الله علیه و آله) روى فيه عن ابن عباس ووثقه أن معنى قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ: من صلب نبي إلى نبي حتى صرت نبياً. فدل ذلك على أن كل آبائه مؤمنون أنبياء، ولو لأنفسهم! ثم روى غضب النبي (صلی الله علیه و آله) لقول أحدهم: «إن مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن! وقول أحدهم: إنما مثل محمد نخلة نبتت في الكَبا«المزبلة»! فقال (صلی الله علیه و آله): أيها الناس من أنا؟ قالوا أنت رسول الله، قال: أنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب. ألا إن الله عزوجل خلق خلقه، ثم فرقهم فرقتين فجعلني في خير الفريقين، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيرهم بيتاً و

خيرهم نفساً».

وفي الدر المنثور: 3/294 والمستدرك: 4/73 والخصال/36: «قسم الله تبارك وتعالى أهل الأرض قسمين فجعلني في خيرهما، ثم قسم النصف الآخر على ثلاثة، فكنت خير الثلاثة، ثم اختار العرب من الناس، ثم اختار قريشاً من العرب، ثم اختار بني

ص: 74

هاشم من قريش، ثم اختار بني عبدالمطلب من بني هاشم، ثم اختارني من بني عبدالمطلب».

ورد النبي (صلی الله علیه و آله) على حقد القرشيين رداً عنيفاً قاصماً، فقال لهم وهو على المنبر: فليسألني الطاعن بأسرتي: إبنُ مَن هو؟! فسأله صحابي عن أبيه، فقال له: إن أباك فلان الراعي! وكانت أول مرة يَجْبَهُ فيها أحداً بمثل هذا!

لكن القرشيين لا يرتدعون ولا تنكسر أعينهم، فقد أصروا على الإنتقاص من آبائه (صلی الله علیه و آله) لينفوا وراثتهم لإبراهيم (علیه السلام)! راجع: العقائد الإسلامية: 3/275.

2- تفرد مذهبنا بعقيدة إيمان آباء النبي (صلی الله علیه و آله)

قال المفيد في أوائل المقالات/45:«اتفقت الإمامية على أن آباء رسول الله (صلی الله علیه و آله) من لدن آدم إلى عبدالله بن عبدالمطلب:مؤمنون بالله عزوجل موحدون له. واحتجوا في ذلك بالقرآن والأخبار،قال الله عزوجل: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ. وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لم يزل ينقلني من أصلاب الطاهرين، إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا. وأجمعوا على أن عمه أباطالب مات مؤمناً، وأن آمنة بنت وهب كانت على التوحيد، وأنها تحشر في جملة المؤمنين».

قال أبو حيان «البحر المحيط: 7/47»: «ذهبت الرافضة إلى أن آباء النبي كانوا مؤمنين».

وقد وافقنا غيره من علمائهم فصاروا رافضة في هذا الموضوع، مثل الماوردي، والرازي في كتابه أسرار التنزيل، والسنوسي، والقاضي عياض، والتلمساني شارح الشفاء، وألف السيوطي رسائل لإثبات إيمانهم.الصحيح: 2/186.

والصحيح عندي أن آباءه (صلی الله علیه و آله) كانوا على دين إبراهيم (علیه السلام)، وأن الله كلفهم بالحنيفية ولم يكلفهم باليهودية ولا المسيحية، وقد ثبتوا على حنيفية إبراهيم (علیه السلام)، بينما انحرفت عنها قبائل قريش الأخرى.

والأدلة على ذلك عديدة، منها ما رواه الأصبغ بن نباتة (رحمة الله) قال: «سمعت

ص: 75

أميرالمؤمنين صلوات الله عليه يقول: والله ما عَبَدَ أبي ولا جدي عبدالمطلب ولا هاشم ولاعبدمناف، صنماً قط! قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم (علیه السلام) متمسكين به».كمال الدين/174.

ويؤيده ما رواه البخاري: 2/98: «لما حضرت أباطالب الوفاة جاءه رسول الله

صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أباجهل بن هشام وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأبي طالب: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال أبوجهل وعبدالله بن أبي أمية: يا أباطالب أترغب عن ملة عبدالمطلب!

فلم يزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبوطالب:

آخر ما كلمهم هو على ملة عبدالمطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله تعالى فيه: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ».

ومع أن رواية البخاري عندنا مكذوبة، لكنا نستشهد باعترافها بأن أباطالب قال إنه على ملة عبدالمطلب، أي ملة إبراهيم (علیه السلام) .

وفي تفسيرابن عطية: 4/293: «أنا على ملة عبدالمطلب والأشياخ». «ونحوه تفسير الثعلبي: 5/100 وأسباب النزول /178». ويبدو أن كلمة الأشياخ أضافها رواة السلطة وقصدهم بهم أشياخ قريش، لا أشياخ أبي طالب بمعنى آبائه:.

وقد رووا أن أشياخ قريش سألوا أباطالب: هل أسلم؟ فكان يقول لهم: أنا على ملة عبدالمطلب أو ملة إبراهيم (علیه السلام)، ليخفف من عدائهم إذا قال لهم إنه أسلم.

ومما يدل على كذب رواية البخاري أن أباجهل لم يحضروفاة أبي طالب، وأن آية: مَا كَان لِلَّنِبيِّ.. لم تنزل يومها بل هي من سورة التوبة التي نزلت في رجوع النبي (صلی الله علیه و آله) من تبوك في السنة التاسعة، أي بعد وفاة أبي طالب (علیه السلام) بأكثر من عشر سنين.

وفي كمال الدين/171: «كان عبدالمطلب وأبوطالب (علیهما السلام) من أعرف العلماء وأعلمهم بشأن النبي (صلی الله علیه و آله) وكانا يكتمان ذلك عن الجهال وأهل الكفر والضلال».

وفي الكافي: 1/444 من خطبة للإمام الصادق (علیه السلام): «تُبشر به كلُّ أمة مَن بعدها،

ص: 76

ويدفعه كل أب إلى أب من ظهر إلى ظهر، لم يخلطه في عنصره سفاح، ولم ينجسه في ولادته نكاح، من لدن آدم إلى أبيه عبدالله، في خير فرقة، وأكرم سبط، وأمنع رهط، وأكلأ حمل، وأودع حِجْر».

جَدَّا النبي (صلی الله علیه و آله) هاشم وعبدالمطلب

1- تفوُّق هاشم جد النبي (صلی الله علیه و آله) على قريش

فقد أسس هاشم (علیه السلام) رحلتي الشتاء والصيف. قال أبو نصر البخاري في كتابه سرّ السلسلة العلوية /3: «أول من رفع الله تعالى من قريش قبل النبوة أربعة: هاشم، والمطلب، وعبد شمس، ونوفل. خرج هاشم في ألف من قريش إلى الشام، فأخذ من قيصر ملك الروم عهداً لقريش ليتجروا في بلاده. وخرج المطلب إلى اليمن فأخذ من ملوك اليمن عهداً لهم، وركب نوفل البحر فأخذ لهم من النجاشي عهداً».«كان هاشم يُدعى القمر، ويسمى زادُ الركب».عمدة الطالب/25.

«وكان يقال لهاشم والمطلب: البدران لجمالهما». الكامل لابن الأثير: 2/17.

«وكان هاشم أول من سنَّ الرحلتين، فكان يرحل في الشتاء إلى اليمن، والى الحبشة فيكرمه النجاشي، ويرحل في الصيف إلى الشام وبها مات، وربما وصل إلى أنقرة فيدخل على قيصر فيكرمه. ومن خصال بني هاشم ما عبرعنها علي بن أبي طالب: خصصنا بخمس: فصاحة، وصباحة، وسماحة، ونجدة، وحظوة». قبائل العرب لكحالة: 3/1207، في مصادره ابن خلدون: 2/328 والطبري: 5/23 و 9/48.

وقد مَنَّ الله على قريش بفعل هاشم (علیه السلام) فقال: لإيلافِ قُرَيْشٍ.إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ.فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ.الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.

لكن قريشاً لاتشكر نعم ربها، ولذلك رووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يقرأ السورة فيقول: ويلُ أمكم قريش، رحلةَ الشتاء والصيف! في موضع: لإيلافِ قُريش». تاريخ دمشق23/228، الزوائد 7/143،كبير الطبراني 24/178وأحمد 6/460.

وأسس هاشم إطعام الحجيج: «إنما سمي هاشماً لهشمه الثريد للحاج، وكانت

ص: 77

إليه الوفادة والرفادة، وفيه يقول مطرود بن كعب الخزاعي:

عمرو العلى هَشَم الثريد لقومه *** ورجالُ مكةَ مُسْنِتُونَ عجافُ».

«أصاب الناس سنة جدب شديد، فخرج هاشم إلى الشام، وقيل بلغه ذلك وهو بغزة من الشام، فاشترى دقيقاً وكعكاً، وقدم به مكة في الموسم فهشم الخبز والكعك ونحر الجزر، وجعله ثريداً وأطعم الناس حتى أشبعهم، فسمى بذلك هاشماً، وكان يقال له: أبو البطحاء وسيد البطحاء».الطبري: 2/8 واليعقوبي: 1/245.

وفي العدد القوية/140: «كان لهاشم خمسة بنين: عبدالمطلب وأسد ونضلة وصيفي وأبوصيفي. وسُمِّيَ هاشماً لهشمه الثريد للناس في زمن المسغبة، وكنيته أبو نضلة، وإسمه عمرو العلى. قال ابن الزِّبَعْرَى:

كانت قريشٌ بيضةً فتفلَّقَتْ *** فالمخُّ خالصُها لعبد مُناف

الرايشون وليس يوجد رايشٌ *** والقائلونَ هلمَّ للأضياف

والخالطونَ فقيرهم بغنيهم *** حتى يكون فقيرهم كالكافي

عمرو العلى هشمَ الثريد لقومه *** ورجالُ مكة مسنتون عجافِ

2- أمية وهاشم يشبهان قابيل وهابيل

نصَّت أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) على أن الله تعالى أمر آدم أن يوصي لابنه الأصغر هابيل (علیهما السلام)، فأوصى له فحسده قابيل، فتباهلا بالقربان فتقبل الله قربان هابيل دون قابيل، فزاد حسد قابيل لأخيه حتى قتله!

ففي تفسير العياشي: 1/312: «عن سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبدالله (علیه السلام): جعلت فداك إنهم يزعمون أن قابيل إنما قتل هابيل لأنهما تغايرا على أختهما؟ فقال له: يا سليمان تقول هذا! أما تستحيي أن تروى هذا على نبي الله آدم! فقلت: جعلت فداك ففيمَ قتل قابيل هابيل؟ فقال: في الوصية. ثم قال لي: يا سليمان إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى آدم أن يدفع الوصية وإسم الله الأعظم إلى هابيل، وكان قابيل أكبر منه، فبلغ ذلك قابيل فغضب فقال: أنا أولى بالكرامة والوصية! فأمرهما أن يقربا قرباناً

ص: 78

بوحيٍ من الله إليه ففعلا، فقبل الله قربان هابيل، فحسده قابيل فقتله!

فقلت: جعلت فداك فممن تناسل ولد آدم، هل كانت أنثى غير حواء، وهل كان ذكر غير آدم؟ فقال: يا سليمان إن الله تبارك وتعالى رزق آدم من حواء قابيل وكان بكر ولده، ومن بعده هابيل، فلما أدرك قابيل ما يدرك الرجال أظهر الله له جنية وأوحى إلى آدم أن يزوجها قابيل ففعل ذلك آدم، ورضي بها قابيل وقنع، فلما أدرك هابيل ما يدرك الرجال أظهر الله له حوراء، وأوحى الله إلى آدم أن يزوجها من هابيل ففعل ذلك.

فقُتل هابيل والحوراء حامل فولدت الحوراء غلاماً فسماه آدم هبة الله، فأوحى الله إلى آدم أن ادفع إليه الوصية واسم الله الأعظم.

وولدت حواء غلاماً فسماه آدم شيث بن آدم، فلما أدرك ما يدرك الرجال أهبط الله له حوراء وأوحى إلى آدم أن يزوجها من شيث ابن آدم، ففعل فولدت الحوراء جارية فسماها آدم حورة، فلما أدركت الجارية زوج آدم حورة بنت شيث من هبة الله بن هابيل فنسل آدم منهما. فمات هبة الله بن هابيل فأوحى الله إلى آدم أن ادفع الوصية واسم الله الأعظم، وما أظهرتك عليه من علم النبوة، وما علمتك من الأسماء إلى شيث بن آدم. فهذا حديثهم يا سليمان».

أقول: إن حال هاشم وأخيه أمية شبيهة بحال قابيل وهابيل، فقد اتفق المؤرخون على نُبل هاشم (علیه السلام) وتميزه، وأن أباه عبدمناف أوصى له بمفتاح البيت ومواريث إسماعيل (علیه السلام): «وكان مناف وصَّى إلى هاشم، ودفع إليه مفتاح البيت وسقاية الحاج، وقوس إسماعيل».العدد القوية/140.

وقال الطبري: 2/13: «ووليَ هاشم بعد أبيه عبدمناف، السقاية والرفادة». وروت المصادركلها أن أخاه أمية حسده وعاداه، ودعاه إلى المنافرة! ومعنى المنافرة أن يحتكم المتنافران إلى كاهن أو حكيم يقبلان بحكمه!

قال الطبري: 2/1: «فحسده أمية بن عبد شمس بن عبدمناف، وكان ذا مال فتكلف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش، فغضب

ص: 79

ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة! فكره هاشم ذلك لسنه وقدره، ولم تَدَعْهُ قريش وأحفظوه، قال فإني أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق، تنحرها ببطن مكة، والجلاء عن مكة عشر سنين. فرضي بذلك أمية وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي، فنفَّر هاشماً عليه «حكم لهاشم أنه أفضل» فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين، فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية..وتوارث ذلك بنوهما».

وروى الطبري: 2/13، أنهما تنافرا إلى النجاشي ملك الحبشة و«أن عبد شمس وهاشماً توأمان وإن أحدهما ولد قبل صاحبه وإصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه، فنحيت عنها فسال من ذلك دم، فتطير من ذلك فقيل: تكون بينهما دماء»!

وروى ابن عساكر: 9/220 قصة المعمر اليماني مع معاوية: «قال معاوية: إني لأحب أن ألقى رجلاً قد أتت عليه سن وقد رأى الناس، يخبرنا عما رأى، فقال بعض جلسائه: ذلك رجل بحضرموت! فأرسل إليه فأتيَ به فقال له...فأخبرني هل رأيت هاشماً؟ قال: نعم رأيته رجلاً طوالاً حسن الوجه، بين عينيه غرة بركة. قال: فهل رأيت أمية؟ قال: نعم رأيته رجلاً قصيراً أعمى، يقال إن في وجهه لشراً أو شؤماً! قال: فهل رأيت محمداً؟ قال: من محمد؟قال: رسول الله، قال: ويحك ألا فخَّمته كما فخمه الله فقلت رسول الله (صلی الله علیه و آله)! قال: فأخبرني ما كانت صناعتك؟ قال: كنت رجلاً تاجراً. قال: فما بلغت تجارتك؟ قال: كنت لا أشتري عيباً، ولا أرد ربحاً! قال له: سلني، قال: أسألك أن تدخلني الجنة»!

وقالوا: «مات هاشم بغزة وعمره خمس وعشرون سنة وذلك الثبت».«معجم البلدان: 4/202، 3/40». وفي طبقات ابن سعد: 1/78: «فاشتكى، فأقاموا عليه حتى مات، فدفنوه بغزة، ورجعوا بتركته إلى وُلده».

لكن الظاهر أن عمره (رحمة الله) كان في الستينات كما يشير قول الراوي: ودعاه إلى المنافرة فكره هاشم ذلك لسنه وقدره.ويؤيد قولنا أنه أنشأ علاقات مع ملوك عصره، وكانت له سفرات إلى الحبشة والشام واليمن، ووصل إلى أنقرة فأكرمه قيصر.

ص: 80

والمرجح أن أعداءه سقوه السم لأنه أول رجل من أولاد إسماعيل (علیه السلام) كانت له زعامة مطلقة في العرب واحترام من ملوك عصره. وكان لحاسده أمية علاقات باليهود، فقد يكون دبَّر سُمَّه على يد أصدقائه اليهود.

قال ابن قتيبة في المعارف/319: «كان أمية بن عبد شمس خرج إلى الشام فأقام بها عشر سنين، فوقع على أمَةٍ لِلَخْم يهودية من أهل صفورية يقال لها ترنا، وكان لها زوج من أهل صفورية يهودي، فولدت له ذكوان فادعاه أمية واستلحقه، وكناه أبا عمرو ثم قدم به مكة، فلذلك قال النبي (صلی الله علیه و آله) لعقبة يوم أمر بقتله: إنما أنت يهودي من أهل صفورية»!

وفي رواية: «فقال عقبة: يا محمد ناشدتك بالله والرحم! فقال له (صلی الله علیه و آله): وهل أنت إلا علج من أهل صفورية! لأنت في الميلاد أكبر من أبيك الذي تدعى له».

وفي المنمق/97: «فخلف أبو عمرو على امرأة أبيه بعده، فأولدها أبان، وهو أبو معيط! ويقال استحلق ذكوان أيضاً أبان».

وروى ذلك ابن قتيبة في المعارف/319، وقال: «ولَّاه عمر على صدقات بني تغلب. وولَّاه عثمان الكوفة، بعد سعد بن أبي وقّاص، فصلَّى بأهلها وهو سكران»! راجع: الطبقات: 1/75، المنمق/97، الطبري: 1/371و2/13، ابن الأثير: 2/16، النزاع والتخاصم/49، إمتاع الأسماع: 10/6، سبل الهدى: 1/271، السيرة الحلبية: 1/7، المنتظم: 2/212، أعلام النبوة/251، نهاية الإرب/3253، أنساب الأشراف/39، معجم ما استعجم: 3/837، العدد القوية/140وشيخ المضيرة/159.

3- عبدالمطلب عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء (علیهم السلام)

تشهد سيرة آباء النبي (صلی الله علیه و آله) خاصةً عبدالمطلب وأبي طالب، بأنهم من كبار المؤمنين، وأنهم الخط الوارث لإبراهيم وإسماعيل:، فلم يعبدوا الأصنام، بل كانوا يفتخرون بأنهم على ملة أبيهم إبراهيم وإسماعيل.

وقد ميزهم الله تعالى حتى في شكلهم فورَّثهم جمال إبراهيم (علیه السلام)! ولما رأى

ص: 81

أبرهة عبدالمطلب: «فجعل ينظر في وجهه، فراقه حسنه وجماله وهيئته فقال له: هل كان في آبائك مثل هذا النور الذي أراه لك والجمال؟ قال: نعم أيها الملك، كل آبائي كان لهم هذا الجمال والنور والبهاء.فقال له أبرهة: لقد فقتم الملوك فخراً وشرفاً، ويحق لك أن تكون سيد قومك. ثم أجلسه معه على سريره».أمالي الطوسي/80.

وفي أمالي الطوسي/682: «سرير أبرهة لما دخل عليه عبدالمطلب، انحنى ومال»!

«أول من خضب بالسواد من العرب.وكان أبيض مديد القامة».الأعلام: 4/154.

4- ورَّث عبدالمطلب بهاءه إلى أولاده!

قال اليعقوبي: 2/11: «كان لكل واحد من ولد عبدالمطلب شرف وذكر وفضل وقدر ومجد. وحج عامر بن مالك ملاعب الأسنة البيت فقال: رجال كأنهم جمالٌ جون «دُهْم» فقال: بهؤلاء تُمنع مكة!

وحج أكثم بن صيفي في ناس من بني تميم فرآهم يخترقون البطحاء كأنهم أبرجة الفضة، يلحفون الأرض بحبراتهم «جببهم الطويلة»! فقال: يابني تميم إذا أحب الله أن ينشئ دولة أنبت لها مثل هؤلاء، هؤلاء غرس الله لا غرس الرجال».

وفي المنمق/34: «لم يكن في العرب عدة بني عبدالمطلب أشرف منهم ولا أجسم ليس منهم رجل إلا أشم العرنين، يشرب أنفه قبل شفتيه، ويأكل الجذع ويشرب الفرق». «يأكل الخروف الصغير، ويشرب سطل المخيض».

5-آيات عبدالمطلب (علیه السلام) في زمزم

ظهر ماء زمزم لهاجر وإسماعيل (علیهما السلام) بمعجزة، وكان نبعاً صغيراً، ثم كثر الواردون عليه، فشكى إسماعيل لأبيه (علیهما السلام) قلة الماء فأمره الله أن يحفر بئراً فحفره، ونزل جبرئيل (علیه السلام) وأمره أن يسمي ويضرب في زوايا البئر الأربعة، فضرب إبراهيم فانفجرت أربع عيون فقال جبرئيل (علیه السلام): «إشرب يا إبراهيم وادع لولدك فيها بالبركة، وخرج إبراهيم وجبرئيل (علیهما السلام) جميعاً من البئر فقال له: أفض عليك يا إبراهيم وطف حول البيت، فهذه سقيا سقاها الله ولد إسماعيل».الكافي: 4/204.

ص: 82

فزمزم سُقْيَا الله تعالى لبني إسماعيل (علیه السلام) خاصة ومنهم تصل إلى الناس.

وبعد قرون غاض ماء زمزم، حتى أعاده الله تعالى على يد عبدالمطلب (علیه السلام)، فحسده زعماء قريش وأرادوا أن يأخذوه منه! وأجبروه على الإحتكام إلى كاهنة في مشارف الشام فذهب معهم، وفي الطريق نفد ماؤهم فأظهر الله له آية ونبع الماء من تحت خف ناقته، فسلموا له لكن موقتاً، كما سلم اليهود لمريم (علیها السلام) موقتاً!

قال السيوطي في الدر المنثور: 3/220: «وأخرج الأزرقي والبيهقي في الدلائل عن علي بن أبي طالب رضيالله عنه قال: قال عبدالمطلب إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال إحفر طيبة... فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته فقاموا إليه فقالوا: يا عبدالمطلب إنها بئر إسماعيل، وإن لنا فيها حقاً فأشركنا معك فيها، فقال: ما أنا بفاعل إن هذا الأمر خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم. قالوا: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نحاكمك. قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم. قالوا: كاهنة من سعد هذيل. قال: نعم، وكانت بأشراف الشام فركب عبدالمطلب ومعه نفر من بني عبدمناف، وركب من كل ركب من قريش نفر، والأرض إذ ذاك مفاوز، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض المفاوز، بين الحجاز والشام فنيَ ماء عبدالمطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا ممن معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم وقالوا: إنا في مفازة نخشى فيها على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلما رأى عبدالمطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك فمرنا بما شئت. قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم لنفسه لما بكم الآن من القوة، وكلما مات رجل دفنه أصحابه في حفرته ثم واروه، حتى يكون آخركم رجلاً، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعاً! قالوا: سمعنا ما أردت. فقام كل رجل منهم يحفر حفرته ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً، ثم إن عبدالمطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا لعجز، ما نبتغي لأنفسنا حيلة! عسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، إرحلوا فارتحلوا حتى فرغوا ومن معهم من قريش ينظرون إليهم

ص: 83

وما هم فاعلون، فقام عبدالمطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت انفجرت من تحت خفها عين من ماء عذب! فكبَّرعبدالمطلب وكبَّر أصحابه ثم نزل فشرب وشربوا واستقوا حتى ملؤوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل التي معه من قريش فقال: هلمَّ الماء، قد سقانا الله تعالى، فاشربوا واستقوا! فقالت: القبائل التي نازعته: قد والله قضى الله لك يا عبدالمطلب علينا!والله لا نخاصمك في زمزم فارجع إلى سقايتك راشداً! فرجع ورجعوا معه، ولم يمضوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين زمزم».روته عامة المصادر، مثل ابن سعد: 1/83، اليعقوبي: 1/248، ابن إسحاق: 1/5، ابن هشام: 1/94، ابن كثير: 1/169، الحلبية: 1/55 وابن الأثير: 2/13.

وقوله: فكبَّرعبدالمطلب وكبَّر أصحابه. قد يكون بمعنى هتفوا تعجباً كالتكبير، وقد يكون التكبير موجوداً من حنيفية إبراهيم (علیه السلام) فأظهره الإسلام.

6- رؤيا عبدالمطلب كرؤيا أشعيا النبي (علیهما السلام)

في الكافي: 4/219 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان في الكعبة غزالان من ذهب وخمسة أسياف، فلما غَلبت خزاعةُ جِرْهَمَ على الحرم ألقت جرهمُ الأسياف والغزالين في بئر زمزم، وألقوا فيها الحجارة وطموها وعَمَّوْا أثرها، فلما غلب قصي على خزاعة لم يعرفوا موضع زمزم، وعميَ عليهم موضعها، فلما غلب عبدالمطلب (علیه السلام) وكان يفرش له في فناء الكعبة ولم يكن يفرش لأحد هناك غيره، فبينما هو نائم في ظل الكعبة فرأى في منامه أتاه آتٍ فقال له: إحفر بَرَّة، قال: وما برة؟ ثم أتاه في اليوم الثاني فقال: إحفر طيبة، ثم أتاه في اليوم الثالث فقال: إحفر المصونة، قال: وما المصونة؟ ثم أتاه في اليوم الرابع فقال: إحفر زمزم لا تُنزح ولا تُذم، سَقْيُ الحجيج الأعظم، عند الغراب الأعصم، عند قرية النمل.

وكان عند زمزم حِجْرٌ يخرج منه النمل فيقع عليه الغراب الأعصم في كل يوم يلتقط النمل، فلما رأى عبدالمطلب هذا عرف موضع زمزم، فقال لقريش: إني أمرت في أربع ليال في حفر زمزم، وهي مأثرتنا وعزنا فهلموا نحفرها، فلم يجيبوه إلى ذلك، فأقبل

ص: 84

يحفرها هو بنفسه، وكان له ابن واحد وهو الحارث وكان يعينه على الحفر، فلما صعب ذلك عليه تقدم إلى باب الكعبة ثم رفع يديه ودعا الله عزوجل ونذر له إن رزقه عشر بنين أن ينحر أحبهم إليه تقرباً إلى الله عزوجل، فلما حفر وبلغ الطويَّ طويَّ إسماعيل، وعلم أنه قد وقع على الماء، كبَّر وكبرت قريش وقالوا: يا أبا الحارث هذه مأثرتنا ولنا فيها نصيب، قال لهم: لم تعينوني على حفرها، هي لي ولولدي إلى آخر الأبد». ونحوه ابن إسحاق: 1/3، ابن هشام: 1/92.

وفي الكافي: 4/220 عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «لما احتفر عبدالمطلب زمزم وانتهى إلى قعرها، خرجت عليه من إحدى جوانب البئر رائحة منتنة أفظعته، فأبى أن ينثني، وخرج ابنه الحارث عنه، ثم حفر حتى أمعن فوجد في قعرها عيناً تخرج عليه برائحة المسك.

رؤيا عبدالمطلب وهو في داخل زمزم:

ثم احتفر فلم يحفر إلا ذراعاً، حتى تجلاه النوم فرأى رجلاً طويل الباع، حسن الشعر، جميل الوجه، جيد الثوب، طيب الرائحة، وهو يقول: إحفر تغنم، وجُدَّ تسلم، ولا تدخرها للمقسم، الأسياف لغيرك، والبئر لك، أنت أعظم العرب قدراً، ومنك يخرج نبيها ووليها، والأسباط النجباء الحكماء العلماء البصراء، والسيوف لهم، وليسوا اليوم منك ولا لك، ولكن في القرن الثاني منك. بهم ينير الله الأرض، ويخرج الشياطين من أقطارها، ويذلها في عزها ويهلكها بعد قوتها، ويذل الأوثان، ويقتل عُبَّادها حيث كانوا، ثم يبقى بعده نسل من نسلك هو أخوه ووزيره ودونه في السن.. لا يعصيه حرفاً، ولا يكتمه شيئاً ويشاوره في كل أمر هجم عليه.

وجد عبدالمطلب أسيافاً بجنبه:

واستعيا عنها عبدالمطلب«عن الحفر»فوجد ثلاثة عشر سيفاً مسندة إلى جنبه، فأخذها وأراد أن يثب فقال: وكيف ولم أبلغ الماء! ثم حفر فلم يحفر شبراً حتى بداله قرن الغزال ورأسه فاستخرجه، وفيه طُبع: لا إله إلا الله، محمد رسول الله

ص: 85

علي ولي الله، فلان خليفة الله«المهدي (علیه السلام)».

فسأل الراوي الإمام الكاظم (علیه السلام): فلان متى كان قبله أو بعده؟ قال: لم يجئ بعد ولاجاء شئ من أشراطه. فخرج عبدالمطلب وقد استخرج الماء وأدرك وهو يصعد، فإذا أسود له ذنب طويل يسبقه بِداراً إلى فوق، فضربه فقطع أكثر ذنبه ثم طلبه ففاته، وفلانٌ«المهدي (علیه السلام)»قاتله إن شاء الله.

تكملة الرؤيا في حجر الكعبة:

و[كان] من رأي عبدالمطلب (علیه السلام) أن يبطل الرؤيا التي رآها في البئر، ويضرب السيوف صفائح البيت، فأتاه الله بالنوم فغشيه وهو في حجر الكعبة، فرأى ذلك الرجل بعينه وهو يقول: يا شيبة الحمد أحمد ربك، فإنه سيجعلك لسان الأرض وتتبعك قريش خوفاً ورهبة وطمعاً، ضع السيوف في مواضعها.

ثم جاءه في منامه:

واستيقظ عبدالمطلب فأجابه«الملاك»إنه يأتيني في النوم فإن يكن من ربي فهو أحب إليَّ، وإن يكن من شيطان فأظنه مقطوع الذنب، فلم ير شيئاً ولم يسمع كلاماً. فلما أن كان الليل أتاه في منامه بعدة من رجال وصبيان فقالوا له: نحن أتباع وَلدك، ونحن من سكان السماء السادسة. السيوف ليست لك: تزوج في مخزوم تَقْوَ، واضرب بعدُ في بطون العرب، فإن لم يكن معك مال فلك حسب، فادفع هذه الثلاثة عشرسيفاً إلى وُلْدِ المخزومية ولا يَبان لك أكثر من هذا، وسيف لك منها واحد، سيقع من يدك فلا تجد له أثراً، إلا أن يستجنه جبل كذا وكذا، فيكون من أشراط قائم آل محمد.

فانتبه عبدالمطلب وانطلق والسيوف على رقبته، فأتى ناحية من نواحي مكة، ففقد منها سيفاً كان أرقَّها عنده، فيظهر من ثَمَّ.

ثم دخل معتمراً وطاف بها على رقبته والغزالين، أحداً وعشرين طوافاً، وقريش تنظر إليه وهو يقول: اللهم صدق وعدك فأثبت لي قولي، وانشر ذكري وشد عضدي، وكان هذا ترداد كلامه، وما طاف حول البيت بعد رؤياه في البئر ببيت شعر حتى مات. ولكن قد ارتجز على بنيه يوم أراد نحر عبدالله، فدفع الأسياف جميعها إلى بني

ص: 86

المخزومية إلى الزبير وإلى أبي طالب وإلى عبدالله، فصارلأبي طالب من ذلك أربعة أسياف: سيف لأبي طالب، وسيف لعلي، وسيف لجعفر، وسيف لطالب، وكان للزبير سيفان، وكان لعبدالله سيفان، ثم عادت فصارت لعلي الأربعة الباقية: اثنين من فاطمة واثنين من أولادها، فطاح سيف جعفر يوم أصيب فلم يُدْرَ في يد من وقع حتى الساعة. ونحن نقول: لايقع سيف من أسيافنا في يد غيرنا إلا رجل يعين به معنا، إلا صار فحماً.

قال: وإن منها لواحداً في ناحية يخرج كما تخرج الحية فيبين منه ذراع وما يشبهه فتبرق له الأرض مراراً، ثم يغيب، فإذا كان الليل فعل مثل ذلك، فهذا دأبه حتى يجيئ صاحبه، ولو شئت أن أسمي مكانه لسميته، ولكن أخاف عليكم من أن أسميه فتسموه، فينسب إلى غير ما هو عليه».

7- شرح رؤيا عبدالمطلب

قوله: وانتهى إلى قعرها: يدل على أن حفرها القديم كان معلوماً وقعرها واسعاً.

وخرج ابنه الحارث عنه: أي لم يتحمل الرائحة الكريهة، فكأن الله أراد أن يبقى عبدالمطلب وحده، ليخصه بآياته. حتى تجلاه النوم: بعدما وجد عيناً برائحة المسك.

فرأى رجلاً طويل الباع: هو الملاك الذي رآه بعدها في حجر الكعبة، وكأنه لايأتي إلا في النوم: فأتاه الله بالنوم فغشيه وهو في حجر الكعبة، فرأى ذلك الرجل بعينه.

ومنك يخرج نبيها ووليها والأسباط النجباء..: هذه بشار ة لعبدالمطلب

رضيالله عنه بالنبي والأئمة من ذريته (صلی الله علیه و آله) وقد سماه له محمداً (صلی الله علیه و آله) .

ومعنى: ليسوا اليوم منك، أنهم ليسوا نفس أولادك الموجودين، ولا أنهم يولدون لك مباشرة، بل هم من ذريتك في القرن الثاني.

والسيوف لهم: رمز القوة والنصرة والتأييد الإلهي. وعددها ثلاثة عشر، وهي رمز لأسهم هؤلاء من نصرة النبي (صلی الله علیه و آله) . وسيف طالب يدل على إيمانه رضيالله

ص: 87

عنه ونصرته للنبي (صلی الله علیه و آله)، وليس فيها سيف لعقيل (رحمة الله) .

يبقى بعده نسل من نسلك هو أخوه ووزيره: هذه بشارة له بولده علي (علیه السلام) .

واستعيا عنها: أي تعب فأراد ترك الحفر، لكنه عاود الحفر فوجد غزال الذهب. وفيه طُبع: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله، فلان خليفة الله: هذه بشارة له بالنبي بإسمه (صلی الله علیه و آله) وعلي باسمه (علیه السلام)،والمهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً باسمه (علیه السلام) . وهو يدل على أن عبدالمطلب سماه محمداً (صلی الله علیه و آله) بإلهام ربه عزوجل.

فإذا أسود له ذنب طويل: كانت زمزم واسعة ومنحدرها متدرج، تشبه عين المغراس في المدينة، وقد نزلت إليها في درج. ورأى عبدالمطلب وهو صاعد منها ثعباناً أسود فضربه فقطع أكثر ذنبه ولم يُقتل، وهو يرمز إلى أعداء أولاده:.

وقوله: وفلانٌ «المهدي (علیه السلام)» قاتله إن شاء الله: يظهر أنه من كلام الإمام الكاظم (علیه السلام) .

أن يبطل الرؤيا التي رآها في البئر: أراد عبدالمطلب أن لايعمل برؤياه، وأن يستعمل السيوف في صنع باب الكعبة.

فلما أن كان الليل أتاه في منامه بعدة من رجال وصبيان: أي أتاه نفس الرجل ومعه جماعة، وهم ملائكة، ومعنى أنهم من السماء السادسة، ومن أتباع النبي (صلی الله علیه و آله): أنهم أنصار خاصون له سيأتون في المستقبل لنصرته (صلی الله علیه و آله) .

فقالوا له: تزوج في مخزوم تَقْوَ: أي تكلم هؤلاء الملائكة من أتباع النبي (صلی الله علیه و آله)، وأمروه أن يتزوج فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم،أم عبدالله والد النبي (صلی الله علیه و آله) وأم شقيقيه أبي طالب والزبير، وهذا يدل على مكانتها عند الله تعالى.

واضرب بعد في بطون العرب: أي تزوج غيرها أيضاً من قبائل العرب الأخرى.

فدفع الأسياف جميعها إلى بني المخزومية: وهي سهمهم من نصرة النبي (صلی الله علیه و آله) .

وسيف لك منها واحد، سيقع من يدك فلا تجد له أثراً: هو سيف المهدي (علیه السلام) وكان أرق السيوف، أي أمضاها، وقد أمروه أن يحمل الأسياف ويخرج من مكة، ففقد السيف في ناحية من مكة. وكأن خروج عبدالمطلب من مكة رمز لهجرة النبي (صلی الله علیه و آله) . وفقدانه السيف ليجنه الجبل ويحفظه للمهدي (علیه السلام) .

ص: 88

فيظهر من ثَمَّ: أي يظهر السيف من هناك لنصرة المهدي (علیه السلام) عند خروجه فيأخذه، وهو رمز قوته التي يعطيه إياها الله تعالى، وهو نفسه السيف الذي يخرج في جبل في مكة ويلمع، ثم يغيب حتى يظهر صاحبه المهدي (علیه السلام)، وقد ورد في علامة المهدي (علیه السلام): «وخرج صاحب هذا الأمر من المدينة إلى مكة بتراث رسول الله (صلی الله علیه و آله) .فقلت: ما تراث رسول الله؟ قال: سيف رسول الله ودرعه وعمامته وبرده وقضيبه ورايته ولأمته وسرجه، حتى ينزل مكة فيخرج السيف من غمده، ويلبس الدرع وينشر الراية والبردة والعمامة ويتناول القضيب بيده، ويستأذن الله في ظهوره».الكافي: 8/224.

ولكن أخاف عليكم من أن أسميه فتسموه، فينسب إلى غير ما هو عليه: أي أخاف أسمي الذي عنده السيف الآن، وهو الإمام الكاظم (علیه السلام) نفسه، لئلا يقال ذلك، فيتصور السلطان أنه يريد الخروج عليه.

لايقع سيف من أسيافنا في يد غيرنا إلا رجل يعين به معنا إلا صار فحماً: هذا يؤكد أن السيوف بمعنى نصرتهم:وفي كل واحد منها سر، فإذا وقع في يد مخالف لهم، بطل سره وتحول إلى فحم.

أقول: هذه الآيات والكرامات، وهذه الرؤيا، كافية لأن يعتقد المنصف بأن عبدالمطلب (علیه السلام) من كبار الأولياء. لكن حسد قريش منعهم من الإقرار!

وفي الكافي: 1/447 قال الإمام الصادق (علیه السلام): «يبعث عبدالمطلب أمة وحده، عليه بهاء الملوك، وسيماء الأنبياء (علیهم السلام)، وذلك أنه أول من قال بالبداء».

ومعناه أنه على درجة عالية من الإيمان والتسليم المطلق لله تعالى فيما يفعله حتى لو كان بخلاف توقعنا. فقد أنبأه الله أنه سيدفع جيش أبرهة، فأخبر أهل مكة وأبرهة بذلك، وفي نفس الوقت دعا ربه أن يدفع عن بيته، ثم خاطبه قائلاً:

إن كنت تاركهم وقب- *** -لتنا فأمرٌ ما بدا لك

أي إني مسلِّمٌ لأمرك ومؤمن بك، حتى لو لم تفعل ما أخبرتني به!

ص: 89

8- آية عبدالمطلب مع ثقيف

روى المؤرخون جميعاً أنه كان لعبدالمطلب بئر في الطائف يسمى ذا الهرم، حفره بعد زمزم، وكان مع بستانه بيد ثقيف، فأخذوه وأنكروه، ونافروه إلى سطيح الكاهن، فظهرت له آية في الطريق كما ظهرت في مخاصمة قريش له في زمزم.

قال اليعقوبي: 1/248: «وكان عبدالمطلب لما حفر زمزم صار إلى الطائف فاحتفر بها بئراً يقال لها ذو الهرم، فكان يأتي أحياناً فيقيم بذلك الماء، فأتى مرة فوجد به حيين من قيس عيلان، وهم بنو كلاب وبنو الرباب، فقال عبدالمطلب: الماء مائي وأنا أحق به، وقال القيسيون: الماء ماؤنا ونحن أحق به. قال: فإني أنافركم إلى من شئتم يحكم بيني وبينكم، فنافروه إلى سطيح الغساني، وكان كاهن العرب يتنافرون إليه، فتعاهد القوم وتعاقدوا على أن سطيحاً إن قضى بالماء لعبدالمطلب فعلى كلاب وبني الرباب مائة من الإبل لعبدالمطلب، وعشرون لسطيح، وإن قضى سطيح بالماء للحيين، فعلى عبدالمطلب مائة من الإبل للقوم وعشرون لسطيح، فانطلقوا وانطلق عبدالمطلب بعشرة نفر من قريش فيهم حرب بن أمية فجعل عبدالمطلب لا ينزل منزلاً إلا نحر جزوراً وأطعم الناس، فقال القيسيون: إن هذا الرجل عظيم الشأن جليل القدر شريف الفعل، وإنا نخشى أن يطمع حاكمنا بهذا فيقضي له بالماء، فانظروا لا نرضى بقول سطيح حتى نخبئ له خبأ، فإن أخبرنا ما هو رضينا بحكمه وإلا لم نرض به. فبينا عبدالمطلب في بعض الطريق إذ فني ماؤه وماء أصحابه، فاستسقى القيسيين من فضل مائهم فأبوا أن يسقوهم، وقالوا: أنتم الذين تخاصموننا وتنازعوننا في مائنا، والله لا نسقيكم! فقال عبدالمطلب: أيهلك عشرة من قريش وأنا حي! لأطلبن لهم الماء حتى ينقطع خيط عنقي وأُبلي عذراً، فركب راحلته وأخذ الفلاة فبينا هو فيها، إذ بركت راحلته وبصر به القوم، فقالوا: هلك عبدالمطلب! فقال القرشيون: كلا والله لهو أكرم على الله من أن يهلكه وإنما مضى لصلة الرحم، فانتهوا إليه وراحلته تفحص بكركرتها على ماء عذب رويٍّ، قد ساح على ظهر الأرض، فلما رأى القيسيون ذلك أهرقوا أسقيتهم، وأقبلوا نحوهم ليأخذوا من الماء، فقال القرشيون: كلا والله،

ص: 90

ألستم الذين منعتمونا فضل ماءكم؟ فقال عبدالمطلب: خلوا القوم، فإن الماء لا يمنع! فقال القيسيون: هذا رجل شريف سيد، وقد خشينا أن يقضى له علينا، فلما وصلوا إلى سطيح قالوا: إنا قد خبأنا لك خبأ، وأخذ إنسان منهم تمرة في يده فقال: فأخبرنا ما هو؟ فقال: خبأتم لي ما طال فسمك، ثم أينع فما هلك، ألق التمرة من يدك..قالوا: إقض بيننا! قال: قد قضيت. اختصمتم أنتم وعبدالمطلب في ماء بالطائف يقال له ذو الهرم، فالماء ماء عبدالمطلب، ولا حق لكم فيه، فأدوا إلى عبدالمطلب مائة من الإبل وإلى سطيح عشرين، ففعلوا.

وانطلق عبدالمطلب ينحر ويطعم، حتى دخل مكة، فنادى مناديه: يا معشر أهل مكة إن عبدالمطلب يسألكم بالرحم، لما قام كل رجل منكم حدثته نفسه أن يغنيني عن هذا الغرم، فأخذ مثل ما حدثته نفسه. فقاموا وأخذوا من بعير واثنين وثلاثة على قدر ما حدثت كل امرئ منهم نفسه، وفضلت بعد ذلك جزائر، فقال عبدالمطلب لابنه أبي طالب: أي بني! قد أطعمت الناس، فانطلق بهذه الجزائر، فانحرها على أبي قبيس، حتى يأكلها الطير والسباع، ففعل أبوطالب ذلك، فأصابها الطير والسباع. قال أبوطالب:

ونطعم حتى يأكل الطير فضلنا *** إذا جعلت أيدي المفيضين تَرْعُدُ».

ورواه البلاذري في أنساب الأشراف: 1/74، الميداني في مجمع الأمثال: 1/47، الحموي في معجم البلدان: 5/403، ابن حبيب في المنمق/94 وابن سعد في الطبقات: 1/87.

9- آيات عبدالمطلب (علیه السلام) في غزو أبرهة للكعبة

كعبة نجران بدل الكعبة

بنى نصارى نجران كنيسة ودعوا العرب إلى حجها. ففي معجم البلدان: 5/268: «كعبة نجران هذه، يقال بِيعَة بناها بنو عبدالملك بن الديان الحارثي على بناء الكعبة، وعظموها مضاهاة للكعبة، وسموها كعبة نجران، وكان فيها أساقفة مقيمون، وهم الذين جاؤوا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ودعاهم إلى المباهلة».

«كان لآل عبدالمدان بن الديان سادة بني الحارث بن كعب، وكان بناؤه مربعاً

ص: 91

مستوي الأضلاع والأقطار مرتفعاً من الأرض، يُصعد إليه بدرجة على مثال بناء الكعبة، فكانوا يحجونه هم وطوائف من العرب، ممن يحل الأشهر الحرم، ولا يحجون الكعبة، وتحجه خثعم قاطبة.

وكان أهل ثلاثة بيوتات يتبارون في البِيَع وزَيِّها: آل المنذر بالحيرة، وغسان بالشام، وبنو الحارث بن كعب بنجران، ويعتمدون ببنائها المواضع الكثيرة الشجر والرياض والمياه، وكانوا يجعلون في حيطانها وسقوفها الفسافس والذهب. وكان على ذلك بنو الحارث إلى أن أتى الله بالإسلام، فجاء النبيَّ (صلی الله علیه و آله) منهم العاقب والسيد وغيرهما للمباهلة، فاستعفوا منها». معجم ما استعجم: 2/603.

وبنو عبدالمدان كانوا حكام نجران وقساوستها، وكانوا يهوداً فتنصروا.

كعبة صنعاء بدل الكعبة

وبنى أبرهة حاكم اليمن كعبةً بصنعاء ودعا الناس للحج اليها، ثم قصد بجيشه الكعبة ليهدمها! قال تعالى: ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَاكُولٍ.!

قال في معجم البلدان: 3/427 و494: «بنى أبرهة بصنعاء القُلِّيْس وأخذ الناسَ بالحج إليه، وبناه بناء عجيباً.. مدينة لم يَرَ الناس أحسن منها، ونقشها بالذهب والفضة والزجاج والفسيفساء، وألوان الأصباغ، وصنوف الجواهر، وجعل فيها خشباً له رؤوس كرؤوس الناس، ولكَّكَهَا بأنواع الأصباغ، وجعل لخارج القبة بُرنساً، فإذا كان يوم عيدها كشف البرنس عنها فيتلألأ رخامها مع ألوان أصباغها، حتى تكاد تلمع البصر.

الصنعاني قال: رأيت مكتوباً على باب القُلَّيس وهي الكنيسة التي بناها أبرهة على باب صنعاء بالمسْند: بنيتُ هذا لك من مالك ليذكر فيه إسمك، وأنا عبدك.

ولما استتم أبرهة بنيان القليس كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب.

قال عبدالرحمن بن محمد: سميت القُلَّيس لارتفاع بنيانها وعلوها، ومنه القلانس

ص: 92

لأنها في أعلى الرؤوس..وكان أبرهة قد استذل أهل اليمن في هذه الكنيسة وجشمهم فيها أنواعاً من السخر، وكان ينقل إليها آلات البناء كالرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب، من قصر بلقيس صاحبة سليمان (علیه السلام)، وكان من موضع هذه الكنيسة على فراسخ، وكان فيه بقايا من آثار ملكهم، فاستعان بذلك على ما أراده من بناء هذه الكنيسة وبهجتها وبهائها، ونصب فيها صلباناً من الذهب والفضة، ومنابر من العاج والآبنوس.

فبقيت من ذلك العهد بما فيها من العدد والآلات من الذهب والفضة ذات القيمة الوافرة والقناطير من المال، لايستطيع أحد أن يأخذ منه شيئاً، إلى زمان

أبي العباس السفاح، فذكر له أمرها فبعث إليها خاله الربيع بن زياد الحارثي عامله على اليمن، وأصحبه رجالاً من أهل الحزم والجلَد، حتى استخرج ما كان فيها من الآلات والأموال، وخربها حتى عفى رسمها وانقطع خبرها، وكان الذي يصيب من يريدها من الجن منسوباً إلى كَعِيتْ وامرأته، صنمان كانا بتلك الكنيسة بنيت عليهما! فلما كُسر كَعِيت وامرأته أصيب الذي كسرهما بجذام، فافتتن بذلك رعاع اليمن وقالوا: أصابه كعيت»!

أقول: لعل قصر بلقيس كان في غير مأرب، لأنهم قالوا إنه على بعد فراسخ من صنعاء أي قليلة، ومأرب على فراسخ كثيرة، كما يدل النص على طمع الدوانيقي وحرصه على جمع المال، ولهذا سمي أبا الدوانيق.

وقد ذكروا أن رجلاً من العرب دخل كعبة أبرهة وأحدث فيها، فغضب أبرهة وحلف أن يهدمَ الكعبة في مكة وخرج بجيشه اليها، ولا يبعد أن تكون القصة مكذوبة من أبرهة لتبررغزوه للكعبة ليهدمها ويجبر العرب على حج قُلَّيْسِه! راجع عن كعبة صنعاء: تاريخ الطبري: 1/550، تفسيره: 30/386 وابن خلدون: 2 ق: 1/61.

10- عبدالمطلب وأصحاب الفيل

في الكافي: 4/216 عن هشام بن سالم، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما أقبل

ص: 93

صاحب الحبشة بالفيل يريد هدم الكعبة، مروا بإبل لعبدالمطلب فاستاقوها، فتوجه عبدالمطلب إلى صاحبهم يسأله رد إبله عليه، فاستأذن عليه فأذن له وقيل له: إن هذا شريف قريش أو عظيم قريش، وهو رجل له عقل ومروة، فأكرمه وأدناه، ثم قال لترجمانه: سله ما حاجتك؟ فقال له: إن أصحابك مروا بإبل لي فاستاقوها فأحببت أن تردها عليَّ، قال: فتعجب من سؤاله إياه رد الإبل وقال: هذا الذي زعمتم أنه عظيم قريش وذكرتم عقله، يدع أن يسألني أن أنصرف عن بيته الذي يعبده! أما لو سألني أن أنصرف عن هَدِّه لانصرفت له عنه! فأخبره الترجمان بمقالة الملك فقال له عبدالمطلب: إن لذلك البيت رباً يمنعه، وإنما سألتك رد إبلي لحاجتي إليها،

فأمر بردها عليه.

ومضى عبدالمطلب حتى لقي الفيل على طرف الحرم، فقال له: محمود! فحرك رأسه فقال له: أتدري لما جئ بك؟ فقال برأسه: لا، فقال: جاؤوا بك لتهدم بيت ربك أفتفعل؟ فقال برأسه: لا. قال: فانصرف عنه عبدالمطلب.

وجاؤوا بالفيل ليدخل الحرم، فلما انتهى إلى طرف الحرم امتنع من الدخول فضربوه فامتنع، فأداروا به نواحي الحرم كلها، كل ذلك يمتنع عليهم فلم يدخل! وبعث الله عليهم الطيركالخطاطيف في مناقيرها حجر كالعدسة أو نحوها، فكانت تحاذي برأس الرجل ثم ترسلها على رأسه فتخرج من دبره، حتى لم يبق منه أحد إلا رجل هرب! فجعل يحدث الناس بما رأى إذا طلع عليه طائر منها فرفع رأسه فقال: هذا الطير منها، وجاء الطير حتى حاذى برأسه ثم ألقاها عليه فخرجت من دبره فمات»!

وفي الطبقات: 1/92 والطبري: 1/557: «فأمر برد إبله عليه، فلما قبضها قلدها النعال وأشعرها وجعلها هدياً وبثها في الحرم، لكي يصاب منها شئ فيغضب رب الحرم! وأوفى عبدالمطلب على حراء، ومعه عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، ومطعم بن عدي، وأبو مسعود الثقفي، فقال عبدالمطلب:

لاهُمَّ إن المرءَ يمنعُ *** رحله فامنع حلالك

لا يغلبنَّ صليبهم *** ومحالهم عدواً محالك

ص: 94

ونزل عبدالمطلب من حراء، فأقبل عليه رجلان من الحبشة فقبلا رأسه وقالا له: أنت كنت أعلم».

وفي كنز الفوائد/81، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما ظهرت الحبشة باليمن وجَّه يكسوم ملك الحبشة بقائدين من قواده، يقال لأحدهما أبرهة والآخر أرباط في عشرة من الفيلة كل فيل في عشرة آلاف، لهدم بيت الله الحرام، فلما صاروا ببعض الطريق وقع بأسهم بينهم واختلفوا، فقتل أبرهة أرباط واستولى على الحبش، فلما قارب مكة طرد أصحابه عيراً لعبدالمطلب بن هاشم، فصار عبدالمطلب إلى أبرهة، وكان ترجمان أبرهة والمستولي عليه ابن داية لعبدالمطلب، فقال الترجمان لأبرهة: هذا سيد العرب وديَّانها فأجلَّه وأعظمه، ثم قال لكاتبه: سله ما حاجته؟ فسأله فقال: إن أصحاب الملك طردوا لي نعماً! فأمر بردها ثم أقبل على الترجمان فقال: قل له عجباً لقوم سودوك ورأسوك عليهم حيث تسألني في عير لك، وقد جئت لأهدم شرفك ومجدك، ولو سألتني الرجوع عنه لفعلت! فقال: أيها الملك إن هذه العير لي وأنا ربها فسألتك إطلاقها، وإن لهذه البَنِيَّة رباً يدفع عنها! قال: فإني غاد لهدمها حتى أنظر ماذا يفعل! فلما انصرف عبدالمطلب حلَّ أبرهة بجيشه، فإذا هاتف يهتف في السحر الأكبر: يا أهل مكة أتاكم أهل عكة بجحفل جرار يملأ الأندار ملء الجفار، فعليهم لعنة الجبار! فأنشأ عبدالمطلب:

أيها الداعي لقد أسمعتني *** كلَّمَا قُلْتَ وما بي من صَمَمْ

إن للبيت لرباً مانعاً *** من يُرده بأثامٍ يصطلم

رامهُ تُبَّعُ في أجناده *** حميرٌ والحيُّ من آل إرم

هلكت بالبغي فيه جرهمٌ *** بعد طَسْمٍ وجَديسٍ وجُثَمْ

وكذاك الأمر فيمن كاده *** ليس أمر الله بالأمر الأَمَم

نحن آلُ الله فيما قد خلا *** لم يزل ذاك على عهد ابْرَهَمْ

ص: 95

لم يزل لله فينا حجةٌ *** يدفع الله بها عنها النقم

نعرف الله وفينا شيمة *** صلة الرحم ونوفي بالذمم

ولنا في كل دور كرة *** نعرف الدين وطوراً في العجم

فإذا ما بلغ الدور إلى *** منتهى الوقت أتى طيْرُ القدم

بكتاب فصلت آياته *** فيه تبيان أحاديث الأمم

فلما أصبح عبدالمطلب جمع بنيه وأرسل الحارث ابنه الأكبر إلى أعلى جبل أبي قبيس فقال: أنظر يا بني ماذا يأتيك من قبل البحر؟ فرجع فلم ير شيئاً، فأرسل واحداً بعد آخر من ولده، فلم يأته أحد منهم عن البحر بخبر. فدعا ولده عبدالله وإنه لغلام حين أيفع وعليه ذؤابه تضرب إلى عجزه، فقال له: إذهب فداك أبي وأمي فاعلُ أبا قبيس وانظر ماذا ترى يجئ من البحر؟ فنزل مسرعاً فقال:

يا سيد النادي، رأيت سحاباً من قِبل البحر مُقبلاً، يُسْفِلُ تارةً ويرتفع أخرى! إن قلت غيماً قلته، وإن قلت جهاماً خلته، يرتفع تارةً، وينحدر أخرى!

فنادى عبدالمطلب: يا معشر قريش، أدخلوا منازلكم فقد أتاكم الله بالنصر من عنده، فأقبلت الطير الأبابيل في منقار كل طير حجر وفي رجليه حجران، فكان الطائرالواحد يقتل ثلاثة من أصحاب أبرهة! كان يلقي الحجر في قمة رأس الرجل فيخرج من دبره! وقد قص الله تبارك وتعالى نبأهم فقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ».

أقول: هذه الفقرة الوحيدة التي وصلت الينا من كلام عبدالله والد نبينا (صلی الله علیه و آله)، وهي تدل على أدبه وبلاغته سلام الله عليه، فخطابه لأبيه عبدالمطلب مميز بتعبيره واحترامه، ثم وصف سرب طيور الأبابيل بأنها سحاب، قد يكون غيماً فيه مطر، أو جهاماً أي غيماً أفرغ مطره. العين:3/397.

ثم وصف سربها بأنه يسفل ثم يرتفع، ثم وصفه بأنه يرتفع ثم ينحدر، وهذا من أبلغ الوصف. وقد فهم عليه أبوه (علیهما السلام)، وعرف أنها الطيور الموعودة له من ربه، في منامه أو بهاتف من الملائكة هاتفه، سلام الله عليهم.

ص: 96

وقالوا إنها أشبه بطائر السنونو، قد تكون ملائكة عذاب على شكل طيور.

هذا، وقد روى في البحار: 62/233 هلاك أبرهة فقال: «وأصيب أبرهة حتى تساقط أُنملةً أنملة، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر! حتى انصدع صدره عن قلبه، وانفلت وزيره وطائرٌ يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي، فقص عليه القصة، فلما انتهى وقع عليه الحجر، فخرَّ ميتاً بإذن الله بين يديه»!

ومعناه أن وزير أبرهة ذهب إلى أثيوبيا ليخبر النجاشي، فتبعه طائر الأبابيل وصبر عليه حتى أكمل القصة للمك، فرماه بالقنبلة الربانية، وهي

حجر السِّجِّيل!

11- تعاظم حسد قريش لعبدالمطلب (علیه السلام)

لما ظهرت آية الأبابيل بجيش أبرهة، سطع إسم الكعبة وعبدالمطلب في بلاد العرب وخارجها، وتوافد العرب إلى الحج أكثر من السابق، معتزين بحجهم إلى الكعبة، متبركين بوارث إبراهيم ولي الله عبدالمطلب (علیهما السلام)، وتولى سقايتهم من زمزم التي وهبها له الله، وضيافتهم بثريد أبيه هاشم المشهور. وصار عبدالمطلب سيد العرب بلا منازع، فزاد الحسد في صدور زعماء قريش!

وبعد سنتين من هلاك أبرهة حكم اليمن ابنه مسروق، وبعد سنتين من حكمه نجح سيف بن ذي يزن باستقدام كتيبة من كسرى، وقاتل مسروق بن أبرهة فقتله، ودخل صنعاء فاتحاً، وتَوَّجَ الجيش الفارسي ابن ذي يزن ملكاً على اليمن.

روى الصدوق (رحمة الله) في كمال الدين/176: «لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة وذلك بعد مولد النبي (صلی الله علیه و آله) بسنتين، أتاه وفد العرب وأشرافها وشعراؤها بالتهنئة، تمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثار قومه،

فأتاه وفد من قريش ومعهم عبدالمطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وعبدالله بن جدعان، وأسد بن خويلد بن عبدالعزى، ووهب بن عبدمناف،

في أناس من وجوه قريش فقدموا عليه صنعاء». في حديث طويل، ذكر فيه

ص: 97

احترام سيف بن ذي يزن لعبدالمطلب احتراماً خاصاً، وإخباره بقرب عصر نبي في مكة وتمنى لو يدركه لينصره، فقال له: «إذا ولد بتهامة، غلام بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، ولكم به الدعامة إلى يوم القيامة. فقال له عبدالمطلب: أبيت اللعن، لقد أبتُ بخبر ما آب بمثله وافد، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته «جزيته» عن مَسَارِّه إياي ما ازدادَ به سروراً، فقال ابن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد فيه، إسمه محمد، يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه، وقد ولد سراراً والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً ليعز بهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه.. فهل أحسست شيئاً مما ذكرته؟ فقال: كان لي ابن وكنت به معجباً وعليه رفيقاً، فزوجته بكريمة من كرائم قومي إسمها آمنة بنت وهب، فجاءت بغلام سميته محمداً، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه. فقال ابن ذي يزن: إن الذي قلتُ لك كما قلتُ لك، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود، فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً».والمنمق/426. راجع: الأخبار الطوال/63، اليعقوبي: 1/165و 2/9 والطبقات: 5/533.

12- أسس حلف الفضول لمنع الإعتداء على الحجاج

أعداء النبي وآله (صلی الله علیه و آله) هم أعداء أجدادهم قبل الإسلام! وقد قال (صلی الله علیه و آله): «الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا». البخاري: 4/122.

ورويناه عن الإمام الصادق (علیه السلام) بلفظ أدق: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فمن كان له في الجاهلية أصل فله في الإسلام أصل». الكافي: 8/177.

وعندما تحسن وضع قريش الإقتصادي، بفضل رحلتي الشتاء والصيف، وتعاظم موسم الحج إلى الكعبة بعد آية أصحاب الفيل، ازدحمت مكة في الموسم، وكثرت تعديات القرشيين على الحجاج والتجار الوافدين إلى مكة!

وكانت المشكلة أمام عبدالمطلب أنه إذا أراد منع الظلم وقفت قبيلة الظالم معه تناصره! فرأى أن ينشئ حلفاً قبلياً ليمنع قبيلة الظالم أن تنصره، فأسس حلف الفضول، وكان أصل هذا الحلف لأخوال أبناء إسماعيل (علیه السلام) .

ص: 98

ففي أنساب الأشراف/13: «كان في جرهم رجال يردون المظالم، يقال لهم فضيل وفضال ومفضل وفضل، فتحالفوا على ذلك».

وروى اليعقوبي أن قريشاً بدأت بتشكيل حلف ضد عبدالمطلب، وروى أن الحلفین عبدالطلب كان السابق، مما يدل على أن الحلفين كانا متزامنين.

قال اليعقوبي: 1/248: «ولما رأت قريش أن عبدالمطلب قد حاز الفخر، طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزُّوا، وكان أول من طلب ذلك بنو عبدالدار لما رأت حال عبدالمطلب، فمشت بنو عبدالدار إلى بني سهم فقالوا: إمنعونا من بني

عبدمناف... فتطيَّب بنو عبدمناف وأسد وزهرة وبنو تيم وبنو الحارث بن فهر، [وخزاعة] فسموا حلف المطيبين. فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرةً وقالوا: من أدخل يده في دمها ولعق منه فهو منا! فأدخلت أيديها بنو سهم، وبنو عبدالدار، وبنو مخزوم، وبنو جمح، وبنو عدي، فسموا اللعقة».

قال ابن بكار: «كان بنو سهم وبنو جمح أهل بغي وعدوان، فأكثروا من ذلك».شرح النهج: 15/224.

وكانت خزاعة هي ركن حلف عبدالمطلب، قال في المنمق/87: «وكتبوا كتاباً كتبه لهم أبو قيس بن عبدمناف بن زهرة، وكان بنو زهرة يكرمون عبدالمطلب لصهره فكان الكتاب: هذا ما تحالف عليه عبدالمطلب ورجالات بني عمرو من خزاعة ومن معهم من أسلم ومالك، تحالفوا على التناصر والمؤاساة، حلفاً جامعاً غير مفرق، الأشياخ على الأشياخ، والأصاغر على الأكابر، والشاهد على الغائب، تعاهدوا وتعاقدوا ما شرقت الشمس على ثبير، وما حن بفلاة بعير. عقده عبدالمطلب بن هاشم، ورجال بني عمرو فصاروا يداً دون بني النضر، فعلى عبدالمطلب النصرة لهم على كل طالب وتر في بر أو بحر أو سهل أو وعر، وعلى بني عمرو النصرة لعبدالمطلب وولده على جميع العرب، في الشرق أو الغرب أو الحزَن أو السهب، وجعلوا الله على ذلك كفيلاً، وكفى بالله حميلاً.

ثم علقوا الكتاب في الكعبة، فقال عبدالمطلب:

ص: 99

سأوصي زبيراً إن توافت منيتي *** بإمساك ما بيني وبين بني عمرو

وأن يحفظ الحلف الذي سن شيخه *** ولا يلحدن فيه بظلم ولاغدر

هم حفظوا الإلَّ القديم وحالفوا *** أباك فكانوا دون قومك من فهر

وفي تصديق ذلك قول عمرو بن سالم للنبي (صلی الله علیه و آله) حين أغارت عليهم بنو بكر فقتلوا من قتلوا من خزاعة:

لا هُمَّ إني ناشدٌ محمدا *** حلف أبينا وأبيه الأتلدا».

وجدَّد الزبير بن عبدالطلب حلف الفضول وحضره النبي (صلی الله علیه و آله)، وروت ذلك عامة المصادر كمحمد بن حبيب في كتابه المنمق/186، عن حكيم بن حزام قال: «كان حلف الفضول منصرف قريش من الفجار وبينه وبين الفيل عشرون سنه، ورسول الله صلى الله عليه يومئذ ابن عشرين سنة، قالوا: وكان الفجار في شوال وكان الحلف في ذي القعدة، وكان هذا الحلف أشرف حلف جرى، وكان أول من تكلم فيه ودعا إليه الزبير بن عبدالمطلب، وذلك أن الرجل من العرب أو غيرها من العجم ممن كان يقدم بالتجارة ربما ظُلم بمكة، وكان الذي جرَّ ذلك أن رجلاً من بني زبيد قدم بسلعة فباعها من العاص بن وائل السهمي فظلمه ثمنها، فناشده الزبيدي في حقه فلم يعطه، فأتى الزبيدي الأحلاف: عبدالدار ومخزوماً وجمح وسهماً وعدياً، فأبوا أن يعينوه وزبروه وزجروه! فلما رأى الزبيدي الشر وافى على أبي قبيس قبل طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة وصاح:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته *** ببطن مكة نائي الدار والنفر

ومحرمٍ أشعث لم يقض عمرته *** يا للرجال وبين الحجر والحجر

إن الحرام لمن تمَّتْ كرامته *** ولا حرام لثوب الفاجر الغدر

قال فمشى في ذلك الزبير بن عبدالمطلب وقال: ما لهذا مَتْرك، فاجتمعت

بنو هاشم وزهرة وتيم في دار عبدالله بن جدعان، فصنع لهم طعاماً، فتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام، قياماً يتماسحون صعداً، وتعاقدوا وتعاهدوا بالله قائلين لنكونن

ص: 100

مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه ما بل بحر صوفة وفي التأسي في المعاش. فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وقال الزبير بن عبدالمطلب فيه:

حلفتُ لنعقدنْ حلفاً عليهم *** وإن كنا جميعاً أهلَ دار

نسميه الفضولَ إذا عقدنا *** يعزُّ به الغريبُ لذي الجوار

ويعلم من حوالي البيت أنا *** أباة الضيم نمنع كل عار

«ذكر قاسم بن ثابت في غريب الحديث أن رجلاً من خثعم قدم مكة حاجاً أو معتمراً، ومعه ابنة له يقال لها القَتُول، من أوضأ نساء العالمين، فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج وغيبها عنه، فقال الخثعمي: من يعديني على هذا الرجل؟ فقيل له عليك بحلف الفضول، فوقف عند الكعبة ونادى: يالِ حلف الفضول! فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب وقد انتضوا أسيافهم يقولون: جاءك الغوث فما لك؟! فقال: إن نبيهاً ظلمني في بنتي وانتزعها مني قسراً. فساروا معه حتى وقفوا على باب داره فخرج إليهم فقالوا له: أخرج الجارية ويحك، فقد علمت من نحن وما تعاقدنا عليه! فقال: أفعل ولكن متعوني بها الليلة! فقالوا:

قبحك الله، ولا شخب لقحة، فأخرجها إليهم».

«وكان الزبير بن عبدالمطلب شجاعاً أبياً، وجميلاً بهياً، وكان خطيباً شاعراً، وسيداً جواداً.. وبنو هاشم هم الذين ردوا على الزبيدي ثمن بضاعته، وكانت عند العاص بن وائل، وأخذوا للبارقي ثمن سلعته من أبي بن خلف الجمحي. وهم الذين انتزعوا من نبيه بن الحجاج قتول الحسناء».شرح النهج: 15/203و205.

وقال اليعقوبي: 2/17: «حضر رسول الله (صلی الله علیه و آله) حلف الفضول وقد جاوز العشرين، وقال بعد ما بعثه الله: حضرت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما يسرني به حُمر النَّعم، ولو دعيت إليه اليوم لأجبت. وكان سبب حلف الفضول أن قريشاً تحالفت أحلافاً كثيرة على الحمية والمنعة، فتحالف المطيبون وهم بنو عبدمناف وبنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم وبنو الحارث بن فهر، على أن لا يسلموا الكعبة ما أقام حراء وثبير وما بلَّ بحرٌ صوفة. وصنعت عاتكة بنت عبدالمطلب

ص: 101

طيباً فغمسوا أيديهم فيه... فتذممت قريش فقاموا فتحالفوا ألا يظلم غريب ولا غيره، وأن يؤخذ للمظلوم من الظالم». وابن هشام: 1/85 والمنمق/187.

لقد أمضى النبي (صلی الله علیه و آله) هذا الحلف وتبناه، ودعا به الإمام الحسين (علیه السلام) لما منعوا دفن أخيه عند جده (صلی الله علیه و آله)،ثم دعا به ما أراد معاوية أن يصادر أمواله. أنساب الأشراف/13.

13- سن عبدالمطلب سنناً فأجراها الله في الإسلام

روى في الخصال/313:«عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: يا علي إن عبدالمطلب سَنَّ في الجاهلية خمس سُنن أجراها الله له في الاسلام، حرم نساء الآباء على الأبناء فأنزل الله عزوجل: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ. ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس وتصدق به فأنزل الله عزوجل: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئْ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ. الآية.. ولما حفر زمزم سماها سقاية الحاج، فأنزل الله: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ.الآية. وسن في القتل مائة من الإبل فأجرى الله عزوجل ذلك في الاسلام، ولم يكن للطواف عدد عند قريش فسن فيهم عبدالمطلب سبعة أشواط، فأجرى الله ذلك في الاسلام.

يا علي إن عبدالمطلب كان لايستقسم بالأزلام، ولا يعبدالأصنام، ولا يأكل ما ذبح على النصب، ويقول: أنا على دين أبي إبراهيم (علیه السلام)».

وقال اليعقوبي (رحمة الله): 2/10: «وكان عبدالمطلب جد رسول الله (صلی الله علیه و آله) يكفله، وعبدالمطلب يومئذ سيد قريش غير مدافع، قد أعطاه الله من الشرف ما لم يعط أحداً، وسقاه زمزم وذا الهرم «بئر في الطائف» وحَكَّمته قريش في أموالها، وأطعم في المَحْل حتى أطعم الطير والوحوش في الجبال. قال أبوطالب:

ونُطعمُ حتى تأكل الطيرُ فضلَنا *** إذا جُعلت أيدي المفيضين ترعدُ

ورفض عبادة الأصنام ووحَّد الله عزوجل، ووفى بالنذر، وسن سنناً نزل القرآن بأكثرها، وجاءت السنة من رسول الله بها وهي: الوفاء بالنذور، ومائة من الإبل في الدية، وألا تنكح ذات محرم، ولا تؤتى البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموؤودة، والمباهلة، وتحريم الخمر، وتحريم الزناء، والحد عليه،

ص: 102

والقرعة، وألا يطوف أحد بالبيت عرياناً، وإضافة الضيف، وألا ينفقوا إذا حجوا إلا من طيب أموالهم، وتعظيم الأشهر الحرم، ونفي ذوات الرايات».

14- وهذا يكفي لمن كان له قلب!

لقد أغمضوا عيونهم عن كرامات عبدالمطلب وآياته، في حفر زمزم، وفي هجوم أصحاب الفيل، وإخباره بنبوة حفيده (صلی الله علیه و آله)، وافتخار النبي (صلی الله علیه و آله) يوم حنين بنبوته وبجده عبدالمطلب! البخاري: 4/28. وفي الواحدة منها كفاية لمن كان له قلب.

بل زعموا أن رجلاً سأل النبي (صلی الله علیه و آله) عن أبيه؟ فقال: إن أبي وأباك في النار. مسلم: 1/132. وحاشا أباه من النار، وحاشاه (صلی الله علیه و آله) من هذه الجلافة!

15- عبدالمطلب: إبراهيم الثاني

«وخرجوا هاربين يطلبون الشعاب، ومنهم من طلب الجبال، ومنهم من ركب البحر، قال: فعند ذلك قالوا لعبدالمطلب: ما يمنعك أن تهرب مع الناس؟ قال: أستحيي من الله أن أهرب عن بيته وحرمه، فوالله لا برحت من مكاني ولا نأيت عن بيت ربي، حتى يحكم الله بما يشاء..قال: فلما نظر عبدالمطلب إلى الكعبة خالية قال: «اللهم أنت أنيس المستوحشين ولا وحشة معك، فالبيت بيتك والحرم حرمك والدار دارك، ونحن جيرانك، تمنع عنه ما تشاء». البحار: 15/66.

ولما ظهرت آياته في حملة أصحاب الفيل، سماه المنصفون من قريش إبراهيم الثاني: «فكانت قريش تقول: عبدالمطلب إبراهيم الثاني». تاريخ اليعقوبي: 1/10.

16- نَذَر عبدالمطلب (رحمة الله) أحد أبنائه قرباناً للكعبة!

كان عرب الجزيرة وعرب العراق يقدسون صنم العُزَّى أكثر من غيره، ويقدمون له القرابين: «وكان للعزى منحرٌ ينحرون فيه هداياهم، يقال له الغبغب... قال الشاعر: والراقصات إلى منى بالغبغب». معجم البلدان: 4/185.

وفي أحُد: «نادى المشركون بشعارهم: يا لَلعزى يا لَهُبل، وأوجعوا في المسلمين قتلاً ذريعاً، وولَّى من ولَّى منهم يومئذ، وثبت رسول الله (صلی الله علیه و آله)». الطبقات: 2/42.

ص: 103

وكانت حروبٌ بين المناذرة التابعين للفرس في العراق، والغساسنة التابعين للروم في الشام، وكان المنذر بن ماء السماء وثنياً، فأسرَ ابن ملك الغساسنة الحارث بن شمر في حربه معه، فذبحه قرباناً للعزى! خطط الشام: 1/67.

وفي المفصل في تاريخ العرب: 11/239: «وقد كان آل لخم ملوك الحيرة، ينحرون الأسرى قرباناً للعزى. وقد زعم بعض المؤرخين السريان أن المنذر بن ماء السماء ضحى بأربع مائة راهبة للعزى»!

في هذا الجو، نذر عبدالمطلب (رحمة الله) لله تعالى إذا رزقه عشرة أبناء، أن يذبح أحدهم قرباناً له هدياً للكعبة، فكان عمله مقابلةً لعَبَدَة الأصنام والنصارى ودعوة لهم أن يعبدوا رب بيت إبراهيم (علیه السلام)، ويقدموا قرابينهم له وليس للعزى!

أما الإشكال الذي نراه في عمله فسببه عدم معرفتنا لمستنده الشرعي في نذره أن يذبح ابنه، ثم مستنده في طريقة وفائه به بالقرعة بينه وبين الإبل. لكن ما ثبت عن شخصيته (علیه السلام) وإيمانه العميق وإلهام الله تعالى إياه بحفر زمزم، وظهور المعجزة له لما أرادت قريش أخذها منه، وإخباره بآية أصحاب الفيل، وغير ذلك من آياته يدل على أنه ما نذر ولا تحلل من نذره، إلا بحجة من ربه تعالى.

روى في دعائم الإسلام: 2/522 عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه تجب القرعة فيما أشكل وذكر القرعة في قصة يونس (علیه السلام)، وفي كفالة مريم (علیه السلام)، وقصة عبدالمطلب: «نذر ذبح من يولد له فولد له عبدالله أبو رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فألقى الله عليه محبته، فألقى عليه السهام وعلى إبل ينحرها يتقرب بها مكانه، فلم تزل السهام تقع عليه وهو يزيد حتى بلغت مائة، فوقع السهم على الإبل فأعاد السهام مراراً وهي تقع على الإبل، فقال: الآن علمت أن ربي قد رضي ونحرها».

17- افتخر النبي (صلی الله علیه و آله) بجديه (علیهما السلام) فقال: أنا ابن الذبيحين

روى الصدوق في العيون:2 /189 عن علي بن فضال أنه سأل الإمام الرضا (علیه السلام) عن معنى قول النبي (صلی الله علیه و آله): أنا ابن الذبيحين فقال: «يعني إسماعيل بن إبراهيم الخليل،

ص: 104

وعبدالله بن عبدالمطلب. أما إسماعيل فهو الغلام الحليم الذي بشر الله به إبراهيم: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، ولم يقل له يا أبت افعل ما رأيت. سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.

فلما عزم على ذبحه فداه الله بذبح عظيم بكبش أملح، يأكل في سواد ويشرب في سواد وينظر في سواد، ويمشي في سواد، ويبول ويبعر في سواد، وكان يرتع قبل ذلك في رياض الجنة أربعين عاماً، وما خرج من رحم أنثى، وإنما قال الله جل وعز له كن فكان، ليفدي به إسماعيل، فكل ما يذبح بمنى فهو فدية لإسماعيل إلى يوم القيامة. فهذا أحد الذبيحين.

وأما الآخر فإن عبدالمطلب كان تعلق بحلقة باب الكعبة، ودعا الله عزوجل أن يرزقه عشرة بنين، ونذر لله عزوجل أن يذبح واحداً منهم متى أجاب الله دعوته فلما بلغوا عشرة قال: قد وفى الله لي فَلَأفِيَنَّ لله عزوجل، فأدخل وُلده الكعبة وأسهم بينهم فخرج سهم عبدالله أبي رسول الله وكان أحب ولده إليه، ثم أجالها ثانية فخرج سهم عبدالله، ثم أجالها ثالثة فخرج سهم عبدالله، فأخذه وحبسه وعزم على ذبحه، فاجتمعت قريش ومنعته من ذلك، واجتمع نساء عبدالمطلب يبكين ويصحن، فقالت له ابنته عاتكة: يا أبتاه أعذر فيما بينك وبين الله عزوجل في قتل ابنك. قال: فكيف أعذر يا بنية فإنك مباركة؟ قالت: أعمد إلى تلك السوائم التي لك في الحرم فاضرب بالقداح على ابنك وعلى الإبل وأعط ربك حتى يرضى. فبعث عبدالمطلب إلى إبله فأحضرها وعزل منها عشراً وضرب السهام فخرج سهم عبدالله، فما زال يزيد عشراً عشراً حتى بلغت مائة، فضرب فخرج السهم على الإبل، فكبَّرت قريش تكبيرة ارتجت لها جبال تهامة، فقال عبدالمطلب: لا، حتى أضرب بالقداح ثلاث مرات، فضرب ثلاثاً كل ذلك يخرج السهم على الإبل، فلما كان في الثالثة اجتذبه الزبير وأبوطالب وإخوانه من تحت رجليه، فحملوه وقد انسلخت جلدة خده الذي كان على الأرض، وأقبلوا يرفعونه ويقبلونه، ويمسحون عنه

ص: 105

التراب. وأمر عبدالمطلب أن تنحر الإبل بالحزورة، ولا يمنع أحد منها وكانت مائة».

وأضاف الصدوق (رحمة الله): «ولولا أن عبدالمطلب كان حُجَّةً وأن عزمه على ذبح ابنه عبدالله شبيهُ بعزم إبراهيم على ذبح ابنه إسماعيل:، لمَا افتخر النبي (صلی الله علیه و آله) بالإنتساب إليهما،لأجل أنهما الذبيحان في قوله (علیه السلام): أنا ابن الذبيحين.

والعلة التي من أجلها رفع الله عزوجل الذبح عن إسماعيل هي العلة التي من أجلها رفع الذبح عن عبدالله وهي كون النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) في صلبهما. فببركة النبي والأئمة (صلی الله علیه و آله) رفع الله الذبح عنهما، فلم تجر السنة في الناس بقتل أولادهم».

وفي الفقيه: 4/368: «يا علي أنا ابن الذبيحين. يا علي أنا دعوة أبي إبراهيم (علیه السلام)».

وتدل الرواية عن الإمام الباقر (علیه السلام) «الفقيه:3/89»على أن الله تعالى نهى عبدالمطلب عن ذبح ولده وأمره بالقرعة، وقد يكون ذلك بعد كلام عاتكة، قال (علیه السلام): «أول من سوهم عليه مريم بنت عمران، وهو قول الله عزوجل: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، والسهام ستة، ثم استهموا في يونس (علیه السلام) لما ركب مع القوم فوقعت السفينة في اللجة، فاستهموا فوقع السهم على يونس ثلاث مرات قال: فمضى يونس إلى صدر السفينة، فإذا الحوت فاتح فاه فرمى نفسه.

ثم كان عند عبدالمطلب تسعة بنين، فنذر في العاشر إن رزقه الله غلاماً أن يذبحه فلما ولد عبدالله لم يكن يقدر أن يذبحه ورسول الله (صلی الله علیه و آله) في صلبه، فجاء بعشر من الإبل فساهم عليها وعلى عبدالله، فخرجت السهام على عبدالله فزاد عشراً، فلم تزل السهام تخرج على عبدالله ويزيد عشراً، فلما أن خرجت مائة خرجت السهام على الإبل فقال عبدالمطلب: ما أنصفت ربي فأعاد السهام ثلاثاً، فخرجت على الإبل فقال: الآن علمت أن ربي قد رضي، فنحرها».

ومعناه أن الله تعالى نهاه عن ذبحه بالإلهام، وأمره أن يفديه بما استقرت عليه القرعة.

ونلاحظ في هذا الموضوع أن النبي (صلی الله علیه و آله) ضحى في حجة الوداع بمئة ناقة، وهي عدد فداء جده عبدالله (علیه السلام)، وأشرك فيها علياً (علیه السلام) لشراكته في وراثة عبدالمطلب:.

ص: 106

18- الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق

زعم أهل الكتاب أن الذبيح إسحاق (علیهما السلام)، وأن الله فداه وأرسل جبرئيل (علیه السلام) بكبش وأمره أن يذبحه بدله.

قال في تفسير الكاشف: 6/352: «ولا مصدر لهذا القول إلا إسرائيليات كعب الأحبار، وحسد اليهود لأبناء إسماعيل، وليس هذا بكثير على بني إسرائيل».

أقول: إن الأدلة على أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق (علیهما السلام)، كثيرة:

الأول: أن توراتهم وتلمودهم ومصادرهم لم تذكر أن الذبيح إسحاق (علیه السلام)، وإنما هو قول حاخاماتهم، خاصة كعب الأحبار، وقد نسبوه إلى عمر وعلي وابن عباس وغيرهم. وعدم ذكره في مصادرهم دليل على أن الذبيح ليس إسحاق (علیه السلام) وإلا لذكرته مصادرهم بشكل واسع، وجعلوا مكانه مزاراً وافتخروا به. فالصحيح أنهم ادعوه بعد بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) ونزول القرآن بقصة ذبح إسماعيل (علیهما السلام) .

الثاني: صحح العلماء حديث: أنا ابن الذبيحين. رواه الحاكم: 2/554، صححه الذهبي، السرخسي: 8/141، بدائع الصنائع: 5/85، تخريج الأحاديث: 3/177. وفيض القدير:3/762.

الثالث: قال جمهور علماء المسلمين إن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق (علیهما السلام) .

قال العجلوني في كشف الخفاء: 1/199: «إسماعيل هو الذبيح على القول الصواب

عند علماء الصحابة والتابعين».

وقال الطوسي في أماليه/457: «قال أبو المفضل «الشيباني»: اختلف الناس في الذبيح وقول النبي (صلی الله علیه و آله): أنا ابن الذبيحين، يعني إسماعيل وعبدالله أباه (علیهما السلام) . والعرب مجمعة أن الذبيح هو إسماعيل. وأنا أقول: اختلفت روايات العامة والخاصة في الذبيح من هو؟ والصحيح أنه إسماعيل لمكان الخبر، ولإجماع علماء أهل البیت (علیهم السلام) على أنه إسماعيل».

الرابع: صحح الصدوق في معاني الأخبار/391: «عن داود بن كثير الرقي قال: قلت لأبي عبدالله (علیه السلام): أيهما كان أكبر إسماعيل أو إسحاق، وأيهما كان الذبيح؟

ص: 107

فقال: كان إسماعيل أكبر من إسحاق بخمس سنين، وكان الذبيح إسماعيل، وكانت مكة منزل إسماعيل، وإنما أراد إبراهيم أن يذبح إسماعيل أيام الموسم بمنى. قال: وكان بين بشارة الله لإبراهيم بإسماعيل وبين بشارته بإسحاق:خمس سنين، أما تسمع لقول إبراهيم (علیه السلام) حيث يقول: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. إنما سأل الله عزوجل أن يرزقه غلاماً من الصالحين، وقال في سورة الصافات: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، يعني إسماعيل من هاجر. فقال: ففدى إسماعيل بكبش عظيم.فقال أبوعبدالله (علیه السلام): ثم قال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ، يعني بذلك إسماعيل قبل البشارة بإسحاق. فمن زعم أن إسحاق أكبر من إسماعيل وأن الذبيح إسحاق، فقد كذب بما أنزل الله عزوجل في القرآن من نبئهما».

فقد استدل الإمام (علیه السلام) بنص الآيات وسياقها، وأن الذبيح الغلام الذي دعا إبراهيم (علیه السلام) ربه أن يهبه له فوهبه وهو إسماعيل، ثم رزقه بعده إسحاق فقال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، فكيف يبشره بأنه نبي، ثم يأمره بذبحه!

وهذه آياته في سياقها: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ للَّجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَالْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ. سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ. وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ. الصافات: 99- 113.

وفي الكاشف: 6/352: فإنه يدل بصراحة على أن المبشر به والساعي والذبيح صفات لموصوف واحد، وهو الولد البكر لإبراهيم، وبكر إبراهيم هو إسماعيل باتفاق المسلمين والنصارى واليهود، فلقد جاء في التوراة الإصحاح 16 الآية 15

من سفر التكوين ما نصه بالحرف: «وكان إبرام ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام». أي إبراهيم.

وإذا عطفنا على هذا ما جاء في التوراة من السفر المذكور الإصحاح 17 الآية 17

ص: 108

وما بعدها: إن الله لما بشر إبراهيم بإسحاق من سارة سقط على وجهه، وقال في قلبه: هل يولد لي وأنا ابن مائة سنة وسارة بنت تسعين؟ إذا جمعنا بين الآيتين تكون حصيلتهما أن إسماعيل هوالولد البكر، وأنه يكبر اسحق بأربعة عشر عاماً، وبينا أن البكر هو الذبيح».

الخامس: في كتاب أضواء على المسيحية للدكتور شلبي/66: «يقول برنابا: فكلم الله حينئذ إبراهيم قائلاً: خذ ابنك البكر واصعد الجبل لتقدمه ذبيحة. والبكر هو إسماعيل (علیه السلام)، وقد ولد إسحاق (علیه السلام) بعده بسبع سنين».

السادس: قوله تعالى: «وبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. حيث جاءت هذه البشارة لإبراهيم بإسحاق جزاءً له على طاعته لله في ذبح ولده البكر، فلا بد وهذه هي الحال، أن يكون زمن إسحاق متأخراً عن زمن الذبيح». تفسير الكاشف 6/352.

السابع: قوله تعالى في الآية 71 من سورة هود: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ومِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ، فإن اللَّه بشّر سارة بإسحاق وبولده يعقوب في آن واحد، فكيف يأمر بذبح إسحاق بعد أن بشّر به وبنسله؟ وما ذا تقول سارة عندما تسمع الأمر بذبح وليدها بعد أن سمعت البشارة به وبولده!

الثامن: نسبوا إلى علي (علیه السلام) من أن الذبيح هو إسحاق، والصحيح أنه إسماعيل (علیهما السلام) . ففي أمالي الطوسي/338، عن الإمام الرضا (علیه السلام)، عن آبائه عن علي (علیه السلام) قال: الذبيح إسماعيل.

وبذلك يتضح أن القول بأن الذبيح إسحاق مكذوب، أو تصحيف في الإسم.

19- النبي (صلی الله علیه و آله) وارث عبدالمطلب

اختار الله بني عبدالمطلب من العالم:

كان النبي (صلی الله علیه و آله) يجهر بأن الله تعالى اختار من العالم بني عبدالمطلب فقال (صلی الله علیه و آله): «قسم الله تبارك وتعالى أهل الأرض قسمين فجعلني في خيرهما، ثم قسم النصف الآخر على ثلاثة فكنت خير الثلاثة، ثم اختار العرب من الناس،

ص: 109

ثم اختار قريشاً من العرب، ثم اختار بني هاشم من قريش، ثم اختار بني عبدالمطلب من بني هاشم، ثم اختارني من بني عبدالمطلب». الخصال/36 وغيره.

وكان (صلی الله علیه و آله) يفتخر بنبوته وجده عبدالمطلب (علیه السلام)!

ففي حنين هرب المسلمون مع أنهم كانوا اثني عشر ألفاً! وثبت النبي (صلی الله علیه و آله) و

بنو هاشم، وافتخر بنبوته وبجده عبدالمطلب: «كان القوم قد كمنوا في شعاب الوادي ومضايقه فما راعنا إلا كتائب الرجال، فانهزم بنو سليم وكانوا على المقدمة وانهزم مَن وراءهم، وبقي علٌّي (علیه السلام) ومعه الراية، فقال مالك بن عوف: أروني محمداً، فأروه إياه فحمل عليه فلقيه أيمن بن عبيدة وهو ابن أم أيمن فالتقيا فقتله مالك.. فقام النبي (صلی الله علیه و آله) في ركاب سرجه حتى أشرف عليهم وقال: الآن حمى الوطيس: أنا النبي لا كذبْ أنا ابن عبدالمطلبْ».

وفي صحيح بخاري: 4/28: «نزل فجعل يقول: أنا النبي لاكذب أنا ابن عبدالمطلب. قال فما رؤي من الناس يومئذ أشد منه».

وبنو عبدالمطلب لا يفرون أبداً!

وعليهم قامت معارك الإسلام! فقد كانوا أبطال بدر، وثبتوا في أحُد وخيبر وغيرها، في حين فرَّ الجميع. وفي حنين: «انهزموا بأجمعهم فلم يبق منهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) إلا عشرة أنفس، تسعة من بني هاشم خاصة وعاشرهم أيمن بن أم أيمن، فقتل أيمن وثبت تسعة النفر الهاشميون حتى ثاب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من كان انهزم، فرجعوا أولاً فأولاً». الإرشاد: 1/140.

بعثه الله لبني عبدالمطلب خاصة وللناس عامة:

قال لهم: «يا بني عبدالمطلب إن الله بعثني إلى الخلق كافة وبعثني إليكم خاصة، فقال عزوجل: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ. أنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم، وتدخلون بهما الجنة وتنجون بهما من النار: شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فمن يجيبني إلى هذا الأمرويؤازرني عليه وعلى القيام به، يكن

ص: 110

أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي». الإرشاد: 1/49 ومسند الشاميين: 2/66.

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) مخولاً من بني عبدالمطلب:

فعندما طلب أسرى خيبرمن النبي (صلی الله علیه و آله) أن يُطلق سراحهم، قال لهم: «أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لله ولكم. وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله فردت الأنصار ما كان في أيديها من الذراري والأموال».

أمالي الصدوق/591.

وَعَدَهم النبي (صلی الله علیه و آله) الشفاعة وكان يميزهم عن غيرهم:

قال (صلی الله علیه و آله): «يا بني عبدالمطلب إن الصدقة لاتحل لي ولا لكم، ولكني قد وعدت الشفاعة «قال أبوعبدالله (علیه السلام): إشهدوا لقد وعدها» فما ظنكم يا بني عبدالمطلب إذا أخذت بحلقة باب الجنة، أتروني مؤثراً عليكم غيركم».التهذيب: 4/58.

وقال الإمام الباقر (علیه السلام): «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يصنع بمن مات من بني هاشم خاصة شيئاً لا يصنعه بأحد من المسلمين! كان إذا صلى على الهاشمي ونضح قبره بالماء، وضع كفه على القبر حتى ترى أصابعه في الطين، فكان الغريب يقدم أو المسافر من أهل المدينة فيرى القبر الجديد عليه أثر كف رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فيقول: من مات من آل محمد (صلی الله علیه و آله)». الكافي: 3/200 والتهذيب: 1/460.

وأكرم الله بني هاشم فشرَّع لهم ميزانية خاصة:

وهي الخمس فقال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئْ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَللَّرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَئْ قَدِيرٌ. ومع ذلك حرموهم منه!

قال ابن قدامة: 2/519: «لانعلم خلافاً في أن بني هاشم لاتحل لهم الصدقة المفروضة، وقد قال النبي (صلی الله علیه و آله): إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس. وعن أبي هريرة قال: أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة فقال النبي (صلی الله علیه و آله): كِخْ كِخْ، ليطرحها! وقال: أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة! متفق عليه».

ص: 111

وفي الكافي: 1/540 عن الإمام الكاظم (علیه السلام): «وإنما جعل الله هذا الخمس خاصة لهم دون مساكين الناس وأبناء سبيلهم، عوضاً لهم من صدقات الناس، تنزيهاً من الله لقرابتهم برسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكرامةً من الله لهم عن أوساخ الناس، فجعل لهم خاصة من عنده ما يغنيهم به عن أن يصيرهم في موضع الذل والمسكنة..

وهؤلاء الذين جعل الله لهم الخمس هم قرابة النبي (صلی الله علیه و آله) الذين ذكرهم الله فقال: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ، وهم بنو عبدالمطلب الذكر منهم والأنثى، ليس فيهم من أهل بيوتات قريش ولا من العرب أحد».

وحذرهم النبي (صلی الله علیه و آله) أن يغتروا بنسبهم ويتركوا العمل:

قال الإمام الباقر (علیه السلام): «قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) على الصفا فقال: يا بني هاشم، يا بني عبدالمطلب إني رسول الله إليكم وإني شفيق عليكم، وإن لي عملي ولكل رجل منكم عمله، لاتقولوا إن محمداً منا وسندخل مدخله، فلا والله ما أوليائي منكم ولا من غيركم يا بني عبدالمطلب إلا المتقون. ألا فلا أعرفكم يوم القيامة تأتون تحملون الدنيا على ظهوركم ويأتون الناس يحملون الآخرة، ألا إني قد أعذرت إليكم فيما بيني وبينكم، وفيما بيني وبين الله عزوجل فيكم». الكافي: 8/182.

وأتمَّ النبي (صلی الله علیه و آله) الحجة عليهم فأوصاهم بطاعة علي (علیه السلام):

فعن الإمام زين العابدين، في حديث وفاة النبي (صلی الله علیه و آله): «قال علي (علیه السلام): فلقد رأيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإن رأسه ليثقل ضعفاً وهو يقول ويسمع أقصى أهل البیت وأدناهم: إن أخي ووصيي ووزيري وخليفتي في أهلي علي بن أبي طالب، يقضي ديني وينجز موعدي. يا بني هاشم يا بني عبدالمطلب، لاتبغضوا علياً، ولا تخالفوا أمره فتضلوا، ولاتحسدوه وترغبوا عنه فتكفروا». أمالي الطوسي/600.

وكان حقد اليهود وقريش على كل بني عبدالمطلب::

قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) لحاخام يهودي: «وأما الخامسة يا أخا اليهود، فإن قريشاً والعرب تجمعت وعقدت بينها عقداً وميثاقاً، لاترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتقتلنا معه معاشر بني عبدالمطلب، ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى

ص: 112

أناخت علينا بالمدينة، واثقة بأنفسها فيما توجهت له». الخصال/368.

وصححوا حديث أبناء عبدالمطلب سادة أهل الجنة:

فقد رواه ابن ماجة 2/1368 عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «نحن ولد عبدالمطلب سادة أهل الجنة: أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي». والحاكم: 3/211، وصححه على شرط مسلم، وتاريخ بغداد: 9/434 وفيه: نحن سبعة بنو عبدالمطلب سادات أهل الجنة، أنا وعلي أخي وعمي حمزة وجعفر والحسن والحسين والمهدي». وتلخيص المتشابه: 1/197، الفردوس: 1/53، البيان للشافعي/488 وغيرها.

وفي كتاب سُلَيْم بن قيس (رحمة الله) /245: «كانت قريش إذا جلست في مجالسها فرأت رجلاً من أهل البیت (علیهم السلام) قطعت حديثها، فبينما هي جالسة إذ قال رجل منهم ما مثل محمد في أهل البیت إلا كمثل نخلة نبتت في كُناسة! فبلغ ذلك رسول الله فغضب ثم خرج فأتى المنبر فجلس عليه حتى اجتمع الناس، ثم قام

فحمد الله وأثنى عليه ثم قال..».وأورد خطبة طويلة في فضله وفضل أهل بيته:جاء فيها: «ألا ونحن بنو عبدالمطلب سادة أهل الجنة، أنا وعلي وجعفر وحمزة والحسن والحسين وفاطمة والمهدي». ورواه أمالي الصدوق/384، غيبة الطوسي/113، العمدة/52 و430 والطرائف: 1/176.

وفي دلائل الإمامة/256، عن الأصبغ بن نباتة، قال: «كنا مع علي بالبصرة وهو على بغلة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد اجتمع هو وأصحاب محمد فقال: ألا أخبركم بأفضل خلق الله عند الله يوم يجمع الرسل؟ قلنا: بلى يا أميرالمؤمنين، قال: أفضل الرسل محمد وإن أفضل الخلق بعدهم الأوصياء، وأفضل الأوصياء أنا، وأفضل الناس بعد الرسل والأوصياء الأسباط، وإن خيرالأسباط سبطا نبيكم، يعني الحسن والحسين. وإن أفضل الخلق بعد الأسباط الشهداء، وإن أفضل الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، قال ذلك النبي (صلی الله علیه و آله)، وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين مخضبان بكرامةٍ خص الله عزوجل بها نبيكم، والمهدي منا في آخر الزمان، لم يكن في أمة من الأمم مهدي ينتظر غيره».

ص: 113

أقول: كفى بهذا الحديث الشريف حجة ودليلاً على مكانة هؤلاء العظماء من أبناء عبدالمطلب:، فهو يفضح كل ما رووه من تفضيل زيد وعمرو عليهم!

20- وكان عبدالمطلب شاعراً، وكذا أبوطالب (صلی الله علیه و آله)

وتقدمت له أبيات في غزو أبرهة للكعبة، وكلها إيمان ويقين بالنصر، وفيها نبوءة بنبوة حفيده (صلی الله علیه و آله) وبدولة العدل الإلهي على يد ولده المهدي (علیه السلام)! قال:

نحن آلُ الله فيما قد خلا *** لم يزل ذاك على عهد ابْرَهَمْ

لم يزل لله فينا حجةٌ *** يدفع الله بها عنها النقم

نعرف الله وفينا شيمةٌ *** صلة الرحم ونوفي بالذمم

ولنا في كل دور كَرَّةٌ *** نعرف الدين وطوراً في العجم

فإذا ما بلغ الدورُ إلى *** منتهى الوقت أتى طيْرُ القدم

بكتاب فصلت آياته *** فيه تبيان أحاديث الأمم

وطير القدم مثلٌ ضربه عبدالمطلب (رحمة الله) لأصحاب ولده الإمام المهدي (علیه السلام) الذين يجمعهم الله له في ليلة من أقاصي العالم، ليكونوا وزراءه.

فقد روى علي بن يقطين عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «من أعز أخاه في الله وأهان أعداءه في الله، وتولى ما استطاع نصيحته، أولئك يتقلبون في رحمة الله، ومثلهم مثل طير يأتي بأرض الحبشة في كل صيفة يقال له «القَدَم» فيبيض ويفرخ بها، فإذا كان وقت الشتاء صاح بفراخه فاجتمعوا إليه وخرجوا معه من أرض الحبشة، فإذا قام قائمنا اجتمع أولياؤنا من كل أوب! ثم تمثل بقول عبدالمطلب:

فإذا ما بلغ الدور إلى *** منتهى الوقت أتى طيْرُ القدم

بكتاب فصلت آياته *** فيه تبيان أحاديث الأمم

مستدرك الوسائل: 13/137 وجامع أحاديث الشيعة: 17/297.

وفي أمالي الصدوق/243: «قال الريان بن الصلت: أنشدني الرضا (علیه السلام) لعبدالمطلب:

ص: 114

يعيب الناس كلهم زماناً *** وما لزماننا عيب سوانا

نعيب زماننا والعيب فينا *** ولو نطق الزمان بنا هجانا

وأن الذئب يترك لحم ذئب *** ويأكل بعضنا بعضاً عيانا

لبسنا للخداع مسوك طيب *** وويلٌ للغريب إذا أتانا»

وعيون أخبار الرضا 2/190.

21- أولاد عبدالمطلب عشرة، والعباس

قال الإمام الباقر (علیه السلام) كما في الخصال/452: «سئل رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن ولد عبدالمطلب فقال: عشرة والعباس»! وخيرهم: عبدالله، وأبوطالب، والزبير، وحمزة. وذرية عبدالله وأبي طالب خير البشر، وشذ من أبناء عبدالمطلب أبولهب إلى النار.

وفي تاريخ اليعقوبي: 2/11: «وكان لعبدالمطلب من الولد الذكور عشرة، ومن الإناث أربع: عبدالله أبو رسول الله (صلی الله علیه و آله) . وأبوطالب وهو عبدمناف. والزبير وهو أبو الطاهر. وعبدالكعبة وهو المقوم. وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وهي أم أم حكيم البيضاء. وعاتكة وبرة وأروى وأميمة بنات عبدالمطلب. والحارث وهو أكبر ولد عبدالمطلب وبه كان يكنى. وقثم. وأمهما صفية بنت جندب بن حجير بن زباب بن حبيب بن سوأة بن عامر بن صعصعة. وحمزة وهو أبو يعلى أسد الله وأسد رسول الله، وأمه هالة بنت وهيب بن عبدمناف بن زهرة، وهي أم صفية بنت عبدالمطلب. والعباس، وضرار، أمهما نتيلة بنت جناب بن كليب بن النمر بن قاسط. وأبولهب وهو عبدالعزى، وأمه لُبنى بنت هاجر بن عبدمناف بن ضاطر الخزاعي. والغيداق وهو حجل وإنما سمى الغيداق لأنه كان أجود قريش وأطعمهم للطعام، وأمه ممنعة بنت عمرو بن مالك بن نوفل الخزاعي. فهؤلاء أعمام رسول الله وعماته».

والسؤال هنا: ما معنى قول النبي (صلی الله علیه و آله): عشرة والعباس؟

ص: 115

والجواب: أن العباس عبدٌ لثلاثة من إخوته من بني عبدالمطلب،

ولذا عدَّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحده، لأنه عبد لإخوته، لأن أمه أمةً لهم أحَلّواها لأبيهما عبدالمطلب لتخدمه، فحملت منه بالعباس.

ففي «الكافي: 8/259»: «توفي مولى لرسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يخلف وارثاً فخاصم فيه ولد العباس أبا عبدالله (علیه السلام) وكان هشام بن عبدالملك قد حج في تلك السنة، فجلس لهم فقال داود بن علي: الولاء لنا.وقال أبوعبدالله (علیه السلام): بل الولاء لي. فقال داود بن علي: إن أباك قاتل معاوية. فقال: إن كان أبي قاتل معاوية فقد كان حظ أبيك فيه الأوفر ثم فرَّ بخيانته. وقال: والله لأطوقنك غداً طوق الحمامة، فقال له داود بن علي: كلامك هذا أهون علي من بعرة في وادي الأزرق، فقال: أما إنه واد ليس لك ولا لأبيك فيه حق!

قال فقال هشام: إذا كان غداً جلست لكم، فلما أن كان من الغد خرج

أبوعبدالله ومعه كتاب في كرباسة، وجلس لهم هشام، فوضع أبوعبدالله (علیه السلام) الكتاب بين يديه، فلما أن قرأه قال: أعدوا لي جندل الخزاعي وعكاشة الضمري، وكانا شيخين قد أدركا الجاهلية، فرمى بالكتاب إليهما فقال: تعرفان هذه الخطوط؟ قالا: نعم، هذا خط العاص بن أمية، وهذا خط فلان وفلان لفلان من قريش. وهذا خط حرب بن أمية، فقال هشام: يا أبا عبدالله أرى خطوط أجدادي عندكم؟ فقال: نعم، قال: فقد قضيت بالولاء لك، قال: فخرج وهو يقول:

إن عادت العقرب عدنا لها *** وكانت النعل لها حاضرهْ

قال فقلت: ما هذا الكتاب جعلت فداك؟قال: فإن نتيلة كانت أمةً لأم الزبير وأبي طالب وعبدالله، فأخذها عبدالمطلب فأولدها فلاناً، فقال له الزبير: هذه الجارية ورثناها من أمنا، وابنك هذا عبد لنا، فتحمل عليه ببطون قريش، قال فقال: قد أجبتك على خلة على أن لا يتصدر ابنك هذا في مجلس، ولايضرب معنا بسهم. فكتب عليه كتاباً وأشهد عليه، فهو هذا الكتاب».

أقول: معنى ذلك أن العباس وأولاده مضافاً إلى أنهم من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة، فهم عبيد لأبناء عبدالمطلب: الزبير، وأبي طالب، وعبدالله، الذين كانت أم

ص: 116

العباس أمةً لأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائد بن عبدالله بن عمر بن مخزوم «دلائل النبوة/99» وقد أحلوها لأبيهم فتزوجها، فَوُلْدُها تبعاً لها ملكٌ لهم، لأنهم أحلوها لأبيهم ولم يبيعوها.

ونلاحظ أن المؤرخين «تاريخ دمشق 26/276» قالوا إن أم العباس نتيلة بنت جناب، ثم قالوا: وقيل أو يقال: ابنة مالك بن خباب بن كليب،من بني النمر بن قاسط. وزعموا أن ابنها ضاع فنذرت أن تكسوا الكعبة حريراً. لكن هذه القصة لأم ضرار بن عبدالمطلب، سرقوها وجعلوها لأم العباس!

وقد رواها ابن حبيب في المنمق/36، والبلاذري في أنساب الأشراف: 1/90، قالا: «كان ضرار بن عبدالمطلب من فتيان قريش، جمالاً، وعقلاً، وهيبة، وسخاء، وإن أمه نتيلة أضلته فكاد عقلها يذهب جزعاً عليه، وكانت كثيرة المال، فجعلت تنشد في المواسم وتقول:

أضللت أبيض كالخصاف *** للفتية الغرِّ بني مناف

ثم لعمري منتهى الأضياف *** سنَّ لفهر سُنَّةَ الإيلاف

في القرِّ حين القر والأصياف

فجعلت لمن جاء به هنيدة، ونذرت أن تكسو البيت إن رده الله عليها. فمر بها حسان بن ثابت حاجاً في نفر من قومه، فرأى جزعها عليه فقال:

وأمّ ضرار تنشد الناس والهاً *** فيالبني النجَّار ما ذا أضلَّتِ

ولو أن ما تلقى نتيلة غدوة *** بأركان رضوى مثله ما استقلَّتِ

فأتاها به رجل من جذام فوفت له بجعلها وكست البيت ثياباً بيضاً وقالت:

الحمد لله وليِّ الحمدِ *** قد ردَّ ذو العرش عليَّ وُلدي

من بعد أن جوَّلتُ في مَعَدِّ *** أشكره ثم أفي بعهدي.

فقد أخذوا قصة أم ضرار بن عبدالمطلب ونسبوها إلى أم العباس»!

ص: 117

الفصل السادس: والده عبدالله ووالدته آمنة (علیهما السلام) ومولده المبارك

1- قلة الروايات عن والدي النبي (صلی الله علیه و آله)

وسببه أن حكومات قريش قررت أن تنشر في المسلمين أن آباء النبي (صلی الله علیه و آله) وأسرته كلهم كفار، ومنعت أن يروي المسلمون سيرتهم ومناقبهم.

وقد بينا في مقدمة هذه السيرة، أن الحكومات تبنت سياسة إبادة كنوز السيرة وعلوم الإسلام، وإحراق كتب شيعة أهل البیت (علیهم السلام)، ويكفي مثالاً على ذلك: كُتب جابر بن يزيد الجعفي، وكُتب أحمد ابن عقدة، وكُتب سليمان الأعمش، وهم علماء موثقون عندنا وعندهم! فقد أحرقوها أو فقدت في أيام تشريدهم وتلاميذهم! وقد بلغت مؤلفاتهم نحو أربع مئة ألف حديث، أي مئتي مجلداً!

قال مسلم في مقدمة صحيحه: 1/15: «الجراح بن مليح يقول: سمعت جابراً يقول: عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر «الباقر (علیه السلام)» عن النبي صلى عليه وسلم كلها»!

2- تكريم خاص لوالدي النبي (صلی الله علیه و آله) وأسرته

في الكافي: 1/446، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «نزل جبرئيل على النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول: إني قد حرمت النار على صلب أنزلك، وبطن حملك، وحجر كفلك، فالصلب صلب أبيك عبدالله بن عبدالمطلب، والبطن الذي حملك فآمنة بنت وهب، وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب. وفي رواية ابن فضال: وفاطمة بنت أسد».

ص: 118

وأضافت رواية الخصال/293: «وفي بيت آواك وهو عبدمناف بن عبدالمطلب أبوطالب، وفي أخ كان لك في الجاهلية. قيل: يا رسول الله من هذا الأخ؟ فقال: كان أنسي وكنت أنسه، وكان سخياً يطعم الطعام.

قال مصنف هذا الكتاب رضيالله عنه: إسم هذا الأخ الجلاس بن علقمة».

أقول: هؤلاء كلهم من أهل الجنة:، وهذه الشفاعة كرامة خاصة أهداها الله إلى نبيه (صلی الله علیه و آله) بتكريمهم من أجله ورفع درجتهم في الجنة. وليس معناها كما تخيل البعض أنهم بدونها من أهل النار.

3- افتخر النبي (صلی الله علیه و آله) بأمه وجداته (علیهم السلام)

وقد روى في الكافي: 5/50 افتخار النبي (صلی الله علیه و آله) بأمه وجداته، قال الإمام الصادق (علیه السلام): «أغار المشركون على سرح المدينة فنادى فيها مناد: يا سوء صباحاه! فسمعها رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الخيل، فركب فرسه في طلب العدو، وكان أول أصحابه لحقه:

أبوقتادة على فرس له، كان تحت رسول الله (صلی الله علیه و آله) سرج دفتاه ليف ليس فيه أشر ولا بطر، فطلب العدو فلم يلقوا أحداً، وتتابعت الخيل فقال أبو قتادة: يا رسول الله إن العدو قد انصرف، فإن رأيت أن نستبق؟ فقال: نعم، فاستبقوا فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) سابقاً عليهم، ثم أقبل عليهم فقال: أنا ابن العواتك من قريش، إنه لهوَ الجواد البحر، يعني فرسه».

وقد افتخر بأمهاته (صلی الله علیه و آله) كما افتخر بجده عبدالمطلب (علیه السلام)، ولا يمكن أن يفتخر بمشركين أو مشركات من أهل النار.

وفسرالمحقق البحراني العواتك فقال في الحدائق: 22/356: «جَمْعُ عاتكة وهي المرأة المجمرة بالطيب، وكان هذا الإسم لثلاث نسوة من أمهاته (صلی الله علیه و آله): إحداهن عاتكة بنت هلال، أم عبدمناف بن قصي، والثانية عاتكة بنت مرة بن هلال، أم هاشم بن عبدمناف، والثالثة عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال،

أم وهب أبي آمنة أم النبي (صلی الله علیه و آله)، فالأولى من العواتك عمة الثانية، والثانية عمة الثالثة. قيل: وبنو سليم كانوا يفتخرون بهذه الولادة.وقيل: العواتك في جدات

ص: 119

النبي (صلی الله علیه و آله) تسع، ثلاث من بني سليم وهن المذكورات، والبواقي من غيرهم».

4- عبدالله والد النبي (صلی الله علیه و آله) من كبار أولياء الله

قال الفتال النيسابوي/138: «إعلم أن الطائفة المحقة قد اجتمعت على أن أباطالب وعبدالله بن عبدالمطلب وآمنة بنت وهب:، كانوا مؤمنين».

وقد ركزالأئمة (علیهم السلام) المكانة الدينية لعبدالله وآمنة وعبدالمطلب رضيالله عنهم. قال داود الرقي وهومن كبار أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 4/544»: «دخلت على أبي عبدالله (علیه السلام) ولي على رجل مال قد خفت تَوَاهُ «ذهابه» فشكوت إليه ذلك، فقال لي: إذا صرت بمكة فطف عن عبدالمطلب طوافاً وصل ركعتين عنه، وطُف عن أبي طالب طوافاً وصل عنه ركعتين، وطف عن عبدالله طوافاً وصل عنه ركعتين، وطف عن آمنة طوافاً وصل عنها ركعتين، وطف عن فاطمة بنت أسد طوافاً وصل عنها ركعتين، ثم ادع أن يرد عليك مالك.

قال ففعلت ذلك ثم خرجت من باب الصفا، وإذا غريمي واقف يقول: يا داود حبستني! تعال إقبض مالك».

5- تزوج والد النبي (صلی الله علیه و آله) وهو في سنّ السابعة عشرة

«قال محمد بن مسعود الكازروني في كتاب المنتقى: ولد عبدالله لأربع وعشرين سنة مضت من ملك كسرى أنوشروان، فبلغ سبع عشرة سنة ثم تزوج آمنة، فلما حملت برسول الله (صلی الله علیه و آله) توفي، وذلك أن عبدالله بن عبدالمطلب خرج إلى الشام في عير من عيرات قريش يحملون تجارات، ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا، فمروا بالمدينة وعبدالله بن عبدالمطلب يومئذ مريض، فقال: أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضاً شهراً، ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبدالمطلب عن عبدالله، فقالوا خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض، فبعث إليه عبدالمطلب أعظم ولده الحارث فوجده قد توفي في دار النابغة، فرجع إلى أبيه فأخبره، فوجد عليه عبدالمطلب وإخوته وأخواته وجداً

ص: 120

شديداً، ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يومئذ حمل، ولعبدالله يوم توفي خمس وعشرون سنة».

بحار الأنوار: 15/124.

ويؤيده ما تقدم عن الإمام الصادق (علیه السلام) في أصحاب الفيل: «فدعا ولده عبدالله وإنه لغلام حين أيفع، وعليه ذؤابه تضرب إلى عجزه، فقال له: اذهب فداك أبي وأمي فَاعْلُ أبا قبيس، وانظر ماذا ترى يجئ من البحر».

وعام الفيل هو عام ولادة النبي (صلی الله علیه و آله) وهذا يعني أن أباه كان شاباً في أول شبابه، فلا تصح رواية أنه كان ابن خمس وعشرين سنة أو ثلاثين.«فقال له: إذهب فداك أبي وأمي فاعلُ أبا قبيس وانظر ماذا ترى يجئ من البحر؟ فنزل مسرعاً فقال: يا سيد النادي، رأيت سحاباً من قِبل البحر مُقبلاً، يُسْفِلُ تارةً ويرتفع أخرى! إن قلت غيماً قلته وإن قلت جهاماً خلته، يرتفع تارةً، وينحدر أخرى!

فنادى عبدالمطلب: يا معشر قريش، أدخلوا منازلكم فقد أتاكم الله بالنصر».

وقد كانت عادتهم التزويج المبكر، ففي إكمال الدين/196: «لما بلغ عبدالله بن عبدالمطلب زوجه عبدالمطلب آمنة بنت وهب الزهري، فلما تزوج بها حملت برسول الله (صلی الله علیه و آله)».

وقال اليعقوبي: 2/9: «وكان تزويج عبدالله بن عبدالمطلب لآمنة بنت وهب بعد حفر زمزم بعشر سنين، وقيل بضع عشرة سنة. وبين فداء عبدالمطلب لابنه وبين تزويجه إياه سنة..وكان بين تزويج أبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأمه وبين مولده على ما روى جعفر بن محمد عشرة أشهر، وقال بعضهم سنة وثمانية أشهر».

6- خطب عبدالمطلب لابنه عبدالله، وخطب لنفسه

روى المؤرخون أن عبدالمطلب رضيالله عنه خطب في مجلس واحد آمنة بنت وهب لابنه عبدالله رضيالله عنه، وخطب لنفسه بنت عمها هالة بنت أهيب.

ففي تاريخ دمشق: 3/418: «أن عبدالمطلب خرج إلى اليمن فلقيه رجل من

ص: 121

اليهود له علم، فنظر إلى عبدالمطلب فقال: أرني منك شيئين، فقال عبدالمطلب: وإني أريك ما لم يكن عورة، فقال لا أريد العورة، أريد أن أنظر إلى أنفك وإلى كفيك فقال: أنظر، فقال له: أبسط كفيك فبسطهما فقال: أما في أحد كفيك ملك، وأما أنفك فإن فيه النبوة، ولا يتم ذلك إلا في بني زهرة، هل لك في شاعة؟ قال: لا. قال فتزوج في بني زهرة. قال: فلما رجع عبدالمطلب تزوج هالة بنت وهيب، وزوج عبدالله آمنة بنت وهب».

قال الحاكم: 3/192: «كانت في حجر عمها أهيب بن عبدمناف بن زهرة، وإن عبدالمطلب بن هاشم جاء بابنه عبدالله بن عبدالمطلب أبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فتزوج عبدالله آمنة بنت وهب، وتزوج عبدالمطلب هالة بنت أهيب بن عبدمناف بن زهرة، وهي أم حمزة بن عبدالمطلب في مجلس واحد، وكان»حمزة«قريب السن من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخاه من الرضاعة».

وروى ابن شاذان في الفضائل/6، عن الواقدي أن عقيل بن أبي وقاص أجرى عقد قران عبدالله بآمنة (علیهما السلام) فقال لوهب: «يا أبا الوداح زوجتَ كريمتك آمنة من ابن سيدنا عبدالمطلب على صداق أربعة آلاف درهم بيض هجرية جياد وخمس مائة مثقال ذهب أحمر؟ قال: نعم. ثم قال: يا عبدالله قبلت بهذا الصداق يا أيها السيد الخاطب، قال: نعم. ثم دعا لهما بالخير والكرامة، ثم أمر وهب أن تقدم المائدة فقدمت مائدة خضرة، فأتى من الطعام الحار والبارد والحلو والحامض فأكلوا وشربوا. قال ونثر عبدالمطلب على ولده قيمة ألف درهم من النثار، وكان متخذاً من مسك بنادق، ومن عنبر، ومن سكر ومن كافور. ونثر ذهب بقيمة ألف درهم عنبر».

أقول: والرواية طويلة، ذكرت أن عبدالله دخل بعروسه في ذلك اليوم، ولا بد أن يكون المخاطب عم آمنة أهيب أخ وهب لأنه كان وليها، وكان أبوها وهب توفي، كما تقدم. على أن هذه الرواية ربما كانت موضوعة.

ص: 122

7- حملت به أمه في منى في بيت أبيه عبدالمطلب

في الكافي: 1/439: «حملت به أمه في أيام التشريق، عند الجمرة الوسطى، وكانت في منزل عبدالله بن عبدالمطلب».

وقال السهيلي: 1/183: «قال الزبير»بن بكار: «كان مولده في رمضان.وهذا القول موافق لقول من قال إن أمه حملت به في أيام التشريق. وذكروا أن الفيل جاء مكة في المحرم، وأنه ولد بعد مجئ الفيل بخمسين يوماً. وهو الأكثر والأشهر».

والمتفق عليه أن ولادته (صلی الله علیه و آله) في ربيع الأول، فلا يمكن أن يكون حمله في أيام التشريق في ذي الحجة. ولعل سبب الإشتباه أن عرس عبدالله كان في بيت أبيه عبدالمطلب في منى عند الجمرة، وهو البيت الذي بايع فيه الأنصار بيعة العقبة، فاشتبه الراوي وأضاف اليه الزمان، وتصور أنه كان في أيام التشريق.

ويؤيد ما قلناه الرواياتُ التي ذكرت مكان الحمل به دون زمانه، كقول الإمام الباقر (علیه السلام) «الكافي 4/209»: «أراد أن يذبحه، أي إسماعيل في الموضع الذي حملت أم رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند الجمرة الوسطى، فلم يزل مضربهم يتوارثون به كابر عن كابر، حتى كان آخر من ارتحل منه علي بن الحسين (علیه السلام) في شئ كان بين بني هاشم وبين بني أمية، فارتحل فضرب بالعرين».

8- المرأة التي عرضت نفسها على عبدالله

رووا أن كاهنةً رأت النور في غرة والد النبي (صلی الله علیه و آله) فطلبت منه أن يتزوجها لتحمل منه، ولعله خبر صحيح لأن توقع ولادة النبي الموعود كان منتشراً.

قال الطبري: 2/6: «خرج عبدالمطلب بعبدالله ليزوجه ومر به على كاهنة من خثعم يقال لها فاطمة بنت مُر، متهودة من أهل تُبالة، قد قرأت الكتب، فرأت في وجهه نوراً، فقالت له: يافتى هل لك أن تقع عليَّ الآن وأعطيك مائة من الإبل.. فمضى به فزوجه آمنة بنت وهب بن عبدمناف بن زهرة».

ص: 123

وقال ابن سعد: 1/95: «المرأة التي عرضت نفسها على عبدالله بن عبدالمطلب: وقد اختلف علينا فيها، فمنهم من يقول كانت قتيلة بنت نوفل بن أسد بن عبدالعزى بن قصي أخت ورقة بن نوفل..وكانت تنظر وتعتاف» تتفرس«فمر بها عبدالله بن عبدالمطلب فدعته يستبضع منها، ولزمت طرف ثوبه، فأبى.. ومنهم من يقول كانت فاطمة بنت مُرّ الخثعمية».

وقال في الروض الأنف: 1/178: «وفي غريب ابن قتيبة: أن التي عرضت نفسها عليه هي: ليلى العدوية».

9- توفي عبدالله في المدينة وهو شاب

قال ابن سعد: 1/99: «خرج عبدالله بن عبدالمطلب إلى الشام إلى غزة، في عير من عيرات قريش يحملون تجارات، ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا، فمروا بالمدينة وعبدالله بن عبدالمطلب يومئذ مريض، فقال: أنا أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضاً شهراً، ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبدالمطلب عن عبدالله فقالوا: خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض فبعث إليه عبدالمطلب أكبر ولده الحارث فوجده قد توفي، ودفن في دار النابغة وهو رجل من بني عدي بن النجار في الدار التي إذا دخلتها فالدويرة عن يسارك، وأخبره أخواله بمرضه وبقيامهم عليه وما ولوا من أمره، وأنهم قبروه. فرجع إلى أبيه فأخبره فَوَجَدَ عليه عبدالمطلب وإخوته وأخواته وَجْداً شديداً». وفي رواية أن أباه عبدالمطلب أرسله إلى المدينة ليمتار لهم تمراً.

10- ما ورثه النبي (صلی الله علیه و آله) من أبيه وأمه (علیهما السلام)

قال البلاذري في أنساب الأشراف: 1/96: «ورث رسول الله (صلی الله علیه و آله) من أبيه أم أيمن واسمها بركة فأعتقها، وخمسة أجمال أوارك«تأكل الأراك»وقطعة غنم، وسيفاً مأثوراً وورقاً«سيفاً قديماً ونقداً»فكانت أم أيمن تحضنه ويسميها أمي. وقال بعض الرواة: ورث أم أيمن من أمه، فأعتقها».

ص: 124

وورث النبي عن أبيه غلامه شَقْران الذي شارك في تجهيزه. تاريخ دمشق: 4/271.

11- آمنة بنت وهب من كرائم العرب

قال الطبري: 2/5: «فخرج به عبدالمطلب حتى أتى به وهب بن عبدمناف بن زهرة، ووهب يومئذ سيد بني زهرة سناً وشرفاً، فزوجه آمنة بنت وهب، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً، وهي لِبَرَّة بنت عبدالعزى».

وتقدم في رواية الصدوق (رحمة الله) «كمال الدين/176» أن سيف بن ذي يزن كان يتوقع ظهور النبي (صلی الله علیه و آله) وأنه قال لعبدالمطلب: «هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد فيه، إسمه محمد، يموت أبوه وأمه ويكلفه جده وعمه، وقد ولد سراراً والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً، ليعز بهم أولياؤه، ويذل بهم أعداءه.. فهل أحسست شيئاً مما ذكرته؟ فقال: كان لي ابن وكنت به معجباً وعليه رفيقاً، فزوجته بكريمة من كرائم قومي، إسمها آمنة بنت وهب، فجاءت بغلام سميته محمداً، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه. فقال ابن ذي يزن: إن الذي قلتُ لك كما قلتُ لك، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود، فإنهم له أعداء».والمنمق/426. راجع: الأخبار الطوال/63، اليعقوبي: 1/165و 2/9، الطبقات: 5/533.

12- تحدثت آمنة عن حملها برسول الله (صلی الله علیه و آله)

قال الصدوق في كمال الدين/196: «لما بلغ عبدالله بن عبدالمطلب زوجه عبدالمطلب آمنة بنت وهب الزهري، فلما تزوج بها حملت برسول الله (صلی الله علیه و آله)، فروي عنها أنها قالت: لما حملت به لم أشعر بالحمل ولم يصبني ما يصيب النساء من ثقل الحمل، فرأيت في نومي كأن آت أتاني فقال لي: قد حملت بخير الأنام، فلما حان وقت الولادة خف علي ذلك حتى وضعته، وهو يتقي الأرض بيده وركبتيه، وسمعت قائلاً يقول: وضعت خير البشرفعوذيه بالواحد الصمد من شر كل باغ وحاسد. فولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول يوم الإثنين. فقالت آمنة: لما سقط إلى الأرض اتقى الأرض بيديه

ص: 125

وركبتيه ورفع رأسه إلى السماء، وخرج مني نور أضاء ما بين السماء والأرض.

ورُميت الشياطين بالنجوم وحجبوا عن السماء، ورأت قريش الشهب والنجوم تسير في السماء ففزعوا لذلك وقالوا: هذا قيام الساعة، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة فأخبروه بذلك، وكان شيخاً كبيراً مجرباً فقال: أنظروا إلى هذه النجوم التي تهتدوا بها في البر والبحر، فإن كانت قد زالت فهو قيام الساعة وإن كانت هذه ثابته فهو لأمر قد حدث.

وأبصرت الشياطين ذلك فاجتمعوا إلى إبليس فأخبروه أنهم قد منعوا من السماء ورموا بالشهب، فقال: أطلبوا فإن أمراً قد حدث، فجالوا في الدنيا ورجعوا وقالوا: لم نر شيئاً، فقال: أنا لهذا، فخرق ما بين المشرق والمغرب فلما انتهى إلى الحرم وجد الحرم محفوفاً بالملائكة، فلما أراد أن يدخل صاح به جبرئيل (علیه السلام) فقال: إخسأ يا ملعون، فجاء من قبل حراء فصار مثل الصَُّرد [العصفور] قال: يا جبرئيل ما هذا؟ قال: هذا نبي قد ولد وهو خير الأنبياء، قال: هل لي فيه نصيب؟ قال: لا، قال: ففي أمته؟ قال: بلى، قال: قد رضيت».

وفي الكافي: 1/454 و 8/302 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان حيث طَلَقَتْ آمنة بنت وهب وأخذها المخاض بالنبي (صلی الله علیه و آله) حضرتها فاطمة بنت أسد امرأة أبي طالب فلم تزل معها حتى وضعت. لما ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) فُتح لآمنة بياض فارس وقصور الشام، فقالت إحداهما للأخرى: هل ترين ما أرى؟ فقالت: وما ترين؟ قالت: هذا النور الذي قد سطع ما بين المشرق والمغرب! فبينما هما كذلك إذا دخل عليهما أبوطالب فقال لهما: ما لكما من أي شئ تعجبان؟ فأخبرته فاطمة بالنور الذي قد رأت، فقال لها أبوطالب: ألا أبشرك؟ فقالت: بلى، فقال: أما إنك ستلدين غلاماً يكون وصي هذا المولود».

وفي الكافي: 1/452: «إصبري سبتاً أبشرك بمثله إلا النبوة، وقال: السبت ثلاثون سنة. وكان بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأميرالمؤمنين (علیه السلام) ثلاثون سنة».

يدل هذا على أن أباطالب وعبدالمطلب يعلمان بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله) وإمامة علي (علیه السلام) .

ص: 126

13- وُلِد رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم الجمعة

قال رواة السلطة إن النبي (صلی الله علیه و آله) ولد يوم الإثنين، وقال أهل البیت (علیهم السلام): وُلِد يوم الجمعة فجراً، ففي قرب الإسناد/299، عن علي بن جعفر قال: «جاء رجل إلى أخي «موسى بن جعفر (علیه السلام)» فقال له: جعلت فداك، إني أريد الخروج فادع لي. قال: ومتى تخرج؟ قال: يوم الإثنين. فقال له: ولمَ تخرج يوم الإثنين؟ قال: أطلب فيه البركة،لأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وُلد يوم الإثنين. فقال: كذبوا! وُلد رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم الجمعة، وما من يوم أعظم شؤماً من يوم الإثنين، يوم مات فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وانقطع فيه وحي السماء، وظُلمنا فيه حقنا!

ألا أدلك على يوم سَهْلٍ ألانَ الله تبارك وتعالى لداود فيه الحديد؟ فقال الرجل: بلى جعلت فداك. قال: أخرج يوم الثلاثاء».

وفي الحدائق الناضرة: 17/423 ملخصاً: «كان مولده بمكة في شعب أبي طالب يوم الجمعة بعد طلوع الفجر، سابع عشر شهر ربيع الأول عام الفيل، وهذا هو المشهور بين أصحابنا رضوان الله عليهم. وقيل لاثنتي عشرة مضت من الشهر، وقيل اليوم العاشر منه، وقيل الثاني. وبُعث (صلی الله علیه و آله) في اليوم السابع والعشرين من رجب، وله أربعون سنة. وقُبض بالمدينة يوم الإثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة عشر من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة. ونقل في الدروس قولاً بأنه قبض لاثنتي عشرة من شهر ربيع الأول، واختاره الكليني..وذكر جمع من أصحابنا منهم الشيخ في التهذيب والعلامة في المنتهى أنه قبض مسموماً».

وقال الكليني في الكافي: 1/439: «ولدته في شعب أبي طالب في دار محمد بن يوسف، في الزاوية القصوى عن يسارك وأنت داخل الدار، وقد أخرجت الخيزران ذلك البيت فصيرته مسجداً يصلي الناس فيه...

وتوفي أبوه عبدالله بن عبدالمطلب بالمدينة عند أخواله وهو ابن شهرين، وماتت أمه آمنة بنت وهب بن عبدمناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وهو ابن أربع سنين، ومات عبدالمطلب وللنبي (صلی الله علیه و آله) نحو ثمان

ص: 127

سنين، وتزوج خديجة، وهو ابن بضع وعشرين سنة».

«الدار التي اشتراها محمد بن يوسف أخو الحجاج من ورثة عقيل بن أبي طالب بمائة ألف دينار، ثم صيرتها الخيزران أم الرشيد مسجداً يصلي فيه الناس ويزورونه ويتبركون به، وبقي على حالته تلك، فلما أخذ الوهابيون مكة في عصرنا هذا هدموه ومنعوا من زيارته! على عادتهم في المنع من التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، وجعلوه مربطاً للدواب».أعيان الشيعة: 1/219 والصحيح: 2/68.

أقول: إسم المكان شعب أبي طالب (رحمة الله)، أو شعب بني هاشم، ويسمونه الآن شِعب علي (علیه السلام)، وقد رأيتُه سنة 1961ميلادية وكان واضح المعالم، وفي يسار مدخله بيت عبدالله والد النبي (صلی الله علیه و آله) وهو مكان مولده الشريف، وكان يومها مكتبة باسم: مكتبة مكة، ثم أراد مشايخهم هدمه فمنعتهم الحكومة خوفاً من المسلمين، فأبقوخالياً إلى يومنا هذا سنة 1438، ينتظرون فرصة لهدمه!

ورأيت يومها بيت أبي طالب (رحمة الله) داخل الشعب إلى اليمين، في مكان مرتفع، وقد جعلوه مدرسة باسم: مدرسة النجاح، ثم أزالوه مع البيوت، وأزالوا أكثر الجبلين اللذين يقع الشعب بينهما.

وفي الجهة الغربية مقابل شعب أبي طالب، بيت خديجة (علیها السلام) وكان في سوق الليل أو سوق الذهب، ويسمى: مولد فاطمة الزهراء (علیها السلام)، وجعلوه مدرسة للبنات، ثم أزالوه فيما أزالوا، بل أمعنوا في أذاهم للنبي (صلی الله علیه و آله) فجعلوه مرافق!

فكأن لهؤلاء الوهابية عداوةً مع آثار النبي وآله الأطهار (صلی الله علیه و آله) فهم يبادرون إلى إزالتها حتى لو كانت مساجد أو مملوكة للناس! لكنهم حافظوا على حصن عدو الإسلام اليهودي كعب بن الأشرف، الذي حاول اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله) وأبقوه بسوره وساحته وبئره، وغرفه العشرة، بعهدة بلدية المدينة المنورة، جنب حديقة البلدية العامة! وتجد صورته في شبكة النت!

ص: 128

14- بعض الآيات الربانية عند ولادته (صلی الله علیه و آله)

قال الإمام الباقر (علیه السلام) «الكافي: 8/300»: «لما ولد النبي (صلی الله علیه و آله) جاء رجل من أهل الكتاب «الحاخام يوسف» إلى ملأ من قريش فيهم هشام بن المغيرة، والوليد بن المغيرة، والعاص بن هشام، وأبو وجزة بن أبي عمرو بن أمية، وعتبة بن ربيعة، فقال: أوُلدَ فيكم مولودٌ الليلة؟ فقالوا: لا، قال: فولد إذاً بفلسطين غلام اسمه أحمد به شامة كلون الخزِّ الأدكن، ويكون هلاك أهل الكتاب واليهود على يديه، قد أخطاكم والله يا معشر قريش! فتفرقوا وسألوا فأخبروا أنه ولد لعبدالله بن عبدالمطلب غلام، فطلبوا الرجل فلقوه فقالوا: إنه قد ولد فينا والله غلام! قال: قبل أن أقول لكم أو بعدما قلت لكم؟ قالوا: قبل أن تقول لنا، قال: فانطلقوا بنا إليه حتى ننظر إليه، فانطلقوا حتى أتوا أمه فقالوا: أخرجي ابنك حتى ننظر إليه، فقالت: إن ابني والله لقد سقط وما سقط كما يسقط الصبيان، لقد اتقى الأرض بيديه ورفع رأسه إلى السماء فنظر إليها، ثم خرج منه نور حتى نظرت إلى قصور بصرى، وسمعت هاتفاً في الجو يقول: لقد ولدته سيد الأمة، فإذا وضعته فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، وسميه محمداً، قال: فأخرجيه، فأخرجته فنظر إليه ثم قلبه ونظر إلى الشامة بين كتفيه فخرَّ مغشياً عليه!فأخذوا الغلام فأدخلوه إلى أمه وقالوا: بارك الله لك فيه. فلما خرجوا أفاق فقالوا له: ما لك ويلك؟ قال: ذهبت نبوة بني إسرائيل إلى يوم القيامة، هذا والله من يُبيرهم!ففرحت قريش بذلك، فلما رآهم قد فرحوا قال: قد فرحتم!أما والله ليسطون بكم سطوةً يتحدث بها أهل المشرق والمغرب».

و في أمالي الصدوق/360، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان إبليس لعنه الله يخترق السماوات السبع، فلما ولد عيسى (علیه السلام) حجب عن ثلاث سماوات. وكان يخترق أربع سماوات، فلما ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) حجب عن السبع كلها، ورميت الشياطين بالنجوم، وقالت قريش: هذا قيام الساعة الذي كنا نسمع أهل الكتب يذكرونه! وقال عمرو بن أمية، وكان من أزجر أهل الجاهلية: أنظروا

ص: 129

هذه النجوم التي يهتدى بها، ويعرف بها أزمان الشتاء والصيف، فإن كان رمي بها فهو هلاك كل شئ، وإن كانت ثبتت ورمي بغيرها، فهو أمرحدث!

وأصبحت الأصنام كلها صبيحة مولد النبي (صلی الله علیه و آله) ليس منها صنم إلاوهو منكبٌّ على وجهه، وارتجس في تلك الليلة إيوان كسرى، وسقطت منه أربعة عشر شرفة، وغاضت بحيرة ساوة، وفاض وادي السماوة، وخمدت نيران فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ورأى المؤبذان «عالم المجوس» في تلك الليلة في المنام إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة وانسربت في بلادهم، وانقصم طاق الملك كسرى من وسطه، وانخرقت عليه دجلة العوراء، وانتشر في تلك الليلة نور من قبل الحجاز، ثم استطار حتى بلغ المشرق، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح مُنكَّساً، والملك مُخْرَسّاً لايتكلم يومه ذلك.

وانتزع عِلْمُ الكهنة وبطل سحر السحرة، ولم تبق كاهنة في العرب إلا حجبت عن صاحبها، وعظمت قريش في العرب، وسموا آل الله عزوجل. قال أبوعبدالله الصادق (علیه السلام): إنما سموا آل الله عزوجل، لأنهم في بيت الله الحرام. وقالت آمنة: إن ابني والله سقط فاتقى الأرض بيده، ثم رفع رأسه إلى السماء فنظر إليها، ثم خرج مني نور أضاء له كل شئ، وسمعت في الضوء قائلاً يقول: إنك قد ولدت سيد الناس فسميه محمداً، وأتيَ به عبدالمطلب لينظر إليه وقد بلغه ما قالت أمه، فأخذ فوضعه في حجره، ثم قال:

الحمد لله الذي أعطاني *** هذا الغلام الطيب الأردانِ

قد ساد في المهد على الغلمانِ

ثم عوذه بأركان الكعبة وقال فيه أشعاراً.

قال: وصاح إبليس لعنه الله في أبالسته فاجتمعوا إليه فقالوا: ما الذي أفزعك يا سيدنا؟ فقال لهم: ويلكم، لقد أنكرت السماء والأرض منذ الليلة، لقد حدث في الأرض حدث عظيمٌ ما حدث مثله منذ رفع عيسى بن مريم، فاخرجوا وانظروا ما هذا الحدث الذي قد حدث، فافترقوا ثم اجتمعوا إليه فقالوا: ما وجدنا شيئاً!

ص: 130

فقال إبليس: أنا لهذا الأمر. ثم انغمس في الدنيا فجالها حتى انتهى إلى الحرم فوجد الحرم محفوفاً بالملائكة، فذهب ليدخل فصاحوا به فرجع، ثم صار مثل الصِّر وهو العصفور فدخل من قبل حراء فقال له جبرئيل: وراءك لعنك الله. فقال له: حرف أسألك عنه يا جبرئيل، ما هذا الحدث الذي حدث منذ الليلة في الأرض؟ فقال له: ولد محمد (صلی الله علیه و آله)! فقال له: هل لي فيه نصيب؟ قال: لا. قال: ففي أمته؟ قال: نعم. قال: رضيت».

وفي دعائم الإسلام: 2/142 في قوله تعالى في سورة الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا: «عن علي (علیه السلام) قال: كنا مع رسول الله ذات ليلة إذ رمي نجم فاستضاء، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) للقوم: ما كنتم تقولون في وقت الجاهلية إذا رأيتم مثل هذا؟ قالوا: كنا نقول: مات عظيم وولد عظيم، فقال: فإنه لايرمى بها لموت أحد ولا لحياة أحد، ولكن ربنا إذا قضى أمراً سبَّح حملة العرش فقالوا: قضى ربنا بكذا، فيسمع ذلك أهل السماء التي تليهم فيقولون ذلك حتى يبلغ ذلك أهل السماء الدنيا. فتسترق الشياطين السمع، فربما اعتقلوا شيئاً فأتوا به الكهنة، فيزيدون وينقصون، فتخطئ الكهنة وتصيب.

ثم إن الله منع السماء بهذه النجوم فانقطعت الكهانة فلا كهانة، وتلا قول الله عزوجل: إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ. وقوله جل ثناؤه: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَداً».

15- نَسَبٌ طاهرٌ شامخٌ إلى إبراهيم وآدم (علیهم السلام)

في الصحيح: 2/63: «هو أبوالقاسم محمد (صلی الله علیه و آله) بن عبدالله، بن عبدالمطلب شيبة الحمد، بن هاشم، بن عبدمناف، بن قصي، بن كلاب، بن مرة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن نضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان.

قالوا: إن هذا هو المتفق عليه من نسبه الشريف، أما ما فوقه ففيه اختلاف

ص: 131

كثير، غير أن مما لا شك فيه هو أن نسب عدنان ينتهي إلى إسماعيل (علیه السلام) .

وروي أنه (صلی الله علیه و آله) قال: إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا».

وفي نهاية الإرب في معرفة أنساب العرب: 1/10: «أما عمود نسب النبي (صلی الله علیه و آله) فعلى ما ذكره ابن إسحاق في السيرة وتبعه عليه ابن هشام... ثم أكمل النسب فقال: بن عدنان، بن أدد، بن مقوم، بن ناحور، بن تارخ، بن يعرب، بن يشجب، بن نابت، بن إسماعيل، بن إبراهيم، بن تارخ وهو آزر، بن تاخور بن شارخ، بن أرغو، بن فالغ، بن عابر، بن شالخ، بن أرفخشد، بن سام، بن نوح، بن لامك، بن متوشلخ، بن أخنوخ وهو إدريس، بن يرد، بن مهلائيل، بن قنين، بن يافت بن شيث، بن آدم (علیه السلام) .والإتفاق على هذا النسب الشريف إلى عدنان. وفيما بعد عدنان إلى إسماعيل فيه خلاف كثير».

وفي شعب الإيمان للبيهقي: 2/137: «نسبة رسول الله (صلی الله علیه و آله) صحيحة إلى عدنان، وما وراء ذلك فليس فيه شئ يعتمد.. وذلك لاختلاف النسابين في ذلك، منهم من يزيد ومنهم من ينقص، ومنهم من يُغَيِّر».

أقول: اتفق المؤرخون على أسماء أجداد النبي (صلی الله علیه و آله) إلى عدنان، وهم واحد وعشرون جداً، ثم ذكروا ثمانية أجداد إلى إبراهيم (علیه السلام)، وسبعاً وعشرين جداً إلى آدم (علیه السلام)، لكن هذا لايتفق مع المدة التي رووها، وهي 600 سنة إلى عيسى (علیه السلام)، ثم1270سنة إلى موسى (علیه السلام)، ثم 500 سنة إلى إبراهيم (علیه السلام)، خاصة إذا افترضنا لكل ثلاثة آباء قرناً.

وقد بنوا كلامهم وكتبهم على رواية اليهود بأن عمر الأرض سبعة آلاف سنة! وروى العياشي: 1/31 عن الصادق (علیه السلام) أن الله أسكن في الأرض الملائكة والجن قبل آدم، وأنه قدر لآدم عشرة آلاف عام. لكنها ضعيفة لايعتمد عليها.

وروي عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) أنه قال لأبي حمزة الثمالي: «أتظن أن الله لم يخلق خلقاً سواكم؟ بلى والله لقد خلق الله ألف ألف آدم، وألف ألف عالم، وأنت والله في آخر تلك العوالم». مشارق أنوار اليقين/60.

وأقوال المؤرخين في عمرالإنسان على الأرض كلها ظنونٌ ليس فيها علم ولا اطمئنان، وكذا قول علماء الطبيعة إن عمرالإنسان على الأرض ملايين السنين.

ص: 132

ومعنى قوله (صلی الله علیه و آله): إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا، أن ما بأيديكم بعد عدنان غيردقيق، ولعل معناه أن معلوماتكم عن التاريخ خطأ، وتصحيحها متشعب ولم يؤمر به النبي (صلی الله علیه و آله)! راجع الإختصاص/50، البحار: 54/86، ابن خلدون: 2 ق: 1/3 و298، الحاكم: 2/598، كشف الخفاء: 2/314، تفسير الرازي: 19/179

وقصة الحضارة مجلد: 34.

16- رضاع النبي (صلی الله علیه و آله) من أمه آمنة (علیها السلام)

أكثر المؤرخون والمحدثون من الرواية في رضاع النبي (صلی الله علیه و آله)، وضاعت الحقيقة لتفاوت مروياتهم ووجود المكذوب فيها. فقالوا: إن أمه لم ترضعه لأنها كانت قليلة اللبن، أو أرضعته أياماً قليلة، ثم أرضعته ثويبة أمة أبي لهب أياماً، ثم جاءت حليمة! وقصدهم بذلك مدح أبي لهب والطعن في أسرة النبي (صلی الله علیه و آله) ولذا قالوا: إن المرضعات زهدن فيه لأنه يتيم، مع أنه جده عبدالمطلب رئيس قريش والعرب، ومطعم الحجيج، والناس تتنافس للتعامل معه!

والصحيح أن أمه (علیها السلام) أرضعته مدة سنة أو أكثر، ثم أعطته إلى حليمة لينشأ في باديتهم قرب الطائف، كما كانت عادة أهل مكة.

قال الشهيد الثاني (رحمة الله) في شرح اللمعة: 5/165 والمسالك: 1/376: «قال النبي (صلی الله علیه و آله): أنا أفصح العرب بَيْدَ أني من قريش ونشأت في بني سعد، وارتضعت من بني زهرة».فافتخر بالرضاع كما افتخر بالنسب، وهذه القبائل أفصح العرب.

وفي الإختصاص/187، أن أعرابياً سأله: «يا رسول الله من أَدَّبَكَ؟ قال: الله أدبني وأنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، وربيت في حجرٍ من هوازن».

ورواه من السنيين: النووي في المجموع: 18/227، ابن حجر في تلخيص الحبير: 4/13 والمهذب في فقه الشافعي للشيرازي: 3/145.

فرضاعه الأول (صلی الله علیه و آله) من أمه آمنة بنت وهب (علیها السلام) هو الأصل والمؤثر في شخصيته. ورضاعه الثاني من حليمة تكميلٌ أو إضافة! فقوله (صلی الله علیه و آله): ارتضعت

ص: 133

من بني زهرة، معناه رضاعاً كاملاً عرفاً، لمدة سنة ونحوها.

وتتعجب من كثرة روايتهم: «أنا أفصح من نطق بالضاد، بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد». وقلة روايتهم حديث رضاعه من أمه (صلی الله علیه و آله)، وكذلك كثرة روايتهم افتخاره بنشأته في بني سعد، كالذي رواه الطبراني في الكبير: 6/36: «عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أنا النبي لا كذب، أنا بن عبدالمطلب، أنا أعرب العرب، ولدتني قريش ونشأت في بني سعد بن بكر، فأنى يأتيني اللحن». والسيوطي في الصغير: 1/411 والخصائص: 1/63 والعجلوني: 1/206 وابن قتيبة في المعارف/132، ابن منظور: 3/99 والفائق: 1/9و126.

والظاهر أنه (صلی الله علیه و آله) كرر ذلك في مناسبات عديدة، ليذعن العرب لنبوته، ففي معاني الأخبار/320: «عن محمد بن إبراهيم التميمي قال: كنا عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) فنشأت سحابة فقالوا: يا رسول الله هذه سحابة ناشئة. فقال: كيف ترون قواعدها؟ قالوا: يا رسول الله ما أحسنها وأشد تمكنها، قال: كيف ترون بواسقها؟قالوا: يا رسول الله ما أحسنها وأشد تراكمها.قال: كيف ترون جونها؟ قالوا: يا رسول الله ما أحسنه وأشد سواده.قال: فكيف ترون رحاها؟ قالوا: يا رسول الله ما أحسنها وأشد استدارتها. قال: فكيف ترون برقها أخفواً أم وميضاً أم يشق شقاً؟ قالوا: يا رسول الله بل يشق شقاً، فقال رسول الله: الحيا. فقالوا: يا رسول الله ما أفصحك، وما رأينا الذي هو أفصح منك! فقال: وما يمنعني من ذلك، وبلساني نزل القرآن بلسان عربي مبين.

ثم روى الصدوق (رحمة الله) تفسيره عن أبي عبيد قال: «القواعد: هي أصولها المعترضة في آفاق السماء، وأحسبها تشبه بقواعد البيت وهي حيطانه، والواحدة قاعدة، قال الله عزوجل: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ. وأما البواسق ففروعها المستطيلة إلى وسط السماء إلى الأفق الآخر، وكذلك كل طويل فهو باسق، قال الله عزوجل: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ. والجُون هو الأسود اليحمومي وجمعه جُوَن. وأما قوله: فكيف ترون رحاها، فإن رحاها استدارة السحابة في السماء ولهذا قيل: رحا الحرب، وهو الموضع الذي يستدار فيه لها، والخَفْوُ الإعتراض من البرق في نواحي الغيم وفيه لغتان، ويقال: خفا البرق يخفو خفواً ويخفى خفياً. والوميض: أن يلمع قليلاً

ص: 134

ثم يسكن، وليس له اعتراض، وأما الذي يشق شقاً فاستطالته في الجو إلى وسط السماء، من غير أن يأخذ يميناً ولا شمالاً. قال مصنف هذا الكتاب: والحيا: المطر».

17- نشأته في البادية ورضاعه من حليمة

تناقضت روايتهم في كيفية أخذ حليمة له ومدة إرضاعها إياه! ولم أجد ما يطمأن اليه في ذلك عن أئمة أهل البیت (علیهم السلام)، والمؤكد أن عبدالمطلب (رحمة الله) سلمه إلى زوجها الحارث السعدي، فأخذه إلى منازلهم في بادية الطائف، وأرضعته حليمة مدة من الزمن، وأعادته إلى جده فأكرمهم.

ومن المقولات الكاذبة قولهم إنه (صلی الله علیه و آله) كان يتيماً فزهدت فيه المرضعات، مع أنه حفيد عبدالمطلب زعيم العرب! وكذلك قولهم إن ثويبة أو ثويبية مولاة أبي لهب أرضعته (صلی الله علیه و آله)! وغرضهم تخفيف العذاب عن أبي لهب «البخاري: 6/125»لأنه حليف أعداء النبي (صلی الله علیه و آله) الذين حكموا من بعده!

وقال الكراجكي (رحمة الله) في كنز الفوائد/72: «وشرف الله تعالى حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية برضاعه وخصها بتربيته، وكانت ذات عقل وفضل، فروت من آياته ما يبهر عقول السامعين، وأغناها الله ببركته في الدنيا والدين، وكان لايرضع إلا من ثديها اليمين. قال ابن عباس: ألهم العدل حتى في رضاعه، لأنه علم أن له شريكاً، فناصفه عدلاً منه (صلی الله علیه و آله)! قالت حليمة: ولم أر قط ما يُرى للأطفال، طهارةً ونظافةً، وإنما كان له وقت واحد ثم لايعود إلى وقته من الغد، وما كان شئ أبغض إليه من أن يرى جسده مكشوفاً، فكنت إذا كشفته يصيح حتى أستر عليه..وكان بنوسعيد يرون البركات بمقامه معهم وسكناه بينهم، حتى أنهم كانوا إذا عرض لدوابهم بؤس أتوا بها إليه ليمسها بيده، فيزول ما بها وتعود إلى أحسن حالها! ولم يزل كذلك إلى أن ردته حليمة إلى أهله، فاشتمل عليه جده عبدالمطلب يحبوه التُّحف ويمنحه الطُّرف، ويعد قريشاً به ويخبرهم بما يكون من حاله، إلى أن دنت وفاته فوضعه في حجر أبي طالب وأوصاه به،

ص: 135

وأمره بحياطته ورعايته، وعرفه ما يكون من أمره».

وفي المناقب: 1/32: «وروي عن حليمة أنه جلس محمد وهو ابن ثلاثة أشهر، ولعب مع الصبيان وهو ابن تسعة، وطلب مني أن يسير مع الغنم يرعى وهو ابن عشرة، وناضل الغلمان بالنبل وهو ابن خمسة عشر، وصارع الغلمان وهو ابن ثلاثين «شهراً» ثم رددته إلى جده».

وحديث المناقب الآنف إنها أعادته وعمره ثلاثون شهراً أي سنتين ونصفاً. قريب من قول ابن الجوزي في عيون التاريخ: 1/18: «ثم أرضعته حليمة بنت عبدالله السعدية، وردته إلى أمه بعد سنتين وشهرين».

لكن في رواية العدد القوية/122 والمناقب: 1/149 عن كتاب العروس وتاريخ الطبري: «ثم أرضعته حليمة السعدية، فلبث فيهم خمس سنين».

وفي صفوة الصفوة/27: «وقال ابن قتيبة: لبث فيهم خمس سنين..فكان عند أمه آمنة إلى أن بلغ ست سنين، ثم خرجت به إلى المدينة إلى أخواله بني عدي بن النجار تزورهم به ومعها أم أيمن تحضنه فأقامت به عندهم شهراً، ثم رجعت به إلى مكة، فتوفيت بالأبواء، فقبرها هنالك».

وفي تاريخ الذهبي: 1/46: «ثم أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية وأخذته معها إلى أرضها، فأقام معها في بني سعد نحو أربع سنين، ثم ردته إلى أمه».

وروى ابن سعد أنها جاءت به بعد أربع سنين لما جاء الملكان وشقا صدره، ثم عادت به فبقي سنة! لكن خبر شق الصدر عندنا مكذوب. والمرجح عندنا: أن أمه (صلی الله علیه و آله) أرضعته سنة أو نحوها،ثم أخذته حليمة السعدية فبقي عندها في بني سعد نحو أربع سنين. ويحتمل أن تكون حليمة في مدة وجوده عندها، تأتي به إلى أمه فيبقى أياماً أو شهراً، ثم تاخذه، لأن مكان حليمة قرب الطائف وهو على بعد يومين أو أقل من مكة، وهذه مسافة قريبة يومها.

ص: 136

18- وفاؤه (صلی الله علیه و آله) لحليمة وأولادها

رويَ أن حليمة السعدية توفيت قبل هجرته (صلی الله علیه و آله) فبكى لها.

وفي الكافي: 2/161 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أتته أخت له من الرضاعة، فلما نظر إليها سُرَّ بها وبسط ملحفته لها فأجلسها عليها، ثم أقبل يحدثها ويضحك في وجهها، ثم قامت وذهبت وجاء أخوها فلم يصنع به ما صنع بها، فقيل له يا رسول الله صنعت بأخته ما لم تصنع به وهو رجل؟ فقال: لأنها كانت أبرُّ بوالديها منه».

وفي جواهر العقود: 2/161: «روي أن وفد هوازن قدموا على النبي (صلی الله علیه و آله) فكلموه في سبي أوطاس: فقال رجل من بني سعد: يا محمد، إنا لو كنا ملَّحْنَا للحارث بن

أبي شمر«أي أرضعنا لملك الشام» أو للنعمان بن المنذر «ملك الحيرة» ثم نزل منزلك هذا منا لحفظ ذلك لنا، وأنت خير المكفولين فاحفظ ذلك. وإنما قالوا له ذلك لأن حليمة التي أرضعت النبي كانت من بني سعد».

وفي البحار: 22/262: «لم يكن لرسول الله (صلی الله علیه و آله) قرابة من جهة أمه إلا من الرضاعة فإن أمه آمنة بنت وهب لم يكن لها أخ ولا أخت. إلا أن بني زهرة يقولون: نحن أخواله لأن آمنة منهم، ولم يكن لأبويه عبدالله وآمنة ولد غيره.. وكان له خالةٌ من الرضاعة يقال لها سلمى، وهي أخت حليمة بنت أبي ذؤيب، وله أخوان من الرضاعة عبدالله بن الحارث وأنيسة بن الحارث، أبوهما الحارث بن عبدالعزى بن سعد بن بكر بن هوزان».

وسمتها الرواية الشيماء، وسماها في الفضائل/87: حُرَّة، وروى قصتها مع الحجاج، قال: «لما وردت حرة بنت حليمة السعدية على الحجاج بن يوسف الثقفي فمثلت بين يديه قال لها: الله جاء بك، فقد قيل عنك إنك تفضلين علياً على أبي بكر وعمر وعثمان؟! فقالت: لقد كذب الذي قال إني أفضله على هؤلاء خاصة؟ قال: وعلى من غير هؤلاء؟ قالت: أفضله على آدم ونوح ولوط وإبراهيم وعلى موسى وداود وسليمان وعيسى بن مريم! فقال لها: ويلك أقول

ص: 137

لك إنك تفضلينه على الصحابة وتزيدين عليهم سبعة من الأنبياء من أولي العزم من الرسل؟إن لم تأت ببيان ما قلت وإلا ضربت عنقك! فقالت: ما أنا مفضلته على هؤلاء الأنبياء، ولكن الله عزوجل فضله عليهم في القرآن..الخ.».

أقول: لعل هذه ابنة الشيماء أخت النبي (صلی الله علیه و آله) من الرضاعة، فلو كانت نفسها لكان عمرها في زمن الحجاج أكثر من مئة سنة!

هذا، وقد رووا كثيراً من معجزاته (صلی الله علیه و آله) في رضاعه ونشأته في بني سعد، وبعضها مقبول، وأكثرها مرسل، وبعضها مردود، كحديث شق الصدر.

19- زيارة النبي (صلی الله علیه و آله) قبري والديه عبدالله وآمنة (صلی الله علیه و آله)

كان قبر عبدالله والد نبينا (صلی الله علیه و آله) في المدينة المنورة مزاراً إلى الأمس، بناه المسلمون من قديم وآخرهم سلاطين مصر والدولة العثمانية، وقد زرته في سنة 1964 وسنة 1965ميلادية، وكان بيتاً داخل سوق المدينة غربي المسجد، وكانت واجهة بابه الخارجي وعتبته أحجاراً، نقشت عليها كتيبة بالعربية والتركية. وقد أقفله مشايخ الوهابية يومها مقدمة لهدمه!

أما الآن فأزالوه ودخل مكانه في توسعة ساحة المسجد النبوي، ولم يبق له أثر!

كما أن قبر والدته آمنة (علیها السلام) في الأبواء في طريق مكة، كان مزاراً للأوفياء لنبيهم وأسرته (صلی الله علیه و آله)، ويعرف مكانه اليوم باسم «الخريبة» في منطقة الفرع.

قال في مراصد الإطلاع: 1/19: «الأبواء: قرية من أعمال الفرع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً. وبالأبواء قبر آمنة أم النبي».

وقد أفتى فقهاؤنا باستحباب زيارة قبروالديه (صلی الله علیه و آله) وهذا نص زيارة أمه آمنة (علیها السلام):

«السلام عليك أيتها الطاهرة المطهرة، السلام عليك يا من خصها الله بأعلى الشرف، السلام عليك يا من سطع من جبينها نور سيد الأنبياء فأضاءت به الأرض والسماء. السلام عليك يا من نزلت لأجلها الملائكة وضربت لها حجب الجنة.

السلام عليك يا من نزلت لخدمتها الحور العين وسقنها من شراب الجنة وبشرنها

ص: 138

بولادة خير الأنبياء. السلام عليك يا أم رسول الله، السلام عليك يا أم حبيب الله. فهنيئاً لك بما آتاك الله من فضله، والسلام عليك وعلى رسول الله ورحمة الله وبركاته».

وشذ الوهابية عن كافة المسلمين فحرموا زيارة قبر أم النبي3وعاقبوا من زاره!

ثم طغوا وفجَّروا القبر بالديناميت!

وكتب عبدالحسين البصري في شبكة الموسوعة الشيعية: 28/3 /2000 موضوعاً بعنوان«ديناميت السلفية»! قال فيه:

«للتاريخ فقط، ولتبقى صفحة سوداء في وجة خوارج العصر، نؤرخ لحدث وقع أصاب كبد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ألا وهو تفجير قبر آمنه بنت وهب أم رسول الله (صلی الله علیه و آله)، الواقع في الأبواء وذلك في الثامن من مارس سنة 2000 ميلادي!

ألا لعنة الله على القوم الظالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».

ثم كتب في رد مزاعم الوهابيين بأن زيارة قبر آمنة (علیها السلام) شرك بالله تعالى!

20- ظلم المسلمين لنبيهم في والديه (صلی الله علیه و آله)!

قال الحموي في معجم البلدان: 1/79: «وبالأبواء قبر آمنة بنت وهب أم النبي وكان السبب في دفنها هناك أن عبدالله والد رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان قد خرج إلى المدينة يمتار تمراً فمات بالمدينة، فكانت زوجته آمنة بنت وهب بن عبدمناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، تخرج في كل عام إلى المدينة تزور قبره، فلما أتى على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ست سنين خرجت زائرة لقبره ومعها عبدالمطلب وأم أيمن حاضنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما صارت بالأبواء منصرفةً إلى مكة ماتت بها، ويقال إن أباطالب زار أخواله بني النجار بالمدينة، وحمل معه آمنة أم رسول الله، فلما رجع منصرفاً إلى مكة، ماتت آمنة بالأبواء».

وقال ابن سعد: 1/116: «فنزلت به في دار النابغة فأقامت به عندهم شهراً. فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يذكر أموراً كانت في مقامه ذلك: لما نظر إلى أطَمِ بني عدي

ص: 139

بن النجار عرفه وقال: كنت ألاعب أنيسة جارية من الأنصار على هذا الأطم، وكنت مع غلمان من أخوالي نطيِّر طائراً كان يقع عليه. ونظر إلى الدار فقال: هاهنا نزلت بي أمي وفي هذه الدار قبر أبي عبدالله بن عبدالمطلب، وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار.

وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إليه، فقالت أم أيمن: فسمعت أحدهم يقول هو نبي هذه الأمة وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كله من كلامه،

ثم رجعت به أمه إلى مكة فلما كانوا بالأبواء توفيت آمنة بنت وهب فقبرها هناك، فرجعت به أم أيمن على البعيرين اللذين قدموا عليهما مكة، وكانت تحضنه مع أمه ثم بعد أن ماتت. فلما مرَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) في عمرة الحديبية بالأبواء قال: إن الله قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فأتاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأصلحه وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكاء رسول الله (صلی الله علیه و آله)».

أقول: زعم أتباع مذاهب الخلافة أن والدة النبي (صلی الله علیه و آله) كافرة وأنها في جهنم! وزعموا أنه استأذن ربه في زيارة قبرها وهو في طريقه إلى الحديبية فأذن له، فبكى وأجهش بالبكاء طويلاً وأبكى المسلمين معه، لكنه استأذن ربه أن يستغفر لها فلم يأذن له، وأبقاها في نار جهنم والنبي (صلی الله علیه و آله) يرى عذابها!

ففي شرح مسند أبي حنيفة للقاري/335: «فمكث طويلاً ثم اشتد بكاؤه حتى ظننا أنه لا يسكن.. قال: استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، فاستأذنته في الشفاعة فأبى! فبكيت رحمة لها»!

وفي تفسير الطبري: 11/58: «وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها حتى نزلت: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ»!

وفي السيرة الحلبية: 1/173: «وفي رواية إن جبريل ضرب في صدره قال:

لا تستغفر لمن مات مشركاً، فما رؤى باكياً أكثر منه يومئذ»!

وقال محمد ناصر الألباني في أحكام الجنائز/187: «عن أبي هريرة قال:

ص: 140

زار النبي (صلی الله علیه و آله) قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي»! وصحيح مسلم: 3/65 وأبو داود: 2/72.

وهكذا صوروا الرحمن الرحيم عزوجل خشناً قاسياً،لايرحم عواطف نبيه الإنسانية تجاه والدته، ولا يعبأ ببكائه وحرقته عليها، ولايسمح له أن يقول: اللهم اغفر لها! فالمهم عندهم أن يكون آباء النبي (صلی الله علیه و آله) وأمهاته في النار! حتى لايكونوا مؤمنين فيرثوا إسماعيل (علیه السلام) وتكون الخلافة في عترة النبي (صلی الله علیه و آله)!

ومن تناقضهم أنهم كذبوا أنفسهم، فرووا أن هذه الآية نزلت قبل الحديبية وأن سبب نزولها غير هذا! ثم كذبوا أنفسهم في موضع آخر فرووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) شفع لعمه أبي طالب فنقله من قعر جهنم إلى ضحضاحها!صحيح بخاري: 4/247!

ثم كذبوا أنفسهم فرووا في قوله تعالى: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ «قال (صلی الله علیه و آله): أجورهم: يدخلهم الجنة، ويزيدهم من فضله: الشفاعة فيمن وجبت لهم النار، ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا». الدر المنثور: 2/249.

وروى ابن ماجة: 2/1215: «يُصَفُّ الناس يوم القيامة صفوفاً فَيَمُرُّ الرجل من أهل النار على الرجل فيقول: يا فلان أما تذكر يوم استسقيت فسقيتك شربة؟ قال: فيشفع له. ويمر الرجل فيقول: أما تذكر يوم ناولتك طهوراً؟ فيشفع له»!

فتراهم عندما يصلون إلى والدي النبي (صلی الله علیه و آله) وأجداده وعمه أبي طالب: يضيقون رحمة الله وشفاعة نبيه (صلی الله علیه و آله) حتى لا تشملهم، ويقلدون اليهود فينسبون إلى الله تعالى الشدة والقسوة على رسوله (صلی الله علیه و آله)!

والسبب: أنهم بحاجة إلى تكفير أسرته، ليرثوا سلطانه، ويبعدوا عترته:!

21- أم أيمن حاضنة النبي (صلی الله علیه و آله) وخادمة فاطمة (علیها السلام)

1. كانت أم أيمن حاضنة النبي (صلی الله علیه و آله)، ورثها من أبيه فأعتقها: «وورث خمسة أجمال أوارك «يرعون الأراك» وقطيعة غنم، وسيفاً مأثوراً «تاريخياً» وورِقاً «نقداً». «المناقب: 1/147 والطبقات: 1/100».«كان إسمها بركة، فأعتقها وزَوَّجها

ص: 141

عبيد الخزرجي بمكة، فولدت له أيمن فمات زوجها فزوجها النبي (صلی الله علیه و آله) من زيد، فولدت له أسامة، أسود يشبهها، فأسامة وأيمن أخَوَان لأم».البحار: 22/263.

كانت جارية سوداء نوبية «كتاب سليم/389» «فلما ولدت آمنة النبي بعدما توفي أبوه، حضنته أم أيمن حتى كبر، ثم أعتقها النبي (صلی الله علیه و آله) ثم أنكحها زيد بن حارثة. توفيت بعد النبي (صلی الله علیه و آله) بخمسة أشهر». قاموس الرجال: 12/193.

روي أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة، فليتزوج أم أيمن، فتزوجها زيد بن حارثة، فولدت له أسامة بن زيد». الطبقات: 8/224.

وكانت أم أيمن تخطئ في العربية: «قالت يوم حنين: سبت الله أقدامكم، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أسكتي يا أم أيمن فإنك عسراء اللسان». الطبقات: 8/225.

2. لما توفيت آمنة والدة النبي (صلی الله علیه و آله) في رجوعها من المدينة: «فرجعت به أم أيمن على البعيرين اللذين قدموا عليهما مكة، وكانت تحضنه مع أمه، ثم بعد أن ماتت». الطبقات: 1/116.

3. في الطبقات: 1/117 وتاريخ دمشق: 3/85: «قال عبدالمطلب لأم أيمن وكانت تحضن رسول الله: يا بركة لا تغفلي عن ابني، فإني وجدته مع غلمان قريباً من السدرة، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني هذا نبي هذه الأمة.

وكان عبدالمطلب لا يأكل طعاماً إلا قال: عليَّ بابني فيؤتى به إليه، فلما حضرت عبدالمطلب الوفاة أوصى أباطالب بحفظ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحياطته».

4. قالت أم أيمن عن النبي (صلی الله علیه و آله): «ما رأيته شكى، صغيراً ولا كبيراً، جوعاً ولا عطشاً! كان يغدو فيشرب من زمزم، فأعرض عليه الغداء فيقول: لا أريده أنا شبعان». «الطبقات: 1/168». وقالت: «رأيته وهو ابن ثمان سنين يبكي خلف سرير عبدالمطلب، حتى دفن بالحجون». الطبقات: 1/119 والبحار: 15/162.

5. كان النبي (صلی الله علیه و آله) يقول لها: يا أُمَّهْ، ويزورها في بيتها.«الطبقات: 8/223». ويثق بها، فقد وضع عندها أمانات الناس: «فلما أراد الهجرة سلمها إلى أم أيمن، وأمر علياً (علیه السلام) أن يردها». الحدائق الناضرة: 21/433.

ص: 142

6. وكذبوا على النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه كان يبول في إناء فشربت أم أيمن بوله، قالوا أنه بال ذات مرة في قدح وكان تحت سريره، قالت أم أيمن: «فقمت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبي (صلی الله علیه و آله) قال: يا أم أيمن قومي فأهريقي ما في تلك الفخارة. قلت: قد والله شربت مافيها! قال فضحك النبي (صلی الله علیه و آله) ثم قال: لن تشتكي بطنك». نيل الأوطار: 1/106 والمناقب: 1/108.

وضعفه في مجمع الزوائد لكنه صحح مثله: 8/270: «كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان يبول فيه ويضعه تحت سريره فقام فطلبه فلم يجده فسأل فقال أين القدح قالوا شربته سُرَّة خادم أم سلمة، التي قدمت معها من أرض الحبشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد احتظرت من النار بحظار».

وجوَّز ذلك الشافعي وغيره وحكموا بطهارة بول النبي (صلی الله علیه و آله) . المعتبر: 1/410.

وروي أن أم أيمن: «ما مرضت حتى كان مرضها الذي ماتت فيه».نيل الأوطار: 1/106.

لكنها رواية مكذوبة ولعلها من أجل تبرير عمل بعضهم!«راجع مسند الجعد/41». لأن بيت النبي (صلی الله علیه و آله) كان فيه كنيف، وفيه بيت للنار وللتنور، أي مطبخ. وفيه غرفة كبيرة يستقبل فيها الناس تفتح على المسجد، وفيه غرفة لابنته فاطمة (علیها السلام)، وغرفة للخادم. قال علي (علیه السلام) «النوادر/200 و227»: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا أراد أن يتنخع وبين يديه ناس، غطى رأسه ثم دفنه، وإذا أراد أن يبزق فعل مثل ذلك، وكان إذا أراد الكنيف غطى رأسه».

وقال (علیه السلام): «علمني رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا دخلت الكنيف أن أقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبيث والخبائث المخبث، النجس الرجس الشيطان الرجيم».

فقد كانت الكُنف منشرة، ولهذا نردُّ حديث أنه كان يبول في إناء من فخار أو عيدان، وأن فلانة أو فلانة شربت بوله (صلی الله علیه و آله) .

وكذا نردُّ حديث عائشة الذي يزعم أن بيت النبي (صلی الله علیه و آله) كان مدة بلا كنيف! قالت: «البخاري: 3/155»: «فخرجت أنا وأم مسطح قِبَل المناصع متبرزنا، لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا وأمرنا أمر

ص: 143

العرب الأول في البرية».فهذا يصح في بيت أبيها، وليس في بيت النبي (صلی الله علیه و آله) .

روى البيهقي: 1/93: «عن ابن عمر: دخلت بيت حفصة فحانت مني التفاتة فرأيت كنيف رسول الله (صلی الله علیه و آله) مستقبل القبلة». وقد توهم عبدالله في جهته.

ولهذا لا يصح ما رواه البخاري: 1/45: «إن أزواج النبي كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح، فكان عمر يقول للنبي أجب نساءك، فلم يكن رسول الله يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر: ألا قد عرفناك يا سودة، حرصاً على أن ينزل الحجاب فأنزل الله الحجاب».

فهو موضوع لإثبات أن آية حجب نساء النبي (صلی الله علیه و آله) نزلت بطلب عمر: «وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ».

7. وهاجرت أم أيمن مع ابنها أيمن وصغيرها أسامة،فقد واعدهم عليٌّ (علیه السلام): «أن يتسللوا ويتخفوا إذا ملأ الليل بطن كل واد، إلى ذي طوى» فوافوه هناك، ومعهم عدد من مستضعفي المسلمين. أمالي الطوسي/469 وسبل الهدى: 3/267.

8. وكانت تعيش في المدينة مع زوجها زيد وتساعد الزهراء (علیها السلام) في عمل البيت، ففي أمالي الطوسي/669، عن علي (علیه السلام) قال: «زارنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد أهدت لنا أم أيمن لبناً وزبداً وتمراً، فقدمناه فأكل منه ثم قام النبي (صلی الله علیه و آله) إلى زاوية البيت فصلى ركعات، فلما كان في آخر سجوده بكى بكاءً شديداً، فلم يسأله أحد منا إجلالاً له، فقام الحسين (علیه السلام) فقعد في حجره وقال له: يا أبت لقد دخلت بيتنا فما سررنا بشئ كسرورنا بدخولك، ثم بكيت بكاء غمنا فلمَ بكيت؟ فقال: يا بني أتاني جبرئيل آنفاً فأخبرني أنكم قتلى، وأن مصارعكم شتى! فقال: يا أبت فما لمن يزور قبورنا على تشتتها؟ فقال: يا بني، أولئك طوائف من أمتي يزورونكم يلتمسون بذلك البركة، وحقيق عليَّ أن آتيهم يوم القيامة حتى أخلصهم من أهوال الساعة من ذنوبهم، ويسكنهم الله الجنة».

9. لما تزوجت فاطمة (علیها السلام) أمر النبي (صلی الله علیه و آله) أم أيمن فكانت تساعدها، وروت عدة أحاديث في سيرتها، وسيرة العترة الطاهرة:.

ص: 144

منها: عن ولادة الحسين (علیه السلام) وفضل تربته وأنها من بطحاء الجنة، وأنها أطهر بقاع الأرض، وأعظمها حرمة. السجود على الأرض للأحمدي/140 والبحار: 98/114.

ومنها: معجزة الرحى: وقد رواها الجميع وأن الزهراء (علیها السلام) شكت إلى أبيها (صلی الله علیه و آله) ما تلقى من الرحى. «المجموع 19/374 وشرح مغني ابن قدامة 8/146». وقالت: «مضيت ذات يوم إلى منزل سيدتي ومولاتي فاطمة لأزورها في منزلها وكان يوما حاراً من أيام الصيف، فأتيت إلى باب دارها وإذا أنا بالباب مغلق، فنظرت من شق الباب وإذا بفاطمة نائمة عند الرحى ورأيت الرحى تدور وتطحن البر، وهي تدور من غير يد تديرها، والمهد أيضاً إلى جنبها والحسين نائم فيه والمهد يهتز ولم أر من يهزه! ورأيت كفاً تسبح لله قريباً من كف فاطمة. قالت أم أيمن: فتعجبت من ذلك فتركتها ومضيت إلى سيدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقلت: يا رسول الله إني رأيت اليوم عجباً ما رأيت مثله أبداً.فقال لي: ما رأيت يا أم أيمن؟ فقلت: إني قصدت منزل فاطمة فلقيت الباب مغلقاً فإذا أنا بالرحى تطحن البر وهي تدور من غير يد، ورأيت مهد الحسين يهتز من غير يد تهزه ورأيت كفاً يسبح لله قريباً من كف فاطمة! فقال: يا أم أيمن إعلمي أن فاطمة صائمة، وهي متعبة والزمان قيض، فألقى الله عليها النعاس فنامت، فسبحان من لا ينام، فوكل الله ملكاً يطحن عنها قوت عيالها وأرسل ملكاً آخر، يهز مهد ولدها الحسين لئلا يزعجها عن نومها، ووكل الله تعالى ملكا آخر يسبح الله عزوجل قريباً من كف فاطمة ثواب تسبيحه لها، لأن فاطمة لم تفتر عن ذكر الله عزوجل فإذا نامت جعل الله ثواب تسبيح ذلك الملك لفاطمة».مدينة المعاجز: 4/47.

10. أكرم الله أم أيمن ببركة الزهراء (علیها السلام): «خرجت إلى مكة لما توفيت فاطمة قالت: لا أرى المدينة بعدها! فأصابها عطش شديد في الجحفة حتى خافت على نفسها، فكسرت عينيها نحو السماء ثم قالت: يا رب أتعطشني وأنا خادمة بنت نبيك؟ قال: فنزل إليها دلو من ماء الجنة فشربت». المناقب: 1/116.

11. كانت طيبة بسيطة وأخبر النبي (صلی الله علیه و آله) أنها من أهل الجنة، وكانت تعرف

ص: 145

إمامة علي (علیه السلام) ولا تعرف إمامة بقية الأئمة (علیهم السلام) .

وقد سألها النبي (صلی الله علیه و آله) يوماً عن علي (علیه السلام): «أثَم أخي؟ قالت: وكيف يكون أخوك وقد أنكحته ابنتك؟ قال: فإنه كذلك». الطبقات: 8/23.

وفي الكافي: 2/405: «عن إسماعيل الجعفي قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن الدين الذي لايسع العباد جهله؟فقال: الدين واسع، ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم!قلت: جعلت فداك فأحدثك بديني الذي أنا عليه؟ فقال: بلى، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله، وأتولاكم وأبرأ من عدوكم، ومن ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم. فقال: ما جهلت شيئاً، هو والله الذي نحن عليه. قلت: فهل سلم أحد لايعرف هذا الأمر؟ فقال: لا إلا المستضعفين. قلت: من هم؟ قال: نساؤكم وأولادكم، ثم قال: أرأيت أم أيمن، فإني أشهد أنها من أهل الجنة، وما كانت تعرف ما أنتم عليه».

يعني كانت قاصرة الذهن أو شبه قاصرة عن إدراك منظومة الأئمة (علیهم السلام) بعد النبي (صلی الله علیه و آله)، ومع ذلك فهي من أهل الجنة لأن الله تعالى يطلب من الشخص قدر ما آتاه من الإدراك والتعقل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا.

12. أمَّرَ النبي (صلی الله علیه و آله) في مرض وفاته أسامة بن زيد على جيش لغزو الروم الذين قتلوا أباه زيداً.وكان أسامة في السابعة عشرة من عمره «الفصول للجصاص1/159» وأمره النبي (صلی الله علیه و آله) بالمسير ولعن من تخلف عنه، وكان ذلك: «لأربع ليال بقين من صفر سنة 11من الهجرة وعسكر بالجرف. فلم يبق أحد من المهاجرين الأولين والأنصار إلا اشتد لذلك وتهيأ للخروج، منهم أبوبكر، وعمر، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص». المراجعات/368 مستدرك سفينة البحار: 5/36و209.

وقال ابن حجر في فتح الباري: 8/115، وهو من كبار أئمة السلطة: «وقد أنكر ابن تيمية في كتاب الرد على ابن المطهر أن يكون أبوبكر وعمر في بعث أسامة، ومستند ما ذكرناه ما أخرجه الواقدي بأسانيده في المغازي، وذكره ابن سعد أواخر الترجمة النبوية بغير إسناد، وذكره ابن إسحاق في السيرة المشهورة ولفظه: بدأ برسول الله (صلی الله علیه و آله) وجعه

ص: 146

يوم الأربعاء فأصبح يوم الخميس فعقد لأسامة فقال: أغز في سبيل الله وسر إلى موضع مقتل أبيك، فقد وليتك هذا الجيش. فذكر القصة وفيها: لم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة منهم أبوبكر وعمر.. وعند الواقدي أن عدة ذلك الجيش كانت ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة من قريش».

وكان هدف النبي (صلی الله علیه و آله) أن يخلي المدينة لعلي (علیه السلام) ويبعد عنها الطامعين في خلافته وقد عملوا للتأثير على أم أيمن، فطلبت من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يؤخر إرسال أسامة لأنه قلق عليه فلم يقبل (صلی الله علیه و آله) وأكد أمره له بالمسير بالجيش.

ثم أشاعوا اعتراضهم على تأمير أسامة على شيوخ قريش والأنصار،وهو شاب أسود ابن سبع عشرة سنة! فغضب النبي (صلی الله علیه و آله) وخرج وهو مريض وصعد المنبر ومدح أسامة وأمره بالحركة، ولعن من تخلف عنه!

فتحرك أسامة فعاد القرشيون إلى أم أيمن، فأرسلت إلى ولدها أن لا يتحرك بجيشه لأن حال النبي (صلی الله علیه و آله) قد ثقلت! فاستغلوا بساطتها رحمها الله.

13. لكنها عندما توفي النبي (صلی الله علیه و آله) استنكرت مسارعتهم إلى السقيفة وبيعتهم أبابكر، فجاءت اليهم وقالت: «يا أبابكر، ما أسرع ما أبديتم حسدكم لآل محمد! فأمر بها عمر فأخرجت من المسجد». كتاب سُليم/157و389.

14. عندما صادروا تركة النبي (صلی الله علیه و آله)، واحتجت الزهراء (علیها السلام) على أبي بكر، طلب منها شهوداً. قال الإمام الصادق (علیه السلام): «فجاءت فاطمة (علیها السلام) إلى أبي بكر، فقالت يا أبابكر منعتني عن ميراثي من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخرجت وكيلي من فدك، وقد جعلها لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأمر الله. فقال لها هاتي على ذلك شهوداً، فجاءت بأم أيمن فقالت: لا أشهد حتى أحتج يا أبابكر عليك بما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقالت: أنشدك الله ألست تعلم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: إن أم أيمن من أهل الجنة؟ قال بلى. قالت: فأشهد أن الله أوحى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله): وَآتِ ذا القُرْبَى حَقَّه، فجعل فدك لفاطمة بأمر الله. وجاء علي (علیه السلام) فشهد بمثل ذلك، فكتب لها كتاباً بفدك ودفعه إليها، فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟

ص: 147

فقال أبوبكر: إن فاطمة ادعت في فدك وشهدت لها أم أيمن وعلي فكتبت لها بفدك، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فمزقه».تفسير القمي: 2/155 ونحوه العياشي: 2/278.

15. كانت أم أيمن ثقة الزهراء (علیها السلام) قال الصادق (علیه السلام): «لما نعي إلى فاطمة نفسها أرسلت إلى أم أيمن وكانت أوثق نسائها عندها وفي نفسها».علل الشرائع: 1/187.

16. «اشترى عبدالمطلب أم أيمن من جيش أبرهة، وتوفيت بعد النبي (صلی الله علیه و آله) بشهورقليلة فتح الباري: 7/70 وكانت في السبعينات.لكن رواة الخلافة أخروا وفاتها عشر سنين ليقولوا إنها رضيت على أبي بكر وعمر ومدحته وقالت يوم قتل: اليوم وَهَى الإسلام». تاريخ البخاري الصغير: 1/88 وتاريخ دمشق: 4/302.

17. أيمن بن عبيد أفضل من أخيه أسامة بن زيد، فقد استشهد أيمن دفاعاً عن النبي (صلی الله علیه و آله) في حنين لما فرَّ عنه المسلمون، وهاجمه عوف بن مالك زعيم هوازن ليقتله: فاعترضه أيمن: «فالتقيا فقتله مالك». ولم يصل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) . المناقب: 1/181، تاريخ دمشق: 4/257، ذخائر العقبى/198 وكبير الطبراني: 1/288.

قال المفيد في الإرشاد: 1/140 ونحوه الإستيعاب: 2/813: «فلم يبق منهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) إلا عشرة أنفس، تسعة من بني هاشم خاصة وعاشرهم أيمن بن أم أيمن، فقتل أيمن (رحمة الله) وثبت تسعة النفر الهاشميون، حتى ثاب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من كان انهزم.وقال العباس بن عبدالمطلب في هذا المقام:

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة *** وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا

وقولي إذا ما الفضل شد بسيفه *** على القوم أخرى يا بني ليرجعوا

وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه *** لما ناله في الله لا يتوجع

يعني به أيمن بن أم أيمن».

18. أما أسامة بن زيد ابن أم أيمن فعاش في كنف النبي وعترته (صلی الله علیه و آله) . وكان أسود قوي البنية وقد أمَّرَه النبي (صلی الله علیه و آله) على سرية، ثم أمَّره في مرض وفاته على جيش من ثلاثة آلاف مقاتل، وكان في الثامنة عشرة أو السابعة عشرة. وعاد من معسكره في الجرف بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) ولم يبايع أبابكر حتى بايع علي (علیه السلام) . وتوفي أسامة زمن معاوية سنة 54 هجرية.

ص: 148

الفصل السابع: في كفالة جده الحنون، وبيت عمه الحنون:

1- في كفالة جده الحنون عبدالمطلب

في الكافي: 1/448، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «كان عبدالمطلب يُفرش له بفناء الكعبة، لا يُفرش لأحد غيره، وكان له وُلْدٌ يقومون على رأسه فيمنعون من دنا منه، فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو طفل يدرج حتى جلس على فخذيه، فأهوى بعضهم إليه لينحيه عنه، فقال له عبدالمطلب: دع ابني فإن المُلك قد أتاه»!

وفي رواية كمال الدين/171، عن ابن عباس، قال: «دعوا ابني فوالله إن له لشأناً عظيماً، إني أرى أنه سيأتي عليكم يوم وهو سيدكم، إني أرى غرته غرة تسود الناس، ثم يحمله فيجلسه معه ويمسح ظهره ويقبله ويقول: ما رأيت قبلة أطيب منه ولا أطهر قط، ولا جسداً ألين منه، ولا أطيب منه. ثم يلتفت إلى أبي طالب وذلك أن عبدالله وأباطالب لأم واحدة، فيقول: يا أباطالب إن لهذا الغلام لشأناً عظيماً فاحفظه واستمسك به، فإنه فردٌ وحيدٌ، وكن له كالأم، لا يوصل إليه بشئ يكرهه، ثم يحمله على عنقه فيطوف به أسبوعاً.

وكانت هذه حاله حتى أدركت عبدالمطلب الوفاة، فبعث إلى أبي طالب، ومحمد على صدره وهو في غمرات الموت، وهو يبكي ويلتفت إلى أبي طالب ويقول: يا أباطالب أنظر أن تكون حافظاً لهذا الوحيد الذي لم يشم رائحة أبيه، ولا ذاق شفقة أمه، أنظر يا أباطالب أن يكون من جسدك بمنزلة كبدك، فإني قد تركت بنيَّ كلهم وأوصيتك به، لأنك من أم

ص: 149

أبيه. يا أباطالب إن أدركت أيامه فاعلم أني كنت من أبصر الناس وأعلم الناس به، فإن استطعت أن تتبعه فافعل، وانصره بلسانك ويدك ومالك، فإنه والله سيسودكم ويملك ما لم يملك أحد من بني آبائي. يا أباطالب ما أعلم أحداً من آبائك مات عنه أبوه على حال أبيه، ولا أمه على حال أمه، فاحفظه لوحدته، هل قبلت وصيتي فيه؟

فقال: نعم قد قبلت واللهُ عليَّ بذلك شهيد، فقال عبدالمطلب: فمدَّ يدك إليَّ فمد يده إليه فضرب يده على يده ثم قال عبدالمطلب: الآن خفَّ عليَّ الموت!

ثم لم يزل يقبله ويقول: أشهد أني لم أقبل أحداً من ولدي أطيب ريحاً منك، ولا أحس وجهاً منك، ويتمنى أن يكون قد بقي حتى يدرك زمانه!

فمات عبدالمطلب وهو (صلی الله علیه و آله) ابن ثمان سنين، فضمه أبوطالب إلى نفسه لا يفارقه ساعة من ليل ولا نهار، وكان ينام معه لا يأتمن عليه أحداً»!

قال اليعقوبي: 2/12، «أوصى لأبي طالب برسول الله (صلی الله علیه و آله) وبزمزم، وقال له:

وصيك يا عبدمناف بعدي *** بمفرد بعد أبيه فرد

فارقه وهو ضجيع المهد *** فكنت كالأم له في الوجد

تدنيه من أحشائها والكبد *** فأنت من أرجى بَنِيَّ عندي

لدفع ضيم أو لشد عقد

وتوفي عبدالمطلب ولرسول الله ثماني سنين، ولعبدالمطلب مائة وعشرون سنة وقيل مائة وأربعون سنة، وأعظمت قريش موته، وغُسل بالماء والسدر، وكانت قريش أول من غسل الموتى بالسدر، ولُفَّ في حلتين من حلل اليمن قيمتهما ألف مثقال ذهب، وطرح عليه المسك حتى سترهُ، وحمل على أيدي الرجال عدة أيام، إعظاماً وإكراماً وإكباراً لتغييبه في التراب!

واحتبى«جلس» ابنه بفناء الكعبة لما غيب عبدالمطلب، واحتبى ابن جدعان التيمي من ناحية، والوليد بن ربيعة المخزومي، فادعى كل واحد الرئاسة».

ص: 150

2- استسقى به جده عبدالمطلب فسقاهم الله تعالى

قال اليعقوبي: 2/12: «كان أصحاب الكتاب لايزالون يقولون لعبدالمطلب في رسول الله منذ ولد، فيعظم بذلك ابتهاج عبدالمطلب، فقال: أما والله لئن نَفَستني قريش الماء، يعني ماءً سقاه الله من زمزم، وذي الهرم «بئر» لتنفسني غداً الشرف العظيم، والبناء الكريم، والعز الباقي، والسناء العالي، إلى آخر الدهر ويوم الحشر! وتوالت على قريش سنون مجدبة حتى ذهب الزرع وقحل الضرع ففزعوا وقالوا: قد سقانا الله بك مرة بعد أخرى، فادع الله أن يسقينا، وسمعوا صوتاً ينادي من بعض جبال مكة: معشر قريش إن النبي الأمي منكم، وهذا أوان تَوَكُّفه، ألا فانظروا منكم رجلاً عظاماً جساماً له سنٌّ يدعو إليه وشرفٌ يعظم عليه، فليخرج هو وولده ليمسوا من الماء ويلتمسوا من الطيب ويستلموا الركن، وليدع الرجل وليؤمِّن القوم، فخصبتم ما شئتم إذن وغُثتم!

فلم يبق أحد بمكة إلا قال: هذا شيبة الحمد، هذا شيبة الحمد! فخرج عبدالمطلب ومعه رسول الله وهو يومئذ مشدود الإزار، فقال عبدالمطلب: اللهم سادَّ الخَلة، وكاشف الكُربة، أنت عالمٌ غير مُعلم، مسؤولٌ غير مُبَخَّل، وهؤلاء عُبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك، يشكون إليك سنيهم التي أقحلت الضرع، وأذهبت الزرع، فاسمعنَّ اللهم، وأمطرنَّ غيثاً مَريعاً مغدقاً. فما راموا حتى انفجرت السماء بمائها، وكظ الوادي بثجه»، وفي ذلك يقول بعض قريش:

بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا *** وقد فقدنا الكرى واجلوَّذَ المطر

مناً من الله بالميمون طائرُهُ *** وخيرِ من بُشرت يوماً به مضر

مبارك الأمر يستسقى الغمام به *** ما في الأنام له عدلٌ ولا خَطَر

وقد اشتهرت رواية رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم، وفيها: «قام فاعتضد ابن ابنه محمداً فرفعه على عاتقه، وهو يومئذ غلام قد أيفع أو كرب، ثم قال... فورب الكعبة ما راموا حتى انفجرت السماء

ص: 151

بمائها... فسمعت شِيخان قريش وجلتها: عبدالله بن جدعان، وحرب بن أمية، وهشام بن المغيرة يقولون لعبدالمطلب: هنيئاً لك سيد البطحاء»! الدعاء للطبراني/606، معجمه الكبير: 24/260، مجمع الزوائد: 2/214، شرح النهج: 7/271 وغيرها.

ومعنى: قد أيفع أو كرب: أنه كان صبياً يافعاً قارب البلوغ، فكان يبدو كبير السن للناظر، وإن كان سنه أصغر من ذلك (صلی الله علیه و آله) .

وكان جده يعتمد عليه في المهمات!ففي الكافي: 1/447 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان عبدالمطلب أرسل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى رعاته في إبل قد ندَّت له ليجمعها فأبطأ عليه، فأخذ بحلقة باب الكعبة وجعل يقول: يا رب أتهلك آلك إن تفعل فأمرٌ ما بدا لك! فجاء رسول الله بالإبل، وقد وجه عبدالمطلب في كل طريق وفي كل شعب في طلبه.. ولما رأى رسول الله أخذه فقبله وقال: يا بني لاوجهتك بعد هذا في شئ، فإني أخاف أن تُغتال فتقتل».

وقال اليعقوبي: 2/10: «رجع من بني سعد ابن أربع سنين أو خمس وهو في خلق ابن عشر وقوته».

3- عاش صباه وشبابه في بيت عمه الحنون أبي طالب (علیه السلام)

«توفي عبدالمطلب في شهر ربيع الأول وللنبي (صلی الله علیه و آله) ثماني سنين من عمره، فكفله أبوطالب أحسن كفالة». كنز الفوائد/72.

«فكان خير كافل، وكان أبوطالب سيداً شريفاً مطاعاً مهيباً..وخرج به إلى بُصْرَى من أرض الشام وهو ابن تسع سنين، وقال: والله لا أكلك إلى غيري!

وربته فاطمة بنت أسد بن هاشم امرأة أبي طالب وأم أولاده جميعاً، يروى عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما توفيت وكانت مسلمة فاضلة أنه قال: اليوم ماتت أمي! وكفنها بقميصه ونزل في قبرها واضطجع في لحدها، فقيل له: يا رسول الله لقد اشتد جزعك على فاطمة! قال: إنها كانت أمي، إنْ كانت لتُجيع صبيانها وتشبعني، وتشعثهم وتدهنني، وكانت أمي». تاريخ اليعقوبي: 2/13.

وفي أمالي الصدوق/390، عن ابن عباس: «قال: يا فاطمة أنا محمد سيد ولد آدم ولا

ص: 152

فخر، فإن أتاك منكر ونكير فسألاك: من ربك؟فقولي: الله ربي ومحمد نبيي، والإسلام ديني، والقرآن كتابي، وابني إمامي ووليي. ثم قال: اللهم ثبت فاطمة بالقول الثابت. ورويَ أنه (صلی الله علیه و آله) قال: يا علي أدخل، يا حسن أدخل، فدخلا القبر، فلما فرغ مما احتاج إليه قال له: يا علي أخرج، يا حسن أخرج فخرجا، ثم زحف النبي (صلی الله علیه و آله) حتى صار عند رأسها، ثم قال: يا فاطمة أنا محمد سيد ولد آدم ولا فخر، فإن أتاك منكر ونكير فسألاك: من ربك؟فقولي: الله ربي ومحمد نبيي، والإسلام ديني، والقرآن كتابي، وابني إمامي ووليي».

أقول: توفيت فاطمة بنت أسد3في شوال في السنة الرابعة أو الخامسة، فدعا النبي (صلی الله علیه و آله) سبطه الحسن وعمره نحو سنتين، لينزل في قبرها إيذاناً بمكانته، ولعله إشارة إلى أن هذه بقعته (علیه السلام) . مستدرك سفينة البحار: 5/207و 8/256.

وفي الحدائق الناضرة: 22/634 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كانت أول امرأة هاجرت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من مكة إلى المدينة على قدميها»!

وروى الحاكم: 3/108: «لما ماتت فاطمة بنت أسد كفنها رسول الله (صلی الله علیه و آله) في قميصه وصلى عليها وكبر عليها سبعين تكبيرة، ونزل في قبرها فجعل يومي في نواحي القبر كأنه يوسعه ويسوي عليها، وخرج من قبرها وعيناه تذرفان وحثى في قبرها. فلما ذهب قال له عمر بن الخطاب: يا رسول الله رأيتك فعلت على هذه المرأة شيئاً لم تفعله على أحد! فقال: يا عمر إن هذه المرأة كانت أمي التي ولدتني! إن أباطالب كان يصنع الصنيع وتكون له المأدبة، وكان يجمعنا على طعامه، فكانت هذه المرأة تفضل منه كله نصيبنا فأعود فيه. وإن جبريل أخبرني عن ربي عزوجل أنها من أهل الجنة، وأخبرني جبريل أن الله تعالى أمر سبعين ألفاً من الملائكة يصلون عليها»!

وعقد في مجمع الزوائد: 9/256 بابا: مناقب فاطمة بنت أسد رضيالله عنها.

ص: 153

4- واستسقى به عمه أبوطالب فسقاهم الله تعالى

اشتهر قول أبي طالب (رحمة الله) في مدح النبي (صلی الله علیه و آله) في قصيدته اللامية العصماء:

وأبيضُ يُستسقى الغَمامُ بوجهه *** ثمالُ اليتامى عصمة للأرامل

ورووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) طلب أن يُنشدوه القصيدة،كما في بدائع الصنائع: 1/283، البخاري: 2/15، أحمد: 2/93 وأمالي المفيد/301، قال: «جاء أعرابي إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: والله يا رسول الله لقد أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا غنم يغط، ثم أنشأ يقول:

أتيناك يا خير البرية كلها *** لترحمنا مما لقينا من الأزْلِ

أتيناك والعذراءُ يُدمى لُبانها *** وقد شُغلت أم الصبي عن الطفل

وألقى بكفيه الفتيُّ استكانةً *** من الجوع ضعفاً ما يُمِرُّ وما يُحلي

ولا شئ مما يأكل الناس عندنا *** سوى الحنظل العاميِّ والعلهز الفَسْل

وليس لنا إلا إليك فرارن *** وأين فرار الناس إلا إلى الرسل

فقال رسول الله لأصحابه: إن هذا الأعرابي يشكو قلة المطر وقحطاً شديداً!

ثم قام يجر رداءه حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وكان مما حمد ربه أن قال: الحمد لله الذي علا في السماء فكان عالياً، و في الأرض قريباً دانياً، أقرب إلينا من حبل الوريد. ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، مريئاً مريعاً، غدقاً طبقاً، عاجلاً غير رائث، نافعاً غير ضائر، تملأ به الضرع، وتنبت به الزرع، وتحيي به الأرض بعد موتها. فما رد يديه إلى نحره حتى أحدق السحاب بالمدينة كالإكليل والتفت السماء بأردافها، وجاء أهل البطاح يضجون يا رسول الله: الغرق الغرق، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): اللهم حوالينا ولا علينا، فانجاب السحاب عن السماء، فضحك رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: لله در أبي طالب، لو كان حياً لقرَّت عيناه، من ينشدنا قوله؟ فقام عمر فقال: عسى أردت يا رسول الله:

وما حملت من ناقة فوق رحلها *** أبرُّ وأوفى ذمةً من محمد

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ليس هذا من قول أبي طالب، بل من قول حسان بن ثابت، فقام علي بن أبي طالب فقال: كأنك أردت يا رسول الله قوله:

ص: 154

وأبيضُ يُستسقى الغمامُ بوجهه *** ربيعُ اليتامى عصمةٌ للأراملِ

يلوذُ به الهُلاَّكُ من آل هاشمٍ *** فهم عنده في نعمةٍ وفواضل

كذبتم وبيت الله نُبزي محمداً *** ولما نطاعنْ دونه ونقاتل

ونُسلمه حتى نُصَرَّع حوله *** ونَذهل عن أبنائنا والحلائل

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أجل. فقام رجل من بني كنانة فقال:

لك الحمد والحمد ممن شكرْ *** سقينا بوجه النبي المطر

دعا الله خالقه دعوةً *** وأشخص منه إليه البصر

ولم يك إلا كقلب الرداء *** وأسرع حتى أتانا المطر

دفاق العزائل جم البعاق *** أغاث به الله عَلْيَا مُضر

فكان كما قاله عمه *** أبو طالب ذا رواء غزر

به الله يسقي صيوبَ الغمام *** فهذا العيان وذاك الخبر

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): بوأك الله يا كناني بكل بيت قلته بيتاً في الجنة».

وستأتي لامية أبي طالب، وقول ابن كثير إنها أبلغ من المعلقات السبع!

وقال ابن حجر في فتح الباري: 2/412: «قال السهيلي: فإن قيل: كيف قال أبوطالب يستسقى الغمام بوجهه، ولم يره قط استسقى، إنما كان ذلك منه بعد الهجرة؟ وأجاب بما حاصله: أن أباطالب أشار إلى ما وقع في زمن عبدالمطلب حيث استسقى لقريش والنبي (صلی الله علیه و آله) معه غلام...وهذا البيت من أبيات في قصيدة لأبي طالب ذكرها ابن إسحاق في السيرة بطولها، وهي أكثر من ثمانين بيتاً، قالها لما تمالأت قريش على النبي، ونَفَّروا عنه من يريد الإسلام».

وفي خزانة الأدب: 2/61: «قال السهيلي في الروض الأنف: إن أباطالب قد شاهد من ذلك في حياة عبدالمطلب، ما دله على ما قال».

وقول السهيلي والبغدادي صحيح، فقد أجدبت قريش فشكت إلى عبدالمطلب فاستسقى بالنبي (صلی الله علیه و آله)، ثم أجدبت فشكت إلى أبي طالب فاستسقى بالنبي (صلی الله علیه و آله)،

ص: 155

وإنما حذفوه من السيرة حسداً لأبي طالب (رحمة الله) وأولاده!

وقال عنها في المناقب: 1/119: «والسبب في ذلك أنه كان قحط في زمن أبي طالب فقالت قريش: إعتمدوا اللات والعزى، وقال آخرون إعتمدوا مناة الثالثة الأخرى، فقال ورقة بن نوفل: أنى تؤفكون وفيكم بقية إبراهيم وسلالة إسماعيل أبوطالب فاستسقوه، فخرج أبوطالب وحوله أغيلمة من بني عبدالمطلب، وسطهم غلام كأنه شمس دِجَنَّة «مشرقة» تجلت عنها غمامة، فأسند ظهره إلى الكعبة ولاذ بإصبعه، وبصبصت الأغيلمة حوله، فأقبل السحاب في الحال. فأنشأ أبوطالب اللامية»!

وروى آخرون هذه المعجزة بتفصيل، كفخار بن معد في كتابه: الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب/311، والصالحي في سبل الهدى: 2/137، والذهبي في تاريخه: 1/52، بسند صحيح عندهم، عن أبان بن تغلب، عن جلهمة بن عرفطة قال:

«إني لبالقاع من نِمْرة، إذ أقبلت عيرٌ من أعلى نجد، فلما حاذت الكعبة إذا غلام قد رمى بنفسه عن عجز بعير، فجاء حتى تعلق بأستار الكعبة، ثم نادى يا رب البنية أجرني! وإذا شيخ وسيم قسيم عليه بهاء الملك ووقار الحكماء، فقال: ما شأنك يا غلام فأنا من آل الله وأجير من استجار به؟ قال: إن أبي مات وأنا صغير وإن هذا استعبدني وقد كنت أسمع أن لله بيتاً يمنع من الظلم، فلما رأيته استجرت به. فقال له القرشي: قد أجرتك يا غلام قال: وحبس الله يد الجندعي إلى عنقه. قال جلهمة: فحدثت بهذا الحديث عمرو بن خارجة وكان قِعْدَد الحي، فقال: إن لهذا الشيخ ابناً يعني أباطالب. قال: فهويت رحلي نحو تهامة أكسع بها الحدود وأعلوا بها الكدان حتى انتهيت إلى المسجد الحرام، وإذا قريش عزين، قد ارتفعت لهم ضوضاء يستسقون فقائل منهم يقول: اعتمدوا اللات والعزى! وقائل يقول: اعتمدوا مناة الثالثة الأخرى. وقال شيخ وسيم قسيم حسن الوجه جيد الرأي: أنى تؤفكون وفيكم باقية إبراهيم وسلالة إسماعيل؟ قالوا له: كأنك عنيت أباطالب! قال: إيهاً. فقاموا بأجمعهم وقمت معهم فدققنا عليه بابه فخرج إلينا رجل حسن الوجه مصفر، عليه إزار قد اتشح به، فثاروا إليه فقالوا: يا أباطالب قحط الوادي وأجدب العباد، فهلم فاستسق، فقال: رويدكم

ص: 156

زوال الشمس وهبوب الريح، فلما زاغت الشمس أو كادت، خرج أبوطالب معه غلام كأنه دِجَنٌّ «سماءٌ لحسنه» تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبوطالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بإصبعه الغلام، وبصبصت الأغيلمة حوله، وما في السماء قزعة فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا، وأغدق واغدودق، وانفجر له الوادي، وأخصب النادي والبادي! وفي ذلك يقول أبوطالب:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ربيع اليتامى عصمة للأرامل

تطيف به الهلاك من آل هاشم *** فهم عنده في نعمة وفواضل

وميزان عدل لا يخيس شعيرة *** ووزان صدق وزنه غير عائل

أقول: كفى بهذا الحديث وهذه القصيدة دليلاً على إيمان أبي طالب (علیه السلام) بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله) من صغره! ولكن الذهبي وأمثاله من أتباع القرشيين والأمويين أشربوا في قلوبهم الإعراض عن عترة نبيهم (صلی الله علیه و آله)، بل كرههم»!

5- حديث بَحِيَرا الراهب مع النبي (صلی الله علیه و آله) وعمه في الشام

قال علي بن يوسف الحلي (رحمة الله) في العدد القوية/118: «وخرج مع عمه أبي طالب في تجارة إلى الشام وله تسع سنين، وقيل اثنتا عشرة سنة». وفي الخرائج: 1/71 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «فلما انتهى به إلى بصرى وفيها راهب لم يكن يكلم أهل مكة إذا مروا به، ورأى علامة رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الركب، رأى غمامة تظله في مسيره، ونزل تحت شجرة قريبة من صومعته فتثنت أغصان الشجرة عليه والغمامة على رأسه بحالها، فصنع لهم طعاماً فاجتمعوا عليه وتخلف محمد (صلی الله علیه و آله)، فلما نظر بحيرا إليهم ولم ير الصفة التي يعرف قال: فهل تخلف منكم أحد؟ قالوا: لا واللات والعزى إلا صبي، فاستحضره فلما لحظ إليه نظر إلى أشياء من جسده قد كان يعرفها من صفته فلما تفرقوا قال: ياغلام أتخبرني عن أشياء أسألك عنها؟ قال: سل. قال: أنشدك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه! وإنما أراد أن يعرف لأنه سمعهم يحلفون بهما، فذكروا أن

ص: 157

النبي (صلی الله علیه و آله) قال له: لا تسألني باللات والعزى، فإني والله لم أبغض بغضهما شيئاً قط!

قال: فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه؟ قال: فجعل يسأله عن حاله في نومه وهيئته وأموره، فجعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يخبره، فكان يجدها موافقة لما عنده.

فقال له: إكشف عن ظهرك فكشف عن ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على الموضع الذي يجده عنده، فأخذه الإفكل وهو الرعدة، واهتز الديراني فقال: من أبو هذا الغلام؟ قال أبوطالب: هو ابني. قال: لا والله لا يكون أبوه حياً. قال أبوطالب: إنه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وهو ابن شهرين. قال: صدقت. قال: فارجع بابن أخيك إلى بلادك واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأته وعرفوا منه الذي عرفت ليبغينه شراً! فخرج أبوطالب فرده إلى مكة».

وفي رواية كمال الدين/187: «لما بلغَ رسول الله (صلی الله علیه و آله)، أراد أبوطالب أن يخرج إلى الشام في عير قريش، فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتشبث بالزمام وقال: يا عم على من تخلفني لا على أمٍّ ولا على أب؟! وقد كانت أمه توفيت فرقَّ له أبوطالب ورحمه وأخرجه معه...فلما نظر إليه بحيرى قال: من هذا الغلام؟ قالوا: ابن هذا وأشاروا إلى أبي طالب.. فقال بحيرى: رُدَّ هذا الغلام إلى بلاده، فإنه إن علمت به اليهود ما أعلم منه قتلوه! فإن لهذا شأناً من الشأن، هذا نبي هذه الأمة، هذا نبي السيف».

وفي قرب الإسناد/213، من حديث للإمام الكاظم (علیه السلام) مع حاخامات اليهود: «قالوا: إنا نجد في التوراة أن الله تبارك وتعالى آتى إبراهيم وولده الكتاب والحكم والنبوة وجعل لهم الملك والإمامة، وهكذا وجدنا ذرية الأنبياء لا تتعداهم النبوة والخلافة والوصية، فما بالكم قد تعداكم ذلك وثبت في غيركم، ونلقاكم مستضعفين مقهورين لا تُرقب فيكم ذمة نبيكم؟! فدمعت عينا أبي عبدالله (علیه السلام) ثم قال: نعم لم تزل أمناء الله مضطهدة مقهورة مقتولة بغير حق، والظلمة غالبة، وقليل من عباد الله الشكور! قالوا: صدقت، فما أعطي نبيكم من الآيات اللاتي نفت الشك عن قلوب من أرسل إليهم؟ قلت: آيات كثيرة أعدها إن شاء الله...

ومن ذلك: أنه توجه إلى الشام قبل مبعثه مع نفر من قريش، فلما كان بحيال بحيراء

ص: 158

الراهب نزلوا بفناء ديره، وكان عالماً بالكتب وقد كان قرأ في التوراة مرور النبي (صلی الله علیه و آله) به وعرف أوان ذلك، فأمر فدعى إلى طعامه، فأقبل يطلب الصفة في القوم فلم يجدها، فقال: هل بقي في رحالكم أحد؟ فقالوا: غلامٌ يتيم. فقام بحيراء الراهب فاطَّلع فإذا هو برسول الله (صلی الله علیه و آله) نائم وقد أظلته سحابة! فقال للقوم: أدعوا هذا اليتيم، ففعلوا وبحيراء مشرف عليه، وهو يسير والسحابة قد أظلته فأخبر القوم بشأنه، وأنه سيبعث فيهم رسولاً، وما يكون من حاله وأمره! فكان القوم بعد ذلك يهابونه ويجلونه، فلما قدموا أخبروا قريشاً بذلك، وكان عند خديجة بنت خويلد فرغبت في تزويجه وهي سيدة نساء قريش».

وفي كمال الدين/182: «لما فارقه بحيرى بكى بكاء شديداً وأخذ يقول: يا ابن آمنة كأني بك وقد رمتك العرب بوترها، وقد قطعك الأقارب! ولو علموا لكنت لهم بمنزلة الأولاد، ثم التفت إليَّ وقال: أما أنت ياعم فارع فيه قرابتك الموصولة..».

وفي العدد القوية/132، أن بحيرا قال للنبي (صلی الله علیه و آله): «يا من بذكره تعمر المساجد،كأني بك قد قدمت الأجناد والخيل الجياد، وتبعك العرب والعجم طوعاً وكرهاً، وكأني باللات والعزى قد كسرتهما، وقد صار البيت العتيق لايملكه غيرك، تضع مفاتيحه حيث تريد، كم من بطل من قريش والعرب تصرعه، معك مفاتيح الجنان والنيران، ومعك الذبح الأكبر وهلاك الأصنام! أنت الذي لا تقوم الساعة حتى يدخل الملوك كلها في دينك صاغرة قمئة! فلم يزل يقبل رجليه مرة ويديه مرة ويقول: لئن أدركت زمانك لأضربن بين يديك بالسيف ضرب الزند بالزند. أنت سيد ولد آدم وسيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين. والله لقد بكت له البيع والأصنام والشياطين، فهي باكية إلى يوم القيامة! وأنت دعوة إبراهيم وبشرى عيسى، أنت المقدس المطهر من أنجاس الجاهلية»!

أقول: روى ابن هشام قصة بحيرا: 1/116 وحذف منها ما يتعلق بإيمان أبي طالب (علیه السلام)!

وفي رواية ابن إسحاق: 2/55: «فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن، فأسرعْ به إلى

ص: 159

بلاده. فخرج به عمه أبوطالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام. فزعموا فيما يتحدث الناس أن زبيراً وتماماً ودريساً، وهم نفر من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب أشياء فأرادوه، فردهم عنه بحيرا، وذكرهم الله عزوجل وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا لم يخلصوا إليه، حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا! فقال أبوطالب في ذلك من الشعر يذكر مسيره برسول الله (صلی الله علیه و آله) وما أرادوا منه أولئك النفر، وما قال بحيرا:

إن ابن آمنة النبي محمداً *** عندي بمثل منازل الأولاد

لما تعلق بالزمام رحمته *** والعيس قد قلَّصن بالأزواد

فارفضَّ من عَيْنَيَّ دمعٌ ذارفٌ *** مثلُ الجمان مفرَّقُ الأفراد

راعيت فيه قرابةً موصولة *** وحفظت فيه وصية الأجداد

وأمرته بالسير بين عمومةٍ *** بيض الوجوه مصالت الأنجاد

ساروا لأبعد طيةٍ معلومة *** فلقد تباعدَ طيةُ المرتاد

حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا *** لاقوا على شرفٍ من المرصاد

حبراً فأخبرهم حديثاً صادقاً *** عنه وردَّ معاشر الحساد

قوماً يهوداً قد رأوا ما قد رأى *** ظِل الغمام وعزَّ ذي الأكباد

ساروا لقتل محمد فنهاهم *** عنه وأجهد أحسن الإجهاد

فثنى زبيرٌ بَحِيراً فانثنى *** في القوم بعد تجادل وبعاد

ونهى دريساً فانتهى عن قوله *** حبر يوافق أمره برشاد

وقال أبوطالب أيضاً:

ألم ترني من بعد همٍّ هممته *** كأن لا يراني راجعاً لمعاد

بأحمد لما أن شددت مطيتي *** برحلي وقد ودعته بسلام

بكى حَزَناً والعيس قد فصلت بنا *** وأخذتُ بالكفين فضلَ زمام

ص: 160

ذكرتُ أباه ثم رقرقتُ عبرة *** تجود من العينين ذات سجام

فقلت تروح راشداً في عمومة *** مواسين في البأساء غير لئام

فرحنا مع العير التي راح أهلها *** شآمي الهوى والأصل غير شآمي

فلما هبطنا أرض بصرى تشوفوا *** لنا فوق دور ينظرون بسام

فجاد بحيرا عند ذلك حاشداً *** لنا بشراب طيب وطعام

فقال اجمعوا أصحابكم لطعامنا *** فقلنا جمعنا القوم غير غلام

يتيم، فقال ادعوه إن طعامنا *** كثير عليه اليوم غير حرام

فلما رآه مقبلاً نحو داره *** يوقيه حر الشمس ظل غمام

حنا رأسه شبه السجود وضمه *** إلى نحره والصدر أي ضمام

وأقبل ركب يطلبون الذي رأى *** بحيرا من الأعلام وسط خيام

فثار إليهم خشية لعرامهم *** وكانوا ذوي دهى معا وعرام

دريساً وتمَّاماً وقد كان فيهم *** زبيراً وكل القوم غير نيام

فجاءوا وقد هموا بقتل محمد *** فردهم عنه بحسن خصام

بتأويله التوراة حتى تفرقوا *** وقال لهم: ما أنتم بطغام

فذلك من أعلامه وبيانه *** وليس نهار واضحٌ كظلام

وقال أبوطالب أيضاً:

بكى طرباً لما رآنا محمد *** كأن لا يراني راجعاً لمعاد

فبتُّ يجافيني تهللُ دمعه *** وقربته من مضجعي ووسادي

فقلت له قرب قعودك وارتحل *** ولا تخشى مني جفوةً ببلادي

وخل زمام العيسى وارتحل بنا *** على عزمة من أمرنا ورشاد

ورح رائحاً في الراشدين مشيعاً *** لذي رحم في القوم غير معاد

فرحنا مع العير التي راح ركبها *** يؤمون من غوري أرض إباد

ص: 161

فما رجعوا حتى رأوا من محمد *** أحاديث تجلو غم كل فؤاد

وحتى رأوا حبار كل مدينة *** سجوداً له من عصبة وفراد

زبيراً وتماماً وقد كان شاهداً *** دريساً وهموا كلهم بفساد

فقال لهم قولاً بحيرا وأيقنوا *** له بعد تكذيب وطول بعاد

كما قال للرهط الذين تهودوا *** وجاهدهم في الله كل جهاد

فقال ولم یملك له النصح رده *** فإن له أرصاد كل مضاد

فإني أخاف الحاسدين وإنه *** أخو الكتب مكتوب بكل مداد»

وابن عساكر: 3/10، سبل الهدى: 2/142 ودلائل النبوة: 2/29 وغيرها.

6- شاعت نبوءة بحيرا عند العرب

قال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأنْجِيلِ.. «الأعراف: 157» وقال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الأنعام: 20.

وقال: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يدي مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..الصف: 6.

وقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأنْجِيلِ كَزَرْعٍ أخرج شَطْأَهُ... «آخر سورة الفتح». وغيرها من الآيات.

وقد شاعت وذاعت قصص علماء النصارى واليهود في مكة والجزيرة، واتفقت الرواية على أن بحيراء الراهب النصراني واسمه نسطور «تاريخ دمشق: 3/10» قد آمن بالنبي (صلی الله علیه و آله) عندما رآه وكلمه وكان في الثانية عشرة من عمره أو دونها، وأن أحبار اليهود أرادوا قتله (صلی الله علیه و آله) فنهاهم بحيراء كما ذكر أبوطالب في شعره، وأقنعهم بأنهم إن أرادوا فسيمنعهم الله تعالى لأنه قضى أن يكون النبي الخاتم (صلی الله علیه و آله) .

وفي الخرائج: 1/71 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «فنشأ رسول الله في حجر أبي طالب، فبينا هو غلام يجئ بين الصفا والمروة إذ نظر إليه رجل من أهل الكتاب فقال: ما اسمك؟ قال: إسمي محمد.

ص: 162

قال: ابن من؟ قال: ابن عبدالله. قال: ابن من؟ قال: ابن عبدالمطلب. قال: فما اسم هذه وأشار إلى السماء؟ قال السماء. قال: فما اسم هذه وأشار إلى الأرض؟ قال: الأرض. قال فمن ربهما؟ قال: الله. قال: فهل لهما رب غير الله؟ قال: لا».

أقول: إحفظ عندك أن علماء اليهود والنصارى كانوا يعرفون النبي (صلی الله علیه و آله)، كما نصت الآيات وتواترت الأحاديث والأخبار، وأنهم بشروا به قبل ولادته، وعرفوا يوم ولادته من علامات النجوم، ثم عرفوه بصفته لما رأوه، وأخبروا عمه أباطالب وغيره، وشاع ذلك وذاع في مكة وبين العرب!

يضاف إلى ذلك ما دل على أنه (صلی الله علیه و آله) كان نبياً يرافقه ملك من طفولته، وأن جده عبدالمطلب وعمه أباطالب (علیهما السلام) كان يعرفان أن سيبعث نبياً، وسيكذبه قومه ويحاولون قتله فيهاجر، ويحاربونه فينصره الله ويخضع له العرب.

إحفظ هذه الحقائق، لأنك سترى أن رواة الحكومات يظهرونها أحياناً، ويطمسونها أحياناً! فقد طمسوها عند حديث عائشة في كيفية بدء الوحي! وطمسوها لينفواوجود صحابة قرشيين منافقين، بحجة أنه لم يكن للنبي (صلی الله علیه و آله) دولة تجذب أحداً ليسلم طمعاً، مع أن خبر نبوته (صلی الله علیه و آله) كان يستهوي مغمورين في قبائلهم لاتباعه طمعاً بموقع في دولته! فهو ابن عبدالمطلب زعيم العرب، وقد شهد له علماء اليهود والنصارى بأنه سيحكم العرب، وهو يعد الناس بأنه سيملك كنوز كسرى وقيصر! فمن الطبيعي أن يطمع عديدون في موقع في دولته ليخرج من فقره ومهانته!

وهؤلاء الأشخاص أخطر على الإسلام من المنافقين العاديين، لأنهم أصحاب طموح سياسي، ولذلك سماهم الله تعالى «مرضى القلوب» وذكرهم في أوائل سور القرآن فقال في المدثر: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً.. وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً.. «المدثر 31». ثم تحدث عنهم في اثنتي عشرة آية! ووصفهم بأنهم وقحون، يفرون في الحرب، ويحملون النبي (صلی الله علیه و آله) مسؤولية الهزيمة،لأنه لم يشركهم في القيادة!

ص: 163

قال عنهم في آيات أحُد: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئٍْ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَالايُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئْ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا! آل عمران: 154.

وكاد القرآن أن يسميهم لما وصفهم بأنهم كانوا في مكة مستعجلين ليقاتل النبي قريشاً ببني هاشم الشجعان ليقطفوا هم الثمار، لكنهم لما كتب القتال في بدر نكصوا وخوفوا النبي (صلی الله علیه و آله) من قريش! فذكَّرهم الله بنفاقهم في مكة وقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً.. النساء: 77.

قال الطبري: 5/233: «نزلت في قوم من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد.. فلما فرض عليهم القتال شقَّ عليهم»!

وفي برهان الزركشي: 1/422: «فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا! هذه الإشارة للفريق الذين نافقوا، من القوم الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ».

وقال ابن حجر: «نزلت في عبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص وهما من بني زهرة، وقدامة بن مظعون، والمقداد بن الأسود، وذلك أنهم استأذنوا في قتال كفار مكة لما يلقون منهم من الأذى فقال: لم أؤمر بالقتال، فلما هاجر إلى المدينة وأذن بالقتال، كره بعضهم ذلك»! أسباب النزول: 2/918.والحاكم: 2/66، وصححه بشرط بخاري.، وفسرها النسائي: 6/3 والبيهقي: 9/11، بابن عوف وأصحابه.

وكذبوا على المقداد (رحمة الله) فجعلوه منهم، مع أنهم رووا قوله للنبي (صلی الله علیه و آله): «يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن إمض ونحن معك! فكأنه سُرِّيَ عن رسول الله». البخاري: 5/187.

ومعناه أن النبي (صلی الله علیه و آله) غضب من أهل آية: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، وليس من المقداد (رحمة الله)!

قال الرازي: 10/184: «والأولى حمل الآية على المنافقين،لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، ولا شك أن من هذا كلام المنافقين... فالمعطوف في المنافقين وجب أن يكون المعطوف عليهم فيهم أيضاً».

ص: 164

الفصل الثامن: زواجه (صلی الله علیه و آله) بخديجة (علیها السلام)

سبب زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بخديجة (علیها السلام)

1- سمعت خديجة بكراماته (صلی الله علیه و آله) فخطبته

ففي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /155: «كان يسافر إلى الشام مضارباً لخديجة بنت خويلد، وكان من مكة إلى بيت المقدس مسيرة شهر، فكانوا في حَمَارَّة القيظ يصيبهم حرتلك البوادي، وربما عصفت عليهم فيها الرياح، وسفت عليهم الرمال والتراب، وكان الله تعالى في تلك الأحوال يبعث لرسول الله (صلی الله علیه و آله) غمامة تظله فوق رأسه، تقف بوقوفه وتزول بزواله، إن تقدم تقدمت وإن تأخر تأخرت، وإن تيامن تيامنت وإن تياسر تياسرت، فكانت تكفُّ عنه حر الشمس من فوقه، وكانت تلك الرياح المثيرة لتلك الرمال والتراب، تُسفيها في وجوه قريش ووجوه رواحلهم، حتى إذا دنت من محمد (صلی الله علیه و آله) هدأت وسكنت، ولم تحمل شيئاً من رمل ولا تراب، وهبَّت عليه ريحٌ باردة لينة، حتى كانت قوافل قريش يقول قائلها: جوار محمد أفضل من خيمة! فكانوا يلوذون به ويتقربون إليه، فكان الرَّوْح يصيبهم بقربه، وإن كانت الغمامة مقصورة عليه. وكان إذا اختلط بتلك القوافل غرباء، فإذا الغمامة تسير في موضع بعيد منهم».

وفي شرح الأخبار: 1/183: «ولما انتهى إليها عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما قد فشا واستفاض عنه من الخبر، أرسلت إليه في أن تعطيه مالاً يتجر لها به إلى الشام، ففعل..وربح في تلك التجارة ما لم

ص: 165

يربح أحد مثله، فلما قدم بذلك على خديجة قالت لغلامها ميسرة: ما أعظم أمانة محمد وبركته، ما ربحت في تجارة قط كربحي فيما أبضعته معه. فقال لها ميسرة: وأعظم من ذلك ما سمعته فيه ورأيته منه! قالت: وما هو؟ فأخبرها بخبر الراهب وخبر الغمامة».

وفي سيرة ابن إسحاق: 2/59 وابن هشام: 1/121: «فلما أخبرها ميسرة عما أخبرها به بعثت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ..يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك مني وشرفك في قومك، وسطتك فيهم، وأمانتك عندهم، وحسن خلقك، وصدق حديثك».

وفي مسارِّ الشيعة للمفيد/49: «وفي اليوم العاشر منه «ربيع الأول» تزوج النبي (صلی الله علیه و آله) بخديجة بنت خويلد أم المؤمنين، لخمس وعشرين سنة من مولده».

2- خطب أبوطالب خديجة للنبي (صلی الله علیه و آله)

في الكافي: 5/374 والفقيه: 3/397 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما أراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يتزوج خديجة بنت خويلد، أقبل أبوطالب في أهل بيته ومعه نفر من قريش، حتى دخل على ورقة بن نوفل عم خديجة، فابتدأ أبوطالب بالكلام فقال: الحمد لرب هذا البيت، الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل، وأنزلنا حرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه. ثم إن ابن أخي هذا يعني رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ممن لايوزن برجل من قريش إلا رجح به، ولا يقاس به رجل إلا عظم عنه، ولا عِدل له في الخلق، وإن كان مقلاً في المال فإن المال رفدٌ جارٍ وظلٌّ زائل، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها، والمهر عليَّ في مالي، الذي سألتموه عاجله وآجله. وله ورب هذا البيت حظ عظيم ودين شائع ورأي كامل.

ثم سكت أبوطالب، وتكلم عمها وتلجلج وقَصُر عن جواب أبي طالب، وأدركه القطع والبهر! وكان رجلاً من القسيسين، فقالت خديجة مبتدئة: يا عماه إنك وإن كنت أولى بنفسي مني في الشهود، فلست أولى بي من نفسي، قد زوجتك يا محمد نفسي والمهر عليَّ في مالي، فأمر عمك فلينحر ناقة فَلْيُولِمْ بها وادخل على أهلك! قال

ص: 166

أبوطالب: إشهدوا عليها بقبولها محمداً، وضمانها المهر في مالها! فقال بعض قريش: يا عجباه، المهر على النساء للرجال!

فغضب أبوطالب غضباً شديداً وقام على قدميه، وكان ممن يهابه الرجال ويُكره غضبه، فقال: إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر، وإذا كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلا بالمهر الغالي! ونحرأبوطالب ناقة، ودخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأهله. وقال رجل من قريش يقال له عبدالله بن غنم:

هنيئاً مريئاً يا خديجة قد جرت *** لك الطير فيما كان منك بأسعد

تزوجته خير البرية كلها *** ومن ذا الذي في الناس مثل محمد

به بشر البران عيسى بن مريمٍ *** وموسى بن عمران فيا قرب موعد

أقرت به الكتاب قدماً بأنه *** رسول من البطحاء هاد ومهتد»

أقول: نص الحديث على أن الشاعر قرشي، لكن علماء الرجال ترجموا لعبدالله بن غنم الأشعري أو الأزدي، ويظهر أنه صحابي وقد قال شعره بعد الإسلام.

3- وهبت خديجة كل أموالها إلى النبي (صلی الله علیه و آله)

وذلك كما وهبت سارة كل أموالها لإبراهيم (علیهما السلام)،فقد فسر ابن عباس قوله تعالى: وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى: «فأغناك بمال خديجة، ثم زادك من فضله فجعل دعائك مستجاباً، حتى لودعوت على حجرأن يجعله الله لك ذهباً لنقل عينه إلى مرادك، وأتاك بالطعام حيث لا طعام، وأتاك بالماء حيث لاماء، وأغاثك بالملائكة حيث لامغيث، فأظفرك بهم على أعدائك».معاني الأخبار/53. وعمدة القاري: 19/299.

وفي البحار: 16/71: «يا معاشر العرب إن خديجة تشهدكم على أنها قد وهبت نفسها ومالها، وعبيدها، وخدمها، وجميع ما ملكت يمينها، والمواشي، والصداق، والهدايا، لمحمد (صلی الله علیه و آله)».

وفسرالإمام الرضا (علیه السلام) آية: وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى «العيون: 2/177»بأنه جعله مستجاب الدعوة، والآية مطلقة تشمل مال خديجة والغنائم التي أحلها الله له، وغيرها.

ص: 167

4- وصار بيت خديجة (علیها السلام) بيت النبي (صلی الله علیه و آله)

ويقع في الجهة المقابلة لشعب بني هاشم، وهو في سوق الليل معروفٌ بمولد فاطمة (علیها السلام)، وقد زرته في السبعينات ميلادية حتى هدمه الوهابية وأزالوه، في حملتهم على آثار النبي (صلی الله علیه و آله) وآثار الإسلام!

ولما كتبت قريش صحيفة مقاطعة بني هاشم ليسلموهم النبي (صلی الله علیه و آله) فيقتلوه اضطر النبي (صلی الله علیه و آله) أن يترك بيته ويدخل مع بني هاشم في شعب أبي طالب، وتحملت خديجة (علیها السلام) معه سنوات المحاصرة، فأرسل الله جبرئيل ليقرئها السلام ويسليها عن فقدان بيتها، ويبشرها بأن الله تعالى بني لها بيتاً في الجنة.

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يذكرها كل عمره ويمدحها، ولما فتح مكة نصب خيمته على قبرها، فكانت عائشة تحسدها وتغار منها: «قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة»! صحيح بخاري: 8/195.

وفي فتح الباري: 7/102: «عن هشام بن عروة: ما حسدت امرأة قط ما حسدت خديجة، حين بشرها النبي ببيت».

وهذا ينسجم مع طبيعة المرأة واهتمامها ببيتها، وحسدها لضرتها إذا كان بيتها أحسن، فكيف إذا بناه الله تعالى لخديجة (علیها السلام) وأرسل جبرئيل (علیه السلام) يبشرها به! فهو يستحق من عائشة أعلى درجات الحسد، كما قالت!

ولم تذكر عائشة هنا صفة بيت خديجة، لكنها بعد ذلك هونت من شأنه وقالت إنه بيت من قصب وسعف نخل! فنسب بعض الرواة وصفه بأنه بيت من قصب إلى النبي (صلی الله علیه و آله)! لكن بعضهم أبقاه على النص النبوي بأنه من لؤلؤة ولا صخب فيه ولا نصب. فقد قال الإمام الباقر (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لفاطمة (علیها السلام): إن جبرئيل (علیه السلام) عهد إليَّ أن بيت أمك خديجة في الجنة بين بيت مريم ابنة عمران وبين بيت آسية امرأة فرعون، من لؤلؤة جوفاء لاصخب فيه ولا نصب».شرح الأخبار:3/17.

وكذلك هي بيوت كبار الأولياء من ياقوت ومرجان، ففي نظم درر السمطين للحنفي/183، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 1/666 عن أبي سعيد الخدري أن

ص: 168

النبي (صلی الله علیه و آله): «مر في السماء السابعة، قال: فرأيت فيها لمريم ولأم موسى، ولآسية امرأة فرعون، ولخديجة بنت خويلد، قصوراً من الياقوت، ولفاطمة بنت محمد سبعين قصراً من مرجان أحمر، مكللةً باللؤلؤ».

وروى عددٌ من مصادرهم حديث بيت خديجة (علیها السلام) بدون قصب كما رويناه! ففي فضائل الصحابة للنسائي/75: «بشر رسول الله خديجة ببيت في الجنة لاصخب فيه ولا نصب». وسنن النسائي: 5/94، الجامع الصغير: 2/247

وتاريخ الذهبي: 1/238.

لكن عائشة جعلت بيت خديجة كوخاً من قصب! «بشر خديجة ببيت من الجنة من قصب، لاصخب فيه ولانصب»! صحيح بخاري: 2/203.

وبينت سبب القصب «فتح الباري: 1/27» فقالت: «ماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، فقال النبي: رأيت لخديجة بيتاً من قصب، لاصخب فيه ولا نصب».

وفي مسند أبي يعلى: 4/41 من حديث المعراج، أن النبي (صلی الله علیه و آله): «سئل عن خديجة لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن؟ فقال: أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب»!

وصحح في مجمع الزوائد: 9/416: «ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن»!

فبيت خديجة (علیها السلام) من قصب لأنها لم تصلِّ، وبيت عائشة من لؤلؤ لأنها صلَّت! لكن الصلاة يا أمنا عائشة فرضت في أول البعثة، وروى الجميع أن خديجة (علیها السلام) كانت تصلي مع النبي (صلی الله علیه و آله) إلى أن توفيت قبيل هجرته! فكيف قلت: لم تُصَلِّ!

إنها فضيحة حسد عائشة لخديجة (علیها السلام) على بيتها في الجنة، فجعلته من قصب، وأنكرت صلاة خديجة، وأخرت تشريع الصلاة إلى ما بعد موت خديجة!

وجاء المعذرون ومنهم البخاري «فتح الباري: 7/104» ليغطوا حسد عائشة، فجعلوا معنى بيت القصب: قضبان الذهب! لكن اللغة العربية تأبى ذلك، فالقصب نبات، ولم يرد وصفاً لقصور الجنة في أي حديث صحيح!

ص: 169

5- كان النبي (صلی الله علیه و آله) يمدح خديجة (علیها السلام)

وهدفه أن يعرِّف المسلمين قدرها، وكانت عائشة تعلن حسدها لها، فيغضب النبي (صلی الله علیه و آله) عليها! ففي السيرة الحلبية: 3/401: «قالت له وقد مدح خديجة: ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين، قد أبدلك الله خيراً منها! فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: والله ما أبدلني الله خيراً منها»!

وقال ابن إسحاق: 5/228: «أهدي لرسول الله (صلی الله علیه و آله) جزور أو لحم، فأخذ عظماً منها فتناوله بيده فقال له: إذهب به إلى فلانة»صديقة خديجة«فقالت له عائشة: لكأنه ليس في الأرض امرأة إلا خديجة! فقام رسول الله مغضباً فلبث ما شاء الله، ثم رجع فإذا أم رومان فقالت: يا رسول الله ما لك ولعائشة إنها حَدَث وأنت أحق من تجاوز عنها، فأخذ بشدق عائشة وقال: ألست القائلة: كأنما ليس على الأرض امرأة إلا خديجة!والله لقد آمنت بي إذ كفر قومك ورزقت مني الولد وحرمتموه»!

وفي العمدة/394، أنه (صلی الله علیه و آله) طرد عائشة! «فقال (صلی الله علیه و آله): قومي عني فقامت إلى ناحية من البيت». ولعلها تكلمت بعد قيامها فأخذ بشدقها! ولم تبين الرواية كيف أخذ بشدقها، هل سدَّه ليسكتها، أم ضغط عليه تأديباً لها!

وفي الخصال/405، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) منزله فإذا عائشة مقبلة على فاطمة تصايحها وهي تقول: والله يا بنت خديجة ما ترينَ إلا أن لأمك علينا فضلاً، وأي فضل كان لها علينا، ما هي إلا كبعضنا! فسمع مقالتها لفاطمة، فلما رأت فاطمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكت فقال: ما يبكيك يا بنت محمد؟ قالت: ذكرت أمي فتنقصتها فبكيت! فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم قال: مه يا حميراء فإن الله تبارك وتعالى بارك في الودود الولود، وإن خديجة رحمها الله ولدت مني طاهراً وهو عبدالله وهو المطهر، وولدت مني القاسم وفاطمة [وأم كلثوم ورقية وزينب] وأنت ممن أعقم الله رحمها، فلم تلدي شيئاً»!

أقول: وضعنا أسماء البنات الثلاث بين معقوفين، لأنه يوجد خلاف في أنهن بناته (صلی الله علیه و آله) أو ربائبه، وقوله (صلی الله علیه و آله): أعقم الله رحمها، يدل على أن الله تعالى حصر ذريته بفاطمة (علیها السلام) .لكن رغم توبيخ النبي (صلی الله علیه و آله) لعائشة ونهيها واصلت حسدها لخديجة! ولها

ص: 170

قصص في حساسيتها منها مع فاطمة (علیها السلام)، لكن سلوك فاطمة الرباني فرض على عائشة احترامها فكانت تقول: «ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة من فاطمة إلا أن يكون الذي ولدها». الإستيعاب: 4/1896، الزوائد: 9/201 وصححه. «كان بينهما شئ فقالت عائشة: يارسول الله سلها فإنها لاتكذب». أبو يعلى: 8/153.

6- عائشة متهمة ولا تُقبل شهادة المتَّهَم

فلا يجوز قبول روايات عائشة في خديجة (علیها السلام)، بعد اعترافها بحسدها المفرط لها، ولا قول حكيم بن حزام المتعصب لعائشة، قال: «كان عمر رسول الله يوم تزوج خديجة خمساً وعشرين سنة، وعمرها أربعون سنة. بينما قال ابن عباس: كان عمرها ثمانياً وعشرين سنة، رواهما ابن عساكر! وقال ابن جرير: كان ابن سبع وثلاثين سنة، وكذا نقل البيهقي عن الحاكم، وكان عمرها إذ ذاك خمساً وثلاثين، وقيل خمساً وعشرين سنة». سيرة ابن كثير: 1/265.

7- أحل الله لنبيه (صلی الله علیه و آله) من النساء ما شاء

لكنه لم يتزوج إلا لمصلحة الإسلام ولا تزوج على خديجة. ففي الكافي: 5/389 أن أبابكر الحضرمي سأل الإمام الباقر (علیه السلام): «عن قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ؟ كم أحل له من النساء؟قال: ما شاء من شئ. قلت: قوله عزوجل: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ؟ فقال: لاتحل الهبة إلا لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وأما لغير رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلا يصلح نكاح إلا بمهر. قلت: أرأيت قول الله عزوجل: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ؟ فقال: إنما عنى به لايحل لك النساء التي حرم الله في هذه الآية: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ.. إلى آخرها، ولو كان الأمر كما تقولون كان قد أحل لكم ما لم يحل له، لأن أحدكم يستبدل كلما أراد ولكن ليس الأمر كما يقولون. إن الله عزوجل أحل لنبيه (صلی الله علیه و آله) أن ينكح من النساء ما أراد إلا ما حرم عليه في هذه الآية».

ص: 171

ثم روى تسمية نساء النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: «عائشة، وحفصة، وأم حبيب بنت أبي سفيان بن حرب، وزينب بنت جحش، وسودة بنت زمعة، وميمونة بنت الحارث، وصفية بنت حي بن أخطب، وأم سلمة بنت أبي أمية، وجويرية بنت الحارث. وكانت عائشة من تيم، وحفصة من عدي، وأم سلمة من بني مخزوم، وسودة من بني أسد بن عبدالعزى، وزينب بنت جحش من بني أسد وعدادها من بني أمية، وأم حبيب بنت أبي سفيان من بني أمية، وميمونة بنت الحارث من بني هلال، وصفية بنت حي بن أخطب.

ومات (صلی الله علیه و آله) عن تسع نساء وكان له سواهن التي وهبت نفسها للنبي (صلی الله علیه و آله) وخديجة بنت خويلد أم ولده، وزينب بنت أبي الجون التي خدعت، والكندية».

8- اشتهر وفاء النبي (صلی الله علیه و آله) لخديجة (علیها السلام)

ونشرت ذلك عائشة وهي تتحدث عن غيرتها منها، قال ابن البطريق في العمدة/394: «عن أم رومان «أم عائشة» قالت: كان لرسول الله جارة قد أوصته خديجة أن يتعاهدها، فحضرعنده شئ من المأكل فأمر بإعطائها وقال: هذه أمرتني خديجة بأن أتعاهدها فقالت عائشة: وكنت أحسدها لكثرة ذكره لها».

وعندما أفاء الله على رسوله (صلی الله علیه و آله) أموال بني النضير ومنها فدك، أمره الله أن يفي لخديجة فيعطي فدكاً لابنتها فاطمة (علیها السلام) . ونزل قوله تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ.«إن الله يأمرك أن تؤتى ذا القربى حقه.قال: يا جبرئيل ومن قرباي، وما حقهم؟قال: أعط فاطمة حوائط فدك، واكتب لها كتاباً.وهي من ميراثها من أمها خديجة». قصص الأنبياء/345 والمناقب: 1/122.

وقد أجمع المسلمون على أن أموال بني النضير كانت خالصة للنبي (صلی الله علیه و آله)، وفيها نزل قوله تعالى: وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ. الكافي: 1/539، المعتبر: 2/633 والبخاري: 3/227 و 4/209.

ص: 172

9- وكانت خديجة أماً لعلي (علیه السلام)

فقد ربته وأحبته كما أحبه النبي (صلی الله علیه و آله) ووفت بذلك لفاطمة بنت أسد في تربيتها للنبي (صلی الله علیه و آله)، وقد أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) يوماً في مهمة فتأخر فتخوف عليه فذهبت خديجة تبحث عنه! «وافتقد علياً (علیه السلام) ذات يوم فلم يعلم مكانه حتى أمسى فاشتد غمه به، فرأت أثر الغم عليه خديجة رضوان الله عليها، فقالت: يا رسول الله ما هذا الغم الذي أراه عليك؟قال: غاب علي منذ اليوم فما أدري ما صُنِع به..

فخرجت خديجة في الليل تلتمس خبر علي، فوافقته فأعلمته باغتمام رسول الله (صلی الله علیه و آله) بغيبته، وألفته مقبلاً إليه، فسبقته تبشره فقام قائماً فحمد الله تعالى رافعاً يديه». شرح الأخبار: 2/205 وتفسير فرات/547.

وفي مناقب ابن سليمان: 1/304: «قالت خديجة: فمضيت فأخبرت رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإذا هو قائم يقول: اللهم فرج غمي بأخي علي، فإذا بعلي قد جاء فتعانقا».

10- عظموا أمر عائشة على باقي نساء النبي (صلی الله علیه و آله)

قال العلامة الحلي في منهاج الكرامة/75: «وعظموا أمر عائشة على باقي نسوانه، مع أنه (صلی الله علیه و آله) كان يكثر من ذكر خديجة بنت خويلد، وقالت له عائشة: إنك تكثر من ذكرها وقد أبدلك الله خيراً منها. وأذاعت سر رسول الله (صلی الله علیه و آله) . وقال لها النبي (صلی الله علیه و آله): إنك تقاتلين علياً وأنت ظالمة. ثم إنها خالفت أمر الله تعالى في قوله: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ، وخرجت في ملأ من الناس تقاتل علياً (علیه السلام) على غير ذنب، لأن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان وكانت هي كل وقت تأمر بقتله وتقول: أقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً! فلما بلغها قتله فرحت بذلك، ثم سألت: من تولى الخلافة؟ فقالوا: علي، فخرجت لقتاله على دم عثمان. فأي ذنب كان لعلي (علیه السلام) على ذلك؟ وكيف استجاز طلحة والزبير مطاوعتها على ذلك؟وبأي وجه يلقون رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره وأخرجها من منزلها وسافر بها كان أشد الناس عداوة»!

ص: 173

11- أنفق النبي (صلی الله علیه و آله) على المؤمنين من أموال خديجة (علیها السلام)

ففي أمالي الطوسي/463: «إن رسول الله قال: ما نفعني مال قط مثلما نفعني مال خديجة، وكان رسول الله يفك من مالها الغارم والعاني، ويحَمل الكَلَّ، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة، ويحمل من أراد منهم الهجرة.

وكانت قريش إذا رحلت عيرها في الرحلتين يعني رحلة الشتاء والصيف، كانت طائفة من العير لخديجة، وكانت أكثر قريش مالاً، وكان (صلی الله علیه و آله) ينفق منه ما شاء في حياتها، ثم ورثها هو وولدها بعد مماتها».

وروى البخاري: 5/80 قول عمر لأسماء بنت عميس: «سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله منكم! فغضبت وقالت: كلا والله كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسوله (صلی الله علیه و آله)! وأيم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ونحن كنا نُؤذى ونُخاف. قال لها (صلی الله علیه و آله): ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان».

12- كانت خديجة (علیها السلام) أجمل زوجات النبي (صلی الله علیه و آله)

وقد ورَّثت حسنها لابنتها وأحفادها،ففي المناقب: 3/170عن الإمام الحسن (علیه السلام) قال: «صوَّر الله عزوجل علي بن أبي طالب في ظهر أبي طالب على صورة محمد، فكان علي بن أبي طالب أشبه الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكان الحسين بن علي أشبه الناس بفاطمة (علیها السلام)، وكنت أنا أشبه الناس بخديجة الكبرى3».

13- بنات النبي (صلی الله علیه و آله) أم ربائبه؟

المشهور أن زينب وأم كلثوم بنات النبي (صلی الله علیه و آله) من خديجة (علیها السلام) ويوجد قول قوي بأنهن بنات أخت خديجة، وقد توفيت أمهن فربتهن خالتهن خديجة، فعُرفن ببنات محمد (صلی الله علیه و آله)! وأن خديجة لم تتزوج قبل النبي (صلی الله علیه و آله)، وأن عمرها عند زواجها كان بضعاً وعشرين، وكان عمرها لما ماتت خمسين سنة، حسب رواية البيهقي.

ص: 174

وقد تبنى هذا الرأي بعض كتاب السيرة القدماء والمعاصرين فقال إنهن ربائب. قال في المناقب: 1/138: «وروى أحمد البلاذري، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي، وأبوجعفر في التلخيص: أن النبي (صلی الله علیه و آله) تزوج بها وكانت عذراء، يؤكد ذلك ما ذَكر في كتابي الأنوار والبدع، أن أم كلثوم وزينب كانتا ابنتي هالة أخت خديجة».

وقد ألف الباحث السيد جعفر مرتضى كتاب: «بنات النبي (صلی الله علیه و آله) أم ربائبه؟» تجده في: http: //www.aqaed.com/shialib/books/all/banat/index.html

وذكر فيه تناقض روايتهم في تاريخ زواج النبي (صلی الله علیه و آله) وفي ولادة أولاده، وزواج بناته، فبعضها ذكر أنه (صلی الله علیه و آله) تزوج بها قبل البعثة بثلاث سنين، وبعضها قال إن أولاده منها ولدوا جميعاً بعد البعثة، إلا ولده عبدالمطلب، وبعضها ذكر أن آية: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ، نزلت بعد موت ابنه القاسم، الذي كان أكبر أولاده.

كما استدل بنصوص على أن زينب هي بنت أخت خديجة (علیها السلام) من زوجها أبي هند المخزومي، ومنها نص كتاب الإستغاثة، ونص المناقب المتقدم.

واستدل بقول النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي: «يا علي، أوتيتَ ثلاثاً لم يؤتهن أحدٌ ولا أنا: أوتيت صهراً مثلي، ولم أوت أنا مثلي»! فدل على أن علياً صهره الوحيد.

وقول ابن عمر في صحيح بخاري: 5/157: «أما عثمان فكان الله عفا عنه، وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه! وأما علي فابن عم رسول الله وختنه، وأشار بيده فقال: هذا بيته حيث ترون». فذكر الصهر لعلي ولم يذكره لعثمان!

ويؤيد هذا الرأي ما رواه الحاكم: 2/200وصححه على شرط الشيخين: عن عروة، عن خالته عائشة في زينب بنت النبي (صلی الله علیه و آله) وكان زوجها الربيع بن العاص الأموي أسيراً في بدر، فأرسلت فداءه فأطلقه النبي (صلی الله علیه و آله) ووعده الربيع أن يأذن لها بالهجرة، فأذن لها وخرج بها من مكة زيد بن حارثة وأبو رافع وأخ زوجها فمنعته قريش، وضرب ناقتها هبَّار بن الأسود، فوقعت زينب وأسقطت جنينها ثم سمحت لها قريش فهاجرت. قال عروة إن عائشة روت القصة وقالت: «فكان

ص: 175

رسول الله يقول: هي أفضل بناتي، أصيبت فيَّ. فبلغ ذلك علي بن الحسين فانطلق إلى عروة فقال: ما حديثٌ بلغني عنك تحدثه تنتقص فيه حق فاطمة (علیها السلام)! فقال: والله ما أحب أنَّ لي ما بين المشرق والمغرب وأني أنتقص فاطمة حقاً هو لها! وأما بعدُ فلك أن لا أحدث به أبداً! قال عروة: وإنما كان هذا قبل نزول آية: أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ».

ومعناه أن الإمام زين العابدين (علیه السلام) وبَّخ عروة على روايته أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال إن زينب أفضل بناته، فتنصل عروة ووعد أن لايرويه، مع أنه قول خالته عائشة! ثم قال معتذراً عنها: وإنما كان هذا قبل نزول آية: أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ. ومعناه أن النبي (صلی الله علیه و آله) عبَّرعن زينب بابنته قبل أن تنزل آية تحريم تسمية المتبنى إبناً وقد نزل ذلك في سورة الأحزاب سنة خمس للهجرة، أما بعدها فلم يقل عن زينب: بنتي لأنها كانت متبناة! فهذا حديث صحيح بشرط الشيخين يشهد بأن زينب ربيبة! فالقول بأنهن ربائب قوي علمياً، لكنه يحتاج إلى مؤيدات أخرى لينهض في مقابل النصوص على أنهن بنات النبي (صلی الله علیه و آله) من خديجة.

قال أبو الفتح الكراجكي في كتابه: التعجب من أغلاط العامة/101: «ومن عجيب أمرهم مثل هذا: قولهم: إن عثمان بن عفان ذو النورين، واعتقادهم من نحلته هذا بأنه تزوج بابنتين كانتا فيما زعموا لرسول الله من خديجة بنت خويلد، وقد اختلفت الأقوال فيهما، فمن قائل: أنهما ربيبتاه وأنهما ابنتا خديجة من سواه. ومن قائل: إنهما ابنتا أخت خديجة من أمها، وإن خديجة ربتهما لما ماتت أختها في حياتها، وقال إن اسم أبيهما هالة. ومن قال إنهما ابنتا النبي يعلم أنهما ليستا كفاطمة البتول (علیها السلام) في منزلتها، ولا يدانيانها في مرتبتها، فيسمون عثمان لأجل تزويجه بهما، (مع ما روي من أنه قتل إحداهما): ذا النورين، ولايقولون: إن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) ذو النورين، وهو أبو السبطين السيدين الإمامين الشهيدين الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، وشنفي العرش، وريحانتي نبي الرحمة، وولدي ابنته فاطمة البتول سيدة نساء العالمين، والأئمة الهادين، صلوات الله عليهم أجمعين».

ص: 176

الفصل التاسع: ولادة أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)

1- قالوا إن ولادة علي (علیه السلام) في الكعبة متواترة عندهم، ثم أنكروها!

قال الحاكم في المستدرك: 3/483ه: «تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، في جوف الكعبة».

وقال في أعيان الشيعة: 1/323: «ورد أنه (علیه السلام) ولد في جوف الكعبة أعزها الله، في يوم الجمعة في الثالث عشر من شهر رجب، وأن هذه فضيلة اختصه الله بها، لم تكن لأحد قبله ولا بعده. وقد صرح بذلك عدد كبير من العلماء ورواة الأثر، ونظمها الشعراء والأدباء، وذلك مستفيض عند شيعة أهل البیت (علیهم السلام)،كما أنه كذلك في كتب غيرهم، حتى لقد قال الحاكم وغيره: تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد.الخ.». قال السيد الحميري المتوفى سنة 173:

ولدته في حرم الإله وأمنه *** والبيت حيثُ فناؤه والمسجدُ

بيضاءُ طاهرة الثياب كريمةٌ *** طابت وطاب وليدها والمولد

في ليلة غابت نحوس نجومها *** وبدا مع القمر المنير الأسعد

ما لفَّ في خرق القوابل مثله *** إلا ابنُ آمنةَ النبيُّ محمدُ

وقال في الصحيح من سيرة الإمام علي (علیه السلام): 1/98: «لكن نفوس شانئي علي (علیه السلام) قد نفست عليه هذه الفضيلة التي اختصه الله بها، فحاولت تجاهل كل أقوال العلماء والمؤرخين ورواة الحديث والأثر، والضرب بها عرض الجدار! حيث نجدهم وبكل جرأة ولا مبالاة، يثبتون

ص: 177

ذلك لرجل آخر غير علي (علیه السلام)، بل ويحاولون التشكيك في ما ثبت لعلي أيضاً، حتى لقد قال في كتاب النور: حكيم بن حزام ولد في جوف الكعبة، ولا يعرف ذلك لغيره! وأما ما روي من أن علياً ولد فيها فضعيف عند العلماء»!

وقال المعتزلي في شرح النهج: 1/14: «كثير من الشيعة يزعمون أنه ولد في الكعبة والمحدثون لا يعترفون بذلك، ويزعمون أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام».

أقول: أول من ادعى ولادة حكيم في الكعبة ابن عمه الزبير بن بكار، في كتابه: جمهرة نسب قريش: 1/353، قال: «دخلت أم حكيم بن حزام الكعبة مع نسوة من قريش وهي حامل متمٌّ بحكيم بن حزام، فضربها المخاض في الكعبة، فأُتيت بنطع حيت أعجلتها الولادة، فولدت حكيم بن حزام في الكعبة على النطع».

ويكفي لرده أنه لم يروه إلا الزبيريون، وبغضهم لعلي (علیه السلام) مشهور للعام والخاص. قال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين/315، عن عبدالله بن الزبير: «وهو الذي بقي أربعين جمعة لايصلي على النبي (صلی الله علیه و آله) في خطبته، حتى التاث عليه الناس، فقال: إن له أهل بيت سوء إذا صليت عليه أو ذكرته أتلعوا أعناقهم واشرأبوا لذكره وفرحوا بذلك، فلا أحب أن أقر عينهم بذكره»!وهذا من غرائب النصب والحقد!

2- رواية يزيد بن قعنب

وتدل شهادة الحاكم: 3/483 بأن ولادة علي (علیه السلام) في الكعبة متواترةٌ عند الجميع، على أن السلطة غيبت نصوصها، ونشرت بدلها كذبة ابن بكار الزبيري لمصلحة ابن عمه حكيم بن حزام، وكلاهما من النواصب!

وقد ذكرنا في المقدمة أن السلطة أبادت أحاديث جابر بن يزيد الجعفي وكانت سبعين ألف حديث، وأحاديث ابن عقدة وكانت أكثر من ثلاث مائة ألف حديث!

هذا، وقد رويت كيفيات لولادته (علیه السلام) في الكعبة، ولعل أصحها رواية يزيد بن قعنب، التي رواها سعيد بن جبير عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن آبائه:، قال ابن قعنب «أمالي الصدوق/194»: «كنت جالساً مع العباس بن عبدالمطلب وفريق من بني عبدالعزى

ص: 178

بإزاء بيت الله الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أميرالمؤمنين (علیه السلام) وكانت حاملة به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق، فقالت: رب إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل (علیه السلام) وأنه بني البيت العتيق، فبحق الذي بنیٰ هذا البيت، وبحق المولود الذي في بطني لما يسرت علي ولادتي. قال يزيد بن قعنب: فرأينا البيت وقد انفتح من ظهره ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا والتزق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أن ذلك أمر من أمر الله عزوجل.

ثم خرجت بعد الرابع وبيدها أميرالمؤمنين (علیه السلام)، ثم قالت: إني فضلت على من تقدمني من النساء، لأن آسية بنت مزاحم عبدت الله عزوجل سراً في موضع لا يحب أن يعبدالله فيه إلا اضطراراً، وإن مريم بنت عمران هزت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطباً جنياً، وإني دخلت بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنة وأرزاقها، فلما أردت أن أخرج هتف بي هاتف: يا فاطمة سمه علياً فهو علي والله العلي الأعلى، يقول: إني شققت إسمه من إسمي، وأدبته بأدبي، ووقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي، ويقدسني ويمجدني، فطوبى لمن أحبه وأطاعه، وويل لمن أبغضه وعصاه»!

ورُويت لولادته (علیه السلام) كيفية أخرى عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) عن زيدة بنت قريبة بن العجلان من بني ساعدة «مناقب ابن المغازلي/25» قال (علیه السلام): «كنت جالساً مع أبي ونحن زائران قبرَ جدنا (علیه السلام) وهناك نسوان كثيرة، إذ أقبلت امرأة منهن فقلت لها: من أنت يرحمك الله؟ قالت: أنا زيدة بنت قريبة بن العجلان من بني ساعدة، فقلت لها: فهل عندك شئ تُحدثينا؟ فقالت: إي والله حدثتني أُمي أُم عمارة بنت عُبادة بن نَضْلَة بن مالك بن العَجلان الساعدي، أنها كانت ذات يوم في نساء من العرب إذ أقبل أبوطالب كئيباً حزيناً فقلت له: ما شأنك يا أباطالب؟ قال: إن فاطمة بنت أسد في شدة المخاض، ثم وضع يديه على وجهه، فبينا هو كذلك إذ أقبل محمد (صلی الله علیه و آله) فقال له: ما شأنك يا عمِّ؟ فقال: إن فاطمة بنت أسد تشتكي

ص: 179

المَخاضَ، فأخذ بيده وجاء وهي معه فجاء بها إلى الكعبة فأجلسها في الكعبة، ثم قال أجلسي على اسم الله! قال فَطُلِقَت طَلقةً فولدت غلاماً مسروراً نظيفاً منُظّفاً لم أر كَحُسنِ وجهه، فسماه أبوطالب علياً وحَمله النبي (صلی الله علیه و آله) حتى أداه إلى منزلها! قال علي بن الحسين (علیه السلام): فوالله ما سمعتُ بشئ قطُّ إلاّ وهذا أحسنُ منه».

فرواية ابن قعنب تذكر أن فاطمة بنت أسد (علیها السلام) جاءت وحدها إلى الكعبة، ودعت الله تعالى، فانشق لها الجدار ودخلت.

وهذه الرواية تذكر أن أباطالب جاء إلى المسجد الحرام فرآه النبي (صلی الله علیه و آله) فشكا له أن زوجته تشتكي المخاض، فجاء بها النبي (صلی الله علیه و آله) إلى الكعبة، وولدت فيها.

ويمكن الجمع بينهما بأن دعاءها عند الكعبة عندما أتى بها النبي (صلی الله علیه و آله) .

وتوجد رواية بكيفية ثالثة، وإذا لم يمكن الجمع بينها، فالمرجح رواية ابن قعنب بن عتاب التميمي، وقد وثقوه وذكروا أنه كان فارساً، ويظهر أنه ابن عم الحر بن يزيد الرياحي، الذي استشهد مع الحسين (علیه السلام) . أنساب الأشراف: 12/159.

وفي المناقب: 3/59: «عليٌّ (علیه السلام) أول هاشمي ولد من هاشميين، وأول من ولد في الكعبة، وأول من آمن، وأول من صلى، وأول من بايع، وأول من جاهد، وأول من تعلم من النبي (صلی الله علیه و آله)، وأول من صنف».

3- دلالة ولادة علي في الكعبة

في ولادته (علیه السلام) في الكعبة إشارة ربانية مهمة إلى مكانته عند الله تعالى، وإن كان هو (علیه السلام) أفضل من الكعبة الشريفة، كما قال الشهيد نور الله التستري في إحقاق الحق/198: «على أن الكلام في تشرف الكعبة بولادته فيها، لا في تشرفه بولادته في الكعبة، فإنه (علیه السلام) هو الكعبة الحقيقية لأهل الإنتباه، وقبلة إقبال المقبلين إلى الله، كما روى عنه (علیه السلام) أنه قال: نحن كعبة الله، ونحن قبلة الله».نهج الإيمان /569.

4- إسم علي وإسم حيدرة

في أمالي الطوسي/3: «عن مكحول قال: لما كان يوم خيبر خرج رجل من اليهود يقال له مرحب، وكان طويل القامة عظيم الهامة، وكانت اليهود تقدمه لشجاعته ويساره.

ص: 180

قال: فخرج في ذلك اليوم إلى أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فما واقفه قرن إلا قال: أنا مرحب، ثم حمل عليه فلم يثبت له. قال: وكانت له ظئر وكانت كاهنة، وكانت تعجب بشبابه وعظم خلقته، وكانت تقول له: قاتل كل من قاتلك وغالب كل من غالبك، إلا من تسمى عليك بحيدرة، فإنك إن وقفت له هلكت. قال: فلما كثر مناوشته، وبَعُل الناس بمقامه شكوا ذلك إلى النبي (صلی الله علیه و آله) سألوه أن يُخرج إليه علياً فدعا النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) وقال له: يا علي إكفني مرحباً، فخرج إليه أميرالمؤمنين، فلما بصر به مرحب أسرع إليه فلم يره يعبأ به، فأنكر ذلك وأحجم عنه، ثم أقدم وهو يقول: أنا الذي سمتني أمي مرحبا.

فأقبل علي (علیه السلام) بالسيف، وهو يقول: أنا الذي سمتني أمي حيدره.

فلما سمعها منه مرحب هرب ولم يقف خوفاً مما حذرته منه ظئره، فتمثل له إبليس في صورة حبر من أحبار اليهود، فقال: إلى أين يا مرحب؟فقال: قد تسمى عليَّ هذا القرن بحيدرة! فقال له إبليس: فما حيدرة؟ فقال: إن فلانة ظئري كانت تحذرني من مبارزة رجل إسمه حيدرة وتقول: إنه قاتلك.

فقال له إبليس: شوهاً لك، لو لم يكن حيدرة إلا هذا وحده لما كان مثلك يرجع عن مثله، تأخذ بقول النساء وهن يخطئن أكثر مما يصبن، وحيدرة في الدنيا كثير، فارجع فلعلك تقتله، فإن قتلته سدت قومك، وأنا في ظهرك أستصرخ اليهود لك. فرده فوالله ما كان إلا كفَوَاق ناقة حتى ضربه علي (علیه السلام) ضربة سقط منها لوجهه وانهزم اليهود وهم يقولون: قتل مرحب، قتل مرحب!».

أقول: يظهر أن أمه سمته حيدرة وسماه أبوه علياً بتوجيه النبي (صلی الله علیه و آله) . وحيدرة بالعربية الأسد، وورد أن إسمه (علیه السلام) عند اليهود هيدار، ففي الروضة لابن شاذان/222، أن إسم النبي (صلی الله علیه و آله): «في التوراة: ميد ميد، وإسم وصيه: إليا، واسمه في الإنجيل: حمياطا، و إسم وصيه فيها: هيدار»

وفي معاني الأخبار/58، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) في خطبة له: «إسمي في الإنجيل إليا، وفي التوراة برئ، وفي الزبور أري، وعند الهند كبكر،

ص: 181

وعند الروم بطريسا، وعند الفرس جبتر، وعند الترك بثير، وعند الزنج حيتر، وعند الكهنة بويئ، وعند الحبشة بثريك، وعند أمي حيدرة، وعند ظئري ميمون، وعند العرب علي، وعند الأرمن فريق، وعند أبي ظهير».

وفي الفضائل لابن شاذان/175: «وقد رويَ عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: لعلي سبعة عشر إسماً. فقال ابن عباس أخبرنا ما هي يا رسول الله؟ فقال: إسمه عند العرب علي، وعند أمه حيدرة، وفي التوراة إليا، وفي الإنجيل بريا، وفي الزبور قريا، وعند الروم بطرسيا، وعند الفرس نيروز، وعند العجم شميا، وعند الديلم فريقيا، وعند الكرور شيعيا، وعند الزبح حيم، وعند الحبشة تبير، وعند الترك حميرا، وعند الأرمن كركر، وعند المؤمنين السحاب، وعند الكافرين الموت الأحمر، وعند المسلمين وعد، وعند المنافقين وعيد، وعندي طاهر مطهر، وهو جنب الله، ونفس الله، ويمين الله عزوجل».

وربما وجد ارتباط بين هيدار وقيدار، ففي قاموس الكتاب المقدس/751: «قيدار: إسم سامي، معناه قدير أو أسود، وهو ابن إسماعيل الثاني «تك 25: 13» وهو أب لأشهر قبائل العرب، وتسمى بلادهم أيضاً: قيدار».

5- ولد علي (علیه السلام) قبل البعثة بعشر سنين

كان عمر أميرالمؤمنين (علیه السلام) لمَّا بعث النبي (صلی الله علیه و آله) عشر سنين، لكنه كان جسمه ببنية الخمسة عشر، ووعقل أكبر من سنه بكثير، ويكفي دليلاً عليه أن النبي (صلی الله علیه و آله) كلفه بدعوة بني هاشم وإعداد الطعام لهم.

قال العلامة في تذكرة الفقهاء: 6/196: «يوم الثالث عشر منه، ولد مولانا أميرالمؤمنين (علیه السلام) في الكعبة قبل النبوة باثنتي عشرة سنة». والصحيح عشرة سنين.

وقال في الكافي: 1/452: «ولد أميرالمؤمنين (علیه السلام) بعد عام الفيل بثلاثين سنة وقتل (علیه السلام) في شهر رمضان لتسع بقين منه ليلة الأحد سنة أربعين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة، بقي بعد قبض النبي (صلی الله علیه و آله) ثلاثين سنة».

وتواترت في مصادر السنيين رواية ابن عفيف الكندي، قال: «أول شئ علمتُ

ص: 182

من أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) قدمت مكة في عمومة لي، فأرشدنا على العباس بن عبدالمطلب، فانتهينا إليه وهو جالس في زمزم فجلسنا إليه فبينا نحن عنده، أقبل رجل من باب الصفا أبيض تعلوه حمرة، له وفرة جعدة إلى أطراف أذنيه، أشم أقنى الأنف براق الثنايا أدعج العينين، كث اللحية دقيق المسربة، شثن الكفين والقدمين، عليه ثوبان أبيضان، كأنه القمر ليلة البدر، يمشي عن يمينه غلام أمرد حسن الوجه، مراهق أو محتلم، تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها، حتى قصد نحو الحجر فاستلمه، ثم استلمه الغلام، واستلمت المرأة، ثم طاف بالبيت سبعاً، والغلام والمرأة يطوفون معه، ثم استلم الركن ورفع يديه وكبر، وقام الغلام عن يمينه ورفع يديه وكبر، وقامت المرأة خلفهما ورفعت يديها وكبرت، وأطال القنوت ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه من الركوع فقنت وهو قائم، ثم سجد وسجد الغلام والمرأة معه، يصنعان مثلما يصنع يتبعانه. قال: فرأينا شيئاً لم نكن نعرفه بمكة فأنكرنا، فأقبلنا على العباس فقلنا: يا أبا الفضل إن هذا الدين لم نكن نعرفه فيكم، أشئ حدث؟ قال: أجل والله، أما تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا ابن أخي محمد بن عبدالله، والغلام علي بن أبي طالب، والمرأة خديجة بنت خويلد. أما والله ما على ظهر الأرض أحد يعبدالله على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة».والطبراني الكبير: 10/183، شرح النهج:13/225، شواهد التنزيل: 2/302، تاريخ دمشق: 3/265، سير الذهبي: 1/463، ما نزل من القرآن في علي لابن مردويه/49، الحاكم: 3/183، الإستيعاب: 3/1096، الفصول المختارة/273.

وفي رواية أحمد: 1/209 أنه رآهم في موسم الحج في منى خرجوا من خيمة وصلَّوْا. وفي رواية: «وهو يزعم أنه ستفتح عليه كنوز كسرى وقيصر».

6- أخذ النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) وهو طفلٌ فرباه ليكون له عضداً

في المناقب: 2/29: «ذكر أبو القاسم في أخبار أبي رافع من ثلاثة طرق، أن النبي (صلی الله علیه و آله) حين تزوج خديجة قال لعمه أبي طالب: إني أحب أن تدفع إليَّ بعض

ص: 183

ولدك يعينني على أمري ويكفيني، وأشكر لك بلاك عندي.

فقال أبوطالب: خذ أيهم شئت، فأخذ علياً (علیه السلام)».

وقال علي (علیه السلام): «وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة. وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه، ويمسني جسده ويشمني عرفه. وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه. وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل. ولقد قرن الله به (صلی الله علیه و آله) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ويعلمه محاسن أخلاق العالم ليله ونهاره. ولقد كنت أتبعه اتِّبَاع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه عَلَماً ويأمرني بالإقتداء به. ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة.

ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلی الله علیه و آله) فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال هذا الشيطان أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير، وإنك لعلى خير». نهجالبلاغة: 2/158.

وهذا النص الصحيح يبطل قولهم إن أباطالب (رحمة الله) كان فقيراً لايملك قوت أولاده فأشفق عليه النبي (صلی الله علیه و آله) والعباس، فأخذا بعض أولاده ليخففوا عائلته! فأخذ محمد (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) وأخذ العباس جعفراً!وقد أفاض رواة السلطة العباسية في ذلك، وأخذته منهم بعض مصادرنا لأن ظاهره المديح!

وأصله رواية ابن هشام: 1/162، عن ابن إسحاق، عن مجاهد بن جبر المتوفى سنة 103، قال: «كان من نعم الله على علي بن أبي طالب رضيالله عنه ما صنع الله له وأراده به من الخير، أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبوطالب في عيال كثير فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعمه العباس وكان من أيسر بني هاشم: يا أبا الفضل إن أخاك أباطالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه نخفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلاً وتأخذ أنت رجلاً فنكفلهما عنه. فقال

ص: 184

العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أباطالب فقالا: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى تنكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبوطالب: إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ماشئتما. فأخذ رسول الله علياً فضمه إليه، وأخذ العباس جعفراً فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى بعثه الله نبياً فاتبعه وصدقه، وأخذ العباس جعفراً، ولم يزل جعفر مع العباس حتى أسلم واستغنى عنه». والطبري: 2/57، الحاكم: 3/576، مجمع الزوائد: 8/153، الإستيعاب: 1/37، تفسير الثعلبي: 5/84، مجالس ثعلب/15، تاريخ دمشق: 26/283. وشرح النهج 13/198. ومن مصادرنا: علل الشرائع: 1/169، كشف الغمة: 1/77، روضة الواعظين/86، المناقب: 2/27، العمدة/63، ذخائر العقبى/58، عمدة الطالب/59 وبحار الأنوار: 35/24..الخ.

فالرواية إنما هي قولُ مجاهد بن جبر، مولى بني مخزوم، وعنه أخذها الجميع، وظاهرها مدح لعلي (علیه السلام) بأن فقر أبيه كان السبب في أن يربيه النبي (صلی الله علیه و آله)!

بل رووا عنه (علیه السلام) أنه قال: «أبي ساد فقيراً، وما ساد فقير قبله». اليعقوبي: 2/14.

لكن كيف كان أبوطالب فقيراً، وهو يطعم الحجيج ويسقيهم! وهو ابن عبدالمطلب الذي وَرَّثَه سقاية الحجيج ورفادتهم؟!

وقد روى مادحوا العباس أن أباطالب اقترض منه عشرة آلاف درهم، وأنفقها على الحجيج، وفي السنة الثانية اقترض أربعة عشر ألفاً. تاريخ دمشق: 26/283. فالذي ينفق الألوف لايعجز عن نفقة بيته وهي لا تزيد عن500 درهم في السنة!

ومما يردُّ كلامهم أيضاً أنَّا لم نسمع شيئاً عن طالب عند حمزة، ولا عن جعفر

عند العباس! ولا سمعنا شيئاً عن هذه الأزمة الشديدة على قريش، التي تفرد بذكرها مجاهد، الذي هو صاحب ابن عباس، وهو عباسي الهوى!

إن غرضهم إثبات فقر أبي طالب (رحمة الله) وغنى العباس، وإنفاقه عليه وعلى أولاده، وأن يقولوا إن أباطالب عجز عن نفقات الرفادة والسقاية التي ورثه إياها عبدالمطلب، فاشتراها منه العباس. وأن يجعلوا نشأة علي (علیه السلام) عند النبي (صلی الله علیه و آله) مصادفة! راجع: تاريخ دمشق: 26/283، المستطرف: 1/289، أخبار مكة:

ص: 185

2/106،ومجالس ثعلب/15.

والراوي الثاني لهذه القصة فهو ابن سلام، قال: «لما أمْعَرَ أبوطالب قالت له بنو هاشم: دعنا فليأخذ كل رجل منا رجلاً من ولدك. قال: إصنعوا ما أحببتم إذا خليتم لي عقيلاً، فأخذ النبي علياً..فكان أبوطالب يُدان لسقاية الحاج حتى أعوزه ذلك، فقال لأخيه العباس بن عبدالمطلب وكان أكثر بني هاشم مالاً في الجاهلية: يا أخي قد رأيت ما دخل عليَّ وقد حضر الموسم ولا بد لهذه السقاية من أن تقام للحاج، فأسلفني عشرة آلاف درهم فأسلفه العباس إياها، فأقام أبوطالب تلك السنة بها وبما احتال «هيأ» فلما كانت السنة الثانية وأفِد الموسم«قرب» قال لأخيه العباس: يا أخي إن الموسم قد حضر ولا بد للسقاية من أن تقام، فأسلفني أربعة عشر ألف درهم، فقال: إني قد أسلفتك عام أول عشرة آلاف درهم، ورجوتُ ألا يأتي عليك هذا الموسم حتى تؤديها فعجزت عنها، وأنت تطلب العام أكثر منها، وترجو زعمت ألا يأتي عليك الموسم حتى تؤديها، فأنت عنها أعجز اليوم! هاهنا أمرٌ لك فيه فرج: أدفع إليك هذه الأربعة العشر ألف، فإن جاء موسم قابل ولم توف حقي الأول وهذا، فولاية السقاية إليَّ، فأقوم بها وأكفيك هذه المؤنة إذْ عجزت عنها! فأنعم له أبوطالب بذلك فقال: ليحضر هذا الأمر بنو فاطمة ولا أريد سائر بني هاشم، ففعل أبوطالب وأعاره العباس الأربعة عشرالألف بمحضر منهم ورضاً، فلما كان الموسم العام المقبل لم يكن بد من إقامة السقاية، فقال العباس لأبي طالب: قد أفد الحج وليس لدفع حقي إلي وجه، وأنت لاتقدر أن تقيم السقاية فدعني وولايتها أكفكها وأبريك من حقي ففعل،فكان العباس بن عبدالمطلب يليها وأبوطالب حيٌّ ثم تم لهم ذلك إلى اليوم».

أقول: صاحب هذا الكلام محمد بن سلام الجمحي، وهو من أتباع المتوكل،توفي سنة 231، ولم يسنده إلى أحد حتى إلى مجاهد تلميذ ابن عباس! والرواية موظفة لإثبات أن العباسيين اشتروا السقاية من أبي طالب، بعد أن أوصى له بها عبدالمطلب! والصحيح: أنه لما توفي أبوطالب وهاجر النبي (صلی الله علیه و آله) وحمزة وعلي وجعفر، بقي العباس في مكة فتصدى للسقاية،ولما فتح النبي (صلی الله علیه و آله) مكة سكت عن السقاية!

ص: 186

بل رووا أنه (صلی الله علیه و آله) كره أن يشرب من سقاية العباس، لأنه كان يضع في الماء عنباً أو زبيباً: «عطش النبي (صلی الله علیه و آله) حول الكعبة فاستسقى، فأتي بنبيذ من السقاية فشمَّه فَقَطَّب! فقال عليَّ بذَنوبٍ من زمزم، فصب عليه ثم شرب».فتح الباري: 10/34.

ولما افتخر العباس بالسقاية، نزل قوله تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لايَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ». الكافي: 8/203.

والنتيجة: أن علياً (علیه السلام) ولد قبل زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بنحو سنتين حسب رواية أبي رافع «المناقب 2/29»: «ذكر أبو القاسم في أخبار أبي رافع من ثلاثة طرق، أن النبي (صلی الله علیه و آله) حين تزوج خديجة قال لعمه أبي طالب: إني أحب أن تدفع إليَّ بعض ولدك يعينني على أمري ويكفيني، وأشكر لك بلاك عندي. فقال أبوطالب: خذ أيهم شئت، فأخذ علياً (علیه السلام)».

ويدل قوله (علیه السلام): «وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ويكنفني إلى فراشه، ويمسني جسده ويشمني عرفه. وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه». على أنه كان في السنة الثالثة أو نحوها.

وقالت أمه فاطمة رضيالله عنها كما في رواية ابن قعنب كشف اليقين/23: «فولدت علياً ولرسول الله (صلی الله علیه و آله) ثلاثون سنة، فأحبه رسول الله (صلی الله علیه و آله) حباً شديداً وقال لي: إجعلي مهده بقرب فراشي. وكان (صلی الله علیه و آله) يلي أكثر تربيته، وكان يطهرعلياً في وقت غسله، ويوجره اللبن عند شربه، ويحرك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويحمله على صدره ويقول: هذا أخي ووليي وناصري وصفيي وذخري وكهفي وصهري ووصيي وزوج كريمتي وأميني على وصيتي وخليفتي. وكان يحمله دائماً، ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها».

ومعناه أنه (صلی الله علیه و آله) اهتم بعلي (علیه السلام) من أول ولادته، فكان يربيه ويطعمه وهو مع أمه في بيت أبي طالب، ثم طلبه من عمه أبي طالب (علیه السلام) وكان في نحو السنتين. ويكون عمره (علیه السلام) عند البعثة عشر سنين «فولدت علياً ولرسول الله (صلی الله علیه و آله) ثلاثون سنة» وعاش معه ثلاثاً وثلاثين، وبعده ثلاثين سنة.

ص: 187

الفصل العاشر: مقدمات بعثة النبی (صلی الله علیه و آله)

1- حكَّمَتْه قريش في وضع الحجر قبل بعثته (صلی الله علیه و آله)

في الكافي: 4/217 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن قريشاً في الجاهلية هدموا البيت فلما أرادوا بناءه حيل بينهم وبينه وألقيَ في روعهم الرعب، حتى قال قائل منهم: ليأتِ كل رجل منكم بأطيب ماله، ولا تأتوا بمال اكتسبتموه من قطيعة رحم أو حرام، ففعلوا فَخُلِّيَ بينهم وبين بنائه، فبنوه حتى انتهوا إلى موضع الحجر الأسود فتشاجروا فيه أيهم يضع الحجر الأسود في موضعه حتى كاد أن يكون بينهم شر، فحكَّموا أول من يدخل من باب المسجد، فدخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما أتاهم أمَرَ بثوب فبُسط ثم وضع الحجر في وسطه، ثم أخذت القبائل بجوانب الثوب فرفعوه، ثم تناوله (صلی الله علیه و آله) فوضعه في موضعه، فخصه الله به».

وفي الكافي: 4/217 عن الإمام الصادق (علیه السلام) أيضاً قال: «إنما هدمت قريش الكعبة لأن السيل كان يأتيهم من أعلى مكة فيدخلها فانصدعت، وسرق من الكعبة غزال من ذهب رجلاه من جوهر، وكان حائطها قصيراً، وكان ذلك قبل مبعث النبي (صلی الله علیه و آله) بثلاثين سنة... فلما بلغ البناء إلى موضع الحجرالأسود تشاجرت قريش في موضعه، فقال كل قبيلة: نحن أولى به نحن نضعه فلما كثر بينهم تراضوا بقضاء من يدخل من باب بني شيبة، فطلع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: هذا الأمين قد جاء! فحكموه فبسط رداءه وقال بعضهم كساء طاروني كان له، ووضع الحجر فيه ثم قال: يأتي من كل ربع من قريش رجل، فكانوا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس،

ص: 188

والأسود بن المطلب من بني أسد بن عبدالعزى، وأبو حذيفة بن المغيرة من بني مخزوم، وقيس بن عدي من بني سهم، فرفعوه ووضعه النبي (صلی الله علیه و آله) في موضعه». والبيهقي: 5/72، فتح الباري: 3/351، الطيالسي/18، أوائل ابن أبي عاصم/44، الإستيعاب: 1/35، التنبيه والإشراف/197، تاريخ الذهبي: 1/66، النهاية: 5/171 والشفا: 1/134.

وذكر اليعقوبي: 2/19 أن عمر النبي (صلی الله علیه و آله) كان خمساً وعشرين سنة. «كانت قريش تسمى رسول الله قبل أن ينزل عليه الوحي: الأمين». ابن هشام: 1/124.

2- قبل الأربعين كان (صلی الله علیه و آله) نبياً وكان يصلي معه علي وخديجة (علیهما السلام)

بحث العلماء عبادة نبينا (صلی الله علیه و آله) قبل بعثته، وهل كان يعبدالله تعالى حسب شريعة عيسى (علیه السلام) أم لا؟ «البحار 18/272» والصحيح أنه (صلی الله علیه و آله) وأجداده:كانوا فرعاً مستقلاً، مكلفين بحنيفية إبراهيم (علیه السلام) دون غيره من الأنبياء (علیهم السلام)، وأن قريشاً انحرفت عن ملة إبراهيم (علیه السلام) وثبت عليها آباؤه وأخيار أسرته (صلی الله علیه و آله)، ويدل عليه:

1- قول الفتال النيسابوري في روضة الواعظين/52: «إعلم أن الطائفة قد اجتمعت على أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان رسولاً نبياً مستخفياً، يصوم ويصلي على خلاف ما كانت قريش تفعله، مذ كلفه الله تعالى. فإذا أتت أربعون سنة أمرالله عزوجل جبرئيل (علیه السلام) أن يهبط إليه بإظهار الرسالة وذلك في يوم السابع والعشرين من شهر الله الأصم. فاجتاز بميكائيل (علیه السلام) فقال: أين تريد؟ فقال له: قد بعث الله جل وعز نبياً نبي الرحمة وأمرني أن أهبط إليه بالرسالة فقال له ميكائيل: فأجئ معك قال له: نعم، فنزلا ووجد رسول الله نائماً بالأبطح بين أميرالمؤمنين وجعفر بن أبي طالب:فجلس جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، ولم ينبهه جبرئيل إعظاماً له، فقال ميكائيل لجبرئيل: إلى أيهم بعثت؟ قال: إلى الأوسط، فأراد أن ينبهه فمنعه جبرئيل ثم انتبه النبي (صلی الله علیه و آله) فأدى إليه جبرئيل الرسالة عن الله تعالى. فلما نهض جبرئيل ليقوم أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بثوبه. ثم قال: ما اسمك؟ قال له جبرئيل. ثم نهض رسول الله ليلحق بغنمه، فما مر

ص: 189

بشجرة ولامدرة إلا سلمت عليه وهنأته. ثم كان جبرئيل (علیه السلام) يأتيه فلا يدنو منه إلا بعد أن يستأذن عليه، فأتاه يوماً وهو بأعلى مكة فغمز بعقبه بناحية الوادي فانفجرت عين، فتوضأ جبرئيل وتوضأ الرسول (صلی الله علیه و آله)، ثم صلى الظهر وهي أول صلاة فرضها الله عزوجل، وصلى أميرالمؤمنين تلك الصلاة مع رسول الله، ورجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في يومه إلى خديجة فأخبرها، فتوضأت وصلت صلاة العصر من ذلك اليوم».

2- قال الأصبغ بن نباتة: «سمعت أميرالمؤمنين (علیه السلام) يقول: والله ما عبد أبي ولا جدي عبدالمطلب ولاهاشم ولا عبدمناف صنماً قط! قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم (علیه السلام) متمسكين به».كمال الدين/174.

3- تدل آيات تجديد إبراهيم (علیه السلام) للكعبة وإسكانه إسماعيل وذريته:فيها، على أنهم فرع مستقل عن بني إسرائيل ونبواتهم، وامتداد مباشر لإبراهيم ليهدوا الناس إلى حج البيت والطواف به والصلاة عنده، بانتظار النبي الموعود منهم: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَوةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. إبراهيم: 37.

وقال تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ.البقرة: 127-129.

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ. قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.

البقرة: 135-136. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ للذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا.. آل عمران: 68.

4- تقدم في الفصل الأول أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان نبياً قبل آدم، فوضع الله نوره في صلب آدم، ثم ما زال ينقله من صلب طاهر إلى رحم مطهر، حتى أولده من أبويه المؤمنين الطاهرين عبدالله وآمنة (علیها السلام) .

ص: 190

5- تقدم قول أميرالمؤمنين (علیه السلام) يصف النبي (صلی الله علیه و آله): «ولقد قرن الله به (صلی الله علیه و آله) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ويعلمه محاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره». فهو نص على أنه (صلی الله علیه و آله) كان نبياً من فطامه على الأقل، وأن كبيراً من الملائكة كان معه ينبؤه ويعلمه، ثم بعث في الأربعين رسولاً.

6- قال الإمام الباقر (علیه السلام) في الرسول والنبي والمحدث «الكافي: 1/176»: «الرسول الذي يأتيه جبرئيل قُبَلاً «مواجهةً» فيراه ويكلمه فهذا الرسول، وأما النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم (علیه السلام) ونحو ما كان رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من أسباب النبوة قبل الوحي، حتى أتاه جبرئيل (علیه السلام) من عند الله بالرسالة.

وكان محمد (صلی الله علیه و آله) حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيؤه بها جبرئيل ويكلمه بها قُبَلاً. ومن الأنبياء (علیهم السلام) من جمع له النبوة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلمه ويحدثه، من غير أن يكون يرى في اليقظة. وأما المحدَّث فهو الذي يُحَدَّث فيسمع، ولا يُعاين، ولايرى في منامه».

7- نصت أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) على أن جبرئيل جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) عندما كان في سن السابعة والثلاثين، وأخبره أنه سيكون رسولاً، وعلمه الوضوء والصلاة وأن خديجة وعلياً (صلی الله علیه و آله) صدقاه، وكانا يصليان معه.

ففي إعلام الورى: 1/102: «ذكر مبدأ المبعث: ذكر علي بن إبراهيم بن هاشم، وهو من أجلِّ رواة أصحابنا في كتابه: أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما أتى له سبع وثلاثون سنة كان يرى في نومه كأن آتياً أتاه فيقول: يا رسول الله، فينكر ذلك، فلما طال عليه الأمر وكان بين الجبال يرعى غنماً لأبي طالب، فنظر إلى شخص يقول له: يا رسول الله. فقال له: من أنت؟ قال: جبرئيل أرسلني الله إليك ليتخذك رسولاً، فأخبر رسول الله خديجة بذلك، وكانت خديجة قد انتهى إليها خبراليهودي، وخبر بحيراء، وما حدثت به آمنة أمه، فقالت: يا محمد إني لأرجو أن تكون كذلك.

وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يكتم ذلك، فنزل عليه جبرئيل (علیه السلام) وأنزل عليه ماء من السماء فقال: يا محمد قم توضأ للصلاة، فعلمه جبرئيل الوضوء على الوجه

ص: 191

واليدين من المرفق ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين، وعلمه السجود والركوع. فلما تم له أربعون سنة أمره بالصلاة وعلمه حدودها، ولم ينزل عليه أوقاتها، فكان رسول الله يصلي ركعتين ركعتين في كل وقت.

وكان علي بن أبي طالب (علیه السلام) يألفه ويكون معه في مجيئه وذهابه لا يفارقه، فدخل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يصلي، فلما نظر إليه يصلي قال: يا أبا القاسم ما هذا؟ قال: هذه الصلاة التي أمرني الله بها، فدعاه إلى الإسلام فأسلم وصلى معه وأسلمت خديجة، فكان لا يصلي إلا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي وخديجة خلفه.

فلما أتى لذلك أيام دخل أبوطالب إلى منزل رسول الله ومعه جعفر، فنظر إلى رسول الله وعلي بجنبه يصليان، فقال لجعفر: ياجعفرصل جناح ابن عمك فوقف جعفر بن أبي طالب من الجانب الآخر، فلما وقف جعفر على يساره بدر رسول الله (صلی الله علیه و آله) من بينهما وتقدم». وفي المناقب: 1/41: «وأنشأ أبوطالب في ذلك يقول:

إن علياً وجعفراً ثقتي *** عند مُلِمِّ الزمان والكُرَبِ

والله لا أخذل النبيَّ ولا *** يخذله من بَنِيَّ ذو حسب

لاتخذلا وانصرا ابن عمكما *** أخي لأمي من بينهم وأبي»

وفي فوائد أبي الفتح الكراجكي (رحمة الله) /116: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ابتداء طروق الوحي إليه كلما هتف به هاتف، أو سمع من حوله رجفة راجف، أو رأى رؤياً أو سمع كلاماً، يخبر بذلك خديجة وعلياً (صلی الله علیه و آله) ويستسرهما هذه الحال، فكانت خديجة تثبته وتصبره، وكان علي يهنيه ويبشره ويقول له: والله يا ابن العم ما كذب عبدالمطلب فيك، ولقد صدقت الكهان فيما نسبته إليك.

ولم يزل كذلك إلى أن أُمِرَ بالتبليغ، فكان أول من آمن به من النساء خديجة (علیها السلام)، ومن الذكور أميرالمؤمنين علي (علیه السلام)».

8- وفي أمالي الطوسي/260: «عبدالله بن نجي قال: سمعت علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول: صليت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل أن يصلي معه أحد من الناس ثلاث سنين». ورواه الشريف المرتضى في الفصول المختارة/261، وروى عن معاذة العدوية قالت: «سمعت

ص: 192

علياً (علیه السلام) يخطب على منبر البصرة، فسمعته يقول: أنا الصديق الأكبر، آمنت قبل أن يؤمن أبوبكر، وأسلمت قبل أن يسلم. وعن أبي البختري قال (علیه السلام): صليت قبل الناس سبع سنين».

3- وروى الجميع أنه صلى وعلياً سبعاً قبل الناس

روت مصادر الشيعة والسنة بسند صحيح، أن النبي (صلی الله علیه و آله) صلى هو وخديجة وعلي سبع سنين قبل الناس. والظاهر أنه يقصد أربع سنوات قبل الرسالة، وثلاث سنوات بعدها، حتى أمره الله بالدعوة العامة.

روى الخطيب في المتفق: 3/141 عن أبي أيوب: «قال (صلی الله علیه و آله): صلت الملائكة عليَّ وعلى علي سبع سنين، وذلك أنه لم يصل معي أحد قبله». وفي تاريخ دمشق: 42/39: «ولم ترفع شهادة أن لا إله إلا الله من الأرض إلى السماء، إلا مني ومن علي».

كما رووا قول علي (علیه السلام) صليت قبل الناس بسبع سنين،وطرقه تصل إلى حد التواتر فمن مصادرنا: رواه في الخصال/401: «أنا عبدالله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كذاب، صليت قبل الناس بسبع سنين».

وفي روضة الواعظين/85: «اللهم إني لا أعلم أحداً أسلم قبلي من هذه الأمة غير نبيها، صليت قبل أن يصلي أحد سبعاً...بعث النبي (صلی الله علیه و آله) يوم الإثنين وأسلمت يوم الثلاثاء. عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة سبع سنين، إن أول صلاة ركعنا فيها صلاة العصر، قلت يا رسول الله: ما هذا؟ قال: أمرت به».

وفي أمالي الطوسي/341، عن الإمام الرضا عن آبائه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «إني لأعرف حجراً كان يسلم عليَّ بمكة قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن».

وفي كشف اليقين/167: «ومن كتاب مسند أحمد بن حنبل، عن عبدالله بن عباس قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: أنا عبدالله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر، لايقولها غيري إلا كاذب مفتر، ولقد صليت قبل الناس بسبع سنين.

ومن مسند أحمد: عن ابن أبي ليلى قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الصديقون ثلاثة:

ص: 193

حبيب النجار مؤمن آل ياسين الذي قال: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ. وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: أَتَقْتُلُونَ رجلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ. وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم». والفصول المختارة/260، الغدير: 2/314 و 3/121 والصحيح من السيرة: 4/45. ومن مصادرغيرنا: ابن ماجة: 1/44، الحاكم: 3/111 وصححاه. ومجمع الزوائد: 9/102، بعدة روايات، ابن أبي شيبة: 7/498، الضحاك في الآحاد والمثاني:1/148، النسائي: 5/106، الثعلبي في تفسيره: 5/85، الطبري في الرياض النضرة: 2/209 وابن أبي عاصم في السنة/ 584.

وفي سنن النسائي: 5/107: «ما أعرف أحداً من هذه الأمة عَبَد الله بعد نبيها -مباشرة- غيري، عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة بسبع سنين».

وقال في شرح النهج: 13/200: «أنا الصديق الأكبر، وأنا الفاروق الأول، أسلمت قبل إسلام أبي بكر، وصليت قبل صلاته بسبع سنين. كأنه (علیه السلام) لم يرتض أن يذكر عمر، ولا رآه أهلاً للمقايسة بينه وبينه، وذلك لأن إسلام عمر كان متأخراً»!

أقول: كان نزول جبرئيل (علیه السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله) متعدداً قبل الأربعين، إلى أن نزل بالقرآن في الأربعين، وكان (صلی الله علیه و آله) يخبر علياً وخديجة (علیهما السلام) ويدعوهما إلى الإيمان بعد نزول جبرئيل (علیه السلام) . وفي المرة الأخيرة في غار حراء كان علي وخديجة معه (صلی الله علیه و آله) كما روى ذلك السنة والشيعة، ودعاهما أيضاً بعده فآمنا.

4- وروى الجميع ما يدل على نبوته (صلی الله علیه و آله) قبل رسالته!

ففي دلائل النبوة للبيهقي: 2/17 و424 ومسلم: 7/58: «عن علي رضيالله عنه قال: كنا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال له: السلام عليك يا رسول الله... قال رسول الله: إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن».

وفي فيض القدير: 3/25: «قيل هو الحجر الأسود، وقيل البارز بزقاق المرفق، وعليه أهل مكة سلفاً وخلفاً». وأضافت رواية الترمذي: 5/253 وغيره: كان يسلم عليَّ ليالي بعثت. ويبدو أنها زياة من الراوي.

ص: 194

5- زعموا أن إسرافيل نزل عليه قبل جبرئيل

اهتم رواة السلطة بأمرين جعلوهما أصلين في البعثة، وأخضعوا لهما ما روي!

الأول: أن نبوته ورسالته (صلی الله علیه و آله) كانتا معاً، وأنه قبل الأربعين كان شخصاً عادياً! وافتروا عليه بأنه كان يذبح للأصنام، ويأكل مما ذُبح لها!

وغاية ما رووه أنه (صلی الله علیه و آله) كان يتعبد قبيل البعثة في حراء، ويرى الرؤيا الصادقة!

والثاني: جعلوا حديث عائشة في البخاري عن بدء الوحي، وَحْياً منزلاً، بكل ما فيه من عنف جبرئيل (علیه السلام) وعدم منطقيته، وغطه وعكه النبي (صلی الله علیه و آله) أي ضربه إياه حتى كاد يخنقه، ثم تركه مذعوراً خائفاً شاكاً في نبوته! فعاد النبي (صلی الله علیه و آله) إلى بيته وهو يرتجف وشكى إلى زوجته فأخذته إلى قسيس من أقاربها، فامتحنه وطمأنه بأنه نبي! ثم زعمت الرواية أن الوحي انقطع عنه فعاد اليه الشك، وحاول أن ينتحر مراراً من خوف الفضيحة، لكن جبرئيل منعه!

وقد أعرضوا عن آيات القرآن وأنه رآه في أفق مبين، لأنها تخالف حديث عائشة، وأعرضوا عن أحاديث صلاة النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) قبل الناس سبع سنين وثلاث سنين، مع أنها عندهم صحيحة، لأنها تعارض رواية عائشة!

ثم اخترعوا أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان في الأربعين، وكان ينزل عليه إسرافيل (علیه السلام) ثلاث سنين، قبل أن ينزل جبرئيل (علیه السلام)!

قال ابن كثير في سيرته: 1/388: «قال الإمام أحمد.. عن عامر الشعبي، أن رسول الله نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشئ ولم ينزل القرآن، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة، عشراً بمكة وعشراً بالمدينة، فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة.

فهذا إسناد صحيح إلى الشعبي...وحديث عائشة لا ينافي هذا فإنه يجوز أن يكون أول أمره الرؤيا، ثم وكل به إسرافيل فحكت عائشة ما جرى له مع جبريل ولم تحك ما جرى له مع إسرافيل، اختصاراً للحديث، أو لم تكن وقفت

ص: 195

على قصة إسرافيل». والإتقان: 1/128، الإستيعاب: 1/36، الدر المنثور 3/302 وعمدة القاري: 1/40 وغيرها.

فقبلوا كلام عامر الشعبي غير المسند لأنه ينسجم مع رواية عائشة!

وافترض الماوردي من عند نفسه: «ستة أحوال نُقل فيهن إلى منزلة بعد منزلة حتى بلغ غايتها» فعقد في أعلام النبوة/308، فصلاً بعنوان: «تَدَرُّجُه (صلی الله علیه و آله) في أحوال النبوة» لكنه جعلها كلها مراحل للخروج من شكه بنبوته إلى اليقين!

قال: «تدرجت إليه أحواله في النبوة حتى علم أنه نبي مبعوث ورسول مبلغ»! وهو ككلام الشعبي تخيلٌ بلا دليل!

أما سبب اختيارهم لإسرافيل وميكائيل بدل جبرئيل:«عبدالرزاق: 3/599» فمن أجل إرضاء اليهود الذين يعادون جبرئيل (علیه السلام)، لأنه نزل بعذابهم!

روى ابن حجر في العجاب: 1/292 عن عمر،أن اليهود قالوا له: «ياابن الخطاب ما أحد أحب إلينا منك إنك تأتينا وتغشانا..قالوا عدونا جبريل وسِلْمُنَا ميكائيل»!

ثم روى أن اليهود قالوا: «لو أن ميكائيل الذي ينزل عليكم اتبعناكم، فإنه ينزل بالرحمة والغيث، وإن جبريل ينزل بالنقمة والعذاب، وهو لنا عدو»!

ص: 196

الفصل الحادي عشر: كيف بدأت بعثة النبی (صلی الله علیه و آله)

1- رواية أهل البیت (علیهم السلام) عن البعثة وابتداء الوحي

كان النبي (صلی الله علیه و آله) يعتكف لعبادة ربه عزوجل في جبل حراء في ضاحية مكة، وهو محل اعتكاف أجداده الطاهرين:، وله قمتان متصلتان بقمته الدنيا وفيها غار حراء، والعليا لايمكن صعودها مشياً، وفيها لون أبيض يميز الجبل.

ويمتاز غار حراء بأن المصلي فيه يرى الكعبة، مع أنها في وادٍ بين جبال، لأنه أعلى من الجبال التي حولها، فكأنه مخلوقٌ للعبادة مع استقبال الكعبة ومشاهدتها!

ويسمى المُعْتَكِفُ في جبل حراء مُتَحَنِّفاً أي عابداً لله على ملة إبراهيم الحنيفية، والحنيف المائل إلى الخير، ويقابله الجنيف المائل إلى الشر.

وقال بعضهم يتحنث بالثاء، لكن اللغويين قالوا: «لا أعرف يتحنث إنما هو يتحنف من الحنيفية دين إبراهيم (علیه السلام)». عمدة القاري: 1/49.

ويعتزل المعتكف الناس شهراً أو أياماً، يعبدالله تعالى ويتأمل في آلائه. وكان عبدالمطلب (علیه السلام) يعتكف بحراء، وكان نبينا (صلی الله علیه و آله) يعتكف شهراً في السنة، ويعود إلى مكة فلا يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة.

قال في فتح الباري: 12/213: «مما بقي عندهم من أمور الشرع على سنن الإعتكاف.. إنما لم ينازعوا النبي (صلی الله علیه و آله) في غار حراء مع مزيد الفضل فيه على غيره،لأن جده عبدالمطلب أول من

ص: 197

كان يخلو فيه من قريش، وكانوا يعظمونه لجلالته وكبر سنه، فتبعه على ذلك من كان يتأله، فكان (صلی الله علیه و آله) يخلو بمكان جده وسلَّمَ له ذلك أعمامه».

وروي أن إبراهيم (علیه السلام) بنى الكعبة من أربعة جبال، ففي تاريخ دمشق: 2/348: «فلما كان إبراهيم أراه الله تعالى مكانة البيت، فاتَّبع منه أثراً قديماً، فبناه من طور زيتا، وطور سينا، ومن جبل لبنان، ومن أحد، وجعل قواعده من حراء».

وأقسم أبوطالب (رحمة الله) بالمتعبدين بحراء والزائرين له، فقال في لاميته:

ولما رأيت القوم لا ودَّ فيهم *** وقد قطعوا كل العرى والوسائل

أعوذ برب الناس من كل *** طاعن علينا بسوء أو مُلِحٍّ بباطل

وثور ومن أرسى ثبيراً مكانه *** وراق ليرقى في حراء ونازل

وبالبيت حق البيت من بطن مكةٍ *** وبالله إن الله ليس بغافل

سيرة ابن هشام: 1/154و176

وأوضح نص في بدء بعثته (صلی الله علیه و آله) ما قاله علي (علیه السلام) في أطول خطبه التي تسمى القاصعة: «ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة. ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال هذا الشيطان أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي، ولكنك وزير، وإنك لعلى خير». نهجالبلاغة: 2/157 ومصادر نهجالبلاغة: 3/23.

وقوله (علیه السلام): ولقد سمعت رنة الشيطان..يظهر أن ذلك في أول بعثته (صلی الله علیه و آله) أيام اعتكافه وأن علياً (علیه السلام) كان حاضراً معه كما روي، وقد يكون ذلك في مرة أخرى بعدها.

قال الجاحظ في العثمانية /305: «فجاور في حراء في شهر رمضان، ومعه أهله خديجة، وعلي بن أبي طالب، وخادم».

وفي السيرة الحلبية: 1/383: «كان يخرج لجواره ومعه أهله، أي عياله التي هي خديجة، إما مع أولادها أو بدونهم».

وفي دلائل البيهقي: 2/14 وإمتاع الأسماع: 3/24: «وخرج معه بأهله».

ص: 198

لكن بعضهم تعمد تغييب علي (علیه السلام) حتى عن أخذ الزاد له! قال البخاري: 8/67: «ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها».

ومعنى رنة إبليس: صوت حزنه ورعبه. وروي أنه: «رنَّ أربع رنات: يوم لعن ويوم أهبط إلى الأرض، ويوم بعث النبي (صلی الله علیه و آله)، ويوم الغدير». قرب الإسناد/9.

وأضاف لها في الخصال/263: «وحين أنزلت أم الكتاب».

وفي الطبراني الكبير: 12/9: «لما افتتح النبي (صلی الله علیه و آله) مكة رنَّ إبليس».

وفي شرح النهج: 13/209 عن علي (علیه السلام)، أن الشيطان رنَّ: «صبيحة الليلة التي أسري فيها بالنبي (صلی الله علیه و آله) وهو بالحجر، ولما بايعه الأنصار ليلة العقبة».

وقال أهل البیت (علیهم السلام) إن الوحي بدأ في أفق مبين، لا لبس فيه ولاخوف، واستمر كذلك تصديقاً لقوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالآفُقِ المُبِينِ. وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِينٍ.

ففي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /155: «وأما تسليم الجبال والصخور والأحجار عليه، فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما ترك التجارة إلى الشام، وتصدق بكل ما رزقه الله تعالى من تلك التجارات، كان يغدو كل يوم إلى حراء يصعده، وينظر من قُلله إلى آثار رحمة الله عزوجل، وأنواع عجائب رحمته وبدائع حكمته، وينظر إلى أكناف السماء وأقطار الأرض، والبحار والمفاوز والفيافي، فيعتبر بتلك الآثار، ويتذكر بتلك الآيات ويعبدالله حق عبادته.

فلما استكمل أربعين سنة، نظر الله عزوجل إلى قلبه فوجده أفضل القلوب، وأجلها وأطوعها وأخشعها وأخضعها، فأذن لأبواب السماء ففتحت، ومحمد (صلی الله علیه و آله) ينظر إليها، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمد (صلی الله علیه و آله) ينظر إليهم، وأمر بالرحمة فأنزلت عليه من لدن ساق العرش إلى رأس محمد (صلی الله علیه و آله) وغمرته، ونظر إلى جبرئيل الروح الأمين المطوق بالنور، طاووس الملائكة هبط إليه وأخذ بضبعه وهزه، وقال: يا محمد إقرأ. قال: وما أقرأ؟ قال: يا محمد: إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ. إقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ. عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ.

ثم أوحى إليه ربه عزوجل ما أوحى إليه، ثم صعد جبرئيل إلى العلو.

ص: 199

ونزل محمد (صلی الله علیه و آله) من الجبل وقد غشيه من تعظيم جلال الله، وورد عليه من كبير شأنه ما ركبه به الحمى والنافض، وقد اشتد عليه ما يخافه من تكذيب قريش في خبره، ونسبتهم إياه إلى الجنون، وأنه يعتريه شيطان، وكان من أول أمره أعقل خليقة الله وأكرم براياه، وأبغض الأشياء إليه الشيطان وأفعال المجانين وأقوالهم.

فأراد الله عزوجل أن يشرح صدره ويشجع قلبه، فأنطق الجبال والصخور والمدر، وكلما وصل إلى شئ منها ناداه: السلام عليك يا محمد، السلام عليك يا ولي الله، السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله، أبشر فإن الله عزوجل قد فضلك وجمَّلك وزيَّنك وأكرمك، فوق الخلائق أجمعين من الأولين والآخرين. لا يحزنك قول قريش: إنك مجنون وعن الدين مفتون، فإن الفاضل من فضَّله رب العالمين، والكريم من كرَّمه خالق الخلق أجمعين، فلا يضيقن صدرك من تكذيب قريش وعتاة العرب لك، فسوف يبلغك ربك أقصى منتهى الكرامات، ويرفعك إلى أرفع الدرجات».

وهذا وأمثاله أحاديث صريحة في أن بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) كانت في أفق مبين، وبصيرة ويقين، فلا رعب فيها ولا غط، ولا ريب ولا شك، ولا ورقة بن نوفل، ولا عدَّاساً، ولا نسطوراً، ولا شكاً في النبوة وذهاباً إلى الجبل للإنتحار! فكل ذلك مكذوبات من المشركين، وإن قبلتها عائشة ومن صدقها!

فانظر إلى هذه الصورة الرائعة المنسجمة مع القرآن والعقل وأفعال الله تعالى الحكيمة، وقارنها بالأساطير التي سطرتها الكتب، التي عظموها وعصموها!

كما تدل على أن الصلاة كانت قياماً وسجوداً بلا ركوع، ثم أمر الله بالركوع، ثم فرضت على المسلمين بصيغتها الفعلية في المعراج، في السنة الثانية.

2- طامات عائشة التي تبنتها السلطة

قالت عائشة: إن الوحي بدأ في جَوٍّ عنيف مبهم، بعكس قول أهل البیت (علیهم السلام)! وقد افتتح البخاري صحيحه بروايتها وكررها في كتابه أربع مرات! ولا يمكننا قبولها لأنها

ص: 200

تخالف القرآن والعقل، وتقول إن النبي (صلی الله علیه و آله) كان شاكاً في نبوته! وأنه أمره بأمر غير معقول، ثم اعتدى عليه الملاك وغطه بعنف وخنقه وكاد أن يقتله!

قال بخاري في صحيحه: 8/67: «عن عائشة أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤياً إلا جاءت مثل فَلَقِ الصبح، فكان يأتي حِرَاء فيتحنَّث فيه، وهو التعبدالليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها، حتى فَجَأَه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: إقرأ، فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهْد! ثم أرسلني فقال: إقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ! فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجَهد! ثم أرسلني فقال: إقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ! فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجَهد! ثم أرسلني فقال: إقرأ باسم ربك! ثم أرسلني فقال: إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ..حتى بلغ مَا لَمْ يَعْلَمْ.

فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: زمِّلوني زمِّلوني، فزمَّلوه حتى ذهب عنه الروع فقال يا خديجة مالي؟! وأخبرها الخبروقال: قد خشيت على نفسي! فقالت له: كلا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَل، وتُقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى بن قصي وهو ابن عم خديجة أخو أبيها، وكان امرءاً تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبري فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: أي ابن عم إسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: ابنَ أخي ماذا ترى؟ فأخبره النبي ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً أكون حياً حين يخرجك قومك؟فقال رسول الله: أومُخْرِجِيَّ هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقه أن توفي!

وفَتَر الوحي فترةً حتى حزن النبي (صلی الله علیه و آله) فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً كي

ص: 201

يتردى من رؤس شواهق الجبال! فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه! تبدَّى له جبريل فقال: يامحمد إنك رسول الله حقاًفيسكن لذلك جأشه وتقرُّ نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك! فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل فقال له مثل ذلك»!

قال النووي: 3/199والعيني: 1/50: «غطه وغته وضغطه وعصره وخنقه وغمزه، كله بمعنى واحد»! راجع كتابنا: ألف سؤال وإشكال: 2/180- مسألة: 140.

3- الموقف الشرعي من رواية عائشة

1- أيهما نصدق: قول الله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ، أم قول عائشة إنه رآه في أفق مرعب وشك مريب، فاحتاج إلى نصراني ليهدئ من رعبه وشكه؟!

2- وكيف نصدق الغط والخنق، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يعرف جبرئيل ولا فهم كلامه! فعاد إلى مكة مرعوباً شاكياً إلى زوجته (علیها السلام)، فطمأنته، لكنه بقي شاكاً فأخذته إلى طبيب هوالقسيس ورقة بن نوفل وعرضته عليه، كما تأخذ المرأة زوجها إلى فوال، فطمأنها بأنه نبي فاطمأنت!

لكن الوحي انقطع عنه فعاد اليه شكه وإحباطه، فقرر أن ينتحر، وذهب مراراً لينفذ قراره من فوق الجبل! لكن جبرئيل جاءه من بعيد، ومنعه من الإنتحار، لكنه عاود محاولات الإنتحار مراراً!

فأين هذا من قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أدعو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أنا وَمَنِ اتَّبَعَنِي. وقوله تعالى: إِنِّي لايَخَافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ. وما هذا الرعب، والشك، وقرار الإنتحار!

3 - بشرت الأنبياء (علیهم السلام) بنبينا (صلی الله علیه و آله)، وتواترت الأخبار بأن اليهود والنصارى وأسرته عرفوا نبوته! فكيف لم يعرفها هو حتى بعد نزول الوحي عليه؟!

4- روينا «الكافي 5/374» عن الإمام الصادق (علیه السلام) أن أباطالب تكلم في خِطبة خديجة (علیهما السلام) ولما أراد ورقة أن يتكلم: «تلجلج وقَصُرعن جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر»! فأين شخصية ورقة الضعيفة مما زعمته له رواية عائشة.

ص: 202

5- ألا يكفي لرد هذه الرواية ما صححوه من أن النبي (صلی الله علیه و آله) عبَدَ الله مع عليٍّ سبع سنين قبل بعثته، وأنه كان نبياً وآدم بين الروح والجسد! مجمع الزوائد: 8/223، أحمد: 4/66 و 5/59 و379،الحاكم: 2/609، ابن شيبة: 8/438، الطبراني الأوسط: 4/2727، الكبير: 12/73، آحاد الضحاك: 5/347، الدر المنثور: 5/184، العجلوني: 2/129 و132، الأحوذي: 10/56،المغني: 3/124 فتح القدير: 4/267 والباقلاني/58.

6- الوضع المنطقي لجبرئيل (علیه السلام) لما نزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله): أن يسلم عليه ويعرفه أنه رسول ربه عزوجل إليه، وأنه اختاره رسولاً وأنه سينزِّل عليه قرآناً، ثم يشرح له مهمته. وأن يكون ذلك في جو اطمئنان ويقين وخشوع، كما نصت رواية أهل البیت (علیهم السلام)، وليس بالتعامل الخشن الذي نسبوه إلى الله تعالى، والذي يشبه أكاذيب اليهود عن عنف ربهم مع أنبيائه (علیهم السلام)! العنف الذي يشبه روايات كهَّان العرب المصابين بالعُصاب عندما يأتيهم جِنِّيُّهُم!

7- كيف يأمره جبرئيل (علیه السلام) بأن يقرأ ولا يفسر له ما يقرأ؟وهل رأيت عاقلاً يأمر أحداً بأمر لا يفهمه ولا يفسره له، بل يضربه ويخنقه إن لم يفعل؟!

-8وكل هذه الطامات في كفة، وعزم النبي (صلی الله علیه و آله) على أن ينتحر في كفة! فكيف يقبلون هذه الفرية على النبي (صلی الله علیه و آله) كقوله وحاشاه: «لا تتحدث بهذا قريش عني أبداً! فلأعمدنَّ إلى حالق من الجبل، ولأطرحن نفسي منه فلأقتلنها ولأستريحن! فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي ولا أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني فانصرفت راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها فقالت: يا أبا القاسم أين كنت،فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي». إلى آخر هذه الخرافة التي تبنتها عائشة فحيرت فيها أتباعها!

9 – كان تبنيهم لهذه الرواية سبباً لافتراء أعداء الإسلام على النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه كان يشك في نبوته، وإن القسيس ورقة بعثه نبياً، وليس الله تعالى!

ص: 203

10 - حاولوا أن ينفوا أن النبي (صلی الله علیه و آله) قرر الإنتحار، فوجدوا في حديث البخاري عبارة: «حتى حزن النبي (صلی الله علیه و آله) فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً كي يتردى» فقالوا إن قوله: فيما بلغنا، قول الزهري وليس قول عائشة! فتح الباري: 12/316.

فجعلوه في رقبة إمامهم الزهري، لينقذوا إمامتهم عائشة! لكن ابن مردويه رواه قطعة واحدة عن عائشة بدون «فيما بلغنا» كما شهد ابن حجر! ثم ذكر ابن حجر/118، روايات أخرى في أن النبي (صلی الله علیه و آله) ذهب لينتحر! راجع الطبقات: 1/196، الطبري: 2/47، تفسيره: 30/ 317، تفسير الصنعاني: 3/327 وابن كثير: 4/265.

لقد افتضحوا فنسبوا إلى نبيهم (صلی الله علیه و آله) مالايقبلون نسبته إلى أنفسهم وأئمتهم! ونسبوا إلى ربهم أنه ظالمٌ يبعث إلى نبيه بأسلوب مبهم مرعب!فتعالى عما يصفون!

وأخيراً يتضح لك خطأ قولها: «وكان يكتب الكتاب العبري فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب». والإنجيل لم يكن بالعبرية، بل بالسريانية.

4- رووا نحو ما روينا، وأعرضوا عنه لأجل عائشة!

ففي دلائل البيهقي: 2/160 عن محمد بن إسحاق، قال: «وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدق بما جاء به، ثم إن جبريل أتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين افترضت عليه الصلاة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت له عين من ماء مزن، فتوضأ جبريل ومحمد، ثم صليا ركعتين وسجدا أربع سجدات، ثم رجع النبي قد أقر الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحب من الله، فأخذ بيد خديجة حتى أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة، ثم كان هو وخديجة يصليان سراً.

قال ابن إسحاق: ثم إن علي بن أبي طالب جاء بعد ذلك بيوم فوجدهما يصليان فقال علي: ما هذا يا محمد؟فقال رسول الله: دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وكفر باللات والعزى! فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاض أمراً حتى أحدث به أباطالب. وكره

ص: 204

رسول الله أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره، فقال له: يا علي إذا لم تُسلم فاكتم، فمكث علي تلك الليلة.

ثم إن الله تبارك وتعالى أوقع في قلب علي الإسلام فأصبح غادياً إلى رسول الله حتى جاءه فقال: ماذا عرضت عليَّ يا محمد؟ فقال له رسول الله: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتكفر باللات والعزى وتبرأ من الأنداد، ففعل عليٌّ وأسلم.فمكث علي يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم علي إسلامه ولم يظهره.

وأسلم ابن حارثة، فمكثا قريباً من شهر يختلف علي إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) . وكان مما أنعم الله على علي أنه كان في حجر رسول الله قبل الإسلام». وتاريخ الذهبي: 1/135، أسد الغابة: 4/16، سيرة ابن كثير: 1/428، وسبل الهدى: 2/300.

وهذه تؤيد رواية أهل البیت (علیهم السلام)، وتبطل رواية عائشة! وروى شبيهاً بها القرطبي: 17/87، وتنوير الحوالك: 16/17 وفيه: «فرفعت رأسي فإذا جبريل صافٌّ قدميه بين السماء والأرض يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فجعلت لا أصرف بصري إلى ناحية إلا رأيته كذلك»!

لكنهم لايحبون هذه الأحاديث، لأنها تكذب العنف والغط والخنق! فقد أشربوا في قلوبهم تصديق هذه التخيلات الإسرائيلية وعُصَاب الكُهَّان!

ثم ضخموا فترة انقطاع الوحي، لتتوافق مع هذه التخيلات!

ص: 205

الفصل الثاني عشر: المرحلة الأولى دعوة بني هاشم خاصة

1- نزل خبر بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) كالصاعقة على زعماء قريش!

انتشر في مكة خبر أن محمداً أعلن نبوته، فكان كالصاعقة على زعماء قريش لأن برأيهم حركة من بني هاشم لفرض رئاستهم على قريش والعرب، وانقلابٌ على صيغة التوافق في تقسيم مناصب الشرف، وهي: رئاسة قريش، ورايتها، وسقاية الحجاج ورفادتهم! وتركزت أنظارهم على أبي طالب شيخ بني هاشم، لمعرفة موقفه، وهو صاحب شخصية قوية، وكان يومها في نحو الخامسة والسبعين،لأنه توفي قبيل الهجرة وعمره سبع وثمانون. الطبقات: 1/124.

وزاد من تخوفهم أنهم سمعوا من اليهود ومن عبدالمطلب أن نبياً سيبعث من ذريته، وكان يتوقع أن يكون حفيده محمداً، وأوصى به إلى أبي طالب وشدد عليه الوصية بحفظه وإكرامه، فرباه أبوطالب وآثره على أولاده. وقد اشتهر حب أبي طالب له، وتغنى في شعره بفضله وآياته، وشهادة بحيرا الراهب بأنه نبي.

ويبدو أن علياً (علیه السلام) أخبر أباه بأن الملاك نزل على محمد (صلی الله علیه و آله) فذهب أبوطالب إلى بيت النبي وسأله: «يا ابن أخي، آللهُ أرسلك؟ قال: نعم. قال: فأرني آية. قال: أدع لي تلك الشجرة، فدعاها فأقبلت حتى سجدت بين يديه ثم انصرفت. فقال أبوطالب: أشهد أنك صادق، يا علي صِلْ جناح ابن عمك».أمالي الصدوق/711.

ص: 206

وحرص زعماء قريش على معرفة حقيقة موقف أبي طالب، وتخوفوا لما بلغهم أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمره ربه أن يدعو عشيرته الأقربين فدعا بني هاشم، وأخبرهم أن الله بعثه اليهم خاصة ثم إلى الناس عامة، وأمره أن يتخذ منهم من يبايعه على نصرته أخاً ووزيراً ووصياً وخليفة، فاستجاب له الفتى علي (علیه السلام)، فأعلنه أخاه ووزيره وخليفته، وأمر بني هاشم بطاعته! وكان ذلك نبأ عظيماً على زعماء قريش كما وصفه الله تعالى في سورة النبأ، حيث اعتبروا أن بني هاشم أعلنوا مشروعهم في النبوة، وقرروا حماية محمد، وقد اتخذ وزيراً ووصياً له منهم.

لقد قرر زعماء قريش بالإجماع قتل محمد لأن عمله خيانة عظمى، فيجب على عمه أن يسلمه اليهم ليقتلوه!

ولم يتضمن قرارهم أن يسألوه عن دليله أو معجزته! فلا يهمهم أن يكون عنده ذلك أو لايكون! لأن مجرد ادعائه النبوة مؤامرة على بقية القبائل!

وكان قرارهم غريباً فيه جلافة البداوة وخباثة اليهود! لكن الشيطان زينه لهم فذهبوا إلى أبي طالب وطلبوا منه تسليم ابن أخيه لهم ليقتلوه!

فغضب أبوطالب وأعلن حمايته له وحذرهم إن مَسُّوا منه شعرةً! فسكتوا لأنهم يعرفون شجاعة بني هاشم، وأنهم لايُسَلِّمونهم محمداً إلا بحرب!

لكنهم لم يتراجعوا فقاموا بشن حملات افتراء وسخرية من النبي (صلی الله علیه و آله) وقرآنه ووصيه الذي اختاره، فكانوا يقولون: «هذا صفي محمد من بين أهله، ويتغامزون بعلي (علیه السلام)». «المناقب: 3/8». وأخذوا يعملون لاغتياله (صلی الله علیه و آله) ويرصدون من يستجيب لدعوته! وفي المقابل قام أبوطالب (رحمة الله) بتوحيد بني هاشم لحمايته (صلی الله علیه و آله)،وجعل حول النبي (صلی الله علیه و آله) ثلاث حلقات أمنية كما يدل حديث إسلام أبيذر (رحمة الله)، فعندما طلب اللقاء بالنبي (صلی الله علیه و آله) حقق معه أبوطالب (علیه السلام) وواعده اليوم الثاني، وفي اليوم الثاني أخذه إلى حمزة، فحقق معه وسلمه إلى جعفر (علیهما السلام)، فحقق معه جعفر وسلمه إلى علي (علیه السلام)، فحقق معه، ثم أدخله على النبي (صلی الله علیه و آله)!

ص: 207

2- استمرت العاصفة ثلاث سنين حتى أهلك الله المستهزئين

استمرت هذه المرحلة الصعبة الخطرة ثلاث سنين، حتى أزاح الله من طريق رسوله (صلی الله علیه و آله) عتاة المستهزئين في يوم واحد، وأمره أن يصدع بالدعوة.

فقد قال الإمام الباقر (علیه السلام) كمال الدين/328: «ما أجاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) أحدٌ قبل علي بن أبي طالب وخديجة (علیها السلام)، ولقد مكث رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة ثلاث سنين مختفياً خائفاً يترقب، ويخاف قومه والناس».

وفي تفسير القمي: 1/377: «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ «الحجر: 94-95» فإنها نزلت بمكة بعد أن نُبِّئ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بثلاث سنين...أنزل الله عليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ... دخل أبوطالب إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وهو يصلي وعليٌّ (علیه السلام) بجنبه وكان مع أبي طالب جعفر، فقال له أبوطالب: صِلْ جناح ابن عمك، فوقف جعفر على يسار رسول الله فبدر رسول الله من بينهما، فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يصلي وعلي وجعفر وزيد بن حارثة وخديجة يأتمون به. فلما أتى لذلك ثلاث سنين أنزل الله عليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ. والمستهزؤون برسول الله (صلی الله علیه و آله) خمسة: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن طلاطلة الخزاعي».

وفي تفسير العياشي: 2/253 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إكتتم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة سنين ليس يظهر، وعلي معه وخديجة. ثم أمره الله أن يصدع بما يؤمر فظهر رسول الله فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب».

وفي سيرة ابن إسحاق: 2/126: «ثم إن الله تعالى أمر رسوله (صلی الله علیه و آله) أن يصدع بما جاء به، وأن ينادي الناس بأمره، وأن يدعو إلى الله تعالى، وكان ربما أخفى الشئ واستسر به، إلى أن أمر بإظهاره ثلاث سنين من مبعثه».

وفي سيرة ابن هشام: 1/169: «وكان بين ما أخفى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين فيما بلغني من مبعثه، ثم قال الله تعالى له: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ».

ص: 208

وفي الإستيعاب لابن عبدالبر: 1/34: «ثم نبأه الله تعالى وهو ابن أربعين سنة، وكان أول يوم أوحى الله تعالى إليه فيه يوم الإثنين، فأسر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمره ثلاث سنين أو نحوها، ثم أمره الله تعالى بإظهار دينه والدعاء إليه، فأظهره بعد ثلاث سنين من مبعثه».

وروى الصدوق وغيره أن هذه المرحلة كانت خمس سنين، ففي كمال الدين/344، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «اكتتم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة مختفياً خائفاً خمس سنين ليس يظهر أمره، وعلي (علیه السلام) معه وخديجة، ثم أمره الله عزوجل أن يصدع بما أمر به، فظهر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأظهر أمره». والمناقب: 1/150 ونحوه غيبة الطوسي/332.

وقد يكون المعنى أن اختفاءه (صلی الله علیه و آله) انتهى بعد ثلاث وصدع بدعوته علناً، ثم استمر الخوف عليه من الإغتيال خمس سنين.

فالمجمع عليه أنه (صلی الله علیه و آله) في السنين الثلاث الأولى لم يدع غير بني هاشم. ولم أجد نصاً يذكر أنه جلس في المسجد في هذه المدة، فقد هدده عتاة المستهزئين بأنه إن دعا الناس فسيقتلونه، وأخيراً أنذروه إلى يوم معين ليعلن تراجعه عن نبوته (صلی الله علیه و آله) وإلا قتلوه، فكفاه الله شرهم وقتلهم، وأنزل عليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ!

وبسبب ما تقدم قالت بعض الأحاديث السنية والشيعية إن سنوات البعثة في مكة عشر سنوات، فاستثنت الثلاث الأولى، لأنها خاصة ببني هاشم.

ففي الكافي: 5/7 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن الله عزوجل بعث رسوله (صلی الله علیه و آله) بالإسلام إلى الناس عشر سنين، فأبوا أن يقبلوا حتى أمره بالقتال. فالخير في السيف وتحت السيف. والأمر يعود كما بدأ». يقصد ظهور المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف).

3- الإنجازات الرسولية في هذه المرحلة

1.توالى نزول القرآن، وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يتلوه على المسلمين، ويوصله إلى المشركين فيستهزئون به، وكانت بعض الآيات تنزل جواباً لهم.

2. آمن له علي وخديجة (علیهما السلام) وعمه أبوطالب وابنه جعفر وعمه حمزة ومولاه

ص: 209

زيد رضيالله عنهم، وأمره الله أن يدعو عشيرته الأقربين ويتخذ منهم وصياً، ففعل.

3. أخبرعن نبوته فشاع خبرها، واستنفرت قريش ضده، وبدأت حملتها.

4. نهض أبوطالب (علیه السلام) لنصرته، وحشد معه كل بني هاشم، وشذ منهم أبولهب، واستخفى النبي (صلی الله علیه و آله) من فراعنة قريش وشياطينهم.

5. آمن له أفراد من قبائل قريش وغفار والحلفاء والعبيد، سراً على تخوف.

6. كان للنبي (صلی الله علیه و آله) لقاءات بزعماء قريش لإقامة الحجة عليهم، لكنها قليلة.

4- معنى السرية في المرحلة الأولى للدعوة

السرية التي يضخمونها في هذه المرحلة، إنما كانت في أسماء المسلمين الجدد الذين لايستطيعون إعلان إسلامهم خوفاً من قريش، أو الذين أمرهم النبي (صلی الله علیه و آله) بإخفاء إسلامهم لمصلحة الدعوة، كأبي طالب وحمزة.

أما النبوة فلم تبق سرية لأنه خبرها انتشر من أول يوم، ومكة صغيرة: 40 ألفاً. كما أن نزول القرآن كان متواصلاً والنبي (صلی الله علیه و آله) يتلوه ويوصل آياته إلى قريش وغيرها. وقد نزلت في هذه السنوات سور عديدة.

قال ابن النديم في الفهرست/28، والزركشي في البرهان: 1/193: «أول ما نزل من القرآن بمكة: إِقْرَأ باسْمِ رَبِّكَ، ثم نون، ثم والقلم، ثم يا أيها المزمل، ثم المدثر، ثم تبت يدا أبي لهب، ثم إذا الشمس كورت، ثم سبح اسم ربك الأعلى، ثم والليل إذا يغشى، ثم والفجر، ثم والضحى، ثم ألم نشرح، ثم والعشر، ثم والعاديات، ثم إنا أعطيناك الكوثر، ثم ألهاكم التكاثر، ثم أرأيت الذي، ثم قل يا أيها الكافرون، ثم سورة الفيل، ثم الفلق، ثم الناس، ثم قل هو الله أحد، ثم والنجم إذا هوى، ثم عبس».

وردَّت بعض السور مقولات المشركين، ووصفت عاصفتهم على النبي (صلی الله علیه و آله) لما بلغهم خبر نبوته! ففي سورة القلم نقرأ قوله تعالى: فَلا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ. وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ. وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ...

وفي سورة المزمل نقرأ: وَاصْبِرْ عَلَى مَايَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً. وَذَرْنِي وَالمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ

ص: 210

وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً...

وفي سورة المدثر: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا. وَبَنِينَ شُهُودًا. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً. سَأُرْهِقْهُ صَعُودًا..

وفي سورة التكوير جواب الذين قالوا إنه (صلی الله علیه و آله) مجنون: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ. وَمَاصَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ. وَلَقَدْ رَآهُ بِالآفُقِ المُبِينِ. وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِينٍ. وَمَاهُو بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ.

وفي المرسلات جواب من سخروا من الصلاة: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ.

وفي سورة قاف جواب تكذيبهم للنبوة: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا شَئٌ عَجِيبٌ. فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ.

5- آية المستهزئين تكشف تخبط رواة السلطة وكذبهم!

اتفق المفسرون والمحدثون على أن آيات: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ. نزلت بعد ثلاث سنين من البعثة، فبدأ النبي (صلی الله علیه و آله) مرحلة جديدة هي مرحلة الإعلان والصدع بالدعوة لكل الناس، بعد أن أزال الله من طريقه العقبة الأساسية وأهلك المستهزئين الخمسة في يوم واحد!

فكل نص مبني على وجود أحد منهم بعد ذلك التاريخ خطأ أو مكذوب! وبه يظهر عوار عدد من نصوص رواة السلطة:

فمنها: روايتهم التي تتنافى مع الخطر الشديد والحيطة التي كان فيها النبي (صلی الله علیه و آله) في تلك الفترة، مثل إيمان أبي بكر وغيره، لأنه لو صح ذلك لرووا ردة فعل قريش كردة فعلها على إسلام أبيذر، وخالد بن سعيد، وعمار بن ياسر ووالديه، وخباب بن الأرت، وغيرهم ممن أسلم في تلك الفترة!

ومنها: زعمهم أن النبي (صلی الله علیه و آله) صدع بدعوته العامة من السنة الأولى، وأنه عندما أمره الله في سورة الشعراء: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ.. صعد على الصفا ونادى

ص: 211

كل قريش يا آل فلان ويا آل فلان..الخ. والصحيح أنه دعا بني هاشم فقط، وأن دعوته العامة بدأت بعد ثلاث سنين، بعد هلاك المستهزئين.

ومنها: تضخيم دار الأرقم، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يلتقي فيها بالمسلمين قبل السنة الثالثة، وقد جعلوا أحداثاً وقعت بعد السنة الثالثة في دار الأرقم، ومنها سورة عبس التي ربطوها بابن أم مكتوم مع أنها نزلت قبل إسلامه!

ومنها أن عمر جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في دار الأرقم وأعز الله به الإسلام بعد ذلته، وتكاملوا أربعين رجلاً فخرجوا يتحدون قريشاً، فخافت قريش وسكتت!

ومنها: خطأ ما رواه بخاري: 4/242 من حماية العاص بن وائل لعمرعندما أسلم لأن العاص أحد المستهزئين الستة الذين هلكوا في السنة الثالثة، وعمر أسلم في السنة السادسة بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة،كما نص عليه ابن هشام: 1/229 وغيره، قال: «كان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الحبشة». وكان هلاك المستهزئين ومنهم العاص بن وائل، قبل ذلك بسنوات!

ومنها: أن من المتفق عليه أن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى،كان أحد المستهزئين وهلك في السنة الثالثة، لكنهم رووا أنه بكى على أولاده الذين قتلوا في بدر! قال ابن هشام: 2/474: «وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة بن الأسود، وعقيل بن الأسود، والحارث بن زمعة وكان يحب أن يبكى على بنيه...الخ.». والطبري: 2/161، ابن كثير: 2/480. راجع: الصحيح: 3/171.

ومنها: تخليطهم أو كذبهم في سبب نزول السور والآيات، فتراهم يذكرون إسم أحد المستهزئين الخمسة في سورة نزلت بعد سورة الحجرمع أنه هلك عند نزولها! بل ذكروا بعضهم في معركة بدر وبعدها!

لذلك وجب أن نرد روايات أسباب النزول إلا قليلاً منها كآية: واصْدَعْ بمَا تُؤمر المتقدمة.. فقد أجمعوا على أنها نزلت في السنة الثالثة، وأن سورة صاد نزلت بعد أن صدع (صلی الله علیه و آله) بدعوته،وجاء زعماء قريش إلى أبي طالب (رحمة الله) فدعاهم إلى الإسلام!

ففي الكافي: 2/649 بسند صحيح عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «أقبل أبوجهل بن هشام

ص: 212

ومعه قوم من قريش، فدخلوا على أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك قد آذانا وآذى آلهتنا، فادعه ومره فليكف عن آلهتنا ونكف عن إلهه، قال فبعث أبوطالب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فدعاه، فلما دخل النبي (صلی الله علیه و آله) لم ير في البيت إلا مشركاً فقال: السلام على من اتبع الهدى، ثم جلس، فخبَّره أبوطالب بما جاؤوا له، فقال: أوَهَل لهم في كلمة خير لهم من هذا، يسودون بها العرب ويطؤون أعناقهم؟ فقال أبوجهل: نعم، وما هذه الكلمة؟ فقال: تقولون لا إله إلا الله. قال: فوضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا هُرَّاباً، وهم يقولون: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق! فأنزل الله تعالى في قولهم: صاد. وَالقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ..».

فالذي جاء إلى أبي طالب هو أبوجهل الذي ورث زعامة بني مخزوم بعد هلاك الوليد بن المغيرة، وبعد مجيئه نزلت سورة صاد جواباً على كلامه، فلا تصح الروايات التي تذكر أن الوليد كان حياً عند نزولها.

ومنها: خلطهم في الروايات التي تذكر أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يذهب إلى أفنية قريش ويدعوهم إلى الإسلام قبل هلاك المستهزئين، كالذي رواه الحاكم: 3/577 وأبو يعلى: 12/176 ومجمع الزوائد: 6/14 وصححه: «جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أباطالب إن ابن أخيك يأتينا في أفنيتنا وفي نادينا فيسمعنا ما يؤذينا به، فإن رأيت أن تكفه عنا فافعل...فقال له أبوطالب: يا ابن أخي والله ما علمت إن كنت لي لمطاعاً وقد جاء قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وفي ناديهم تسمعهم ما يؤذيهم، فإن رأيت أن تكف عنهم؟ فحلق ببصره إلى السماء فقال: والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار. فقال أبوطالب: والله ما كذب ابن أخي قط، إرجعوا راشدين».

فالحديث مسوق لتعذير قريش في شكايتها من النبي (صلی الله علیه و آله)، والوقت المزعوم لهذا الحديث قبل انتهاء الثلاث سنوات، وهذا لا يصح، لأنه (صلی الله علیه و آله) لم يذهب إلى نواديهم قبل ذلك أبداً، بل نشك في ذهابه اليهم بعدها، لأنه كان يدعو إلى ربه في

ص: 213

المسجد وحوله، وكان يقصد القبائل في موسم الحج، ويطلب منهم النصرة.

وأخيراً، فإن سبب جعلهم بعض هؤلاء الخمسة أحياء بعد هلاكهم أن أولادهم وأقاربهم صاروا حكاماً وشركاء في دولة «الخلافة» كعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وزمعة بن الأسود من أسد عبدالعزى، وعبدالرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري، وأقارب الحارث بن طلاطلة الخزاعي، فأراد الرواة إظهار مكانة آبائهم حتى في كفرهم، فكذبوا، ولا حافظة لكذوب!

6- تخبط الكتَّاب المعاصرين في مراحل الدعوة تبعاً لرواة السلطة

اشتهر عند الكتَّاب المعاصرين تقسيم مراحل دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) في مكة إلى المرحلة السرية، ثم مرحلة دار أبي الأرقم، ثم مراحل الإضطهاد والهجرة إلى الحبشة والمدينة. فقلدوا الحكومات التي غيبت مراحل هامة من السيرة لتحذف أدوار بني هاشم والعترة النبوية:! غيبوا المرحلة الأولى حيث بعثه الله تعالى إلى بني هاشم خاصة، مع أنهم أنفسهم رووا قوله (صلی الله علیه و آله): «يا بني عبدالمطلب إني بعثت إليكم خاصة، وإلى الناس عامة». تفسير ابن كثير: 3/363 وتفسير مقاتل: 2/466.

وروينا: «مكث رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة بعد ما جاءه الوحي عن الله تبارك وتعالى ثلاثة عشر سنة، منها ثلاث سنين مختفياً خائفاً لايظهر حتى أمره الله أن يصدع بما أمر به، فأظهر حينئذ الدعوة».غيبة الطوسي/333.

كما أهمل كتَّاب السيرة مرحلة ما قبل محاصرة النبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم في شعب أبي طالب وما بعدها، وكان الحصار في السنة الخامسة، واستمر بضع سنوات!

كما أهملوا مرحلتين تقدمتا في حديث النبي (صلی الله علیه و آله) من مصادرهم: «صَلَّتْ الملائكة عليَّ وعلى عليٍّ سبع سنين، وذلك أنه لم يصل معي أحد قبله».

وقول علي (علیه السلام): «صليت مع النبي (صلی الله علیه و آله) قبل الناس ثلاث سنين، وسبع سنين».

وكذا مرحلة ما قبل الإسراء والمعراج في السنة الثانية للبعثة، وما بعدها.

ومرحلة ما قبل وفاة أبي طالب (رحمة الله) وما بعدها، حيث فقد النبي (صلی الله علیه و آله) ناصره وحاميه

ص: 214

القوي، اضطر أن يذهب إلى الطائف ليطلب من ثقيف حمايته من قريش، ثم كان أحياناً يختبئ مع علي (علیه السلام) من قريش في الحجون.

ومرحلة ما قبل بيعة الأنصار سراً للنبي (صلی الله علیه و آله) في موسم الحج، وما بعدها...

وكذا مرحلة الثلاث سنين التي زعموا أن الله بعث فيها إسرافيل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) يعلمه ويوجهه، ولم ينزل عليه قرآناً حتى أنزله مع جبرئيل (علیه السلام) .

أهملوا كل ذلك وغيبوه، وركزوا على مرحلة السرية بمفهوم خاطئ، ومرحلة دار أبي الأرقم بتضخيم خيالي! كما كذبوا في انتعاش النبي (صلی الله علیه و آله) بإسلام أبي بكر وإنفاقه عليه عند فقره! وقوة الإسلام بعمر وإعزازه بعد ذلته! مع أن راوياً واحداً لم يرو أن أبابكر أوصل صاع طحين إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في سنوات الحصار يوم وصل بهم الأمر إلى أن أكلوا ورق الشجر من الجوع، ومص أطفالهم الرمل من العطش! ولا رووا أين كان عمر عند تهديد قريش للنبي (صلی الله علیه و آله) واستنفارها بعد أبي طالب لقتله، حتى اضطر لطلب حماية ثقيف، واضطر لأن يختبئ في الحجون!

إن إهمالهم لهذه المراحل، خاصة مرحلة دعوة الأقربين، واختراعهم أدواراً افترضوها لزيد وعمرو.. يضع يدك على غرضهم من التحريف، ويجعلك تشك فيما يروونه من أدوار مناقبية لمن صاروا حكاماً فيما بعد، ويجعلك تدقق في النصوص لتكشف الأدوار التي غيبوها لعلي وحمزة وجعفر وغيرهم من بني هاشم، ومعهم كبار الصحابة السابقون الأولون: أبوذر، وعمار، والمقداد، وأبو سلمة، وخالد بن سعيد، وخباب، ومصعب، وسلمان، رضوان الله عليهم!

ص: 215

الفصل الثالث عشر: دعوة النبی (صلی الله علیه و آله) عشيرته واستنفار قريش ضدهم

1- بعد بعثته أمره الله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ

بعد بعثت مباشرة أمره الله بدعوة بني هاشم، وأنزل عليه من سورة الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ الأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُبِينٍ... وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ. ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ. وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ أَلشَّيَاطِينُ. وَمَا يَنْبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ. إِنَّهُمْ عَنِ أَلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ. فَلاتَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ. وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ وَأَخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ أَتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِئٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى العَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ.

فجمعهم النبي (صلی الله علیه و آله) وكانوا أربعين رجلاً، ودعاهم إلى الإسلام واختار منهم وزيره ووصيه وخليفته،كما أمره ربه. وفي هذه المدة دوَّى خبر البعثة في أندية قريش حتى جاءهم خبر اجتماع بني هاشم وأن محمداً (صلی الله علیه و آله) طلب منهم وزيراً يبايعه على نصرته، فاستجاب له ابن عمه علي فاتخذه وزيراً ووصياً وخليفة! فرأوا ذلك نبأً عظيماً يؤكد أن نبوة بني هاشم مشروع هاشمي لحكم العرب، فقرروا بالإجماع العمل لقتل النبي (صلی الله علیه و آله)!

وقد عبَّر صاحب الصحيح: 3/59 بتعبير يوهم أن دعوة العشيرة الأقربين كان في المرحلة العلنية، قال: «بعد السنوات الثلاث الأولى بدأت مرحلة جديدة وخطيرة وصعبة هي مرحلة الدعوة العلنية إلى الله تعالى. وقد بدأت أولاً على نطاق ضيق نسبياً حيث نزل عليه

ص: 216

قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ». انتهى.

لكن آية إنذار العشيرة نزلت في أول البعثة، وأثارهم اختياره وصياً منهم! وكفى بحديث إسلام أبيذر دليلاً على خطورة السنوات الأولى على حياته (صلی الله علیه و آله) . أما آية المستهزئين فنزلت بعد ثلاث سنين.

2- غَيَّبَتْ الحكومات حديث الدار

وقد روته المصادر الأصلية، وصححه علماء الجرح والتعديل، وألفوا فيه كتباً وفصولاً، وعرف بإسم حديث الدار، وحديث الوصية، لكن أتباع الحكومات أفتوا بأنه: يجب إنكاره، ومنعه من التداول تحت طائلة العقوبة القصوى!

قال المفيد (رحمة الله) في الإرشاد: 1/49: «أجمع على صحته نُقاد الآثار، حين جمع رسول الله (صلی الله علیه و آله) بني عبدالمطلب في دار أبي طالب وهم أربعون رجلاً يومئذ، يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً فيما ذكره الرواة، وأمر أن يُصنع لهم فخذ شاة مع مُد من البُر، ويُعَدَّ لهم صاعٌ من اللبن، وقد كان الرجل منهم معروفاً بأكل الجذعة «الذبيحة» في مقام واحد، وشرب الفرق «السطل» من الشراب في ذلك المقام.

وأراد (صلی الله علیه و آله) بإعداد قليل الطعام والشراب لجماعتهم إظهارالآية لهم في شبعهم وريهم مما كان لا يشبع الواحد منهم ولا يرويه. ثم أمر بتقديمه لهم فأكلت الجماعة كلها من ذلك اليسير حتى تملَّوا منه، فلم يبن ما أكلوه منه وشربوه فيه فبهرهم بذلك، وبين لهم آية نبوته وعلامة صدقه ببرهان الله تعالى فيه.

ثم قال لهم بعد أن شبعوا من الطعام ورووا من الشراب: يا بني عبدالمطلب، إن الله بعثني إلى الخلق كافة، وبعثني إليكم خاصة، فقال عزوجل: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ، وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم، وتدخلون بهما الجنة، وتنجون بهما من النار، شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني عليه وعلى القيام به، يكن أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي

ص: 217

من بعدي. فلم يجب أحد منهم، فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): فقمت بين يديه من بينهم وأنا إذ ذاك أصغرهم سناً وأحمشهم ساقاً وأرمصهم عيناً، فقلت: أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر. فقال: أجلس، ثم أعاد القول على القوم ثانية فصمتوا، وقمت فقلت مثل مقالتي الأولى، فقال: أجلس. ثم أعاد على القوم مقالته ثالثةً فلم ينطق أحد منهم بحرف، فقلت: أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر، فقال: أجلس، فأنت أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي. فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب: يا أباطالب، ليهنك اليوم إن دخلت في دين ابن أخيك، فقد جعل ابنك أميراً عليك!

وهذه منقبة جليلة اختص بها أميرالمؤمنين (علیه السلام) ولم يشركه فيها أحد من المهاجرين الأولين ولا الأنصار، ولا أحد من أهل الإسلام، وليس لغيره عِدْلٌ لها من الفضل ولامقارب على حال».

وفي رواية روضة الواعظين/52: «قال لهم: إني بعثت إلى الأسود والأبيض والأحمر، وإن الله عزوجل أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وإني لا أملك لكم من الله حظاً إلا أن تقولوا: لا إله إلا الله. فقال أبولهب لعنه الله: لهذا دعوتنا؟!

ثم تفرقوا عنه، فأنزل الله تعالى: تبَّتْ يَدَا أبي لهبَ وتَبْ..الخ.ثم دعاهم دفعة ثانية فأطعمهم وسقاهم كالدفعة الأولى، ثم قال لهم: يا بني عبدالمطلب: أطيعوني تكونوا ملوك الأرض وحكامها، وما بعث الله نبياً إلا جعل له وصياً وأخاً ووزيراً فأيكم يكون أخي ووزيري ووصي ووارثي وقاضي ديني؟ فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام) وهو أصغر القوم سناً: أنا يا رسول الله، فلذلك كان وصيه.

ورويَ أنه جمعهم خمسة وأربعون رجلاً منهم أبولهب، فظن أبولهب أنه يريد أن ينزع عما دعاهم إليه فقام إليه، فقال له: يا محمد، هؤلاء عمومتك وبنوعمك قد اجتمعوا فتكلم واعلم أن قومك ليست لهم بالعرب طاقة، فقام (صلی الله علیه و آله) خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله.والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم حقاً خاصة والى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن كما تعلمون، ولتجزون بالإحسان إحساناً، وبالسوء سوءً، وإنها الجنة أبداً

ص: 218

والنار أبداً. إنكم أول من أُنذرتم».

فقد طلب منهم أن يؤمنوا به، وأن يبايعه رجل على نصرته ويتفرغ معه للدعوة، فيتخذه وزيراً وأخاً ووصياً وخليفةً. وكان أبوطالب وحمزة يومها مسلمين لكنهما سكتا لأن النبي (صلی الله علیه و آله) أمرهما أن يكتما إيمانهما، فلو أعلنا لأعلنت قريش الحرب عليهم.

أما جعفر فكان مسلماً، ولعله سكت ليجيب علي (علیه السلام) لأنه يعلم ميل النبي (صلی الله علیه و آله) اليه، فلما أعلن عليٌّ قبوله أعلنه النبي (صلی الله علیه و آله) وزيراً وخليفة، فأخبربذلك أنه

يعيش بعده!

لكن المخالفين للنبي في أهل بيته، لا يحبون رؤية وجه الحديث ولا سماع صوته!

لأنه نصٌّ على أن النبي (صلی الله علیه و آله) اتخذ علياً (علیه السلام) بأمر ربه وصياً وخليفة!وهو ينقض ما بنوا عليه أمرهم بعد وفاته من أنه لم يوص إلى أحد وتَرَكَ الأمر لهم!

لذا منعوا رواية هذا حديث الدار أو حرفوه،كالطبري حيث رواه في تاريخه: 2/217 بنص المفيد المتقدم، ثم كتمه في تفسيره: 19/148 فقال: «فأيكم يؤازرني على هذا الأمرعلى أن يكون أخي وكذا وكذا! قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً، وأخمشهم ساقاً: أنا يا نبي الله أكون وزيرك. فأخذ برقبتي، ثم قال: إن هذا أخي وكذا وكذا، فاسمعوا له وأطيعوا، قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع»!

وتبعه ابن كثير في تفسيره: 3/364 والنهاية: 3/53 فلم ينقل من تاريخ الطبري كما هي عادته، واختار تفسيره لأن الحديث فيه محرف!

أما ابن تيمية فقال في منهاج السنة/299: «فإن هذا الحديث ليس في شئ من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل: لا في الصحاح ولا في المسانيد. والسنن والمغازي والتفسير التي يذكر فيها الإسناد الذي يحتج به، وإذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل فيها الصحيح والضعيف، مثل تفسيرالثعلبي والواحدي والبغوي، بل وابن جرير وابن أبي حاتم، لم يكن مجرد رواية واحد

ص: 219

من هؤلاء دليلاً على صحته باتفاق أهل العلم، فإنه إذا عرف أن تلك المنقولات فيها صحيح وضعيف، فلا بد من بيان أن هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف. وهذا الحديث غايته أن يوجد في بعض كتب التفسير التي فيها الغث والسمين، وفيها أحاديث كثيرة موضوعة مكذوبة».

لكن ابن تيمية معروف بأنه ينفي الواضحات ويرد الأحاديث الصحيحة، ويكفي في هذا الحديث أنه رواه عدد وفير من أئمة الحديث مثل: ابن إسحاق، والنسائي، والبزار، وسعيد بن منصور، والطبراني في الأوسط، والحاكم في المستدرك، وابن حنبل، وابن مردويه، وأبي حاتم، والطحاوي، وأبي نعيم، والبغوي، والمقدسي، وابن عساكر، والبيهقي في الدلائل..الخ.

وقد أشكل بعضهم بوجود الراوي أبي مريم الأنصاري فيه، وهوعن عبدالغفار بن القاسم، وهو شيخ شعبة بن الحجاج الذي يلقبونه بأميرالمؤمنين في الحديث وكان يوثقه ويمدحه.

وأشكل بعضهم بربيعة بن ناجذ الأزدي في طريق له، لكن وثقه الألباني في صحيحته: 4/582. راجع تناقضات الألباني: 2/212 وحديث الدار للميلاني والصحيح: 3/158.

وأما محمد حسنين هيكل فأورده سليماً في كتابه: حياة محمد، في الطبعة الأولى في صفحة 104، ثم حرفه في الطبعة الثانية صفحة 139، لقاء شراء الوهابية ألف نسخة من كتابه بخمس مائة جنيه! راجع:فلسفة التوحيد والولاية/179للشيخ مغنية.

3- خلافة علي (علیه السلام) كانت محسومة من أول البعثة

وقد اتضح ذلك من آية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ، ومن حديث الدار.

وكانت محسومة من يوم كان النبي (صلی الله علیه و آله) يعرض نفسه على قبائل العرب، ويطلب منهم أن يحموه ليبلغ رسالة ربه، فيطلبون منه أن تكون لهم خلافته، فيجيبهم إن الأمر لله وقد اختار له أهلاً، وعليهم أن لا ينازعوا الأمر أهله!

قال ابن هشام: 2/289: «أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عزوجل،

ص: 220

وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء. قال فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك! فأبوا عليه».

وكانت الخلافة محسومة بعشرات الأحاديث النبوية، التي صرح فيها بمكانة علي (علیه السلام) وأوصى به الأمة بعده.

وكانت محسومة برفعه بيده في حجة الوداع وقوله: من كنت مولاه فعلي مولاه!

وكانت محسومة بأعماله وأقواله العديدة، في مرض وفاته. لكن قريشاً لا تريد أن تَقنع، ثم أتباعها الذين عاندوا مثلها، أو أحسنوا فيها الظن.

4- النبأ العظيم وصية محمد (صلی الله علیه و آله) لابن عمه

اتفق الرواة على أن سورة النبأ نزلت في الثلاث سنوات الأولى، ويؤيد ذلك أنها لاتتضمن إلّا عن التساؤل عن النبأ العظيم الذي حيرهم! قال تعالى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ.عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ. كَلا سَيَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ. أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَادًا. وَالجِبَالَ أَوْتَادًا. وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً. وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا.. الخ. «النبأ: 1-9» فقد كانت البعثة عند نزولها في أولها، وكان زعماء قريش يتساءلون عن النبأ العظيم، وهو عندهم أن بني هاشم انشقوا على قريش، وادعى ابنهم النبوة واختار ابن عمه خليفةً له، ولم يحسب لهم حساباً، وكأن غير بني هاشم لا وجود لهم!

فزعماء بطون قريش لايهمهم مضمون دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) ولامعجزاته، لأنهم لايفهمون من النبوة إلا أنها انشقاق بني هاشم على قريش!

كما أنهم حساسون فيمن يستخلفه للنبوة، هل هو من بني هاشم أو من غيرهم؟ وقد أرادوا التأكد، فكلفوا أبا سفيان بأن يستطلع الأمر، كما روى في المناقب 2/276 عن تفسيرالقطان، بسند صحيح عندهم، عن وكيع، عن سفيان،

ص: 221

عن السدي، عن عبد خير، عن علي (علیه السلام) قال: «أقبل صخر بن حرب حتى جلس إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد هذا الأمر بعدك لنا أم لِمَنْ؟ قال: يا صخر، الأمر بعدي لمن هو بمنزلة هارون من موسى! قال: فأنزل الله تعالى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ.الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ. منهم المصدق بولايته وخلافته ومنهم المكذب بهما! ثم قال: كَلَّا. وردَّ عليهم: سَيَعْلَمُون: خلافته بعدك أنها حق. ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُون: يقول: يعرفون ولايته وخلافته إذ يُسألون عنها في قبورهم فلايبقى ميت في شرق ولا غرب ولا في بر ولا في بحر إلا ومنكر ونكير يسألانه عن الولاية لأميرالمؤمنين بعد الموت يقولان للميت: من ربك، وما دينك، ومن نبيك، ومن إمامك؟»!

وفي الكافي: 1/207 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال له الثمالي: «جعلت فداك إن الشيعة يسألونك عن تفسير هذه الآية: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ. قال فقال: هي في أميرالمؤمنين صلوات الله عليه، كان أميرالمؤمنين يقول: ما لله عزوجل آيةٌ هي أكبر مني، ولا لله من نبأٌ أعظم مني».

وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 1/9: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): يا علي أنت حجة الله، وأنت باب الله، وأنت الطريق إلى الله، وأنت النبأ العظيم، وأنت الصراط المستقيم».

وفي المناقب: 2/277: «قال السوسي:

إذا نادت صوارمه سيوفاً *** فليس لها سوى نعمٍ جواب

طعام سيوفه مهج الأعادي *** وفيض دم الرقاب لها شراب

وبين سنانه والدرع صلحٌ *** وبين البيض والبيض اصطحاب

هو النبأ العظيم وفلك نوح *** وباب الله وانقطع الخطاب

وفي المزار للمفيد/78: «السلام عليك يا سيد الوصيين، السلام عليك يا حجة الله على الخلق أجمعين، السلام عليك أيها النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون وعنه مسؤولون». وفي عيون المعجزات/136: «من ألقابه (علیه السلام): النبأ العظيم».

وورد عن أهل البیت (علیهم السلام) أن معنى: كَلا سَيَعْلَمُونَ. أنهم سيعلمون عند ظهور الإمام المهدي (علیه السلام)، ثم يعلمون يوم القيامة أن الإسلام حق بإمامة العترة:.

ص: 222

راجع: معجم أحاديث الإمام المهدي (علیه السلام): 5/377 وتفسير القمي: 2/401.

أقول: هذا هو التفسير الصحيح للنبأ العظيم، وهذا الذي أرَّق القرشيين وتساءلوا عنه واختلفوا فيه، وتداولوا الموقف منه. وليس النبأ العظيم الآخرة، كما زعم بعضهم فإن لسان حال المشركين: فليقل محمد إنه يوجد خمسون آخرة! ولا هو القرآن، فلينزل عليه خمسون قرآناً! ولا هو سب أصنامهم، فإنما هي أحجار نصبوها، وهم مستعدون أن يبيعوها بثمن جيد!

بل ليس النبأ العظيم النبوة بنفسها، فهم مستعدون لأن «يقبلوا» النبوة على صعوبتها عليهم، لكن بشرط أن يعطيهم القيادة بعده!

أما قيادة بني هاشم بعده، فهي الكفر العظيم والنبأ العظيم!

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «النَّبَأ العَظِيم: الولاية».الكافي: 1/418.

وقد فسرأتباع الخلافة النبأ العظيم بالقيامة أو القرآن، بدون مستند إلا أقوال مفسري الدولة الأموية! فقال مجاهد هو القيامة وروي عن قتادة، وقال قتادة هو القرآن، وروي عن ابن زيد، والحسن البصري!«عبدالرزاق: 3/342 والطبري: 30/4». فتراهم أبعدوا تساؤل قريش واختلافهم عن أحداث البعثة!

ونلاحظ أنهم رووا ربطها بالبعثة، لكنهم أعرضوا عنها! قال الطبري: 30/3: «عن الحسن قال: لما بعث النبي جعلوا يتساءلون بينهم فأنزل الله: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ. عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ، يعني الخبر العظيم»!

والعجيب أن بعض مفسرينا ترددوا بين التفسيرين! قال في جوامع الجامع: 3/710: «وهو نبأ يوم القيامة والبعث، أو أمر الرسالة ولوازمها».

ووافق بعضهم مفسري الحكومات، ففي الميزان: 17/223 النبأ العظيم في سورة صاد بالقرآن، قال: «وهو أوفق بسياق الآيات السابقة المرتبطة بأمر القرآن» ثم فسره في سورة النبأ: 20/163 بالقيامة وقال: «في بعض الأخبار أن النبأ العظيم علي (علیه السلام)

وهو من البطن».

وتبعه صاحب تفسير الأمثل: 14/555 و 19/317 وعقد عنواناً: «الولاية والنبأ

ص: 223

العظيم» ذكر فيه أن تفسير النبأ العظيم بالولاية من الباطن، وأورد بعض رواياته وحاول أن يجمع بينه وبين تفسير النبأ العظيم بالمعاد!

وقد فاتهم أن الذي كان يؤرق زعماء قريش ويتساءلون عنه إنما هو نبأ بعثة النبي واتخاذه وصياً من بني هاشم، فهذا هو الظاهر الأنسب بالسياق، وليس من الباطن! أما القرآن والقيامة وكل عقائد الإسلام، فكانت أقل وقعاً عليهم من النبوة والوصاية، فكيف تصير ظاهراً، وتصير النبوة والإمامة بعدها باطناً.

بل كيف تكون أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) الصريحة المستفيضة تفسيراً بالباطن؟!

ص: 224

الفصل الرابع عشر: أبوطالب (علیه السلام) يوحد بني هاشم لحماية النبی (صلی الله علیه و آله)

1- أبوطالب يقف في وجه قريش بقوة

قال الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي 1/449»: «إن مَثَلَ أبي طالب مثلُ أصحاب الكهف، أسرُّوا الإيمان وأظهروا الشرك، فآتاهم الله أجرهم مرتين. قيل له: إنهم يزعمون أن أباطالب كان كافراً؟ فقال: كذبوا كيف يكون كافراً وهو يقول:

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً *** نبياً كموسى خُطَّ في أول الكتب»!

أقول: تواترت أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) بإسلام أبي طالب رضيالله عنه، وشعره صريح بإسلامه، وقد صنف العلماء في إيمانه رسائل وكتباً مفردة. وتقدم أنه كان يؤمن بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله) قبل بعثته وينتظر ذلك، وعندما بعثه الله تعالى آمن به، وواجه عاصفة قريش ضده، فقد جاء زعماء قريش اليه يطلبون منه أن يتراجع محمد (صلی الله علیه و آله) عن نبوته، أو يسلمه اليهم ليقتلوه!

فردهم أبوطالب وهددهم، وأقنع بني هاشم بحماية النبي (صلی الله علیه و آله) من قريش، مستفيداً من نفوذه وشجاعة بني هاشم ومجدهم، وقد استخدم شاعريته في بعث حميتهم، ولعل أول شعر قاله في ذلك:

«حتى متى نحن على فترةٍ *** يا هاشماً والقومُ في جَحْفَلِ

تدعونَ بالخيل على رقبة *** منَّا لدى خوفٍ وفي معزل

ص: 225

كالحرة السوداء تغلو بها *** سرعانها في سبسبٍ مَجهل

عليهم الترك على رعلةٍ *** مثل القطا الساري للمنهل

ياقوم ذودوا عن جماهيركم *** بكل مفضال على مسبل

حديد خمس لهزٌ خده *** مآرثُ الأفضل فالأفضل

عريض ستٍّ لهبٌ خصرُهُ *** يصان بالتذليق في مجدل

فکم قد شهدت الحرب في فتية *** عند الوغى في عَثْيَر القسطل

لا متنحينَ إذا جئتهم *** وفي هياج الحرب كالأشبل

فلما استجاب لأبي طالب بنو هاشم وبنو المطلب، وثق بأمره في نصرة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وجهر في مقاومة بطون قريش، وقال:

منعنا الرسول رسول المليكْ *** ببيض تلألا كلمع البروقْ

بضرب يذيب بدون النهاب *** حذار الوتائر والخنفقيق

أذب وأحمي رسول المليك *** حماية عم عليه شفيق

وما إن أدب لأعدائه *** دبيب البكار حذار الفنيق

ولكن أزير لهم سامياً *** كما زار ليث بغيل مضيق

ولما رأى من قومه ما سره من حدبهم معه، جعل يمدحهم ويذكر قديمهم، ويذكر فضل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيهم ليشتد لهم رأيهم فيه، فقال:

إذا اجتمعت يوماً قريشٌ لمفخر *** فعبدمنافٍ سِرُّها وصَمِيمُها

وإن حصلت أشرافُ عبدمنافها *** ففي هاشمٍ أشرافُها وقديمُها

وإن فخرت يوماً فإن محمداً *** هو المصطفى من سرها وكريمها

تداعت قريش غثُّها وسمينُها *** علينا فلم تظفر وطاشت حلومها

وكنّا قديماً لا نقرّ ظلامة *** إذا ما ثنوا صَعر الخدود نقيمها

ونحمي حماها كل يومِ كريهة *** ونضرب عن أحجارها من يرومها

ص: 226

المناقب والمثالب للقاضي النعمان المغربي/86، سيرة ابن إسحاق: 2/129وغيره.

2- وشذ أبولهب فحاول أبوطالب تحريك شهامته فقال:

اشارة

«عجبت لحلمٍ ياابن شيبةحادثٍ *** وأحلام أقوامٍ لديك سخافِ

يقولون شايعْ من أراد محمداً *** بسوء وقم في أمره بخلاف

أصاميم إمَّا حاسدٌ ذو خيانة *** وإمّا قريب منك غير مُصاف

فلا تتركن الدهر منه ذمامه *** وأنت امرؤٌ من خير عبدمناف

ولا تتركنه ما حييت وأطعمن *** وكن رجلاً ذا نجدة وعفاف

تذود العدى من ذروة هاشمية *** ألا فهمُ في الناس خير إلاف

فإن له قربى لديك قريبة *** وليس بذي حلف ولا بمضاف

ولكنه من هاشم من صميمها *** إلى أبحر فوق البحور طواف

وزاحم جميع الناس عنه وكن له *** وزيراً على الأعداء غير مخاف

فإن غضبت منه قريش فقل لها *** بني عمنا هل قومكم بضعاف

فما بالنا تعشون منا ظلامة *** وما بال أرحام هناك جوافي

وما قومنا بالقوم يخشون ظلمنا *** ولا نحن فيما ساءهم بخفاف

ولكننا أهل الحفائظ والنهى *** وعز ببطحاء الحطائم واف»

ابن إسحاق: 4/189.

لكن أبا لهب ساء توفيقه فانضم إلى أعداء النبي (صلی الله علیه و آله)، فذمه أبوطالب!

قال ابن إسحاق: 2/131: «أقبل أبوطالب على أبي لهب حين ظافر عليه قومه ونصب العداوة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) مع من نصب له، وكان أبولهب للخزاعية، وكان أبوطالب وعبدالله أبو رسول الله والزبير لفاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، فغمزه أبوطالب بأم له يقال لها سماحيج، وأغلظ له في القول:

مستعرضُ الأقوام يخبرْهم *** عذري وما أن جئت من عذر

ص: 227

فاجعل فلانة وابنها عوضاً *** لكرائم الأكفاء والصهر

واسمع نوادرمن حديث صادق *** تهوين مثل جنادل الصخر

إنا بنو أم الزبير وفحلها *** حملت بنا للطيب والطُّهر

حرَّمت منا صاحباً ومؤازراً *** وأخاً على السراء والضر»

«ثم قال أبوطالب في شعر قاله حين أجمع لذلك من نصرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) والدفاع عنه، على ما كان من عداوة قومه وفراقهم له:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوَسَّدَ في التراب دفينا

فاجهد لأمرك ما عليك غضاضة *** أبشر وقرَّ بذاك منك عيونا

ودعوتني وزعمت أنك ناصح *** فلقد صدقت وكنت ثمَّ أمينا

وعرضت ديناً قد علمت بأنه *** من خير أديان البرية دينا

لولا الملامةَ أو حذاري سبةً *** لوجدتني سمحاً بذاك مبينا

فلما قالت قريش لقد سفه أحلامنا وعاب ديننا وسب آباءنا، فوالله لا نُقِرُّ بهذا أبداً! وقام أبوطالب دون رسول الله وكان أحب الناس إليه، فشمر في شأنه ونادى قومه قال قصيدة يعوِّر فيها منهم. ويقصد لاميته. ابن إسحاق: 2/136.

أبولهب يحاول اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله)

«قالت قريش لأبي لهب: إن أباطالب هو الحائل بيننا وبين محمد، ولو قتلته لم ينكر أبوطالب، وأنت برئ من دمه ونحن نؤدي الدية وتسود قومك، قال: فإني أكفيكموه، فنزل أبولهب إليه وتسلقت امرأته الحائط حتى وقفت على رسول الله فصاح به أبولهب فلم يلتفت إليه وكانا لا ينقلان قدماً ولا يقدران على شئ حتى انفجر الصبح وفرغ النبي من الصلاة! فقال أبولهب: يا محمد أطلقنا، قال: لا أطلق عنكما أو تضمنا لي أنكما لا تؤذياني، قالا: قد فعلنا، فدعا ربه فرجعا». المناقب لابن شهر آشوب: 1/115.

ص: 228

هلك أبولهب بعد هزيمة قريش في بدر

قال أبو رافع: «أقبل أبولهب بعد بدر يجر رجليه، فقال الناس هذا أبوسفيان بن حرب قد قدم، فاجتمع عليه الناس فقال له أبولهب: هلم إلي يا ابن أخي فعندك لعمري الخبر، فجاء حتى جلس بين يديه فقال له: يا ابن أخي خبرني خبر الناس قال: نعم والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يضعون السلاح فينا حيث شاؤوا! ووالله مع ذلك ما لمت الناس لقيَنا رجالٌ بيضٌ على خيل بلق لا والله ما تليق شيئاً يقول ما تبقي شيئاً..

فوالله ما مكث إلا سبعاً حتى مات، ولقد تركه إبناه في بيته ثلاثاً ما كيد فناؤه حتى أنتن، وكانت قريش تتقي هذه القرحة يعني العدسة كما تتقي الطاعون، حتى قال لهما رجل من قريش: ويحكما ألا تستحيان إن أباكما في بيته قد أنتن لا تدفنانه! فقالا: إنا نخشی عدوى هذه القرحة! فقال انطلقا فأنا أعينكما عليه، فوالله ما غسلوه إلا قذفاً بالماء عليه من بعيد ما يدنون منه، ثم إنهم احتملوه إلى أعلى مكة فأسندوه إلى جدار ثم رضموا عليه الحجارة»! تاريخ دمشق:67/171.

3- عرضوا على أبي طالب أن يأخذ شاباً بدل النبي (صلی الله علیه و آله)!

قال ابن إسحاق: 2/133: «ثم إن قريشاً حين عرفت أن أباطالب أبى خذلان رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإسلامه، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعدواتهم، مشوا اليه ومعهم عمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له فيما بلغنا: يا أباطالب قد جئناك بفتى قريش عمارة بن الوليد، جمالاً وشباباً ونهادة، فهو لك نصره وعقله، فاتخذه ولداً لا تنازع فيه، وخل بيننا وبين ابن أخيك، هذا الذي فارق دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومه وسفه أحلامهم، فإنما رجل كرجل، لنقتله، فإن ذلك أجمع للعشيرة وأفضل في عواقب الأمور مغبة. فقال لهم أبوطالب: والله ما أنصفتموني! تعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابن أخي تقتلونه! هذا والله لا يكون أبداً، أفلا تعلمون أن الناقة إذا فقدت ولدها لم تحن إلى غيره!

ص: 229

فقال له المطعم بن عدي بن نوفل بن عبدمناف: لقد أنصفك قومك يا أباطالب، وما أراك تريد أن تقبل ذلك منهم! فقال أبوطالب للمطعم بن عدي: والله ما أنصفتموني، ولكنك قد أجمعت على خذلاني ومظاهرة القوم عليَّ، فاصنع ما بدا لك، أو كما قال أبوطالب!

فحقب الأمر عند ذلك وجمعت للحرب، وتنادى القوم ونادى بعضهم بعضاً فقال أبوطالب عند ذلك، وإنه يعرض بالمطعم ويعم من خذله من بني عبدمناف، ومن عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه فيما طلبوا منه:

ألا قل لعمرو والوليد ومطعم *** ألا ليت حظي من حياطتكم بكر

من الخور حبحابٌ كثير رغاؤه *** يرش على الساقين من بوله قطر

تخلف خلف الورد ليس بلاحقٍ *** إذا ما على الفيفاء تحسبه وبر

أرى أخوينا من أبينا وأمنا *** إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر

يلي لهما أمر ولكن تجرجما *** كما جرجمت من رأس ذي العلق الصخر

هما أغمزا للقوم في أخويهما *** وقد أصبحا منهم أكفهما صفر

أخص خصوصاً عبد شمس ونوفلاً *** هما نبذانا مثلما نبذ الجمر

فأقسمت لا ينفك منهم مجاور *** يجاورنا ما دام من نسلنا شفر

هما اشتركا في المجد من لا أخاله *** من الناس إلا أن يرس له ذكر

وليداً أبوه كان عبداً لجدنا *** إلى علجة زرقاء جاش بها البحر

وتيمٌ ومخزومٌ وزهرةُ منهمُ *** وكانوا لنا مولى إذا ابتغيَ النصر

فقد سفهت أحلامهم وعقولهم *** وكانوا كجفر شرما جهلت جفر».

ورواها ابن هشام: 1/173 وقال: «تركنا منها بيتين أقذع فيهما». والمناقب والمثالب للقاضي المغربي/87 . وذكر في الغدير: 7/361 الأبيات الثلاثة التي حذفها ابن هشام:

وما ذاك إلا سؤدد خصنا به *** إلهُ العباد واصطفانا له الفخر

رجال تمالوا حاسدين وبغضةً *** لأهل العلى فبينهم أبداً وتر

وليد أبوه كان عبداً لجدنا *** إلى علجة زرقاء جاش بها البحر

ص: 230

يقصد أن الوليد بن المغيرة كان عبداً لهاشم، وأمه رومية وابوه ليس المغيرة! وقد صدقه القرآن فقال عن الوليد: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ.مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ.أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ.

وقد اتفق المفسرون على أنها نزلت في الوليد، ففي تفسير الجلالين/758، وابن إسحاق: 2/140: «دعيٌّ في قريش وهو الوليد بن المغيرة، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة». وفي رواية أنه أكبر من أبيه بثمانية عشرة سنة.

وفي المناقب: 1/52: روى ابن بابويه في كتاب النبوة عن زين العابدين (علیه السلام): «أنه اجتمعت قريش إلى أبي طالب ورسول الله (صلی الله علیه و آله) عنده فقالوا: نسألك من ابن أخيك النَّصَف، قال: وما النصف منه؟ قالوا: يكف عنا ونكف عنه فلا يكلمنا ولا نكلمه، ولا يقاتلنا ولا نقاتله. ألا إن هذه الدعوة قد باعدت بين القلوب وزرعت الشحناء وأنبتت البغضاء! فقال: يا ابن أخي، أسمعت؟ قال: يا عم لو أنصفني بنو عمي لأجابوا دعوتي وقبلوا نصيحتي! إن الله تعالى أمرني أن أدعو إلى دينه الحنيفية ملة إبراهيم، فمن أجابني فله عند الله الرضوان والخلود في الجنان، ومن عصاني قاتلته حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.

فقالوا: قل له يكف عن شتم آلهتنا فلا يذكرها بسوء. فنزل «فيما بعد»: قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ. فقالوا: قل له أرسله الله إلينا خاصة أم إلى الناس كافة؟ قال: بل أرسلت إلى الناس كافة إلى الأبيض والأسود، ومن على رؤس الجبال، ومن في لجج البحار ولأدعون فارس والروم: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا. فتجبرت قريش واستكبرت وقالت: والله لو سمعت بهذا فارس والروم لاختطفتنا من أرضنا، ولقلعت الكعبة حجراً حجراً! فنزل «فيما بعد» وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَئْ. وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيل».

ص: 231

4- من هو عمارة الذي أرادوا أن يعطوه بدل النبي (صلی الله علیه و آله)؟

هو عمارة بن الوليد بن المغيرة، فأبوه الوليد رئيس المستهزئين بالنبي (صلی الله علیه و آله) ورئيس قبيلة مخزوم، والوحيد الذي وصفه الله تعالى في القرآن بالزنيم!

فقد بلغ من كيده أنه أخذ ابنه عمارة إلى أبي طالب ليعطيه إياه بدل محمد، ويعطيهم محمداً (صلی الله علیه و آله) فيقتلونه! وكان عمارة يومها متزوجاً وله أولاد!

وتصور ابن عبدالبر أنه ابن الوليد بن الوليد فيكون ابن أخ خالد «الإستيعاب: 4/1557»لكنه ابن الوليد الأب، وأخ خالد،كما نص عليه في شرح النهج: 6/304. وكان عمارة جميلاً فاتكاً ماجناً، وذكر ابن حبيب في المنمق/130، أن عمر بن الخطاب كان يخدمه في سفره فأراد أن يقتله فهرب عمر منه. وكان عمارة يشبه عمرو بن العاص في دهائه ومجونه، وقد أرسلتهما قريش إلى النجاشي يطلبان منه إرجاع المسلمين المهاجرين اليهم!

قال ابن أبي شيبة: 8/465: «وكان عمرو بن العاص رجلاً قصيراً، وكان عمارة بن الوليد رجلاً جميلاً». وذكر قصتهما لما سافرا في البحر فشربا خمراً، وأراد عمارة زوجة عمرو وألقاه في البحر ليغرقه، فنجا عمرو وعاد إلى السفينة، وأخذ يخطط لقتل عمارة، فأرسل إلى أبيه العاص: «أن اخلعني وتبرأ من جريرتي إلى بني المغيرة وسائر بني مخزوم، وخشي على أبيه أن يتبع بجريرته، فلما قدم الكتاب على العاص بن وائل، مشى إلى رجال بني المغيرة وبني مخزوم فقال: إن هذين الرجلين قد خرجا حيث علمتم، وكلاهما فاتك صاحب شر، غير مأمونين على أنفسهما، ولا أدري ما يكون منهما، وإني أبرأ إليكم من عمرو وجريرته، فقد خلعته.

فقال عند ذلك بنو المغيرة وبنو مخزوم: وأنت تخاف عمراً على عمارة! ونحن فقد خلعنا عمارة وتبرأنا إليك من جريرته فخل بين الرجلين، قال قد فعلت! فخلعوهما وبرئ كل قوم من صاحبهم وما يجرى منه».شرح النهج: 6/304.

ثم أوقع ابن العاص بعمارة عند النجاشي، وأثبت للنجاشي أنه يخونه في جاريته فعاقبوه وقيل سحروه، فهام على وجهه مع الوحوش حتى مات!

قال العلامة في تحرير الأحكام: 5/397: «والسحر الذي يجب به القتل هو ما يعدُّ في

ص: 232

العرف سحراً، كما نقل الأموي في مغازيه أن النجاشي دعا السواحر فنفخن في إحليل عمارة بن الوليد، فهام مع الوحش فلم يزل معها إلى إمارة عمر بن الخطاب فأمسكه إنسان فقال: خَلِّنِي وإلا مِتُّ! فلم يُخله فمات من ساعته»!

والأموي: المؤرخ صاحب الأوزاعي الوليد بن مسلم مولى الأمويين توفي سنة195، له مصنفات في الحديث والتاريخ والمغازي. الديباج: 1/34

وهدية العارفين: 2/500.

5- سورة المدثر تَفضح رئيس المستهزئين الوليد بن المغيرة!

أبرز من تصدى للنبي (صلی الله علیه و آله) من قريش خمسة فراعنة سماهم الله تعالى «المستهزئين» رئيسهم وعقلهم الوليد بن المغيرة المخزومي، كان يجمعهم ويضع لهم الخطط، وقد ناقشواالنبي (صلی الله علیه و آله) فأقام لهم الأدلة على نبوته وأراهم المعجزات التي طلبوها، فلم يزدهم ذلك إلا كفراً وعتواً! وكثرمجيؤهم إلى أبي طالب ليسلمهم النبي (صلی الله علیه و آله) ليقتلوه! فرفض كلامهم بشدة، وحشَد بني هاشم لحماية النبي (صلی الله علیه و آله)!

وتوالى نزول القرآن فاعتبروه تحدياً لهم وسبّاً لآلهتهم. ولما قرب موسم الحج للسنة الثانية من البعثة قام الوليد بتوحيد موقفهم أمام العرب الوافدين!

«ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولاتختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً. قالوا فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول فيه. قال: بل أنتم فقولوا، أسمع. قالوا: نقول كاهن. قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول مجنون. قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تَخَالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.

ص: 233

قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر، قد رأينا السُّحَّار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لَعَذِقٌ وإن فرعه لجُناه، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته.

فلما أقبلت العرب خرجوا يجلسون على طرقها يحذرون منه كل من قدم ويقولون: حدث عندنا ساحر، فإياكم أن يهلككم بسحره! وأنزل الله عزوجل في ذلك في الوليد بن المغيرة: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا. وَبَنِينَ شُهُودًا. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا. سَأُرْهِقْهُ صَعُودًا. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ البَشَرِ. سَأُصْلِيهِ سَقَرَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ. لاتُبْقي وَلاتَذَرُ. لَوَاحَةٌ لِلْبَشَرِ. عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ. «المدثر 11-30». فلم يزالوا يقولون ذلك لكل من جاء من ناحية من نواحي بلاد العرب، حتى صدروا عن الحج وأغروهم به واستنصروهم عليه، فوعدهم كثير منهم النصرة، وانتشر ذلك من أمرهم في العرب. وخاف أبوطالب دهماءها واجتماعها على رسول الله (صلی الله علیه و آله) للحمية في دينها، وتحريض قريش عليه واستنفارهم إليه، وأشفق من ذلك على رسول الله (صلی الله علیه و آله) إشفاقاً شديداً، فلم يرَ في دفع ذلك عنه إلا إصلاح جانب العرب له.

وكان إظهار أبي طالب ما يظهره من التمسك بدين العرب تقيّة عليه وذباً عنه، لأنه لو أظهر الإسلام كما أظهره حمزة لرفضته العرب ولم تلتفت إليه... وكان أبوطالب سيداً من سادات العرب، تعرف له حقه ولا تكاد تدخل فيما يسوءه، ولا تظاهره إلاّ بالمعروف وهو على دينها، فقال شعره الذي استعطف العرب به وتودد إلى أشرافها فيه، ليصرفهم عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخبرهم أنه على دينهم لم يبدّله».المناقب والمثالب/92، لأبي حنيفة النعمان المغربي المتوفى:363، الإكتفاء: 1/218، للكلاعي الأندلسي المتوفى: 634. وابن إسحاق: 2/131 وكلها تصرح بأن أباطالب كان مسلماً.

ص: 234

6- أبوطالب يطلق لاميته في بلاد العرب

قال ابن كثير في النهاية: 3/70: «قال ابن إسحاق: ولما خشي أبوطالب دهم العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في شعره أنه غير مسلم لرسول الله، ولا تاركه لشئ أبداً، حتى يهلك دونه».

ثم أورد ابن كثير القصيدة برواية ابن هشام، ورد على تشكيك بعضهم في نسبة بعض أبياتها إلى أبي طالب، قال: «قال ابن هشام: هذا ما صح لي من هذه القصيدة،وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها. قلتُ: هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً، لايستطيع يقولها إلا من نسبت إليه،وهي أفحل من المعلقات السبع، وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعاً، وقد أوردها الأموي في مغازيه مطولة بزيادات أخر».

أقول: يظهر أن أباطالب (رحمة الله) أطلق لاميته في السنة الثانية للهجرة قبل موسم الحج رداً على إعلام قريش الكاذب وتحريضهم العرب على النبي (صلی الله علیه و آله)، وقد جعل بعض كتَّاب السيرة وقتها بعد محاصرة قريش لبني هاشم في الشعب، أو عندما عرضت قريش عليه شاباً بدل النبي (صلی الله علیه و آله)، ولا يصح ذلك.

قال ابن حجر في فتح الباري: 3/442: «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه... وهذا البيت من قصيدة لأبي طالب، ذكرها ابن إسحاق بطولها، وهي أكثر من ثمانين بيتاً، قالها لما تمالأت على النبي (صلی الله علیه و آله) ونفَّروا عنه من يريد الإسلام».

وقال العصامي في سمط النجوم/231: «قلت: لم أظفر من هذه القصيدة إلا بنحو السبعة والثمانية الأبيات في غالب كتب السير، ولم أزل أطلبها حتى ظفرت بغالبها من تاريخ العلامة الحافظ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المسمى دول الإسلام، فنقلتها منه ولله الحمد».

وقوله عجيب، لأن الذهبي أورد منها في تاريخه: 1/162 تسعة عشر بيتاً فقط! فلا بد أنهم حذفوا بقيتها من نسخته المطبوعة!

وقال ابن أبي الحديد: 2/315 بعد أن أورد جملة من شعر أبي طالب: «فكل هذه

ص: 235

الأشعار قد جاءت مجئ التواتر، لأنه إن لم يكن آحادها متواترة فمجموعها يدل على أمر واحد مشترك، وهو تصديق محمد (صلی الله علیه و آله)، ومجموعها متواتر كما أن كل واحدة من قتلات علي (علیه السلام) الفرسان منقولة آحاداً، ومجموعها متواتر يفيدنا العلم الضروري بشجاعته، وكذلك القول فيما روي من سخاء حاتم وحلم الأحنف. قالوا: واتركوا هذا كله جانباً: ما قولكم في القصيدة اللامية التي شهرتها كشهرة قِفَا نَبْكِ. فإن جاز الشك فيها أو في شئ من أبياتها، جاز الشك في: قفا نبك».

وقال الأميني في الغدير: 7/340: «هذه القصيدة ذكر منها ابن هشام في سيرته: 1/286 أربعة وتسعين بيتاً وقال: هذا ما صح لي من هذه القصيدة. وذكر ابن كثير اثنين وتسعين بيتاً في تاريخه: 3/53 وفي رواية ابن هشام ثلاثة أبيات لم توجد في تاريخ ابن كثير. وأضاف الأميني: وذكرها أبو هفان العبدي في ديوان أبي طالب، في مائة وأحد عشر بيتاً، ولعلها تمام القصيدة».

وفي إرشاد الساري: 2/227: «قصيدة جليلة بليغة من بحر الطويل، وعدة أبياتها مائة وعشرة أبيات، قالها لما تمالأ قريش على النبي ونفروا عنه من يريد الإسلام».

وفي عمدة القاري: 3/434: «قصيدة طنانة، وهي مائة بيت وعشرة أبيات أولها:

خليلي ما أُذْني لأول عاذلِ بصغواءَ في حق ولا عند باطل

وذكر منها البغدادي في خزانة الأدب: 1/252 اثنين وأربعين بيتاً مع شرحها... وذكر الآلوسي بعضها في بلوغ الإرب في أحوال العرب: 1/237 وذكر كلمة ابن كثير المتقدمة، وقال: هي مذكورة مع شرحها في كتاب: لب لباب لسان العرب.

وذكر منها السيد زيني دحلان أبياتاً في السيرة النبوية «هامش الحلبية: 1/88» وقال: قال الإمام عبدالواحد السفاقسي في شرح البخاري: إن في شعر أبي طالب هذا دليلاً على أنه كان يعرف نبوة النبي (صلی الله علیه و آله) قبل أن يبعث لما أخبره به بحيرا الراهب وغيره من شأنه، مع ما شاهده من أحواله، ومنها الإستسقاء به في صغره ومعرفة أبي طالب بنبوته (صلی الله علیه و آله) جاءت في كثير من الأخبار، زيادة على أخذها من شعره.

قال الأميني: أنا لا أدري كيف تكون الشهادة والإعتراف بالنبوة، إن لم يكن منها

ص: 236

هذه الأساليب المتنوعة المذكورة في هذه الأشعار! ولو وجد واحد منها في شعر أي أحد أو نثره، لأصفق الكل على إسلامه، لكن جميعها لا يدل على إسلام أبي طالب! فاعجب واعتبر». انتهى.

وقال العسكري في كتابه: أبوطالب حامي الرسول (صلی الله علیه و آله) /108: «وخرجها أبو هفان العبدي توفي: 257 فيما جمعه من شعر أبي طالب، وهو معروف بديوان أبي طالب (علیه السلام) من/2 إلى/12، طبع النجف الأشرف في مائة واحد عشر بيتاً، وخرجناها في كتابنا: الشهاب الثاقب لرجم مكفر أبي طالب (علیه السلام)، نقلاً من كتب عديدة وفيها زيادة على جميع من ذكر القصيدة،وما ذكرناه مائة وستة عشرة بيتاً».

وقال صاحب الصحيح من السيرة: 15/52: «وما دام أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحب لهذه القصيدة أن تذكر في محافل أهل الإيمان، فإنني أحب أن أثبتها هنا ليرغم بها أنف الشانئ والناصب، ولتقر بها عين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعين أبي طالب، وعين ابنه أسد الله الغالب، وعين من هو لشفاعته طالب». وأوردها بمئة وثمانية عشر بيتاً.

ونحن نوردها برواية ابن هشام: 1/176: لأنها الرواية الرسمية، ونثبت أهم ما لم يورده من نسخة الصحيح بين معقوفين.

قال: «فلما خشي أبوطالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره أنه غير مُسَلِّمٍ رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ولا تاركه لشئ أبداً، حتى يهلك دونه، فقال:

[خليليَّ ما أُذني لأول عاذلِ *** بصغواء في حقٍ ولا عند باطلِ]

[خليليَّ إن الرأيَ ليس بشركة *** ولا نهنهٍ عند الأمور التلاتل]

وَلَمّا رَأَيْت القَوْمَ لا وُدّ فِيهِمْ *** وَقَدْ قَطَعُوا كُلّ العُرَى وَالوَسَائِلِ

وَقَدْ صَارَحُونَا بِالعَدَاوَةِ وَالأَذَى *** وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ العَدُوّ المُزَايِلِ

وَقَدْ حَالَفُوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَظِنّةً *** يَعَضّونَ غَيْظًا خَلْفَنَا بِالأَنَامِلِ

ص: 237

صَبَرْت لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ *** وَأَبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ المَقَاوِلِ

وَأَحْضَرْت عِنْدَ البَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي *** وَأَمْسَكْت مِنْ أَثْوَابِهِ بِالوَصَائِل

قِيَامًا مَعًا مُسْتَقْبِلِينَ رِتَاجَهُ *** لَدَى حَيْثُ يَقْضِي حَلْفَهُ كُلّ نَافِلِ

وَحَيْثُ يُنِيخُ الأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ *** بِمُفْضَى السّيُولِ مِنْ إسَافَ وَنَائِلِ

مُوَسّمَةُ الأَعْضَادِ أَوْ قَصِرَاتِهَا *** مُخَيّسَةٌ بَيْنَ السّدِيسِ وَبَازِل

تَرَى الوَدْعَ فِيهَا، وَالرّخَامَ وَزَبْنَةً *** بِأَعْنَاقِهَا مَعْقُودَةً كَالعَثَاكِلِ

أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ مِنْ كُلّ طَاعِنٍ *** عَلَيْنَا بِسُوءِ أَوْ مُلِحّ بِبَاطِلِ

وَمِنْ كَاشِحٍ يَسْعَى لَنَا بِمَعِيبَةِجج *** وَمِنْ مُلْحِقٍ فِي الدّينِ مَا لَمْ نُحَاوِلْ

وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ *** وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءَ وَنَازِلِ

وَبِالبَيْتِ حَقّ البَيْتِ مِنْ بَطْنِ مَكّةَ *** وَبِاَللهِ إنّ اللهَ لَيْسَ بِغَافِلِ

وَبِالحَجَرِ المُسْوَدّ إذْ يَمْسَحُونَهُ *** إذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضّحَى وَالأَصَائِلِ

وَمَوْطِئِ إبْرَاهِيمَ فِي الصّخْرِ رَطْبَةً *** عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ

وَأَشْوَاطِ بَيْنَ المَرْوَتَيْنِ إلَى الصّفَا *** وَمَا فِيهِمَا مِنْ صُورَةٍ وَتَمَاثِلِ

وَمَنْ حَجّ بَيْتَ اللهِ مِنْ كُلّ رَاكِبٍ *** وَمِنْ كُلّ ذِي نَذْرٍ وَمِنْ كُلّ رَاجِلِ

وَبِالمَشْعَرِ الأَقْصَى إذَا عَمَدُوا لَهُ *** إلالٍ إلَى مُفْضَى الشّرَاجِ القَوَابِل

وَتَوْقَافِهِمْ فَوْقَ الجِبَالِ عَشِيّةً *** يُقِيمُونَ بِالأَيْدِي صُدُورَ الرّوَاحِلِ

وَلَيْلَةِ جَمْعٍ وَالمَنَازِلِ مِنْ مِنًى *** وَهَلْ فَوْقَهَا مِنْ حُرْمَةٍ وَمَنَازِلِ

وَجَمْعٍ إذَا مَا المُقْرَبَاتُ أَجَزْنه *** سِرَاعًا كَمَا يَخْرُجْنَ مِنْ وَقْعِ وَابِلِ

وَبِالجَمْرَةِ الكُبْرَى إذَا صَمَدُوا لَهَا *** يَؤُمّونَ قَذْفًا رَأْسَهَا بِالجَنَادِلِ

وَكِنْدَةَ إذْ هُمْ بِالحِصَابِ عَشِيّةً *** تُجِيزُ بِهِمْ حُجّاجُ بَكْرِ بْنِ وَائل

حَلِيفَانِ شَدّا عَقْدَ مَا اخْتَلَفَا لَهُ *** وَرَدّا عَلَيْهِ عَاطِفَاتِ الوَسَائِلِ

وَخَطْمِهِمُ سُمْرَ الرّمَاحِ وَشَرْحَهُ *** وَشِبْرِقَهُ وَخْدَ النّعَامِ الحَوَامِلِ

ص: 238

فَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ مَعَاذٍ لِعَائِذِ *** وَهَلْ مِنْ مُعِيذٍ يَتّقِي اللهَ عَاذِلِ

يُطَاعُ بِنَا أَمْرُ العِدَا وَدّ أَنّنَا *** تُسَدّ بِنَا أَبْوَابُ تُرْكٍ وَكَابُلِ

كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نَتْرُكُ مَكّةَ *** وَنَظْعَنُ إلا أَمْرُكُمْ فِي بَلابِلِ

كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نُبْزَى مُحَمّدًا *** وَلَمّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلِ

وَنُسْلِمُهُ حَتّى نُصرَّع حَوْلَهُ *** وَنَذْهَلُ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالحَلائِلِ

وَيَنْهَضُ قَوْمٌ فِي الحَدِيدِ إلَيْكُمْ *** نُهُوضَ الرّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصّلاصِلِ

وَحَتّى تَرَى ذَا الضّغْنِ يَرْكَبُ رَدْعَهُ *** مِنْ الطّعْنِ فِعْلَ الأَنْكَبِ المُتَحَامِلِ

[أبيت بحمد الله ترك محمد *** بمكة أسلمه لشر القبائل]

[وقال لي الأعداء قاتل عصابة *** أطاعوه، وابغه من جميع الغوائل]

[نقيم على نصر النبي محمد *** نقاتل عنه بالظبى والعواسل]

وَإِنّا لَعَمْرُ اللهِ إنْ جَدّ مَا أَرَى *** لَتَلْتَبِسَن أَسْيَافُنَا بِالأَمَاثِلِ

بِكَفّيْ فَتًى مِثْلَ الشّهَابِ سَمَيْدَعٍ *** أَخِي ثِقَةٍ حَامِي الحَقِيقَةِ بَاسِلِ

شُهُورًا وَأَيّامًا وَحَوْلاً مُجَرّماً *** عَلَيْنَا وَتَأْتِي حِجّةٌ بَعْدَ قَابِلِ

وَمَا تَرْكُ قَوْمٍ لا أَبَا لَك سَيّدًا *** يَحُوطُ الذّمَارَ غَيْرَ ذَرْبٍ مُوَاكِلِ

[وما ترك قوم لا أباً لك سيداً *** يحوط الذمار غير ذرب مواكل]

وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ *** ثِمَالَ اليَتَامَى عِصْمَةً لِلأَرَامِلِ

يَلُوذُ بِهِ الهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ *** فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاضِلِ

لَعَمْرِي لَقَدْ أَجْرَى أَسِيدٌ وَبِكْرُهُ *** إلَى بُغْضِنَا إذ جَزّآنَا لآكِلِ

[جزت رحم عنا أسيداً *** وخالداً جزاء مسيء لا يؤخر عاجل]

وَعُثْمَانُ لَمْ يَرْبَعْ عَلَيْنَا وَقُنْفُذٌ *** وَلَكِنْ أَطَاعَا أَمْرَ تِلْكَ القَبَائِلِ

أَطَاعَا أُبَيّا، وَابْنَ عَبْدِ يَغُوثِهُمْ *** وَلَمْ يَرْقُبَا فِينَا مَقَالَةَ قَائِلِ

كَمَا قَدْ لَقِينَا مِنْ سُبَيْعٍ وَنَوْفَلٍ *** وَكُلّ تَوَلّى مُعْرِضًا لَمْ يُجَامِلْ

ص: 239

فَإِنْ يُلْفَيَا، أَوْ يُمْكِنُ اللهُ مِنْهُمَا *** نَكِلْ لَهُمَا صَاعًا بِصَاعِ المُكَايِلِ

وَذَاكَ أَبُو عَمْرٍو أبی غَيْرَ بُغْضِنَا *** لِيُظْعِنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ وَجَامِلِ

يُنَاجِي بِنَا فِي كُلّ مُمْسًى وَمُصْبَحٍ *** فَنَاجِ أَبَا عَمْرٍ بِنَا ثُمّ خَاتِلِ

وَيُؤْلِي لَنَا بِاَللهِ مَا إنْ يَغُشّنَا *** بَلَى قَدْ تَرَاهُ جَهْرَةً غَيْرَ حَائِلِ

أَضَاقَ عَلَيْهِ بُغْضُنَا كُلّ تَلْعَةٍ *** مِنْ الأرض بَيْنَ أَخْشُبٍ فَمَجَادِلِ

وَسَائِلْ أَبَا الوَلِيدِ مَاذَا حَبَوْتنَا *** بِسَعْيِك فِينَا مُعْرِضًا كَالمُخَاتِلِ

وَكُنْت امْرِئِ مِمّنْ يُعَاشُ بِرَأْيِهِ *** وَرَحْمَتِهِ فِينَا وَلَسْت بِجَاهِلِ

[فلست أباليه على ذات نفسه *** فعش ياابن عمي ناعماً غير ماحل]

فَعُتْبَةُ لا تَسْمَعْ بِنَا قَوْلَ كَاشِحٍ *** حَسُودٍ كَذُوبٍ مُبْغِضٍ ذِي دَغَاوِلِ

[وقد خفت إن لم تزدجرهم وترعووا *** تلاقي ونلقى منك إحدى البلابل]

وَمَرّ أَبُو سُفْيَانَ عَنّي مُعْرِضًا *** كَمَا مَرّ قَيْلٌ مِنْ عِظَامِ المَقَاوِلِ

يَفِرّ إلَى نَجْدٍ وَبَرْدِ مِيَاهِهِ *** وَيَزْعُمُ أَنّي لَسْت عَنْكُمْ بِغَافِلِ

وَيُخْبِرُنَا فِعْلَ المُنَاصِحِ أَنّهُ *** شَفِيقٌ وَيُخْفِي عَارِمَاتِ الدّوَاخِلِ

[وأعلم أن لا غافل عن مساءة *** كذاك العدو عند حق وباطل]

[فميلوا علينا كلكم إن ميلكم *** سواء علينا والرياح بهاطل]

أَمُطْعِمُ لَمْ أَخْذُلْك فِي يَوْمِ بَحْدَةٍ *** وَلا مُعْظِمٌ عِنْدَ الأُمُورِ الجَلائِلِ

وَلا يَوْمَ خَصْمٍ إذْ أَتَوْك أَلِدّةً *** أُولِي جَدَلٍ مِنْ الخُصُومِ المَسَاجِلِ

أَمُطْعِمُ إنّ القَوْمَ سَامُوك خُطّةً *** وَإِنّي مَتَى أُوكَلْ فَلَسْت بِوَائِلِ

جَزَى اللهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلاً *** عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلاً غَيْرَ آجِلِ

بِمِيزَانِ قِسْطٍ لا يُخِيسُ شَعِيرَةً *** لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ

لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا *** بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالغَيَاطِلِ

وَنَحْنُ الصّمِيمُ مِنْ ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ *** وَآلِ قُصَيّ فِي الخُطُوبِ الأَوَائِلِ

ص: 240

[وكان لنا حوض السقاية فيهم *** ونحن الذرى منهم وفوق الكواهل]

[فما أدركوا زحلاً ولا سفكوا دماً *** وما خالفوا إلا شرار القبائل]

وَسَهْمٌ وَمَخْزُومٌ تَمَالَوْا وَأَلّبُوا *** عَلَيْنَا العِدَا مِنْ كُلّ طِمْلٍ وَخَامِلِ

[وحث بنو سهم علينا عديَّهم *** عدي بن كعب فاحتبوا في المحافل]

[يعضُّون من غيظ علينا أكفهم *** بلا ترةٍ بعد الحمى والتواصل]

[وشأيظ كانت في لؤي بن غالب *** نفاهم إلينا كل صقر حلاحل]

فَعَبْدَ مَنَافٍ أَنْتُمُ خَيْرُ قَوْمِكُمْ *** فَلا تُشْرِكُوا فِي أَمْرِكُمْ كُلّ وَاغِلِ

لَعَمْرِي لَقَدْ وَهَنْتُمُ وَعَجَزْتُم *** وَجِئْتُمْ بِأَمْرِ مُخْطِئٍ لِلْمَفَاصِلِ

وَكُنْتُمْ حَدِيثاً حَطْبَ قِدْرٍ وَأَنْتُمْ *** أَلانَ حِطَابٌ أَقْدُرٍ وَمَرَاجِلِ

لِيَهْنِئْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عُقُوقُنَا *** وَخِذْلانُنَا، أوَ تَرْكُنَا فِي المَعَاقِلِ

فَإِنْ نَكُ قَوْماً نَتّئِرْ مَا صَنَعْتُمْ *** وَتَحْتَلِبُوهَا لِقْحَةً غَيْرَ بَاهِلِ

وَسَائِطُ كَانَتْ فِي لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ *** نَفَاهُمْ إلَيْنَا كُلّ صَقْرٍ حُلاحِلِ

وَرَهْطُ نُفَيْلٍ شَرّ مَنْ وَطِأَ الحَصَى *** وَأَلأمَ حَافٍ مِنْ مَعَدٍّ وَنَاعِلِ

فَأَبْلِغْ قُصَيّا أَنْ سَيُنْشَرُ أَمْرُنَا *** وَبَشّرْ قُصَيّا بَعْدَنَا بِالتّخَاذُلِ

وَلَوْ طَرَقَتْ لَيْلاً قُصَيّا عَظِيمَةٌ *** إذَا مَا لَجَأْنَا دُونَهُمْ فِي المَدَاخِلِ

وَلَوْ صَدَقُوا ضَرْباً خِلالَ بُيُوتِهِمْ *** لَكُنّا أُسًى عِنْدَ النّسَاءِ المَطَافِلِ

[فإنْ تكُ كعبٌ من لؤيٍّ تجمعت *** فلا بد يوماً مرة من تزايل]

[وإن تكُ كعبٌ من كعوبٍ كبيرة *** فلابد يوماً أنها في مجاهل]

[وكنا بخير قبل تسويد معشر *** هم ذبحونا بالمدى والمقاول]

لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا *** بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالغَيَاطِلِ

فَكُلّ صَدِيقٍ وَابْنِ أُخْتٍ نَعُدّهُ *** لَعَمْرِي وَجَدْنَا غِبّهُ غَيْرَ طَائِلِ

سِوَى أَنّ رَهْطًا مِنْ كِلابِ بْنِ مُرّةَ *** بَرَاءٌ إلَيْنَا مِنْ مَعَقّةِ خَاذِلِ

ص: 241

[بني أسد لا تُطْرِقَنَّ على القذى *** إذا لم يقل بالحق مقول قائل]

[ونعم ابن أخت القوم غير مكذب *** زهير حساماً مفرداً من حمائل]

وَهَنّا لَهُمْ حَتّى تَبَدّدَ جَمْعُهُمْ *** وَيَحْسُرَ عَنّا كُلّ بَاغٍ وَجَاهِلِ

وَكَانَ لَنَا حَوْضُ السّقَايَةِ فِيهُمُ *** وَنَحْنُ الكُدَى مِنْ غَالِبٍ وَالكَوَاهِلِ

شَبَابٌ مِنْ المُطَّيّبِينَ وَهَاشِمِ *** كَبِيضِ السّيُوفِ بَيْنَ أَيْدِي الصّيَاقِلِ

فَمَا أَدْرَكُوا ذَحْلاً وَلا سَفَكُوا دَمًا *** وَلا حَالَفُوا إلا أشَرّ القَبَائِلِ

بِضَرْبِ تَرَى الفِتْيَانَ فِيهِ *** كَأَنّهُمْ ضَوَارِي أُسُودٍ فَوْقَ لَحْمٍ خَرَادِلِ

بَنِي أُمّةٍ مَحْبُوبَةٍ هِنْدِكيّة *** بَنِي جمَحَ عُبَيْدِ قَيْسِ بْنِ عَاقِلِ

وَلَكِنّنَا نَسْلٌ كِرَامٌ لِسَادَةِ *** بِهِمْ نُعِيَ الأَقْوَامُ عِنْدَ البَوَاطِلِ

وَنِعْمَ ابْنُ أُخْتِ القَوْمِ غَيْرَ مُكَذّبٍ *** زُهَيْرٌ حُسَامًا مُفْرَدًا مِنْ حَمَائِلِ

أَشَمّ مِنْ الشّمّ البَهَالِيلِ يَنْتَمِي *** إلَى حَسَبٍ فِي حَوْمَةِ المَجْدِ فَاضِلِ

لَعَمْرِي لَقَدْ كَلِفْت وَجْدًا بِأَحْمَدَ *** وَإِخْوَتِهِ دَأْبَ المُحِبّ المُوَاصِلِ

فَلا زَالَ فِي الدّنْيَا جَمَالاً لأهْلِهَا *** وَزَيْنًا لِمَنْ وَالاهُ رَبّ المَشَاكِلِ

فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النّاسِ أَيّ مُؤَمّلٍ *** إذَا قَاسَهُ الحُكّامُ عِنْدَ التّفَاضُلِ

حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشِ *** يُوَالِي إلَهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ

فَوَاَللهِ لَوْلا أَنْ أَجِئَ بِسُبّةِ *** تُجَرّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي المَحَافِلِ

لَكُنّا اتّبَعْنَاهُ عَلَى كُلّ حَالَةٍ *** مِنْ الدّهْرِ جِدّاً غَيْرَ قَوْلِ التّهَازُلِ

[وداستكم منا رجال أعزةٌ *** إذا جردوا أيمانهم بالمناصل]

[رجال كرام غير مِيلٍ نماهمُ *** إلى العز آباء كرام المخاصل]»

[وقفنا لهم حتى تبدد جمعهم *** وحُسِرَ عنا كل باغ وجاهل]

[شباب من المطَّلِّبين وهاشم *** كبيض السيوف بين أيدي الصياقل]

[بضرب ترى الفتيان فيه كأنهم *** ضواري أسود فوق لحم خرادل]

ص: 242

[ولكننا نسلٌ كرام لسادة بهم *** يعتلي الأقوام عند التطاول]

[سيعلم أهل الضغن أيِّي وأيهم *** يفوز ويعلو في ليال قلائل]

[وأيهم مني ومنهم بسيفه يلاقي *** إذا ما حان وقت التنازل]

[ومن ذا يمل الحرب مني ومنهمُ *** ويحمد في الآفاق في قول قائل]

لَقَدْ عَلِمُوا أَنّ ابْنَنَا لا مُكَذّبٌ *** لَدَيْنَا، وَلا يُعْنَى بِقَوْلِ الأَبَاطِلِ

فَأَصْبَحَ فِينَا أَحْمَدُ فِي أَرُومَةٍ *** تُقَصّرُ عَنْهُ سَوْرَةُ المُتَطَاوِلِ]

[كأني به فوق الجياد يقودها *** إلى معشر زاغوا إلى كل باطل]

حَدِبْت بِنَفْسِي دُونَهُ وَحَمَيْته *** وَدَافَعْت عَنْهُ بِالذّرَى وَالكَلاكِلِ

فَأَيّدَهُ رَبّ العِبَادِ بِنَصْرِهِ *** وَأَظْهَرَ دِينًا حَقّهُ غَيْرُ بَاطِلِ

رِجَالٌ كِرَامٌ غَيْرُ مِيلٍ نَمَاهُمْ *** إلَى الخَيْرِ آبَاءٌ كِرَامُ المَحَاصِلِ

فَإِنْ تَكُ كَعْبٌ مِنْ لُؤَيّ صُقَيْبةً *** فَلا بُدّ يَوْماً مَرّةً مِنْ تَزَايُلِ»

[وجُدْتُ بنفسي دونه وحميته *** ودافعت عنه بالذرى والكلاكل]»ج

ورواها القاضي النعمان المغربي في المناقب والمثالب/92، بمئة وسبعة أبيات، وقال: «وفشا شعر أبي طالب هذا في العرب وأمْرُ رسول الله وقيام بني عبد شمس ومن أطاعها عليه، وانتصاب بني هاشم ومن تولاها دونه، وعلموا قديماً ما بين الفئتين من البغضاء وحسد بني عبد شمس بني هاشم...فتوقف من كانوا أغروه من قبائل العرب برسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكذب أكثرهم مقالهم فيه، وذكر أهل يثرب ما كانت اليهود خبَّرتهم وحدَّثتهم به من ظهور نبي فيهم، قد أزف وقت ظهوره وإخبارهم عن شأنه وأموره، فلما بلغهم أمر رسول الله تطلعت أعينهم إليه».

وقال في شرح الأخبار: 3/225: «وكان إظهار أبي طالب ما أظهر من التمسك بدين العرب والرغبة فيه، مع تصديقه لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وإقراره بنبوته، مما أيد الله به أمر محمد (صلی الله علیه و آله) لأنه لو أظهر الإسلام لرفضته العرب، ولم يعضده من عضده منهم على نصرة رسول الله (صلی الله علیه و آله)».

ص: 243

وقد شرح قصيدة أبي طالب بعض العلماء شرحاً موجزاً، كالسهيلي في الروض الأنف: 2/16، وهو من حفاظ القرن السادس. تذكرة الحفاظ للذهبي: 4/1348.

وشرحها صاحب خزانة الأدب: 2/53، عبدالقادر بن عمر البغدادي المتوفى سنة 1093 وأورد منها أربعين بيتاً، وقال: «وقد أحببت أن أوردها هنا منتخبة مشروحة بشرح يوفي المعنى، محبة في النبي صلى الله عليه».

وشرح ابن إسحاق بعض مفرداتها كما نقل ابن هشام: 1/181 قال: «والغياطل: من بني سهم بن عمرو بن هصيص، وأبوسفيان: ابن حرب بن أمية. ومطعم: ابن عدي بن نوفل بن عبدمناف. وزهير: ابن أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وأمه عاتكة بنت عبدالمطلب. قال ابن إسحاق: وأسيد، وبكره: عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبدمناف بن قصي. وعثمان: ابن عبيدالله، أخو طلحة بن عبيدالله التيمي. وقنفذ: ابن عمير بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة. وأبو الوليد: عتبة بن ربيعة. وأبيّ: الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة بن كلاب. قال ابن هشام: وإنما سمى الأخنس لأنه خنس بالقوم يوم بدر، وإنما اسمه أبيّ. وهو من بني علاج وهو علاج بن أبي سلمة بن عوف بن عقدة. والأسود: ابن عبد يغوث بن وهب بن عبدمناف بن زهرة بن كلاب. وسبيع: ابن خالد، أخو بلحارث بن فهر. ونوفل: ابن خويلد بن أسد بن عبدالعزى ابن قصي وهو ابن العدوية، وكان من شياطين قريش، وهو الذي قرن بين أبي بكر الصديق وطلحة بن عبيدالله في حبل حين أسلما، فبذلك كانا يسميان القرينين، قتله علي بن أبي طالب يوم بدر. وأبو عمرو: قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبدمناف. وقوله: وقوم علينا أظنة، بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة. فهؤلاء الذين عدد أبوطالب في شعره من العرب»!

لكن أباطالب (رحمة الله) ذكر غيرهم أشخاصاً وقبائل!

ثم روى ابن هشام قوله (صلی الله علیه و آله) عندما استسقى في المدينة: «لو أدرك أبوطالب هذا اليوم لسره، فقال له بعض أصحابه: كأنك يا رسول الله أردت قوله:

وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ...ثِمَالَ اليَتَامَى عِصْمَةً لِلأَرَامِلِ؟ قال أَجل».

وفي عمدة القاري: 7/31: «لله در أبي طالب لو كان حياً لقرت عيناه».

ص: 244

7- ملاحظات حول لامية أبي طالب (رحمة الله) وشعره

أ. يبلغ شعر أبي طالب (رحمة الله) الذي وصل إلينا نحو ألف بيت، وهو ثروة مهمة لم يعطه العلماء حقه في تدوين السيرة وتوثيقها! وقد رأيت قول الناصبي ابن كثير: «هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً، لايستطيع يقولها إلا من نسبت إليه، وهي أفحل من المعلقات السبع وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعاً»!

فلماذا لم يدرسوها ويعتمدوها؟! ولايذكرون شعر أبي طالب (علیه السلام) إلا عند الضرورة وباختصار، تقرباً وخوفاً من الحكومات! ثم زعموا أنه مات كافراً لينفوا وراثته لعبدالمطلب، فنفيُ الوراثة وتكفير آباء النبي (صلی الله علیه و آله) وأسرته أمرٌ مهم عندهم، لأنها تنقض أساس خلافة السقيفة!

ب. يكشف شعر أبي طالب (رحمة الله) عن أمور وأحداث في السيرة النبوية لم يسجلها الرواة والمؤلفون، أو عتَّموا عليها، فمنها أن قريشاً قررت إجلاء بني هاشم من مكة إن لم يسلموهم النبي (صلی الله علیه و آله) ليقتلوه! وعملوا لتنفيذ ذلك فأحبطه أبوطالب:

كذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نُبْزَى مُحَمّدًا *** وَلَمّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلٍ

وَنُسْلِمُهُ حَتّى نُصْرَعَ حَوْلَهُ *** وَنَذْهَلُ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالحَلائِلِ

كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نَتْرُكُ مَكّةً *** وَنَظْعَنُ إلا أَمْرُكُمْ فِي بَلابِل

وذَاكَ أَبُو عَمْرٍو أبیٰ غَيْرَ بُغْضِنَا *** لِيُظْعِنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ وَجَامِلِ

يُنَاجِي بِنَا فِي كُلّ مُمْسًى وَمُصْبَحٍ *** فَنَاجَ أَبَا عَمْرٍ بِنَا ثُمّ خَاتِلِ

وَيُؤْلِي لَنَا بِاَللهِ مَا إنْ يَغُشّنَا *** بَلَى قَدْ تَرَاهُ جَهْرَةً غَيْرَ حَائِلِ

وأبو عمرو المنافق هو: قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبدمناف، وهذا يدل على أن حساد بني هاشم من أقربائهم كبني نوفل وأمية، كانوا مع قرار نفيهم!

ج. ومن ذلك أن أباطالب (رحمة الله) أشار في شعره إلى أعمال عدائية قامت بها قبائل أو شخصيات معينة، لم يكشفها الرواة! لاحظ قوله (رحمة الله):

لَعَمْرِي لَقَدْ أَجْرَى أَسِيدٌ وَبِكْرُهُ *** إلَى بُغْضِنَا إذ جَزّآنَا لآكِلِ

ص: 245

[جزت رحم عنا أسيداً وخالداً *** جزاء مسئ لا يؤخرعاجل]

وَعُثْمَانُ لَمْ يَرْبَعْ عَلَيْنَا وَقُنْفُذٌ *** وَلَكِنْ أَطَاعَا أَمْرَ تِلْكَ القَبَائِلِ

أَطَاعَا أُبَيّا، وَابْنَ عَبْدِ يَغُوثِهُمْ *** وَلَمْ يَرْقُبَا فِينَا مَقَالَةَ قَائِلِ

كَمَا قَدْ لَقِينَا مِنْ سُبَيْعٍ وَنَوْفَلٍ *** وَكُلّ تَوَلّى مُعْرِضًا لَمْ يُجَامِلْ

فَإِنْ يُلْفَيَا، أَوْ يُمْكِنُ اللهُ مِنْهُمَا *** نَكِلْ لَهُمَا صَاعًا بِصَاعِ المُكَايِلِ

وَمَرّ أَبُو سُفْيَانَ عَنّي مُعْرِضًا *** كَمَا مَرّ قَيْلٌ مِنْ عِظَامِ المَقَاوِلِ

يَفِرّ إلَى نَجْدٍ وَبَرْدِ مِيَاهِهِ *** وَيَزْعُمُ أَنّي لَسْت عَنْكُمْ بِغَافِلِ

وَيُخْبِرُنَا فِعْلَ المُنَاصِحِ أَنّهُ *** شَفِيقٌ وَيُخْفِي عَارِمَاتِ الدّوَاخِلِ

[وأعلم أن لا غافلٌ عن مساءة *** كذاك العدو عند حق وباطل]

[فميلوا علينا كلكم إن ميلكم *** سواء علينا والرياح بهاطل]

أَمُطْعِمُ لَمْ أَخْذُلْك فِي يَوْمِ بَحْدَة *** وَلا مُعْظِمٌ عِنْدَ الأُمُورِ الجَلائِلِ

أَمُطْعِمُ إنّ القَوْمَ سَامُوك خُطّةً *** وَإِنّي مَتَى أُوكَلْ فَلَسْت بِوَائِلِ

جَزَى اللهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلاً *** عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلاً غَيْرَ آجِلِ

بِمِيزَانِ قِسْطٍ لا يُخِيسُ شَعِيرَةً *** لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ

لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلامُ قَوْمٍ تَبَدّلُو *** بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالغَيَاطِلِ

وَسَهْمٌ وَمَخْزُومٌ تَمَالَوْا وَأَلّبُوا *** عَلَيْنَا العِدَا مِنْ كُلّ طِمْلٍ وَخَامِلِ

[وحث بنو سهم علينا عديَّهم *** عدي بن كعب فاحتبوا في المحافل]

[يعضُّون من غيظ علينا أكفهم *** بلا ترةٍ بعد الحمى والتواصل]

[وشأيظ كانت في لؤي بن غالب *** نفاهم إلينا كل صقر حلاحل]

وَرَهْطُ نُفَيْلٍ شَرّ مَنْ وَطِأَ الحَصَى *** وَأَلأمَ حَافٍ مِنْ مَعَدٍّ وَنَاعِلِ

ولم أجد تعبير«شر من وطأ الحصى» قبل وصف أبي طالب به لعدي، وهم قبيلة عمر، وكانوا قلة لكن لهم دور في عداء النبي (صلی الله علیه و آله) .

ص: 246

ولاحظ قوله (رحمة الله) في قصيدة أخرى:

وليد أبوه كان عبداً لجدنا *** إلى علجة زرقاء جاش بها البحر

وتيم ومخزوم وزهرة منهم *** فكانوا لنا مولى إذا بغي النصر

فقد سفهت أحلامهم وعقولهم *** فكانوا كجفر بئس ما صنعت جفر

والوليد هو أبو خالد بن الوليد، أحد المستهزئين الخمسة سنن البيهقي 9/8 وقد أخبر أبوطالب أن أمه رومية، كانت أمَةً لهاشم!

د. ولاحظ قوله (رحمة الله) في المعجزة التي ظهرت في أبي جهل: «لما جاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو ساجد، وبيده حجر يريد أن يرميه به، فلما رفع يده لصق الحجر بكفه»!

أفيقوا بني غالب وانتهوا *** عن الغي من بعض ذا المنطق

وإلا فإني إذن خائفٌ *** بوائقَ في داركم تلتقي

تكون لغيركم عبرةً *** ورب المغارب والمشرق

كما ذاق من كان من قبلكم *** ثمودٌ وعادٌ فمن ذا بقي

غداة أتاهم بها صرصرٌ *** وناقة ذي العرش قد تستقي

فحل عليهم بها سخطةٌ *** من الله في ضربة الأزرق

غداة يعض بعرقوبها *** حساماً من الهند ذا رونق

وأعجب من ذاك في أمركم *** عجائب في الحجر الملصق

بكف الذي قام من خبثه *** إلى الصابر الصادق المتقي

فأثبته الله في كفه *** على رغمة الجائر الأحمق

أحيمق مخزومكم إذ غوى *** لغي الغواة ولم يَصدق»

كنز الفوائد/75، أبوطالب حامي الرسول/21، ابن إسحاق: 4/192 ولم يجزم بنسبتها إلى أبي طالب!

فلا بد من تتبع الأحداث التي أرخها أبوطالب رضيالله عنه، أو أشار اليها، وفيها مفردات جديدة في السيرة، أهملها الرواة أو جهلوها، فينبغي بحث نصوصها ومؤيداتها، أو ما يعارضها في السيرة الحكومية الرسمية.

ص: 247

الفصل الخامس عشر: الإسراء والمعراج

1- آيات الإسراء والمعراج

قال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَالسَّمِيعُ الْبَصِيرُ. الإسراء 1.

وقال تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى. وَهُوَ بِالآفُقِ الأَعْلَى. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى.فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى. النجم 1-18.

فمطلع سورة الإسراء في الإسراء، أما المعراج فآياته في سورة النجم.

وقال المفسرون واللغويون: السُّرى هو السير بالليل فقط «لسان العرب 4/389» لكن قوله تعالى: أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً، يدل على أن الإسراء مطلق السير، ولذا قال: لَيْلاً.

وتبلغ أحاديث الإسراء والمعراج في مصادر الطرفين مئات الصفحات، وغرضنا هنا إيراد مختارٍ منها، يعطي تصوراً شاملاً عن المعراج، ثم نشير إلى بعض الروايات المكذوبة فيه.

2- كان الإسراء والمعراج بالجسد والروح

مذهب عامة الشيعة أن معراج النبي (صلی الله علیه و آله) كان بروحه وجسده. قال المجلسي في روضة المتقين: 2/218: «وأما المعراج فأخباره أكثر من أن تحصى، وإنكاره كفر.. ثم حمل على عائشة

ص: 248

ومعاوية، لأنهما أنكرا المعراج بالجسم وجعلاه بالروح»!

و قال النويري في نهاية الأرب: 16/293: «اختلف العلماء على ثلاث مقالات، فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح وأنه رؤيا منام. وذهبت طائفة إلى أن الإسراء كان بالجسد يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح. والذي عليه الأكثرون وقال به معظم السلف أنه إسراء بالجسد وفي اليقظة. قال القاضي عياض بن موسى بن عياض: وهذا هو الحق، وهو قول ابن عبّاس وجابر وأنس وحذيفة..وهو قول الطبرى، وابن حنبل، وغيرهما، وقد أبطلوا حجج من قال خلاف ذلك بأدلَّة يطول علينا شرحها. قال القاضي عياض: وعليه تدل الآية، إذ لو كان مناماً لقال: بروح عبده، ولم يقل: بِعَبْدِه.وقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وما طَغى. ولو كان مناماً لما كانت فيه آية ولا معجزة».

3- برنامجٌ رباني لإعداد النبي (صلی الله علیه و آله)

الإسراء: سَفَر النبي (صلی الله علیه و آله) من مكة إلى الكوفة،ثم إلى جبل الطور وبيت المقدس، إشارةً إلى أنه وارث آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى:.

والمعراج: عروجه (صلی الله علیه و آله) إلى السماء، وكان ذلك في أوائل البعثة، وكأنه برنامج إعداد للنبي (صلی الله علیه و آله) بأن يريه ربه ما شاء من ملكوته وآياته الكبرى.

ففي أمالي الصدوق/213: «عن ثابت بن دينار قال: سألت زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (علیه السلام) عن الله جل جلاله هل يوصف بمكان؟ فقال: تعالى الله عن ذلك.قلت: فلمَ أسرى بنبيه محمد (صلی الله علیه و آله) إلى السماء؟قال: ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه. قلت: فقول الله عزوجل: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى؟ قال: ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) دنا من حجب النور، فرأى ملكوت السماوات، ثم تدلى (صلی الله علیه و آله) فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض حتى ظن أنه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى».

وفي الإحتجاج: 1/327 أن حَبْراً قال لأميرالمؤمنين (علیه السلام): «هذا سليمان قد

ص: 249

سخرت له الرياح فسارت به في بلاده، غُدُوُّها شهر ورواحها شهر؟ قال له (علیه السلام): لقد كان ذلك، ومحمد (صلی الله علیه و آله) أعطي ما هو أفضل من هذا، إنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، وعرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام، في أقل من ثلث ليلة، حتى انتهى إلى ساق العرش فدنى بالعلم فتدلى من الجنة على رفرف أخضر، وغشيَ النور بصره، فرأى عظمة ربه عزوجل بفؤاده، ولم يرها بعينه، فكان كقاب قوسين بينه وبينها، أو أدنى».

أقول: هذا يدل على أن التدلي كان مرات، ومن عدة أمكنة، لمشاهدة ملكوت الأرض، ولمشاهدة آيات الله وعظمته فيها.

4- عُرِج بالنبي (صلی الله علیه و آله) مئة وعشرين مرة!

قال العيني في عمدة القاري: 4/39: «قيل إن الإسراء كان مرتين، مرة بروحه مناماً، ومرة بروحه وبدنه يقظة. ومنهم من يدعي تعدد الإسراء في اليقظة أيضاً، حتى قال إنه أربع إسرا آت. وزعم بعضهم أن بعضها كان بالمدينة، ووفَّق أبو شامة في روايات حديث الإسراء بالجمع بالتعدد، فجعله ثلاث إسرا آت، مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط على البراق، ومرة من مكة إلى السماوات على البراق أيضاً. ومرة من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات».

وقال ابن عباس: «كان المعراج مرتين، بعد النبوة بسنتين، فالأول معراج العجائب والثاني معراج الكرامة». المناقب: 1/153.

ورجح في الصحيح من السيرة: 3/25 أنه مرتان، طبق رواية الكافي: 1/443 لكن سندها غيرتام، بينما صح عن أهل البیت (علیهم السلام) أنه مرات، فعن الإمام الصادق (علیه السلام): «عرج بالنبي (صلی الله علیه و آله) إلى السماء مائة وعشرين مرة. ما من مرة إلا وقد أوصى الله النبي (صلی الله علیه و آله) بولاية علي والأئمة (علیهم السلام) من بعده، أكثر مما أوصاه بالفرايض».

بصائر الدرجات/99، الخصال/600، المحتضر/44 والفوائد الطوسية/140.

ومما يدل على أن المعراج وقع أيضاً في أواخر نبوته (صلی الله علیه و آله)، ما رواه الصدوق في الأمالي /696،

ص: 250

عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث أسري به إلى السماء، لم يمر بخلق من خلق الله إلا رأى منه ما يحب، من البِشْر واللطف والسرور به، حتى مر بخلق من خلق الله فلم يلتفت إليه ولم يقل له شيئاً، فوجده قاطباً عابساً فقال: يا جبرئيل، ما مررت بخلق من خلق الله إلا رأيت البشر واللطف والسرور منه إلا هذا، فمن هذا؟ قال: هذا مالك خازن النار، وهكذا خلقه ربه! قال: فإني أحب أن تطلب إليه أن يريني النار. فقال له جبرئيل: إن هذا محمداً رسول الله، وقد سألني أن أطلب إليك أن تريه النار. قال: فأخرج له عنقاً منها فرآها، فما افترَّ ضاحكاً حتى قبضه الله عزوجل».

ونحوه في كتاب الحسين بن سعيد/99 وفيه: «فكشف له طبقاً من أطباقها».

فهذا الحديث الصحيح يدل على أنه لم يضحك بعده حتى توفي فهو في أواخر حياته الشريفة، ومعراجه الأول كان في أوائل بعثته، وقد ضحك بعده في مناسبات عديدة.

5- الإسراء والمعراج من عقائد الإسلام

في أمالي الصدوق/738: «دين الإمامية هو الإقرار بتوحيد الله تعالى ذكره، ونفي التشبيه عنه وتنزيهه عما لا يليق به، والإقرار بأنبياء الله ورسله وحججه وملائكته وكتبه، والإقرار بأن محمداً هو سيد الأنبياء والمرسلين..وبمعراج النبي (صلی الله علیه و آله) إلى السماء السابعة، ومنها إلى سدرة المنتهى، ومنها إلى حجب النور، وبمناجاة الله عزوجل إياه، وأنه عرج به بجسمه وروحه على الصحة والحقيقة لا على الرؤيا في المنام، وأن ذلك لم يكن لأن الله عزوجل في مكان هناك، لأنه متعال عن المكان، ولكنه عزوجل عرج به تشريفاً له وتعظيماً لمنزلته، وليريه ملكوت السماوات كما أراه ملكوت الأرض، ويشاهد ما فيها من عظمة الله عزوجل وليخبر أمته بما شاهد في العلو من الآيات والعلامات».

وفي رسالة الإعتقادات للصدوق (رحمة الله) /79: «واعتقادنا في الجنة والنار أنهما مخلوقتان

ص: 251

وأن النبي (صلی الله علیه و آله) قد دخل الجنة، ورأى النار، حين عرج به».

إن المعراج حدثٌ ضخمٌ، ومفرداته كثيرة، وقد تبلغ موضوعاته مائتي عنوان، وهذا طبيعي، لأنه جولة في الأرض على ربوع الأنبياء السابقين:، وجولاتٌ في السماوات السبع، أرى الله فيها رسوله (صلی الله علیه و آله) آيات ملكوته الكبرى. أراه جميع الأنبياء (علیهم السلام)، والجنة بأعلى نعيمها، وطرفاً من النار والمعذبين فيها.

وأراه مشاهد ستحدث من مستقبل أمته، وأراه الأئمة من ذريته:، وعلمه علم ما يكون. وفي كل واحد من هذه المواضيع: عناوين، وفروع، وتفاصيل.

وقد أفاضت مصادرنا في رواية أحاديث المعراج التي بينت مقام النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة من عترته:، ومقام شيعتهم وما يجري عليهم من اضطهاد، وما أعد الله لهم من نصر في نهاية المطاف، ودرجات عالية في الآخرة.

6- هل المسجد الأقصى مسجد القدس أو البيت المعمور؟

يوجد رأي نادر للباحث السيد جعفر مرتضى، ذكره في رسالة عن البيت المعمور، وفي كتابه الصحيح من السيرة: 3/147 مفاده: أن المقصود بالمسجد الأقصى في آية الإسراء هو البيت المعمور في السماء وليس مسجد بيت المقدس، وأن المسجد الذي يدخله المؤمنون مرتين هو المسجد الحرام، قال:

«الظاهر أن المراد به هو المسجد الحرام، أما المسجد الأقصى الذي حصل الإسراء إليه، والذي بارك الله حوله، فهو في السماء».

واستدل على ذلك برواية أن النبي صلى بالأنبياء (علیهم السلام) في المسجد الأقصى، وهو البيت المعمور: «انتهى جبرئيل إلى البيت المعمور وهو المسجد الأقصى، فلما دنا منه أتى جبرئيل عيناً فتوضأ منها ثم قال يا محمد توضأ». اليقين لابن طاووس/294.

وفي تفسير القمي: 2/243 ونوادر المعجزات/66: «عن إسماعيل الجعفي قال: كنت في المسجد الحرام قاعداً وأبوجعفر (علیه السلام) في ناحية، فرفع رأسه فنظر إلى السماء مرة وإلى الكعبة مرة، ثم قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى..

ص: 252

وكرر ذلك ثلاث مرات، ثم التفت إليَّ فقال: أي شئ يقولون أهل العراق في هذه الآية يا عراقي؟ قلت: يقولون أسري به من المسجد الحرام إلى البيت المقدس، فقال: لا، ليس كما يقولون، ولكنه أسريَ به من هذه وأشار بيده إلى الأرض، إلى هذه وأشار بيده إلى السماء، وقال: ما بينهما حرم. قال: فلما انتهى به إلى سدرة المنتهى تخلف عنه جبرئيل (علیه السلام) فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا جبرئيل في هذا الموضع تخذلني؟ فقال: تقدم أمامك، فوالله لقد بلغت مبلغاً لم يبلغه أحد من خلق الله قبلك.فرأيت من نور ربي وحال بيني وبينه السبحة. قلت: وما السبحة

جعلت فداك؟ فأومئ بوجهه إلى الأرض وأومى بيده إلى السماء وهو يقول جلال

ربي ثلاث مرات. قال يا محمد! قلت: لبيك يا رب قال: فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت سبحانك لا علم لي إلا ما علمتني.

قال فوضع يده أي يد القدرة بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي. قال: فلم يسألني عما مضى ولا عما بقي إلا علمته. قال: يا محمد فيمَ اختصم الملأ الأعلى؟ قال قلت: يا رب في الدرجات والكفارات والحسنات.

فقال: يا محمد قد انقضت نبوتك وانقطع أُكلك، فمن وصيك؟ فقلت: يا رب قد بلوت خلقك فلم أر من خلقك أحداً أطوع لي من علي؟ فقال: ولي يا محمد. فقلت: يا رب إني قد بلوت خلقك فلم أر في خلقك أحداً أشد حباً لي من علي بن

أبي طالب. قال: ولي يا محمد، فبشره بأنه راية الهدى وإمام أوليائي ونورٌ لمن أطاعني، والكلمة التي ألزمتها المتقين، من أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد أبغضني، مع ما أني أخصه بما لم أخص به أحداً. فقلت: يا رب أخي وصاحبي ووزيري ووارثي، فقال إنه أمر قد سبق أنه مبتلى ومبتلى به، مع ما أني قد نحلته ونحلته ونحلته ونحلته، أربعة أشياء عقدها بيده ولا يفصح بها عقدها».

أقول: في هذا الحديث عناصر قوة، لكن فيه عناصر خلل توجب التوقف فيه، أهمها ما يوافق المخالفين في التجسيم، أو ما يوهم التجسيم.

ومنها وجود روايات تعارضه وتدل على أن المسجد الأقصى مسجد

ص: 253

بيت المقدس، منها ما رواه في الكافي: 3/491 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «جاء رجل إلى أميرالمؤمنين صلوات الله عليه وهو في مسجد الكوفة فقال: السلام عليك يا أميرالمؤمنين ورحمة الله وبركاته فرد عليه، فقال: جعلت فداك إني أردت المسجد الأقصى، فأردت أن أسلم عليك وأودعك، فقال له: وأي شئ أردت بذلك؟ فقال: الفضل جعلت فداك، قال: فبع راحلتك وكل زادك، وصلِّ في هذا المسجد فإن الصلاة المكتوبة فيه حجة مبرورة، والنافلة عمرة مبرورة، والبركة فيه على اثني عشر ميلاً، يمينه يمن ويساره مكر، وفي وسطه عين من دهن، وعين من لبن، وعين من ماء شراب للمؤمنين، وعين من ماء طهر للمؤمنين. منه سارت سفينة نوح، وكان فيه نسر ويغوث ويعوق، وصلى فيه سبعون نبياً وسبعون وصياً، أنا أحدهم. وقال بيده في صدره: ما دعا فيه مكروب بمسألة في حاجة من الحوائج، إلا أجابه الله

وفرج عنه كربته».

فلو صحت الرواية التي تسمي البيت المعمور في السماء المسجد الأقصى أوبيت المقدس، فدلالتها على تعدد المسجد الأقصى أولى من دلالتها على البدلية.

لذلك نستقرب أن يكون المسجد الأقصى اسماً للبيت المعمور وبيت المقدس معاً.

7- علَّمه الله في المعراج علم ما يكون

في الكافي: 1/251: «قال رجل لأبي جعفر (علیه السلام): يا ابن رسول الله لا تغضب عليَّ قال: لماذا؟ قال: لما أريد أن أسألك عنه، قال: قل. قال: ولا تغضب؟ قال: ولا أغضب. قال: أرأيت قولك في ليلة القدر تنزل الملائكة والروح فيها إلى الأوصياء يأتونهم بأمر لم يكن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد علمه؟ أو يأتونهم بأمر كان رسول الله يعلمه؟وقد علمت أن رسول الله مات وليس من علمه شئ إلا وعلي (علیه السلام) له واع!

قال أبوجعفر (علیه السلام): مالي ولك أيها الرجل ومن أدخلك علي؟

قال: أدخلني عليك القضاء لطلب الدين. قال: فافهم ما أقول لك: إن رسول الله لما أسري به لم يهبط حتى أعلمه الله جل ذكره علم ما قد كان وما سيكون، وكان

ص: 254

كثير من علمه ذلك جملاً، يأتي تفسيرها في ليلة القدر.وكذلك كان علي بن أبي طالب (علیه السلام) قد علم جمل العلم ويأتي تفسيره في ليالي القدر، كما كان مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) . قال السائل: أوما كان في الجمل تفسير؟ قال: بلى، ولكنه إنما يأتي بالأمر من الله تعالى في ليالي القدر إلى النبي وإلى الأوصياء:: إفعل كذا وكذا، لأمر قد كانوا علموه، أمروا كيف يعملون فيه؟

قلت: فسر لي هذا. قال: لم يمت رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلا حافظاً لجمله وتفسيره. قلت: فالذي كان يأتيه في ليالي القدر علم ما هو؟ قال: الأمر واليسر فيما كان قد علم. قال السائل: فما يحدث لهم في ليالي القدر علم سوى ما علموا؟ قال: هذا مما أمروا بكتمانه، ولا يعلم تفسير ما سألت عنه إلا الله عزوجل. قال السائل: فهل يعلم الأوصياء ما لا يعلم الأنبياء؟ قال: لا، وكيف يعلم وصي غير علم ما أوصي إليه. قال السائل: فهل يسعنا أن نقول إن أحداً من الوصاة يعلم ما لايعلم الآخر؟ قال: لا لم يمت نبي إلا وعلمه في جوف وصيه، وإنما تنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بالحكم الذي يحكم به بين العباد.

قال السائل: و ما كانوا علموا ذلك الحكم؟ قال: بلى قد علموه، ولكنهم لا يستطيعون إمضاء شئ منه حتى يؤمروا في ليالي القدر كيف يصنعون إلى السنة المقبلة. قال السائل: يا أبا جعفر لا أستطيع إنكار هذا؟ قال أبوجعفر (علیه السلام): من أنكره فليس منا. قال السائل: يا أبا جعفر أرأيت النبي (صلی الله علیه و آله) هل كان يأتيه في ليالي القدر شئ لم يكن علمه؟ قال: لا يحل لك أن تسأل عن هذا، أما علم ما كان وما سيكون، فليس يموت نبي ولا وصي إلا والوصي الذي بعده يعلمه، أما هذا العلم الذي تسأل عنه فإن الله عزوجل أبي أن يطلع الأوصياء عليه إلا أنفسهم.

قال السائل: يا ابن رسول الله كيف أعرف أن ليلة القدر تكون في كل سنة؟ قال: إذا أتى شهر رمضان فاقرأ سورة الدخان في كل ليلة مائة مرة، فإذا أتت ليلة ثلاث وعشرين فإنك ناظر إلى تصديق الذي سألت عنه».

ص: 255

أقول: لاغرابة في أن يكون الله تعالى علَّم نبيه (صلی الله علیه و آله) وأراه في معراجه كثيراً من المستقبل! لأن كل ما سيحدث في هذا الكون مخزون في علم الله تعالى الذي أحاط بكل شئ، ونحن نرى في المنام أموراً من المستقبل، ثم تحدث كما رأيناها تماماً، فكأن ذلك المنام لقطة من المستقبل المخزون!

كما يدلنا هذا الحديث الشريف العميق على أن تعليم الله تعالى لرسوله (صلی الله علیه و آله) ولأوصيائه:له نظام وأصول، في توقيته، وتدرجه، وإمضائه، والسماح ببيانه، بما يحفظ لهم الإختيار، ويحفظ المسار الصحيح لتبليغهم رسالات ربهم. قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيء عَدداً. الجن: 26-28.

8- كان الإسراء إلى المدينة وكوفان والطور وبيت المقدس

في الكافي: 8/279: «عن المفضل بن عمر قال: كنت عند أبي عبدالله (علیه السلام) بالكوفة أيام قدم على أبي العباس «السفاح» فلما انتهينا إلى الكناسة قال: هاهنا صلب عمي زيد (رحمة الله)، ثم مضى حتى انتهى إلى طاق الزياتين وهو آخر السراجين، فنزل وقال: إنزل فإن هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأول الذي خطه آدم (علیه السلام)، وأنا أكره أن أدخله راكباً. قال قلت: فمن غيَّره عن خطته؟ قال: أما أول ذلك الطوفان في زمن نوح (علیه السلام)، ثم غيره أصحاب كسرى ونعمان، ثم غيَّره بعدُ زياد بن أبي سفيان. فقلت: وكانت الكوفة ومسجدها في زمن نوح (علیه السلام)؟فقال لي: نعم يا مفضل، وكان منزل نوح وقومه في قرية على منزل من الفرات، مما يلي غربي الكوفة، قال: وكان نوح (علیه السلام) رجلاً نجاراً فجعله الله عزوجل نبياً وانتجبه، ونوح أول من عمل سفينة تجري على ظهر الماء.

قال: ولبث نوح (علیه السلام) في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عزوجل فيهزؤون به ويسخرون منه، فلما رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلايَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا. فأوحى الله عزوجل إلى نوح أن اصنع سفينة وأوسعها وعجل عملها، فعمل نوح سفينة في مسجد الكوفة بيده، فأتى بالخشب من بُعد حتى فرغ منها.

ص: 256

قال: المفضل ثم انقطع حديث أبي عبدالله (علیه السلام) عند زوال الشمس فقام فصلى الظهر والعصر ثم انصرف من المسجد، فالتفت عن يساره وأشار بيده إلى موضع دار الداريين، وهو موضع دار ابن حكيم وذاك فرات اليوم، فقال لي: يا مفضل، هاهنا نصبت أصنام قوم نوح (علیه السلام): يغوث ويعوق ونسراً.

ثم مضى حتى ركب دابته فقلت: جعلت فداك في كم عمل نوح سفينته حتى فرغ منها؟ قال: في دورين، قلت: وكم الدورين؟ قال: ثمانين سنة. قلت: وإن العامة يقولون: عملها في خمس مائة عام، فقال: كلا كيف والله يقول: وَوَحْيِنَا.

قال قلت: فأخبرني عن قول الله عزوجل: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ، فأين كان موضعه وكيف كان؟فقال: التنور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة المسجد. فقلت له: فإن ذلك موضع زاوية باب الفيل اليوم. ثم قلت له: وكان بدء خروج الماء من ذلك التنور؟ فقال: نعم إن الله عزوجل أحب أن يرى قوم نوح آية، ثم إن الله تبارك وتعالى أرسل عليهم المطر يفيض فيضاً، وفاض الفرات فيضاً، والعيون كلهن فيضاً، فغرقهم الله عز ذكره، وأنجى نوحاً ومن معه في السفينة. فقلت له: كم لبث نوح في السفينة حتى نضب الماء وخرجوا منها؟ فقال: لبثوا فيها سبعة أيام ولياليها، وطافت بالبيت أسبوعاً، ثم استوت على الجودي، وهو فرات الكوفة. فقلت له: إن مسجد الكوفة قديم؟فقال: نعم، وهو مصلى الأنبياء (علیهم السلام) ولقد صلى فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين أسري به إلى السماء، فقال له جبرئيل: يا محمد هذا مسجد أبيك آدم، ومصلى الأنبياء (علیهم السلام)، فانزل فصل فيه فنزل فصلى فيه.. ثم إن جبرئيل عرج به إلى السماء».

وفي رواية في تفسير القمي: 2/3 أن جبرئيل (علیه السلام) أنزل النبي (صلی الله علیه و آله) في المدينة فصلى فيها، وأخبره أنها مهاجره، وصلى في طور سيناء عند قبر موسى (علیه السلام)، وفي بيت لحم مولد عيسى (علیه السلام) .

أقول: «روى الطبري: 3/145 أن سلمان وحذيفة كانا رائدي جيش فتح العراق فارتادا لهم مكاناً لنزولهم، فخرج سلمان حتى أتى الأنبار، فسار في غربي الفرات

ص: 257

لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة. وخرج حذيفة في شرقي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة، والكوفة على حصباء، وكل رملة حمراء يقال لها سهلة، وكل حصباء ورمل هكذا متخلطين فهو كوفة، فأتيا عليها وفيها دَيْرَات ثلاثة: دير حرقة ودير أم عمرو ودير سلسلة، وخصاص خلال ذلك، فأعجبتهما البقعة».

وفي فتوح البلاذري: 2/354 أن سلمان الفارسي قال: «الكوفة قبة الإسلام، يأتي على الناس زمان لا يبقى مؤمن إلا وهو بها، أو يهوي قلبه إليها».

ولا بد أن يكون عمله (رحمة الله) بتوجيه علي (علیه السلام) باب مدينة علم النبي (صلی الله علیه و آله) .

9- استنفر أبوطالب ليلة الإسراء لأنه افتقد النبي (صلی الله علیه و آله)

كانت مدة المعراج الأول أقل من ثلث ليلة، حسب رواية الاحتجاج: 1/327. وكان وقته الثلث الأخير من الليل، كما في الخرائج: 1/85.

وفي تفسير العياشي، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) صلى العشاء الآخرة وصلى الفجر في الليلة التي أسريَ به فيها بمكة. وكان أبوطالب أمرعلياً وجعفراً وحمزة بالتناوب لحراسته، وكان يتفقد مكانه في الليل! ولما لم يجده خاف أن يكون القرشيون قتلوه، فبعث من يبحث عنه، واستدعى شباب بني هاشم ووزع عليهم سيوفاً قصيرة أو شفاراً، وأمرهم أن يكون كل واحد منهم بجانب زعيم قرشي فإذا أمرهم فليقتل كل منهم من بجنبه من الزعماء،وأولهم أبوجهل! مناقب ابن شهرآشوب: 1/156 وروضة الواعظين/59.

وفي تاريخ اليعقوبي: 2/26: «قال لهم: إن رأيتموني ومحمداً معي فأمسكوا حتى آتيكم، وإلا فليقتل كل رجل منكم جليسه ولاتنتظروني. فوجدوه على باب

أم هانئ، فأتى به بين يديه حتى وقف على قريش فعرَّفهم ما كان منه!فأعظموا ذلك وجلَّ في صدورهم، وعاهدوه وعاقدوه أنهم لايؤذون رسول الله، ولا يكون منهم إليه شئ يكرهه أبداً».

وفي الخرائج للراوندي: 1/85: «لما رجع من السُّرى نزل على أم هاني بنت أبي طالب

ص: 258

فأخبرها فقالت: بأبي أنت وأمي والله لئن أخبرت الناس بهذا ليكذبنَّك من صدَّقَك، وكان أبوطالب قد فقده تلك الليلة فجعل يطلبه وجمع بني هاشم، ثم أعطاهم المُدى، وقال لهم: إذا رأيتموني قد دخلت وليس معي محمد فليضرب كل رجل منكم جليسه، والله لا نعيش نحن ولا هم وقد قتلوا محمداً.

فخرج في طلبه وهو يقول: يا لها عظيمة إن لم يواف رسول الله مع الفجر، فتلقاه على باب أم هاني حين نزل من البراق فقال: يا ابن أخي، إنطلق فادخل بين يديَّ المسجد، وسلَّ سيفه عند الحجر وقال: يا بني هاشم أخرجوا مُداكم. فقال: لو لم أره ما بقي منكم شِفْر ٌ«أحد» أو عشنا، فاتقته قريش منذ يوم أن يغتالوه.

ثم حدثهم محمد (صلی الله علیه و آله)، فقالوا: صف لنا بيت المقدس. قال: إنما دخلته ليلاً، فأتاه جبرئيل فقال: أنظر إلى هناك، فنظر إلى البيت فوصفه وهو ينظر إليه، ثم نعت لهم ما كان لهم من عير ما بينهم وبين الشام».

لكن ابن سعد: 1/202 جعل الحادثة عندما جاء زعماء قريش إلى أبي طالب وعرضوا عليه أن يعطوه رجلاً بدل النبي (صلی الله علیه و آله)، ونزلت سورة صاد فاشمأزوا منها! قال: «فلما كان مساء تلك الليلة فقد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجاء أبوطالب وعمومته إلى منزله فلم يجدوه فجمع فتياناً من بني هاشم وبني المطلب، ثم قال: ليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة ثم ليتبعني فإذا دخلت المسجد فلينظركل فتى منكم فليجلس إلى عظيم من عظمائهم فيهم ابن الحنظلية يعني أباجهل، فإنه لم يغب عن شر، إن كان محمد قد قتل! فقال الفتيان نفعل».

وفي الغدير: 7/350، عن الحجة لفخار بن معد، عن ابن الجوزي عن الواقدي: «كان أبوطالب بن عبدالمطلب لايغيب صباح النبي ولا مساءه، ويحرسه من أعدائه ويخاف أن يغتالوه، فلما كان ذات يوم فقده فلم يره... فلما وقف عليهم والغضب في وجهه قال لعبيده: أبرزوا ما في أيديكم فأبرز كل واحد منهم ما في يده، فلما رأوا السكاكين قالوا: ما هذا يا أباطالب؟ قال: ما ترون، إني طلبت محمداً فلم أره منذ يومين فخفت أن تكونوا كدتموه ببعض شأنكم، فأمرت

ص: 259

هؤلاء أن يجلسوا حيث ترون وقلت لهم: إن جئت وليس محمد معي فليضرب كل منكم صاحبه الذي إلى جنبه ولا يستأذني فيه ولو كان هاشمياً! فقالوا: وهل كنت فاعلاً؟فقال: إي ورب هذه وأومى إلى الكعبة! فقال له المطعم بن عدي بن نوفل وكان من أحلافه: لقد كدت تأتي على قومك؟ قال: هو ذلك. ومضى به وهو يقول:

إذهب بُنَيَّ فما عليك غضاضةٌ *** إذهب وقَرَّ بذاك منك عيونا

والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا

ودعوتني وعلمت أنك ناصحي *** ولقد صدقت وكنت قبل أمينا

وذكرت ديناً لا محالة إنه *** من خير أديان البرية دينا

فرجعت قريش على أبي طالب بالعتب والإستعطاف، وهو لا يحفل بهم»!

أقول: لايبعد أن يكون عمل أبي طالب (رحمة الله) قد تكرر منه لحماية النبي (صلی الله علیه و آله) وتهديد قريش.

10- رأت قريش آيات المعراج فزادت كفراً وعتواً

في أمالي الصدوق/533، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما أسري برسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى بيت المقدس حمله جبرئيل على البراق، فأتيا بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء (علیهم السلام) وصلى بها، ورده فمرَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) في رجوعه بِعِيرٍ لقريش وإذا لهم ماء في آنية وقد أضلوا بعيراً لهم وكانوا يطلبونه، فشرب رسول الله (صلی الله علیه و آله) من ذلك الماء وأهرق باقيه! فلما أصبح رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لقريش: إن الله جل جلاله قد أسرى بي إلى بيت المقدس، وأراني آثار الأنبياء (علیهم السلام) ومنازلهم، وإني مررت بعير لقريش في موضع كذا وكذا وقد أضلوا بعيراً لهم، فشربت من مائهم وأهرقت باقي ذلك. فقال أبوجهل: قد أمكنتكم الفرصة منه فسلوه كم الأساطين فيها والقناديل؟ فقالوا: يا محمد إن هاهنا من قد دخل بيت المقدس، فصف لنا كم أساطينه وقناديله ومحاريبه؟ فجاء جبرئيل فعلق صورة بيت المقدس تجاه وجهه، فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه! فلما أخبرهم قالوا: حتى تجئ العير ونسألهم عما قلت. فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) تصديق ذلك أن العير تطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق. فلما كان من الغد

ص: 260

أقبلوا ينظرون إلى العقبة ويقولون: هذه الشمس تطلع الساعة، فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم العير حين طلع القرص يقدمها جمل أورق، فسألوهم عما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: لقد كان هذا، ضل جمل لنا في موضع كذا وكذا، ووضعنا ماء فأصبحنا وقد أهريق الماء! فلم يزدهم ذلك إلا عتواً»!

وفي الكافي: 8/262 عن الإمام الصادق (علیه السلام): «ثم قال: هذه عير بني فلان تقدم مع طلوع الشمس يتقدمها جمل أورق أو أحمر، قال: وبعثت قريش رجلاً على فرس ليردها، قال: وبلغ مع طلوع الشمس، قال قرطة بن عبد عمرو: يا لهفاً ألا أكون لك جذعاً، حين تزعم أنك أتيت بيت المقدس ورجعت من ليلتك»!

ونحوه في الخرائج: 1/141، عن علي (علیه السلام)،وفيه: «فلما كان اليوم الثالث خرجوا إلى باب مكة لينظروا صدق ما أخبر به محمد (صلی الله علیه و آله) قبل طلوع الشمس، فهم كذلك إذا طلعت العير عليهم بطلوع الشمس في أولها الجمل الأحمر! فتعجبوا من ذلك! وسألوا الذين كانوا مع العيرفقالوا مثل ما قال محمد (صلی الله علیه و آله) في إخباره عنهم. فقالوا: هذا أيضاً من سحر محمد»!

وفي تفسير العياشي: 2/137 في قول الله عزوجل: وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ، قال: «فأجابهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في كل ما سألوه عنه فلم يؤمن منهم إلا قليل، وهو قول الله تبارك وتعالى: وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ. ثم قال أبوعبدالله (علیه السلام): نعوذ بالله أن لا نؤمن بالله وبرسوله. آمنا بالله وبرسوله (صلی الله علیه و آله)».

11- صفة البُراق الذي حمل النبي (صلی الله علیه و آله) في معراجه

روى في الكافي: 8/376: «أتى جبرئيل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالبراق أصغرمن البغل وأكبر من الحمار، مضطرب الأذنين، عينيه في حافره، وخطاه مد بصره، إذا انتهى إلى جبل قصرت يداه وطالت رجلاه، فإذا هبط طالت يداه وقصرت رجلاه، أهدب العرف الأيمن، له جناحان من خلفه».

في أمالي الصدوق/534: «رجلاها أطول من يديها، خَطْوُها مدُّ البصر، فلما

ص: 261

أراد النبي أن يركب امتنعت فقال جبرئيل (علیه السلام): إنه محمد، فتواضعت حتى لصقت بالأرض. قال فركب فكلما هبطت ارتفعت يداها وقصرت رجلاها، وإذا صعدت ارتفعت رجلاها وقصرت يداها، فمرت به في ظلمة الليل على عيرٍ مُحَمَّلة، فنفرت العير من دفيف البراق، فنادى رجل في آخر العير غلاماً له في أول العير: يافلان، إن الإبل قد نفرت»!

وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 1/35 ومسند زيد بن علي/497، قال (صلی الله علیه و آله): «هي دابة من دواب الجنة، ليست بالطويل ولا بالقصير، فلو أن الله أذن لها لجالت الدنيا في جرية واحدة، وهي أحسن الدواب لوناً».

وفي الخرائج: 1/84: «فوقفه على باب خديجة ودخل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فمرح البراق، فخرج إليه جبرئيل (علیه السلام) فقال: أسكن فإنما يركبك أحب خلق الله إليه». وفي روضة الواعظين/53: «ومضى إلى بيت المقدس، ثم إلى السماء الدنيا، فتلقته الملائكة فسلمت عليه، وتطايرت بين يديه، حتى انتهى إلى السماء السابعة».

وفي مسند زيد بن علي/449: «قال أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام): لما بدأ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بتعليم الأذان أتى جبريل بالبراق فاستصعب عليه: ثم أتاه بدابة يقال لها براقة فاستصعبت عليه، فقال لها جبريل أسكني براقة، فما ركبك أحد أكرم على الله منه فسكنت، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) فركبتها حتى انتهت إلى الحجاب الذي يلي الرحمن تبارك وتعالى، فخرج ملك من وراء الحجاب، فقال الله أكبر الله أكبر، قال فقلت: يا جبريل ومن هذا الملك، قال: والذي أكرمك بالنبوءة ما رأيت هذا الملك قبل ساعتي هذه! فقال: الله أكبر، الله أكبر، فنودي من وراء الحجاب: صدق».

وفي صحيح البخاري: 4/77: «وأتيتُ بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار البراق فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا، قيل من هذا؟ قال جبريل. قيل: ومن معك؟ قيل: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به».

ويفهم من دعاء إقبال الأعمال: 2/51 أن الله تعالى علم رسوله (صلی الله علیه و آله) بعض أسمائه الحسنى فسخر له البراق: وباسمك الذي سخرت به البراق لمحمد صلواتك عليه وآله.

ص: 262

12- النبي (صلی الله علیه و آله) سيركب البراق يوم القيامة

روى الحاكم: 3/153، والطوسي والصدوق في أماليهما /35/275، قال النبي (صلی الله علیه و آله): «وأبعث على البراق، خطوها عند أقصى طرفها، وتبعث فاطمة (علیها السلام) أمامي».

وفي الخصال/203: «عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما في القيامة راكب غيرنا ونحن أربعة، فقام إليه العباس بن عبدالمطلب فقال: من هم يا رسول الله؟ فقال: أما أنا فعلى البراق ووجهها كوجه الإنسان وخدها كخد الفرس، وعرفها من لؤلؤ مسموط، وأذناها زبرجدتان خضراوان، وعيناها مثل كوكب الزهرة، تتوقدان مثل النجمين المضيئين، لها شعاع مثل شعاع الشمس، ينحدر من نحرها الجمان، مطوية الحلق طويلة اليدين والرجلين، لها نفس كنفس الآدميين، تسمع الكلام وتفهمه، وهي فوق الحمار ودون البغل.

قال العباس: ومن يا رسول الله؟ قال (صلی الله علیه و آله): وأخي صالح على ناقة الله عزوجل التي عقرها قومه، قال العباس: ومن يا رسول الله؟ قال: وعمي حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله، سيد الشهداء على ناقتي العضباء، قال العباس: ومن يا رسول الله؟ قال: وأخي علي على ناقة من نوق الجنة، زمامها من لؤلؤ رطب عليها محمل من ياقوت أحمر، قضبانه من الدر الأبيض، على رأسه تاج من نور عليه حلتان خضراوان، بيده لواء الحمد وهو ينادي: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً رسول الله. فيقول الخلائق ما هذا إلا نبي مرسل أو ملك مقرب، فينادي مناد من بطنان العرش: ليس هذا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا حامل عرش، هذا علي بن أبي طالب وصي رسول رب العالمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين»! ونحوه أمالي الطوسي/258.

وقال الصدوق في الخصال: هذا حديث غريب لما فيه من ذكر البراق ووصفه، وذكر حمزة بن عبدالمطلب.

وفي أمالي الصدوق/275: «لن يركب إلا أربعة: أنا وعلي وفاطمة وصالح

نبي الله».

ص: 263

أقول: تفاوتت الرواية في عد الركبان فبعضها عد منهم الزهراء (علیها السلام) فيكونون خمسة، ومنهم عدهم أربعة فيكون المقصود الرجال. ولم تبين الرواية مكان ركوبهم أو زمانه. على أن أسانيدها ليست قوية.

13- ركب إبراهيم (علیه السلام) البراق والمهدي (علیه السلام) سيركبه

روى القمي في تفسيره: 1/60 عن الإمام الصادق (علیه السلام) أن الله تعالى حمل إبراهيم على البراق إلى مكة.وروي أن المهدي (علیه السلام) يأتيه جبرئيل بالبراق فيركبه من المدينة إلى مكة: «فيأخذ بيده ويصافحه ويسلم عليه ويقول له: قم ويجيؤه بفرس يقال له البراق فيركبه ثم يأتي إلى جبل رضوى، فيأتي محمد (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) فيكتبان له عهداً منشوراً يقرؤه على الناس، ثم يخرج إلى مكة والناس يجتمعون بها. قال: فيقوم رجل منه فينادي: أيها الناس هذا طلبتكم قد جاءكم يدعوكم إلى ما دعاكم إليه رسول الله. قال: فيقوم هو بنفسه فيقول: أيها الناس أنا فلان بن فلان، أنا ابن نبي الله، أدعوكم إلى ما دعاكم إليه نبي الله. فيقومون إليه ليقتلوه فيقوم ثلاث مائة وينيف على الثلاث مائة فيمنعونه، منه خمسون من أهل الكوفة، وسائرهم من أفناء الناس لايعرف بعضهم بعضاً، اجتمعوا على غير ميعاد».

معجم المهدي: 3/198.

14- قميص المعراج وقميص أحُد من ماريث الأنبيا (علیهم السلام)

في الكافي: 1/236 عن الإمام الصادق (علیه السلام) أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما عرض على عمه العباس قبول ديونه وعداته فاعتذر، ثم عرضها على علي (علیه السلام) فقبلها، فأمر بإحضارها، وفيه: «يا بلال عليَّ بالمغفر والدرع والراية... والقميصين: القميص الذي أسري به فيه، والقميص الذي جُرح فيه يوم أحد... فقال: إقبضها

في حياتي».

أقول: يظهر من أحاديث المعراج أن النبي (صلی الله علیه و آله) ركب على وسيلة خاصة، وأنه استعمل الإسم الأعظم، وأنه لبس قميصاً خاصاً.

ص: 264

15- معنى سدرة المنتهى

روى البخاري عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: 4/249: «ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى».

فسدرة المنتهى عند هذا الراوي شجرة سدر، لكن ثمرها نبق كبير، الواحدة منه بقدر قربة ماء كبيرة، من قِلال هجر البحرين، أوهجر المدينة!

وهذا تبسيط عامي لسدرة المنتهى، لكن أهل البیت (علیهم السلام) رووا أنها شجرة خاصة في عوالم أنوار الله تعالى، وأن منطقتها آخر ما يمكن أن يصل اليه مخلوق.

ففي الإحتجاج: 1/361: «ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى. يعني: محمداً كان عند سدرة المنتهى، حيث لا يجاوزها خلق من خلق الله عزوجل».

وفي المحاسن: 2/334: «قال أبوجعفر (علیه السلام): إنما سميت سدرة المنتهى، لأن أعمال

أهل الأرض تصعد بها الملائكة الحفظة إلى محل السدرة. وقال: الحفظة الكرام البررة دون السدرة، يكتبون ما ترفعه إليهم الملائكة من أعمال العباد في الأرض وينتهون بها إلى محل السدرة».

وفي قرب الإسناد/101: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الورقة منها تظل الدنيا، وعلى كل ورقة ملك يسبح الله، يخرج من أفواههم الدر والياقوت، تبصر اللؤلؤة مقدار خمس مائة عام، وما سقط من ذلك الدر والياقوت يخزنه ملائكة موكلون به يلقونه في بحر من نور، يخرجون كل ليلة جمعة إلى سدرة المنتهى، فلما نظروا إليَّ رحبوا بي وقالوا: يا محمد مرحباً بك، فسمعت اضطراب ريح السدرة وخفقة أبواب الجنان، قد اهتزت فرحاً لمجيئك، فسمعت الجنان تنادي: واشوقاه إلى علي وفاطمة والحسن والحسين».

وفي دلائل الامامة/100: «عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: لما زوج رسول الله (صلی الله علیه و آله) فاطمة من علي (علیهما السلام) أتاه أناس من قريش فقالوا: إنك زوجت علياً بمهر قليل! فقال: ما أنا زوجت علياً ولكن الله زوجه ليلة أسريَ بي إلى السماء، فصرت عند سدرة المنتهى أوحى الله إلى السدرة:

ص: 265

أن انثري ما عليك، فنثرت الدر والجوهر والمرجان، فابتدر الحور العين فالتقطن، فهن يتهادينه ويتفاخرن به، ويقلن: هذا من نثار فاطمة بنت محمد».

16- لم يرَ النبي (صلی الله علیه و آله) ربه بعینه بل رأى من آياته الكبرى

عقد في الكافي: 1/95 باباً في تنزيه الله تعالى عن الخضوع لقوانين الزمان والمكان، والرؤية بالعين، وروى فيه بضعة عشر حديثاً، منها حديثان عن الكندي الفيلسوف يعقوب بن يوسف، من رسالتين بعث بهما إلى الإمام العسكري (علیه السلام):

1- عن يعقوب بن إسحاق قال: «كتبت إلى أبي محمد «الحسن العسكري (علیه السلام)» أسأله كيف يعبدالعبد ربه وهو لا يراه؟ فوقع (علیه السلام): يا أبا يوسف، جل سيدي ومولاي والمنعم عليَّ وعلى آبائي أن يرى. وسألته: هل رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ربه؟ فوقع (علیه السلام): إن الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب».

2- عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: «جاء حبر إلى أميرالمؤمنين صلوات الله عليه فقال: يا أميرالمؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ قال فقال: ويلك ما كنت أعبد رباً لم أره! قال: وكيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان».

3- عن عاصم بن حميد قال: «ذاكرت أبا عبدالله (علیه السلام) فيما يروون من الرؤية فقال: الشمس جزء من سبعين جزءً من نور الكرسي والكرسي جزء من سبعين جزءً من نور العرش، والعرش جزء من سبعين جزءً من نور الحجاب، والحجاب جزء من سبعين جزءً من نور الستر، فإن كانوا صادقين فليملؤوا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب».

4- عن صفوان بن يحيى قال: «سألني أبو قرة المحدث أن أدخله على أبي الحسن الرضا (علیه السلام) فاستأذنته في ذلك فأذن لي، فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال أبو قرة: إنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين، فقسم الكلام لموسى ولمحمد الرؤية!

ص: 266

فقال أبو الحسن (علیه السلام): فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس: لاتُدْرِكُهُ الأبْصَار، ولا يحُيطون به علماً، ولَيْسَ كمثلهِ شَئ، أليس محمد؟ قال: بلى. قال: كيف يجيئ رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: لاتدركه الأبصار، ولا يحيطون به علماً، وليس كمثله شئ، ثم يقول أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً وهو على صورة البشر؟! أما تستحون! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر!

قال أبو قرة: فإنه يقول: ولقد رآه نزلةً أخرى، فقال أبو الحسن (علیه السلام): إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: ما كذب الفؤاد ما رأى، يقول: ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه، ثم أخبر بما رأى فقال: لقد رأى من آيات ربه الكبرى، فآيات الله غير الله، وقد قال الله: وَلَا يُحِيطُونَ بِه عِلْما، فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة! فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات؟ فقال أبو الحسن (علیه السلام): إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها، وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علماً، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شئ».

5 - عن داود بن القاسم أبي هاشم الجعفري قال: «قلت لأبي جعفر «الإمام الجواد (علیه السلام)»: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ؟ فقال: يا أبا هاشم أوهام القلوب أدق من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها، ولا تدركها ببصرك، وأوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون»!

6- عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام): قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لما أسري بي إلى السماء، بلغ بي جبرئيل مكاناً لم يطأه قط جبرئيل.فكُشف له فأراه الله من نور عظمته ما أحب.

وفي الكافي: 1/443: «فخلى عنه فقال له: يا جبرئيل تخليني على هذه الحالة؟فقال: إمضه، فوالله لقد وطأت مكاناً ما وطأه بشر، وما مشى فيه بشرٌ قبلك».

7- وروى الصدوق في التوحيد/117، بسند صحيح عن أبي الصلت الهروي قال: «قلت لعلي بن موسى الرضا (علیهما السلام): يا ابن رسول الله، فما معنى الخبر

ص: 267

الذي رووه أن ثواب لا إله إلا الله النظر إلى وجه الله؟ فقال (علیه السلام): يا أبا الصلت من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه الله أنبياؤه ورسله وحججه صلوات الله عليهم، هم الذين بهم يتوجه إلى الله وإلى دينه ومعرفته، وقال الله عزوجل: كل من عليها فان و يبقى وجه ربك. وقال عزوجل: كل شئ هالك إلا وجهه».

17- زعم أتباع السلطة أنه رأى ربه في داره شاباً أمرد!

قال البخاري: 8/205 في حديث فرض الصلاة وأن موسى (علیه السلام) قال له إرجع وأطلب من الله تخفيف الصلاة عن أمتك: «فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت، فعلا به إلى الجبار وهو في مكانه فوضع عنه عشراً»!

ورووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) رأى الله على صورة شاب أمرد، يلبس قبقاباً من ذهب! وتبناه ابن تيمية في منهاج السنة/634 وفي نقض التأسيس: 3/241، فقال: «سئل ابن عباس هل رأى محمد ربه؟ قال: نعم. قال: وكيف رآه؟قال: في صورة شاب دونه ستر من لؤلؤ،كأن قدميه في خضرة.. وهذا يدل على أنه رآه. وأخبر أنه رآه في صورة شاب دونه ستر وقدميه في خضرة، وأن هذه الرؤية هي المعارضة بالآية والمجاب عنها بما تقدم، فيقتضي أنها رؤية عين، كما في الحديث الصحيح المرفوع عن قتادة عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): رأيت ربي في صورة شاب أمرد، له وفرة، جعد، قطط، في روضة خضراء»!

وكذلك تبناه في كتابه بيان تلبيس الجهمية/223، ونقل عن الطبراني أنه قال: «روى هذا الحديث جماعة من الأئمة الثقات عن حماد بن سلمة، عن قتادة.. ونقل عن ابن صدقة الحافظ قوله: من لم يؤمن بحديث عكرمة فهو زنديق!

ثم روى أن عبدالله بن عمر سأل ابن عباس فأجابه: نعم رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب، على كرسي من ذهب، تحمله أربعة من الملائكة».

ثم قال ابن تيمية: «وعلى الروايات الثلاث اعتمد ابن خزيمة في تثبيت الرؤية حيث قال: باب ذكر الأخبار المأثورة في إثبات رؤية النبي (صلی الله علیه و آله) خالقه العزيز العليم المحتجب عن أبصار بريته قبل اليوم الذي يجزي الله كل نفس ما كسبت، وذكر أن الله

ص: 268

نبيه خصَّ محمداً (صلی الله علیه و آله) بالرؤية كما خص إبراهيم (علیه السلام) بالخلة من بين جميع الرسل والأنبياء جميعاً، وكما خص موسى (علیه السلام) بالكلام، كل واحد بفضيلة، كما أخبرنا عزوجل في محكم تنزيله بقوله: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ. البقرة 253.

ثم اشتمل حديث هشام الدستوائي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس، قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليهم وذكر حديث الحكم عن عكرمة الذي فيه صورة شاب..فأما خبر قتادة والحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، وخبر عبدالله بن أبي سلمة، عن ابن عباس، فبينٌ واضحٌ أن ابن عباس رضيالله عنهما كان يثبت أن النبي (صلی الله علیه و آله) رأى ربه، وهذا من كلامه يقتضي أنه اعتمد هذه الطرق، وأنها تفيد رؤية العين لله».

وزعم ابن تيمية أن كل ما في التوراة من تجسيم يطابق السنة! ولذا رد الأحاديث التي تنفي الرؤية بالعين، وتشبث بأحاديث التجسيم حتى الضعيفة كحديث لقيط العقيلي في العماء، وحديث أم الطفيل عن معبودهم الشاب الأمرد، اللابس نعلين من ذهب، وحديث الأوعال والأسد والثور التي تحمل عرشه، كما في التوراة، وحديث طقطقة العرش وصريره وأزيزه، لأن خشبه جديد كمحمل الجمل! وأنه يفضل من العرش أربع أصابع، فيُقعد فيها إلى جانبه من يحبه...إلخ.

فالتوراة في عقيدته هي الأساس، والسنة يجب أن تخضع لها، والقرآن أيضاً!

وقال ابن باز«4/368 رقم2331»: «خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً! وهو حديث صحيح ولا غرابة في متنه.. الضمير في قوله: على صورته، يعود على الله، بدليل ما جاء في رواية أخرى صحيحة: على صورة الرحمن»!

وقال الألباني أيضاً في فتاويه/506: «هل أنكم تثبتون صفة الهرولة لله تعالى؟ جواب: الهرولة كالمجئ والنزول صفات ليس يوجد عندنا ما ينفيها.

وأثبت له ابن باز صفة الهرولة، قال في فتاويه: 5/374: «ومن

ص: 269

تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً...أما التأويل للصفات وصرفها عن ظاهرها فهو مذهب أهل البدع من الجهمية والمعتزلة».

ورووا أن الله يجلس على كرسي ويُجلس حوله النبيين::2/58: «عن أنس: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أتاني جبريل وفي يده كالمرآة البيضاء...قال لأن ربك تبارك وتعالى اتخذ في الجنة وادياً من مسك أبيض، فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه تبارك وتعالى، ثم حف كرسيه منابر من ذهب مكللة بالجواهر، ثم يجئ النبيون حتى يجلسوا عليها»!

ووصف البدوي أمية بن الصلت ربه وزعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) صدَّقه«الإصابة 549»:

رجل وثور تحت رجل يمينه *** والنسر للأخرى وليثٌ مرصد

والشمس تطلع كل آخر ليلةٍ *** فجراً وتصبح لونها يتوقد

تأبى فما تطلع لهم في وقتها *** إلا معذبةً، وإلا تُجلدُ».

وفي جزء الشعر للنابلسي/90: أخرجه أحمد في المسند: 1/256، وقد صحح العلامة أحمد شاكر إسناده وابن أبي شيبة في المصنف: 8/505، برقم: 6064 وأبو يعلى في مسنده:4/365.

وأصله رواية البخاري: «3 /30و 4/178 ومسلم: 1/96»: «أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟قالوا: الله ورسوله أعلم قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش». أما أهل البیت (علیهم السلام) فردوا كل هذه الروايات وكل أنواع التجسيم والتشبيه.

18- أخذ الله ميثاق الأنبياء (علیهم السلام) للنبي وآله (صلی الله علیه و آله)

في الكافي: 3/302 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «لما أسري برسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى السماء فبلغ البيت المعمور، وحضرت الصلاة فأذن جبرئيل وأقام، فتقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وصَفَّ الملائكةُ والنبيون خلف محمد (صلی الله علیه و آله)».

وفي علل الشرائع: 1/8 عن الإمام الصادق (علیه السلام): «فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): تقدم يا جبرئيل، فقال له: إنا لانتقدم على الآدميين، منذ أُمرنا بالسجود لآدم».

وفي الكافي: 8/120: «عن أبي الربيع قال: حججنا مع أبي جعفر (علیه السلام) في السنة التي

ص: 270

كان حج فيها هشام بن عبدالملك، وكان معه نافع مولى عبدالله بن عمر بن الخطاب «من علماء النصارى والسلطة» فنظر نافع إلى أبي جعفر (علیه السلام) في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس فقال نافع: يا أميرالمؤمنين من هذا الذي قد تداكَّ عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة، هذا محمد بن علي!فقال: أشهد لآتينه فلأسألنه عن مسائل لايجيبني فيها إلا نبي أو ابن نبي أو وصي نبي! قال: فاذهب إليه وسله لعلك تخجله، فجاء نافع حتى اتكأ على الناس ثم أشرف على أبي جعفر (علیه السلام) فقال: يا محمد بن علي إني قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وقد عرفت حلالها وحرامها، وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلا نبي أو وصي نبي أو ابن نبي! قال: فرفع أبوجعفر (علیه السلام) رأسه فقال: سل عما بدا لك. فقال: أخبرني كم بين عيسى وبين محمد من سنة؟ قال: أخبرك بقولي أو بقولك؟ قال: أخبرني بالقولين جميعاً. قال: أما في قولي فخمس مائة سنة، وأما في قولك فست مائة سنة. قال: فأخبرني عن قول الله عزوجل لنبيه: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ. من الذي سأل محمد وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة؟! قال: فتلا أبوجعفر (علیه السلام) هذه الآية: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا، فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمداً (صلی الله علیه و آله) حيث أسرى به إلى بيت المقدس أن حشر الله عز ذكره الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين ثم أمر جبرئيل فأذن شفعاً وأقام شفعاً، وقال في أذانه: حي على خير العمل، ثم تقدم محمد فصلى بالقوم فلما انصرف قال لهم: على ما تشهدون وما كنتم تعبدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله أخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا.. فولَّى «نافع» من عنده وهو يقول: أنت والله أعلم الناس حقاً حقاً، فأتى هشاماً فقال له: ما صنعت؟ قال: دعني من كلامك هذا، والله أعلم الناس حقاً حقاً، وهو ابن رسول الله حقاً، ويحق لأصحابه أن يتخذوه نبياً».

أقول: نصت أكثر الأحاديث على صلاة النبي (صلی الله علیه و آله) بالأنبياء (علیهم السلام) في البيت المعمور

ص: 271

في السماء الرابعة، وقد يوهم هذا الحديث بأن الصلاة في بيت المقدس وهو بعيد.

وفي نوادر المعجزات/72، ونحوه في العياشي: 2/128 عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: «فلما أقام الصلاة قال: يا محمد قم فصل بهم واجهر بالقرآن إلى خلفك وزمرٍ من الملائكة والنبيين لايعلم عددهم إلا الله، فتقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فصلى بهم جميعاً ركعتين، فجهر بهما بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، فلما سلم وانصرف من صلاته أوحى الله تعالى إليه كلمح البصر: يا محمد: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ. قال: فالتفت رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى من خلفه من الأنبياء فقال: على ما تشهدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأن لكل نبي منا خلفا وصياً من أهله، ما خلا هذا فإنه لا عصبة له، يعنون بذلك عيسى بن مريم (علیه السلام) . ونشهد أنك سيد النبيين، ونشهد أن علياً وصيك سيد الأوصياء، وعلى ذلك أخذت مواثيقنا».

وفي مائة منقبة لابن أحمد القمي/150، عن ابن عباس: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما عرج بي إلى السماء انتهى بي المسير مع جبرئيل إلى السماء الرابعة، فرأيت بيتاً من ياقوت أحمر فقال جبرئيل هذا هو البيت المعمور، خلقه الله تعالى قبل السماوات والأرضين بخمسين ألف عام، قم يا محمد فصلِّ إليه.. ثم أمر الله تعالى حتى اجتمع جميع

الرسل والأنبياء».

وروى الحاكم في المعرفة/96، عن عبدالله بن عمر: «قال النبي (صلی الله علیه و آله): يا عبدالله أتاني ملك فقال: يا محمد، وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا، على ما بعثوا؟ قال قلت: على ما بعثوا؟ قال على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب! قال الحاكم: ولم نكتبه إلا عن بن مظفر، وهو عندنا حافظ ثقةٌ مأمون».

وعن أبي هريرة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «لما أسري بي ليلة المعراج اجتمع عليَّ الأنبياء في السماء فأوحى الله إلي: سلهم يا محمد بماذا بعثتم؟ قالوا: بعثنا على شهادة أن لا إله إلا الله، وعلى الإقرار بنبوتك والولاية لعلي بن أبي طالب». رواه في خصائص الوحي المبين/170، عن الإستيعاب. وفي الطرائف/101، عن أبي نعيم، وفي ينابيع المودة: 2/246، عن أبي هريرة. ونهج الحق/183، عن ابن عبدالبر وغيره. ومنهاج الكرامة/ 130، وفي هامشه الصراط المستقيم 1/181، عن الثعلبي والزمخشري في

ص: 272

الكشاف: 4/94 والكنجي في كفاية الطالب/136. وأورده في نفحات الأزهار: 5/260 و 16/366، وردَّ في: 20/392 و396، على إنكار ابن تيمية وجود الحديث، وبحث سنده في مصادر السنة.

روى القمي في تفسيره: 1/246 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «أول من سبق من الرسل إلى: بَلَى، محمد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وذلك أنه كان أقرب الخلق إلى الله تبارك وتعالى، وكان بالمكان الذي قال له جبرئيل لما أسري به إلى السماء: تقدم يا محمد فقد وطأت موطئاً لم يطأه ملك مقرب ولا نبي مرسل! ولولا أن روحه ونفسه كانت من ذلك المكان لما قدر أن يبلغه، فكان من الله عزوجل كما قال الله: قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، أي بل أدنى».

وفي المحتضر/266، في حديث الجالوت النصراني: «فقال رسول الله: يا جالوت، ليلة أسري بي إلى السماء أوحى الله تعالى إليَّ أن: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا.. على ما بعثوا؟ فقلت لهم: على ماذا بعثتم؟قالوا: على نبوتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة من ذريتكما. ثم أوحى إليَّ أن التفت إلى يمين العرش، فالتفت فإذا علي، والحسن، والحسين، وعلي، ومحمد، وجعفر، وموسى، وعلي، ومحمد، وعلي، والحسن، والمهدي، في ضحضاح من نور يُصلون. فقال الرب تعالى: هؤلاء الحجج أوليائي، وهذا منهم المنتقم من أعدائي. قال الجالوت فقلت: هؤلاء المذكورون في التوراة والإنجيل والزبور».

19- حديث النبي (صلی الله علیه و آله) مع ملك الموت (علیه السلام)

في تفسير القمي: 2/168 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما أسري بي إلى السماء رأيت ملكاً من الملائكة بيده لوح من نور، لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، مقبلاً عليه كهيئة الحزين، فقلت من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا ملك الموت مشغول في قبض الأرواح. فقلت: أدنِني منه يا جبرئيل لأكلمه، فأدناني منه فقلت له: يا ملك الموت، أكل من مات أو هو ميت فيما بعد أنت تقبض روحه؟ قال: نعم. قلت: وتحضرهم بنفسك؟ قال: نعم، وما الدنيا كلها عندي

ص: 273

فيما سخرها الله لي ومكنني منها، إلا كالدرهم في كف الرجل يقلبه كيف يشاء، وما من دار في الدنيا إلا وأدخلها في كل يوم خمس مرات، وأقول إذا بكى أهل البیت على ميتهم: لا تبكوا عليه، فإن لي إليكم عودة وعودة حتى لا يبقى منكم أحد! فقال رسول الله: (صلی الله علیه و آله) كفى بالموت طامة يا جبرئيل! فقال جبرئيل: إنما بعد الموت أطم وأعظم من الموت».

وفي الكافي: 3/136 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) على رجل من أصحابه وهو يجود بنفسه فقال: يا ملك الموت إرفق بصاحبي فإنه مؤمن، فقال: أبشر يا محمد فإني بكل مؤمن رفيق، واعلم يا محمد أني أقبض روح ابن آدم فيجزع أهله فأقوم في ناحية من دارهم فأقول: ما هذا الجزع! فوالله ما تعجلناه قبل أجله، وما كان لنا في قبضه من ذنب! فإن تحتسبوا وتصبروا تؤجروا، وإن تجزعوا تأثموا وتوزروا، واعلموا أن لنا فيكم عودة ثم عودة! فالحذر الحذر إنه ليس في شرقها ولا في غربها أهل بيت مدر ولا وبر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات، ولأنا أعلم بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم، ولو أردت قبض روح بعوضة ما قدرت عليها حتى يأمرني ربي بها! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنما يتصفحهم في مواقيت الصلاة، فإن كان ممن يواظب عليها عند مواقيتها لقنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونحى عنه ملك الموت إبليس».

وفي نوادر المعجزات/66، عن أميرالمؤمنين (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي لمَّا عرج بي إلى السماء سلم عليَّ ملك الموت ثم قال لي: يا محمد ما فعل ابن عمك علي؟ قلت: وكيف سألتني عنه يا عزرائيل؟ قال: إن الله تعالى أمرني أن أقبض أرواح الخلائق كلهم إلا أنت وابن عمك، فالله تعالى يقبض أرواحكما بيده».

20- آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون

في تفسير القمي: 1/95، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «هذه الآية مشافهة الله تعالى لنبيه ليلة أسريَ به إلى السماء، قال النبي (صلی الله علیه و آله): انتهيت إلى محل سدرة المنتهى وإذا بورقة

ص: 274

منها تظل أمة من الأمم، فكنت من ربي كقاب قوسين أو أدنى، كما حكى الله عزوجل، فناداني ربي تبارك وتعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ. فقلت أنا مجيباً عني وعن أمتي: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. فقال الله: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ. فقلت: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَانَا. وقال الله: لا أؤاخذك، فقلت: رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاتُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. البقرة: 285-286.

فقال الله تعالى: قد أعطيتك ذلك لك ولأمتك.فقال الصادق (علیه السلام): ما وفد إلى الله تعالى أحد أكرم من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، حيث سأل لأمته هذه الخصال».

وفي المحاسن: 1/136 عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لقد أسرى بي فأوحى الله إلي من وراء الحجاب ما أوحى، وشافهني من دونه بما شافهني، فكان فيما شافهني أن قال: يا محمد، من أذلَّ لي ولياً فقد أرصد لي بالمحاربة، ومن حاربني حاربته، قال فقلت: يا رب ومن وليك هذا؟فقد علمت أنه من حاربك حاربته، فقال: ذلك من أخذت ميثاقه لك ولوصيك ولورثتكما بالولاية».

21- كلم الله نبيه (صلی الله علیه و آله) في المعراج بصوت علي (علیه السلام)

عقيدتنا أن الله تعالى ليس كمثله شئ ولاتدركه الأبصار، ولا يخضع لقوانين المكان والزمان فهو خالقهما، ومعنى قوله: وكَلَّمَ اللهُ موسَى تكليماً: أنه خلق صوتاً في شجرة أو في جبل، فكان موسى يسمع الصوت من جميع الجهات كما روي.

قال أميرالمؤمنين (علیه السلام): «فسبحان من توحد في علوه، فليس لشئ منه امتناع، ولا له بطاعة أحد من خلقه انتفاع، إجابته للداعين سريعة، والملائكة له في السماوات والأرض مطيعة. كلم موسى تكليماً بلا جوارح وأدوات، ولا شفةٍ ولا لهوات، سبحانه وتعالى عن الصفات، فمن زعم أن إلهَ الخلق محدود، فقد جهل الخالق المعبود». التوحيد للصدوق/79 وفتح الباري: 13/383.

ص: 275

ولا بد أن يكون الصوت الذي كلم الله به موسى صوتاً يحبه موسى، وقد روي أنه صوت أخيه هارون (علیهما السلام)، وكذلك الأمر في نبينا محمد (صلی الله علیه و آله) عندما عرج به، فقد روى الفريقان أن الله تعالى كلمه بصوت علي (علیه السلام) .

روى الموفق الخوارزمي في المناقب/78، عن عبدالله بن عمر قال: «سمعت رسول الله وسئل بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج؟ فقال: خاطبني بلغة علي بن أبي طالب فألهمني أن قلت يا رب خاطبتني أنت أم علي؟ فقال يا أحمد أنا شئ ليس كالأشياء، لا أقاس بالناس، ولا أوصف بالشبهات، خلقتك من نوري وخلقت علياً من نورك، فاطلعت على سرائر قلبك فلم أجد في قلبك أحب إليك من علي بن أبي طالب. خاطبتك بلسانه كيما يطمئن قلبك». ومنهاج الكرامة/90.

وفي المحتضر للحسن بن سليمان الحلي/ 146، عن ابن عباس من حديث المعراج: «فناداني ربي: يا أحمد! وعزتي وجلالي وجودي ومجدي وارتفاعي في علو مكاني لقد اطلعت على سرك وما استكن في صدرك فلم أجد أحداً أحب إليك من علي في سرك فخاطبتك بلسانه، لتطمئن إلى الكلام وتهدأ في الخطاب، ولو خاطبتك بلسان الجبروت لما استطعت أن تسمع».

وفي الإحتجاج: 1/230 عن القاسم بن معاوية قال: «قلت لأبي عبدالله (علیه السلام): هؤلاء يروون حديثاً في معراجهم أنه لما أسري برسول الله رأى على العرش مكتوباً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أبوبكر الصديق!فقال: سبحان الله غيروا كل شئ حتى هذا! قلت: نعم. قال: إن الله عزوجل لما خلق العرش كتب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله علي أميرالمؤمنين، ولما خلق الله عزوجل الماء كتب في مجراه: لا إله إلا الله محمد رسول الله علي أميرالمؤمنين... فإذا قال أحدكم: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فليقل علي أميرالمؤمنين».

وقال في الصحيح من السيرة: 3/15: «وإذا كان الإسراء قد حصل قبل إسلامه بمدة طويلة، فلايبقى مجال لتصديق ما يذكر هنا من أنه قد سمي صديقاً حينما صدق رسول الله (صلی الله علیه و آله) في قضية الإسراء، ولا لما يذكرونه من أن ملكاً كان يكلم رسول الله

ص: 276

حين المعراج بصوت أبي بكر «الدر المنثور: 4/155». وقد صرح الحفاظ بكذب طائفة من تلك الروايات. والصحيح أنه كلمه بصوت علي (علیه السلام)».

22- أراه الله تعالى مكانة المؤمن عنده

في الكافي: 2/352 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «لما أسري بالنبي (صلی الله علیه و آله) قال: يا رب ما حال المؤمن عندك؟ قال: يا محمد من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وأنا أسرع شئ إلى نصرة أوليائي. وما ترددت عن شئ أنا فاعله كترددي عند وفاة المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الغنى ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفقر ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك. وما يتقرب إلي عبد من عبادي بشئ أحب إلي مما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته».

23- تشريع الصلاة في المعراج

اتفقت المصادر على أن تشريع فريضة الصلاة اليومية كان في معراج النبي (صلی الله علیه و آله)، ويبدو أنه في أول معراج له، ففي تهذيب الأحكام: 2/60 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «لما أسري برسول الله (صلی الله علیه و آله) فبلغ البيت المعمور حضرت الصلاة فأذن جبرئيل (علیه السلام) وأقام فتقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وصفَّ الملائكة والنبيون خلف رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

قال فقلنا له: كيف أَذَّنَ؟ فقال: الله أكبر الله أكبر،أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، حي على خير العمل حي على خير العمل. الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله لا إله إلا الله.

والإقامة مثلها إلا أن فيها قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، بين حي على

ص: 277

خير العمل حي على خير العمل، وبين الله أكبر الله أكبر، فأمر بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) بلالاً، فلم يزل يؤذن بها حتى قبض الله رسوله (صلی الله علیه و آله)».

وفي نوادر المعجزات/72 والعياشي: 2/128: «فلما أقام الصلاة قال: يا محمد قم فصل بهم واجهر بالقرآن إلى خلفك وزمرٍ من الملائكة والنبيين لايعلم عددهم إلا الله، فتقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فصلى بهم جميعاً ركعتين، فجهر بهما بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، فلما سلم وانصرف من صلاته أوحى الله تعالى إليه كلمح البصر: يا محمد: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ. قال: فالتفت رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى من خلفه من الأنبياء فقال: على مَ تشهدون؟ قالوا: نشهد أنك سيد النبيين، ونشهد أن علياً وصيك سيد الأوصياء، وعلى ذلك أخذت مواثيقنا».

أقول: ما تقدم هوالأذان في مذهبنا، وقد حذف منه عمر«حي على خير العمل»لكن ابنه عبدالله كان يؤذن بها ويقول: هو الأذان الأول! «نيل الأوطار: 2/19». أما أشهد أن علياً ولي الله، فنقولها استحباباً بعد الشهادة بالنبوة، لأنه يستحب كلما شهدت بالنبوة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) أن تشهد بالولاية لعلي والعترة:.

قال السيد الخوئي (رحمة الله) «صراط النجاة: 3/318» في جواب سؤال: هل وردت رواية من المعصوم باستحبابها؟ فقال: الرواية واردة باستحباب الشهادة بالولاية له (علیه السلام) متى شُهد بالنبوة لا في خصوص الأذان والإقامة، ولذا لا نعدها جزءً منهما». وقال السيد السيستاني «منهاج الصالحين/191»: «الشهادة لعلي (علیه السلام) بالولاية وإمرة المؤمنين مكملة للشهادة بالرسالة ومستحبة في نفسها،وإن لم تكن جزء من الأذان ولا الإقامة، وكذا الصلاة على محمد وآل محمد (صلی الله علیه و آله) عند ذكر اسمه الشريف».

كما روت مصادر الطرفين أن الله تعالى فرض على النبي (صلی الله علیه و آله) خمسين صلاة كل يوم ثم قال له موسى (صلی الله علیه و آله) إن أمتك لاتطيق، فاطلب من الله تعالى أن يخفف عنها فطلب النبي (صلی الله علیه و آله) من ربه فجعلها خمس صلوات.

ففي الفقيه: 1/198: «عن زيد بن علي (رحمة الله) قال: سألت أبي سيد العابدين (علیه السلام) فقلت له: يا أبه أخبرني عن جدنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما عرج به إلى السماء وأمره ربه عزوجل بخمسين

ص: 278

صلاة، كيف لم يسأله التخفيف عن أمته حتى قال له موسى بن عمران (علیه السلام) إرجع إلى ربك فسله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك؟ فقال: يا بني، إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لايقترح على ربه عزوجل ولا يراجعه في شئ يأمره به، فلما سأله موسى (علیه السلام) ذلك وصار شفيعاً لأمته إليه لم يجز له رد شفاعة أخيه موسى (علیه السلام)، فرجع إلى ربه يسأله التخفيف إلى أن ردها إلى خمس صلوات. قال: فقلت له: يا أبه، فلم لم يرجع إلى ربه عزوجل ولم يسأله التخفيف من خمس صلوات وقد سأله موسى (علیه السلام) أن يرجع إلى ربه ويسأله التخفيف؟ فقال: يا بني، أراد (صلی الله علیه و آله) أن يحصل لأمته التخفيف مع أجرخمسين صلاة، لقول الله عزوجل: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا.ألا ترى أنه (صلی الله علیه و آله) لما هبط إلى الأرض نزل عليه جبرئيل فقال: يا محمد، إن ربك يقرؤك السلام ويقول: إنها خمس بخمسين: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ للَّعَبِيدِ. قال فقلت له: يا أبه، أليس الله تعالى ذكره لا يوصف بمكان؟ فقال: بلى،تعالى الله عن ذلك. فقلت: فما معنى قول موسى (علیه السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله): إرجع إلى ربك؟ فقال: معناه معنى قول إبراهيم (علیه السلام): إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ، ومعنى قول موسى (علیه السلام): وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لتَرْضَى طه/84، ومعنى قوله عزوجل: فَفِرُّوا إلى الله، يعني حجوا إلى بيت الله. يا بُني، إن الكعبة بيت الله فمن حج بيت الله فقد قصد إلى الله، والمساجد بيوت الله فمن سعى إليها فقد سعى إلى الله وقصد إليه، والمصلي ما دام في صلاته فهو واقف بين يدي الله جل جلاله، وأهل موقف عرفات هم وقوف بين يدي الله عزوجل. وإن لله تبارك وتعالى بقاعاً في سماواته فمن عرج به إلى بقعة منها، فقد عرج به إليه، ألا تسمع الله عزوجل يقول: تَعْرُجُ الملَائكةُ والرُّوحُ إليْه. ويقول عزوجل في قصة عيسى (علیه السلام): بَلْ رَفَعَهُ الله إليْه، ويقول عزوجل: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ».

ملاحظات

1. شرح الإمام زين العابدين (علیه السلام) لولده زيد رضوان الله عليه، في هذا الحديث سبب عدم اقتراح النبي (صلی الله علیه و آله) على ربه، وسبب قبوله اقتراح موسى (علیه السلام)، ثم معنى

ص: 279

رجوعه إلى ربه أي إلى المكان الذي كلمه منه.وقد جعله المجسمة مكان الله تعالى!

2. نلاحظ أن الشيعة والسنة رووا أن تشريع الصلاة بصورتها الفعلية تكوَّن من أحداث مراسم خضوع النبي (صلی الله علیه و آله) لربه في معراجه.

ونلاحظ أن أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) أكثر دقة وتفصيلاً، ومنطقية.

24- ردَّ أهل البیت (علیهم السلام) مزا عم الآخرين في تشريع الأذان

ردَّت أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) رواية السلطة بأن تشريع الأذان كان بسبب أن بعض الصحابة وهو عمر بن الخطاب أو أبيُّ بن كعب أو عبدالله بن زيد، رأى الأذان في منامه، فاقترحه على النبي (صلی الله علیه و آله) فأدخله في الإسلام!

ففي الكافي: 3/482 عن عمر بن أذينة أن الإمام الصادق (علیه السلام) قال له: «ما تروي هذه الناصبة؟ فقلت: جعلت فداك في ماذا؟ فقال: في أذانهم وركوعهم وسجودهم؟ فقلت: إنهم يقولون: إن أبي بن كعب رآه في النوم! فقال: كذبوا فإن دين الله عزوجل أعز من أن يرى في النوم!قال: فقال له سدير الصيرفي: جعلت فداك فأحدث لنا من ذلك ذكراً، فقال أبوعبدالله (علیه السلام): إن الله عزوجل لما عرج بنبيه إلى سماواته السبع، أما أولاهن فبارك عليه، والثانية علمه فرضه، فأنزل الله محملاً من نور فيه أربعون نوعاً من أنواع النور، كانت محدقة بعرش الله تغشي أبصار الناظرين. أما واحد منها فأصفر، فمن أجل ذلك اصفرَّت الصفرة، وواحد منها أحمر فمن أجل ذلك احمرت الحمرة، وواحد منها أبيض، فمن أجل ذلك ابيضَّ البياض، والباقي على ساير عدد الخلق من النور والألوان، في ذلك المحمل حلق وسلاسل من فضة.

ثم عرج به إلى السماء، فنفرت الملائكة إلى أطراف السماء وخرت سجداً وقالت: سبوح قدوس ما أشبه هذا النور بنور ربنا، فقال جبرئيل (علیه السلام): الله أكبر الله أكبر. ثم فتحت أبواب السماء، واجتمعت الملائكة فسلمت على النبي (صلی الله علیه و آله) أفواجاً.. الحديث..». وذكر فيه تشريع الأذان والصلاة.

كما روينا أن التكبيرات السبع المستحبة في أول الصلاة، جاءت من تكبير

ص: 280

النبي (صلی الله علیه و آله) عندما تخطى الحجب السبع. ثم من تعليمه التكبير للحسين (علیه السلام) لما كبَّر أمامه يعلمه التكبير، حتى وصل إلى التكبيرة السابعة، فكبر الحسين (علیه السلام) وانفتح لسانه. راجع: الكافي: 3/487، علل الشرائع: 2/332 والمختلف للعلامة الحلي: 2/186.

وقد يقال: كيف يشرع الله تعالى استحباب التكبير للأمة ست مرات قبل تكبيرة الإحرام، بسبب أن الحسين (علیه السلام) لم ينفتح لسانه بالتكبير إلا في المرة السابعة؟ وجوابه: كما شرع الله تعالى وجوب السعي في الحج، بسبب سعي هاجر3بين الصفا والمروة تطلب الماء! والحسين (علیه السلام) أفضل من هاجر3.

25- أخبر الله تعالى نبيه (صلی الله علیه و آله) أنه سيمتحنه في ثلاث

في كامل الزيارات/547، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما أسري بالنبي (صلی الله علیه و آله) إلى السماء قيل له: إن الله تبارك وتعالى يختبرك في ثلاث لينظر كيف صبرك؟

قال: أسلِّمُ لأمرك يا رب، ولا قوة لي على الصبر إلا بك، فما هن؟

قيل له: أولاهن: الجوع والأثرة على نفسك وعلى أهلك، لأهل الحاجة!

قال: قبلت يا رب ورضيت وسلمت، ومنك التوفيق والصبر.

وأما الثانية، فالتكذيب والخوف الشديد، وبَذْلُكَ مهجتك في محاربة أهل الكفر بمالك ونفسك، والصبر على ما يصيبك منهم ومن أهل النفاق من الأذى والألم في الحرب والجراح.قال: قبلت يا رب ورضيت وسلمت، ومنك التوفيق والصبر.

وأما الثالثة، فما يلقي أهل بيتك من بعدك من القتل، أما أخوك علي فيلقى من أمتك الشتم والتعنيف والتوبيخ والحرمان والجحد والظلم، وآخر ذلك القتل، فقال: يا رب قبلت ورضيت، ومنك التوفيق والصبر.

قال: وأما ابنتك فتظلم وتحرم ويؤخذ حقها غصباً الذي تجعله لها، وتضرب وهي حامل، ويدخل عليها وعلى حريمها ومنزلها بغير إذن، ثم يمسها هوان وذل، ثم لا تجد مانعاً، وتطرح ما في بطنها من الضرب، وتموت من ذلك الضرب!

ص: 281

قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، قبلت يا رب وسلمت، ومنك التوفيق للصبر. ويكون لها من أخيك ابنان، يقتل أحدهما غدراً ويسلب ويطعن، تفعل به ذلك أمتك، قلت: يا رب قبلت وسلمت، إنا لله وإنا إليه راجعون، ومنك التوفيق للصبر. وأما ابنها الآخر فتدعوه أمتك للجهاد ثم يقتلونه صبراً، ويقتلون ولده ومن معه من أهل بيته ثم يسلبون حرمه، فيستعين بي وقد مضى القضاء مني فيه بالشهادة له ولمن معه، ويكون قتله حجة على من بين قطريها، فيبكيه أهل السماوات وأهل الأرضين جزعاً عليه، وتبكيه ملائكة لم يدركوا نصرته.

ثم أخرج من صلبه ذكراً به أنصرك، وإن شبحه عندي تحت العرش يملأ الأرض بالعدل ويطبقها بالقسط، يسير معه الرعب، يقتل حتى يُشك فيه.

قلت: إنا لله.فقيل: إرفع رأسك، فنظرت إلى رجل أحسن الناس صورة وأطيبهم ريحاً، والنور يسطع من بين عينيه ومن فوقه ومن تحته، فدعوته فأقبل إليَّ وعليه ثياب النور وسيماء كل خير، حتى قبَّل بين عينيَّ، ونظرت إلى الملائكة قد حفوا به لايحصيهم إلا الله عزوجل. فقلت: يا رب لمن يغضب هذا، ولمن أعددت هؤلاء، وقد وعدتني النصر فيهم فأنا أنتظره منك.

وهؤلاء أهلي وأهل بيتي وقد أخبرتني مما يلقون من بعدي، ولئن شئت لأعطيتني النصر فيهم على من بغى عليهم، وقد سلمت وقبلت ورضيت، ومنك التوفيق والرضا، والعون على الصبر. فقيل لي: أما أخوك فجزاؤه عندي جنة المأوي نزلاً، بصبره، أفلج حجته على الخلائق يوم البعث، وأوليه حوضك يسقي منه أولياءكم ويمنع منه أعداءكم، واجعل عليه جهنم برداً وسلاماً، يدخلها ويخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من المودة، وأجعل منزلتكم في درجة واحدة في الجنة. وأما ابنك المخذول المقتول، وابنك المغدور المقتول صبراً، فإنهما مما أزين بهما عرشي، ولهما من الكرامة سوى ذلك مما لا يخطر على قلب بشر، لما أصابهما من البلاء، فعليَّ فتوكل. ولكل من أتى قبره في الخلق من الكرامة، لأن زواره زوارك وزوارك زواري وعليَّ كرامة زواري، وأنا أعطيه ما سأل، وأجزيه جزاء يغبطه من نظر إلى عظمتي إياه، وما

ص: 282

أعددت له من كرامتي.

وأما ابنتك فإني أوقفها عند عرشي فيقال لها: إن الله قد حكمك في خلقه فمن ظلمك وظلم ولدك فاحكمي فيه بما أحببت، فإني أجيز حكومتك فيهم..الخ.».

26- مكانة عترة النبي (صلی الله علیه و آله)

من العناصر البارزة في أحاديث المعراج في مصادرنا والى حدٍّ في مصادر أتباع السلطة: المكانة الخاصة لعترة النبي (صلی الله علیه و آله) عند الله تعالى.

ويكفينا من مصادرهم الحديث الذي نص على أن إسم النبي (صلی الله علیه و آله) عند الله تعالى مقرونٌ بإسم علي والأئمة من عترته:، تفسيراً لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. «الأنفال 62». قال القاضي عياض في الشفاء: 1/174: «وروى ابن قانع القاضي عن أبي الحمراء قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما أسري بي إلى السماء إذا على العرش مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي»! ورواه الحسكاني بطرق متعددة في شواهد التنزيل: 1/298، في: 1/293و294، عن أنس و/295، عن جابر، /297، عن أبي الحمراء. والدر المنثور: 3/199 عن ابن عساكر عن أبي هريرة، وفي: 4/153، عن أنس، الخطيب في تاريخه: 11/173، عن أبي الحمراء، كذا ابن عساكر: 16/456، في: 42/336، عن جابر بن عبدالله، في/360، عن أبي هريرة و: 47/344، عن أنس..الخ.

وروته مصادرنا، كالصدوق في أماليه/284، عن أبي هريرة، وأبي الحمراء. والخزاز القمي في كفاية الأثر/74، كاملاً، قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما عرج بي إلى السماء رأيت على ساق العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله أيدته بعلي ونصرته. ورأيت اثني عشر إسماً مكتوباً بالنور فيهم علي بن أبي طالب وسبطيَّ وبعدهما تسعة أسماء: علياً علياً ثلاث مرات، ومحمد ومحمد مرتين، وجعفر وموسى والحسن. والحجة يتلألأ من بينهم، فقلت: يا رب أسامي من هؤلاء؟ فناداني ربي جل جلاله: هم الأوصياء من ذريتك، بهم أثيب وأعاقب». ونحوه في/105، عن أبي أمامة.

وروى في كفاية الأثر/116، في أحداث حرب الجمل: «نزل أبوأيوب في بعض

ص: 283

دور الهاشمیين فجمعنا إليه ثلاثين نفساً من شيوخ أهل البصرة، فدخلنا إليه وسلمنا عليه وقلنا: إنك قاتلت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ببدر وأحد المشركين، والآن جئت تقاتل المسلمين. فقال: والله لقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول لعلي: إنك تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين قلنا: آلله إنك سمعت من رسول الله في علي؟ قال: سمعته يقول: علي مع الحق والحق معه، وهو الإمام والخليفة بعدي، يقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل، وابناه الحسن والحسين سبطاي من هذه الأمة، إمامان إن قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما، والأئمة بعد الحسين تسعة من صلبه، ومنهم القائم الذي يقوم في آخر الزمان كما قمت في أوله ويفتح حصون الضلالة. قلنا: فهذه التسعة من هم؟ قال: هم الأئمة بعد الحسين خلف بعد خلف. قلنا: فكم عهد إليك رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يكون بعده من الأئمة؟ قال: اثنا عشر. قلنا: فهل سماهم لك؟ قال: نعم إنه قال (صلی الله علیه و آله): لما عُرج بي إلى السماء نظرت إلى ساق العرش فإذا هو مكتوب بالنور: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي ونصرته بعلي. ورأيت أحد عشر إسماً مكتوباً بالنور على ساق العرش بعد علي، منهم الحسن والحسين وعلياً علياً علياً ومحمداً ومحمداً، وجعفراً وموسى والحسن، والحجة. قلت: إلهي من هؤلاء الذين أكرمتهم وقرنت أسماءهم باسمك؟ فنوديت: يا محمد هم الأوصياء بعدك والأئمة، فطوبى لمحبيهم والويل لمبغضيهم! قلنا: فما لبني هاشم؟ قال: سمعته يقول لهم: أنتم المستضعفون من بعدي. قلنا: فمن القاسطين والناكثين والمارقين؟ قال: الناكثين الذين قاتلناهم، وسوف نقاتل القاسطين والمارقين، فإني والله لا أعرفهم غير أني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: في الطرقات بالنهروانات»!

وروى نحوه/136، عن حذيفة بن اليمان وفي آخره: «يا محمد إنهم هم الأوصياء والأئمة بعدك، خلقتهم من طينتك، فطوبى لمن أحبهم والويل لمن أبغضهم، فبهم أنزل الغيث وبهم أثيب وأعاقب. قال حذيفة: ثم رفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) يده إلى السماء ودعا بدعوات فسمعته فيما يقول: اللهم اجعل العلم والفقه في عقبي وعقب عقبي، وفي زرعي وزرع زرعي». ورواه في/224 و185 وشبيهه/216.

ص: 284

وطبيعي أن لا يقبل علماء السلطة أمثال هذه الأحاديث، لأنها تحكم على السقيفة بأنها مؤامرة ضد النبي (صلی الله علیه و آله) وعترته!

ونلاحظ ضعف تضعيفهم لهذه الأحاديث مما كتبه اثنان من أكبر علمائهم المتخصصين في الجرح والتعديل! فقد كتب الذهبي «ميزان الإعتدال: 1/530»: «الحسين بن إبراهيم البابي.. وله حديث آخر واه: ابن عدي، عن عيسى بن محمد، عنه، عن حميد، عن أنس، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما عرج بي رأيت على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلى ونصرته بعلي. وهذا اختلاق».

وروى الذهبي نحوه في: 2/76، عن أشعث ابن عم الحسن بن صالح..«قال

أبو نعيم الحافظ: أخبرنا أبو علي بن الصواف... حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة فساقه بنحوه... ساقه الخطيب عن أبي نعيم في ترجمة الحسن هذا. وقد روى الكسائي عن ابن فضيل وجماعة. وقال النسائي والدارقطني: متروك». انتهى.

وقال ابن حجر في لسان الميزان: 2/268: «عن أنس قال قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما عُرج بي رأيت على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي ونصرته بعلي. وهذا اختلاق بيِّن.. ورواه ابن عساكر في ترجمة الحسن بن أحمد ابن هشام السلمي بسنده إليه عن أبي جعفر محمد بن عبدالله البغدادي، حدثني محمد بن الحسن بباب الأبواب ثنا حميد الطويل فذكر مثله، وهو موضوع لا ريب فيه، لكني لا أدري من وضعه! وقال ابن عدي لما أخرجه: هذا حديث باطل والحسين مجهول. وقد ذكره عياض من وجه آخر رواه عن أبي الحمراء».انتهى.

أقول: رأيت أنهما ضعفا طريقاً أو طريقين للحديث، وغيَّبا الطرق العديدة الأخرى له، وهي لاتخفى على المتخصص أمثالهما!

على أن تضعيفهما لأشعث ابن عم صالح بن حي لاوجه له عندهما لأنه صحابي، وابن عمه الحسن بن حي إمام عندهما، وقد شهد الطبراني وأبو نعيم بأنه كان يفضل على ابن عمه الحسن بن صالح! المعجم الأوسط: 5/343 وحلية الأولياء: 7/256.

ثم لم يكتفوا برد الحديث بالإستنكار والحيلة، حتى وضعوا أحاديث تزعم أن

ص: 285

النبي (صلی الله علیه و آله) رأى في معراجه أسماء أبي بكر وعمر وعثمان مقرونة بإسمه الشريف!

قال في ميزان الإعتدال: 3/117: «وروى علي بن جميل عن جرير... عن ابن عباس عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: لما عرج بي إلى السماء رأيت على ساق العرش مكتوباً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أبوبكر الصديق، عمر الفاروق، عثمان ذو النورين. تابعه شيخ مجهول يقال له معروف بن أبي معروف البلخي، عن جرير».

ونقل ابن حجر في لسان الميزان: 4/209، عن ابن عدي وغيره أن هذا الحديث موضوع أو مسروق! قال: «حدث بالبواطيل عن ثقات الناس ويسرق الحديث. وقال الحاكم وأبو سعيد النقاش: روى عن عيسى بن يونس وجرير بن عبدالحميد بأحاديث موضوعة. وقال أبو نعيم: روى عن جرير وغيره المناكير». انتهى.

وهذا من تغطيتهم لبطلان تكذيبهم لحديث «أيدته بعلي..» فهم يأتون بحديث موضوع في مدح خلفائهم الثلاثة ويردونه، ليردوا معه الأحاديث في حق علي (علیه السلام) أو يجعلوه مساوياً لحديثهم المكذوب! راجع: نفحات الأزهار: 5/234 و240، الشهادة بالولاية في الأذان/29، تراثنا: 59/19، الصحيح من السيرة: 3/15 والمراجعات/249.

27- المزيد من أحاديث مقام النبي وآله (صلی الله علیه و آله)

في الكافي: 2/46: «قال أميرالمؤمنين (علیه السلام): قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الله خلق الإسلام فجعل له عرصةً وجعل له نوراً وجعل له حصناً وجعل له ناصراً، فأما عرصته فالقرآن، وأما نوره فالحكمة، وأما حصنه فالمعروف، وأما أنصاره فأنا وأهل بيتي وشيعتنا، فأحبوا أهل بيتي وشيعتهم وأنصارهم، فإنه لما أسري بي إلى السماء الدنيا فنسبني جبرئيل (علیه السلام) لأهل السماء استودع الله حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب الملائكة، فهو عندهم وديعة إلى يوم القيامة، ثم هبط بي إلى أهل الأرض، فنسبني إلى أهل الأرض فاستودع الله عزوجل حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب مؤمني أمتي، فمؤمنوا أمتي يحفظون وديعتي في أهل بيتي إلى يوم القيامة. ألا فلو أن الرجل من أمتي عبدالله عزوجل عمره أيام الدنيا ثم لقي الله عزوجل مبغضا لأهل بيتي

ص: 286

وشيعتي، ما فرج الله صدره إلا عن النفاق».

وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/237، عن آبائه:: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما خلق الله خلقاً أفضل مني ولا أكرم عليه مني! قال علي (علیه السلام): فقلت: يا رسول الله فأنت أفضل أم جبرئيل؟ فقال (صلی الله علیه و آله): يا علي إن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين، وفضلني على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك، وإن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا!

يا علي، الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا.

يا علي، لولا نحن ما خلق الله آدم (علیه السلام) ولا حواء، ولا الجنة ولا النار ولا السماء ولا الأرض! فكيف لا نكون أفضل من الملائكة، وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه، لأن أول ما خلق الله عزوجل أرواحنا فأنطقها بتوحيده وتمجيده، ثم خلق الملائكة، فلما شاهدوا أرواحنا نوراً واحداً استعظمت أمرنا، فسبحنا لتعلم الملائكة أنا خلق مخلوقون وأنه منزه عن صفاتنا، فسبحت الملائكة بتسبيحنا ونزهته عن صفاتنا! فلما شاهدوا عظم شأننا هللنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله وأنا عبيد ولسنا بآلهه يجب أن نعبد معه أو دونه! فقالوا: لا إله إلا الله. فلما شاهدوا كبر محلنا كبَّرنا لتعلم الملائكة أن الله أكبر من أن ينال عظم المحل إلا به! فلما شاهدوا ما جعله الله لنا من العزة والقوة، فقلنا: لا حول ولا قوه إلا بالله، لتعلم الملائكة أنه لا حول لنا ولا قوة إلا بالله. فلما شاهدوا ما أنعم الله به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة، قلنا: الحمد لله، لتعلم الملائكة ما يستحق لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمه، فقالت الملائكة: الحمد لله. فبنا اهتدوا إلى معرفه توحيد الله عزوجل وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده.

ثم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لنا وإكراماً، وكان سجودهم لله عزوجل عبودية، ولآدم إكراماً وطاعة لكوننا في صلبه، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة، وقد سجدوا لآدم كلهم

ص: 287

أجمعون. وإنه لما عُرج بي السماء أذَّنَ جبرئيل مثنى مثنى وأقام مثنى مثنى، ثم قال لي: تقدم يا محمد، فقلت لجبرئيل: أتقدم عليك؟ قال: نعم، لأن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه وملائكته أجمعين وفضلك خاصه. قال: فتقدمت فصليت بهم ولا فخر، فلما انتهيت إلى حجب النور قال لي جبرئيل: تقدم يا محمد، وتخلفَ عني، فقلت له: يا جبرئيل في مثل هذا الموضع تفارقني؟! فقال: يا محمد انتهاء حدي الذي وضعني الله عزوجل فيه إلى هذا المكان، فإن تجاوزته احترقت أجنحتي بتعديَّ حدود ربي جل جلاله، فزخَّ بي النور زخة حتى انتهيت إلى ما شاء الله عزوجل من علو مكانه، فنوديت فقلت: لبيك ربي وسعديك تباركت وتعاليت. فنوديت: يا محمد أنت عبدي وأنا ربك، فإياي فأعبد وعليَّ فتوكل فإنك نوري في عبادي، ورسولي إلى خلقي، وحجتي على بريتي. لك ولمن تبعك خلقت جنتي، ولمن خالفك خلقت ناري، ولأوصيائك أوجبت كرامتي، ولشيعتهم أوجبت ثوابي.فقلت: يا رب ومن أوصيائي؟ فنوديت: يا محمد أوصياؤك المكتوبون على ساق عرشي. فنظرت وأنا بين يدي ربي جل جلاله إلى ساق العرش فرأيت اثني عشر نوراً في كل نور سطر أخضر عليه إسم وصيٍّ من أوصيائي، أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم مهدي أمتي، فقلت: يا رب هؤلاء أوصيائي بعدي؟ فنوديت: يا محمد هؤلاء أوصيائي وأحبائي وأصفيائي وحججي بعدك على بريتي، وهم أوصياؤك وخلفاؤك وخير خلقي بعدك.

وعزتي وجلالي لأظهرن بهم ديني، ولأعلين بهم كلمتي، ولأطهرن الأرض بآخرهم من أعدائي، ولأملكنه مشارق الأرض ومغاربها، ولأسخرن له الرياح، ولأذللن له السحاب الصعاب، ولأرقينه في الأسباب، ولأنصرنه بجندي، ولأمدنه بملائكتي، حتى يعلن دعوتي، ويجمع الخلق على توحيدي، ثم لأديمن ملكه، ولأداولن الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة».

وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/60، عن أميرالمؤمنين (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما أسري بي إلى السماء أوحى إلى ربي جل جلاله فقال: يا محمد إني اطلعت إلى الأرض اطَّلاعةً فاخترتك منها فجعلتك نبياً، وشققت لك من إسمي إسماً، فأنا المحمود

ص: 288

وأنت محمد. ثم اطلعت الثانية فاخترت منها علياً وجعلته وصيك وخليفتك وزوج ابنتك وأباذريتك، وشققت له إسماً من أسمائي، فأنا العلي الأعلى وهو علي. وجعلت فاطمة والحسن والحسين من نوركما، ثم عرضت ولايتهم على الملائكة، فمن قبلها كان عندي المقربين.

يا محمد لو أن عبداً عبدني حتى ينقطع ويصير كالشن البالي، ثم أتاني جاحداً لولايتهم ما أسكنته جنتي ولا أظللته تحت عرشي! يا محمد أتحب أن تراهم؟ قلت: نعم يا ربي، فقال عزوجل: إرفع رأسك فرفعت رأسي فإذا أنا بأنوار علي وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي، والحجة بن الحسن قائم في وسطهم كأنه كوكب دري! قلت: رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الأئمة، وهذا القائم الذي يحل حلالي ويحرم حرامي، وبه أنتقم من أعدائي، وهو راحة لأوليائي، وهو الذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين، فيخرج اللات والعزى طريين فيحرقهما، فلفتنةُ الناس بهما يومئذ أشد من فتنه العجل والسامري».

وكمال الدين/252. وبعضه غيبة الطوسي/147 والعلل: 1/5.

وفي كتاب التوحيد للصدوق/117: «عن عبدالسلام بن صالح الهروي قال: قلت لعلي بن موسى الرضا (علیه السلام): يا ابن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث إن المؤمنين يزورون ربهم من منازلهم في الجنة؟ فقال (علیه السلام): يا أبا الصلت إن الله تبارك وتعالى فضل نبيه محمد (صلی الله علیه و آله) على جميع خلقه من النبيين والملائكة، وجعل طاعته طاعته ومتابعته متابعته، وزيارته في الدنيا والآخرة زيارته، فقال عزوجل: من يطع الرسول فقد أطاع الله. وقال: إن الذين يبايعونك إنما

يبايعون الله يد الله فوق أيديهم. وقال النبي (صلی الله علیه و آله): من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله. إن درجة النبي (صلی الله علیه و آله) في الجنة أرفع الدرجات، فمن زاره إلى درجته في الجنة من منزله فقد زار الله تبارك وتعالى. قال: فقلت له: يا ابن رسول الله

ص: 289

فما معنى الخبر الذي رووه أن ثواب لا إله إلا الله النظر إلى وجه الله؟ فقال (علیه السلام): يا أبا الصلت من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه الله أنبياؤه ورسله وحججه صلوات الله عليهم، هم الذين بهم يتوجه إلى الله وإلى دينه ومعرفته، وقال الله عزوجل: كل من عليها فان ويبقى وجه ربك. وقال عزوجل: كل شئ هالك إلا وجهه. فالنظر إلى أنبياء الله ورسله وحججه:في درجاتهم ثواب عظيم للمؤمنين يوم القيامة. وقد قال النبي (صلی الله علیه و آله): من أبغض أهل بيتي وعترتي لم يرني ولم أره يوم القيامة. وقال (علیه السلام): إن فيكم من لا يراني بعد أن يفارقني. يا أبا الصلت إن الله تبارك و تعالى لا يوصف بمكان، ولا تدركه الأبصار والأوهام.

فقال قلت له: يا ابن رسول الله فأخبرني عن الجنة والنار أهما اليوم مخلوقتان؟ فقال: نعم وإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد دخل الجنة، ورأى النار لما عرج به إلى السماء، قال فقلت له: إن قوماً يقولون إنهما اليوم مقدرتان غير مخلوقتين؟

فقال (علیه السلام): ما أولئك منا ولا نحن منهم. من أنكر خلق الجنة والنار فقد كذب النبي (صلی الله علیه و آله) وكذبنا، ولا من ولايتنا على شئ، ويخلد في نار جهنم، قال الله عزوجل: هذه جهنم التي يكذب بها، المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن.

وقال النبي (صلی الله علیه و آله): لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلته، فتحول ذلك نطفة في صلبي، فلما أهبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة (علیها السلام)، ففاطمة حوراء إنسية، وكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة». والعيون: 2/ 106 وأمالي الصدوق/545.

وروى في المحاسن: 1/180 وفضائل الشيعة/35، مشاهدة النبي (صلی الله علیه و آله) للجنة، وتفسير قوله تعالى: ما أخفي لهم من قرة أعين. وروى في المحتضر/78، قول الملائكة للنبي (صلی الله علیه و آله): «أنتم أول خلق خلقه الله...فلما خلقنا كنا نمر بأرواحكم فنسبح بتسبيحكم،ونحمد بتحميدكم، ونهلل بتهليلكم ونكبر بتكبيركم، ونقدس بتقديسكم، ونمجد بتمجيدكم».

وفي أمالي الصدوق/731: «ناداني ربي جل جلاله: يا محمد، أنت عبدي وأنا ربك،

ص: 290

فلي فاخضع، وإياي فاعبد، وعليَّ فتوكل، وبي فثق، فإني قد رضيت بك عبداً وحبيباً ورسولاً ونبياً، وبأخيك علي خليفة... وبك وبه وبالأئمة من ولده أرحم عبادي وإمائي، وبالقائم منكم أعمر أرضي بتسبيحي وتهليلي وتقديسي وتكبيري وتمجيدي، وبه أطهر الأرض من أعدائي وأورثها أوليائي، وبه أجعل كلمة الذين كفروا بي السفلى وكلمتي العليا، وبه أحيي عبادي وبلادي بعلمي، وله أظهر الكنوز والذخائر بمشيئتي، وإياه أظهر على الأسرار والضمائر بإرادتي، وأمده بملائكتي لتؤيده على إنفاذ أمري وإعلان ديني، ذلك وليي حقاً، ومهدي عبادي صدقاً».

وفي نوادر المعجزات/74 وأمالي الطوسي/343 و354، عن الإمام الحسين (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما عرج بي إلى السماء، وصرت إلى سدرة المنتهى، أوحى الله إلي: يا محمد، قد بلوت خلقي، فمن وجدت أطوعهم؟ قلت: يا رب علياً. قال: صدقت يا محمد. ثم قال: هل اخترت لأمتك خليفة من بعدك، يعلمهم ما جهلوا من كتابي ويؤدي عني؟ قلت: اللهم اختر لي فإن اختيارك خير من اختياري. قال: قد اخترت لك علياً فاتخذه لنفسك خليفة ووصياً، فإني قد نحلته علمي وحلمي، وهو أميرالمؤمنين حقاً، لم ينلها أحد قبله وليست لأحد بعده».

وفي أمالي الصدوق/375، أن الله تعالى قال لنبيه (صلی الله علیه و آله): «إن علياً إمام أوليائي، ونور لمن أطاعني...فلما أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام)، خرَّ ساجداً شكراً لله تعالى».

وفي أمالي الصدوق/433 و563 والطرائف/413: «نادى مناد من وراء الحجاب: نعم الأب أبوك إبراهيم، ونعم الأخ أخوك عليٌّ، فاستوص به».

وفيه/566 711 والخصال/115: «كلمني ربي جل جلاله فقال: يا محمد. فقلت: لبيك ربي. فقال: إن علياً حجتي بعدك على خلقي، وإمام أهل طاعتي».

وفي أمالي المفيد/173: «نوديت: يا محمد، إستوص بعلي خيراً، فإنه سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين يوم القيامة».

وفي أمالي الطوسي/295، أن الله أوحى اليه في علي (علیه السلام): «إقریٰ علي بن أبي طالب

ص: 291

أميرالمؤمنين السلام، فما سميت بهذا أحداً قبله ولا أسمي بهذا أحداً بعده».

وفي الخرائج: 2/811، أن الله خلق ملائكة بصورة النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي والأئمة (علیهم السلام) .

وروى الخزاز في كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر:/72، وما بعدها عدة أحاديث عن الصحابة، في تسمية النبي (صلی الله علیه و آله) للأئمة من عترته، وأنه رأى أنوارهم ومثالهم في معراجه.. منها قوله (صلی الله علیه و آله): «لما عرج بي إلى السماء وبلغت سدرة المنتهى ودعني جبرئيل (علیه السلام)، فقلت: حبيبي جبرئيل أفي هذاالمقام تفارقني؟ فقال: يا محمد إني لا أجوز هذا الموضع فتحترق أجنحتي. ثم زج بي في النور ما شاء الله، فأوحى الله إلي: يا محمد إني اطلعت إلى الأرض اطلاعة فاخترتك منها فجعلتك نبياً ثم اطلعت ثانيةً فاخترت منها عليا فجعلته وصيك ووارث علمك والإمام بعدك، وأخرج من أصلابكما الذرية الطاهرة والأئمة المعصومين خزان علمي، فلولاكم ما خلقت الدنيا ولا الآخرة ولا الجنة ولا النار. يا محمد أتحب أن تراهم؟ قلت: نعم يا رب. فنوديت: يا محمد إرفع رأسك، فرفعت رأسي فإذا أنا بأنوار علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والحجة يتلألأ من بينهم كأنه كوكب دري. فقلت: يا رب من هؤلاء ومن هذا؟ قال: يا محمد هم الأئمة بعدك المطهرون من صلبك، وهو الحجة الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ويشفي صدور قوم مؤمنين. قلنا: بآبائنا وأمهاتنا أنت يا رسول الله لقد قلت عجباً. فقال (علیه السلام): وأعجب من هذا أن قوماً يسمعون مني هذا ثم يرجعون على أعقابهم بعد إذ هداهم الله ويؤذوني فيهم، لا أنالهم الله شفاعتي».

وفي النص على الأئمة الإثني عشر/74 و244، قال (صلی الله علیه و آله): «لما عرج بي إلى السماء رأيت على ساق العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي ونصرته. ورأيت اثني عشر إسماً مكتوباً بالنور، فيهم علي بن أبي طالب وسبطيّ، وبعدهما تسعة أسماء علياً علياً ثلاث مرات، ومحمد محمد مرتين، وجعفر وموسى والحسن، والحجة يتلألأ من بينهم، فقلت: يا رب أسامي من هؤلاء؟ فناداني ربي جل جلاله: هم الأوصياء

ص: 292

من ذريتك، بهم أثيب وأعاقب».

وفي/105، عن أبي أمامة وفيه: «فنوديت: يا محمد هم الأئمة بعدك والأخيار من ذريتك». وفي/110، عن واثلة، وفيه: «أتحب أن تراهم يا محمد؟ قلت: نعم يا رب. قال: إرفع رأسك، فرفعت رأسي فإذا أنا بأنوار الأئمة بعدي اثنا عشر نوراً، قلت: يا رب أنوار من هي؟ قال: أنوار الأئمة بعدك أمناء معصومون».

وروى في/137، تفسير قوله تعالى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ: «فطوبى لمن أحبهم والويل لمن أبغضهم، فبهم أنزل الغيث وبهم أثيب وأعاقب. ثم رفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسلم يده إلى السماء ودعا بدعوات فسمعته فيما يقول: اللهم اجعل العلم والفقه في عقبي، وعقب عقبي، وفي زرعي، وزرع زرعي».

وفي/185، عن أم سلمة عن النبي (صلی الله علیه و آله): «لما أسري بي إلى السماء نظرت فإذا مكتوب على العرش: لا إله إلا الله محمد رسول الله أيدته بعلي ونصرته بعلي، ورأيت أنوار علي وفاطمة والحسن والحسين وأنوار علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي، ورأيت نور الحجة يتلألأ من بينهم كأنه كوكب دري، فقلت: يا رب من هذا ومن هؤلاء؟ فنوديت يا محمد هذا نور علي وفاطمة وهذا نور سبطيك الحسن والحسين، وهذه أنوار الأئمة بعدك من ولد الحسين مطهرون معصومون، وهذا الحجة يملأ الدنيا قسطا وعدلاً».

وفي شرح الأخبار: 2/415، أن الله تعالى أمر رسوله أن يبلغ السلام إلى علي (علیه السلام) . وقال في كنز الفوائد/259: «وقد جاء في الحديث أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) رأى في السماء لما عرج به ملكاً على صورة أميرالمؤمنين (علیه السلام)، وهذا خبر قد اتفق أصحاب الحديث على نقله، حدثني به من طريق العامة الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن الحسن بن شاذان القمي، ونقلته من كتابه المعروف بإيضاح دقائق النواصب، وقرأته عليه بمكة في المسجد الحرام سنة اثنتي عشرة وأربعمائة قال.».

وفي شرح الأخبار: 3/468، عن عمار، وفيه: «إني اصطفيتك لنفسي وانتجبتك

ص: 293

لرسالتي، وأنت نبيي ورسولي وخير خلقي، ثم الصديق الأكبر علي وصيك، خلقته من طينتك وجعلته وزيرك، وابناك الحسن والحسين...».

28- رأى النبي (صلی الله علیه و آله) مستقبل أهل بيته (علیهم السلام)

في الكافي: 1/444 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: إن الله مثل لي أمتي في الطين، وعلمني أسماءهم كما علم آدم الأسماء كلها، فمر بي أصحاب الرايات فاستغفرت لعلي وشيعته. إن ربي وعدني في شيعة علي خصلة. قيل: يا رسول الله وما هي؟ قال: المغفرة لمن آمن منهم، وأن لا يغادر منهم صغيرة ولا كبيرة، ولهم تبدل السيئات حسنات».

وفي قرب الإسناد/101، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما أسري بي إلى السماء وانتهيت إلى سدرة المنتهى، قال: إن الورقة منها تظل الدنيا وعلى كل ورقة ملك يسبح الله، يخرج من أفواههم الدر والياقوت، تبصر اللؤلؤة مقدار خمسمائة عام، وما سقط من ذلك الدر والياقوت يخزنه ملائكة موكلون به يلقونه في بحر من نور، يخرجون كل ليلة جمعة إلى سدرة المنتهى. فلما نظروا إليَّ رحبوا بي وقالوا: يا محمد مرحباً بك. فسمعت اضطراب ريح السدرة وخفقة أبواب الجنان قد اهتزت فرحاً لمجيئك، فسمعت الجنان تنادي: واشوقاه إلى علي وفاطمة والحسن والحسين».

29- العنف واللامعقول والمكذوبات في أحاديث المعراج!

يلفتك في المعراج أحاديث كثيرة يغلب عليها العامية، وأحاديث فيها عنف وقسوة، وأحاديث غير معقولة، كأنها منسوخة من مقولات اليهود عن ربهم وأنبيائهم، وأحاديث فيها تجسيم وتشبيه لله تعالى بخلقه!

وقد تتبعت حديث المرأة المعلقة بثدييها في جهنم، لأنها لم ترضع أولادها، فلم أجد ذلك في أحاديث أهل البیت (علیهم السلام)، لأن إرضاع الأم بنص القرآن مستحب وليس واجباً، فكيف يظلم الله تعالى المرأة التي لم ترضع ابنها؟

وكذا حديث امتحان الله للنبي (صلی الله علیه و آله) بأقداح خمر ولبن وماء، وحديث رؤية

ص: 294

الأنبياء (علیهم السلام) في قبورهم يصلون، وكأن الآخرة فيها تكليف بالصلاة، وكأن الله عنده أزمة سكن فأسكن أنبياءه:في قبوررهم!

فهذه الروايات تدل على أن العامية والعنف جاءا من رواة السلطة، وقد يكون تسرب منهم شئ إلى مصادرنا. وهذه نماذج من أحاديثهم:

30- ربط النبي (صلی الله علیه و آله) البراق لئلا يهرب!

رووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) ربط البراق كالدابة: «عن أنس أن رسول الله قال: فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس، فربطتُ الدابة بالحلقة التي كان يربط بها الأنبياء، ثم دخلتُ فصليتُ فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل: أصبت الفطرة». ابن شيبة: 8/443.

فهو يزعم أن البراق قد يفلت من يد النبي (صلی الله علیه و آله)!وأن الأنبياء لهم مكان في القدس يربطون به دوابهم! ثم يقول إن جبرئيل ثقب الصخرة وربط رسن البراق بثقبها!

قال ابن حجر في فتح الباري: 7/160: «ووقع في رواية بريدة عند البزار: لما كان ليلة أسري به، فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها، فشد بها البراق. ونحوه للترمذي»!

وروى ابن أبي شيبة: 8/445 نقاشاً للراوي زرّ بن حبيش،مع حذيفة قال: قيل لحذيفة: وربط الدابة بالحلقة التي يربط بها الأنبياء؟ فقال: أوَكان يخاف أن تذهب وقد أتاه الله بها؟!

31- إمتحان للرسول (صلی الله علیه و آله) غير معقول!

قال البخاري في صحيحه: 5/224: «قال أبو هريرة أتيَ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليلة أسريَ به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما فأخذ اللبن. قال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك»!

وفي الإكتفاء: 1/234: «أتيَ بثلاثة آنية، إناء فيه لبن وإناء فيه خمر وإناء فيه ماء،

ص: 295

قال: فسمعت قائلاً يقول: إن أخذ الماء فغرق وغرقت أمته، وإن أخذ الخمر فغوى وغوت أمته، وإن أخذ اللبن هدى وهديت أمته»!

فكيف يخيره الله بين الحرام والحلال؟ وكيف يجوز أن يختار النبي (صلی الله علیه و آله) الخمر، وكيف يؤثِّر اختياره على أمته كلها، فتضل وتغوي، أو تغرق بالماء!

32- أكذوبة شق صدر النبي (صلی الله علیه و آله)

زعمت أحاديث المعراج أن الله شق صدر النبي (صلی الله علیه و آله) قبل المعراج، وأخرج منه علقة الشر! وهي سهم الشيطان، ثم غسله فصار سليماً! وقد تناقضت روايتهم في ذلك فزعموا أنه شق صدره وهو عند حليمة السعدية، ورووا أن ذلك كان قبيل المعراج، وبينهما نحو أربعين سنة، ثم زعموأن شق الصدر كان أربع مرات.

قال مسلم في صحيحه: 1/101: «عن أنس بن مالك: أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أتاه جبرئيل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه وصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه ثم أعاده في مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون.قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره.وكان ذلك هو سبب إرجاعه إلى أمه».

وقال البخاري: 8/203: «ليلة أسري برسول الله (صلی الله علیه و آله) من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه، ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته، حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده، حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشواً إيماناً وحكمة فحشا به صدره ولغاديده يعني عروق حلقه، ثم أطبقه، ثم عرج

ص: 296

به إلى السماء الدنيا فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد. قال: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. قالوا: فمرحباً به وأهلاً».

وفي عمدة القاري بشرح البخاري: 16/116: «كان نائماً بين عمه حمزة وابن عمه جعفر بن أبي طالب. قوله: وأوسطهم: هو النبي (صلی الله علیه و آله)». وقال شاعرهم:

لقد شُقَّ صدرٌ للنبي محمد *** مراراً لتشريف وذا غاية المجد

فأولى له التشريف فيها مؤثلٌ *** لتطهيره من مضغة في بني سعد

وثانيةً كانت له وهو يافع *** وثالثةً للمبعث الطيب الند

ورابعة عند العروج لربه *** وذا باتفاق فاستمع يا أخا الرشد

وخامسة فيها خلاف تركتها *** لفقدان تصحيح لها عند ذي النقد

نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز لرفاعة الطهطاوي/56.

وعقيدتنا أن ذلك كله مكذوب، وأن الله تعالى صفَّاه واصطفاه وطهره منذ خلقه في الدنيا وقبل ذلك، ولا نقبل أحاديث شق الصدر جملةً وتفصيلاً.

33- الأنبياء يصلون في قبورهم

رووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) رأى أنبياء يصلون في قبورهم: «قال: ليلة أسري بي مررت على موسى وهو يصلي في قبره». مسند أحمد: 5/59.

وكأن الله تعالى عنده أزمة سكن في الآخرة، مع أن جنته عرضها كعرض السماوات والأرض! ثم إن الموت ينهي التكليف فلا صلاة في الآخرة، والدنيا دار عملٍ ولا حساب والآخرة دار حسابٍ ولا عمل. لكن الراوي عامي جاهل!

34- النساء المعلقات بأثدائهن!

اشارة

زعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «ثم انطلق بي حتى مرَّ بي على نسوة معلقات بثديهن، تنهش ثديهن الحيات! قال قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء اللاتي يمنعن أولادهن ألبانهن».تاريخ دمشق: 29/331.

ص: 297

وهذه عقوبة ظالمة تخالف نص القرآن، قال تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ! فالأم لها الحق أن لا ترضع طفلها، وأن تطلب على إرضاعه أجرة، فكيف يعذبها الله تعالى في الآخرة؟!

ثم كيف يمكن تعليق المرأة بثدييها؟!وهل هذه إلا قسوة من ذهن راوٍ بدوي؟!

وقال ابن هشام في السيرة: 2/273: «ثم رأيت نساء معلقات بثديهن، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم».

ورواه الصالحي في سيرته على أنه منام للنبي (صلی الله علیه و آله)، فقال: 7/265: «روى الطبراني في الكبير: 8/156 برجال الصحيح، والبيهقي في كتاب عذاب القبر، والأصبهاني في الترغيب، عن أبي أمامة قال: خرج علينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعد صلاة الصبح فقال: إني رأيت رؤيا هي حق تعقلونها، أتاني جبريل (علیه السلام) فأخذ بيدي.. ثم انطلقنا فإذا نحن بنساء معلقات بعراقيبهن، مصوبة رؤوسهن تنهش أثداءهن الحيَّات! فقلت: ما هؤلاء؟ قال: الذين يمنعن أولادهم من ألبانهن»!

وفي تفسير عبدالرزاق: 2/368 وتفسير الطبري: 15/17 وتفسير الثعلبي: 6/66: «ثم نظرت فإذا أنا بنساء معلقات بثديهن، ونساء منكسات بأرجلهن!قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هن اللائي يزنين ويقتلن أولادهن».

وفي سيرة ابن هشام: 2/275: «ثم رأيت نساء معلقات بثديهن، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم».

رواية وحيدة في مصادرنا

روت مصادرنا رواية واحدة عن النساء المعلقات في جهنم، أوردها الصدوق (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/13 قال: «حدثنا علي بن عبدالله الوراق رضيالله عنه قال: حدثنا محمد بن أبي عبدالله الكوفي، عن سهل بن زياد الآدمي، عن عبدالعظيم بن عبدالله الحسني، عن محمد بن علي الرضا، عن أبيه الرضا عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه

ص: 298

أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) قال: «دخلت أنا وفاطمة على رسول الله فوجدته يبكى بكاءً شديداً، فقلت: فداك أبي وأمي يا رسول الله ما الذي أبكاك؟ فقال: يا علي ليلة أسري بي إلى السماء، رأيت نساء من أمتي في عذاب شديد، فأنكرت شأنهن فبكيت لما رأيت من شدة عذابهن. ورأيت امرأة معلقة بشعرها يغلي دماغ رأسها. ورأيت امرأة معلقة بلسانها والحميم يصب في حلقها ورأيت امرأة معلقة بثدييها. ورأيت امرأة تأكل لحم جسدها والنار توقد من تحتها. ورأيت امرأة قد شد رجلاها إلى يديها وقد سلط عليها الحيات والعقارب. ورأيت امرأة صماء عمياء خرساء في تابوت من نار، يخرج دماغ رأسها من منخرها، وبدنها متقطع من الجذام والبرص. ورأيت امرأة معلقة، برجليها تَنُّور من نار.ورأيت امرأة تقطع لحم جسدها من مقدمها ومؤخرها بمقاريض من نار. ورأيت امرأة تحرق وجهها ويداها وهي تأكل أمعاءها. ورأيت امرأة رأسها رأس الخنزير وبدنها بدن الحمار، وعليها ألف ألف لون من العذاب. ورأيت امرأة على صورة الكلب والنار تدخل في دبرها وتخرج من فيها، والملائكة يضربون رأسها وبدنها بمقامع من نار!

فقالت فاطمة (علیها السلام): حبيبي وقرة عيني، أخبرني ما كان عملهن وسيرتهن حتى وضع الله عليهن هذا العذاب؟ فقال: يا بنيتي، أما المعلقة بشعرها فإنها كانت لا تغطي شعرها من الرجال. وأما المعلقة بلسانها فإنها كانت تؤذي زوجها.

وأما المعلقة بثدييها فإنها تمتنع من فراش زوجها. وأما المعلقة برجليها فإنها كانت تخرج من بيتها بغير إذن زوجها. وأما التي تأكل لحم جسدها فإنها كانت تزين بدنها للناس. والتي شُد يداها إلى رجليها وسلط عليها الحيات والعقارب فإنها كانت قذرة الوضوء قذرة الثياب وكانت لا تغتسل من الجنابة والحيض ولا تتنظف، وكانت تستهين بالصلاة.

وأما الصماء العمياء الخرساء، فإنها كانت تلد من الزنا فتعلقه في عنق زوجها.

وأما التي تقرض لحمها بالمقاريض، فإنها كانت تعرض نفسها على الرجال.

ص: 299

وأما التي كانت تحرق وجهها وبدنها وتأكل أمعاءها، فإنها كانت قوادة.

وأما التي كان رأسها رأس الخنزير وبدنها بدن الحمار، فإنها كانت نمامة كذابة.

وأما التي كانت على صورة الكلب والنار تدخل في دبرها وتخرج من فيها، فإنها كانت قينة نواحة حاسدة. ثم قال (علیه السلام) ويل لامرأة أغضبت زوجها، وطوبى لامرأة رضيَ عنها زوجها».

أقول: لا يكفي رواية الصدوق (رحمة الله) لهذا الحديث للوثوق به، فهو أولاً من مروياته عن مشايخ بغداد، وثانياً في سنده سهل بن زياد الآدمي، وقد اتهمه بعض علمائنا بأنه ضعيف كذاب، ووثقه جماعة من المتأخرين، لكن حتى لو صح مروياته فلا يمكن قبول الحديث بل لانشك في أنه موضوع. وثالثاً لا يمكن قبول متنه لأنه لا يعقل أن يعاقب الله تعالى بهذا العذاب الزوجة التي لم ترضع ابنها كما في بعض رواياته، أو لا تطيع زوجها في المقاربة! «وأما المعلقة بثدييها فإنها تمتنع من فراش زوجها».

35- نماذج أخرى من رواياتهم المكذوبة في المعراج

1. أخروا وقت المعراج إلى قبيل هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) لأجل تصحيح كلام عائشة! فقد قال القاري في شرح الشفا: 1/222 و393: «ذكرالنووي أن معظم السلف وجمهور المحدثين والفقهاء، على أن الإسراء والمعراج كان بعد البعثة بستة عشر شهراً». لكن رواة السلطة أخروه لأن عائشة قالت إن بيت خديجة في الآخرة من قصب، لأنها لم تصل، والصلاة شرعت في المعراج، فيكون بعد وفاتها.

قال في فتح الباري: 7/154: «تقدم أن عائشة جزمت بأن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلاة». وتقدم أن بشارة النبي (صلی الله علیه و آله) لخديجة (علیها السلام): بيت في الجنة لاصخب فيه ولا نصب. ولا ذكر فيه للقصب! فضائل الصحابة/75 للنسائي وسنن النسائي: 5/94، الجامع الصغير: 2/247 وتاريخ الذهبي: 1/238.

لكن عائشة جعلته بيتاً من قصب، وبررته بأن خديجة ماتت قبل أن تصلي! قالت: «ماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): رأيت لخديجة بيتاً من قصب،

ص: 300

لاصخب فيه ولا نصب». فتح الباري: 1/27.

2- أَعْطَوْا أبابكر لقب الصدِّيق، وجعلوا سببه أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما عُرج به أخبر المشركين فكذبوه وكذبه قسم من المسلمين! لكن أبابكرصدقه فسمي الصديق! «فحدثهم، فمن بين مُصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً، وارتد ناس ممن كان آمن به، وسعى رجال إلى أبي بكر فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق. قال: أتصدقه على ذلك؟ قال إني لأصدقه على أبعد من ذلك فسمي الصديق». تخريج الأحاديث والآثار: 2/256، تاريخ الخلفاء/29، عن الحاكم عن عائشة وجَوَّدَهُ، الرياض النضرة: 1/404، الكشاف: 2/437، الإستيعاب:3/966، تفسير البغوي: 3/96، البيضاوي: 3/430، أبي حيان: 6/6، أبي السعود: 5/155وغيرها.

ولكي يصح ذلك جعلوا إسلام أبي بكر قبل المعراج! أو أخروا وقت المعراج ليكون بعد إسلام أبي بكر! لكن سعد بن أبي وقاص شهد بأن أبابكر أسلم متأخراً، فقال ابنه محمد: «قلت لأبي: أكان أبوبكر أولكم إسلاماً؟ فقال: لا، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين، ولكن كان أفضلنا إسلاماً». الطبري: 2/60.

ورووا ما يدل على أن إسلامه كان في السنة السابعة أو بعدها، وأن شخصاً من قبيلة أسد كان يربطه هو وطلحة بحبل ويحبسهما ويعذبهما فسميا القرينين، لأن قبيلة تيم ملحقة أو متحالفة مع بني أسد عبدالعزى. الإصابة: 6/77.

وروى البخاري: 3/59 عن عائشة، أن أبابكر خرج مهاجراً خوفاً من قريش «حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدَّغِنَّة» فأجاره، وهو سيد الأحابيش القارة أي الرماة: «فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبابكر، وقالوا لابن الدغنة: مُرْ أبابكر فليعبد ربه في داره، فليصل وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن»

ثم ذكرت أنه رد إلى ابن الدغنة جواره قبيل هجرته إلى المدينة.

3. قال القاضي عياض في الشفاء: 1/174: «وروى ابن قانع القاضي عن

أبي الحمراء قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما أسري بي إلى السماء إذا على العرش مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي»!

ص: 301

فوضعوا مقابله: «ما مررت بسماء إلا وجدت إسمي فيها مكتوباً: محمد رسول الله، أبوبكر الصديق...قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ليلة أسرى به إن قومي لايصدقوني، فقال له جبريل: يصدقك أبوبكر وهو الصديق». مجمع الزوائد: 9/41.

لكن بعض علمائهم اعترف بأنه من موضوعات عبدالله بن إبراهيم ومحمد بن عبدالله الهلالي البصري! راجع الغدير: 5/303 والصحيح: 4/44.

ويطول الكلام لو أردنا استعراض رواياتهم الكثيرة الموضوعة عن المعراج.

ص: 302

الفصل السادس عشر: أول من أسلم و أول من أعلن إسلامه

1- أول من أسلم وأعلن إسلامه: عليٌّ وخديجة (علیهما السلام)

أ. أول من أسلم علي وخديجة وجعفر، ثم أمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن ينذر عشيرته الأقربين: روت مصادر الطرفين متواتراً عن علي قوله (علیه السلام): «صليت قبل الناس بسبع سنين» «ابن ماجة: 1/44، الحاكم: 3/111. وفي الترمذي: 5/304»: «بُعث النبي (صلی الله علیه و آله) يوم الإثنين، وصلى وعلي (علیه السلام) يوم الثلاثاء»! ورواه الحاكم: 3/112 وصححه.

وفي الأحوذي: 10/160: «فيه دليل على أن أول من أسلم من الذكور هو علي

رضيالله عنه». ومثله أبو يعلى: 1/348، والبدء والتاريخ/303، عن أبي رافع.

وقال ابن عبدالبر في الإستيعاب: 3/1095: «وروى مسلم الملائي عن أنس بن مالك قال: استنبئ النبي (صلی الله علیه و آله) يوم الإثنين وصلى عليٌّ يوم الثلاثاء. وقال زيد بن أرقم: أول من آمن بالله بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) علي بن أبي طالب...الخ.».

وحسَّنَه في مجمع الزوائد: 9/274: «عن ابن عباس قال: أسلم زيد بن حارثة بعد علي، فكان أول من أسلم بعده».والطبراني الكبير: 5/84، الطبري: 2/60، تهذيب الكمال: 5/52 وسير الذهبي: 1/216.

وقال ابن هشام: 1/163: «وكان أول ذكر أسلم وصلى بعد علي بن أبي طالب رضيالله عنهما». وسير الذهبي 1/13وتاريخ دمشق 19/353.

ب . وبعد القرن الخامس أنكر علماء السلطة أن علياً (علیه السلام) أول من أسلم! ففي مقدمة ابن

ص: 303

الصلاح/178: «قال الحاكم: لا أعلم خلافاً بين أصحاب التواريخ أن علي بن أبي طالب أولهم إسلاماً. واستُنكر هذا من الحاكم»!

واستنكره علماء السلطة بعد القرن الخامس!أما قبله فكانوا متفقين مجمعين عليه!

قال في الصحيح من السيرة: 2/315: «إن أول من أسلم واتبع وصدق وآزر وناصر، هو أميرالمؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه، وعلى أبنائه الأئمة الطاهرين. وأورد العلامة الأميني في الغدير: 3/95، أقوالاً لعشرات من كبار الصحابة والتابعين وغيرهم من الأعلام، وعشرات من المصادر غير الشيعية، تؤكد أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) هو أول الأمة إسلاماً».

وقال المناوي في فيض القدير: 4/468: «علي أخي في الدنيا والآخرة: كيف وقد بُعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم الإثنين فأسلم وصلى يوم الثلاثاء، فمكث يصلي مستخفياً سبع سنين، كما رواه الطبراني عن أبي رافع. وفي أوسط الطبراني عن جابر مرفوعاً: مكتوب على باب الجنة لاإله إلا الله محمد رسول الله علي أخو رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي سنة! وفيه: عن أبي أمامة أن رسول الله (صلی الله علیه و آله): آخى بين الناس وآخى بينه وبين علي.

قال الإمام أحمد: ما جاء في أحد من الفضائل ما جاء في علي! وقال النيسابوري: لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأحاديث الحسان ما ورد في حق علي».

ويحق لنا هنا أن نتعجب من ابن حجر الذي يعرف حديث الدار وإنذار العشيرة الأقربين أول البعثة، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) أعلن علياً (علیه السلام) أخاه ووزيره ووصيه، ويعرف الأحاديث الصحيحة المتقدمة في خلق نورالنبي (صلی الله علیه و آله) ونور علي (علیه السلام) قبل الخلق، ويعرف حديث النبي (صلی الله علیه و آله) الصحيح إن الملائكة صلت عليه وعلى علي سبعاً، لأنهما صليا قبل الناس سبع سنين! ويعرف قول علي (علیه السلام): «أنا عبدالله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كذاب! صليت قبل الناس لسبع سنين».وأنه صحيح بشرط الشيخين!

ويعرف أنه لايوجد حديث في إسلام أن أبابكر أول من أسلم إلا ما نسبوه إلى عمار!

ص: 304

وقد صرح «فتح الباري: 7/130» بأن البخاري لم يجد حديثاً في أن إسلام أبي بكر هو الأول، إلا مانسبه إلى عمار فقال: «اكتفى بهذا الحديث لأنه لم يجد شيئاً على شرطه غيره، وفيه دلالة على قدم إسلام أبي بكر، إذ لم يذكر عمار أنه رأى مع النبي (صلی الله علیه و آله) من الرجال غيره»! فيكفي عنده لإثبات أولية إسلام أبي بكر حديث مبهم ليرد به أحاديث قوية ويقول: «قد اتفق الجمهور على أن أبابكر أول من أسلم من الرجال». والجمهور هنا أتباع السلطة فقط، واتفاقهم تم في القرن الخامس!

ج . أما روايات أهل البیت (علیهم السلام) فأجمعت على أن علياً وخديجة (علیهما السلام) أول من أسلم، ومن ذلك ما رواه اليعقوبي: 2/22: «أتاه جبريل (علیه السلام) ليلة السبت... وقال من رواه عن جعفر بن محمد: يوم الجمعة... وعلى جبريل جبة سندس، وأخرج له درنوكاً من درانيك الجنة فأجلسه عليه، وأعلمه أنه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وبلغه عن الله وعلمه: إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. وأتاه من غد وهو متدثر فقال: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ..

وكان أول ما افترض عليه من الصلاة الظهر، أتاه جبريل فأراه الوضوء فتوضأ رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما توضأ جبريل (علیه السلام) ثم صلى ليريه كيف يصلي فصلى رسول الله. ثم أتى خديجة ابنة خويلد فأخبرها فتوضأت وصلت، ثم رآه علي بن أبي طالب ففعل كما رآه يفعل... وكان أول من أسلم خديجة بنت خويلد3من النساء، وعلي بن أبي طالب (علیه السلام) من الرجال، ثم زيد بن حارثة، ثم أبوذر». وفي قصص الأنبياء للراوندي/316: «فكان يصلي خلف رسول الله (صلی الله علیه و آله) علي وجعفر وزيد وخديجة».

وفي روضة الواعظين للنيشابوري/85، عن علي (علیه السلام) قال: «إن أول صلاة ركعنا فيها صلاة العصر، قلت يا رسول الله: ما هذا؟ قال: أمرت به. قال أبو رافع: صلى النبي غداة الإثنين وصلت خديجة آخر نهار يوم الإثنين وصلى علي يوم الثلاثاء».

ورواه محمد بن سليمان في المناقب: 1/278، بطريقين عن حبة العرني وأنس. وذخائر العقبى/59، تفسير الإمام العسكري/429. وشرح الأخبار: 1/177و449، المناقب: 2/7، التعجب/98، كنز الفوائد/125، الإحتجاج: 1/37 وفيه: «بعث يوم الإثنين وصليت

ص: 305

معه يوم الثلاثاء، وبقيت معه أصلي سبع سنين، حتى دخل نفر في الإسلام».

وروى ابن طاووس (رحمة الله) في كتاب الطرف/5 والبحار: 65/392 عن عيسى بن المستفاد، أنه سأل الإمام الكاظم (علیه السلام) عن بدء الإسلام فقال: «سألت أبي جعفر بن محمد (علیه السلام) عن بدء الإسلام كيف أسلم علي (علیه السلام) وكيف أسلمت خديجة (علیهما السلام) ؟فقال لي أبي: إنهما أسلما لما دعاهما رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا علي ويا خديجة أسلمتما لله وسلَّمتما له؟ وقال: إن جبرئيل عندي يدعوكما إلى بيعة الإسلام، فأسلما تسلما وأطيعا تُهديا، فقالا: فعلنا وأطعنا يا رسول الله، فقال: إن جبرئيل عندي يقول لكما: إن للإسلام شروطاً ومواثيق، فابتداؤه بما شرط الله عليكما لنفسه ولرسوله أن تقولا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى الناس كافة بين يدي الساعة، ونشهد أن الله يحيي ويميت ويرفع ويضع ويغني ويفقر ويفعل ما يشاء ويبعث من في القبور. قالا: شهدنا. قال: وإسباغ الوضوء على المكاره واليدين والوجه والذراعين، ومسح الرأس ومسح الرجلين إلى الكعبين، وغسل الجنابة في الحر والبرد، وإقام الصلوات، وأخذ الزكوات من حلها ووضعها في أهلها، وحج البيت، وصوم شهر رمضان، والجهاد في سبيل الله، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والعدل في الرعية والقسم في السوية، والوقوف عند الشبهة إلى الإمام فإنه لا شبهة عنده، وطاعة ولي الأمر بعدي ومعرفته في حياتي وبعد موتي، والأئمة من بعده واحداً فواحداً، وموالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله، والبراءة من الشيطان الرجيم وحزبه وأشياعه... والحياة على ديني وسنتي ودين وصيي وسنته، إلى يوم القيامة، والموت على مثل ذلك، غير شاقة لأمانته ولامتعدية ولامتأخرة عنه، وترك شرب الخمر، وملاحاة الناس. يا خديجة فهمت ما شرط عليك ربك؟ قالت: نعم وآمنت وصدقت ورضيت وسلمت. قال علي: وأنا على ذلك. فقال: ياعلي تبايع على ما شرطت عليك؟ قال: نعم..».

ص: 306

2- إسلام جعفر بن أبي طالب رضيالله عنه

أ. أخبر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن جعفر بن أبي طالب (علیه السلام) نشأ على الفطرة وحنيفية إبراهيم (علیه السلام) ففي علل الشرائع: 2/558 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «أوحى الله تعالى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إني شكرت لجعفر بن أبي طالب أربع خصال، فدعاه النبي (صلی الله علیه و آله) فأخبره فقال: لولا أن الله تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتك: ما شربت خمراً قط لأني علمت أني إن شربتها زال عقلي، وما كذبت قط لأن الكذب ينقص المروءة، وما زنيت قط لأني خفت أني إذا عملت عُمل بي، وما عبدت صنماً قط لأني علمت أنه لايضر ولاينفع! قال: فضرب النبي (صلی الله علیه و آله) على عاتقه وقال: حقٌّ لله تعالى أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنة»!

ب. روى الصدوق في أماليه/597، عن الإمام الصادق (علیه السلام)، قال: «أول جماعة كانت أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يصلي وأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب معه، إذ مرَّ أبوطالب به وجعفر معه، فقال: يا بني صِلْ جناح ابن عمك. فلما أحسه رسول الله (صلی الله علیه و آله) تقدمهما، وانصرف أبوطالب مسروراً، وهو يقول:

إن علياً وجعفراً ثقتي *** عند مهم الأمور والكرب

لاتخذلا وانصرا ابن عمكما *** أخي لأمي من بينهم وأبي

والله لا يخذل النبي ولا *** يخذله من بني ذو حسب

قال: فكانت أول جماعة جُمعت، ذلك اليوم».

والحدائق الناضرة: 11/91، صححه، روضة الواعظين/86، كنز الفوائد/79 و124، المناقب: 1/301، الطرائف/305، عمدة الطالب/23، حلية الأبرار 1/69، البحار: 35/174، إيمان أبي طالب للشيخ المفيد/39، الفصول المختارة/171، الوسائل: 8/288، جامع أحاديث الشيعة: 6/406، الغدير: 7/356و396، إعلام الورى: 1/103، كشف الغمة: 1/86،

نهج الإيمان/376. راجع الغدير: 7/396، مناقب محمد بن سليمان: 1/129، تأويل الآيات: 1/271، بتفاوت وشبيه به الكافي: 1/450، عن علي (علیه السلام) . وأبو هلال العسكري في الأوائل/51،

ص: 307

ونحوه النكت لابن حبيب: 4/437، العثمانية للجاحظ/314، أبو حيان: 8/489 والآلوسي: 30/183 و الإسكافي في نقض العثمانية.

ورواه أبو الفتح الكراجكي في كنز الفوائد/124، بسنده عن أبي صفو بن صلصال بن الدلهمس، قال: «كنت أنصر النبي (صلی الله علیه و آله) مع أبي طالب قبل إسلامي، فإني يوماً لجالس بالقرب من منزل أبي طالب في شدة القيض، إذ خرج أبوطالب إليَّ شبيهاً بالملهوف فقال لي: يا أبا الغضنفر هل رأيت هذين الغلامين؟ يعني النبي وعلياً. فقلت: ما رأيتهما مذ جلست! فقال: قم بنا في الطلب فلست آمن قريشاً أن تكون اغتالتهما! قال فمضينا حتى خرجنا من أبيات مكة، ثم صرنا إلى جبل من جبالها فاسترقينا قلته، فإذا النبي وعلي عن يمينه، وهما قائمان بإزاء عين الشمس يركعان ويسجدان. قال: فقال أبوطالب لجعفر ابنه: صِلْ جناح ابن عمك، فقام إلى جنب علي فأحس بهما النبي (صلی الله علیه و آله) فتقدمهما، وأقبلوا على أمرهم حتى فرغوا مما كانوا فيه، ثم أقبلوا نحونا فرأيت السرور يتردد في وجه أبي طالب ثم انبعث يقول: إن علياً وجعفراً ثقتي..الأبيات.».

وهذا يدل على أن أباطالب وجعفراً كانا مسلمَيْن قبل ذلك،لأن جعفراً دخل مباشرة في الصلاة، ولأن أباطالب شهد بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله)، ولم يصلِّ معهم لأن النبي (صلی الله علیه و آله) أمره أن يكتم إسلامه، فلو أظهره لما استطاع أن يحمي النبي (صلی الله علیه و آله) . وكذا حمزة كان مسلماً يكتم إيمانه، كما يدل حديث إسلام أبيذر.

ج. حذف بعض رواة السلطة أبيات أبي طالب (رحمة الله) من الحديث لأن فيها تصريحاً بإسلامه وإيمانه بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله)، وهو يردُّ زعمهم بأنه مات مشركاً!

وزادوا فيه أن النبي (صلی الله علیه و آله) دعا أباطالب ليصلي معهم فرفض، وقال كلمة سخرية من الصلاة كان يقولها المشركون الطلقاء!

ففي تاريخ بغداد: 2/271 عن علي (علیه السلام) قال: «بينا أنا مع النبي (صلی الله علیه و آله) في حِيرٍ «مُحَوَّطة» لأبي طالب، أشرف علينا أبوطالب فبصر به النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا عم ألا تنزل فتصلي معنا؟ قال: ابن أخي إني لأعلم أنك على حق ولكني أكره أن أسجد فتعلوني إستي! ولكن إنزل يا جعفر فصل جناح ابن عمك. فنزل جعفر فصلى عن يسار النبي (صلی الله علیه و آله) فلما

ص: 308

قضى النبي صلاته التفت إلى جعفر فقال: أما إن الله قد وصلك بجناحين تطير بهما في الجنة كما وصلت جناح ابن عمك.

قال الشيخ أبوبكر: تفرد برواية هذا الحديث عن سفيان الثوري ابن أخته سيف بن محمد، ولا نعلم رواه عنه إلا السمتي».ورواه في تاريخ دمشق: 54/164، خيثمة/206،طبقات الحنابلة 1/309، اللالكائي: 8/1420. ورده الذهبي في ميزان الإعتدال: 2/257، لأنه يثبت إسلام جعفر بن أبي طالب (رحمة الله) قبل أبي بكر!

د. في المناقب: 1/176: «سنة ثمان في جمادى الأولى وقعة مؤتة، وهم ثلاثة آلاف. في كتاب أبان قال الصادق (صلی الله علیه و آله): إنه استعمل عليهم جعفراً فإن قتل فزيد، فإن قتل فابن رواحة، ثم خرجوا حتى نزلوا معان، فبلغهم أن هرقل قد نزل بمأرب في مائة الف من الروم ومائة ألف من المستعربة، فانحازوا إلى أرض يقال لها المشارف، ونسبت السيوف المشرفية إليها لأنها طبعت لسليمان بن داود (علیهما السلام)، فاختلفوا في القتال أو في إخبار النبي (صلی الله علیه و آله) بكثرتهم فقال ابن رواحة: ما نقاتل الناس بكثرة وإنما نقاتلهم بهذا الدين! فلقوا جموعهم بقرى البلقاء، ثم انحازوا إلى مؤتة.

وفي البخاري: نعى النبي (صلی الله علیه و آله) جعفراً، وزيداً، وابن رواحة، قبل أن يجئ خبرهم وعيناه تذرفان. زيد بن أرقم: حارب جعفر على أشقره حتى عقر، وهو أول من عقر فرسه في الإسلام، فحارب راجلاً حتى قتل. عن الباقر (علیه السلام) قال: أصيب يومئذ جعفر وبه خمسون جراحة، خمس وعشرون منها في وجهه».

وفي الكافي: 1/49 عن الإمام الباقر (علیه السلام): «لما كان يوم مؤتة كان جعفر على فرسه فلما التقوا نزل عن فرسه فعرقبها بالسيف، وكان أول من عرقب في الإسلام».

وفي التنبيه والإشراف/230، للمسعودي أن هرقل: «يومئذ مقيم بأنطاكية وعلى الروم تيادوقس البطريق، وعلى متنصرة العرب من غسان وقضاعة وغيرهم شرحبيل بن عمرو الغساني، فقتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب بعد أن عرقب فرسه، وهو أول فرس عرقبت في الإسلام، وجرح نيفاً وتسعين جراحة كلها في مقادمه، وقتل عبدالله بن رواحة، ورجع خالد بن الوليد بالناس».

ص: 309

ه. عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن النبي (صلی الله علیه و آله) حين جاءته وفاة جعفر بن أبي طالب وزيد بن جابركان إذا دخل بيته كثر بكاؤه عليهما جداً ويقول: كانا يحدثاني ويؤنساني فذهبا جميعاً. ولما انصرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) من واقعة أحد إلى المدينة سمع من كل دار قتل من أهلها قتيلاً نوحاً وبكاءً، ولم يسمع من دار حمزة عمه، فقال: لكن حمزة لا بواكي له! فآلى أهل المدينة أن لا ينوحوا على ميت ولايبكوه حتى يبدؤوا بحمزة فينوحوا عليه ويبكوه،فهم إلى اليوم على ذلك».الفقيه: 1/183.

3- كان أبوطالب وحمزة يخفيان إسلامهما

أ. كان أبوطالب كأبيه عبدالمطلب رضوان الله عليهما، يعرف أن محمداً (صلی الله علیه و آله) هوالنبي الموعود من ذرية إبراهيم وإسماعيل (صلی الله علیه و آله)، ويؤمن به من صغره ويحبه ويحرسه.

أما حمزة (رحمة الله) فذكر رواة السلطة أنه أسلم في السنة الثالثة أو الرابعة عندما شتم أبوجهل النبي (صلی الله علیه و آله) فغضب وانتصر للنبي (صلی الله علیه و آله) وضرب أباجهل وأعلن إسلامه.

لكن الصحيح أنه يومئذ أعلن، وأنه أسلم أول بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) ووقف إلى جنبه في مواجهة قريش، ووقاه بنفسه مع أبي طالب وعلي وجعفر وزيد بن حارثة، كما يدل حديث إسلام أبيذر (رحمة الله) الآتي، وأن أباطالب رتب نظام حراسة مشددة حول النبي (صلی الله علیه و آله) وكان يدقق في من يريد لقاءه.

فقد روى الكليني في الكافي: 8/297 والصدوق في الأمالي/567، حديث إسلام أبيذر وإصراره أن يرى النبي (صلی الله علیه و آله) حتى قال له أبوطالب: «قم معي، فتبعته فدفعني إلى بيت فيه حمزة فسلمت عليه وجلست فقال لي: ما حاجتك؟ فقلت: هذا النبي المبعوث فيكم؟ فقال: وما حاجتك إليه؟ قلت: أؤمن به وأصدقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشئ إلا أطعته، فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: فشهدت قال: فدفعني حمزة إلى بيت فيه جعفر..».

أقول: آمن أبوذر بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله) قبل أن يراه، لأن الله أنطق له الذئب،

كما يأتي.

ص: 310

ب. أعلن حمزة إسلامه يوم ثأر للنبي (صلی الله علیه و آله)، وتحدى قريشاً في ناديهم، وضرب أباجهل زعيم بني مخزوم! فقد روى ابن إسحاق: 2/151 وابن هشام: 1/188: «أن أباجهل اعترض رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند الصفا فآذاه وشتمه، ونال منه ما يكره من العيب لدينه والتضعيف له، فلم يكلمه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومولاةٌ لعبدالله بن جدعان التيمي في مسكن لها فوق الصفا تسمعُ ذلك، ثم انصرف عنه، فعمد إلى ناد لقريش عند الكعبة فجلس معهم.

ولم يلبث حمزة بن عبدالمطلب أن أقبل متوشحاً قوسه راجعاً من قنص له، وكان إذا رجع لم يرجع إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لا يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز قريش وأشدها شكيمة، وكان يومئذ مشركاً على دين قومه «في الظاهر» فلما مر بالمولاة وقد قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) فرجع إلى بيته، فقالت له: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك من أبي الحكم آنفاً قُبَيْل؟ وجده هاهنا فآذاه وشتمه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد! فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله عزوجل به من كرامته، فخرج سريعاً لايقف على أحد - كما كان يصنع حين يريد الطواف بالبيت- مُعداً لأبي جهل أن يقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالساً في القوم فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس وضربه بها ضربة شجه بها شجة منكرة! وقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أباجهل منه فقالوا: ما نراك يا حمزة إلا قد صبأت! قال حمزة: وما يمنعني منه وقد استبان لي منه ذلك، وأنا أشهد أنه رسول الله وأن الذي يقول حق، فوالله لا أنزع، فامنعوني إن كنتم صادقين! فقال أبوجهل: دعوا أبا عمارة، فإني والله لقد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً»!

وقال في الصحيح من السيرة: 3/153: «قوله الأخير: وما يمنعني وقد استبان لي منه أنه رسول الله والذي يقول حق: أنه لم يكن في إسلامه منطلقاً من عاطفته التي أثيرت وحسب، وإنما سبقت ذلك قناعة كاملة مما شاهده عن قرب...

ص: 311

وبعد إسلام حمزة بن عبدالمطلب بدأت تتراجع قريش وتلين من موقفها، وتدخل في مفاوضات معه (صلی الله علیه و آله)،وتعطيه بعض ما يريد، لأنها رأت أن المسلمين يزيد عددهم ويكثر، فكلمه عتبة فأبى (صلی الله علیه و آله) كل عروضهم». البدء والتاريخ: 5/98.

ج. تعصب رواة قريش على بني هاشم، فجردوا حمزة من فضيلة سبقه إلى الإسلام، وقرنوا به عمر وكأنه شجاع مقاتل مثله، وخففوا من تمثيل هند بجثمان حمزة ومحاولتها أكل كبده، أو أنكروا ذلك. كما خففوا من جريمة قاتله وحشي غلام هند، ونسبوا اليه أنه قتل مسيلمة الكذاب فغفر الله له قتله حمزة!

ثم افتروا على حمزة بأنه كان يشرب الخمر صحيح بخاري3/80 و4/41 وأنه سكر يوماً وجاء إلى جملين لعلي (علیه السلام) فشق بطنيهما وأخذ كبديهما، وجلس يشرب الخمر وجاريته تغنيه! فشكوه إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فجاء مع علي وزيد، فشتمهم حمزة! فتركه النبي (صلی الله علیه و آله) لما رآه سكراناً! وقد فند ذلك في الصحيح من السيرة: 5/290.

د .كان علي وحمزة بطلا معركة بدر التي غيرت موازين القوى بين النبي (صلی الله علیه و آله) والمشركين. فقد سأل أمية بن خلف: «من المُعَلَّم بريشة نعامة في صدره؟ قلت ذاك حمزة عم النبي (صلی الله علیه و آله) . قال: ذاك فعل بنا الأفاعيل منذ اليوم».الحاكم: 2/117.

ه. وفي معركة أحُد انتصر المسلمون في الجولة الأولى، ببطولة علي وحمزة، ثم خالفوا النبي (صلی الله علیه و آله) فانهزمو ا، وثبت النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي وحمزة، فقتل حمزة (رحمة الله) .

قال في الإرشاد: 2/83: «وكانت هند بنت عتبة جعلت لوحشي جعلاً على أن يقتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) أو حمزة بن عبدالمطلب، فقال لها: أما محمد فلا حيلة لي فيه لأن أصحابه يطيفون به، وأما علي فإنه إذا قاتل كان أحذر من الذئب، وأما حمزة فإني أطمع فيه لأنه إذا غضب لم يبصر بين يديه. وكان حمزة يومئذ قد أُعلم بريشة نعامة في صدره، فكمن له وحشي في أصل شجرة، فرآه حمزة فبدر إليه بالسيف فضربه ضربة أخطأت رأسه، قال وحشي: وهززت حربتي حتى إذا تمكنت منه رميته فأصبته في أربيته «أسفل بطنه» فأنفذته، وتركته حتى إذا برد

ص: 312

صرت إليه فأخذت حربتي، وشغل عني وعنه المسلمون بهزيمتهم. وجاءت هند فأمرت بشق بطن حمزة، وقطع كبده، والتمثيل به، فجذعوا أنفه وأذنيه، ومثلوا به».

وفي تفسير القمي: 1/117: «فقطعت مذاكيره وقطعت أذنيه وجعلتهما خرصين وشدتهما في عنقها، وقطعت يديه ورجليه».

وفي شرح النهج: 14/271: «كانت هند بنت عتبة أول من مثل بأصحاب النبي وأمرت النساء بالمثلة وبجدع الأنوف والآذان، فلم تبق امرأة إلا عليها معضدان ومسكتان وخَدَمتان»!

والمعضد ما يلبس في العضد، والمسكة سوار يلبس في ذراع اليد، والخدمة الخلخال يلبس في الساق.

وفي مسند أحمد: 1/463، ابن أبي شيبة: 8/492 وفتح الباري: 7/272: «وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) أأكلت منه شيئاً؟ قالوا: لا. قال ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة النار».

وفي تفسير البغوي: 3/91: «فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها، فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها فبلغ ذلك النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: أما إنها لو أكلتها لم تدخل النار أبداً، إن حمزة أكرم على الله تعالى من أن يدخل شيئاً من جسده النار».

قال الحافظ ابن عقيل في النصائح الكافية/112: «كانت شديدة العداوة للنبي (صلی الله علیه و آله) بمكة، ولما تجهز مشركوا قريش لغزوة أحد، خرجت معهم تحرض المشركين على القتال. ولما مروا بالأبواء حيث قبر أم النبي (صلی الله علیه و آله) آمنة بنت وهب (علیها السلام)، أشارت على المشركين بنبش قبرها وقالت: لو نبشتم قبر أم محمد، فإن أسرَ منكم أحداً فديتم كل إنسان بإرب من آرابها أي جزء من أجزائها! فقال بعض قريش: لايفتح هذا الباب»!

وقال المحامي أحمد حسين يعقوب في مذبحة كربلاء/74: «خذ على سبيل المثال: أم معاوية هند بنت عتبة، وهي امرأة والمرأة على الغالب ترمز للرحمة وتجنح

ص: 313

للموادعة، لكن هنداً لم تكتف بأن يخرج زوجها وابناها لمعركة أحد، بل أصرت على الخروج بنفسها وحملت نساء البطون على الخروج، لتشهد العنف والدم على الطبيعة! لقد تيقنت من قتل حمزة عم النبي (صلی الله علیه و آله) لكنها لم تكتف بقتله بل سارت بخطى ثابتة حتى وقفت بجانب جثته، وبأعصاب باردة شقت بطن حمزة وهو ميت واستخرجت كبده، وحاولت أن تأكله! ثم قطعت أذنيه وأنفه ومثلت به أشنع تمثيل! فإذا كانت المرأة منهم تفعل بضحيتها هكذا، فكيف يفعل أبوسفيان ومعاوية وذريتهم بضحاياهم؟! هذه هي البيئة الدموية التي تربى فيها يزيد مهندس مذبحة كربلاء! فأبوه معاوية وجده أبوسفيان وجدته هند! لقد ورث العنف والتنكيل بخصومه كابراً عن كابر».

وفي شرح الأخبار للقاضي المغربي: 1/281: «مضى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يلتمس حمزة، فوجده وقد بقروا بطنه عن كبده! فقال حين رآه: أما إنه لولا أن تحزن صفية ويكون سنة بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير! ثم قال: والله ما وقفت موقفاً قط أغيظ لي من هذا الموقف! فهبط جبرئيل فقال: يا محمد إنه مكتوب في أهل السماوات إن حمزة أسد الله وأسد رسوله.

ثم أمر به صلوات الله عليه فسجي ببردة ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى يوضعون إلى حمزة فيصلي عليه وعليهم، حتى صلى اثنين وسبعين صلاة. ثم أمر به فدفن في مصرعه، وأمر بالقتلى كذلك أن يدفنوا في مصارعهم وقال: أنا أشهد على هؤلاء أنه ما من أحد يجرح في الله إلا واللهُ عزوجل يبعثه يوم القيامة بدم جرحه، اللون لون الدم والريح ريح المسك».

و. رويَ أن وحشياً أسلم وأن النبي (صلی الله علیه و آله) سأله كيف قتل حمزة، ثم قال له: «غَيِّبْ وجهك عني، فإني لا أستطيع أن أرى قاتل حمزة»! شرح الأخبار: 1/268.

وروي أنه حسن إسلامه وجاهد «ذخائر العقبى/178» وأن الله قد يتوب عليه، ففي الكافي: 2/381: «عن حمزة بن الطيار قال: قال لي أبوعبدالله (علیه السلام): الناس على ستة أصناف، قال قلت: أتأذن لي أن أكتبها؟ قال: نعم. قلت: ما أكتب؟ قال: اكتب أهل الوعيد من أهل الجنة وأهل النار. واكتب: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا. قال قلت:

ص: 314

مَن هؤلاء؟ قال: وحشي منهم. قال: واكتب: وَآخَرُونَ مَرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ. قال: واكتب: إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً «الى الكفر» وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً «الى الإيمان» فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَعَنْهُمْ. قال: واكتب أصحاب الأعراف قال قلت: وما أصحاب الأعراف؟ قال: قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فإن أدخلهم النار فبذنوبهم، وإن أدخلهم الجنة فبرحمته».

ز. من زيارة قبر حمزة (رحمة الله): «السلام عليك يا عم رسول الله وخير الشهداء. السلام عليك يا أسد الله وأسد رسوله، أشهد أنك جاهدت في الله، ونصحت لرسول الله وجدت بنفسك، وطلبت ما عند الله ورغبت فيما وعد الله. كامل الزيارات/62.

ح . في كشف الإرتياب/55: «هدموا جميع ما بالمدينة ونواحيها من القباب والأضرحة والمزارات، فهدموا قبة أئمة أهل البیت (علیهم السلام) بالبقيع، ومعهم العباس عم النبي (صلی الله علیه و آله)، وجدرانها، وأزالوا الصندوق والقفص الموضوعين على قبورهم، وصرفوا على ذلك ألف ريال مجيدي.. وهدموا قباب عبدالله وآمنة أبوي النبي (صلی الله علیه و آله) ..وكانوا قبل ذلك هدموا قبة حمزة عم النبي (صلی الله علیه و آله) وشهداء أحد حتى أصبح مشهد حمزة والشهداء والجامع الذي بجانبه، وتلك الأبنية كلها أثراً بعد عين، ولا يرى الزائر لقبر حمزة اليوم إلا قبراً في برية، على رأس تل من التراب»!

4- زيد بن حارثة الذي اختار النبي (صلی الله علیه و آله) على أبيه!

في تفسير القمي: 2/172، بسند صحيح عن الإمام الصادق (علیه السلام)، قال: «كان سبب نزول ذلك«وَإِذْ تَقُولُ للذِى أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ..» أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما تزوج بخديجة بنت خويلد خرج إلى سوق عكاظ في تجارة لها، ورأي زيداً يباع، ورآه غلاماً كَيِّساً حصيفاً فاشتراه، فلما نُبئ رسول الله (صلی الله علیه و آله) دعاه إلى الإسلام فأسلم، وكان يدعى زيد مولى محمد (صلی الله علیه و آله)، فلما بلغ حارثة بن شراحبيل الكلبي خبر ولده زيد، قدم مكة وكان رجلاً جليلاً، فأتى أباطالب فقال: يا أباطالب إن ابني وقع عليه السبي وبلغني أنه صار إلى ابن أخيك، فسله إما أن يبيعه وإما

ص: 315

أن يفاديه وإما أن يعتقه. فكلم أبوطالب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): هو حرٌّ فليذهب كيف يشاء، فقام حارثة فأخذ بيد زيد فقال له: يا بني إلحق بشرفك وحسبك، فقال زيد: لست أفارق رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبداً! فقال له أبوه: فتدع حسبك ونسبك وتكون عبداً لقريش؟ فقال زيد: لست أفارق رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما دمت حياً! فغضب أبوه فقال: يا معشر قريش إشهدوا أني قد برئت منه وليس هو ابني! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إشهدوا أن زيداً ابني أرثه ويرثني، فكان يدعى زيد بن محمد، فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحبه وسماه زيد الحِبّ، فلما هاجر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة زوجه زينب بنت جحش». وسيأتي طلاقه لها، وتزويج الله رسوله (صلی الله علیه و آله) بها.

5- أبوذر الغفاري (رحمة الله) رابع المسلمين المعلنين إسلامهم

أ. كان أبوذر قبل الإسلام يصلي بهداية فطرته! قال: «صليت قبل الناس بأربع سنين، قلت له: من كنت تعبد؟ قال: إله السماء».دلائل النبوة: 4/1307.

«قلت: يا أباذر أين كنت تتوجه؟ قال: كنت أتوجه حيث وجهني الله، كنت أصلي من أول الليل فإذا كان آخر الليل ألقيت هذا، حتى كأنما أنا خفاء حتى تعلوني الشمس». الطبراني الأوسط: 3/246.

وفي الكافي: 8/297، وأمالي الصدوق/567، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قال لرجل من أصحابه: ألا أخبرك كيف كان سبب إسلام سلمان وأبيذر رحمة الله عليهما؟ فقال الرجل وأخطأ: أما إسلام سلمان فقد علمت، فأخبرني كيف كان سبب إسلام أبيذر؟ فقال أبوعبدالله الصادق (علیه السلام): إن أباذر (رحمة الله) كان في بطن مُرّ «واد قرب مكة» يرعى غنماً له، فأتى ذئب عن يمين غنمه فهش بعصاه على الذئب، فجاء الذئب عن شماله فهش عليه أبوذر، ثم قال له أبوذر: ما رأيت ذئباً أخبث منك ولا شراً! فقال له الذئب: شرٌّ والله مني أهل مكة بعث الله عزوجل إليهم نبياً فكذبوه وشتموه! فوقع في أذن أبيذر فقال لامرأته: هلمي مزودي وإداوتي وعصاي، ثم خرج على رجليه يريد مكة ليعلم خبر الذئب وما أتاه به! حتى بلغ مكة فدخلها في ساعة حارة وقد تعب ونصب،

ص: 316

فأتى زمزم وقد عطش فاغترف دلواً فخرج لبن! فقال في نفسه: هذا والله يدلني على أن ما خبرني الذئب وما جئت له حق، فشرب وجاء إلى جانب من جوانب المسجد، فإذا حلقة من قريش فجلس إليهم فرآهم يشتمون النبي (صلی الله علیه و آله) كما قال الذئب! فما زالوا في ذلك من ذكر النبي (صلی الله علیه و آله) والشتم له حتى جاء أبوطالب من آخر النهار، فلما رأوه قال بعضهم لبعض: كفُّوا فقد جاء عمه! قال فكفوا فلما دنا منهم أكرموه وعظموه، فلم يزل أبوطالب متكلمهم وخطيبهم إلى أن تفرقوا. فلما قام أبوطالب تبعته فالتفت إلي فقال: ما حاجتك؟ فقلت: هذا النبي المبعوث فيكم. قال: وما حاجتك إليه؟ فقال له أبوذر: أؤمن به وأصدقه وأعرض عليه نفسي، ولا يأمرني بشئ إلا أطعته. فقال أبوطالب: تشهد أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال فقلت: نعم، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقال قال: وتفعل؟ قلت: نعم قال: فتعال غداً في هذا الوقت إليَّ حتى أدفعك إليه، قال: بتُّ تلك الليلة في المسجد حتى إذا كان الغد جلست معهم، فما زالوا في ذكر النبي (صلی الله علیه و آله) وشتمه حتى إذا طلع أبوطالب، فلما رأوه قال بعضهم لبعض: أمسكوا فقد جاء عمه! فأمسكوا، فلما قام أبوطالب تبعته فالتفت إلي فقال: ما حاجتك؟.«فأعاد عليه ما قاله» فقال: قم معي فتبعته فدفعني إلى بيت فيه حمزة فسلمت عليه وجلست، فقال لي: ما حاجتك؟ فقلت: هذا النبي المبعوث فيكم؟ فقال: وما حاجتك إليه؟ قلت: أؤمن به وأصدقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشئ إلا أطعته، فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: فشهدت قال: فدفعني حمزة إلى بيت فيه جعفر فسلمت عليه وجلست فقال لي جعفر: ما حاجتك؟ فقلت: هذا النبي المبعوث فيكم قال: وما حاجتك إليه؟ فقلت: أو من به وأصدقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشئ إلا أطعته فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله؟ قال فشهدت فدفعني إلى بيت فيه علي سلمت وجلست فقال: ما حاجتك؟ فقلت: هذا النبي المبعوث فيكم؟ قال: وما حاجتك إليه؟ قلت: أؤمن به وأصدقه

ص: 317

وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشئ إلا أطعته، فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: فشهدت فدفعني إلى بيت فيه رسول الله فسلمت وجلست فقال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما حاجتك؟ قلت: النبي المبعوث فيكم؟ قال: وما حاجتك إليه؟ قلت: أؤمن به وأصدقه ولا يأمرني بشئ إلا أطعته، فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا أباذر إنطلق إلى بلادك فإنك تجد ابن عم لك قد مات وليس له وارث غيرك، فخذ ماله وأقم عند أهلك حتى يظهر أمرنا! قال: فرجع أبوذر فأخذ المال وأقام عند أهله حتى ظهر أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) . فقال أبوعبدالله (علیه السلام): هذا حديث أبيذر وإسلامه رضيالله عنه وأما حديث سلمان فقد سمعته! فقال: جعلت فداك حدثني بحديث سلمان، فقال: قد سمعتَهُ، ولم يحدثه لسوء أدبه».

وفي رواية الصدوق: «قال أبوذر: فانطلقت إلى بلادي فإذا ابن عم لي قد مات وخلف مالاً كثيراً في ذلك الوقت الذي أخبرني فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فاحتويت على ماله، وبقيت ببلادي حتى ظهر أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأتيته».

وفي قصص الأنبياء للراوندي/304: «فلما انصرفت إلى قومي أخبرتهم بذلك، فأسلم بعضهم وقال بعضهم: إذا دخل رسول الله أسلمنا، فلما قدم أسلم بقيتهم».

أقول: يدل هذا الحديث على أن أباطالب وحمزة وجعفراً وعلياً:قد أسلموا من أول الأمر، وأحاطوا بالنبي (صلی الله علیه و آله) وحرسوه، ودعوا الناس إلى الإيمان به بأساليب متنوعة تتناسب مع كل واحد منهم، ودوره الذي حدده له النبي (صلی الله علیه و آله) .

لكن زعماء قريش الذين عادوا النبي (صلی الله علیه و آله) وأسرته وحاربوهم ثم أبعدوا عترته عن خلافته، يريدون حذف أي دور لعترته في دعوته!

وقد روت مصادر السلطة إسلام أبيذر (رحمة الله) بصيغ متفاوتة، أشهرها رواية البخاري: 4/241 قال: «عن ابن عباس قال: لما بلغ أباذر مبعث النبي (صلی الله علیه و آله) قال لأخيه: إركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخير من السماء، واسمع من قوله ثم أئتني. فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله (صلی الله علیه و آله) ثم رجع إلى أبيذر

ص: 318

فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني مما أردت! فتزود وحمل شِنَّةً له فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد، فالتمس النبي (صلی الله علیه و آله) ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل، فرآه عليٌّ فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شئ حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي (صلی الله علیه و آله) حتى أمسى فعاد إلى مضجعه، فمر به عليٌّ فقال: أما نال للرجل أن يعلم منزله! فأقامه فذهب به معه لايسأل واحد منهما صاحبه عن شئ! حتى إذا كان يوم الثالث فعاد على عليٍّ مثل ذلك فأقام معه، ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنني فعلت، ففعل فأخبره، قال: فإنه حق وهو رسول الله، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك، فقمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي (صلی الله علیه و آله) ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي إرجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري. قال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم! فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكب عليه، قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجاركم إلى الشام فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها فضربوه وثاروا إليه، فأكبَّ العباس عليه».

ب- لم يرو بخاري شيئاً من كرامات أبيذر (رحمة الله) مثل أنه كان موحداً على الفطرة، وكان يصلي لربه كما هداه، وقد رواه البيهقي وغيره، وأن الله أكرم أباذر بأن كلمه الذئب، وأرشده إلى النبي (صلی الله علیه و آله) كما رواه الكليني، ولا روى بخاري كرامة شبعه وريِّه بماء زمزم، كما رواه مسلم وغيره.. الخ. كما حذف بخاري ذكر أبي طالب وحمزة وجعفر من روايته! ثم اختار روايته عن ابن عباس مع أنه لم يكن مولوداً عندما أسلم أبوذر، ولا أسند روايته إلى أبيذر أو من عاصره وسمع منه!

ص: 319

وكذا غيَّب بخاري العديد من أحاديث أبيذر (رحمة الله) وفيها الصحيح على شرطه!

وهذا ليس عجيباً، فقد كان بخاري يعتاش من مال المتوكل، ويطبق سياسته في طمس ذكر أبي طالب وإسلامه، وتنقيص مكانة عترة النبي (صلی الله علیه و آله) ومن والاهم كأبيذر (رحمة الله)! وقد زعم بخاري أن العباس خلَّصَ أباذر مرتين من أيدي قريش!

ج- يظهر تعصب بخاري ضد أبيذر (رحمة الله) عندما تقارن ما رواه عنه في صحيحه بما أهمله من الصحيح على شرطه، كجهاده مع النبي (صلی الله علیه و آله) في كل حروبه، وشهادات النبي العظيمة فيه، وموقفه من السقيفة، وجهاده عشرين سنة في فتوح الشام وفلسطين لبنان وقبرص ومصر، وجهره بموالاة أهل البیت (علیهم السلام)، وروايته أحاديث النبي (صلی الله علیه و آله) فيهم وفي مخالفيهم، وثورته على معاوية وعثمان، ونفي معاوية له إلى بر الشام، ونفي عثمان له إلى الربذة، وموته فيها غريباً وحيداً، وصلاة ركب من الصالحين عليه، فيهم مالكالأشتر (رحمة الله) كما أخبرالنبي (صلی الله علیه و آله) .

وغاية ما رواه البخاري قول أبيذر: 1/25: «لو وضعتم الصمصامة على هذه، وأشار إلى قفاه، ثم ظننت أنى أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل أن تجيزوا عليَّ، لأنفذتها».وكتم أنه قال ذلك لما منعه عثمان من التحديث!

بل زوَّر البخاري عن عمد نفي عثمان له إلى الربذة بأنه كان بسبب خلافٍ بسيطٍ مع معاوية في تفسير قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. فشكاه معاوية إلى عثمان فجاء أبوذر إلى المدينة: «فكثر عليَّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان فقال لي: إن شئت تنحيت فكنت قريباً.فذاك الذي أنزلني هذا المنزل» أي الربذة. 2/111 و 5/203.

د- ثم روى بخاري أن النبي (صلی الله علیه و آله) ذم أباذر، وقال له: إنك امرؤ فيك جاهلية! «1/13و3/123 و 7/85». وأمره أن يطيع الحاكم بعده حتى لو كان عبداً حبشياً: «اسمع وأطع ولو لحبشي كأنَّ رأسه زبيبة»: 1/171. أي وجهه كالزبيبة السوداء.

وروى عن أبيذر أحاديث عديدة لتأييد مكذوبات رواة السلطة، منها أن النبي

ص: 320

حكم بأن التوحيد كافٍ لدخول الجنة حتى بدون إيمان بالنبي (صلی الله علیه و آله)، وحتى لو زنى وسرق، على رغم أنف أبيذر! «2/69 و 4/81 و 7/43 و137و176و 8/196»وحديث أن الشمس تستأذن بالسجود تحت العرش فلايؤذن لها! «4/75و 6/30و 8/136و178». وأن المسجد الحرام كان أول بيت وضعه الله للناس قبلة، ثم وضع المسجد الأقصى بعده بأربعين يوماً! 4/117و136.

وحديث أن جبرئيل شق صدر النبي (صلی الله علیه و آله) وغسله بماء من طست من ذهب، ثم عرج به! «1/91 و 2/167و 4/106». ثم روى عنه أحاديث عادية: 3/82 و4/121 و 156، 5/6و242 و 6/150، 7/81و84 و150، 219، 8/216.

بينما روت مصادرنا ومصادر السلطة الكثيرالوفير المهم عن أبيذر، وكتب العلماء فيه بحوثاً ضافية وكتباً خاصة، وكتبنا عنه موجزاً في ترجمة معاوية وأبيه.

ه- روى مسلم: 7/152 قصة إسلام أبيذر بخلاف رواية بخاري، وفيها أنه صلى قبل الإسلام بثلاث سنين، ودخل مكة فسأل: أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ وأنهم اجتمعوا عليه وضربوه وأدمَوْه فغسل عنه الدماء بماء زمزم، وبقي شهراً لم يَرَ النبي (صلی الله علیه و آله) ولم يكن له طعام إلا ماء زمزم حتى سمن، ثم رأى النبي (صلی الله علیه و آله) جاء للطواف مع أبي بكر فسلم عليه، واستأذن أبوبكر من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يضيفه فأطعمه من زبيب الطائف! وأسلم ورجع إلى قومه يدعوهم...

قال ابن حجر: 7/132: «أخرج مسلم قصة إسلام أبيذر من طريق عبدالله بن الصامت عنه، وفيها مغايرة كثيرة لسياق ابن عباس.. ويمكن التوفيق بينهما بأنه لقيه أولاً مع علي، ثم لقيه في الطواف أو بالعكس... وقال القرطبي: في التوفيق بين الروايتين تكلفٌ شديد، ولا سيما أن في حديث عبدالله بن الصامت أن أباذر أقام ثلاثين لا زاد له، وفي حديث ابن عباس أنه كان معه زاد وقربة ماء..إلخ.».

وصدق القرطبي، فرواياتهم في إسلامه متناقضة لايمكن الجمع بينها!

ص: 321

و- شهد أهل البیت (علیهم السلام) وأبوذر (رحمة الله) أنه رابع المسلمين الذين أعلنوا إسلامهم، وهم علي وجعفر وزيد وأبوذر. ففي الفوائد الرجالية: 2/153 في حديث نفي عثمان لأبيذر: «فقال أبوذر: أجل والله لقد رأيتني رابع أربعة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما أسلم غيرنا، وما أسلم أبوبكر ولا عمر. فقال علي (علیه السلام): والله لقد رأيته وهو رابع الإسلام». وروى عنه الطيالسي/157، والحارث/304 والآحاد والمثاني 2/230 «كنت ربع الإسلام أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع» وابن حبان: 16/83، كبير الطبراني: 2/147، الحاكم: 3/341، الزوائد: 9/327، ووثقه. وبه يظهر تعصب بخاري وابن حجر.

وقال أبو نعيم في حلية الأولياء: 1/156: «هو العابد الزهيد، القانت الوحيد، رابع الإسلام، ورافض الأزلام، قبل نزول الشرع والأحكام، تعبد قبل الدعوة بالشهور والأعوام، وأول من حيا الرسول بتحية الإسلام، لم يكن تأخذه في الحق لائمة اللوام، ولا تفزعه سطوة الولاة والحكام، أول من تكلم في علم البقاء، وثبت على المشقة والعناء، وحفظ العهود والوصايا، وصبر على المحن والرزايا، واعتزل مخالطة البرايا، إلى أن حل بساحة المنايا، أبوذر الغفاري رضيالله عنه، خدم الرسول، وتعلم الأصول، ونبذ الفضول».

لكنهم لم يتركوا حديثه بدون تخريب، فجعلوه رابع النبي (صلی الله علیه و آله) وأبي بكر وبلال، وكذبوا عليه بأنه قال: «لم يسلم قبلي إلا النبي وأبوبكر وبلال».«الحاكم 3/342»وحذفوا علياً وخديجة وجعفراً وزيداً وحمزة وأباطالب! مع أنهم رووا حديثاً صحيحاً متواتراً عن عفيف الكندي سمى فيه الثلاثة الذين قبله، قال: «كنت امرأ تاجراً وكنت صديقاً للعباس بن عبدالمطلب في الجاهلية فقدمت لتجارة فنزلت على العباس بن عبدالمطلب بمنى، فجاء رجل فنظر إلى الشمس حين مالت فقام يصلي، ثم جاءت امرأة فقامت تصلي، ثم جاء غلام حين راهق الحلم فقام يصلي، فقلت للعباس: من هذا؟ فقال: هذا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب ابن أخي، يزعم أنه نبي ولم يتابعه على أمره غير هذه المرأة وهذا الغلام. وهذه المرأة خديجة بنت خويلد امرأته، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب. قال عفيف الكندي وأسلم وحسن إسلامه:

ص: 322

لوددت أني كنت أسلمت يومئذ فيكون لي ربع الإسلام». الحاكم: 3/183، ابن كثير: 1/430 وغيرهما.

وقد شطح ابن حبان فقال في صحيحه: 16/83: «قول أبيذر كنت رابع الإسلام: أراد من قومه، لأن في ذلك الوقت أسلم الخلق من قريش وغيرهم»!

ز- لم يهتم أتباع مذاهب السلطة بأبيذر (رحمة الله)، معشار ما اهتموا بأصاغر الصحابة، ولو كان لأحد ممن يحبونهم عشر ما له من المناقب، لملؤوا به كتبهم!

روى في الكافي: 2/587 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن أباذر أتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعنده جبرئيل (علیه السلام) في صورة دحية الكلبي وقد استخلاه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلما رآهما انصرف عنهما ولم يقطع كلامهما، فقال جبرئيل: يا محمد هذا أبوذر قد مرَّ بنا ولم يسلم علينا، أما لو سلم لرددنا عليه، يا محمد إن له دعاء يدعو به، معروفاً عند أهل السماء، فسله عنه إذا عرجتُ إلى السماء.

فلما ارتفع جبرئيل جاء أبوذر إلى النبي فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما منعك يا أباذر أن تكون سلمت علينا حين مررت بنا؟ فقال: ظننت يا رسول الله أن الذي معك دحية الكلبي قد استخليته لبعض شأنك، فقال: ذاك جبرئيل (علیه السلام) يا أباذر، وقد قال: أما لو سلم علينا لرددنا عليه، فلما علم أبوذر أنه كان جبرئيل (علیه السلام) دخله من الندامة حيث لم يسلم عليه ما شاء الله، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما هذا الدعاء الذي تدعو به، فقد أخبرني جبرئيل (علیه السلام) أن لك دعاء تدعو به معروفاً في السماء؟ فقال: نعم يا رسول الله أقول: اللهم إني أسألك الأمن والإيمان بك، والتصديق بنبيك، والعافية من جميع البلاء، والشكر على العافية، والغنى عن شرار الناس». وفي رجال الطوسي: 1/107: «وسله عن كلمات يقولهن إذا أصبح».

وفي الخصال/448: «عن عبدالعزيز القراطيسي قال: دخلت على أبي عبدالله (علیه السلام) فذكرت له شيئاً من أمر الشيعة ومن أقاويلهم، فقال: يا عبدالعزيز، الإيمان عشر درجات بمنزلة السلم له عشر مراقي، تُرْتَقى منه مرقاتٌ بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الواحدة لصاحب الثانية لست على

ص: 323

شئ، ولا يقولن صاحب الثانية لصاحب الثالثة لست على شئ، حتى انتهى إلى العاشرة. قال: وكان سلمان في العاشرة، وأبوذر في التاسعة، والمقداد في الثامنة. يا عبدالعزيز: لا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، إذا رأيت الذي هو دونك فقدرت أن ترفعه إلى درجتك رفعاً رفيقاً فافعل، ولا تحملن عليه ما لا يطيقه فتكسره، فإنه من كسر مؤمناً فعليه جبره، لأنك إذا ذهبت تحمل الفصيل

حمل البازل فسخته».

وفي الخصال/42، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان أكثر عبادة أبيذر رحمة الله عليه: التفكر والإعتبار».

وفي الكافي: 3/250 عن علي بن إبراهيم رفعه، قال: «لما مات ابن أبيذر، مسح أبوذر القبر بيده ثم قال: رحمك الله يا ذر، والله إن كنت بي باراً، ولقد قبضت وإني عنك لراض، أما والله ما بي فقدك وما عليَّ من غضاضة، ومالي إلى أحد سوى الله من حاجة، ولولا هول المطلع لسرني أن أكون مكانك، ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك! والله ما بكيت لك ولكن بكيت عليك، فليت شعري ماذا قلت وماذا قيل لك؟ ثم قال: اللهم إني قد وهبت له ما افترضت عليه من حقي فهب له ما افترضت عليه من حقك، فأنت أحق بالجود مني».

وفي الكافي: 2/458 عن الإمام الصادق (علیه السلام): «جاء رجل إلى أبيذر فقال: يا أباذر ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم عمرتم الدنيا وأخربتم الآخرة، فتكرهون أن تنقلوا من عمران إلى خراب! فقال له: فكيف ترى قدومنا على الله؟ فقال: أما المحسن منكم فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسئ منكم فكالآبق يرد على مولاه! قال: فكيف ترى حالنا عند الله؟ قال: أعرضوا أعمالكم على الكتاب، إن الله يقول: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ. قال فقال الرجل: فأين رحمة الله؟ قال: رحمة الله قريب من المحسنين».

وفي كامل الزيارات/153، عن عروة قال: «سمعت أباذر وهو يومئذ قد أخرجه عثمان إلى الربذة، فقال له الناس: يا أباذر أبشر فهذا قليل في الله تعالى، فقال: ما أيسر هذا، ولكن كيف أنتم إذا قتل الحسين بن علي (علیه السلام) قتلاً، أو قال ذبحاً! والله لايكون

ص: 324

في الإسلام أعظم قتيلاً منه، وإن الله سيسلُّ سيفه على هذه الأمة لايغمده أبداً، ويبعث قائماً من ذريته فينتقم من الناس!

وإنكم لو تعلمون مايدخل على أهل البحار وسكان الجبال في الغياض والآكام وأهل السماء من قتله لبكيتم والله حتى تزهق أنفسكم! وما من سماء يمر به روح الحسين (علیه السلام) إلا فزع له سبعون ألف ملك يقومون قياماً ترعد مفاصلهم إلى يوم القيامة! وما من سحابة تمر وترعد وتبرق إلا لعنت قاتله، وما من يوم إلا تعرض روحه على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيلتقيان».فقير... غني بولاية علي

6- إسلام عمرو بن عبسة السلمي أخ أبيذر لأمه

ذكرت بعض الروايات أن أباذر أسلم هو وأخوه أنيس وأمه رملة بنت الوقيعة الغفارية، وعدد من قبيلته بني غفار. أعيان الشيعة: 4/225 والأحوذي: 10/305.

وذكروا له أخاً من أمه هو عمرو بن عبسة السلمي. تهذيب الكمال: 33/294.

قال الطبري: 2/61: «اجتمع أصحابنا على أن أول أهل القبلة استجاب لرسول الله (صلی الله علیه و آله) خديجة بنت خويلد، ثم اختُلف عندنا في ثلاثة نفر، في أبي بكر وعلي وزيد بن حارثة، أيهم أسلم أول، قال الواقدي: أسلم معهم خالد بن سعد بن العاص خامساً، وأسلم أبوذر قالوا رابعاً أو خامساً، وأسلم عمرو بن عبسة السلمي، فيقال رابعاً أو خامساً. قال: فإنما اختلف عندنا في هؤلاء النفر أيهم أسلم أول، وفي ذلك روايات كثيرة». وشبيه به تاريخ اليعقوبي: 2/23.

وروى الحاكم: 4/148 عن عمرو بن عبسة السلمي، قال: «أتيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أول ما بعث وهو بمكة، وهو حينئذ مستخف».

وروى أحمد: 4/112 عن ابن عبسة: «إني كنت في الجاهلية أرى الناس على ضلالة ولا أرى الأوثان شيئاً، ثم سمعت عن رجل يخبر أخبار مكة ويحدث أحاديث، فركبت راحلتي حتى قدمت مكة فإذا أنا برسول الله مستخف، وإذا قومه عليه جرآء، فتلطفت له فدخلت عليه فقلت: ما أنت؟ قال أنا نبي الله، فقلت: وما

ص: 325

نبي الله؟ قال: رسول الله. قال قلت: آلله أرسلك؟ قال: نعم. قلت: بأي شئ أرسلك؟ قال: بأن يوحد الله ولا يشرك به شئ وكسرالأوثان وصلة الرحم. فقلت له: من معك على هذا؟ قال: حُرٌّ وعبد، أو عبد وحر، وإذ معه أبوبكر بن أبي قحافة وبلال مولى أبي بكر. قلت إني متبعك. قال: إنك لاتستطيع ذلك يومك هذا، ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فالحق بي.قال: فرجعت إلى أهلي وقد أسلمت فخرج رسول الله مهاجراً إلى المدينة، فجعلت أتخبَّر الأخبار حتى جاء ركبة من يثرب فقلت: ما هذا المكي الذي أتاكم؟ قالوا: أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك وحيل بينهم وبينه، وتركنا الناس سراعاً اليه.

قال عمرو بن عبسة: فركبت راحلتي حتى قدمت عليه المدينة فدخلت عليه فقلت: يا رسول الله أتعرفني؟ قال: نعم، ألست أنت الذي أتيتني بمكة؟ قال قلت: بلى، فقلت: يا رسول الله علمني مما علمك الله وأجمل. قال: إذا صليت الصبح فاقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت فلا تصل حتى ترتفع، فإنها تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار، فإذا ارتفعت قيد رمح أو رمحين فصل، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلى العصر، فإذا صليت العصر فاقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب حين تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار.

قلت: يا نبي الله أخبرني عن الوضوء. قال: ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر إلا خرجت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر، ثم يغسل وجهه كما أمره الله تعالى إلا خرجت خطاياه وجهه من أطراف لحيته من الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرجت خطايا يديه من أطراف أنامله، ثم يمسح رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله عزوجل إلا خرجت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء، ثم يقوم فيحمد الله عزوجل ويثني عليه بالذي هو له أهل، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنبه كهيئته يوم ولدته أمه!

قال أبو أمامة: يا عمرو بن عبسة أنظر ما تقول! أسمعت هذا من رسول الله؟! أيعطى هذا الرجل كله في مقامه؟! قال فقال عمرو بن عبسة: يا أبا أمامة لقد كبرت

ص: 326

سني ورق عظمي واقترب أجلى وما بي من حاجة أن أكذب على الله عزوجل وعلى رسوله! لو لم أسمعه من رسول الله إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً، لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك»! وبعضه الطبقات: 4/217 وهو عندي محل شك.

وكان عمرو بن عبسة يقول: «رأيت النبي (صلی الله علیه و آله) وهو نازل بعكاظ فقلت: من معك على هذا الأمر؟ فقال: رجلان أبوبكر وبلال، فأسلمت. ولقد رأيتني وأنا ربع الإسلام». أحمد: 4/112، المستدرك: 3/66، 285 و 1/164. وتهذيب الكمال: 22/121، الطيالسي/157، ابن خزيمة: 1/129 والأحاديث الطوال/36.

وقال ابن سعد في الطبقات: 4/219: «لما أسلم عمرو بن عبسة بمكة، رجع إلى بلاد قومه بني سليم، وكان ينزل بصُفَّة وحَاذَة، وهي من أرض بني سليم، فلم يزل مقيماً هناك حتى مضت بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر، ثم قدم على رسول الله بعد ذلك المدينة». وفي الطبقات: 7/403: «ثم خرج بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الشام فنزلها إلى أن مات بها». راجع معجم البلدان: 4/386.

أقول: كلامه عن الصلاة، وعن كيفية إسلامه يوجب الشك في صدقه، ولعله زار أمه وأخويه أباذر وأنيساً، فوجدهم مسلمين فأسلم، ثم عاد إلى موطنه في بني سليم في أطراف نجد، وبقي هناك ولم يهاجر. ومما يزيد الشك في صدقه أنه جعل إسلام أبي بكر قبل كل الناس، وإسلام بلال مع أبي بكر، ولم يقل به أحد!

7- قالوا أبوبكر أول من أسلم وقال سعد أسلم بعد خمسين

قالوا إن علياً كان صغيراً لم يبلغ الحلم عندما أسلم، وكان أبوبكر شاباً! وردهم المأمون بأن النبي (صلی الله علیه و آله) دعاه إلى الإسلام بأمر ربه، فهو كبير وإن كان صغيراً!

ثم قالوا إن أبابكر أسلم قبل علي (علیه السلام) وبالغوا في شجاعته وثروته، وعددوا أناساً أسلموا على يده! لكن سعد بن أبي وقاص شهد بأن أبابكر أسلم متأخراً. قال ابنه محمد: «قلت لأبي: أكان أبوبكر أولكم إسلاماً؟ فقال: لا، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين، ولكن كان أفضلنا إسلاماً». الطبري: 2/60.

ص: 327

وروى ابن أبي شيبة: 8/448 عن هشام بن عروة قال: «أسلم أبوبكر يوم أسلم وله أربعون ألف درهم.. أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله وأبوبكر وبلال وخباب وصهيب وعمار وسمية أم عمار، فأما رسول الله فمنعه عمه، وأما أبوبكر فمنعه قومه، وأُخذ الآخرون فألبسوا أدراع الحديد ثم صهروهم...».

وهذا لا يصح عن أول البعثة، لأن مرحلة دعوة العشيرة الأقربين امتدت ثلاث سنين وكان الخوف فيها شديداً، فلوأسلم أبوبكر في تلك الفترة، لكان لقريش ردة فعل كما في إسلام أبيذر وعمار.

كما لا يصح قوله: منعته قبيلته، في أبي بكر، لأن نوفل بن خويلد من بني أسد عبدالعزى كان يربط أبابكر بحبل هو وطلحة ويحبسهما، فسميا القرينين. وكان خويلد يدعى أسد قريش فقتله علي (علیه السلام) في بدر. «الحاكم3/369». وكان عثمان بن عبيدالله أيضاً يربطهما بحبل. «الإصابة 6/77». ولم تحمهما قبيلتهما تيم.

ورووا أن أبابكر هاجر إلى اليمن لخوفه على نفسه، فوجد ابن الدِّغِنَّة وهو رئيس الأحابيش القارة، أي الرماة! فحماه وأرجعه معه إلى مكة، وأعلن لقريش أنه يجيره فبلت، في قصة طويلة كررها البخاري: 3/58 وابن هشام: 1/249.

8- خامس المسلمين خالد بن سعيد بن العاص الأموي

أ- شاء الله عزوجل أن يجعل من أبناء أبي أُحَيْحَة مسلمين مؤمنين!

وأبوأحيحة هو سعيد بن العاص الأموي، من كبار فراعنة قريش وأثريائهم، ومعنى الأُحَيْحَة الضغينة في الصدر، ويقال كان له ابن إسمه أحيحة توفي صغيراً. وكان له خمسة أولاد ذكور وقيل ثمانية، والمعروف منهم ابنه الكبير العاص الذي شهد بدراً مع المشركين فقتله علي (علیه السلام)، وخالد وعمرو وأبان، الذين أسلموا وختم الله لهم بالشهادة، وأفضلهم خالد الذي أكرمه الله برؤيا كانت سبب هدايته!

ففي الطبقات: 1/166، تاريخ دمشق: 16/67، عن أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت: «لما كان قبيل مبعث النبي (صلی الله علیه و آله) بينا خالد بن سعيد ذات ليلة نائم قال: رأيت كأنه

ص: 328

غشيت مكة ظلمة حتى لا يبصر امرؤ كفه، فبينا هو كذلك إذ خرج نور ثم علا في السماء فأضاء في البيت، ثم أضاء مكة كلها، ثم إلى نجد، ثم إلى يثرب فأضاءها حتى أني لأنظر إلى البسر «التمر» في النخل! قال فاستيقظت فقصصتها على أخي عمرو بن سعيد وكان جَزِلَ الرأي «راجحه» فقال: يا أخي إن هذا الأمر يكون في بني عبدالمطلب! ألا ترى أنه خرج من حفيرة أبيهم «زمزم».

قال خالد: فإنه لما هداني الله به للإسلام. قالت أم خالد: فأول من أسلم أبي، وذلك أنه ذكر رؤياه لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا خالد أنا والله ذلك النور، وأنا رسول الله، فقص عليه ما بعثه الله به فأسلم خالد، وأسلم عمرو».ورواه ابن حبيب في المنمق /292، وكنز الفوائد/93 وغيرها، بروايات متعددة وتفاصيل.

وفي المستدرك: 3/248: «وأرسل أبوه في طلبه من بقي من ولده ممن لم يسلم ورافعاً مولاه، فوجده فأتوا به أباه أبا أحيحة، فأنَّبه وبكَّته وضربه بصريمة في يده حتى كسرها على رأسه، ثم قال: اتبعت محمداً وأنت ترى خلاف قومه، وما جاء به من عيب آلهتهم وعيبه من مضى من آبائهم؟!

فقال خالد: قد صدق والله واتبعته. فغضب أبوه أبو أحيحة ونال منه وشتمه، ثم قال: إذهب يا لكع حيث شئت، والله لأمنعنك القوت!

فقال خالد: إن منعتني فإن الله عزوجل يرزقني ما أعيش به! فأخرجه وقال لبنيه: لا يكلمه أحد منكم إلا صنعت به ما صنعت به، فانصرف خالد إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فكان يكرمه ويكون معه».

وفي الطبقات: 4/95: «كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص ثالثاً أو رابعاً، وكان ذلك ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يدعو سراً... فضربه أبو أحيحة بقراعة في يده حتى كسرها على رأسه، ثم أمر به إلى الحبس وضيق عليه وأجاعه وأعطشه، حتى لقد مكث في حر مكة ثلاثاً ما يذوق ماء، فرأى خالد فُرجة فخرج فتغيب عن أبيه في نواحي مكة حتى حضر خروج أصحاب رسول الله إلى الحبشة في الهجرة الثانية».

وفي المناقب: 1/288: «استفاضت الرواية أن أول من أسلم علي، ثم خديجة،

ص: 329

ثم جعفر، ثم زيد، ثم أبوذر، ثم عمرو بن عنبسة السلمي، ثم خالد بن سعيد بن العاص، ثم سمية أم عمار، ثم عبيدة بن الحرث، ثم حمزة «أعلن إسلامه» ثم خباب بن الأرت، ثم سلمان، ثم المقداد، ثم عمار، ثم عبدالله بن مسعود، في جماعة. ثم أبوبكر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وصهيب وبلال».

وفي الآحاد والمثاني: 1/387: «كان «خالد»جميلاً وسيماً، قتل وهو ابن نحو خمسين».

وفي الإستيعاب: 2/420: «هاجر إلى أرض الحبشة مع امرأته الخزاعية، وولد له بها ابنه سعيد بن خالد، وابنته أم خالد... قالت..وشهد أبي مع رسول الله عمرة القضاء وفتح مكة، وحنيناً، والطائف، وتبوك، وبعثه رسول الله على صدقات اليمن، فتوفى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأبي باليمن».

ب- هاجر خالد إلى الحبشة، لكنه كان يتردد على النبي (صلی الله علیه و آله) ويقوم له بمهمات. فقد أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) إلى قيصر الروم، فتأثر به كبير الأساقفة. تاريخ دمشق: 16/67.

وكان يتاجر إلى اليمن فجاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بآلة كالمنجنيق من جرش.إمتاع الأسماع: 2/21.

وكان إلى جانب جعفر في الهجرة، ورجع معه في السنة السابعة. الإستيعاب: 3/1177.

ولما توفي في الحبشة زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان، فكتب النبي (صلی الله علیه و آله) للنجاشي أن يخطبها له، فوكلت خالد بن سعيد وخطبها النجاشي منه. الإستيعاب: 4/1932.

ج- شارك سعيد بفعالية في حروب النبي (صلی الله علیه و آله)، وأمَّره في فتح مكة على سرية وأرسله إلى ذي عَرَنة. التنبيه والإشراف/233.

وكان يكتب للنبي (صلی الله علیه و آله) وهو أول من ابتدأ بالبسملة. «الدر المنثور: 1/11 ومكاتيب الرسول: 1/149». وتوسط للنبي (صلی الله علیه و آله) مع ثقيف وكتب عهدهم. الدرر/248.

د- أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) مع علي (علیه السلام) لفتح اليمن فجعله علي (علیه السلام) قائد مقدمته، وبرز إلى عمرو بن معدي كرب فنهاه علي (علیه السلام)، وبرز هو اليه وصاح بعمرو فهرب! ثم جاء عمرو واستأمن، وأعطى سيفه المشهور الصمصامة إلى خالد.

ص: 330

وذهب خالد بن الوليد بمن معه في اليمن إلى جهة، فنهاه علي (علیه السلام) فخالفه، فبعث اليه خالد بن سعيد، فأجبره على طاعة أميره. كشف الغمة: 1/229.

ولاه النبي (صلی الله علیه و آله) على اليمن وكتب له كتاب الفرائض. مكاتيب النبي: 1/303.

ه- عندما توفي النبي (صلی الله علیه و آله) رجع خالد إلى المدينة وتفاجأ ببيعة أبي بكرفغضب «وأتى بني هاشم فقال: أنتم الظهر والبطن والشعار دون الدثار والعصا دون اللحا، فإذا رضيتم رضينا وإذا أسخطتم سخطنا... وبلغت أبابكر فلم يحفل بها واضطغنها عليه عمر فلما ولاه أبوبكر الجند الذي استنفر إلى الشام قال له عمر: أتولي خالداً وقد حبس عليك بيعته وقال لبني هاشم ما قال!». شرح النهج: 2/58.

و- كان أول الخطباء المعترضين على بيعة أبي بكر، ففي الاحتجاج: 1/97 والخصال/461،عن أبان بن تغلب قال: «قلت لأبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق: جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول الله أنكر على أبي بكر فعله وجلوسه مجلس رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ قال: نعم كان الذي أنكر على أبي بكر اثنا عشر رجلاً. من المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص وكان من بني أمية،

وسلمان الفارسي، وأبوذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر، وبريدة الأسلمي. ومن الأنصار: أبو الهيثم بن التيهان، وسهل وعثمان ابنا حنيف، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وأبيُّ بن كعب، وأبوأيوب الأنصاري، وغيرهم. فلما صعد المنبر تشاوروا بينهم في أمره فقال بعضهم: هلا نأتيه فننزله عن منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقال آخرون: إن فعلتم ذلك أعنتم على أنفسكم وقال الله عزوجل: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى الْتَّهْلُكَةِ، ولكن إمضوا بنا إلى علي بن أبي طالب نستشيره ونستطلع أمره، فأتوا علياً (علیه السلام) فقالوا: يا أميرالمؤمنين ضيعت نفسك وتركت حقاً أنت أولى به، وقد أردنا أن نأتي الرجل فننزله عن منبر رسول الله فإن الحق حقك وأنت أولى بالأمر منه، فكرهنا أن ننزله من دون مشاورتك، فقال لهم علي: لو فعلتم ذلك ما كنتم إلا حرباً لهم، ولا كنتم إلا كالكحل في

ص: 331

العين أو كالملح في الزاد، وقد اتفقت عليه الأمة التاركة لقول نبيها والكاذبة على ربها! ولقد شاورت في ذلك أهل بيتي فأبوا إلا السكوت لما تعلمون من وَغَرِ صدور القوم وبغضهم لله عزوجل ولأهل بيت نبيه (صلی الله علیه و آله)، وإنهم يطالبون بثارات الجاهلية! والله لو فعلتم ذلك لشهروا سيوفهم مستعدين للحرب والقتال كما فعلوا ذلك حتى قهروني وغلبوني على نفسي ولببوني وقالوا لي: بايع وإلا قتلناك، فلم أجد حيلة إلا أن أدفع القوم عن نفسي، وذاك أني ذكرت قول رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي، إن القوم نقضوا أمرك واستبدوا بها دونك وعصوني فيك، فعليك بالصبر حتى ينزل الأمر! ألا وإنهم سيغدرون بك لامحالة فلا تجعل لهم سبيلاً إلى إذلالك وسفك دمك، فإن الأمة ستغدر بك بعدي! كذلك أخبرني جبرئيل، عن ربي تبارك وتعالى.

ولكن إئتوا الرجل فأخبروه بما سمعتم من نبيكم (صلی الله علیه و آله)، ولا تجعلوه في الشبهة من أمره، ليكون ذلك أعظم للحجة عليه، وأبلغ في عقوبته إذا أتى ربه وقد عصى نبيه (صلی الله علیه و آله)، وخالف أمره»!

ز- وقال علي (علیه السلام): «فأتى رهط من أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) يعرضون عليَّ النصرة منهم خالد وأبان ابنا سعيد بن العاص، والمقداد بن الأسود الكندي، وأبوذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، والزبير بن العوام، وأبوسفيان بن حرب، والبراء بن مالك الأنصاري. فقلت لهم: إن عندي من نبي الله العهد وله الوصية، وليس لي أن أخالفه ولست أجاوز أمره وما أخذه علي لله! لو خزموا أنفي لأقررت سمعاً وطاعة لله عزوجل، فبينا أنا على ذلك إذ قيل: قد انثال الناس على أبي بكر وأجفلوا عليه ليبايعوه، وما ظننت أنه تخلف عن جيش أسامة إذ كان النبي (صلی الله علیه و آله) قد أمَّره عليه وعلى صاحبه وأمر أن يجهز جيش أسامة، فلما رأيته قد تخلف وطمع في الأمارة، ورأيت انثيال الناس عليه أمسكت يدي... فلبثت ما شاء الله حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الإسلام وأظهرت ذلك يدعون إلى محو دين الله، وتغيير ملة محمد (صلی الله علیه و آله)! فخشيت إن لم أنصر الإسلام وقعدت أن أرى فيه ثلماً وهدماً تكون مصيبته علي أعظم من فوت ولاية أموركم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، ثم يزول ما كان منها كما

ص: 332

يزول السراب، وينقشع كما ينقشع السحاب. ورأيت الناس قد امتنعوا بقعودي عن الخروج إليهم، فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فتألفته، ولولا أني فعلت ذلك لباد الإسلام ثم نهضت في تلك الأحداث حتى انزاح الباطل، وكانت كلمة الله هي العليا، ولو كره المشركون». المسترشد/411.

ح- عرض عليه أبوبكر الولاية فرفضها هو وإخوته، قال لهم أبوبكر: «ما أحد أحق بالعمل من عمال رسول الله (صلی الله علیه و آله) إرجعوا إلى أعمالكم، فقالوا: لا نعمل بعد رسول الله لأحد! فخرجوا إلى الشام فقتلوا عن آخرهم»! الحاكم: 3/249.

ثم أعلن بعض العرب عدم طاعتهم لأبي بكر، وأعلن مسيلمة الكذاب نبوته وحث أبوبكر الناس على الجهاد فتثاقلوا حتى نهض علي (علیه السلام) وحثهم على جهاد مسيلمة وذات مرة قال عمر: «لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا..الآية. فقال له خالد بن سعيد بن العاص: يا ابن أم عمر، ألنا تضرب أمثال المنافقين! والله لقد أسلمت وإنَّ لبني عدي صنماً إذا جاعوا أكلوه، وإذا شبعوا استأنفوا».عين العبرة لابن طاووس/18.

ط- ولما رأى أبوبكر رفض خالد للولاية ورغبته في الجهاد، عقد له على جيش فتح الشام: «فأول لواء عقده لواء خالد بن سعيد بن العاص، ثم عزله قبل أن يسيِّره، وولى يزيد بن أبي سفيان فكان أول الأمراء الذين خرجوا إلى الشام».

«عن ابن عمرقال: لما عقد أبوبكر الأمراء على الشام كنت في جيش خالد بن سعيد بن العاص، فصلى بنا الصبح بذي المروة وهو على الجيوش كلها، فوالله إنا لعنده إذ أتاه آت فقال قدم يزيد بن أبي سفيان، فقال خالد بن سعيد هذا عمل عمر بن الخطاب، كلم أبابكر في عزلي وولى يزيد بن أبي سفيان!

فقال ابن عمر فأردت أن أتكلم، ثم عزم لي على الصمت. قال: فتحولنا إلى يزيد بن أبي سفيان وصار خالد كرجل منهم، وقال محمد بن عمر: وهذا أثبت عندنا مما روي في عزل خالد وهو بالمدينة». تاريخ دمشق: 65/244.

وفي تاريخ الطبري: 2/586 وشرح النهج: 2/58: «واضطغنها عليه عمر، فلما ولاه أبوبكر الجند الذي استنفر إلى الشام قال له عمر: أتولي خالداً وقد حبس

ص: 333

عليك بيعته وقال لبني هاشم ما قال».

ي- وكان خالد في الشام هو القائد الحقيقي لقوة إيمانه وشجاعته، وضعف يزيد بن أبي سفيان الشاب أمامه، فسعيد من ناحية اجتماعية ابن أبي أحيحة الأقوى والأعرق في قيادة بني أمية، من أبي سفيان وأولاده. على أن خالداً لم يذهب مع يزيد بن أبي سفيان، بل اختار أن يذهب في جيش شرحبيل بن حسنة فأوصاه به أبوبكر، وربما كان ذلك بفعل تأنيب الضمير!

ففي الطبقات: 4/98: «لما عزل أبوبكر خالد بن سعيد أوصى به شرحبيل بن حسنة، وكان أحد الأمراء فقال: أنظر خالد بن سعيد فاعرف له من الحق عليك مثل ما كنت تحب أن يعرفه لك من الحق عليه لو خرج والياً عليك، وقد عرفت مكانه من الإسلام، وأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) توفي وهو له والٍ، وقد كنت وليته ثم رأيت عزله وعسى أن يكون ذلك خيراً له في دينه. ما أغبط أحداً بالأمارة! وقد خيرته في أمراء الأجناد فاختارك على غيرك على ابن عمه، فإذا نزل بك أمر تحتاج فيه إلى رأي التقي الناصح، فليكن أول من تبدأ به أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، وليكن خالد بن سعيد ثالثاً، فإنك واجد عندهم نصحاً وخيراً. وإياك واستبداد الرأي عنهم، أو تطوي عنهم بعض الخبر.

قال محمد بن عمر: فقلت لموسى بن محمد: أرأيت قول أبي بكر قد اختارك على غيرك؟ قال: أخبرني أبي أن خالد بن سعيد لما عزله أبوبكر كتب إليه أي الأمراء أحب إليك؟ فقال: ابن عمي أحب إلي في قرابته، وهذا أحب إلي في ديني، فإن هذا أخي في ديني على عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وناصري على ابن عمي، فاستحبَّ أن يكون مع شرحبيل بن حسنة».

أقول: شرحبيل صحابي عرف باسم أمه حسنة. واسم أبيه المطاع من قبيلة غوث من كندة، ولد ونشأ في مكة وتحالف مع بني زهرة، وأسلم وهاجر إلى الحبشة وكان فارساً وصديقاً لخالد بن سعيد الفارس البطل يحترمه ويناصره، ولذلك اختار خالد أن يكون معه فأعطاه قيادة الخيل، ولا بد أن تكون خططه كلها من خالد، ولذا قلنا

ص: 334

إن ثقل معركة أجنادين التي تم فيها فتح الأردن وفلسطين كان على خالد، وكان الروم يجمعون فيها قواتهم فنزل شرحبيل مقابلهم، ولما اقتربت المعركة جاءه من المسلمين مدد مساعد، وقد فتح جيش شرحبيل الأردن كلها عنوة أي بالحرب، إلا طبرية فصالحه أهلها، بينما فتحت المدن التي توجهت اليها الفرق الأخرى صلحاً، أي بالمحاصرة أو بالتخويف، بدون حرب كبيرة.

ك- وكان خالد (رحمة الله) بطل معركة أجنادين التي بدأت بها هزيمة هرقل، فقد توجه جيش المسلمين إلى الشام فاجتاحوا مدينة بصرى الشام بسهولة، وصالحهم أهلها على الجزية وأن يكونوا تحت حكمهم. وكان هرقل يومها في حمص فأمر بتجميع الجيش لقتال المسلمين في «أجنادين» وهي في فلسطين قرب مدينة بيت جبرين، وجعل القيادة لابنه وخليفته، فجمعوا لهم تسعين ألف مقاتل.

قال البلاذري: 1/135: «ثم كانت وقعة أجنادين وشهدها من الروم زهاء مئة ألف سرَّب هرقل أكثرهم، وتجمع باقوهم من النواحي، وهرقل يومئذ مقيم بحمص». «واجتمعت الروم بأجنادين، وعليهم تذارق أخو هرقل لأبويه، وقيل كان على الروم القبقلار». الكامل: 2/417.

«ورد علينا عباد بن سعد الحضرمي وكان قد بعثه شرحبيل بن حسنة...من بصرى يُعلم خالداً بمسير الروم اليه من أجنادين في تسعين ألف فارس» «فتوح الواقدي: 1/48». وهذا يدل على أن خالداً كان قائد الجيش الميداني.

وقال ابن عبدالبر في الإستيعاب: 1/64: «وكانت وقعة أجنادين في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة في خلافة أبي بكر الصديق، قبل وفاة أبي بكر بدون شهر... وكان في إجنادين أمراء أربعة أبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، كل على جنده».

«فتوافت جنود المسلمين والروم بأجنادين فالتقوا يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، فظهر المسلمون وهزم الله المشركين، وقتل خليفة هرقل». تاريخ الطبري: 2/611.

ص: 335

وفي رواية ابن عساكر: 16/66: «فحملت لهم خيل على خالد بن سعيد، وكان واقفاً في جماعة من المسلمين في ميمنة الناس يحرض الناس ويدعو الله عزوجل، ثم يقبض عليهم، فحملت طائفة منهم عليهم فنازلهم فقاتلهم قتالاً شديداً».

وورد ذكر أخيه أبان بن سعيد: «ورُمِيَ أبان بن سعيد بن العاص بنشابة فنزعها وعصبها بعمامته فحمله أخواه خالد بن سعيد وعمرو بن سعيد فقال: لاتنزعوا عمامتي عن جرحي فإنكم إذا انتزعتموها عن جرحي تبعتها نفسي، أما والله ما أحب أنها بأقصى حجر من البلاد مكاني، فلما نزعوا العمامة مات (رحمة الله)».

«واستشهد من المسلمين طائفة...وانتهى خبر الوقعة إلى هرقل فنخِب قلبه، و مُلئ رعباً فهرب من حمص إلى إنطاكية». معجم البلدان: 1/103.

ل- ولم يكن شرحبيل يعجب عمر فعزله بدون سبب، بحجة أنه وجد أقوى منه! وتوفي شرحبيل في طاعون عمواس وعمره 67 سنة. تاريخ دمشق: 22/464.

م- تعمد تاريخ السلطة أن يخفي بطولات الأبطال الذين حققوا النصر للمسلمين في هاتين المعركتين لمجرد أنهم من تلاميذ علي (علیه السلام)!وفي طليعتهم خالد بن سعيد بن العاص بطل معركة أجنادين وأخواه عمرو وأبان، ومالكالأشتر بطل معركة اليرموك، وأبوذر، وهاشم بن عتبة المرقال، وغيرهم.

وكذلك دور حذيفة بن اليمان، وحجر بن عدي، وحبيب بن مظاهر، وزهير بن القين، أبطال فتوحات العراق وفارس وأرمينيا. وكذلك دور جعدة بن هبيرة قائد فتوح خراسان، وما وراء النهر!

كما أخفى تاريخ السلطة استغاثة أبي بكر وعمر بعلي (علیه السلام) في الشدائد، ونهوضه فيها، وإدارته أهم معارك الفتوحات!

ن- بعد انتصار المسلمين في أجنادين بقيادة سعيد وبطولته، ثم في معركة اليرموك ببطولة مالكالأشتر (رحمة الله)، انسحب هرقل إلى القسطنطينية وودع سوريا قائلاً: السلام عليك يا سوريا! وسقطت الشام وفلسطين وقبرص بيد المسلمين.

ص: 336

س- كان خالد القائد الحقيقي لجيش شرحبيل، وكان الأشتر الفارس الحاسم في جيش خالد وأبي عبيدة، وكان أبوذر (رحمة الله) مفتي جيش الشام وموجهه.

قال القاضي النعمان في شرح الأخبار: 2/156: «غزا يزيد بن أبي سفيان بالناس وهو أمير على الشام فغنموا وقسموا الغنائم، فوقعت جارية في سهم رجل من المسلمين وكانت جميلة، فذكرت ليزيد فانتزعها من الرجل! وكان أبوذر يومئذ بالشام فأتاه الرجل فشكا إليه واستعان به على يزيد ليرد الجارية إليه، فانطلق إليه معه وسأله ذلك فتلكأ عليه! فقال له أبوذر: أما والله لئن فعلت ذلك، لقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: إن أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية ثم قام! فلحقه يزيد فقال له: أذكرك الله عزوجل أنا ذلك الرجل؟ قال: لا. فرد عليه الجارية». وفي سير الذهبي: 1/329 وتاريخ دمشق: 65/250: «فوقعت جارية نفيسة في سهم رجل فاغتصبها يزيد»!

وصححه الألباني: 4/329، ولم يبين مناسبته! قال: «أول من يغير سنتي رجل من بني أمية! ولعل المراد بالحديث تغيير نظام اختيار الخليفة وجعله وراثة»!

وفي تقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي/266: «كتب معاوية إلى عثمان: إن أباذر قد حرَف قلوب أهل الشام وبغَّضك إليهم فما يستفتون غيره ولا يقضي بينهم إلا هو! فكتب عثمان إلى معاوية: أن احمل أباذر على ناب صعبة».والبحار: 31/274.

ع- قُتل خالد بن سعيد بعد تحقيقه النصر في أجنادين، في ظرف مريب، وزاد من الريبة تناقض روايتهم فقالوا قتل في معركة أجنادين، لكن ثبت أنه تزوج بأم حكيم الخزاعية بعد استشهاد زوجها عكرمة بن أبي جهل في أجنادين، وقد اعتدت بعده أربعة اشهر وعشراً. وقالوا قتل في مرج الصفر، وهي قرية في حوران، وقد تناقضت روايتها في وجود معركة فيها، وفي وقتها!

وقالوا خرج يستمطر في مرج الصفر بعد انتصاره في أجنادين، أي نزع ثيابه ووقف تحت ماء المطر «فيض القدير: 5/280»، فباغته الروم فقتلوه! الطبري: 2/601.

وقالوا كان غيره يستمطر فقتلهم الروم، فهرب هو بفئة من الجيش «تاريخ:

ص: 337

2/104»لكنه لم يعرف عنه الهرب في المعارك!«وقالوا لما قتل الرومي خالد بن سعيد قلب ترسه وأسلم واستأمن! وقال مَن الرجل الذي قتلنا، فإني رأيت له نوراً ساطعاً في السماء». «تاريخ دمشق: 16/83». والسر عند ذلك الرومي الذي أخفوا إسمه!

ومما يوجب زيادة الشك أن السلطة أشاعت بعد قتل خالد بن سعيد، أن عمر كان رضي عنه لحسن بلائه في الفتوحات!

ف- وقد ذكر الباحث الشيخ نجاح الطائي في كتابه اغتيال أبي بكر/64، بأن عمر اغتال أبابكر وخالد بن سعيد، وخالد بن الوليد، وشرحبيل بن حسنة، وأبا عبيدة وبلالاً وأصحابه المعترضين عليه... فدس اليهم السم،إذ مات أبوبكر وطبيبه وواليه على مكة في يوم واحد!

ص- ولعل زواج خالد بن سعيد بأم الحكم الخزاعية أثار عمر، «ففي الطبقات 4/98»: «شهد خالد بن سعيد فتح أجنادين وفحل ومرج الصفر، وكانت أم الحكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل، فقتل عنها بأجنادين، فأعدت أربعة أشهر وعشراً، وكان يزيد بن أبي سفيان يخطبها، وكان خالد بن سعيد يرسل إليها في عدتها يتعرض للخطبة فحطت إلى خالد بن سعيد فتزوجها على أربعمائة دينار، فلما نزل المسلمون مرج الصفر أراد خالد أن يعرس بأم حكيم فجعلت تقول لو أخرت الدخول حتى يفض الله هذه الجموع، فقال خالد: إن نفسي تحدثني أني أصاب في جموعهم. قالت: فدونك. فأعرس بها عند القنطرة التي بالصفر، فبها سميت قنطرة أم حكيم، وأولم عليها في صبح مدخله فدعا أصحابه على طعام، فما فرغوا من الطعام حتى صفَّت الروم صفوفها صفوفاً خلف صفوف، وبرز رجل منهم معلم يدعو إلى البراز، فبرز إليه أبو جندل بن سهيل بن عمرو العامري فنهاه أبو عبيدة، فبرز حبيب بن مسلمة فقتله حبيب ورجع إلى موضعه، وبرز خالد بن سعيد فقاتل فقتل، وشدت أم حكيم بنت الحارث عليها ثيابها وعَدَت وإن عليها لدرعاً والخلوق في وجهها... وقتلت أم حكيم يومئذ سبعة بعمود الفسطاط الذي بات فيه خالد بن سعيد معرساً بها. وكانت وقعة مرج الصفر في المحرم سنة أربع عشرة، في خلافة عمر بن الخطاب». انتهى.

ص: 338

ويظهر أنها كانت من فاضلات النساء، فقد هرب زوجها عكرمة بن أبي جهل عند فتح مكة فأسلمت هي وبايعت النبي (صلی الله علیه و آله)، وأخذت منه أماناً لزوجها ولحقت به إلى اليمن وجاءت به إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فأسلم، وكانت مع زوجها عكرمة في فتوح الشام، وبعد شهادته تزوجت بخالد بن سعيد، وبعد شهادته«فتزوجها عمر بن الخطاب، فولدت له فاطمة بنت عمر». تاريخ دمشق: 70/225. راجع: الكافي: 5/572، الموطأ: 2/545، المستدرك: 3/241، فتح الباري: 8/9، التوابين لابن قدامة/123 والطبقات: 5/50.

9- من أوائل المسلمين عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب

أ- في الخصال/452، عن الإمام الباقر (علیه السلام)، عن جابر قال: «سئل رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن ولد عبدالمطلب فقال: عشرة، والعباس! قال الصدوق: وهم عبدالله، وأبوطالب والزبير، وحمزة، والحارث وهو أسنُّهم، والغيداق، والمقوم، وحجل، وعبدالعزى وهو أبولهب، وضرار، والعباس».

وفي جواهر العقود للأسيوطي: 1/396: «وأجمعوا على تحريم الصدقة المفروضة على بني هاشم، وهم خمس بطون: آل علي، وآل عباس، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل الحارث بن عبدالمطلب. واختلفوا في بني المطلب فحرمها مالك وأحمد في أظهر روايته، وجوزها أبو حنيفة». وذكر الشيخ الطوسي أن ذرية عبدالمطلب انحصرت بأولاد أبي طالب، والحارث، والعباس، وأبي لهب، ولا عقب للباقين. الخلاف: 3/540.

ب- أسلم من أعمام النبي (صلی الله علیه و آله) أبوطالب وحماه ونصره، وكذا حمزة، وأسلم عبيدة بن الحارث ابن عم النبي (صلی الله علیه و آله) في أوائل البعثة، وكان أكبر سناً من النبي (صلی الله علیه و آله) . ولم يسلم العباس إلا بعد أن أخذ أسيراً في بدر، وشذ أبولهب إلى النار. «كان «عبيدة» مربوعاً أسمر حسن الوجه». الطبقات: 3/50.

وكان مسلماً صادقاً، ففي المرحلة الأولى من الدعوة عندما تكالبت قريش على قتل النبي (صلی الله علیه و آله) تعاهد هو وحمزة وعلي وجعفر، على نصرة النبي (صلی الله علیه و آله) وبذل أرواحهم دونه فنزل فيهم قرآن.

ص: 339

قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) في حديثه مع حبر يهودي: «قد علم من حضر ممن ترى ومن غاب من أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) أن الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحر، من ذي العطش الصدي! ولقد كنت عاهدت الله عزوجل ورسوله (صلی الله علیه و آله) أنا وعمي حمزة، وأخي جعفر، وابن عمي عبيدة، على أمر وفينا به لله عزوجل ولرسوله (صلی الله علیه و آله)، فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم، لما أراد الله عزوجل فأنزل الله فينا: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً. حمزة، وجعفر، وعبيدة، وأنا والله والمنتظر يا أخ اليهود، وما بدلت تبديلا». الخصال/376.

وقد طبق الإمام الصادق (علیه السلام) هذه الآية على الشيعة الذين صدقوا ووفوا بولاية أهل البیت (علیهم السلام) فقال لأبي بصير (رحمة الله) «الكافي: 8/34»: «يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً، إنكم وفيتم بما أخذ الله عليه ميثاقكم من ولايتنا، وإنكم لم تبدلوا بنا غيرنا، ولو لم تفعلوا لعيركم الله كما عيرهم حيث يقول جل ذكره: وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ».

ج- هاجر عبيدة مع النبي (صلی الله علیه و آله)، وأمَّره النبي (صلی الله علیه و آله) على سرية بعثها لاعتراض قافلة قريش، وكانت أول سرية حسب قول ابن إسحاق والبخاري، والثانية حسب قول غيرهما، والأولى كانت بقيادة حمزة.

قال ابن عبدالبر في الإستيعاب: 1/313: «وكانت هجرته إلى المدينة مع أخويه الطفيل والحصين بن الحارث بن المطلب، ومعه مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، ونزلوا على عبدالله بن سلمة العجلاني. وكان لعبيدة بن الحارث قَدر ومنزلة عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) . قال ابن إسحاق: أول سرية بعثها رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع عبيدة بن الحارث في ربيع الأول سنة اثنتين في ثمانين راكباً، ويقال في ستين من المهاجرين ليس فيها من الأنصار أحد، وبلغ سيف البحر حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة، فلقي بها جمعاً من قريش، ولم يكن بينهم قتال».

ص: 340

د- وفي معركة بدر: «فلبس عتبة درعه وتقدم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد وقال: يا محمد أخرج الينا أكفاءنا من قريش، فتطاولت الأنصار لمبارزتهم فدفعهم، وأمر علياً (علیه السلام) وحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب وهو ابن سبعين سنة بالبراز، وقال: قاتلوا على حقكم الذي بعث الله به نبيكم، إذ جاؤوا بباطلهم ليطفؤا نورالله، فلما رأوهم قالوا: أكفاء كرام.

فقتل علي الوليد وحمزة عتبة وأصابت فخذ عبيدة ضربة، فحمله علي وحمزة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله ألستُ شهيداً؟ قال: بلى أنت أول شهيد من أهل بيتي، فمات بالصفراء». المناقب: 1/162.

ه- قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) في جوابه على رسالة معاوية: «ثم أمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) بقتال المشركين فكان يقدم أهل بيته إلى حر الأسنة والسيوف، حتى قتل عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب يوم بدر، وقتل حمزة يوم أحد، وقتل جعفر بمؤتة وزيد بن حارثة، وأسلم الناس نبيهم يوم حنين غير العباس عمه، وأبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب ابن عمه، وأراد من لو شئت يا معاوية ذكرت اسمه، مثل الذي أرادوا من الشهادة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله)، إلا أن آجالاً أجلت ومنية أخرت، والله ولي الإحسان إليهم والمنان على أهل بيتي بما أسلفوا من الصالحات. وقد أنزل الله تعالى في كتابه فضلهم يوم حنين فقال: ثمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وإنما عنانا بذلك دون غيرنا، فتذكرُ في الفضل غيرنا وتدعنا! فلم لا تذكر فيه من استشهد في الله ورسوله منا؟ وما ذاك إلا لحسدك إيانا وبغيك علينا، كما أن تلك عادتك فينا! فهل سمعت يا معاوية بأهل بيت نبي في سالف الأمم أصبر على الضراء واللأواء وحين البأس والمواطن الكريهة، من هؤلاء النفر الذين عددتهم من أهل بيتي. وفي المهاجرين والأنصار خير كثير جزاهم الله بأحسن أعمالهم». مناقب الخوارزمي/251.

و- في المناقب للقاضي النعمان/146: «وقد قطع عتبة رجل عبيدة فمات بعد منصرف رسول الله (صلی الله علیه و آله)، بالصفراء، رحمة الله عليه».

ص: 341

وفي الإستيعاب: 3/313: «فمات بالصفراء على ليلة من بدر، ويروى أن رسول الله لما نزل بأصحابه بالتاربين قال له أصحابه: إنا نجد ريح المسك! قال: وما يمنعكم وهاهنا قبر أبي معاوية».

وفي وفاء الوفا: 2/1064: «بذفران مسجد يتبرك به على يسار من سلكه إلى ينبع...أمام محرابه قبر قديم محكم البناء...قبر عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب».

ولا بد أن الوهابية أزالهم الله، أزالوه فيما أزالوا من معالم الإسلام!

10- إسلام عمار ووالديه ياسر وسمية رضيالله عنهم

أ- اتفق رواة السيرة على أن عائلة ياسرمن أول المسلمين، وكانوا حلفاء لبني مخزوم، وقد يكون إسلامهم في السنوات الثلاث الأولى يوم كان رئيس بني مخزوم الوليد بن المغيرة، لكن لا تجد له ذكراً في رواية إسلامهم وتعذيبهم، بل الذي عذبهم وقتل ياسراً وسمية هو أبوجهل الذي صار رئيس بني مخزوم بعد هلاك الوليد، وقد هلك مع بقية المستهزئين في السنة الثالثة. نعم، يحتمل أن يكونوا أسلموا سراً وكتموا إسلامهم، أو لم ينكشف إلى ما بعد هلاك الوليد.

إن ظروف السنوات الثلاث الأولى للبعثة، التي ختمت بقوله تعالى: فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ. يدل على أنها المرحلة الأصعب والأخطر على حياة النبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم، وكل من أسلم، حتى كفاه فراعنة قريش الخمسة فأهلكهم في يوم واحد في يوم نزول آية: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ!

ولم يثبت أن أحداً أظهر إسلامه في تلك المدة من غير بني هاشم، إلا أبوذر الغفاري (رحمة الله) فتعرض للأذى والضرب! وقد يكون أسلم في تلك الفترة المقداد وخباب بن الأرت وبلال وعبدالله بن مسعود وآل ياسر، وكانوا يخفون إسلامهم حتى اكتشفه أبوجهل فعذبهم وقتل سمية.

ولهذا لايصح ما ذكروه عن إسلام أبي بكر كقول ابن هشام: 1/164: «فلما أسلم أبوبكر أظهر إسلامه ودعا إلى الله ورسوله». ثم عدد من دعاهم: عثمان، والزبير، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة، وأنهم أسلموا على يد

ص: 342

أبي بكر وجاء بهم إلى النبي (صلی الله علیه و آله)، وقال: «فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس بالإسلام فصلوا، ثم أسلم أبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة عبدالله بن عبدالأسد.. والأرقم بن أبي الأرقم.. وعثمان بن مظعون بن حبيب.. وعبيدة بن الحارث بن المطلب.. وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.. وامرأته فاطمة بنت الخطاب..أخت عمر بن الخطاب، وأسماء بنت أبي بكر، وعائشة بنت أبي بكر وهي صغيرة، وخباب بن الأرت، حليف بني زهرة».

ومن الواضح أن قولهم: «سبقوا الناس بالإسلام فَصَلَّوْا» وضعوه مقابل أن علياً أول من أسلم، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «صلت الملائكة عليَّ وعلى علي سبع سنين، وذلك أنه لم يصل معي أحد قبله».

رواه الخطيب في المتفق: 3/141، تاريخ دمشق: 42/39 وفيه: «لأنا كنا نصلي ليس معنا أحد يصلي غيرنا، وبلفظ آخر فيه: ولم يصعد أو ترفع شهادة أن لاإله إلا الله من الأرض إلى السماء إلا مني ومن علي بن أبي طالب».

ب- قال ابن أبي جمهور في غوالي اللئالي: 2/104: «في الحديث أن ياسراً وابنه عماراً وأمه سمية قبض عليهم أهل مكة وعذبوهم بأنواع العذاب لأجل إسلامهم، وقالوا: لا ينجيكم منا إلا أن تنالوا محمداً وتبرؤوا من دينه! فأما عمار فإنه أعطاهم بلسانه كل ما أرادوا منه، وأما أبواه فامتنعا فقتلا، ثم أخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: في عمار جماعة إنه كفر! فقال (صلی الله علیه و آله): كلا إن عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه. وجاء عمار وهو يبكي فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): ما خبرك؟ فقال: يا رسول الله ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فصار رسول الله (صلی الله علیه و آله) يمسح عينيه، ويقول: إن عادوا لك، فعد لهم بما قلت. فأنزل الله عزوجل فيه: مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان. فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): يا عمار إن عادوا فعد. فقد أنزل الله عزوجل عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا». راجع: الكافي: 2/219 وقرب الإسناد/12.

«صهروهم في الشمس حتى بلغ الجهد منهم كل مبلغ فأعطوهم ما سألوا..فلما كان

ص: 343

العشي جاء أبوجهل فجعل يشتم سمية ويرفث، ثم طعنها فقتلها»! ابن أبي شيبة: 8/448.

ج- ومن كرامة عمار (رحمة الله) أن قريشاً ألقته في النار فقال النبي (صلی الله علیه و آله): «يا نار كوني برداً وسلاماً على عمار كما كنت برداً وسلاماً على إبراهيم، فلم تصله النار ولم يصله منها مكروه! وقتلت قريش أبويه ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: صبراً آل ياسر، موعدكم الجنة. ما تريدون من عمار! عمار مع الحق والحق مع عمار حيث كان. عمار جلدة بين عيني وأنفي، تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار».رجال الطوسي: 1/127، الخوئي: 13/284، الطبقات: 3/248 والذهبي:3/571.

د- تعمدت السيرة الرسمية أن تجعل أبابكر أول من أسلم، وتشيد به وتطمس أدوار من لم ترض عنهم، وأولهم بنو هاشم، وأبوذر، وعمار، وخالد بن سعيد، وخباب، والمقداد، وغيرهم من كبار الصحابة وأبطال الإسلام، الذين سبقوا أبابكر وعمر وعثمان في الإسلام والدعوة والتضحية والجهاد، وشهد النبي (صلی الله علیه و آله) في حقهم شهادات عظيمة رفعت مكانتهم، ومن هؤلاء عمار بن ياسر (رحمة الله) .

ه- «هاجر إلى أرض الحبشة، ثم إلى المدينة».«شهد بدراً والمشاهد كلها وأبلى بلاء حسناً، ثم شهد اليمامة فأبلى فيها أيضاً، ويومئذ قطعت أذنه». عمدة القاري: 1/197،

شرح النهج: 20/37 وغيرهما.

وفي المسترشد/657: «قال فيه النبي (صلی الله علیه و آله): عمار جلدة بين عيني. وهذا حين ارتجز وهم ينقلون حجارة المسجد بأبيات سمعها من أميرالمؤمنين:

لايستوي من يعمر المساجد *** وبات فيها قائماً وقاعداً

ومن غدا عن الغبار حائدا.

يعرِّض بعمر، فقال له عمر: يا بن السوداء لهممت أن أغمسه في أنفك! فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): ما لكم ولعمار؟عمار جِلدة ما بين عينيَّ، ثم قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية».

و- كان منقطعاً إلى علي (علیه السلام) من زمن النبي (صلی الله علیه و آله) قال النوبختي في فرق الشيعة/17: «أول فرق الشيعة وهم فرقة علي بن أبي طالب المسمون بشيعة علي في زمان النبي

ص: 344

وبعده معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته منهم: المقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، وأبوذر جندب بن جنادة الغفاري، وعمار بن ياسر...».

وكان بذلك ينفذ أمر النبي (صلی الله علیه و آله) ففي مناقب الخوارزمي/193، ومذاهب الطوائف/102: «عن علقمة والأسود قالا: أتينا أباأيوب الأنصاري فقلنا: يا أباأيوب إن الله أكرمك بنبيه (صلی الله علیه و آله) إذ أوحى إلى راحلته فبركت على بابك، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) ضيفاً لك، فضيلة الله فضلك بها، فأخبرنا عن مخرجك مع علي بن أبي طالب؟ قال أبوأيوب: فإني أقسم لكما لقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) في هذا البيت الذي أنتما فيه وما فيه غير رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي جالس عن يمينه، وأنا جالس عن يساره، وأنس بن مالك قائم بين يديه إذ تحرك الباب فقال (صلی الله علیه و آله): أنظر من بالباب؟ فخرج أنس فنظر فقال: هذا عمار بن ياسر فقال (صلی الله علیه و آله): إفتح لعمار الطيب المطيب، ففتح أنس ودخل عمار فسلم على رسول الله فرحب به، ثم قال لعمار: إنه سيكون في أمتي من بعدي هنات حتى يختلف السيف فيما بينهم، وحتى يقتل بعضهم بعضاً، وحتى يبرأ بعضهم من بعض! فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني علي بن أبي طالب! وإن سلك الناس كلهم وادياً وسلك علي وادياً، فاسلك وادي علي وخل الناس طراً! إن علياً لا يردك عن هدى ولا يدلك على ردى. يا عمار طاعة علي طاعتي، وطاعتي طاعة الله».

ز- وانتدب الصحابة عماراً ليسلم عريضتهم إلى عثمان، فضربه عثمان، وكاد يقتله! قال ابن الأعثم في الفتوح: 2/372: «واجتمع نفر من أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) ثم إنهم كتبوا كتاباً، وذكروا فيه كل حدث أحدثه عثمان منذ يوم ولي الخلافة إلى ذلك اليوم ثم إنهم خوفوه في الكتاب وأعلموه أنه إن لم ينزع عما هو عليه خلعوه واستبدلوا به غيره... ثم أقبلوا على عمار بن ياسر وقالوا له: يا أبا اليقظان! هل لك أن تكفينا هذا الأمر وتنطلق بالكتاب إلى عثمان؟ فقال عمار: أفعله، ثم أخذ الكتاب وانطلق إلى عثمان، فإذا عثمان وقد لبس ثيابه وخفيه في رجليه، فلما خرج من باب منزله نظر إلى عمار واقفاً والكتاب في يده فقال له: حاجة يا

ص: 345

أبا اليقظان؟ فقال عمار: مالي حاجة، ولكنا اجتمعنا فكتبنا كتاباً نذكر فيه أموراً من أمورك لا نرضاها لك،قال: ثم دفع إليه الكتاب فأخذه عثمان فنظر فيه حتى قرأ سطراً منه، ثم غضب ورمى به من يده، فقال له عمار: لا ترم بالكتاب وانظر فيه حسناً، فإنه كتاب أصحاب رسول الله وأنا والله ناصح لك! فقال له عثمان: كذبت يا بن سمية! فقال عمار: أنا والله ناصح لك! فقال عثمان: كذبت يا ابن سمية! فقال عمار: أنا والله ابن سمية وابن ياسر. قال: فأمر عثمان غلمانه فضربوه ضرباً شديداً حتى وقع لجنبه، ثم تقدم إليه عثمان فوطئ بطنه ومذاكيره حتى غشي عليه وأصابه الفتق، فسقط لما به لا يعقل من أمر شيئاً! قال: واتصل الخبر ببني مخزوم فأقبل هشام بن الوليد بن المغيرة في نفر من بني مخزوم فاحتملوا عماراً من موضعه ذلك وجعلوا يقولون: والله لئن مات الآن لنقتلن به شيخاً عظيماً من بني أمية، ثم انطلقوا بعمار إلى منزله مغشياً عليه، فلم يصل ظهراً ولا عصراً ولا مغرباً ولا عشاءً حتى ذهب بعض الليل، ثم أفاق بعد ذلك من غشيته فقام فقضى ما فاته من صلواته كلها. قال: فكان هذا من إحداثه الذي نقموا عليه، فبلغ ذلك أباذر وكان مقيماً بالشام فجعل يظهر عيب عثمان هناك ويذكر منه خصالاً قبيحة، فكتب معاوية بن أبي سفيان بذلك إلى عثمان... فكتب إليه عثمان: أما بعد، فقد جاءني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من أمر أبيذر جندب بن جنادة، فإذا ورد عليك كتابي هذا فابعث به إلي واحمله على أغلظ المراكب وأوعرها، وابعث معه دليلاً يسير به الليل مع النهار حتى يغلبه النوم، فينسيه ذكري وذكرك والسلام»!

ح- غيَّبَ رواة السلطة دور عمار في مواجهة السقيفة، ثم في حرب اليمامة والفتوحات! عملاً بسياستهم تجاه علي (علیه السلام) وأصحابه وشيعته! والنصوص القليلة التي وصلتنا تدل على دوره في فتح العراق، وكان والي الكوفة، ونبه عمر إلى خطر الفرس وحثه على مواجهة خطتهم! فقد روى ابن الأعثم في الفتوح: 2/290 ونحوه الطبري: 3/209، رسالة عمار التاريخية إلى عمر الخليفة، ينذره بأن الفرس جمعوا مئة وخمسين ألف جندي: «وأنهم قد تعاهدوا وتعاقدوا وتحالفوا وتكاتبوا وتواصوا وتواثقوا، على أنهم يخرجوننا من أرضنا ويأتونكم من بعدنا... فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب رضيالله عنه

ص: 346

وقرأه وفهم ما فيه، وقعت عليه الرِّعدة والنَّفْضة حتى سمع المسلمون أطيط أضراسه! ثم قام عن موضعه حتى دخل المسجد وجعل ينادي: أين المهاجرون والأنصار! ألا فاجتمعوا رحمكم الله وأعينوني أعانكم الله». ثم وصفوا اجتماعهم وكيف وضع علي (علیه السلام) الخطة،وقال عمر لا أبقاني لمعضلة ليس لها أبو الحسن، وكيف أطلق يده فأدار (علیه السلام) جبهة فتح فارس ومدها بقادة من تلاميذه، وكان لحذيفة وسلمان وعمار أدوار أساسية فيها، وحقق للمسلمين النصر الحاسم،كما أدار قبلها فتح بلاد الشام ومعركتيها المهمتين أجنادين واليرموك، وكان لأبيذر وخالد بن سعيد ومالكالأشتر الأدوار الأساسية فيها.

ط- وتنفس عمار الصعداء لما بايعت الأمة علياً (علیه السلام) فنهض لنصرة إمامه ولازمه في خلافته حتى استشهد بين يديه في صفين!وفي صفين قاتل، وناظر عمرو بن العاص في يوم مشهود وأفحمه وفضح إمامه معاوية!

وكان ينادي في المسلمين: «أيها الناس! والله ما أسلم القوم ولكنهم استسلموا وأسروا الكفر، فلما وجدوا له أعواناً أظهروه»! الجمل للمفيد/19، والمناقب لمحمد بن سليمان: 2/356، ووقعة صفين/216، بسند صحيح عندهم.

وفي شرح الأخبار: 2/15: «دعا عمار يوم صفين بشراب، فأتي بضياح من لبن فشربه ثم قال: اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه. سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول لي: تقتلك الفئة الباغية، ويكون آخر زادك من الدنيا ضياح من لبن، ثم تقدم إلى القتال فقاتل حتى قتل رحمة الله عليه».

وفي الاحتجاج: 1/266، عن الصادق (علیه السلام): «لما قتل عمار بن ياسر ارتعدت فرائص خلق كثير وقالوا: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): عمار تقتله الفئة الباغية، فدخل عمرو على معاوية وقال: يا أميرالمؤمنين قد هاج الناس واضطربوا، قال: لماذا؟ قال: قتل عمار! فقال: قتل عمار فماذا؟ قال: أليس قال رسول الله: تقتله الفئة الباغية؟ فقال معاوية: دحضت في بولك! أنحن قتلناه؟ إنما قتله علي بن أبي طالب لما ألقاه بين رماحنا، فاتصل ذلك بعلي بن أبي طالب (علیه السلام)، قال: فإذاً

ص: 347

رسول الله (صلی الله علیه و آله) هو الذي قتل حمزة لمَّا ألقاه بين رماح المشركين»!

وقال الإمام الهادي (علیه السلام) مخاطباً جده أميرالمؤمنين (علیه السلام) في زيارته يوم الغدير: «مولاي بك ظهر الحق وقد نبذه الخلق، وأوضحت السنن بعد الدروس والطمس ولك سابقة الجهاد على تصديق التنزيل، ولك فضيلة الجهاد على تحقيق التأويل، وعدوك عدو الله جاحد لرسول الله، يدعو باطلاً ويحكم جائراً، ويتأمر غاصباً، ويدعو حزبه إلى النار. وعمار يجاهد وينادي بين الصفين: الرواح الرواح إلى الجنة. ولما استسقى فسقي اللبن كبَّر وقال: قال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله): آخر شرابك من الدنيا ضياح من لبن وتقتلك الفئة الباغية فاعترضه أبو الغادية الفزاري فقتله فعلى أبي الغادية لعنة الله ولعنة ملائكته ورسله أجمعين». المزار لابن المشهدي/277.

ص: 348

الفصل السابع عشر: ولادة الصديقة الزهراء (علیها السلام) وبقية أولاد النبی (صلی الله علیه و آله)

1- لم تتزوج خديجة (علیها السلام) قبل النبي (صلی الله علیه و آله)

أ. من مسائل السيرة: هل كانت خديجة (علیها السلام) متزوجة قبل النبي (صلی الله علیه و آله) أم كانت باكراً كما قال المؤرخ البلاذري وغيره. ومن الذي أشاع أنها كانت متزوجة؟

لا نجد مستفيداً من هذه الإنتقاص من خديجة (علیها السلام) إلا عائشة التي تعترف أنها تغار منها غيرة شديدة، رغم أنها لم ترها!

قالت عائشة كما في البخاري: 4/231: «ما غِرْتُ على أحد من نساء النبي (صلی الله علیه و آله) ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي (صلی الله علیه و آله) يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا إلا خديجة! فيقول: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد».

وفي رواية البخاري: 6/158: «غِرت على خديجة لكثرة ذكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إياها وثنائه عليها،وقد أوحى إلى رسول الله أن يبشرها ببيت لها في الجنة من قصب». وفي فضائل الصحابة للنسائي/75: «يبشرها ببيت في الجنة» بدون قصب.

فهذه الغيرة المفرطة التي تعترف بها عائشة، يمكن أن تدفعها إلى ارتكاب أنواع من الأعمال، ومنها ادعاء أن خديجة كانت متزوجة قبل النبي (صلی الله علیه و آله) وأن بيتها في الجنة من قصب، لأنها لم تُصَلِّ وماتت قبل أن تُشرع الصلاة، أما بيت عائشة فمن لؤلو ومرجان لأنها صَلَّت،

ص: 349

لكن الصلاة شُرعت في الإسراء والمعراج في أول البعثة، فاضطرت عائشة للقول: إن خديجة ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، والمعراج كان قبل الهجرة بسنة، وبذلك غيرت تاريخ وفاة خديجة، وتاريخ المعراج لتصحح مقولتها، ولا ضير عندها في ذلك!

وفي اعتقادي أن عائشة وراء نشر روايات كثيرة تنتقص من خديجة ومارية القبطية رضيالله عنهما، فقد تحدثت عن غيرتها من مارية أيضاً واعترفت أنها آذتها هي وحفصة حتى جزعت! فاضطر النبي (صلی الله علیه و آله) لنقلها إلى بيت بعيد عنهن!

قالت عن مارية كما في الطبقات: 8/313: «كانت جميلة من النساء جعدة، وأعجب بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكان أنزلها أول ما قُدم بها في بيت لحارثة بن النعمان، فكانت جارتنا فكان رسول الله عامة النهار والليل عندها، حتى فرغنا لها فجزعت! فحولها إلى العالية، فكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشد علينا. ثم رزقه الله منها الولد وحرمنا منه»!

لهذا لا يمكن أن نقبل أحاديث عائشة في أي شئ يتعلق بخديجة ومارية (علیهما السلام)، كما يجب أن ننتبه إلى تحريكها أحداث السيرة تقديماً وتأخيراً وتغييراً لتوافق مقولاتها، والى طاعة الرواة لها لأنها بنت الرئيس، ووقوعهم في تناقضات

بسبب ذلك!

فقد رووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يصلي قبل البعثة وبعدها، وكانت خديجة تصلي معه ثم صححوا قول عائشة إنها لم تصلِّ ولذلك كان بيتها في الجنة من قصب!

ورووا أن المعراج كان في السنة الثانية، ثم صححوا قول عائشة أنه كان بعد وفاة خديجة وقبل الهجرة بسنة.

ورووا أن خديجة توفيت قبل الهجرة بسنة، ثم صححوا قول عائشة أنها توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين..وهكذا!

وقد شهد المؤرخ الثقة البلاذري، وكذا ابن شهرآشوب وغيرهما، بأن خديجة لم تتزوج قبل النبي (صلی الله علیه و آله) قال في المناقب: 1/138و140: «روى أحمد البلاذري، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي، وأبوجعفر في التلخيص: أن النبي (صلی الله علیه و آله) تزوج بها

ص: 350

وكانت عذراء، يؤكد ذلك ما ذَكر في كتابي الأنوار والبدع، أن أم كلثوم وزينب كانتا ابنتي هالة أخت خديجة.. وفي الأنوار، والكشف، واللمع، وكتاب البلاذري: أن زينب ورقية كانتا ربيبتيه من جحش».

2- عدد أولاد النبي (صلی الله علیه و آله)

اشارة

اتفق المؤرخون على أن النبي (صلی الله علیه و آله) رزق بإبراهيم من مارية القبطية، وتوفي ابن سنة ونصف بالمدينة، وكان رزق بصبيين من خديجة: القاسم وعبدالله، وتوفيا في سن الرضاع بمكة، ورزق منها بفاطمة الزهراء (علیها السلام) وهي الوحيدة التي عاشت بعده. وقال أكثرهم إنه رزق منها بثلاثة بنات غير فاطمة هن: زينب ورقية وأم كلثوم، وقال بعضهم إنهن ربائبه، وهن أولاد أخت خديجة، توفيت أمهن وربتهن خالتهن خديجة، وهو الرأ ي الراجح عندنا. وقد توفين في المدينة.

واختلف الرواة كثيراً في ولادة أولاده (صلی الله علیه و آله) قبل البعثة أو بعدها.

والمرجح عندنا رواية الكليني الصحيحة «الكافي: 8/338»: «ولم يولد لرسول الله (صلی الله علیه و آله) من خديجة (علیها السلام) على فطرة الإسلام إلا فاطمة (علیها السلام)».

والطيب والطاهر هما: القاسم وعبدالله،كما نص عليه ابن شهراشوب في المناقب: 1/140 قال: «ولد له من خديجة القاسم وعبدالله وهما: الطاهر والطيب».

وفي شرح الأخبار: 3/15: «ومات القاسم الطيب، وعبدالله الطاهر بمكة صغيرين».

وفي الفقيه: 3/397: «فأول ما حملت ولدت عبدالله بن محمد (صلی الله علیه و آله)».

وفي الكافي: 3/218 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) على خديجة حين مات القاسم ابنها وهي تبكي فقال لها: مايبكيك؟فقالت: دَرَّتْ دَرِيرَةٌ فبكيت فقال: يا خديجة، أما ترضين إذا كان يوم القيامة أن تجيئي إلى باب الجنة وهو قائم فيأخذ بيدك فيدخلك الجنة وينزلك أفضلها، وذلك لكل مؤمن، إن الله عزوجل أحكم وأكرم أن يسلب المؤمن ثمرة فؤاده، ثم يعذبه بعدها أبداً».

وجعل اليعقوبي: 2/20 الطيب والطاهر لقبين لعبدالله.

ص: 351

فالمرجح عندنا أن أبناءه (صلی الله علیه و آله) ثلاثة: القاسم، وعبدالله، وإبراهيم:. وأن القاسم توفي بعد البعثة.

زينب وأم كلثوم ورقية: بنات، أم ربائب؟

المعروف المشهور بين المسلمين أنهن بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع فاطمة الزهراء (علیها السلام) . ويقابله الرأي بأنهن ربائب، وأن ابنته الوحيدة فاطمة (علیها السلام) .

وقد ألف الأخ الباحث السيد جعفر مرتضى كتاباً بأنهن ربائب، وثارت عليه ثائرة البعض، فأجاب برسالة ثانية، وقد أطال الطرفان في الإثبات والرد، ورأي السيد مرتضى أقوى، وخلاصة ما قاله: «قد ذكر المقريزي «إمتاع الأسماع 6/295»أن زينب كانت ربيبة لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقال الطريحي: بأن البنات ربائب، ونقل ذلك عن المرتضى في الشافي، والطوسي في التلخيص، وبه قال المقدس الأردبيلي في زبدة البيان، والدلفي، والشيخ محمد حسن آل يس، والشيخ جعفر كاشف الغطاء، بالإضافة إلى الخاقاني، والجزائري، وربما المحقق الكركي، والمقدسي، والكراجكي..و..الخ.».

مؤيدات لرأي السيد جعفر مرتضى

1. قال ابن شهرآشوب في المناقب: 1/140: «ولد له من خديجة القاسم وعبدالله وهما: الطاهر والطيب، وأربع بنات: زينب، ورقية، وأم كلثوم وهي آمنة، وفاطمة وهي أم أبيها. ولم يكن له ولد من غيرها إلا إبراهيم من مارية، ولد بعالية في قبيلة مازن في مشربة أم إبراهيم، ويقال ولد بالمدينة سنة ثمان من الهجرة ومات بها وله سنة وعشرة أشهر وثمانية أيام وقبره بالبقيع. وفي الأنوار، والكشف، واللمع، وكتاب البلاذري: أن زينب ورقية كانتا ربيبتيه من جحش، فأما القاسم والطيب فماتا بمكة صغيرين».

2. يؤيد ذلك أن النبي (صلی الله علیه و آله) شمل بعطفه الجميع، لكنه يتعامل مع فاطمة (علیها السلام) كأنها بنته الوحيدة، وكأنه لا بنت له غيرها.

3. أن النبي (صلی الله علیه و آله) أفاض في مدح فاطمة (علیها السلام) ومكانتها ومقامها، ولم يؤثر عنه أي كلمة

ص: 352

في أي من أخواتها الثلاث، توحي بمقامهن، أو بنسبتهن الصريحة اليه.

4. ورد ذكر فاطمة (علیها السلام) في السيرة مع أبيها النبي (صلی الله علیه و آله) وأمها خديجة (علیها السلام)، ولم يرد لواحدة منهن ذكر في ذلك. مثلاً ورد ذكر فاطمة (علیها السلام) مع أبيها في المسجد دونهن، وذكرها عند وفاة والدتها وأنها كانت تسأل أباها عنها، ولم يرد ذكرهن.

5. لعل أقوى ما يؤيد الرأي القائل بأنهن ربائب، ما رواه الحاكم: 2/200 وصححه على شرط الشيخين: «عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي (صلی الله علیه و آله) أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما قدم المدينة خرجت ابنته زينب من مكة مع كنانة أو ابن كنانة فخرجوا في أثرها، فأدركها هبار بن الأسود، فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها، وألقت ما في بطنها وأهريقت دماً، فاشتجر فيها بنو هاشم وبنو أمية فقالت بنو أمية نحن أحق بها، وكان تحت ابن عمهم أبي العاص فكانت عند هند بنت عتبة بن ربيعة، فكانت تقول لها هند: هذا بسبب أبيك! فقال رسول الله لزيد بن حارثة ألا تنطلق تجيئني بزينب؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: فخذ خاتمي فأعطاه إياه، فانطلق زيد وبرك بعيره، فلم يزل يتلطف حتى لقى راعياً، فقال: لمن ترعى؟ فقال: لأبي العاص، فقال: فلمن هذه الأغنام؟ قال: لزينب بنت محمد، فسار معه شيئاً ثم قال له: هل لك أن أعطيك شيئاً تعطيه إياها ولا تذكره لأحد؟ قال: نعم، فأعطاه الخاتم فانطلق الراعي فأدخل غنمه وأعطاها الخاتم فعرفته، فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل. قالت: فأين تركته؟ قال: بمكان كذا وكذا قال فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه، فلما جاء ته قال لها: إركبي بين يديه على بعيره، قالت: لا، ولكن إركب أنت بين يدي، فركب وركبت وراءه، حتى أتت. فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: هي أفضل بناتي أصيبت فيَّ.

فبلغ ذلك علي بن الحسين فانطلق إلى عروة فقال: ما حديثٌ بلغني عنك تحدثه تنتقص فيه حق فاطمة؟ فقال: والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأني أنتقص فاطمة حقاً هو لها. وأما بعد فلك أن لا أحدث به أبداً. قال عروة: وإنما كان هذا قبل نزول آية: أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ». الأحزاب/5.

ص: 353

أقول: قيل إن اعتذار عروة عن خالته، لأنها روت أن زيد بن حارثة أركب زينب خلفه ولا يناسب بنت النبي (صلی الله علیه و آله) أن تركب خلف رجل غير محرم، فاعتذر عروة بأن زيداً كان أخاها بالتبني، وكانت القصة قبل نزول آية رد التبني.

لكن الصحيح أن عروة اعتذر عن مقولة إنها خير بناتي أصيبت فيَّ، فهذا الذي فيه انتقاص لفاطمة الزهراء (علیها السلام)، وليس ركوب زينب خلفه. فقال عروة إن خالته عائشة قالت إن النبي (صلی الله علیه و آله) قال عن زينب بنتي، وخير بناتي، قبل نزول آية: أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ، التي تأمر بنسبة الشخص إلى أبيه، أما بعد نزولها فلم يُعَبِّر عنها بأنها بنته! ومعناه أنها كانت ربيبته، وكانت متبناة كما تبنى زيداً!

فهذا يوجب التوقف على الأقل عن القول بأنهن بنات لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقد يكون (صلی الله علیه و آله) سكت عن نسبتهن اليه وجرى عليه الناس، لكن الجزم بأنهن ربائب وإن كانت قرائنه قوية لكنه يحتاج إلى مزيد أدلة أقوى، لتنهض مقابل ما يعارضها.

هذا، وسيأتي ذكر حياتهن في السنة الثانية من الهجرة، بعد معركة أحد.

حَصَرَ اللهُ ذرية نبيه (صلی الله علیه و آله) بفاطمة (علیها السلام)

قال النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): «يا علي: ما بعث الله عزوجل نبياً إلا وجعل ذريته من صلبه، وجعل ذريتي من صلبك، ولولاك ما كانت لي ذرية». الفقيه: 4/365.

وقال الفقيه البهوتي في كشاف القناع: 5/31: «أولاد بناته (صلی الله علیه و آله) ينسبون إليه، لحديث إن ابني هذا سيد، مشيراً إلى الحسن. رواه أبو يعلى. وفي حديثٍ: إن الله لم يبعث نبياً قط إلا جعل ذريته من صلبه غيري، فإن الله جعل ذريتي من صلب علي».

وقد بشر الله تعالى نبيه (صلی الله علیه و آله) بذلك، ففي الكافي: 1/464 عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام): «إن جبرئيل (علیه السلام) نزل على محمد (صلی الله علیه و آله) فقال له: يا محمد إن الله يبشرك بمولود يولد من فاطمة، تقتله أمتك من بعدك، فقال: يا جبرئيل وعلى ربي السلام، لا حاجة لي في مولود يولد من فاطمة، تقتله أمتي من بعدي، فعرج ثم هبط فقال له مثل ذلك، فقال: يا جبرئيل وعلى ربي السلام، لا حاجة لي في مولود تقتله أمتي من بعدي، فعرج جبرئيل (علیه السلام) إلى السماء ثم هبط فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويبشرك بأنه

ص: 354

جاعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية، فقال: قد رضيت.

ثم أرسل إلى فاطمة أن الله يبشرني بمولود يولد لك تقتله أمتي من بعدي، فأرسلت إليه: لا حاجة لي في مولود تقتله أمتك من بعدك، فأرسل إليها إن الله قد جعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية، فأرسلت إليه أن قد رضيت، فحَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِى. فلولا أنه قال: أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِى، لكانت ذريته كلهم أئمة».

وروى ابن حجر في الإصابة: 8/103: «أثنى النبي (صلی الله علیه و آله) على خديجة ما لم يثن على غيرها، وذلك في حديث عائشة قالت: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيام، فأخذتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزاً قد أبدلك الله خيراً منها! فغضب ثم قال: لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني منها الله الولد، دون غيرها من النساء».

وروى الصدوق في الخصال/405، عن الإمام الصادق (علیه السلام) أن عائشة انتقصت خديجة فبكت فاطمة (علیهما السلام) . فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم قال: مه يا حميرا، فإن الله تبارك وتعالى بارك في الولود الودود..وأنت ممن أعقم الله رحمه، فلم تلدي شيئاً».

وفي أمالي الصدوق/345، في كلام الله تعالى لعيسى (علیه السلام): «يا عيسى، جِدَّ في أمري ولا تهزل، واسمع وأطع، يا بن الطاهرة الطهر البكر البتول،صدقوا النبي الأمِّيَّ صاحب الجمل والمدرعة..ذو النسل القليل، إنما نسله من مباركة، لها بيت في الجنة، لا صخب فيه ولا نصب».

فهذه أحاديث متظافرة عند السنة والشيعة في أن الله تعالى حصر ذرية رسوله (صلی الله علیه و آله) في فاطمة وعلي (علیهما السلام).

ص: 355

لكن النبي (صلی الله علیه و آله) يؤمن بالبداء ولا يحتم على ربه

قال علي (علیه السلام) «دعائم الإسلام /146»: «اعتلَّ الحسين فاشتد وجعه، فاحتملته فاطمة (علیها السلام) فأتت به النبي (صلی الله علیه و آله) مستغيثة مستجيرة، فقالت: يا رسول الله، أدع الله لابنك أن يشفيه، ووضعته بين يديه، فقام (صلی الله علیه و آله) حتى جلس عند رأسه، ثم قال: يا فاطمة يا بنية، إن الله هو الذي وهبه لك هو قادر على أن يشفيه!

فهبط عليه جبرئيل فقال: يا محمد، إن الله لم ينزل عليك سورة من القرآن إلا فيها فاء، وكل فاء من آفة، ما خلا الحمد لله، فإنه ليس فيها فاء، فادع بقدح من ماء فاقرأ فيه الحمد أربعين مرة ثم صبه عليه، فإن الله يشفيه، ففعل ذلك فكأنما أنشط من عقال»!

وهذا يعني أن النبي (صلی الله علیه و آله) مع يقينه بوعد الله تعالى، لكنه لا يحتم عليه. وهذا معنى الإيمان بالبداء، ويقابله ما حكاه الله عن اليهود: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ.

ومعنى قول جبرئيل (علیه السلام) عن خلو سورة الحمد من الفاء، أن ما يبدو لنا من القرآن عادياً فإن وراءه حساباً إلهياً دقيقاً! وأن الحروف الثمانية والعشرين في القرآن ليست كحروف كتاب بشري، بل هي عوالم من العلوم والحقائق! فوجود الحرف له دلالة، وعدم وجوده، وعدده، وتوزيعه في الآية، وفي السورة، وفي كل القرآن!

فحيثما كانت الفاء في سورة أو موضوع، فهي تدل على وجود آفة، وحيثما وجدت الباء والسين والقاف وغيرها، فوراؤها معانٍ!

ثم ما معنى الآفة وخلو سورة الحمد منها؟ وما معنى قراءة كلام الله الذي ليس فيه آفة على قدح ماء؟ وما تأثير تكرار القراءة؟ وهل يتغير تركيب الماء بذلك؟ فتؤثر فيزياؤه المطورة على بدن المريض وتذهب منه الآفة؟

من المؤكد أنه يوجد ارتباط بين النظام الفيزيائي والروحي للكون، وبين نظام القرآن، وأن للقرآن تأثيرات متنوعة على الروح والمادة، هي من فاعليات الله تعالى في الكون، لأن الكون فعله تعالى، والقرآن كلامه وفعله سبحانه!

ومن المؤكد أن النبي (صلی الله علیه و آله) أعطي من معرفة ذلك أقصى ما يحتمله إنسان، لأنه أفضل

ص: 356

مخلوق، لكنه (صلی الله علیه و آله) يعمل بالأسباب الطبيعية العادية ولايستعمل ذلك إلا بأمر الله تعالى. فالفرق بينه وبين موسى والخضر أن الخضر أعطي العلم اللدني أو علم الباطن فهو يعمل به، وموسى أعطي الشريعة وعلم الظاهر فهو يعمل بها. ونبينا (صلی الله علیه و آله) أعطي العلمين معاً لكنه يعمل بالظاهر إلا عندما يؤمر! وهذه سنة الله تعالى، فهولايطلع على غيبه أحداً إلا من ارتضاه، ولا يرتضيه إلا إذا استوعب قانون العمل بالقوانين الطبيعية والغيبية، ثم يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً!

والقرآن من أكبر تلك الوسائل، وقد كان له ترتيب نزل به جبرئيل (علیه السلام) منجماً في بضع وعشرين سنة، وكان يلبي حاجة أحداث النبوة وصناعة الأمة، ثم صار له ترتيب ككتاب تقرؤه الأجيال، كتاب من مقدمة وفصول وفقرات.

فما المانع أن يكون للقرآن ترتيب ثالث، ورابع، وخامس، أملاه النبي (صلی الله علیه و آله) على وصيه (علیه السلام)، وادخره عنده مع عهده المعهود إلى ولده المهدي (علیه السلام)؟ والذي يظهر الله به دينه على الدين كله، فتخضع لبراهينه العقول والأعناق. أرواحنا فداه.

وهل إذا قلنا إن النبي (صلی الله علیه و آله) رتب القرآن بأكثر من ترتيب، وإن الروايات تدل على أن النسخة المعهودة منه إلى ولده الإمام المهدي يختلف ترتيبها عن النسخة الموجودة بأيدينا.. صرنا من الكافرين بالقرآن الذي بين أيدينا، والقائلين بتحريفه؟!

على أيٍّ، نحن أتباع النص الثابت عن نبينا وعترته:، وليقل الناس ما يقولون!

سورة الكوثر بشارة ربانية بالذرية الطاهرة

في أسباب النزول/307 للواحدي، وسيرة بن هشام: 2/265: «كان العاص بن وائل السهمي إذا ذكر رسول الله قال: دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له،

لو هلك انقطع ذكره واسترحتم منه، فأنزل الله تعالى في ذلك: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. ما هو خير لك من الدنيا وما هو فيها، والكوثر العظيم من الأمر. إِنَّ شَانِئَكَ هُوَالأَبْتَرُ: العاص بن وائل».

وفي أسباب النزول/306: «عن ابن عباس قال: نزلت هذه السورة في العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم.. وكانوا يسمون من ليس له ابن: أبتر،

ص: 357

فسمته قريش عند موت ابنه: أبتر وصنبوراً، فأنزل الله سبحانه: إنَّا أعْطَيْنَاكَ الكَوْثَر».

أقول: هذه الرواية لايصح وقتها ولا بد أن يكون ذلك قبل ثلاث سنين من البعثة لأن العاص بن وائل من المستهزئين الستة الذين قتلهم الله في السنة الثالثة.

كما ما فيها من أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يذهب إلى المسجد بحريته، فلم يكن ذلك في الثلاث سنوات الأولى. فلا بد أن تكون وفاة ابنيه قبل السنة الثالثة من البعثة.

وفي إمتاع الأسماع: 5/333 عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) قال: «توفي القاسم بن النبي (صلی الله علیه و آله) فمر رسول الله وهو آتٍ من جنازته على العاص بن وائل وابنه عمرو بن العاص، فقال عمرو حين رأى رسول الله: إني لأشنؤه، فقال العاص: لا جرم لقد أصبح أبتراً، وأنزل الله تعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَالأَبْتَرُ».

وتفاوت الرواة في وقت قول العاص ذلك، وفي وقت ولادة القاسم وعبدالله، لكن ذلك لايضر بالمضمون.

3- سنة ولادة فاطمة الزهراء (علیها السلام)

اشارة

وُلدت فاطمة الزهراء (علیها السلام) بعد معراج النبي (صلی الله علیه و آله) . «والقول الحق هو ما عليه شيعة أهل البیت تبعاً لأئمتهم:وأهل البیت أدرى بما فيه، وتابعهم عليه جماعة من غيرهم، وهو أنها قد ولدت في السنة الخامسة من البعثة، وتوفيت وعمرها ثمانية عشر عاماً».الصحيح من السيرة: 2/177.

وقد اتفق معنا على ولادتها بعد البعثة عدد من رواة السلطة، بينما قال أكثرهم إنها ولدت قبل البعثة باثنتي عشرة سنة، وقال بعضهم بسبع سنين، وقال بعضهم في سنة البعثة، وقال بعضهم بعد البعثة بسنة.

ومن أقوى الأحاديث الدالة على مذهبنا ما رويناه بسند صحيح، أن النبي (صلی الله علیه و آله) دخل الجنة في المعراج وأكل من ثمارها، فتكونت نطفة فاطمة (علیها السلام) .

قال الصدوق (رحمة الله) في التوحيد/118: «قال النبي (صلی الله علیه و آله): لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلته، فتحول ذلك نطفة في صلبي، فلما

ص: 358

أهبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسية، وكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة». والأمالي/546، العيون: 2/107، العلل: 1/183، الإحتجاج: 2/191، مناقب ابن سليمان: 2/191. ومعاني الأخبار/396.

وروته مصادر غيرنا: «عن ابن عباس، وسعد بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، والإمام الصادق، وعمر بن الخطاب، وعائشة، قالت إنه (صلی الله علیه و آله) قال لها حينما سألته عن تقبيله ابنته فاطمة (علیها السلام): «نعم يا عائشة، لما أسري بي إلى السماء أدخلني جبرئيل الجنة فناولني منها تفاحة فأكلتها فصارت نطفة في صلبي، فلما نزلت واقعت خديجة، ففاطمة من تلك النطفة. ففاطمة حوراء إنسية، وكلما اشتقت إلى الجنة قبلتها». الصحيح من السيرة: 3/10، في مصادره: تاريخ بغداد: 5/87، المواهب اللدنية: 2/29، مقتل الحسين للخوارزمي/63، ذخائر العقبي/36، ميزان الإعتدال: 2/297 و160، مستدرك الحاكم: 3/165، تلخيصه للذهبي، مجمع الزوائد: 9/202، ينابيع المودة/97، نزهة المجالس: 2/179، مناقب المغازلي/358، البحار:18/315 و350، 364ونور الأبصار/44 و45.

وتدل الأحاديث على تعدد تناوله (صلی الله علیه و آله) من ثمار الجنة، وفي بعضها أن جبرئيل (علیه السلام) أتاه بها وأمره أن يجتنب خديجة أربعين يوماً. مأساة الزهراء 2/316.

ولدت (علیها السلام) في العشرين من جمادى الثانية

استفاضت الرواية أنها (علیها السلام) ولدت في العشرين من جمادى الثانية سنة خمس للبعثة. ففي دلائل الامامة/79، عن الصادق (علیه السلام) قال: «ولدت فاطمة (علیها السلام)

في جمادى الآخرة يوم العشرين منه، سنة خمس وأربعين من مولد النبي (صلی الله علیه و آله) فأقامت بمكة ثمان سنين، وبالمدينة عشر سنين وبعد وفاة أبيها خمسة وتسعين يوماً، وقبضت في جمادى الآخرة، يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه سنة إحدى عشرة من الهجرة».

وفي أمالي الصدوق/690، عن المفضل بن عمر: «قلت لأبي عبدالله الصادق (علیه السلام): كيف كانت ولادة فاطمة (علیها السلام) ؟ فقال: نعم، إن خديجة (علیها السلام) لما تزوج بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) هجرتها نسوة مكة فكنَّ لا يدخلن عليها ولا يسلمن عليها، ولا

ص: 359

يتركن امرأة تدخل عليها، فاستوحشت خديجة لذلك، وكان جزعها وغمها حذراً عليه (صلی الله علیه و آله) فلما حملت بفاطمة كانت تحدثها من بطنها وتصبرها، وكانت تكتم ذلك من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فدخل رسول الله يوماً فسمع خديجة تحدث فاطمة (علیها السلام) فقال لها: يا خديجة من تحدثين؟ قالت: الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني. قال: يا خديجة، هذا جبرئيل يخبرني أنها أنثى، وأنها النسلة الطاهرة الميمونة، وأن الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة، ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه. فلم تزل خديجة:على ذلك إلى أن حضرت ولادتها، فوجهت إلى نساء قريش وبني هاشم: أن تعالين لتلين مني ما تلي النساء من النساء، فأرسلن إليها: أنت عصيتنا ولم تقبلي قولنا، وتزوجت محمداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له، فلسنا نجئ ولا نلي من أمرك شيئاً.

فاغتمت خديجة لذلك فبينا هي كذلك، إذ دخل عليها أربع نسوة سُمْرٌ طِوال كأنهن من نساء بني هاشم، ففزعت منهن لما رأتهن، فقالت إحداهن: لا تحزني يا خديجة، فإنا رسل ربك إليك ونحن أخواتك: أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه كلثوم أخت موسى بن عمران، بعثنا الله إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء، فجلست واحدة عن يمينها وأخرى عن يسارها، والثالثة بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت فاطمة (علیها السلام) طاهرة مطهرة، فلما سقطت إلى الأرض أشرق منها النور حتى دخل بيوتات مكة، ولم يبق في شرق الأرض ولاغربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور. ودخل عشر من الحور العين كل واحدة منهن معها طست من الجنة وإبريق من الجنة، وفي الإبريق ماء من الكوثر، فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها، فغسلتها بماء الكوثر، وأخرجت خرقتين بيضاوين أشد بياضاً من اللبن وأطيب ريحاً من المسك والعنبر، فلفتها بواحدة وقنعتها بالثانية، ثم استنطقتها فنطقت فاطمة بالشهادتين، وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن أبي رسول الله سيد الأنبياء، وأن بعلي سيد الأوصياء، وولدي سادة الأسباط، ثم سلمت عليهن، وسمت كل واحدة منهن باسمها، وأقبلن يضحكن إليها، وتباشرت الحور العين، وبشر أهل السماء بعضهم بعضاً

ص: 360

بولادة فاطمة (علیها السلام)، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك، وقالت النسوة: خذيها يا خديجة طاهرة مطهرة زكية ميمونة، بورك فيها وفي نسلها، فتناولتها فرحة مستبشرة، وألقمتها ثديها فدر عليها، فكانت فاطمة (علیها السلام) تنمو في اليوم كما ينمو الصبي في الشهر، وتنمو في الشهر كما ينمو الصبي في السنة».

وفي تاريخ دمشق: 12/128، وفيه: «وكانت خديجة إذا ولدت ولداً دفعته لمن ترضعه، فلما ولدت فاطمة (علیها السلام) لم تُرضعها أحداً غيرها».

وفي علل الشرائع: 1/181: «عن جعفر بن محمد بن عمارة، عن أبيه قال: سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن فاطمة (علیها السلام) لم سميت الزهراء؟ فقال: لأنها كانت إذا قامت في محرابها زهر نورها لأهل السماء، كما تزهر نور الكواكب لأهل الأرض».

وفي روضة الواعظين/148: «قال أبوعبدالله (علیه السلام): لفاطمة (علیها السلام) تسعة أسماء عند الله عزوجل: فاطمة، والصديقة، والمباركة، والطاهرة، والزكية، والراضية، والمرضية، والمحدَّثة، والزهراء».

فاطمة استثنائية لا تقاس بها امرأة

لفاطمة الزهراء (علیها السلام) مقام عظيم في الإسلام بإجماع المسلمين، فقد كان النبي (صلی الله علیه و آله) يحترمها احتراماً مميزاً مقصوداً، ليفهم المسلمين مكانتها!

«كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم يثني بفاطمة، ثم يأتي أزواجه.وفي لفظ: ثم بدأ ببيت فاطمة (علیها السلام)، ثم أتى بيوت نسائه».فتح الباري: 8/89.

وكان يقف لها احتراماً، ويجلسها في مجلسه ويقول: «فاطمة حوراء إنسية، فكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة». أمالي الصدوق/546.

وروت مصادر الفريقين فضائلها ومناقبها (علیها السلام)، وألف العلماء كتباً خاصة فيها.

ومن فضائلها المدهشة مارواه البخاري: 4/71: «بينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ساجد وحوله ناس من قريش المشركين، إذ جاءه عقبة بن أبي معيط بسلى جزور، فقذفه على ظهر النبي فلم يرفع رأسه، حتى جاءت فاطمة (علیها السلام)، فأخذت من ظهره، ودعت على من

ص: 361

صنع ذلك، فقال النبي: اللهم عليك الملأ من قريش، اللهم عليك أباجهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف، أو أبي بن خلف..».

وكفى بذلك فضيلة: لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، لأن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يَدْعُ على قومه حتى دعت عليهم فاطمة (علیها السلام)، فكان دعاؤها عليهم وحياً له (صلی الله علیه و آله) من ربه، وإذناً له بالدعاء عليهم! فقد استعمل الله تعالى إلهامه لفاطمة (علیها السلام) بدل وحيه لجبرئيل (علیه السلام)! واستعمل إبلاغ رسوله (صلی الله علیه و آله) بعمل فاطمة (علیها السلام) بدل إبلاغه بقول جبرئيل (علیه السلام)! فأي مقام هذا لفاطمة صلوات الله عليها وعلى أبيها.

ومن فضائلها المدهشة أيضاً أنها أخبرت النبي (صلی الله علیه و آله) بمؤامرة قريش ليلة هجرته!

«عن ابن عباس قال: إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا باللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى وأساف ونائلة، لو قد رأينا محمداً لقد قمنا إليه قيام رجل واحد، فلم نفارقه حتى نقتله، فأقبلت ابنته فاطمة رضيالله عنها تبكي حتى دخلت على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالت: هذا الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك، لو قد رأوك لقد قاموا إليك فيقتلوك، فما منهم رجل إلا وقد عرف نصيبه من دمك! قال: يا بنية أدِّ لي وضوءً، فتوضأ ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا هذا هو!وخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم في صدورهم، وعُقروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه بصراً، ولم يقم إليه رجل منهم، فأقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى قام على رؤسهم فأخذ قبضة من التراب فقال: شاهت الوجوه، ثم حصبهم بها، فما أصاب رجلاً من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافراً».مجمع الزوائد: 8/228 وصححه.

وقد كان تآمر المشركين لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) في غاية السرية، فمن أين جاءت هذه المعلومة السرية للغاية إلى فاطمة (علیها السلام)، إلا من إلهام الله تعالى؟! ومعناه أن الله تعالى جعلها مكان جبرئيل (علیه السلام) في إيصال الوحي إلى رسوله (صلی الله علیه و آله)!فأي مقام عظيم هذا لبنت في الثامنة من عمرها الشريف، يوحي لها الله بتآمرهم عليه فتخبر به أباها سيد المرسلين،ويوحي لها أن تدعو على فراعنة قريش فيدعو عليهم النبي (صلی الله علیه و آله)! فأي امرأة حول النبي (صلی الله علیه و آله)، أو في العظيمات والقديسات في كل التاريخ، وصلت إلى هذا المقام الرباني العظيم؟!

ص: 362

عائشة تشهد بأن فاطمة (علیها السلام) أصدق الناس لهجة

روى الحاكم وصححه بشرط مسلم: 3 /160 عن عائشة أنها قالت في فاطمة (علیها السلام): «مارأيت أحداً كان أصدق لهجة منها، إلا أن يكون الذي ولدها».

ومع ذلك لم يقبل أبوبكر قول فاطمة (علیها السلام) بأن فدكاً لها أعطاها إياها النبي (صلی الله علیه و آله)! قال ابن أبي الحديد في شرح نهجالبلاغة: 16/284: «سألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم. قلت: فلمَ لم يدفع إليها أبوبكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسم ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدكاً بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الإعتذار والموافقة بشئ. لأنه يكون قد أسجل على نفسه أنها صادقة فيها تدعى كائناً ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود. وهذا كلام صحيح، وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل».

كانت فاطمة (علیها السلام) تسكن مع أبيها في مكة والمدينة

ولدت فاطمة الزهراء في بيت أبيها (صلی الله علیه و آله) وأمها خديجة (علیهما السلام) الواقع بين شعب أبي طالب وسوق أبي سفيان، في سوق الذهب، ويعرف بمولد فاطمة (علیها السلام) . وقد ارتكب الوهابية جريمة، فأزالوه وجعلوا مكانه مرافق، غيضاً وعناداً!

وفي سنة ولادتها (علیها السلام) حاصرت قريش النبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم في شعب أبي طالب وهجَّرت عائلته من بيته، ففتحت الزهراء (علیها السلام) عينيها وهي محاصرة في الشعب، وأبوها (صلی الله علیه و آله) مستهدف بالقتل من قريش، يحرسه بالليل والنهار جدها أبوطالب، وابناه علي وجعفر، وعمها حمزة. ولم ترتو الطفلة المباركة من حنان أمها، فقد توفيت أمها قبل الهجرة بنحو سنة، وكان عمرها سبع سنين، حسب ترجيحنا.

وقد رووا حالتها المؤثرة عند وفاة أمها خديجة (علیهما السلام)، ففي أمالي الطوسي/175: «عن بريد العجلي قال: سمعت أبا عبدالله جعفر بن محمد (علیهما السلام) يقول: لما توفيت

ص: 363

خديجة رضي الله عنها جعلت فاطمة صلوات الله عليها تلوذ برسول الله (صلی الله علیه و آله) وتدور حوله وتقول: يا أبهْ أين أمي؟قال: فنزل جبرئيل (علیه السلام) فقال له: ربك يأمرك أن تقرئ فاطمة السلام وتقول لها: إن أمك في بيت [من قصب] كعابه من ذهب، وعمده ياقوت أحمر، بين آسية ومريم بنت عمران، فقالت فاطمة (علیها السلام): إن الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام».

وجعلنا [من قصب] بين معقوفين لأنا نحتمل أنها تسربت من رواية الطبراني، قال في الأوسط: 1/139: «عن فاطمة أنها قالت للنبي (صلی الله علیه و آله): أين أمنا خديجة؟ قال في بيت [من قصب] لا لغو فيه ولا نصب، بين مريم وآسية امرأة فرعون. قالت مِن هذا القصب؟ قال: لا بل من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت».

ويدل هذ الحديث على أن المتبادر من القصب: القصب المعروف، ولذلك سألته فاطمة حسب الرواية. لكنا نرى أن كلمة من قصب إضافة من عائشة وقد بررتها بأن خديجة لم تُصلِّ، فلم تستحق أكثر من بيت القصب!

وقد حاول ابن حجر «فتح الباري: 7/104» أن يصحح وصف القصب ويجعله مدحاً لبيت خديجة، وأطال في ذلك بدون طائل.

غرفة فاطمة (علیها السلام) وبيتها في المدينة

عندما هاجر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة انتظر وصول علي والفواطم خمسة عشر يوماً في قباء، ثم دخل معهم المدينة، ونزل في بيت أبي أيوب الأنصاري.

واشترى أرضاً كانت مربد تمر، وبنى فيها مسجده وبيته، وجعل له باباً يفتح على المسجد وباباً يفتح من جهة البقيع، يفتح على غرفة استقبال كبيرة ولوازمها، وغرفة لفاطمة (علیها السلام) ولوازمها، ومن الجهة الثانية دار فيه غرفة خادم وتنور، وبقية لوزم المنزل.

وتزوج النبي (صلی الله علیه و آله) عدة زوجات بعد هجرته، لكنه لم يُسكن أياً منهن في بيته، بل كان يبني لكل واحدة منهن غرفةً من جهة البقيع شرقي المسجد، في مكان بعيد نسبياً عن بيته.

وكان يخدمه في بيته أنس بن مالك وغيره، وبنات أبي أيوب وغيرهن يخدمن فاطمة.

ص: 364

وبقيت فاطمة (علیها السلام) في بيته حتى تزوجت بعد نحو سنتين. وكانت تشرف عليها أم سلمة، أو بعض نساء النبي (صلی الله علیه و آله) .

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «وخطب رسول الله (صلی الله علیه و آله) النساء وتزوج سودة أول دخوله المدينة، فنقل فاطمة (علیها السلام) إليها، ثم تزوج أم سلمة بنت أبي أمية، فقالت أم سلمة: تزوجني رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفوض أمر ابنته إليَّ فكنت أدلها وأؤدبها، وكانت والله آدب مني، وأعرف بالأشياء كلها». دلائل الامامة/81.

أما علي (علیه السلام) فكان يسكن مع أمه فاطمة بنت أسد رضيالله عنها، في مكان بعيد نسبياً عن المسجد. وعندما تزوج أخذ لهم النبي (صلی الله علیه و آله) بيتاً أقرب اليه، ثم بدله ببيت قريب يفتح على المسجد، عاشت فيه فاطمة وعلي وأم علي:.

وقال ابن سعد في الطبقات: 8/22: «لما قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) المدينة نزل على أبي أيوب سنة أو نحوها، فلما تزوج علي فاطمة قال لعلي: أطلب منزلاً فطلب علي منزلاً فأصابه مستأخراً عن النبي (صلی الله علیه و آله) قليلاً فبنى بها فيه، فجاء النبي (صلی الله علیه و آله) إليها فقال: إني أريد أن أُحَوِّلَك إليَّ، فقالت لرسول الله: فكلم حارثة بن نعمان أن يتحول عني. فقال رسول الله: قد تحول حارثة عنا حتى استحييت منه، فبلغ ذلك حارثة فتحول وجاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تحول فاطمة إليك، وهذه منازلي وهي أسقب بيوت بني النجار بك، وإنما أنا ومالي لله ولرسوله! والله يا رسول الله المال الذي تأخذ مني أحب إليَّ من الذي تدع! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): صدقت، بارك الله عليك، فحولها رسول الله إلى بيت حارثة».

وبعد زواج فاطمة (علیها السلام) بقيت غرفتها في بيت أبيها (صلی الله علیه و آله)، وهي من جهة الصُّفَّة شمالي المسجد. وقد شرحنا جغرافية بيت النبي وبيوت نسائه وقبره الشريف في سيرة الإمام الحسن (علیه السلام) من جواهر التاريخ، وفي كتيب: مصادرة قبر النبي (صلی الله علیه و آله) .

«وقد أخبرني الثقة الشيخ محمد التبريزي أنه دخل إلى سرداب قبر النبي (صلی الله علیه و آله) فوجد من جهة الصفة رخامة يظهر أنها مكان غرفة فاطمة (علیها السلام)

وأنها القبر الرمزي، وقد كتب عليها الحديث النبوي، وهو: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله):

ص: 365

فاطمة مهجة قلبي، وابناها ثمرة فؤادي، وبعلها نور بصري، والأئمة من ولدها أمناء ربي حبل ممدود من السماء إلى الأرض، من اعتصم بهم نجا، ومن تخلف عنهم هوى». رواه الزمخشري في المناقب ص:213، وابن أبي الفوارس في الأربعين حديثاً، والحمويني في فرائد السمطين، والفتال النيسابوري في روضة الواعظين ص144 وغيرهم.

هذا، وسيأتي تفصيل خبر تزويج فاطمة بعلي (علیهما السلام) في المدينة المنورة.

ص: 366

الفصل الثامن عشر: المرحلة الثانية، الدعوة العامة: فاصدع بما تؤمر

1- عدد سكان مكة وموقع قريش في العرب

كانت بطون قريش نحو عشرين قبيلة، أشهرها: بنو هاشم بن عبدمناف، وبنو أمية بن عبد شمس بن مناف بن قصي، وبنو عبدالدار بن قصي، وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو أسد بن عبدالعزى، وبنو الحارث بن فهر بن مالك، وبنو عامر بن لؤي،

وبنو سهم بن عمرو، وبنو جمح بن عمرو، وبنو أنمار بن بغيض، وبنو تيم بن مرة بن كعب، وبنو عدي...إلخ.

وكان عددهم جميعاً نحو أربعين ألف نسمة، لأن غاية ما استطاعوا تجنيده في حرب الأحزاب مع أحابيشهم أربعة آلاف «عمدة القاري: 17/176» فلو حسبنا من كل عشرة أشخاص مقاتلاً، يكون عددهم أربعين ألفاً. ومهما زدنا فلا يصل عددهم إلى ستين ألفاً. لكن التأثير كان لبضع قبائل والباقون تبعٌ لها، فقد وصف ابن هشام: 2/331 اجتماعهم في دار الندوة لبحث «مشكلة محمد (صلی الله علیه و آله)»! فقال: «اجتمع فيها أشراف قريش: من بني عبد شمس: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبوسفيان بن حرب. ومن بني نوفل بن عبدمناف: طعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل. ومن بني عبدالدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة. ومن

بني أسد بن عبدالعزى: أبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن حزام. ومن بني مخزوم: أبوجهل ابن هشام. ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج.

ص: 367

ومن بني جمح: أمية بن خلف.. ومن كان معهم غيرهم ممن لا يعد من قريش، فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأياً...إلخ.».

وكان هذا الإجتماع بعد السنة الثالثة، لأنه سمى أباجهل زعيماً لمخزوم، وقد صار زعيمها بعد هلاك الوليد بن المغيرة، بعد ثلاث سنين من البعثة.

والقبائل الأهم خمسة التي اعتبروها تمثل الجميع وارتضوا أن تضع الحجر الأسود مكانه، وهم: بنو هاشم، وقد مثلهم النبي (صلی الله علیه و آله) وقال: «يأتي من كل ربع من قريش رجل، فكانوا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، والأسود بن المطلب من بني أسد بن عبدالعزى، وأبو حذيفة بن المغيرة من بني مخزوم، وقيس بن عدي من بني سهم، فرفعوه ووضعه النبي (صلی الله علیه و آله) في موضعه». الكافي: 4/218.

وأهم الجميع: بنو هاشم وبنو أمية، ولذا تراهم واصلوا صناعة أحداث التاريخ وكانت بقية قريش تبعاً لهم. وقد أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) أن مستقبل الأمة هو الصراع بين بني أمية وبني هاشم، كما رأينا أن وضع العالم ومستقبله الصراع بين بني إسماعيل وبني إسحاق!

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إنا وآل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله! قلنا صدق الله وقالوا كذب الله! قاتل أبوسفيان رسول الله وقاتل معاوية علي بن أبي طالب! وقاتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي والسفياني يقاتل القائم».

معاني الأخبار/346.

2- رؤساء قريش عند بعثة النبي (صلی الله علیه و آله)

قال المؤرخ محمد بن حبيب في المنمق/ 331: «كانت الرئاسة أيام عبدمناف لعبدمناف بن قصي، وكان القائم بأمور قريش والمنظور إليه منها، ثم أفضى ذلك بعده إلى هاشم ابنه فولي ذلك بحسن القيام، فلم يكن له نظير من قريش ولا مساو. ثم صارت الرئاسة لعبدالمطلب، وفي كل قريش رؤساء، غير أنهم كانوا يعرفون لعبدالمطلب فضله وتقدمه وشرفه».

ص: 368

وكان أكبر أولاد عبدالمطلب الحارث ثم الزبير، وكان الزبير سيداً في زمن أبيه واشتهر بحلف الفضول لرد الظلم عن الحجاج: «فكان سيداً شريفاً شاعراً، وهو أول من تكلم في حلف الفضول ودعا إليه».أنساب الأشراف/11 والمنمق/171.

«فتحالفوا بالله قائلين: لا ننقض هذا الحلف ما بلَّ بحرٌ صوفة، وأن لا ندع بمكة مظلوماً. قال حكيم: ونظرت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد حضرذلك الحلف يومئذ في دار ابن جدعان، وكان الذي كتبه بينهم الزبير بن عبدالمطلب». المنمق/188.

وكان الزبير كأبيه يحب النبي (صلی الله علیه و آله)، ففي المنمق/349: «قال الزبير بن عبدالمطلب يزفِّن «يُرَقِّص» النبي صلى الله عليه:

محمد بن عبدَمْ *** عشت بعيشٍ أنعمْ

لا زلت في عيشٍ عم *** ودولة ومغنمْ

يغنيك عن كل عمْ *** وعشت حتى تهرم»

وفي المنمق/ 34: «وذكروا أن أكثم بن صيفي «رئيس بني تميم» قال: دخلت البطحاء بطحاء مكة فإذا أنا ببني عبدالمطلب يخترقونها كأنهم أبرجة الفضة، وكأن عمائمهم نوق الرجال ألوية، يلحفون الأرض بالحبرات «ثيابهم طويلة» فقال أكثم: يا بني تميم! إذا أراد الله أن ينشئ دولة أنبت لها مثل هؤلاء! هذا غرس الله لا غرس الرجال! قال هشام: لم يكن في العرب عدة بني عبدالمطلب أشرف منهم ولا أجسم، ليس منهم رجل إلا أشم العرنين يشرب أنفه قبل شفتيه، ويأكل الجذع ويشرب الفرق».

وقيل له: «ممن تعلمت الحكم والرياسة والحلم والسياسة؟فقال: من حليف الحلم والأدب، سيد العجم والعرب، أبي طالب بن عبدالمطلب». ومعنى: يأكل الجذع ويشرب الفرق: جسيمٌ، يأكل خروفاً، ويشرب سطل لبن.الحجة على الذاهب/334.

وكان أكبر زعما قريش بعد أبي طالب: الوليد بن المغيرة رئيس مخزوم، وكان بارزاً من حياة عبدالمطلب، وقد أخذه معه في وفد قريش إلى اليمن لتهنئة الملك سيف بن

ص: 369

ذي يزن، وكان الوفد سبعاً وعشرين شخصية فيهم غير الوليد: عتبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف. كمال الدين/176 والبحار: 15/146.

وتعددت الزعامة بعد وفاة عبدالمطلب، فبرز ابنه أبوطالب (رحمة الله) رئيساً لبني هاشم، وزعيماً محترماً في قريش والعرب، وبرزت معه شخصيات قرشية، منهم حرب بن أمية بن عبد شمس رئيساً لبني عبد شمس، وأبو أحيحة سعيد بن العاص بن أمية رئيساً لهم أيضأً، وعبد يزيد بن هاشم بن المطلب رئيساً لبني المطلب، والمطعم بن عدي بن نوفل رئيساً لبني نوفل بن عبدمناف، وخويلد بن أسد، وعثمان بن الحويرث بن أسد رئيسين لبني أسد بن عبدالعزى، وعكرمة بن هاشم بن عبدمناف رئيساً لبني عبدالدار، ومخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبدمناف رئيساً لبني زهرة، وعبدالله بن جدعان بن عمرو رئيساً لتيم بن مرة، والوليد بن المغيرة رئيساً لبني مخزوم، وعمرو بن نفيل رئيساً لبني عدي، وأمية بن خلف رئيساً لبني سهم وبني جمح، وعمرو بن عبد شمس رئيساً لبني عامر بن لؤي، وضرار بن الخطاب بن مرداس رئيساً لبني محارب بن فهر، وعبدالله أبو أبي عبيدة بن الجراح، رئيساً لبني الحارث بن فهر. المنمق لابن حبيب/331.

وكانت قريش عامة تدين بالوثنية مع بقايا الحنيفية، إلا عبدالمطلب وبنوه فكانوا على حنيفية أبيهم إبراهيم (علیه السلام)،قال أميرالمؤمنين (علیه السلام): «والله ما عبد أبي ولا جدي عبدالمطلب ولا هاشم ولا عبدمناف صنماً قط! قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم (علیه السلام) متمسكين به».كمال الدين/174.

وكان أبوطالب يقول: أنا على ملة عبدالمطلب. صحيح بخاري: 2/98.

وكان في قريش ملحدون يعلنون إلحادهم، سماهم المؤرخ ابن حبيب في المنمق/388: زنادقة قريش، وقال إنهم تعلموا الزندقة من نصارى الحيرة، وهم: الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، وصخر بن حرب، وعقبة بن أبي معيط، وأبي بن خلف، وأبو عزة، والنضر بن الحارث بن كلدة من بني عبدالدار، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان.

ص: 370

3- قريش معدن فراعنة وأكثرهم حق عليهم القول!

سجل القرشيون رقماً قياسياً في العناد فجمعوا العناد اليهودي والبدوي!فلم يقل أحد قبلهم ولا بعدهم: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. الأنفال: 32. أي: لانريد نبوة بني هاشم، حتى لو كانت حقاً، فإن كانت حقاً فليهلكنا الله بعذاب من عنده، فهو خير لنا!!

«قال معاوية لرجل من اليمن: ما كان أجهل قومك حين ملَّكوا عليهم امرأة! فقال: أجهل من قومي قومك الذين قالوا حين دعاهم رسول الله: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ... ولم يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه». تفسير القمي: 1/276 والصراط المستقيم: 3/49.

ولذا حكم الله عليهم بأنهم فراعنة فقال لهم: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً. فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً. المزمل: 15-16.

وقال لهم النبي (صلی الله علیه و آله) لما وقف على قتلى بدر: «جزاكم الله من عصابة شراً، لقد كذبتموني صادقاً، وخونتموني أميناً! ثم التفت إلى أبي جهل بن هشام فقال: إن هذا أعتى على الله من فرعون! إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحَّدَ الله، وهذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزى»! أمالي الطوسي: 1/316 ومجمع الزوائد: 6/91.

«وفرعون وقومه أخذهم الله بالسنين فطلبوا من موسى (علیه السلام) أن يدعو لهم ربه، لكن قريشاً أخذهم الله بالقحط فما دعوا الله، ولا طلبوا من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يدعو لهم، مع أنه أرسل لهم أحمالاً من المواد الغذائية! فأنزل الله فيهم: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ». المؤمنون: 76. مستدرك الحاكم: 2/394.

لكن رواة السلطة كذبوا فكذَّبوا القرآن، قالوا: «أتى أبوسفيان يشفع عنده (صلی الله علیه و آله) في أن يدعو الله لهم، فدعا لهم فرفع ذلك عنهم». النهاية: 6/101.

كما أن أكثر قريش أبلسوا وحق عليهم القول، فلن يؤمنوا أبداً، قال تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لايُؤْمِنُونَ. إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ

ص: 371

سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لايُبْصِرُونَ. وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. يس 6-11.

لكن رواة السلطة كذَّبوا القرآن وقالوا لم يحقَّ القول على أكثرهم، بل أسلموا وحسن إسلامهم، وصار منهم خلفاء وأئمة، ما شاء الله!

وقد وصف أميرالمؤمنين (علیه السلام) موقف «الملأ من قريش» من نبوة النبي (صلی الله علیه و آله) والمعجزة التي طلبوها منه ورأوها بأم أعينهم! فقال (علیه السلام):

«ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلی الله علیه و آله) فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي، ولكنك وزير وإنك لعلى خير. ولقد كنت معه (صلی الله علیه و آله) لما أتاه الملأ من قريش فقالوا له: يا محمد إنك قد ادعيت عظيماً لم يدعه آباؤك ولا أحد من بيتك، ونحن نسألك أمراً إن أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنك نبي ورسول، وإن لم تفعل علمنا أنك ساحر كذاب. فقال (صلی الله علیه و آله): وما تسألون؟ قالوا تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك. فقال (صلی الله علیه و آله): إن الله على كل شئ قدير، فإن فعل الله لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحق؟ قالوا نعم. قال: فإني سأريكم ما تطلبون، وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير، وإن فيكم من يطرح في القليب، ومن يحزب الأحزاب. ثم قال: يا أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر وتعلمين أني رسول الله فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يديَّ بإذن الله. فوالذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوي شديد وقصف كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) مرفرفة، وألقت بغصنها الأعلى على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وببعض أغصانها على منكبي، وكنت عن يمينه (صلی الله علیه و آله) . فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا علواً واستكباراً: فمرها فليأتك نصفها ويبقي نصفها! فأمرها بذلك فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشده دوياً، فكادت تلتف برسول الله (صلی الله علیه و آله)! فقالوا كفراً وعتواً: فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره فرجع! فقلت أنا: لا إله إلا الله، فإني أول مؤمن بك يا رسول الله، وأول من أقر بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى تصديقاً بنبوتك وإجلالاً لكلمتك. فقال القوم كلهم: بل ساحر كذاب، عجيب السحر

ص: 372

خفيف فيه، وهل يصدقك في أمرك إلا مثل هذا! يعنوني»! نهجالبلاغة: 2/157.

أقول: صدق فيهم قول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فإني سأريكم ما تطلبون، وإني لأعلم أنكم لاتفيئون إلى خير»! وهذا إخبار عن عاقبة أمرهم، فلم يفيؤوا إلى خير ومنهم من قتل في بدر ورُمي في البئر ثم حزَّبوا الأحزاب، وبعد فتح مكة اضطرهم إلى خلع سلاحهم، لكنهم واصلوا تآمرهم عليه (صلی الله علیه و آله) حتى أخذوا دولته واضطهدوا عترته!

أقول: وما تقدم من سوء عاقبة أكثرهم لا ينافي أن النبي (صلی الله علیه و آله) أخبرهم بأنهم سيخضعون جميعاً ويقبلون دعوته ونبوته، كما في الهداية الكبرى/66، عن

أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: «لما ظهر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ودعا قريشاً إلى الله تعالى فنفرت قريش من ذلك وقالوا: يا ابن أبي كبشة لقد ادعيت أمراً عظيماً! أتزعم أنك نبي وأن الملائكة تنزل عليك! فقد كذبت على الله وملائكته، ودخلت فيما دخل فيه السحرة والكهنة! فقال لهم النبي (صلی الله علیه و آله): لمَ تجزعون يا معاشر قريش أن أدعوكم إلى الله والى عبادته؟ والله ما دعوتكم حتى أمرني بذلك، وما أدعوكم أن تعبدوا حجراً من دون الله ولا وثناً ولا صنماً ولا ناراً، وإنما دعوتكم أن تعبدوا من خلق هذه الأشياء كلها وخلق الخلق جميعاً، وهو ينفعكم ويضركم ويميتكم ويحييكم ويرزقكم.

ثم قال: والله لتستجيبُنَّ إلى هذا الذي أدعوكم إليه شئتم أم أبيتم، طائعين أو كارهين، صغيركم وكبيركم! فبهذا أخبرني جبريل عن رب العالمين، وإنكم لتعلمون ما أنا بكاذب، وما بي من جنون، ولا سحر ولاكهانة، فقد أخبرتكم بما أخبرني به ربي، فاسمعوا وأطيعوا. فكان هذا من دلائله (صلی الله علیه و آله)».

4- فراعنة قريش أكثر من خمسة والمُؤْذُون للنبي (صلی الله علیه و آله) بالعشرات

استشاط زعماء قريش غضباً بمجرد أن سمعوا خبر بعثة النبي (صلی الله علیه و آله)، وذهبوا إلى أبي طالب وطلبوا منه أن يسلمهم النبي (صلی الله علیه و آله) ليقتلوه، فردهم وجمع بني هاشم لحمايته فأجابوه، وأخذ المشركون يترصدون الفرصة لأذى النبي (صلی الله علیه و آله) وقتله. وكان بنو أمية وبنو مخزوم أسوأ من يؤذيه، ومنهم:

ص: 373

من بني عبد شمس: حنظلة بن أبي سفيان، وعبيدة بن سعيد بن العاص، والعاص بن سعيد بن العاص، وعقبة بن أبي معيط، وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وأخوه شيبة، وابنه الوليد بن عتبة بن ربيعة.

ومن بني مخزوم: «الوليد بن المغيرة، وأبوجهل بن هشام وإسمه عمرو بن هشام بن المغيرة، وأخوه العاص بن هشام، ومسعود بن أبي أمية بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، ورفاعة بن أبي رفاعة وأخواه المنذر وعبدالله، والسائب بن أبي السائب بن عابد، وأخوه حاجب، والأسود بن عبدالأسد بن هلال، وعويمر بن السائب بن عويمر.

ومن بني سهم: منبه بن الحجاج بن عامر، وابنه العاص بن منبه، وأخوه نبيه بن الحجاج، وأبو العاص بن قيس، وعاصم بن أبي عوف.

ومن بني جمح: أمية بن خلف بن وهب، وابنه علي، وأوس بن معير بن لوذان.

ومن بني أسد بن عبدالعزى: زمعة بن الأسود، وابنه الحارث، وأخوه عقيل بن الأسود، وأبو البختري وهو العاص بن هشام بن الحارث، ونوفل بن خويلد بن أسد، وهو ابن العدوية وكان من شياطين قريش.

ومن بني عبدالدار: النضر بن الحارث بن كلدة، وزيد بن مليص. ومن بني تيم بن مرة: عمير بن عثمان، وعثمان بن مالك.

ومن بني عامر بن لؤي: معاوية بن عامر، ومعبد بن وهب، حليفان لهم.

ومن بني نوفل بن عبدمناف: الحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي».ابن هشام 2/525.

راجع أسماء المؤذين للنبي (صلی الله علیه و آله) في إمتاع الأسماع للمقريزي: 14/323 وكامل ابن الأثير: 2/70. وأسماء الملعونين على لسان النبي (صلی الله علیه و آله) في كتابنا: ألف سؤال وإشكال: 2/239.

ولا يعني إهلاك الله تعالى للمستهزئين الخمسة أن غيرهم أقل عداء للنبي (صلی الله علیه و آله) والإسلام، بل يعني أنهم كانوا مانعاً من الدعوة أكثر من غيرهم، وقد يكون غيرهم أخطر منهم على المدى الطويل كأبي سفيان، الذي هو العدو الأول للإسلام، فقد قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إنا وآلُ أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله قلنا صدق الله وقالوا كذب الله..». معاني الأخبار/346.

ص: 374

5- المستهزئون الخمسة عقبة أزاحها الله من طريق الدعوة!

يعتبر النص القرآني في المستهزئين ركناً في تدوين السيرة، لأنه قطعي الدلالة مجمع عليه عند المؤرخين، وأن الله تعالى أهلكهم ففتح باب الدعوة لرسوله (صلی الله علیه و آله) وأمره أن يصدع بأمر ربه. والصدع: الإعلان بحزم، فقال تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ.

وتفاوتت الرواية في عددهم من خمسة إلى سبعة عشر، لكنا اعتمدنا الخمسة لأنه المشهور والمروي عن أهل البیت (علیهم السلام) .وكان إهلاكهم بمعجزة ربانية، لتبدأ مرحلة جديدة في عمل النبي (صلی الله علیه و آله): مرحلة إعلان الدعوة العامة إلى الإسلام، بعد أن كانت دعوة خاصة لبني هاشم. وكان كل واحد من المستهزئين يقول قبل هلاكه: «قتلني رب محمد»! فانتشر الخوف في قريش من رب محمد (صلی الله علیه و آله)!

وكان إهلاكهم يوم تشديد إنذارهم للنبي (صلی الله علیه و آله) بالقتل إن لم يتراجع عن نبوته!

وعندما أخبره جبرئيل بهلاكهم: «فخرج رسول الله فقام على الحِجْر فقال: يا معشر قريش، يا معشر العرب، أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وآمركم بخلع الأنداد والأصنام، فأجيبوني تملكوا بها العرب وتدين لكم العجم، وتكونوا ملوكاً في الجنة. فاستهزؤوا وقالوا: جُنَّ محمد بن عبدالله، ولم يجسروا عليه لموضع أبي طالب». تفسير القمي: 1/377.

وفي الخصال/279، عن الإمام الحسين (علیه السلام): «أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال ليهودي من أحبار الشام في جواب مسائله: فأما المستهزؤون فقال الله عزوجل له: إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ، فقتل الله خمستهم، قد قتل كل واحد منهم بغير قتلة صاحبه في يوم واحد: أما الوليد بن المغيرة فإنه مرَّ بنبل لرجل من بني خزاعة قد راشه في الطريق فأصابته شظية منه، فانقطع أكحله حتى أدماه، فمات وهو يقول: قتلني رب محمد! وأما العاص بن وائل السهمي، فإنه خرج في حاجة له إلى كداء فتدهده تحته حجر فسقط فتقطع قطعة قطعة، فمات وهو يقول:

قتلني رب محمد!

ص: 375

وأما الأسود بن عبد يغوث، فإنه خرج يستقبل ابنه زمعة ومعه غلام له فاستظل بشجرة تحت كداء فأتاه جبرئيل (علیه السلام) فأخذ رأسه فنطح به الشجرة، فقال لغلامه: إمنع هذا عني! فقال: ما أرى أحداً يصنع بك شيئاً إلا نفسك! فقتله وهو يقول: قتلني رب محمد!..

وأما الحارث بن الطلاطلة فإنه خرج من بيته في السموم فتحول حبشياً، فرجع إلى أهله فقال: أنا الحارث فغضبوا عليه فقتلوه، وهو يقول: قتلني رب محمد!

وأما الأسود بن المطلب فإنه أكل حوتاً مالحاً فأصابه غلبة العطش، فلم يزل يشرب الماء حتى انشق بطنه فمات، وهو يقول: قتلني رب محمد!

كل ذلك في ساعة واحدة، وذلك أنهم كانوا بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا له: يا محمد ننتظر بك إلى الظهر فإن رجعت عن قولك وإلا قتلناك، فدخل النبي (صلی الله علیه و آله) منزله فأغلق عليه بابه مغتماً بقولهم، فأتاه جبرئيل (علیه السلام) ساعته فقال له: يامحمد السلام يقرئك السلام وهو يقول: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ، يعني أظهر أمرك لأهل مكة وادع، وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ. قال: يا جبرئيل كيف أصنع بالمستهزئين وما أوعدوني؟ قال له: إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ. قال: ياجبرئيل كانوا عندي الساعة بين يدي؟ فقال: قد كفيتهم! فأظهر أمره عند ذلك»!

وهذه الرواية أوثق عندي من رواية ابن إسحاق قال: 5/254: «كان المستهزؤون برسول الله (صلی الله علیه و آله) خمسة: الأسود بن عبد يغوث بن وهب، والأسود بن المطلب بن أسد، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل،والحارث بن الطلاطلة أحد خزاعة، فكانوا يهزؤون برسول الله (صلی الله علیه و آله) ويغمزونه، فأتاه جبريل فوقف به عند الكعبة وهم يطوفون به فمر به الأسود بن عبد يغوث فأشار جبريل إلى بطنه فمات حبناً، ومر به الأسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي، ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى جرح في كعب رجله قد كان أصابه قبل ذلك بيسير فانتقض به فقتله، ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فركب إلى الطائف على حمار فربض به على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته، ومر به الحارث

ص: 376

بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتحض قيحاً حتى قتله، ففيهم أنزل الله عزوجل: إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ». وابن هشام: 2/277. وفي فتح الباري: 8/290: «الأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والعاصي بن وائل، والحرث بن قيس، والوليد بن المغيرة».

6- رئيس المستهزئين الوليد بن المغيرة

أ. من صفات المستهزئين الخمسة: الإلحاد، والمادية، والتكبر، والتعقيد النفسي! بحيث أن الله تعالى الذي وسع حلمه كل شئ، قال عنهم وعن رئيسهم الوليد:

وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ. أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ. إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَلِينَ. سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُوم.

وقال عزوجل: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا. وَبَنِينَ شُهُودًا. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا. سَأُرْهِقْهُ صَعُودًا. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ.ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ.

فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاسِحْرٌ يُؤْثَرُ .

وكانت مهنة الوليد صناعة الدروع «البحار: 31/101» وكان زنديقاً ملحداً لا يؤمن بشئ، وكذا العاص بن وائل، وعدد من كبار قريش. المنتمق/288 وعمدة القاري: 11/209.

وكان الوليد رئيس بني مخزوم، وهو الذي قاد زعماء قريش في مواجهة النبي (صلی الله علیه و آله) .

وفي تفسير القمي: 2/430: أنه نزل فيه قوله تعالى: كَلا إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى. إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى. أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى. عَبْدًا إِذَا صَلَّى.

وفي تفسير القمي: 2/393: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً.. فإنها نزلت في الوليد بن المغيرة وكان شيخاً كبيراً مجرباً من دهاة العرب، وكان من المستهزئين برسول الله (صلی الله علیه و آله) . وإنما سمي وحيداً لأنه قال لقريش: أنا أتوحد بكسوة البيت سنة وعليكم في جماعتكم سنة، وكان له مال كثير وحدائق، وكان له عشر بنين بمكة، وكان له عشرة عبيد عند كل عبد ألف دينار يتجر بها، وتلك القنطار في ذلك الزمان».

ص: 377

ب. وقد وصف الله تعالى الوليد بقوله: عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ، لأنه كان دعياً وليس لأبيه!

وفي الكشاف: 4/142: «العتل: الجافي. والزنيم: الدعي. وكان الوليد دعياً في قريش ليس من سنخهم، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده».

وفي المنمق/104، أنه تنافر مع أسيد بن أبي العيص الأموي فقال له أسيد: «أنت رجل من كنانة من بني شجع! دخيل في قريش نزيع في بني مخزوم»!

وسيأتي طعن أبي طالب (رحمة الله) بنسبه. كما أن بني أمية مطعون في نسبهم، فقد قال أبوطالب (رحمة الله) إن أمية كان عبداً لعبدالمطلب. شرح النهج: 15/233.

كما طعن النبي (صلی الله علیه و آله) في نسب عقبة بن أبي معيط فقال له: «ما أنت وقريش، وهل أنت إلا يهودي من صفورية»! الإحتجاج: 1/412، الإصابة: 5/398 والطبري: 5/157.

ج. قال الوليد بن المغيرة للنبي (صلی الله علیه و آله): «والله لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك! لأنني أكبر منك سناً، وأكثر منك مالاً». المناقب: 1/47 وعدد من التفاسير.

وفي تفسير الثعلبي: 4/187: ونزلت فيه: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ. اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ. وقال الوليد: «أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها! ويترك أبو مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين»! «الإحتجاج 1/26 وابن هشام 1/242». فأنزل الله: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ. الزخرف: 31-32.

د. وفي السنة الأولى لبعثة النبي (صلی الله علیه و آله) دعا الوليد زعماء قريش إلى وليمة ليتفقوا على موقف واحد من النبي (صلی الله علیه و آله)! ففي الطبراني الكبير: 11/102: «صنع لقريش طعاماً فلما أكلوا قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: ليس بساحر. وقال بعضهم: كاهن، وقال بعضهم: ليس بكاهن.وقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: ليس بشاعر. وقال بعضهم: سحر يؤثر! فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر».

وتقدم ذلك في فصل دعوة العشيرة الأقربين.

ص: 378

ه. اقترح زعيم قريش الوليد على النبي (صلی الله علیه و آله) أن يعبدوا ربه سنة، ويعبد آلهتهم سنة!

«اعترضوا لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، منهم عتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، والعاص بن سعيد، فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ونشترك نحن وأنت في الأمر، فإن يكن الذي نحن عليه الحق فقد أخذت بحظك منه، وإن يكن الذي أنت عليه الحق فقد أخذنا بحظنا منه، فأنزل الله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ.لاأَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِي دِينِ». أمالي المفيد/246، أمالي الطوسي/19 وسيرة ابن هشام الحميري: 1/243. وفي ذلك إخبار بأن هؤلاء لن يؤمنوا أبداً.

و. قال الوليد ومعه الملأ من قريش للنبي (صلی الله علیه و آله): «إن كنت صادقاً فشُقَّ لنا القمر فرقتين قال: إن فعلت تؤمنون؟ قالوا: نعم، فأشار إليه بإصبعه فانشق شقتين رؤي حراء بين فَلْقيه فقالوا: هذا سحر مستمر من سحر محمد! فأنزل الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ». المناقب: 1/106، مجمع البيان: 9/310، الفصول المختارة/20، مقدمة فتح الباري/300، المناقب لمحمد بن سليمان: 1/42، الصحيح من السيرة: 3202 وجعلها في السنة الثامنة.

أقول: أفاضت التفاسير ومصادر السيرة في وصف معجزة شق القمر، وفي الخرائج: 1/31 أنها كانت في أول البعثة، وروي أنها مرتان. عيون الأثر: 1/149.

وذكرت رواية ابن عباس في الحلية وفتح الباري: 7/139 إسم الوليد بن المغيرة في الذين طلبوا هذه المعجزة، وهو دليل على أنها كانت قبل هلاكه في السنة الثالثة، ولا يضر وجود إسم أبي جهل لأنه كان إلى جانب الوليد، ولعل الطلب تكرر.

هذا، وقد ذكر الفلكيون أن في القمر شقاً الآن، فقد يكون انشق حقيقة، ثم عاد واحداً.

ص: 379

ز. هاجر الأوس بسبب صراعهم مع الخزرج إلى مكة وحالفتهم قريش، فأبطل الوليد بمكيدته حِلْفَهم، ففي المنمق/268: «خرجت الأوس جالية من الخزرج حتى نزلت على قريش بمكة فحالفتها، فلما حالفتها قال الوليد بن المغيرة: والله! ما نزل قوم قط على قوم إلا أخذوا شرفهم وورثوا ديارهم، فاقطعوا حلف الأوس، فقالوا: بأي شئ؟ قالوا: إن في القوم حشمة، فقولوا: إنا قد نسينا شيئاً لم نذكره لكم: إنا قوم إذا طاف النساء بالبيت فرأى الرجل امرأة تعجبه قبلها ولمسها بيده، فلما قالوا ذلك للأوس نفروا وقالوا: إقطعوا الحلف بيننا وبينكم فقطعوه، ثم انقطع هذا الحلف».

ح. كانت وصية الوليد لأولاده من أغرب الوصايا، ففي المنمق/191: «فلما حضرت الوليد الوفاة..فدعا ولده هشاماً وخالداً والوليد والفاكه وأبا قيس وقيساً وعبد شمس وعمارة، فقال لهم: يا بَنِيَّ إني أوصيكم بثلاث فلا تضيعوهن: دمي في خزاعة فلا تطلُّنَّه، والله إني لأعلم أنهم منه براء ولكن أخشى أن تُسَبُّوا به بعد اليوم! ورباي في ثقيف فلا تدَعوه حتى تأخذوه، وعُقري عند أبي أزيهر الدوسي فلا يفوتنكم به، وكان أبو أزيهر قد زوجه ابنة له ثم أمسكها عنه فلم يدخلها عليه حتى مات... فقال له بنوه: والله ما نعلم أحداً من العرب أوصى بنيه بشرِّ مما أوصيت به... فلما هلك الوليد بن المغيرة وثبت بنو مخزوم على خزاعة يلتمسون عقله... وغلظ الأمر بينهم، وكان الذي أصاب الوليد سهمه رجلاً من كعب بن عمرو من خزاعة...ثم إن الناس ترادوا وعرفوا أنما يخشى القوم السُّبَّة، فأعطتهم خزاعة بعض العقل، وانصرفوا عن بعض».

وسبب طلبه ديته من خزاعة أنه: «مرَّ بنبل لرجل من بني خزاعة قد راشه في الطريق فأصابته شظية منه فانقطع أكحله حتى أدماه، فمات وهو يقول: قتلني رب محمد»! الخصال/279.

فقد اعترف بأن رب محمد قتله، وأوصى بأخذ الدية من صاحب السهام!

ونفذ ابنه خالد وصيته، فأخذوا الدية من خزاعة، وقتلوا أبا أزيهر غيلة، عندما كان ضيفاً عند حليفهم أبي سفيان! المنمق/199و203 وابن هشام: 2/278.

ص: 380

ط. أسلم الوليد بن المغيرة في مكة، ثم ارتد مع ابن أخيه الفاكه، عمدة القاري: 18/187. ثم كان مع المشركين في بدر فقتله علي (علیه السلام) .شرح الأخبار: 1/265 وابن هشام: 2/528.

وعمارة بن الوليد، هو الذي جاؤوا به إلى أبي طالب ليعطيهم النبي (صلی الله علیه و آله) فيقتلوه ويأخذه بدله! ثم أرسلوه مع عمرو بن العاص إلى النجاشي فاختلفا وهلك هناك.

والوليد بن الوليد بن المغيرة، زعموا أنه أسلم سراً، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يدعو له في قنوته بعد صلح الحديبية: «فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين. اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سني يوسف». رواه بخاري: 1/194، سبع مرات!.

وتوفي الوليد بن الوليد في المدينة في حياة النبي (صلی الله علیه و آله)، ففي الكافي: 5/117 عن الإمام الصادق (علیه السلام) «فقالت أم سلمة «المخزومية» للنبي (صلی الله علیه و آله): إن آل المغيرة قد أقاموا مناحة فأذهب إليهم؟ فأذن له، فلبست ثيابها وتهيأت وكانت من حسنها كأنها جان، وكانت إذا قامت فأرخت شعرها جلل جسدها وعقدت بطرفيه خلخالها، فندبت ابن عمها بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالت:

أنعى الوليد بن الوليد *** أبا الوليد فتى العشيرة

حامي الحقيقة ماجدي *** سمو إلى طلب الوتيرة

قد كان غيثاً في السنين *** وجعفراً غدقاً وميرة

قال: فما عاب ذلك عليها النبي (صلی الله علیه و آله) ولا قال شيئاً».

وهشام بن الوليد بن المغيرة، كان من شخصيات قريش المؤلفة قلوبهم. «الإستيعاب 4/1541». وهو الذي قتل أبا أزيهر الدوسي. وهو الذي هدد عثمان عندما ضرب عماربن ياسر (رحمة الله) حليف بني مخزوم، فقال له: «أما والله لئن مات عمار من ضربه هذا، لأقتلن به رجلاً عظيماً من بني أمية». الإمامة والسياسة: 1/51.

وخالد بن الوليد، كان مع أبيه في عدائه للنبي (صلی الله علیه و آله)، وأحد الذين انتدبتهم قريش لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) ليلة الهجرة عندما بات علي (علیه السلام) في فراشه: «فلما بصر بهم

ص: 381

علي قد انتضوا السيوف وأقبلوا عليه بها، يقدمهم خالد بن الوليد بن المغيرة، وثب به عليٌّ فختله وهمز يده فجعل خالد يقمص قماص البكر. أمالي الطوسي/467.

ومعنى يقمص قِمَاصَ البكر: يصيح كالجمل الصغير. وشارك مع إخوته في بدر فنجا، وقُتل أخوه أبو قيس، وأُسر أخوه الوليد بن الوليد.شرح النهج: 14/203.

وكان خالد أحد قادة المشركين في أُحُد، وسبباً في هزيمة المسلمين بعد انتصارهم عندما اغتنم مع عكرمة وضرار فرصةً وهاجمهموهم من خلفهم.

وأسلم خالد بعد صلح الحديبية هو وعمرو بن العاص لما رأيا أن ميزان القوة تحول إلى جانب النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: إني أرى أمر محمد يعلو الأمور علواً منكراً! «ابن هشام: 3/748»فجاء إلى المدينة هو وعمرو بن العاص وأسلما. وبعد فتح مكة شارك مع قريش إلى جانب النبي (صلی الله علیه و آله) في حرب حنين، وكان أول المنهزمين.

وبعد فتح الطائف وخضوع ثقيف، أراد خالد أن يستوفي ربا أبيه من ثقيف فمنعه النبي (صلی الله علیه و آله) . «المنمق/203 والحدائق: 19/222»، ثم طالبهم به، فشكاه الثقفيون إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فنزلت الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. «عمدة القاري: 11/201 وجواهر الكلام: 23/299». فأكد النبي إلغاء

ربا الجاهلية.

ي. عمل خالد مع اليهود والطلقاء لأخذ خلافة النبي (صلی الله علیه و آله)، وكان في من هاجموا بيت علي وفاطمة (علیهما السلام) وهددوهم بحرق البيت عليهم إن لم يبايعوا! وأرسله أبوبكر لإخضاع مالك بن نويرة رئيس عشيرة من بني تميم، الذي عينه النبي (صلی الله علیه و آله) مسؤولاً عن صدقات قومه، فلما بلغه وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) جاء إلى المدينة:

قال ابن شاذان في الفضائل/76: «فدخل يوم الجمعة وأبوبكر على المنبر يخطب بالناس فنظر إليه وقال: أخو تيم؟ قالوا: نعم. قال: فما فعل وصي رسول الله الذي أمرني بموالاته؟ قالوا: يا أعرابي، الأمر يحدث بعده الأمر! قال: بالله ما حدث شئ وإنكم قد خنتم الله ورسوله! ثم تقدم إلى أبي بكر وقال: من أرقاك هذا المنبر ووصي رسول الله جالس؟فقال أبوبكر: أخرجوا الأعرابي البوال على عقبيه من مسجد

ص: 382

رسول الله! فقام إليه قنفذ بن عمير وخالد بن الوليد، فلم يزالا يلكزان عنقه حتى أخرجاه! فركب راحلته وأنشأ:

أطعنا رسول الله ما كان بيننا *** فيا قوم ما شأني وشأن أبي بكر

إذا مات بكر قام عمر و مقامه *** فتلك وبيت الله قاصمة الظهر

يدب ويغشاه العشار كأنما *** يجاهد جماً أو يقوم على قبر

فلو قام فينا من قريش عصابة *** أقمنا ولكن القيام على جمر

قال فلما استتم الأمر لأبي بكر وجه خالد بن الوليد، وقال له: قد علمت ما قاله مالك على رؤس الأشهاد، ولست آمن أن يفتق علينا فتقاً لا يلتئم، فاقتله!

فحين أتاه خالد ركب جواده وكان فارساً يعد بألف، فخاف خالد منه فآمنه وأعطاه المواثيق، ثم غدر به بعد أن ألقى سلاحه فقتله وأعرس بامرأته في ليلته»!

ك. ضخموا دور خالد في الفتوحات، ونسبوا اليه بطولات غيره، وقد بينا بعض مكذوباتهم في كتاب: قراءة جديدة في حروب الردة، والفتوحات.

ل. كان عمر بن الخطاب يبغض خالد بن الوليد، لأن خالداً كسر ساقه، فكان عمر يخوي، أي يفحج في مشيه كل عمره. النهاية: 7/131 وتفسير الطبري: 2/79.

وكان خالد يرى نفسه أنه ابن أكبر شخصية في قريش، وأن عمر مغمور ومن قبيلة مغمورة، ويرى أن عمر ن يعمل مبرطشاً أي دلال كراية حمير وإبل. «نهاية ابن الأثير 1/119 وتاج العروس 9/58». وكان عمر قبل ذلك خادماً لأخ خالد عمارة بن الوليد في سفر له إلى الشام، فغضب عليه عمارة وأراد أن یقتله.المنمق/130.

وأول عمل قام به عمر لما صار خليفة أنه عزل خالداً، وكتب لأبي عبيدة بن الجراح إن لم يتراجع عن تحقره لأم عمر ونفيها من بني مخزوم، أن يعزله ويقاسمه كل ما يملك، فأبى خالد فعزله وقاسمه حتى أخذ «فردة» نعله وترك له الثانية!

وعاش خالد بقية حياته في حمص، ولما مات منع عمر البكاء عليه.

م. برز من أولاد خالد عبدالرحمن وكان قائد جيش معاوية في صفين،

ص: 383

وأحبه أهل الشام فطلبوا من معاوية أن يجعله ولي عهده، فقتله معاوية بالسم على يد طبيب مسيحي، فجاء أخوه المهاجر من مكة وأخذ بثأره. وكان المهاجر شيعياً شهد مع علي (علیه السلام) حرب الجمل وصفين، وله أولاد شيعة. «الاستيعاب: 4/1453». وقيل مات في طاعون عمواس عشرون شخصاً من ولد الوليد بن المغيرة. لكنا نشك في موته بالطاعون، فلعله بسم معاوية، مثل بلال وأصحابه الثلاثين الذين كتبوا إلى عمر بفساد معاوية، وكان عمر يدعو عليهم في صلاته، فاستجاب الله دعاءه ودعاء معاوية وماتوا جميعاً في تلك السنة! الإستيعاب: 4/1711.

7- إهلاك المستهزئين غيَّرَ ميزان القوة لصالح النبي (صلی الله علیه و آله)

كان إهلاك المستهزئين الخمسة قوة لأبي طالب (رحمة الله)، فقوَّى عزيمة بني هاشم في حماية النبي (صلی الله علیه و آله) . ومما يدل على ذلك موقف حمزة القوي الذي تحدى به أباجهل رئيس مخزوم وضربه على رأسه بقوسه، وأعلن إسلامه!

وكذلك مواقف أبي طالب في حماية النبي (صلی الله علیه و آله) التي تحدى فيها قريشاً وأذلها!

منها: ما رواه الكافي: 1/449، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «بينا النبي (صلی الله علیه و آله) في المسجد الحرام وعليه ثياب له جدد، فألقى المشركون عليه سلا ناقة فملؤوا ثيابه بها، فدخله من ذلك ما شاء الله، فذهب إلى أبي طالب فقال له: يا عم كيف ترى حسبي فيكم؟ فقال له: وماذا يا ابن أخي؟ فأخبره الخبر، فدعا أبوطالب حمزة وأخذ السيف، وقال لحمزة: خذ السلا! «الفرث والدم» ثم توجه إلى القوم والنبي معه، فأتى قريشاً وهم حول الكعبة، فلما رأوه عرفوا الشر في وجهه، ثم قال لحمزة: أمِرَّ السَّلى على سِبالهم «شواربهم» ففعل ذلك حتى أتى على آخرهم!

ثم التفت أبوطالب إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا ابن أخي هذا حسبك فينا»!

وروت المصادر القصة بصيغ مشابهة وفيها أبيات لأبي طالب (رحمة الله)، كرواية السيد فخار بن معد في كتابه الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب/346، عن الأصبغ بن نباتة عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: «مر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنفر من قريش وقد نحروا جزوراً

ص: 384

وكانوا يسمونها الظهيرة ويذبحونها على النصب فلم يسلم عليهم، فلما انتهى إلى دار الندوة قالوا: يمر بنا يتيم أبي طالب فلا يسلم علينا! فأيكم يأتيه فيفسد عليه مصلاه؟ فقال عبدالله بن الزبعرى السهمي: أنا أفعل، فأخذ الفرث والدم فانتهى به إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وهو ساجد فملأ به ثيابه ومظاهره، فانصرف النبي حتى أتى عمه أباطالب فقال: يا عم من أنا؟ فقال: ولمَ يا بن أخ؟ فقص عليه القصة، فقال: وأين تركتهم؟ فقال: بالأبطح، فنادى في قومه: يا آل عبدالمطلب يا آل هاشم، يا آل عبدمناف، فأقبلوا إليه من كل مكان مُلَبِّين قال: كم أنتم؟ قالوا: نحن أربعون قال: خذوا سلاحكم فأخذوا سلاحهم وانطلق بهم حتى انتهى إلى أولئك النفر، فلما رأوه أرادوا أن يتفرقوا فقال لهم: ورب هذه البنية لايقومن منكم أحد إلا جللته بالسيف! ثم أتى إلى صفاة كانت بالأبطح فضربها ثلاث ضربات، حتى قطعها ثلاثة أفهار «أحجار» ثم قال: يا محمد سألتني من أنت ثم أنشأ يقول ويومي بيده إلى النبي (صلی الله علیه و آله):

أنت النبي محمدُ *** قَرْمٌ أغَرُّ مُسَوَّدُ

لمسوَّدين أكارمٍ *** طابوا وطاب المولد

نعم الأرومة أصلها *** عمرو الخضم الأوحد

هشم الربيكة في الجفان *** وعيش مكة أنكد

فجرت بذلك سنة *** فيها الخبيزة تثرد

ولنا السقاية للحجيج *** بها يماث العنجد

والمأزمان وما حوت *** عرفاتها والمسجد

أنى تضام ولم أمت *** وأنا الشجاع العربد

وبطاح مكة لا يرى *** فيها نجيع أسود

وبنو أبيك كأنهم *** أسدُ العرين توقد

ولقد عهدتك صادقاً *** في القول لا تتزيد

ص: 385

ما زلت تنطق بالصواب *** وأنت طفل أمرد

ثم قال: يا محمد أيهم الفاعل بك؟ فأشار النبي (صلی الله علیه و آله) إلى عبدالله بن الزبعرى السهمي الشاعر، فدعاه أبوطالب فوجأ أنفه حتى أدماها، ثم أمر بالفرث والدم فأُمِرَّ على رؤس الملأ كلهم!ثم قال: يا ابن أخ أرضيت؟ ثم قال: سألتني من أنت؟ أنت محمد بن عبدالله، ثم نسبه إلى آدم، ثم قال: أنت والله أشرفهم حسباً وأرفعهم منصباً. يا معشر قريش من شاء منكم يتحرك فليفعل أنا الذي تعرفوني»!

ورواه في شرح النهج: 14/77، البحار: 35/164 والغدير: 7/388، وثمرات الأوراق بهامش المستطرف: 2/3، كما في حياة أميرالمؤمنين. والربيكة: طعام من تمر وأقط وسمن. والعنجد: الزبيب.

وروى في التوحيد/158، تفسير الإمام الباقر (علیه السلام) للبيتين الأخيرين، قال: «يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِئُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ. قال: يكاد العالم من آل محمد: يتكلم بالعلم قبل أن يسأل. نُورٌ عَلَى نُورٍ: يعني: إماماً مؤيداً بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمد وذلك من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة. فهؤلاء الأوصياء الذين جعلهم الله عزوجل خلفاءه في أرضه وحججه على خلقه، لا تخلو الأرض في كل عصر من واحد منهم. يدل على صحة ذلك قول أبي طالب في رسول الله (صلی الله علیه و آله): أنت الأمين محمد..الأبيات.. يقول: ما زلت تتكلم بالعلم قبل أن يوحى إليك، وأنت طفل كما قال إبراهيم (علیه السلام) وهو صغير لقومه: إنِّي بَرِئٌ مِمَّا تُشْرِكُون. وكما تكلم عيسى (علیه السلام) في المهد فقال: إنِّي عَبْدُ الله آتانيَ الكتَابَ وجَعَلَنِي نَبِياً.. الآية..».

ومنها: ما رواه في كنز الفوائد/74، قال: «ومن ذلك أن أباجهل جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ومعه حَجَرٌ يريد أن يرميه به إذا سجد، فلما سجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) رفع أبوجهل يده فيبست على الحجر، فرجع فقالوا له: أجبنت؟ قال: لا، ولكن رأيت بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه!وهذا الحديث مشهور وفيه يقول أبوطالب (رحمة الله):

أفيقوا بني غالب وانتهوا *** عن الغي من بعض ذا المنطق

وإلا فإني إذن خائف *** بوائق في داركم تلتقي

ص: 386

تكون لغيركم عبرة *** ورب المغارب والمشرق

كما ذاق من كان من قبلكم *** ثمود وعاد فمن ذا بقي

غداة أتاهم بها صرصر *** وناقة ذي العرش قد تستقي

فحل عليهم بها سخطة *** من الله في ضربة الأزرقجج

غداة يعض بعرقوبها *** حساما من الهند ذا رونق

وأعجب من ذاك في أمركم *** عجائب في الحجر الملصق

بكف الذي قام من خبثه *** إلى الصابر الصادق المتقي

فأثبته الله في كفه *** على رغمة الجائر الأحمق

أحيمق مخزومكم إذ غوى *** لغي الغواة ولم يصدق»

ورواه الحميري في قرب الإسناد/317، بسند صحيح. والإحتجاج: 1/343 وشرح النهج: 14/74.

ومن عجيب ما تراه في نسخة سيرة ابن إسحاق 4/193 أن بعضهم زعم أن هذه الأبيات لعمر بن الخطاب، مع أن عمر لم يقل الشعر! قال: «قال عمر بن الخطاب فيما يزعمون بعد إسلامه، يذكر ما رأت قريش من العبرة فيما كان أبوجهل هم به من رسول الله وقائل يقول قالها أبوطالب، والله أعلم بمن قالها»!

ونلاحظ في شعرأبي طالب توبيخه لزعماء قريش عامة، ولأبي جهل خاصة، وهذا أشد عليهم من ضربة حمزة له في نادي قريش، مما يعني أن ميزان القوة بعد هلاك الفراعنة الخمسة مال بشكل واضح لمصلحة النبي (صلی الله علیه و آله)، فقد انخذل زعماء قريش وسكتوا أمام ما فعله حمزة وما فعله أبوطالب، وما فعله علي (علیه السلام) الذي: «كان يقضم آذان صبيانهم وأنوفهم! فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم ويقولون: قضمنا عليٌّ، قضمنا علي. تفسير القمي: 1/114! ويسكت الآباء على فعل علي (علیه السلام)!

ومنها: أن أحد أعيان بني مخزوم أسلم، فبادر بنو مخزوم ورئيسهم أبوجهل ليؤذوه، فتدخل أبوطالب (رحمة الله) وخلصه من تعذيبهم لأن أمه من بني هاشم»!

ففي سيرة ابن إسحاق 2/145: «عَدَتْ قريش على من أسلم منهم فأوثقوه

ص: 387

وآذوه، واشتد البلاء عليهم وعظمت الفتنة فيهم وزلزلوا زلزالاً شديداً، وعدت بنو جمح على عثمان بن مظعون، وفرَّ أبو سلمة بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم إلى أبي طالب ليمنعه وكان خاله، فجاء بنو مخزوم ليأخذوه فمنعهم فقالوا: يا أباطالب منعت منا ابن أخيك أتمنع منا ابن أخينا؟ فقال أبوطالب: أمنع ابن أختي مما أمنع ابن أخي! فقال أبولهب - ولم يتكلم بكلام خير قط ليس يومئذ-: صدق أبوطالب لايسلمه إليكم! فطمع فيه أبوطالب حين سمع منه ما سمع ورجا نصره والقيام معه، فقال شعراً استجلبه بذلك:

وإن امرأً أبو عتيبة عمه *** لفي روضة من أن يسام المظالما

أقول له وأين مني نصيحتي *** أبا معتب ثبت سوادك قائما

ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة *** تسب بها أما هبطت المواسم

[وول سبيل العجز غيرك منهم *** فإنك لم تخلق على العجز لازما ]

وحارب فإن الحرب نصف ولن تری *** أخا الحرب يعطي الضيم إلا يسالما

وولى سبيل العجز غيرك منهم *** فإنك لن تلحق على العجز لازما»

[وكيف ولم يجنوا عليك عظيمةً *** ولم يخذلوك غانماً أو مغارما]

[جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً *** وتيماً ومخزوماً عقوقاً ومأثما]

[بتفريقهم من بعد ود وألفة *** جماعتنا كيما ينالوا المحارما ]

[كذبتم وبيت الله نُبزي محمداً *** ولما تروا يوماً لدى الشعب قائما ]»

أقول: ما بين المعقوفين من نسخة ابن هشام: 1/248 مع أنه نقلها عن ابن إسحاق، وليست في نسخته التي بأيدينا، فدل على أنها ناقصة أو محرفة»!

وقال ابن هشام: «وبقي منها بيت تركناه». والبيت الذي حذفه رواه القاضي النعمان في المناقب/123، قال: «فقام إليهم أبولهب فقال: قد والله أكثرتم على هذا الشيخ! ما تزالون توثَّبون عليه في جواره من بين قومه، والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه فيما قام حتى يبلغ ما أراد! فقالوا: بل ننصرف عمّا تكره يا أبا عتبة. وخافوا أن يجتمع أمره مع

ص: 388

أبي طالب فيعظم الأمر عليهم، ولم يكن من أبي لهب قبل ذلك خير. فلما سمع منه أبوطالب ما سمع طمع فيه فقال..وروى البيت الذي حذفه ابن هشام:

أطاعوا ابن ذكوان وقيساً ودَيْسماً *** فضلوا وذاقوا بالجميع المياسما.

وقال: يعني بابن ذكوان: عقبة بن أبي معيط. ودَيْسم: الوليد بن المغيرة. وقيس: قيس بن عاقل». والدَّيْسَم: ابن الذئب من الكلبة! لسان العرب: 12/201.

وكان أبوطالب (رحمة الله) يطعن في نسب الوليد بن المغيرة، وقد صدَّقه الله تعالى فوصفه في سورة القلم بأنه: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ. «فتح الباري 8/507».

أي دعي ملحق بأبيه وليس له! العين: 1/375.

فترك ابن هشام هذا البيت ليغطي على أصل الذين حكموا هذه الأمة المسكينة! ومنه تعرف لماذا يكرهون شعر أبي طالب (رحمة الله)! ويظهر أن قيس بن عاقل كان رئيس بني جمح، فقد ذمهم أبوطالب ووصفهم بأنهم عبيده. ابن هشام: 1/179.

كما يظهر أن ابن أبي معيط الأموي كان له تأثير على أبي سفيان وبني أمية عامة في عداوة النبي (صلی الله علیه و آله)، ونسبوا آل معيط إلى ذكوان بن أمية، وقال عنه النبي (صلی الله علیه و آله): «ما أنت وقريش، وهل أنت إلا يهودي من صفورية؟!» البكري: 3/131.

ومنها: أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان أحياناً يذهب بعد هلاك المستهزئين إلى المسجد وحده بدون حراسة، كما دل حديث إعلان حمزة إسلامه عندما استفرد به أبوجهل وشتمه! وكما دل تحريكهم الأولاد ليؤذوه في طريق ذهابه، أو عودته!

روى في تفسير القمي: 1/114، عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه سئل عن معنى قول طلحة بن أبي طلحة لما بارزه علي: يا قضيم، قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان بمكة لم يجسر عليه أحد لموضع أبي طالب وأغروا به الصبيان، وكانوا إذا خرج رسول الله يرمونه بالحجارة والتراب، فشكى ذلك إلى علي فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إذا خرجت فأخرجني معك، فخرج رسول الله ومعه أميرالمؤمنين فتعرض الصبيان لرسول الله (صلی الله علیه و آله) كعادتهم فحمل عليهم أميرالمؤمنين وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم! فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم

ص: 389

ويقولون: قضمنا عليٌّ، قضمنا علي! فسمي لذلك: القضيم».

وفي نهاية ابن الأثير: 1/402 و 4/78: «ومنه حديث علي رضيالله عنه: كانت قريش إذا رأته قالت: إحذروا الحطم، إحذروا القضم! أي الذي يقضم الناس فيهلكهم». وفي أدب الكاتب لابن قتيبة/171: «الخَضْم بالفم كله، والقَضْمُ بأطراف الأسنان. قال

أبوذر (رحمة الله): تَخْضِمُونَ وَنَقْضَمُ، والمَوْعِدُ الله».

ويظهر أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان أغلب الأحيان يتحرك إلى المسجد بحراسة ويصلي فيه، ويتلو القرآن بصوت هادئ أو مرتفع أحياناً، ويدعو الناس إلى الإسلام علناً.

كما كان يذهب إلى القبائل في موسم الحج، وفي عمرة رجب، وسوق عكاظ، يعرض عليهم أن يذهب إلى بلادهم فيحموه حتى يبلغ رسالة ربه، فكانوا يرفضون ذلك خوفاً من قريش، أو يشرطون عليه أن يكون الأمر لهم من بعده، فيجيبهم إن الأمر لله وقد وضعه في أهله، ويطلب منهم أن يبايعوه على أن لاينازعوا الأمر أهله.

ص: 390

الفصل التاسع عشر: تعذيب المسلمين في مكة

1- ملاحظات حول المعذبين لإسلامهم

أ.كان الخطر على من يُسلم محصوراً بعشيرته التي هو منها بالولادة أو بالتحالف أو بالعبودية، ولا شغل للمجتمع أو للعشائر الأخرى به. لذلك كانت صعوبة الإستجابة للنبي (صلی الله علیه و آله) والدخول في الإسلام، تختلف من شخص إلى آخر.

فالذين لاقوا الأذى والتعذيب لاقوه من عشائرهم، أما الذي لا خطر عليه من عشيرته لمكانته فيها، أو لضعف مركزية شيخها، أو لقلتها وذلتها، فلم يكن عليه خطر إن أسلم.

وهناك حالات فردية مثل نوفل بن خويلد بن أسد بن عبدالعزى، ابن العدوية، وقد ربط أبابكر وطلحة وكانا يعذبهما وهما من قبيلة تيم، ولا تجرؤ قبيلتهما على فك حبلهما لأنه كان فاتكاً شريراً، قال ابن سعد: 2/215: «فلما أسلم أبوبكر وطلحة بن عبيدالله أخذهما نوفل بن خويلد ابن العدوية، فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم! وكان نوفل بن خويلد يدعى أسد قريش، فلذلك سمي أبوبكر وطلحة القرينين». راجع: ابن هشام: 1/181 والإصابة: 6/77.

وهذا يدل على ضعف بني تيم المفرط! وكان ابن العدوية هذا في معركة بدر يصيح ويرعد، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): اللهم اكفني شر ابن العدوية، فقتله علي (علیه السلام) .

ب. بالغ بعض الرواة في الأذى والتعذيب الذي تعرض له بعض المسلمين الأوائل رضوان الله عليهم، وكثرت أكاذيب رواة السلطة في عدد المعذبين وأنواع تعذيبهم ومدته، ليثبتوا

ص: 391

فضائل للحاكم ومؤيديه!

فتراهم مثلاً يدَّعون أن أبابكر أسلم قبل هلاك المستهزئين، وأن عشيرته حمته فلم يكن بحاجة إلى جوار أحد ولا للهجرة.

ثم يتحدثون عن فضائل المعذبين في سبيل الله فيعدُّون أبابكر منهم، ويقولون إن ابن العدوية كان يربطه بحبل مع طلحة فسميا القرينين.ابن هشام: 1/181.

وفي الإصابة: 6/77، أن شخصاً آخر كان يربطهما!

ثم يتحدثون عن فضائل الهجرة فيقولون إن أبابكر هاجر إلى اليمن خوفاً من قريش، فأجاره رئيس الأحابيش. ابن هشام: 1/249.

وقد انحصر تعذيب قريش للمسلمين بأفراد لايصل عددهم إلى العشرين، كما أن الذين هاجروا إلى الحبشة لا يبلغون مئة نفر.

ج. ومع مبالغتهم في تعذيب المسلمين أخفوا أسماء من عذَّبهم، فصرت تقرأ في رواياتهم وصفاً لتعذيب فلان بدون إسم من ارتكب ذلك، لأن المعذِّب وأبناءه صاروا من المسؤولين بعد النبي (صلی الله علیه و آله) فسجل رواة الحكومة جرائمهم ضد مجهول! وذكروا على حياء إسم عمر، وأنه كان يعذب جارية سوداء لأحد بني عدي!

د. بدأت مرحلة الدعوة العامة في السنة الثالثة، وفيها بدأ تعذيب بعض المستضعفين، ولا نجد حادثة اعتداء وتعذيب لمسلم قبلها إلا على أبيذر (رحمة الله) عندما أعلن إسلامه في المسجد، ودعا قريشاً إلى الإسلام.

وبعد أن أهلك الله المستهزئين وصدع النبي (صلی الله علیه و آله) بالدعوة العامة، أخذ بعض الشباب والعبيد يسلم علناً أو يسلم سراً فيكتشفون إسلامه ويؤذونه، وبادر أبو أحيحة إلى اضطهاد ابنه خالد بن سعيد، وأبوجهل إلى اضطهاد عائلة ياسر حليف مخزوم، ولم يرد ذكر للوليد بن المغيرة في تعذيبهم مع أنهم كانوا تحت يده، فيكون إسلامهم أو اكتشاف إسلامهم بعد موت الوليد، رئيس المستهزئين.

وقد أوجزت رواية المناقب: 1/53، عن كتاب النبوة للصدوق (رحمة الله) عن الإمام زين العابدين (علیه السلام)، مفاوضة زعماء قريش مع النبي (صلی الله علیه و آله) وعمه أبي طالب،

ص: 392

وذكرت أن التعذيب وقع بعدها، قال (علیه السلام): «اجتمعت قريش إلى أبي طالب ورسول الله (صلی الله علیه و آله) عنده فقالوا: نسألك من ابن أخيك النصف، قال: وما النصف منه؟ قالوا: يكف عنا ونكف عنه فلا يكلمنا ولا نكلمه ولا يقاتلنا ولا نقاتله، إلا أن هذه الدعوة قد باعدت بين القلوب وزرعت الشحناء وأنبتت البغضاء! فقال: يا ابن أخي أسمعت؟ قال: يا عم لو أنصفني بنو عمي لأجابوا دعوتي وقبلوا نصيحتي، إن الله تعالى أمرني أن أدعو إلى دينه الحنيفية ملة إبراهيم، فمن أجابني فله عند الله الرضوان والخلود في الجنان، ومن عصاني قاتلته حتى

يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. فقالوا: قل له يكف عن شتم آلهتنا فلا يذكرها بسوء، فنزل: قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ. قالوا: إن كان صادقاً فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر، فإن وجدناه صادقاً آمنا به، فنزل: مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ.

قالوا: والله لنشتمنك وإلهك، فنزل: وَانْطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَئٌ يُرَادُ. «صاد /6» . قالوا: قل له فليعبد ما نعبد ونعبد ما يعبد، فنزلت سورة الكافرين. فقالوا قل له: أرسله الله الينا خاصة أم إلى الناس كافة؟ قال: بل أرسلت إلى الناس كافة إلى الأبيض والأسود، ومن على رؤس الجبال ومن في لجج البحار، ولأدعونَّ إليه فارس والروم: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا.«الأعراف/ 158». فتجبرت قريش واستكبرت وقالت: والله لو سمعت بهذا فارس والروم لاختطفتنا من أرضنا ولقلعت الكعبة حجراً حجراً، فنزل: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا.وقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ. فقال مطعم بن عدي: والله يا أباطالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على أن يتخلصوا مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً!

فقال أبوطالب: والله ما أنصفوني ولكنك قد اجتمعت على خذلاني ومظاهرة القوم عليَّ، فاصنع ما بدا لك، فوثبت كل قبيلة على ما فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم..وقدم قوم من قريش من الطائف وأنكروا ذلك. ووقعت

ص: 393

فتنة، فأمر النبي المسلمين أن يخرجوا إلى أرض الحبشة».

وقال ابن إسحاق: 2/128: «ثم إن قريشاً توامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذين أسلموا، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله منهم رسوله بعمه أبي طالب».

2- أسماء المعذبين

1-4. آل ياسر: ياسر وزوجته سمية وابناهما عمار وعبدالله. وهم من قبيلة عَنْس، فرع من قبيلة مراد اليمانية، وقد سكن ياسر مكة وتحالف مع قبيلة مخزوم، فلما أسلموا قتل أبوجهل ياسر تحت التعذيب فهو أول شهيد في الإسلام، كما قتل زوجته سمية فهي أول شهيدة في الإسلام، طعنها بحربة في قبلها فقتلها! ومات ابنهما عبدالله بمكة وربما من التعذيب، وشددوا العذاب على عمار بوضع الصخرة على صدره ورمسه بالماء، وقالوا لا نتركك حتى تسب محمداً وتقول في اللات والعزى خيراً، ففعل فتركوه، فأتى النبي يبكي فقال: ما وراءك قال شرٌّ يا رسول الله، كان الأمر كذا وكذا! قال: فكيف تجد قلبك؟ قال: أجده مطمئناً بالإيمان. فأنزل الله تعالى: إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان.

وهاجر عمار وشهد المشاهد كلها مع النبي (صلی الله علیه و آله)، واستشهد مع علي (علیه السلام) بصفين وعمره بضع وتسعون سنة! الإستيعاب: 3/1001 وقاموس الرجال: 12/281.

وفي غوالي اللئالي: 2/104: «فأما عمار فإنه أعطاهم بلسانه كل ما أرادوا منه، وأما أبواه فامتنعا فقتلا..وجاء عمار وهو يبكي فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): ما خبرك؟ فقال: يا رسول الله ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فصار رسول الله (صلی الله علیه و آله) يمسح عينيه ويقول: إن عادوا لك، فعُدْ لهم بما قلت».

وفي الكافي: 2/219 وقرب الإسناد/12، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «فأنزل الله عزوجل فيه: مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان. فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): يا عمار إن عادوا فعد. فقد أنزل الله عزوجل عذرك، وأمرك أن تعود إن عادوا».

ص: 394

ومن معجزات النبي (صلی الله علیه و آله) وكرامة عمار (رحمة الله) أن قريشاً ألقته في النار فقال النبي (صلی الله علیه و آله): «يا نار كوني برداً وسلاماً على عمار كما كنت برداً وسلاماً على إبراهيم! فلم تصله النار ولم يصله منها مكروه! وقتلت قريش أبويه ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: صبراً آل ياسر موعدكم الجنة».

وقال (صلی الله علیه و آله) في عمار: «ما تريدون من عمار! عمار مع الحق والحق مع عمار حيث كان. عمار جلدة بين عيني وأنفي، تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار». رجال الطوسي: 1/127، معجم الحديث: 13/284 والطبقات: 3/248.

5. خَبَّاب بن الأرتّ التميمي، كان أبوه من سواد الكوفة فسباه قوم من ربيعة وباعوه من سِبَاع بن عبدالعزى الخزاعي الذي قتله حمزة في أحد. ابن إسحاق: 3/308.

وكانوا يعذبونه عذاباً شديداً فيلصقون ظهره بالرمضاء، ثم بالرضف وهي الحجارة المحماة بالنار، ولووا رأسه، فلم يجبهم إلى شئ مما أرادوا!

وهاجر وشهد المشاهد كلها مع رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ونزل الكوفة ومات فيها سنة ست وثلاثين، وأوصى أن يدفن بظهر الكوفة.

وأبَّنَهُ أميرالمؤمنين (علیه السلام): «يرحم الله خباب بن الأرت فلقد أسلم راغباً، وهاجر طائعاً، وقنع بالكفاف ورضي عن الله، وعاش مجاهداً». نهجالبلاغة: 4/13، ومعجم رجال الحديث: 8/47، الكامل: 2/67 والطبقات: 3/164.

6. بلال بن رباح الحبشي. كان غلاماً لأمية بن خلف الجمحي، وكان أمية يعذبه ويلقيه في الظهيرة في الرمضاء على وجهه وظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتلقى على صدره، ويقول لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبداللات والعزى. «الكامل 2/66» . وزعم رواة السلطة أن أبابكر اشتراه واشترى غيره من العبيد المعذبين، ورد ذلك نُقَّاد الحديث. الصحيح من السيرة: 3/89.

7. صهيب بن سنان الرومي ولم يكن رومياً ونسب إليهم لأنهم سبَوْهُ وباعوه، وقالوا هو نمري من قبيلة نمر بن قاسط، ولعله مولاهم. الصحاح: 2/837.

ص: 395

قالوا إنه عذب عذاباً شديداً، ولما أراد الهجرة منعته قريش فافتدى نفسه منهم بماله. وكان يحب عمر فأوصى عمر أن يصلي بالناس حتى يستخلف أهل الشورى. وتوفي بالمدينة سنة ثمان وثلاثين وعمره سبعون سنة. الكامل: 2/68.

8. عامر بن فهيرة غلام الطفيل بن عبدالله الأزدي، والطفيل أخ عائشة لأمها أم رومان، قالوا إنه عُذب لإسلامه ولا يصح ذلك، وكان أسود يرعى غنماً لسيده وأخذه النبي (صلی الله علیه و آله) مع أبي بكر في هجرته، وشهد بدراً وأحداً، واستشهد يوم بئر معونة، وله أربعون سنة. «الكامل: 2/68». وسيأتي ذكره في هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) .

9. أبو فكيهة واسمه أفلح وقيل يسار، وكان عبداً لصفوان بن أمية بن خلف الجمحي، أسلم مع بلال فأخذه سيده أمية وربط في رجله حبلاً وجره، ثم ألقاه في الرمضاء، ومَرَّ به جُعَل «حَشَرة» فقال له أمية: أليس هذا ربك؟! فقال: الله ربي وربك ورب هذا، فخنقه خنفاً شديداً، ومعه أخوه أبي بن خلف يقول: زده عذاباً حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره! وهاجر ومات قبل بدر.الكامل: 2/68.

10. لبينة جارية بني مؤمل بن حبيب، كان عمر يعذبها حتى يتعب فيدعها ويقول: إني لم أدعك إلا سآمة! فتقول كذلك يفعل الله بك! الكامل: 2/69.

11. زنيرة وكانت لبني عدي وكان عمر يعذبها. وقيل كانت لبني مخزوم وكان أبوجهل يعذبها حتى عميت فقال لها: إن اللات والعزى فعلا بك.فقالت: وما يدري اللات والعزى من يعبدهما! ولكن هذا أمٌر من السماء وربي قادر على رد بصري فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها!فقال: هذا من سحر محمد! الكامل: 2/69.

12. أم عبيس، أمة لبني زهرة، كان الأسود بن عبد يغوث يعذبها. الكامل: 2/70.

13. مصعب بن عمير العبدري، ففي الطبقات: 3/116 والإستيعاب: 4/1474 أنه أسلم في دار الأرقم: «وكتم إسلامه خوفاً من أمه وقومه، فكان يختلف إلى رسول الله سراً، فبصر به عثمان بن طلحة يصلي، فأخبر به قومه وأمه، فأخذوه وحبسوه فلم يزل محبوساً إلى أن خرج إلى أرض الحبشة».

ص: 396

14. أهمل رواة السلطة عدداً أسلموا ثم ارتدوا تحت ضغط قبائلهم أو تعذيبهم، ومنهم من خرج مع المشركين إلى بدر وقاتل معهم وقتل! لأنهم أولاد زعماء المشركين، الذين حكموا بعد النبي (صلی الله علیه و آله) أو صاروا ولاة، كأخ خالد بن الوليد!

وفي إمتاع الأسماع: 9/114: «عُذِّبَ قوم لا عشائر لهم ولا مانع لهم، فبعضهم ارتد وبعضهم أقام على الإسلام،وبعضهم أعطى ما أريد منهم من غير اعتقاد منه للكفر، وكان قوم من الأشراف قد أسلموا ثم فتنوا، منهم سلمة بن هشام بن المغيرة، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص السهمي»!

ص: 397

الفصل العشرون: مكذوبات السلطة في دارالأرقم

من مكذوبات رواة السلطة في دار الأرقم

1. جعل رواة السيرة الحكومية دار الأرقم بن أبي الأرقم مرحلة في سيرة النبي (صلی الله علیه و آله) فقالوا: أسلم فلان قبل دخول النبي (صلی الله علیه و آله) دار الأرقم، وفلان في دار الأرقم، وفلان بعد دارالأرقم! وقالوا إن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يستخفي مع أصحابه في شعاب مكة ثلاث سنين، يصلون ويعبدون ربهم، ثم اكتشفت قريش أمرهم فاشتبك معهم سعد بن أبي وقاص وجرح شخصاً منهم، لم يذكروا إسمه!

فاستَخْفَوْا بعدها في دار الأرقم المخزومي سنين، حتى أسلم عمر، فعزوا به بعد ذلهم، وخرجوا وأعلنوا إسلامهم! لكن قصة دارالأرقم مفتعلة بأصلها وفصلها!

2. تقع دار الأرقم خلف الصفا بينها وبين شعب أبي طالب، فهي على يمين الخارج من المسجد نحو شعب أبي طالب، أو بيت خديجة (علیهما السلام)، وهي قريبة من مكان مولد النبي (صلی الله علیه و آله) الذي صار بعدها مكتبة مكة. وقد رأيتها قبل أن يهدموها وكانت مكتبة، ثم أزالوها مع الجبل المتصل بالصفا، فهي من ناحية أمنية لاتصلح للإختفاء من قريش ولا للتحصن، لأنها على مرأى الواقف في المسجد أو الذاهب اليه! فكيف تكون مقراً بعيداً عن عيون قريش؟!

3. الأرقم من بني مخزوم، فهو أحد رعايا الوليد بن المغيرة رئيس مخزوم الذي هلك مع بقية المستهزئين في أواخر السنة الثالثة للبعثة، فصار الأرقم رعية أبي

ص: 398

جهل الذي صار بعد الوليد رئيس مخزوم، والذي قتل سمية وياسراً، وعذب عماراً رضوان الله عليهم، فكيف يسكت على إسلام الأرقم، ويجهل جعل داره قرب المسجد قاعدة لمحمد (صلی الله علیه و آله) ومن آمن به؟!

4. ثم إن الدار ليست للأرقم، بل لأبيه أبي الأرقم، ورووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان في دار الأرقم فدعا الله أن يسلم أبوجهل أو عمر: «فكانت الدعوة يوم الأربعاء فأسلم عمر يوم الخميس، وكبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل البیت تكبيرة فسمعت بأعلى مكة وخرج أبو الأرقم وهوأعمى كافر وهو يقول: اللهم اغفر لبنيَّ غير الأرقم فإنه كفر! فقام عمر فقال: يا رسول الله على مَ نخفي ديننا ونحن على الحق ويظهروا دينهم وهم على الباطل؟ قال: يا عمر إنا قليل، قد رأيت ما لقينا! فقال عمر بن الخطاب: فوالذي بعثك بالحق لايبقى مجلس جلستُ فيه بالكفر إلا أظهرتُ فيه الإيمان! ثم خرج فطاف بالبيت ثم مر بقريش وهي تنتظره فقال أبوجهل بن هشام: يزعم فلان أنك صبوت؟ فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، فوثب المشركون إليه ووثب عتبة وبرك عليه فجعل يضربه وأدخل إصبعيه في عينيه، فجعل عتبة يصيح! فتنحى الناس فقام عمر وجعل لايدنو منه أحد إلا أخذ بشريف ممن دنا منه حتى أعجز الناس!

واتَّبع المجالس التي كان يجالس فيها فيظهر الإيمان، ثم انصرف إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وهو ظاهر عليهم.. فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخرج عمر أمامه وحمزة بن عبدالمطلب، حتى طاف بالبيت فصلى الظهر معلناً، ثم انصرف إلى دار الأرقم ومعه عمر. ثم انصرف عمر وحده». تاريخ دمشق:30/50 والنهاية: 3/42.

وفي السيرة الحلبية: 2/21، عن عمر أن النبي (صلی الله علیه و آله) سماه الفاروق يومئذ، لأنه فرق بين الحق والباطل! ثم ذكر: 1/456 أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يستخفي في شعاب مكة ثلاث سنين فرآهم المشركون: «فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم فضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً منهم بلحى بعير فشجه..ثم دخل (صلی الله علیه و آله) وأصحابه مستخفين في دار الأرقم أي بعد هذه الواقعة.. فكان

ص: 399

وأصحابه يقيمون الصلاة بدار الأرقم.. إلى أن أمره الله تعالى بإظهار الدين..في السنة الرابعة وقيل مدة استخفائه أربع سنين وأعلن في الخامسة، وقيل أقاموا في تلك الدار شهراً، وهم تسعة وثلاثون»!

ثم زعم الحلبي أنه بذلك يفسر كلام ابن إسحاق، مع أن ابن إسحاق لم يذكر دار الأرقم أبداً! وإنما ذكر أن عبدالله بن الأرقم أسلم مع عثمان بن مظعون. 2/124.

وفي الطبقات: 3/269: «أسلم عمر بن الخطاب بعد أن دخل رسول الله دار الأرقم وبعد أربعين أو نيف وأربعين بين رجال ونساء قد أسلموا قبله، وقد كان رسول الله قال بالأمس: اللهم أيد الإسلام بأحب الرجلين إليك: عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام»أبي جهل«فلما أسلم عمر نزل جبريل فقال: يا محمد لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر»!

والنتيجة: أن دار الأرقم غير معقولة، لا في موقعها، ولا في أحداثها المروية، ولا في شخصية الأرقم صاحب البيت! وكان له أخ هو عبدالله لم يسلم ولم يهاجر معه، وبقي مع جده حتى كان من الطلقاء في فتح مكة! سيرة ابن كثير: 4/687.

5. يظهر أن القصة نشأت من أن بيت أبي الأرقم قرب الصفا، وهو في طريق النبي (صلی الله علیه و آله) من بيته إلى المسجد، فلفقوا حوله القصص وجعلوه مقراً سرياً للنبي (صلی الله علیه و آله) أو مسجداً يجتمع فيه المسلمون حتى بلغوا أربعين شخصاً بعمر فأعلنوا إسلامهم! وغرضهم مدح عمر بن الخطاب وأنه أسلم قبل إسلامه، فعز به الإسلام بعد ذله ودخل مرحلة العلنية بعد مرحلته السرية. وكل ذلك لم يكن!

وقد رد الصالحي في سبل الهدى: 2/319، قصة دار الأرقم، قال: 2/230: «وذكر إسلام عمر هنا غريب. والصحيح أنه أسلم بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة».

6. ورووا أن عائشة قالت إن البطولة في دار الأرقم كانت لأبيها لا لعمر بن الخطاب! فقد روى في سبل الهدى: 2/319 عن سليمان بن خيثمة، عن عائشة قصة طويلة تشهد على نفسها بالكذب، خلاصتها: أن المسلمين كانوا ثمانية عشر: «فألحَّ

ص: 400

أبوبكر على رسول الله في الظهور...فلم يزل أبوبكر يلح حتى ظهر رسول الله».

وقام أبوبكر خطيباً «فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله (صلی الله علیه و آله) وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين فضربوهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ووُطئ أبوبكر وضُرب ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرقهما لوجهه من على بطن أبي بكر، حتى مايعرف وجهه من أنفه! وجاءت بنو تيم يتعادون «ولم تذكر اسم واحد منهم» فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تيم أبابكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولايشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبوبكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر، فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبابكر حتى أجاب، فتكلم في آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله»!

لكن نقول لعائشة: إن نوفل بن العدوية الأسدي وكان من شياطين قريش، ربط أبابكر وطلحة بحبل وكان يعذبهما لأنهما أسلما،فلم يجرؤ بنو تيم على فك حبلهما!

7. مشكلة هؤلاء الرواة أنهم يريدون إثبات بطولات لشخصيات السلطة، فيقعون في التناقض ويخالفون منطق الأمور وثوابت السيرة القطعية! فمن الثابت كما تقدم أن الدعوة العامة لم تكن ممكنة قبل إهلاك المستهزئين الخمسة ونزول قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ. وعندما صدع النبي (صلی الله علیه و آله) بالدعوة العامة في السنة الثالثة وقفت قبائل قريش ضده ومنعت أبناءها وعبيدها من الإسلام، وكان أشدهم بنومخزوم بقيادة أبي جهل، حتى قتل ياسراً وزوجته سمية رضيالله عنهما.

ومن الثابت أن الهجرة إلى الحبشة كانت في السنة الخامسة، وحصار قريش للنبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم كان في أواخر السادسة وأوائل السابعة، وأن إسلام عمر كان بعد الهجرة إلى الحبشة. فمتى كانت مرحلة دار الأرقم المزعومة؟ وكيف اكتشفت قريش تجمع المسلمين في شعاب مكة ولم ترهم في دار الأرقم الملاصقة للمسجد؟ وكيف سكتت على البطولات المزعومة لابن وقاص وابن الخطاب؟!

ص: 401

ولماذا لا نجد إسم الذي ضربه ابن وقاص فشجه، ولا إسم أحد من بني تيم الذين أنقذوا أبابكر، وهددوا بني عبد شمس بقتل زعيمهم؟! إلى آخر المناقشات التي توهن أصل القصة؟! راجع: روضة الواعظين/52، ابن هشام: 1/166 و230، تاريخ دمشق: 44/41 والصحيح من السيرة: 2/433 و 7/286.

ص: 402

الفصل الحادي والعشرون: هجرة المسلمين إلى الحبشة

1- ملاحظات حول الهجرة

أ. كان السفر والهجرة طبيعياً عند المكيين، فحياتهم متقومة بالسفر إلى اليمن والشام ومصر، خاصة بعد أن صار الطريق آمناً وأسس هاشم (رحمة الله) رحلة الصيف والشتاء وأكملها ابنه عبدالمطلب (رحمة الله) فعقدا اتفاقيات مع القبائل والدول لتأمين قوافل قريش وسلامتها. فمن ضاقت عليه مكة هاجر إلى الجزيرة أو الشام أو الحبشة. قال ابن خلدون: 2/2/8: «وكان قريش يتعاهدونها «الحبشة» بالتجارة فيحمدونها».

ب. قال في الصحيح من السيرة: 3/123: «نرجح أنه لم يكن سوى هجرة واحدة للجميع، عليها جعفر بن أبي طالب (علیه السلام)، الذي لم يكن غيره من بني هاشم، فلم يكن ثمة هجرتان...وذلك بدليل الرسالة التي وجهها الرسول (صلی الله علیه و آله) إلى ملك الحبشة مع عمرو بن أمية الضمري والتي جاء فيها: قد بعثت إليكم ابن عمي جعفر بن أبي طالب معه نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فأقرهم.. إلخ.».

أقول: وهو المتعين، ويدل عليه أيضاً أن الهجرة التي كان أميرها جعفر كان فيها أكثر من ثمانين مسلماً، واستمرت بضع عشرة سنة. أما الذين ذهبوا إلى الحبشة قبلها فكانوا أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، سافروا في شهر رجب وأقاموا شهر شعبان ورمضان ورجعوا في شوال! الطبري: 2/68، الطبقات: 1/206، الإمتاع: 1/37، عيون الأثر: 1/157، سبل الهدى: 2/366، فتح الباري:

ص: 403

7/143 والسيرة الحلبية: 2/9.

فهذه سفرة قصيرة للتجارة! ولعلهم سموها هجرة من أجل عثمان الذي كان فيها ليجعلوه أول المهاجرين، مع أنه لم يتعرض لتعذيب أو ضغط!

وقد ردَّ في الصحيح: 3/123 مقولتهم بأن عثمان أول المهاجرين، وقال إنه عثمان بن مظعون الجمحي (رحمة الله) . ولعل النبي (صلی الله علیه و آله) أرسله لاستكشاف الوضع لتهجير المضطهدين اليها، فقد كان ابن مظعون من حواريي النبي (صلی الله علیه و آله) .

قال ابن هشام: 1/214: «فكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة.. وكان عليهم عثمان بن مظعون».

وقد اتفق الرواة على أن ما سموه «الهجرة الأولى» كانت في شهر رجب في السنة الخامسة للهجرة وأنهم رجعوا بعد شهرين. وهم: عثمان بن عفان وامرأته بنت النبي (صلی الله علیه و آله) أو ربيبته، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبدالرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبدالأسد وامرأته أم سلمة، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم، وسهيل بن بيضاء.

وكانت هجرة جعفر وأصحابه في نفس السنة بعد الحج، مع بداية محاصرة قريش لبني هاشم في الشعب، أو قبلها بقليل، وهي الهجرة الوحيدة.

ج. من أصح روايات الهجرة إلى الحبشة ما رواه السنة والشيعة عن أم سلمة (علیها السلام) قالت: «لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله لا يستطيع دفع ذلك عنهم وكان رسول الله في منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شئ مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن بأرض الحبشة ملكاً لايظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده، حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمنا على ديننا ولم نخش منه ظلماً.

فلما رأت قريش أن قد أصبنا داراً وأمناً، أجمعوا على أن يبعثوا إليه فينا ليخرجنا من

ص: 404

بلاده وليردنا عليهم، فبعثوا عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدعوا منهم رجلاً إلا هيؤوا له هدية على ذي حدة، وقالوا لهما إدفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموه فيهم ثم ادفعوا إليه هداياه، وإن استطعتم أن يردهم عليكما قبل أن يكلمهم فافعلا!

فقدما عليه فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا إليه هديته وكلموه وقالوا له: إنا قدمنا على هذا الملك في سفهاء من سفهائنا فارقوا أقوامهم في دينهم، ولم يدخلوا في دينكم، فبعثنا قومهم فيهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل، فقالوا: نفعل ثم قدما إلى النجاشي هداياه، وكان أحب ما يهدى اليه من مكة الأدم«الجلود». فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له: أيها الملك إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه وقد لجؤوا إلى بلادك، فبعثنا إليك فيهم عشائرهم آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم عيناً.

فقالت بطارقته: صدقوا أيها الملك، لو رددتهم عليهم كانوا هم أعلى بهم عيناً، فإنهم لم يدخلوا في دينك فتمنعهم بذلك! فغضب ثم قال: لا لعمرو الله لا أردهم عليهم حتى أدعوهم وأكلمهم، وأنظر ما أمرهم؟ قوم لجؤوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم ولم أخلِّ بينهم وبينهم ولم أنعمهم عيناً!

فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم، ولم يكن شئ أبغض إلى عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم! فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا: ماذا تقولون؟ فقالوا: وماذا نقول؟ نقول والله ما نعرف وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا (صلی الله علیه و آله) كائن في ذلك ما كان!

فلما دخلوا عليه كان الذي كلمه منهم جعفر بن أبي طالب فقال له النجاشي: ما هذا الدين الذي أنتم عليه، فارقتم دين قومكم، ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية، فما هذا الدين؟فقال جعفر: أيها الملك،كنا قوماً على الشرك

ص: 405

نعبدالأوثان ونأكل الميتة ونسئ الجوار، ونستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئاً ولا نحرمه! فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبدالله وحده لا شريك له، ونصل الرحم ونحسن الجوار، ونصلي ونصوم ولا نعبد غيره. فقال: هل معك شئ مما جاء به؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله.

فقال له جعفر: نعم، قال: هلم فاتل عليَّ ما جاء به فقرأعليه صدراً من كهيعص! فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى! إنطلقوا راشدين، لا والله لا أردهم عليكم ولا أنعمكم عيناً! فخرجا من عنده، وكان أتقى الرجلين فينا عبدالله بن أبي ربيعة،

فقال له عمرو بن العاص: والله لآتينه غداً بما أستأصل به خضراءهم! لأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد عيسى بن مريم عبد! فقال له عبدالله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين: لا تفعل فإنهم وإن كانوا خالفونا، فإن لهم رحماً ولهم حقاً. فقال: والله لأفعلن! فلما كان الغد دخل عليه فقال: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عنه، فبعث إليهم ولم ينزل بنا مثلها، فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو سألكم عنه؟ فقالوا: نقول والله الذي قاله فيه والذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه! فدخلوا عليه وعنده بطارقته فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال له جعفر: نقول هو عبدالله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول! فدلى النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ عويداً بين أصبعيه فقال: ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود! فتناخرت بطارقته فقال: وإن تناخرتم والله! إذهبوا فأنتم سيوم بأرضي- والسيوم الآمنون- ومن سبكم غُرِّم «ثلاثاً»! ما أحب أن لي دبيراً وأني آذيت رجلاً منكم - والدبير بلسانهم الذهب-! فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس فيَّ فأطيع الناس فيه. ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها، واخرجا من بلادي!

ص: 406

فخرجا مقبوحين، مردود عليهما ما جاءا به!فأقمنا مع خير جار في خير دار، فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله ما علمنا حزناً قط كان أشد منه فرقاً أن يظهر ذلك الملك عليه، فيأتي ملك لايعرف من حقنا ماكان يعرف، فجعلنا ندعو الله ونستنصره للنجاشي، فخرج إليه سائراً، فقال أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعضهم لبعض: مَن رجل يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر على من تكون؟ فقال الزبير: وكان من أحدثهم سناً: أنا، فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، ثم خرج يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى جنب التقاء الناس، فحضر الوقعة فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه، فجاءنا الزبير فجعل يلمح الينا بردائه ويقول: ألا أبشروا فقد أظهر الله النجاشي! فوالله ما علمنا فرحنا بشئ قط فرحنا بظهور النجاشي.

قالت: ورجع النجاشي وقد أهلك الله عدوه ومكن له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله (صلی الله علیه و آله)».ذخائر العقبى/209، ابن إسحاق: 4/193، ابن هشام: 1/224، الخرائج: 1/133، عن ابن مسعود (رحمة الله) مختصراً.

ورواه في إعلام الورى: 1/115، وفيه احتجاج جعفر: «فقال: أيها الملك سلهم أنحن عبيد لهم؟ قال عمرو: لا، بل أحرار كرام. قال: فسلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟ قال: لا، ما لنا عليهم ديون. قال: فلهم في أعناقنا دماء يطالبوننا بذحولها؟ قال عمرو بن العاص: لا، ما لنا في أعناقهم دماء ولانطالبهم بذحول.

قال: فما تريدون منا؟ قال عمرو: خالفونا في ديننا ودين آبائنا، وسبوا آلهتنا، وأفسدوا شباننا، وفرقوا جماعتنا، فردهم إلينا ليجتمع أمرنا. فقال جعفر: أيها الملك خالفناهم لنبي بعثه الله فينا، أمرنا بخلع الأنداد، وترك الإستقسام بالأزلام، وأمرنا بالصلاة والزكاة، وحرم الظلم والجور وسفك الدماء بغير حلها، والزنا والربا والميتة والدم، وأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.فقال النجاشي: بهذا بعث الله عيسى بن مريم».

ص: 407

د. أرسلت قريش ابن العاص مرتين إلى النجاشي، وكتب النبي (صلی الله علیه و آله) وأبوطالب (رحمة الله) إلى النجاشي. كما في مكاتيب الرسول (صلی الله علیه و آله): 1/430:

«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده ونفخه، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي، وبالذي جاءني فإني رسول الله، وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فأقر ودع التجبر، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عزوجل، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا، والسلام على من اتبع الهدى».

وذكر أن النجاشي إسم لملك الحبشة كقيصر وكسرى، وإسم ذلك النجاشي أصحمة ومعناه: عطية. ثم روى كتاب أبي طالب (رحمة الله) إلى النجاشي، وفيه:

تعلَّمْ مليك الحبْش أن محمداً *** نبيٌّ كموسى والمسيح بن مريمِ

أتى بالهدى مثل الذي أتيا به *** وكل بأمر الله يهدي ويعصم

وإنكم تتلونه في كتابكم *** بصدق حديث لا حديث المرجِّمِ

فلا تجعلوا لله نداً وأسلموا *** فإن طريق الحق ليس بمظلم

وإنك ما يأتيك منا عصابة *** بفضلك إلا أرجعوا بالتكرم»

وذكر مصادره: ابن هشام: 1/357، الحاكم: 2/623، البحار:35/163 و 18/418، ابن أبي الحديد: 14/75، المناقب لابن شهرآشوب: 1/62 وطبعة/44، الغدير: 7/331 وإعلام الورى: 30 و55.

وروى الأحمدي أيضاً 2/448، أن النجاشي أسلم على يد جعفر وكتب إلى النبي (صلی الله علیه و آله):

«بسم الله الرحمن الرحيم. إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم بن أبجر. سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، من الذي لا إله إلا هو، الذي هداني للإسلام، بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقاً «عرق التمرة» إنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قربنا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادق مصدق، وقد بايعتك

ص: 408

وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك بابني أرها بن الأصحم بن أبجر، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك يا رسول الله».

وكان سفر ابن العاص بعد هجرتهم مباشرة، ففي ذخائر العقبى/213، عن ابن مسعود: «أمرنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي فبلغ ذلك قريشاً فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد».

وقال القمي: 1/176: «فلما بلغ قريش خروجهم بعثوا عمرو بن العاص وعمارة» وقال دحلان في سيرته: 1/ 417: «كان لعمرو بن العاص هجرتان إلى الحبشة في شأن المهاجرين على ما يذكره التاريخ: أحدهما مع عمارة في بدء الهجرة، والثاني مع عبدالله بن ربيعة بعد بدر ورجع خائباً خاسراً».

وقال ابن هشام: 1/221: «قال أبوطالب حين رأى ذلك من رأيهم وما بعثوهما فيه أبياتاً للنجاشي يحضه على حسن جوارهم والدفع عنهم»:

ألا ليت شعري كيف في الناس جعفرٌ *** وعمرو وأعداء العدو الأقارب

وهل نال أفعال النجاشي جعفرا *** وأصحابه أم عاق ذلك شاغب

تعلم أبيت اللعن إنك ماجد *** كريم فلا يشقى لديك المجانب

تعلم بأن الله زادك بسطة *** وأسباب خير كلها بك لازب

فإنك فيض ذو سجال غزيرة *** ينال الأعادي نفعها والأقارب»

وجاء في مناظرة الإمام الحسن (علیه السلام) مع ابن العاص قوله (علیه السلام): «وأما أنت يا عمرو الشاني اللعين الأبتر...ثم كنت في كل مشهد يشهده رسول الله (صلی الله علیه و آله) من عدوه أشدهم له عداوة وأشدهم له تكذيباً! ثم كنت في أصحاب السفينة الذين أتوا النجاشي في الإشاطة بدم جعفر بن أبي طالب وساير المهاجرين فحاق المكر السئ بك، وجعل جدك الأسفل، وأبطل أمنيتك وخيب سعيك، وأكذب أحدوثتك وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا». الإحتجاج: 1/415.

ه. وكتم النجاشي إسلامه عن بطارقته ووزرائه خوفاً من معارضيه ومن

ص: 409

هرقل، أما الرسالة التي حملها اليه الضمري من النبي (صلی الله علیه و آله) فكانت في السنة السادسة عندما راسل ملوك العالم. «الطبقات 1/207» وهي غير رسالته التي أرسلها اليه بيد جعفر.

و. كانت الحبشة أو أثيوبيا، قاعدة حكم إفريقيا للروم، وكانت تدار من مصر، وقد نشر الرومان فيها المسيحية، وتعاظمت قوة الحبشة حتى احتلت اليمن وبنى أبرهة الحبشي حاكم اليمن من قبل الروم كنيسة في صنعاء، ليصرف اليها العرب بدل الكعبة، وقصد بجيشه مكة ليهدم الكعبة، فكانت قصة أصحاب الفيل عام ولادة النبي (صلی الله علیه و آله) . وبعد جيش الفيل بسنتين تمكن سيف بن ذي يزن بمساعدة الفرس من تحرير اليمن من الحبشة، فضعفت دولة الحبشة ونشب فيها الصراع الداخلي ثم حكمها النجاشي أصحمة، وكان عاقلاً عادلاً فأوقف تدهور الدولة.

وبعد وفاة النجاشي عاد الصراع الداخلي وضاقت الأمور على أهل الحبشة فأرسلوا إلى ابن النجاشي وكان أرسله والده إلى النبي (صلی الله علیه و آله)، يطلبون منه العودة لتتويجه عليهم فلم يقبل، لأنهم أرادوا منه أن يرجع عن الإسلام!

وتقدم قول النجاشي في رسالته إلى النبي (صلی الله علیه و آله): «وقد بعثت إليك بابني أرها بن الأصحم بن أبجر، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت».

وهذا يدل على أن وزراءه رؤساء القبائل الذين سماهم الروم بطارقة، لم يستجيبوا له، وأنه كان يتقيهم، فعرض على النبي (صلی الله علیه و آله) أن يترك ملك الحبشة ويأتيه، فأمره أن يبقى، وأمر جعفر بن أبي طالب أن يبقى عنده ويساعده.

أما ابنه «أرها» الذي أرسله فيبدو أنه أبو نيزر وكيل علي (علیه السلام) في استنباط عيون ينبع، وقد سمى أكبرها باسمه: «عين أبي نيزر».

قال الحموي في معجم البلدان: 4/175: «عين أبي نيزر.. روى يونس عن محمد بن إسحاق بن يسار أن أبا نيزر الذي تنسب إليه العين هو مولى علي بن أبي طالب رضيالله عنه كان ابناً للنجاشي ملك الحبشة الذي هاجر إليه المسلمون، لصلبه، وأن علياً وجده عند تاجر بمكة فاشتراه منه وأعتقه، مكافأة بما صنع أبوه مع المسلمين حين هاجروا إليه. وذكروا أن الحبشة مرج عليها أمرها بعد موت النجاشي، وأنهم أرسلوا

ص: 410

وفداً منهم إلى أبي نيزر وهو مع علي ليملكوه عليهم ويتوجوه ولا يختلفوا عليه، فأبى وقال: ما كنت لأطلب الملك بعد أن من الله علي بالإسلام! قال: وكان أبو نيزر من أطول الناس قامة وأحسنهم وجهاً، وقال: ولم يكن لونه كألوان الحبشة ولكنه إذا رأيته قلت هذا رجل عربي... قال المبرد... كان أبو نيزر من أبناء بعض الملوك الأعاجم، قال: وصح عندي بعد أنه من ولد النجاشي فرغب في الإسلام صغيراً فأتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكان معه في بيوته، فلما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) صار مع فاطمة وولدها رضيالله عنهم».

وفي سيرة ابن إسحاق: 4/202: «رأيت أبا نيزر بن النجاشي، فما رأيت رجلاً قط عربياً ولا عجمياً، أعظم ولا أطول ولا أوسم منه..الخ.». ولانقبل قولهم إن علياً (علیه السلام) اشتراه كغلام، بل أرسله والده لنصرة النبي (صلی الله علیه و آله) فكان حليفه، ثم حليف علي (علیه السلام) .

ز. روت المصادر مراسلات بين النبي (صلی الله علیه و آله) والنجاشي، وأنه كان بينهما هدايا متبادلة فمن ذلك: «أهدى النجاشي إلى رسول الله قارورة من غالية، وكان أول من عمل له الغالية». عمدة القاري: 13/168.

«أهدى ملك الروم إلى النبي (صلی الله علیه و آله) جبة سندس فبعث بها إلى جعفر، وقال أعطها إلى أخيك النجاشي». لسان العرب: 10/343، الطبقات: 1/456 وأبو داود: 2/258.

«أهدى النجاشي إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بغلة فكان يركبها». عيون الأثر: 2/411.

«أهدى له النجاشي خفين أسودين ساذجين فلبسهما. وأهدى له خاتماً من ذهب فدعا أمامة ابنة ابنته زينب فقال: تحلي بهذا يا بنية».المناقب: 1/147

و ابن ماجة: 1/182.

أرسل النجاشي مع جعفر: «بقدح من غالية وقطيفة منسوجة بالذهب هدية إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقدم جعفر والنبي بأرض خيبر، فأتاه بالقدح من الغالية والقطيفة فقال النبي (صلی الله علیه و آله): لأدفعن هذه القطيفة إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. فمد أصحاب النبي أعناقهم إليها، فقال النبي: يا علي خذ هذه القطيفة

ص: 411

إليك. فأخذها علي وأمهل حتى قدم إلى المدينة فانطلق إلى البقيع وهو سوق المدينة، فأمر صائغاً ففصل القطيفة سلكاً سلكاً فباع الذهب وكان ألف مثقال ففرقه علي في فقراء المهاجرين والأنصار، ثم رجع إلى منزله، ولم يبق له من الذهب قليل ولاكثير».دلائل الإمامة/144.

وأهدى له النجاشي حربة: «فكان بلال يحملها بين يديه يوم العيد، ويخرج بها في أسفاره فتركز بين يديه يصلي إليها. ويقولون هي التي تحمل المؤذنون بين يدي الخلفاء». «المناقب: 1/147». وصارت الحربة في رواياتهم ثلاثة للزبير وعمر وعلي! «فأما حربة علي فهلكت، وأما حربة عمر فصارت إلى أهله، وأما الحربة التي أمسك لنفسه، فهي التي يمشي بها مع الامام يوم العيد». تاريخ المدينة: 1/139.

وأهدى له النجاشي حلة مثل العباءة فأعطاها لعلي (علیه السلام) وكان يصلي فيها فجاءه سائل، فطرح الحلة إليه وأومى بيده أن احملها. حلية الأبرار: 2/279.

وبعث له النبي (صلی الله علیه و آله) عوذة للصداع يضعها في قلنسوته. مكارم الأخلاق/403.

وأهدى النجاشي إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ذات مرة، زنجبيلاً. الجرح والتعديل: 6/228.

وعندما ارتد المهاجر عبيدالله بن جحش، بعث النبي (صلی الله علیه و آله) إلى النجاشي أن يخطب له زوجته رملة بنت أبي سفيان، فوكلت خالد بن سعيد بن العاص وخطبها النجاشي: «ومهرها أربعة آلاف، ثم جهزها من عنده، فبعث بها إلى رسول الله مع شرحبيل بن حسنة وجهازها كله من عند النجاشي». البيهقي: 7/232.

«لما تزوج رسول الله (صلی الله علیه و آله) أم سلمة قال لها إني أهديت إلى النجاشي أواقاً من مسك وحلة وإني لا أراه إلا قد مات، ولا أرى الهدية التي أهديت إليه إلا سترد، فإذا ردت فهي لك..فكان كما قال (صلی الله علیه و آله)، فلما ردت إليه الهدية أعطى كل امرأة من نسائه أوقية من ذلك المسك وأعطى سائره أم سلمة». كبير الطبراني: 25/81.

وفي الخصال/359، عن الإمام الرضا عن آبائه:: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما أتاه جبرئيل بنعي النجاشي بكى بكاء حزين عليه وقال: إن أخاكم أصحمة - وهو اسم النجاشي - مات، ثم خرج إلى الجبانة وصلى عليه، وكبر سبعاً فخفض الله له كل مرتفع حتى

ص: 412

رأى جنازته، وهو بالحبشة».

وفي المناقب: 1/93: «فقالت المنافقون في ذلك! فجاءت الأخبار من كل جانب أنه مات في ذلك اليوم في تلك الساعةوما علم هرقل بموته إلا من تجار رأوا المدينة».

ح. دوَّن الرواة أسماء المهاجرين، ورووا أخبارهم في المهجر، وذكرت الروايات أن بعضهم رجع وشارك مع النبي (صلی الله علیه و آله) في معركة بدر وغيرها، كعمار وابن مسعود، وبعضهم كان يسافر إلى اليمن للتجارة، كخالد بن سعيد بن العاص، الذي أتى للنبي (صلی الله علیه و آله) من جرش بآلة حرب تشبه المنجنيق. إمتاع الأسماع: 2/21.

قال في الطبقات: 1/207: «فأقام المهاجرون بأرض الحبشة عند النجاشي بأحسن جوار، فلما سمعوا بمهاجر رسول الله إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً ومن النساء ثماني نسوة، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس بمكة سبعة نفر. وشهد بدراً منهم أربعة وعشرون رجلاً».

وأبقى النبي (صلی الله علیه و آله) جعفراً إلى السنة السابعة مع بضعة عشرمهاجر حتى أحضره وأنهى الهجرة «كان جميع من قدم في السفينتين ستة عشر رجلاً».ابن هشام:3/818.

ط. اخترع القرشيون قصة الغرانيق والآيات الشيطانية فافتروا على النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قرأ سورة النجم في المسجد، وأضاف اليها آيات ألقاها عليه الشيطان ومدح فيها أصنام قريش، فوصفها بقوله: «تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترجى»! وروتها مصادرهم بكثرة، وقال بخاري: 2/32: «قرأ سورة النجم فسجد بها فما بقي أحد من القوم إلا سجد، فأخذ رجل من القوم كفاً من حصى أو تراب، فرفعه إلى وجهه وقال: يكفيني هذا»! ورواها في أربعة مواضع: 2/32، 4/239، 5/7، 6/52!

وانفتح خيال رواة السلطة بأن المشركين فرحوا يومها باعتراف محمد (صلی الله علیه و آله) بآلهة قريش وسجد لها! وأضافوا أن المسلمين المهاجرين في الحبشة سمعوا بالخبر فرجعوا إلى مكة، لكنهم وجدوا أن جبرئيل نزل ووبخ النبي (صلی الله علیه و آله) فعادوا!

ص: 413

وصارت هذه الفرية مادة للمستشرقين فبنوا عليها طعنهم بالنبي (صلی الله علیه و آله) وكتبوا كتاب «الآيات الشيطانية»! وقد بحثنا ذلك في كتاب: ألف سؤال وإشكال: 1/136.

2- دور جعفر بن أبي طالب (رحمة الله) المميز في الحبشة

1. لم يكن جعفر بن أبي طالب (رحمة الله) بحاجة إلى الهجرة، لأنه مع شجاعته، محمي من أبيه وعشيرته، بل هو يحمي ويجير. كما أن إدارة أمور المهاجرين يمكن أن يقوم بها أحدهم، وفيهم شخصيات كخالد بن سعيد بن العاص. وإنما أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) معهم وأبقاه في الحبشة إلى السنة السابعة لإدارة جبهة الروم في الدعوة، وكانت الحبشة قاعدة الروم في إفريقيا، وهذا يفسر قول النبي (صلی الله علیه و آله) عن جعفر إنه في جهاد لله بأرض الحبشة! ففي تفسير القمي: 1/264: «نظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب وكان له سبعون سنة، فقال عبيدة: أما لوكان عمك حياً لعلم أني أولى بما قال منه! قال: وأي أعمامي تعني؟قال: أبوطالب، حيث يقول:

كذبتم وبيت الله نُبْزي محمداً *** ولما نطاعنْ دونه ونناضل

وننصره حتى نُصَرَّعَ حوله *** ونذهلَ عن أبنائنا والحلائل

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أما ترى ابنه كالليث العادي بين يدي الله ورسوله، وابنه الآخر في جهاد لله بأرض الحبشة؟! فقال: يا رسول الله أسخطت عليَّ في هذه الحالة؟ فقال: ما سخطت عليك، ولكن ذكرت عمي فانقبضت لذلك»!

وهذا يكشف عن مكانة أبي طالب (رحمة الله) عند النبي (صلی الله علیه و آله) فقد تأذى لمجرد تعريض ابن عمه عبيدة به وتفضيله نفسه عليه، مع أنه جاهد وقطعت رجله ثم استشهد! ومع ذلك قال له لاتؤذني في عمي ولا تفضل نفسك عليه، فقد نصرني أكثر منك في حياته، وهاهما ولداه ينصراني أكثر منك، هذا علي كالليث بين يدي الله ورسوله، وذاك جعفر في أرض الحبشة كل أوقاته جهاد لله تعالى!

فقد كان جعفر إذن في مهمة جهاد، يرعى شؤون المهاجرين ونشاطهم، ويوجه النجاشي في علاقته مع الروم وسياسته الداخلية مع البطارقة وهم ملوك الحبشة في

ص: 414

مناطقهم، وكانت الحبشة تمتد من اليمن إلى حدود مصر، وتشمل السودان!

وكان جعفر يزور البطارقة ويدعوهم إلى الإسلام، وجاء منهم بوفد إلى مكة للقاء النبي (صلی الله علیه و آله) ومشاهدة معجزاته، ولم تجرأ قريش على التعرض له ولضيوفه!

ففي تفسير القمي: 1/176: «ولد للنجاشي ابن فسماه محمداً.وبعث إليه «الى النبي (صلی الله علیه و آله)» بثياب وطيب وفرس، وبعث ثلاثين رجلاً من القسيسين فقال لهم: أنظروا إلى كلامه والى مقعده ومشربه ومصلاه، فلما وافوا المدينة دعاهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الإسلام وقرأ عليهم القرآن... فلما سمعوا ذلك من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكوا وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي، فأخبروه خبر رسول الله، وقرأوا عليه ما قرأ عليهم، فبكى النجاشي وبكى القسيسون».

وفي تفسير الطبري: 7/4، في قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى. قال: «هم الوفد الذين جاؤوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة».

ثم روى الطبري أن النجاشي بعث إلى النبي (صلی الله علیه و آله): «اثني عشر رجلاً من الحبشة، سبعة قسيسين وخمسة رهباناً ينظرون إليه ويسألونه، فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا، فأنزل الله عليه فيهم: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسيِنَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لايَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. فآمنوا ثم رجعوا إلى النجاشي، فهاجر النجاشي معهم، فمات في الطريق، فصلى عليه رسول الله والمسلمون واستغفروا له».

وفي تفسير القرطبي: 13/296: «قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وهم أربعون رجلاً، قدموا مع جعفر بن أبي طالب المدينة اثنان وثلاثون رجلاً من الحبشة، وثمانية نفر أقبلوا من الشام وكانوا أئمة النصارى: منهم بحيراء الراهب وأبرهة والأشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع. كذا سماهم الماوردي».

وقال ابن إسحاق: 4/199: «ثم قدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريباً من ذلك من النصارى حين ظهر خبره في الحبشة، فوجدوه في المسجد فجلسوا اليه فكلموه وساءلوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول

ص: 415

الكعبة، فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) عما أرادوا، دعاهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الله وتلى عليهم القرآن فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره.

فلما قاموا من عنده اعترضهم أبوجهل في نفر من قريش فقالوا: خيبكم الله من ركب! بعثكم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبرالرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم؟!

ما نعلم ركباً أحمق منكم! أو كما قالوا لهم. فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا نألو أنفسنا خيراً»!

ثم روى ابن إسحاق، أن النجاشي بعث إلى النبي (صلی الله علیه و آله) اثني عشر رجلاً يسألونه ويأتونه بخبره، فقرأ عليهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) القرآن فبكوا وكان فيهم سبعة رهبان وخمسة قسيسين أو خمسة رهبان وسبعة قسيسين، ففيهم أنزل الله: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ..». ونحوه القرطبي: 6/255، ابن كثير: 3/405

وابن هشام: 1/263.

«وهذا يدل على عدة وفود رتب سفرهم إلى مكة جعفر وعلي (علیه السلام) والنجاشي وكان مجئ وفود القساوسة تحدياً كبيراً لقريش، خاصة وأنهم التقوا بالنبي (صلی الله علیه و آله) في المسجد وأسلموا على يده، واعترضهم أبوجهل فأجابه القساوسة فسكت، ولو قام بعمل ضدهم لحماهم جعفر وعلي (علیهما السلام)،لأنهم ضيوف النبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم!

كما تشير هذه الروايات وغيرها إلى أن جعفراً (رحمة الله) أتى بوفود علماء النصارى من الحبشة ونجران والشام، والتقوا برسول الله (صلی الله علیه و آله) وأسلم عدد منهم!

كما ورد أن علياً (علیه السلام) سافر مرة إلى الحبشة مع جعفر، فقد كان النبي (صلی الله علیه و آله) يرسله في مهمات خاصة غير معلنة. روى في المناقب: 1/289، عن ابن عباس قال: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأنصار: نزلت في أميرالمؤمنين (علیه السلام) سبق الناس كلهم بالإيمان، وصلى إلى القبلتين، وبايع البيعتين بيعة بدر وبيعة الرضوان، وهاجر الهجرتين مع جعفر من مكة إلى الحبشة، ومن الحبشة إلى المدينة». ومعناه أن هجرة علي (علیه السلام) كانت مع جعفر في إحدى

ص: 416

رجعاته من الحبشة إلى مكة.

2. تدل أحاديث جعفر في الحبشة على أنه أحدث تياراً للدخول في الإسلام، في قساوسة الحبشة والجزيرة والشام ومصر، ولا بد أن يكون إسلامهم مؤثراً على أتباعهم، وبه نفسر ردة فعل الروم القوية ضد النجاشي وضد النبي (صلی الله علیه و آله)، لكنهم كانوا مشغولين بمعاركهم مع الفرس في سوريا وفلسطين ومصر.

كما نقرأ في الحبشة عن ثورة لخصوم النجاشي من وراء النيل لإسقاط حكمه، وكانت حركتهم قوية، وجيشهم كبيراً كما وصفته أم سلمة، وقد طلب المهاجرون من النجاشي أن يقاتلوا معه،فلم يقبل. الحاكم: 2/300.

وفي السيرة الحلبية: 3/301 أن عمرو بن العاص أخبر جيفر بن الجلندي ملك عُمان بإسلام النجاشي فسأله: «فكيف صنع قومه بملكه؟ قلت: أقروه واتبعوه. قال: والأساقفة أي رؤساء النصرانية والرهبان؟ قلت: نعم.قال أنظر يا عمرو ماتقول! إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له أي أكثر فضيحة من كذب! قلت: وما كذبت وما نستحله في ديننا. ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي»!

والظاهر أن النجاشي لم يعلن إسلامه إلا في نطاق محدود، وأن هرقل عرف بإسلامه، لكنه كان مشغولاً بحربه للفرس، ثم حرك ضد النجاشي من استطاع من الملوك «البطارقة» فقاتلوا النجاشي فنصره الله عليهم!

ثم وضع هرقل بعد انتصاره على الفرس خطة للقضاء النبي (صلی الله علیه و آله)، كما يأتي في حرب مؤتة وتبوك.

ص: 417

الفصل الثاني والعشرون: محاصرة قريش لبني هاشم في شعب أبي طالب

1- مؤتمر زعماء قريش لإجبار بني هاشم على تسليم النبي (صلی الله علیه و آله)

بعد هلاك المستهزئين الخمسة، رأى زعماء قريش أن الإسلام أخذ ينتشر في أبنائهم وعبيدهم، ولم يستطيعوا إيقافه بتهديد النبي (صلی الله علیه و آله) وتعذيب من يسلم من المستضعفين! عندها تنادت بطون قريش إلى مؤتمر في منى، للإتفاق على مقاطعة بني هاشم مقاطعة تامة، حتى يُسَلِّموهم محمداً (صلی الله علیه و آله) فيقتلوه!

واجتمع معهم قبيلة كنانة، وكتبوا صحيفة المقاطعة، وقعها أربعون شيخاً، وفي رواية اليعقوبي ثمانون شيخاً، على نفي بني هاشم من مكة، ومقاطعتهم حتى يسلموهم محمداً (صلی الله علیه و آله)! وتُعرف هذه الوثيقة بالصحيفة الملعونة الأولى، لأن قريشاً كتبت بعدها في أيام حجة الوداع الصحيفة الملعونة الثانية، تعاهدت فيها على أنه إن مات محمد لا ندع خلافته تصل إلى أهل بيته! وقد روي أنهم تعاهدوا عليها في الكعبة، وأودعوها عند أبي عبيدة بن الجراح، وسيأتي خبرها.

قال في المناقب: 1/57: «لما رأت قريش أنه (صلی الله علیه و آله) يفشو أمره في القبائل وأن حمزة أسلم «أعلن إسلامه» وأن عمرو بن العاص رُدَّ في حاجته عند النجاشي، فأجمعوا أمرهم ومكرهم على أن يقتلوا رسول الله علانية، فلما رأى ذلك أبوطالب جمع بني عبدالمطلب، فأجمع لهم أمرهم على أن يُدخلوا رسول الله شعبهم.. وكانوا أربعين رجلاً، مؤمنهم وكافرهم، ما خلا أبا لهب».

وقال ابن إسحاق: 2/140و139: «فلما قدم عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة إلى

ص: 418

قريش، وأخبروهم بالذي قال النجاشي لمحمد وأصحابه، اشتد وجدهم وآذوا النبي (صلی الله علیه و آله) وأصحابه أذى شديداً، وضربوهم في كل طريق، وحصروهم في شعبهم، وقطعوا عنهم المادة من الأسواق، فلم يدعوا أحداً من الناس يُدخل عليهم طعاماً ولا شيئاً مما يرفق بهم!

وكانوا يخرجون من الشعب إلى الموسم، وكانت قريش تبادرهم إلى الأسواق فيشترونها ويُغْلُونها عليهم! ونادى منادي الوليد بن المغيرة «وهومنادي أبي جهل»

في قريش: أيما رجل وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه!

وانطلق بهم أبوطالب فقاموا بين أستار الكعبة، فدعوا الله على ظلم قومهم لهم وقطيعتهم أرحامهم واجتماعهم على محاربتهم، وتناولهم بسفك دمائهم، فقال أبوطالب: اللهم إن أبى قومنا إلا النصر علينا فعجل نصرنا، وحُلْ بينهم وبين قتل ابن أخي. ثم أقبل إلى جمع قريش وهم ينظرون اليه والى أصحابه فقال أبوطالب: ندعو برب هذا البيت على القاطع المنتهك للمحارم. والله لتنتهين عن الذي تريدون، أو لينزلن الله بكم في قطيعتنا بعض الذي تكرهون! فأجابوه: إنكم يا بني عبدالمطلب لاصلح بيننا وبينكم ولا رحم إلا على قتل هذا الصابي السفيه! ثم عمد أبوطالب فأدخل الشعب ابن أخيه وبني أبيه، ومن اتبعهم من بين مؤمن دخل لنصرة الله ونصرة رسوله، ومن بين مشرك يحمي، فدخلوا شعبهم وهو شعب أبي طالب في ناحية من مكة».

2- أعطونا ابنكم لنقتله، وإلا--

كان اليهود ينكرون نبوة أنبيائهم: ثم يقتلونهم، ولم يقولوا يوماً نعترف بنبوة نبي ونقتله! لكن القرشيين قالوا حتى لوكان محمد نبياً مرسلاً من الله فلا نؤمن به ونريد قتله، لأن موتنا أفضل من الإيمان برسول من بني هاشم: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَالْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ! فجمعوا تكبر اليهود وجلافة البدو معاً، فهم يصرون على قتله (صلی الله علیه و آله)، ولا تهمهم معجزاته!

ص: 419

من جهة ثانية: لاتجد قوماً أرادوا قتل شخص، لكنهم كانوا يخافون من عشيرته، فقرروا أن يضغطوا عليهم حتى يسلموهم ابنهم بأيديهم فيقتلوه! فهو موقف يجمع: العناد، والتكبر، والجبن، والحقارة جميعاً، وصفات أخرى معها!

وقد اجتمعت كلها في محاصرتهم بني هاشم وتجويعهم إياهم مع أطفالهم، حتى يخضعوا ويسلموهم النبي (صلی الله علیه و آله) فيقتلوه!

وكانوا يرون حالة بني هاشم من الحصار أربع سنوات أو أكثر، ويسمعون تضوَّر أطفالهم من الجوع، لكنهم حرموا الرأفة بهم، وحرموا أي نوع من التفاوض تحت أي ظروف! «لايقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً،ولايأخذهم بهم رأفة، حتى يسلموه للقتل»! الدرر لابن عبدالبر/54، سبل الهدى: 10/59 وعيون الأثر: 1/165.

3- النبي (صلی الله علیه و آله) يخلد مكان المؤتمر وطغيان زعمائه

توجه النبي (صلی الله علیه و آله) إلى مكة فاتحاً، فأراد أن يُخَلِّد في وجدان المسلمين مؤامرة قريش ولؤمهم، فأعلن: «منزلنا إذا فتح الله تعالى علينا مكة في خِيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر». السيرة الحلبية: 3/27.

ثم أكد ذلك عندما توجه إلى معركة حنين، فقال: «منزلنا غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر»! البخاري: 5/92.

ثم أكد ذلك بعد سنتين في حجة الوداع، فقال (صلی الله علیه و آله) يوم التروية: «منزلنا غداً إن شاء الله تعالى بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر». البخاري: 2/158.

ثم أكد ذلك عندما عاد من عرفات، فقال يوم النحر: «نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر. يعني بذلك المحصب». البخاري: 4/247.

فقد كان هدف زعماء قريش أن يشددوا على بني هاشم ليسلموهم النبي (صلی الله علیه و آله) فيقتلوه، ولما عجزوا عن قتله، وانتصر عليهم وأقام دولة، صار هدفهم أن يعزلوهم أهل بيته عن خلافته ويأخذوا دولته!

لذلك اهتم النبي (صلی الله علیه و آله) أن يحفظ المسلمون تلك الحادثة الخطيرة التي وقعت في هذا

ص: 420

المكان، ويحفظوا كيد فراعنة قريش الذي فاق كيد اليهود!فقد تقاسموا باللات والعزى ومناة على قتل النبي (صلی الله علیه و آله) بأي طريقة، غيلة أو علانية، وعلى مقاطعة بني هاشم مقاطعة كاملة شاملة، حتى يسلموه لهم للقتل! وذنبه أن الله أرسله نبياً، وهم لايريدون نبياً من بني هاشم، حتى لو كان صادقاً!

وحاصروا بني هاشم أربع سنين وأكثر، وضيقوا عليهم حتى أكل أطفالهم ورق الشجر من الجوع، ومصوا الرمل الرطب من العطش!

فكان هدف النبي (صلی الله علیه و آله) تخليد الحادثة بمكانها وزعمائها لتعرف أجيال المسلمين أن معدن الكفر في هؤلاء الذين أخضعهم في فتح مكة بسيوف بني هاشم والأنصار، وأنهم سيعودون لوراثة دولة الإسلام وإبعاد عترة النبي (صلی الله علیه و آله)!

وعندما أطلق النبي (صلی الله علیه و آله) كلامه كان عدد من قادة مؤتمر الكفر قد ماتوا، لكن عدداً منهم ما زالوا أحياء ينظرون ويسمعون! كسهيل بن عمرو، وأبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية بن خلف، وحكيم بن حزام، وصهيب بن سنان، وأبي الأعور السلمي، وغيرهم.كانوا حاضرين في حجة الوداع يسمعون كلامه، ويتعجبون من عفوه عنهم! لكنه (صلی الله علیه و آله) كان ينفذ أمر ربه، ويعلم أجيال المسلمين أن الخطر على الإسلام من قريش وحدها، فبقية القبائل تبعٌ لها!

وفي مقابل عمله (صلی الله علیه و آله) عَمِلَ زعماء قريش لينسى المسلمون الجريمة ومكانها وأشخاصها وطمستها قريش بعد النبي (صلی الله علیه و آله)! ولم يحفظها إلا آل النبي (صلی الله علیه و آله) وشيعتهم، فصار خيف بني كنانة أو محصَّب منى منزل بني هاشم إلى يمين الداخل إلى منى!

وقد تعجبت هذه السنة 1429 من أن الوهابيين أقاموا رمز مسجد لمكان بيعة الأنصار للنبي (صلی الله علیه و آله) قرب جمرة العقبة، لكن لم يقيموا رمزاً لمؤتمر الكفر القرشي!

كما حرصوا على إزالة شِعب أبي طالب من أساسه، ابتداءً بمكان مولد النبي (صلی الله علیه و آله) فمنعتهم الحكومة خوفاً من المسلمين، فأبقوه خرباً كتب عليه:

«مكتبة مكة»!

ص: 421

4- أبوطالب يُحَصِّن الشِّعْب ويحرس النبي (صلی الله علیه و آله)!

بعد قرار قريش مقاطعة بني هاشم، وجدوا أنفسهم مضطرين لترك بيوتهم والتجمع في نقطة واحدة لحفظ حياة النبي (صلی الله علیه و آله) فاختاروا الشِّعْبَ حيهم القديم: «وكان دخولهم الشعب هلال المحرم سنة سبع». الحلبية: 2/25.

وحصَّنَ أبوطالب (رحمة الله) الشِّعْب، وفرض الحراسة على رجال بني هاشم لمدخله والنقاط الضعيفة فيه من جهة الجبال والتلال المحيطة.

قال في النزاع والتخاصم/67: «واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهوداً ومواثيق: أن لايقبلوا من بني هاشم أبداً صلحاً ولاتأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل! فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا تركوا طعاماً يقدم مكة ولا بيعاً إلا بادروهم إليه فاشتروه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله»!

وفي المناقب: 1/57: «كان النبي (صلی الله علیه و آله) إذا أخذ مضجعه ونامت العيون جاءه أبوطالب فأنهضه عن مضجعه وأضجع علياً (علیه السلام) مكانه، ووكل عليه وُلْدَهُ وَوُلد أخيه، فقال علي (علیه السلام): يا أبتاه إني مقتول ذات ليلة، فقال أبوطالب:

إصبرن يا بنيَّ فالصبر أحجى *** كل حيٍّ مصيرُه لشَعوب

قد بلوناك والبلاء شديد *** لفداء النجيب وابن النجيب

لفداء الأعز ذي الحسب الثاقب *** والباع والفناء الرحيب

إن تصبك المنون بالنبل تبرى *** فمصيب منها وغير مصيب

كل حي وإن تطاول عمراً *** آخذٌ من سهامها بنصيب

فأجابه علي (علیه السلام):

أتأمرني بالصبر في نصر أحمدٍ *** ووالله ما قلتُ الذي قلتُ جازعا

ولكنني أحببت أن ترَ نُصرتي *** وتعلم أني لم أزل لك طائعا

وسعيي لوجه الله في نصر أحمد *** نبي الهدى المحمود طفلاً ويافع

أقول: هذه الرواية لاتتناسب مع شجاعة علي (علیه السلام)، لكن هدف إفهام الآخرين.

ص: 422

5- بعد سنوات الحصار جاءت المعجزة الإلهية

«أوحى الله عزوجل إليه أنه قد بعث أَرَضَةً على الصحيفة المكتوبة بين قريش في هجران النبي (صلی الله علیه و آله) وجميع بني هاشم، المختومة بأربعين خاتماً، المعدلة عند زمعة بن الأسود، فأكلت ما كان فيها من قطيعة رحم، وتركت ما كان فيها من اسم الله عزوجل». الهداية للصدوق/144.

وقال الطبرسي في إعلام الورى: 1/ه127: «فلما أتى لرسول الله (صلی الله علیه و آله) الشعب أربع سنين بعث الله على صحيفتهم القاطعة دابة الأرض فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور، وتركت إسم الله! ونزل جبرئيل (علیه السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره بذلك، فأخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أباطالب (علیه السلام) فقام أبوطالب ولبس ثيابه، ثم مشى حتى دخل المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه، فلما بصروا به قالوا: قد ضجر أبوطالب وجاء الآن ليسلم ابن أخيه».

وقال ابن سعد في الطبقات: 1/208: «وحصروا بني هاشم في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع..وقطعوا عنهم الميرة والمادة، فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم، حتى بلغهم الجهد وسمع أصوات صبيانهم من وراء الشعب. فأرسل الله عزوجل على الصحيفة دابة فأكلت كل شئ إلا اسم الله عزوجل. فأرسلوا إلى الصحيفة ففتحوها فإذا هي كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسقط في أيديهم، ونكسوا على رؤوسهم! فقال أبوطالب: علامَ نُحبس ونُحصر وقد بان الأمر! ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة فقال: اللهم انصرنا ممن ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم عليه منا! ثم انصرفوا إلى الشعب»!

6- سنوات الحصار والشدائد على بني هاشم

كتب أميرالمؤمنين (علیه السلام) في جواب لمعاوية: «أما بعد، فإن أخا خولان أتاني منك بكتاب تذكر فيه محمداً (صلی الله علیه و آله)، والحمد لله الذي صدق له الوعد، ومكن له في البلاد، وأظهره على أهل عداوته والشنآن من قومه، الذين ألبوا عليه العرب،

ص: 423

وهم قومه الأدنى فالأدنى، إلا قليلاً ممن عصمه الله.

كنا أهل البیت أول من آمن وصدق بما أرسل به، فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا وهموا بنا الهموم، وفعلوا بنا الأفاعيل، وأمسكوا منا المادة، وقطعوا عنا الميرة، ومنعونا الماء العذب، وأحلونا الخوف، واضطرونا إلى جبل وعر، وكتبوا بينهم كتاباً أن لا يواكلونا ولا يشاربونا ولا يبايعونا ولا يناكحونا ولا نأمن فيهم، حتى ندفع إليهم نبينا (صلی الله علیه و آله) فيقتلوه ويمثلوا به! فعزم الله على منعه والذب عن حوزته، فمؤمننا يرجو الثواب، وكافرنا يحامي عن الأصل، وأنا أول أهل بيتي إسلاماً معه، ومن أسلم بعدنا أهل البیت من قريش فحليف ممنوع، وذو عشيرة تحامي عنه».

المناقب للخوارزمي/251.

وقال في إعلام الورى: 1/125: «كتبوا صحيفة بينهم إنهم يدٌ واحدة على محمد يقتلونه غيلةً أو صراحاً، فلما بلغ ذلك أباطالب جمع بني هاشم، ودخلوا الشعب، وكانوا أربعين رجلاً فحلف لهم أبوطالب بالكعبة والحرم والركن والمقام، إن شاكت محمداً شوكة، لآتينَّ عليكم يا بني هاشم!

وحَصَّن الشعب وكان يحرسه بالليل والنهار، فإذا جاء الليل يقوم بالسيف عليه ورسول الله (صلی الله علیه و آله) مضطجع، ثم يقيمه ويضجعه في موضع آخر، فلا يزال الليل كله هكذا، ويوكل وُلده ووُلد أخيه به يحرسونه بالنهار، فأصابهم الجهد!

وكان من دخل مكة من العرب لايجسر أن يبيع من بني هاشم شيئاً! ومن باع منهم شيئاً انتهبوا ماله، وكان أبوجهل، والعاص بن وائل السهمي، والنضر بن الحارث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط، يخرجون إلى الطرقات التي تدخل مكة فمن رأوه معه ميرة نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً، ويحذرونه إن باع شيئاً منهم أن ينهبوا ماله! وختموا الصحيفة بأربعين خاتماً، ختمه كل رجل من رؤساء قريش بخاتمه وعلقوها في الكعبة، وتابعهم أبولهب على ذلك!

فلم تزل هذه حاله فبقوا في الشعب أربع سنين، لا يأمنون إلا من موسم إلى موسم، ولا يشترون ولا يبايعون إلا في الموسم! وكان يقوم بمكة موسمان في كل سنة: موسم

ص: 424

للعمرة في رجب، وموسم للحج في ذي الحجة. وكان إذا اجتمعت المواسم تخرج بنو هاشم من الشعب فيشترون ويبيعون، ثم لايجسر أحد منهم أن يخرج إلى الموسم الثاني، فأصابهم الجهد وجاعوا، وبعثت قريش إلى أبي طالب: إدفع إلينا محمداً حتى نقتله، ونملكك علينا»!

وقال اليعقوبي: 2/31: «حصرت قريش رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته من بني هاشم و

بني المطلب بن عبدمناف، في الشعب الذي يقال له شعب بني هاشم، بعد ست سنين من مبعثه، فأقام ومعه جميع بني هاشم وبني المطلب في الشعب ثلاث سنين «وأكثر» حتى أنفق رسول الله ماله، وأنفق أبوطالب ماله، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها «الذي وصلت اليه يدها» وصاروا إلى حد الضر والفاقة».

وفي الخرائج: 1/85: «فلقوا من الجوع والعري ما الله أعلم به»!

وفي السيرة الحلبية: 2/52: «جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر»!

وقال المحامي الأردني أحمد حسين يعقوب في كتابه: المواجهة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) /175: «وعانوا الحرمان والجوع، فأكلوا نبات الأرض، وأخذ الأطفال يَمُصُّون الرمال من العطش، وكانت بطون قريش تشاهد كل هذا وتتلذذ به، دون أي إحساس بالحرج! ولكن الهاشميين لم يركعوا ولم يستسلموا، ولم يستجيبوا لبطون قريش في طلبها تسليم النبي. لقد تحملوا ما لم تتحمله قبيلة على وجه الأرض في سبيل محمد (صلی الله علیه و آله) وفي سبيل دينه ولولا صبرهم وثباتهم لقتلت البطون رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما قتل غيره من الأنبياء وأجهضت دعوته في مهدها، ولكن الله أراد أن يظهر دينه، وأن يتحمل البطن الهاشمي أعباء مرحلة التأسيس الحاسمة.

ثم أوحى الله تعالى لنبيه (صلی الله علیه و آله) أنه أرسل حشرة أكلت صحيفة الحصار ولم تُبق من كتابتها إلا إسم الله. وما أن انتهى جبريل من إلقاء تلك البشارة العظيمة حتى نهض رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبر عمه بتفاصيل خبر السماء، وعلى إثر ذلك توجه النبي وأبوطالب والهاشميون جميعاً إلى مكة.

ص: 425

أقبلت قريش تريد الوقوف على حقيقة الأمر، وهي تظن أباطالب قد جاء ليعلن استسلامه واستسلام بني هاشم، ولكن أباطالب طلب من زعماء الشرك أن يحضروا صحيفة الحصار، فلما فعلوا ذلك قال لهم: أليست هذه صحيفتكم على العهد الذي تركتموها فيه؟ فقالت زعامة البطون: نعم. فقال أبوطالب: فهل أحدثتم فيها حدثاً؟ فقالوا: اللهم لا. فقال لهم: لقد أعلمني محمد عن ربه أن الله قد بعث الأرضة فأكلت كل ما فيها إلا ذكر الله، أفرأيتم إن كان صادقاً ما تصنعون؟ فقالت زعامة البطون: نكف ونمسك. فقال أبوطالب: فإن كان كاذباً دفعته إليكم تقتلونه! فقالوا: قد أنصفت وأجملت. وفُضَّت الصحيفة فإذا كل ما فيها قد محي إلا مواقع اسم الله عزوجل، وبهتت زعامة الشرك وأسلم على أثر هذه المعجزة عدد من الناس، وأعلن أبوطالب أنه على الدين الحق، واهتزت شرعية الحصار والمقاطعة.

إن للهاشميين فضلاً على كل مسلم ومسلمة إلى يوم الدين، فلولا موقفهم الحاسم المشرف بقيادة أبي طالب، لتمكنت بطون قريش من قتل محمد (صلی الله علیه و آله) ولما قامت للإسلام قائمة! ومن المهازل أن تقوم السلطات التي سيطرت على مقاليد أمور المسلمين فيما بعد بتصوير أبي طالب مشركاً وتنكر كفاحه وجهاد أبنائه، وتفرض مسبتهم على المنابر، ولا تقبل شهادة من يواليهم، وتلقي في أذهان العامة والغوغاء أن الهاشميين ماتوا بموت محمد، وأنهم لم يخلقوا للقيادة، وإنما خلقوا ليكونوا أتباعاً لخلفاء بطون قريش، وأن الخلافة حق خالص للبطون، مثلما كانت النبوة حقاً خالصاً للهاشميين، وأن هذه القسمة هي القسمة العادلة، وكأن البطون هي المخولة بتوزيع فضل الله تعالى».

7- أبوطالب يؤرخ بقصائده حصار الشعب

أرَّخَ أبوطالب (رحمة الله) محاصرة قريش للنبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم، بأكثر من عشرقصائد شرح فيها إصرارهم على قتل النبي (صلی الله علیه و آله) موقفه الحاسم في مقاومتهم، ومدح النبي (صلی الله علیه و آله) وأعلن إسلامه، وهذا بعضها من سيرة ابن إسحاق: 2/141 وغيرها:

«كان أبوطالب يخاف أن يغتالوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليلاً أو سراً فكان رسول الله إذا

ص: 426

أخذ مضجعه أو رقد، بعثه أبوطالب من فراشه وجعله بينه وبين بنيه، خشية أن يقتلوه! فقال أبوطالب وهو يذكر ما طلبوا من محمد وما حشدوهم في كل موسم يمنعونهم أن يبتاعوا بعض ما يصلحهم، وذكره في الشعر:

ألا هل أتى بَحْرِيَّنَا صُنْعُ ربنا *** على نأيهم والأمر بالناس أور

ألم يأتهم أن الصحيفة أُفسدت *** وكل الذي لم يُرضه الله مُفْسَد

وكانت أحق رقعة بأثيمة *** يُقَطَّع فيها ساعد ومقلد

فمن يك ذا عزٍّ بمكة مثله *** فعزتنا في بطن مكة أتلد

نشأنا بها والناس فيها أقلة *** فلم ننفكك نزداد خيراً ونمجد

جزى الله رهطاً بالحجون تتابعوا *** بنصر امرئ يهدي لخير ويرشد

قعوداً لدى خطم الحجون كأنهم *** مقاولة، بل هم أعز وأمجد

أعان عليها كل صقر كأنه *** إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد

جرى على جُلَّى الخطوب كأنه *** شهاب بكفٍّ قابس يتوقد

من الأكرمين من لؤي بن غالب *** إذا سيم خسفاً وجهه يتربد

عظيم الرماد سيد وابن سيد *** يحض على مقري الضيوف ويحشد

قضوا ماقضوا في ليلهم ثم أصبحوا *** على مهل سائر الناس رقَّد

متى شرك الأقوام في جل أمرنا *** وكنا قديماً قبلها نتودد

وكنا قديماً لا نقر ظلامة *** وندرك ما شئنا ولا نتشدد

فيا لقصيٍّ هل لكم في نفوسكم *** وهل لكم فيما يجيء به غد

فإني وإياكم كما قال قائل *** لديك البيان لو تكلمت أسود»

ويقصد ب«بحرينا» جعفر بن أبي طالب (علیه السلام) . راجع: سيرة ابن إسحاق: 2/138، ابن هشام: 1/234 و253، الطبقات: 1/210، المناقب: 1/57، إعلام الورى: 1/125، أنساب الأشراف/31 وأبوطالب حامي الرسول/30.

ألا من لهمٍّ آخر الليل معتمِ *** طواني وأخوى النجم لم يتقحمِ

ص: 427

طواني وقد نامت عيون كثيرة *** وسائر أخرى ساهرٌ لم ينوم

لأحلام أقوامٍ أرادوا محمداً *** بسوء ومن لا يتقي الظلم يُظلم

سعوا سفهاًواقتادهم سوء رأيهم *** على قلل من رأيهم غير محكم

رجاء أمور لم ينالوا نظامها *** وإن حشدوا في كل نفر وموسم

يرجون أن نسخى بقتل محمد *** ولم تختضب سمر العوالي من الدم

يرجون منا خطة دون نيلها *** ضراب وطعن بالوشيح المقوم

كذبتم وبيت الله لا تقتلونه *** جماجم تلقى بالحطيم وزمزم

وتقطع أرحام وتنسى حليلةٌ *** خليلاً وتغشى محرماً بعد محرم

وينهض قوم في الدروع إليكم *** يذبون عن أحسابهم كل مجرم

 

وقالوا خطة جوراً وحمقاً *** وبعض القول أبلج مستقيم

لتخرج هاشم فيصير منها *** بلاقع بطن مكة والحطيم

فمهلاً قومنا لا تركبونا *** بمظلمة لها أمر وخيم

فيندم بعضكم ويذل بعض *** وليس بمفلح أبداً ظلوم

فلا والراقصات بكل خرق *** إلى معمور مكة لا يريم

طوال الدهر حتى تقتلونا *** ونقتلكم وتلتقيَ الخصوم

ويعلم معشر قطعوا وعقوا *** بأنهم هم الجلد الظليم

أرادوا قتل أحمد ظالموه *** وليس لقتله فيهم زعيم

ودون محمد فتيان قوم *** هم العرنين والعضو الصميم

 

ألا أبلغا عني على ذات نأيها ج *** لؤياً وخُصَّا من لؤيٍّ بني كعب

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً *** نبياً كموسى خُطَّ في أول الكتب

ص: 428

وأن عليه في العباد محبة *** ولا خير فيمن خصه الله بالخَبِّ

وأن الذي أضفيتم في كتابكم *** لكم كائنٌ نحساً كراغية السقب

أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى *** ويصبح من لم يجن ذنباً كذي الذنب

ولا تتبعوا أمر الغواة وتقطعوا ج *** أياصرنا بعد المودة والقرب

وتستجلبوا حرباً عواناً وربما ج *** أمرُّ على من ذاقه حلب الحرب

ولسنا ورب البيت نسلم أحمداً *** على الحال من عض الزمان ولا كرب

أليس أبونا هاشمٌ شد أزره ج *** وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب

ولسنا نمل الحرب حتى تملنا ج *** ولا نشتكي مما ينوب من النكب

ولكننا أهل الحفاظ ذووا النهى *** إذا طار أرواح الكماة من الرعب

وقوله (رحمة الله): نحساً كراغية السقب، يحذرهم من يوم كأصحاب ناقة صالح (علیه السلام) .

ألا أبلغا عني لؤياً رسالة *** بحق وما تغني رسالة مرسل

بني عمنا الأدنين تيماً نخصهم *** وإخوتنا من عبد شمس ونوفل

أظاهرتم قوماً علينا ولايةج *** وأمر غويٍّ من غواة وجُهَّل

يقولون إنا إن قتلنا محمداً *** أقرت نواصي هاشم بالتذلل

كذبتم ورب الهديِ تُدمى نحورها *** بمكة والركن العتيق المقبَّل

تنالونه أو تبطلون لقتله *** صوارم تُفري كل عظم ومفصل

وتدعو بويل أنتم إن ظلمتم *** مقاليد في يوم أغر محجل

فمهلاً ولما تنتح الحرب بكرها *** وتأتي تماماً أو بآخر معجل

وأنا متى ما نُمْرِها بسيوفنا *** تجلجل فنعرك من نشاء بكلكل

ويعلو ربيع الأبطحين محمد *** على ربوة من رأس عنقاء عيطل

ويأوي إليها هاشم إن هاشماً *** عرانين كعب آخراً بعد أول

فإن كنتم ترجون قتل محمد *** فروموا بما جمعتم نفل يذبل

ص: 429

فإنا سنحميه بكلٍّ وطمرةج *** وذي ميعة نهد المواكل هيكل

وكل رديني ظماءٌ كعوبه *** وغضب كإيماض الغمامة يفصل

بأيمان شم من ذؤابة هاشم *** مغاوير الأبطال في كل محفل

 

تطاول ليلي بهم نصبْ *** ودمعي كسحِّ السِّقاء السَّرِبْ

ولعبُ قُصي بأحلامها *** وهل يرجع الحلمُ بعد اللعب

ونفيُ قصيٍّ بني هاشمٍ *** كنفي الطُّهاة لِطافَ الحطب

وقولٌ لأحمد أنت امرؤ *** خلوق الحديث ضعيف النسب

ألا إن أحمد قد جاءهم *** بحق ولم يأتهم بالكذب

 

وقد كان من أمر الصحيفة عبرة *** متى ما يُخَبَّرْ غائبُ القوم يعجب

محا الله منها كفرهم وعقوقهم *** وما نقموا من ناطق الحق معرب

وأصبح ما قالوا من الأمر باطلاً *** ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب

وأمسى ابن عبدالله فينا مصدقاً ج *** على سخط من قومنا غير معتب

فلا تحسبونا خاذلين محمداً *** لدى غربة منا ولا متقرب

ستمنعه منا يد هاشميةٌ *** مركبها في الناس خير مركب

فلا والذي تخذى له كل نضوة *** طليحٌ نجيُّ نجلةٍ فالمحصب

يميناً صدقنا الله فيها ولم نكن *** لنحلف كذباً بالعتيق المحجب

نفارقه حتى نصرع حوله *** وما نال تكذيب النبي المقرب

ويظهر من شعر أبيطالب (رحمة الله) أن قريشاً كانت تريد قتل النبي (صلی الله علیه و آله) وإجلاء بني هاشم من مكة! وقد أحبط الله هدفها بموقف أبيطالب (رحمة الله) وبني هاشم.

ص: 430

8- رواة الخلافة جعلوا لؤم قريش نبلاً!

شارك كل زعماء قريش في صحيفة المقاطعة والمحاصرة، فلم يشذ منهم زعيم عن توقيعها، ولا تهاون في تنفيذها! لكن بعد انتصار النبي (صلی الله علیه و آله) عليهم بالآية الربانية جعلت الخلافة القرشية زعماء قريش قمة في النبل والإنسانية! وزعمت أن خمسة أو سبعة منهم «تلاوموا» وقرروا «نقض الصحيفة الظالمة» وعملوا وعرضوا أنفسهم لأخطار، حتى تمكنوا من نقض الصحيفة!

«وزعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) شكر لهم صنيعهم! وأوصى المسلمين أن لاتقتلوا فلاناً لأنه لم يؤذني! وفلاناً لأنه كان خيِّراً باراً، وبطلاً من أبطال نقض الصحيفة! وجعلوهم خمسة» «ابن إسحاق 2/145»: هشام بن عمرو بن ربيعة، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة بن مخزوم، ومطعم بن عدي، وأبي البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد. «ثم إن المطعم بن عدي قام إلى الصحيفة فشقها فوجد الأرضة قد أكلتها»! ونظموا في مدحهم 2/37:

«فتية بيتوا على فعل خير *** حمد الصبح أمره والمساء

يالأمر أتاه بعد هشام *** زمعة إنه الفتى الأتَّاءُ

وزهير والمطعم بن عدي *** وأبو البحتري من حيث شاءوا

نقضوا مبرم الصحيفة إذ شد *** دت عليه من العدا الأنداء»!

وزعموا أن شاعرالنبي (صلی الله علیه و آله) رثى مطعماً، قال ابن هشام: 1/255: «وقال حسان بن ثابت يبكي المطعم بن عدي حين مات»، ويذكر قيامه في نقض الصحيفة:

أيا عين فابكي سيد القوم واسفحي *** بدمع، وإن أنزفته فاسكبي الدما

وبكِّي عظيم المشعرين كليهما *** على الناس معروفاً له ما تكلما

فلو كان مجد يخلد الدهر واحداً *** من الناس أبقى مجده اليوم مطعما

أجرت رسولالله منهم فأصبحوا *** عبيدك ما لبى مهل وأحرما

فلو سئلت عنه معد بأسرها *** وقحطان أو باقي بقية جرهما

ص: 431

لقالوا: هو الموفي بخفرة جاره *** وذمته يوماً إذا ما تذمما

وقال في السيرة الحلبية: 2/36: «المطعم بن عدي مات كافراً، وأبو البحتري بن هشام قتل ببدر كافراً، وزمعة بن الأسود قتل ببدر كافراً».

لكن رووا عن جبير بن مطعم، وهو من الطلقاء سير الذهبي: 3/95 أن النبي (صلی الله علیه و آله) مدح أباه، وقال في شأن أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى، لتركتهم له»! بخاري: 5/20.

وقال في سبل السلام: 4/56: «وفيه دليل على أنه يجوز ترك أخذ الفداء من الأسير والسماحة به لشفاعة رجل عظيم، وأنه يكافأ المحسن وإن كان كافراً».

وقد صور ابن حجر الدور البطولي لهؤلاء «العظماء» في نقض الصحيفة والخدمة الكبرى التي قدموها للإسلام ورسوله (صلی الله علیه و آله)! فقال في الإصابة: 6/426، عن هشام بن عمرو بن ربيعة إنه من المؤلفة قلوبهم أعطاه النبي (صلی الله علیه و آله) من غنائم حنين! وقال: «ذكر بن إسحاق قصته في نقض الصحيفة ومخاطرته في ذلك بنفسه (رحمة الله)»!

وقال في فتح الباري: 7/147: «ولم يكن يأتيهم شئ من الأقوات إلا خفية، حتى كانوا يؤذون من اطلعوا على أنه أرسل إلى بعض أقاربه شيئاً من الصلات، إلى أن قام في نقض الصحيفة نفر، من أشدهم في ذلك صنيعاً هشام بن عمرو بن الحرث العامري، فكان يصلهم وهم في الشعب، ثم مشى إلى زهير بن أبي أمية فوافقه ومشيا جميعاً إلى المطعم بن عدي والى زمعة بن الأسود فاجتمعوا على ذلك، فلما جلسوا بالحجر تكلموا في ذلك وأنكروه وتواطؤوا عليه فقال أبوجهل: هذا أمر قضي بليل، وفي آخر الأمر أخرجوا الصحيفة فمزقوها وأبطلوا حكمها»!

وتسألهم: متى كان ذلك من سنوات الحصار؟ فيقولون لك: كان بعد ثلاث سنوات منه أو أربع! يعني بعد سنوات رقَّت قلوب هؤلاء النبلاء لأطفال بني هاشم، فعملوا ليل نهار حتى فكوا عنهم الحصار!

وتسألهم: وأين دور معجزة النبي (صلی الله علیه و آله) وآية الأرَضَة الربانية؟ أليست هي السبب الذي جعل زعماء قريش يبلسون، فتجرأ بنو هاشم على كسر الحصار وخرجوا من

ص: 432

الشعب إلى مساكنهم!فيقولون: لقد ترافق سعي أولئك الأخيار لفك الحصار مع المعجزة فاستطاعوا أن ينهوا حصار بني هاشم رغم مخالفة أبي جهل!

لاحظ مكذوبات القرشيين في شهامة زعماء الشرك في رواية ابن إسحاق: «ثم إن المطعم بن عدي قام إلى الصحيفة فشقها فوجد الأَرَضَة قد أكلتها»

فقد جعلوا شهامتهم توأماً لمعجزة النبوة، لأن أولاهم حكموا الأمة!

راجع تخريفاتهم في: الإصابة: 1/230، الدرر/57، عمدة القاري: 17/119، الطبري: 2/78 وغيرها!

والحقيقة، أنه لم يكن عند زعماء قريش ذرةٌ من النُّبل، وأن الذي أفشل الحصار آية الأرَضة، فخرج بنو هاشم من الحصار برأس مرفوع وعين قوية على عدوهم! غايته أن موقف بعض زعماء المشركين أمام المعجزة كان ألين من أبي جهل.

9- لك الله يا أباطالب!

فقد ادعت الخلافة أن زعماء المشركين خدموا النبي (صلی الله علیه و آله) ونقضوا صحيفة المقاطعة فأكرمهم الله تعالى! روى البخاري: 5/20 أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لو كان مطعم حياً وطلب إطلاق أسرى بدرلأطلقتهم له، وقالوا: «يجوز ترك أخذ الفداء من الأسير، والسماحة به لشفاعة رجل عظيم، وأنه يكافأ المحسن وإن كان كافراً».

أما أبوطالب، الذي قام الإسلام بمواقفه وحمايته بماله ونفسه وأبنائه وعشيرته! فمكافأته عندهم سخرية النبي (صلی الله علیه و آله) به! قالوا إن العباس قال له: «ما أغنيت عن عمك فوالله كان يحوطك ويغضب لك! قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار»!

وقد رواه بخاري: 4/247، وكرره متبجحاً، وفسر ضحضاح النار: 7/203 بأنه: «يبلغ كعبيه، يغلي منه أم دماغه»!وقالوا: «إن أهل النار إذا جزعوا من حرها استغاثوا بضحضاح في النار، فإذا أتوه تلقاهم عقارب كأنهن البغال الدهم، وأفاع كأنهن البخاتي فضربنهم»! الدر المنثور: 4/127.

لقد انتقموا من أبي طالب فجعلوه كافراً في قعر جهنم! وزعموا أن

ص: 433

النبي (صلی الله علیه و آله) شفع له شفاعة مضحكة! مع أن الرجل المسلم يشفع لمن سقاه شربة ماء، فيدخله الجنة «ابن ماجة 2/496» والمؤمنين يشفعون: «فيمن وجبت لهم النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا» «الدر المنثور: 2/249». أنظر للمؤلف: ألف سؤال وإشكال: 1/174.

10- كذبة المليون أوقية ذهب وأخواتها!

رافق كذبة شهامة زعماء قريش في نقض الصحيفة، أكاذيب عن مساعدتهم لبني هاشم في سنوات الحصار! كالذي رواه ابن إسحاق: 2/145 عن هشام بن عمرو: «كان يأتي في الشعب ليلاً قد أوقر جملاً طعاماً حتى إذا أقبل في الشعب حل خطامه من رأسه، ثم ضرب جنبه فدخل الشعب عليهم، ويأتي به وقد أوقره براً أو بزاً، فيفعل به مثل ذلك»!

ورووا عن حكيم بن حزام أنه أتى بحمل بعير حنطة لعمته خديجة (علیها السلام)، وعن أبي العاص بن أمية زوج زينب، أنه كان يوصل مواد غذائية إلى الشعب.

وقد ناقش ذلك صاحب الصحيح: 3/211 فقال ملخصاً: «لانجد أثراً لابن عم خديجة حكيم بن حزام الذي تدعي الروايات أنه كان يرسل الطعام لهم وهم محصورون في الشعب.فحكيم هذا كان من الذين انتدبتهم قريش لقتل رسول الله ليلة الغار، وباتوا على باب النبي (صلی الله علیه و آله) يرصدونه فرد الله كيدهم! وحكيم هذا كان يحتكر جميع الطعام الذي كان يأتي إلى المدينة على عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله)!ومن كانت هذه نفسيته لايكون جواداً ويعرض نفسه لخطر عداء قريش، إلا أن يكون عمله احتكاراًتجارياً ليبيع المسلمين بأغلى الأثمان، ويعرض نفسه للخطر حباً بالمال!

كمالا تجد في حصار الشعب ذكراً لأبي العاص بن الربيع الأموي! الذي زعموا أنه كان يخاطر بنفسه، ويأتي لهم بالطعام من مكة».

وأكبر كذبة هنا قولهم إن أبابكر كان أول من أسلم وكان صاحب ثروة عظيمة أنفقها على النبي (صلی الله علیه و آله)! قالت عائشة: «فَخِرْتُ بمال أبي في الجاهلية، وكان ألف ألف أوقية». قال ابن أبي عاصم/225: «قال الألباني: أخرجه البخاري في الأدب المفرد: 970 وفي أفعال

ص: 434

العباد ص: 89 والحاكم: 4/574 وعنه البيهقي في الأسماء ص: 78 وأحمد: 3/495 من طرق أخرى عن همام بن يحيى به.وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي»!

وقال الذهبي في سيره: 2/185: «وأعتقد لفظة ألف الواحدة باطلة، فإنه يكون أربعين ألف درهم، وفي ذلك مفخرٌ لرجل تاجر وقد أنفق ماله في ذات الله، ولما هاجر كان قد بقي معه ستة آلاف درهم، فأخذها صحبته. أما ألف ألف أوقية، فلا تجتمع إلا لسلطان كبير».

لكن لا تصح دعوى الذهبي،لأنهم صححوا الخبر بلفظ: ألف ألف أوقية! كما لا يصح ما افترضه أن أبابكر أنفق ألف أوقية ذهباً على النبي (صلی الله علیه و آله) لأن ذلك لم يروه أحد، ولم يظهرحتى في أوقية واحدة، ولا في صاع حنطة في سنوات الحصار، ولا بدراهم يسيرة أعطاها لمستضعف من المسلمين، وقد زعموا أنه اشترى بلالاً ولم يثبت، أما إنفاقه على ابن خالته مسطح فهومن مال مسطح لأنه كان يعمل معه!

فلو كان أنفق على بني هاشم في سنوات الحصار، أو أرسل اليهم شيئاً، لرواه رواة الخلافة بطرق عديدة في المسانيد والصحاح، ولما تفردت به عائشة!

ولو أن عمر وأبابكر قالا كلمة في مواجهة زعماء قريش في مكة، لردداها في خلافتهما وكررا حديثها، وشرحها أتباعهما، ورفعوها علماً!

لقد كشفت سنوات الشِّعب أن بعض الذين ضخمهم الرواة لم يكن لهم وجود في تاريخ الإسلام، فهم غائبون في البأساء والضراء، حاضرون في الرخاء!

11- علي بن أبي طالب (علیه السلام) منكور الفضل كأبيه!

لم يسجل رواة السلطة جهاد علي (علیه السلام) في سنوات الحصار، إلا لمُاماً من حراسته للنبي (صلی الله علیه و آله)، ووصل منه شئ برواية أبي جعفر الإسكافي أحد كبار علماء المعتزلة! فقد نقل في شرح النهج: 13/254، رده على الجاحظ فقال: «وهو المخصوص دون أبي بكر بالحصار في الشعب، وصاحب الخلوات برسول الله (صلی الله علیه و آله) في تلك

ص: 435

الظلمات، المتجرع لغصص المرار من أبي لهب وأبي جهل وغيرهما، والمصطلي لكل مكروه، والشريك لنبيه في كل أذى، قد نهض بالحمل الثقيل وناء بالأمر الجليل.

ومَن الذي كان يخرج ليلاً من الشعب على هيئة السارق يخفي نفسه ويضائل شخصه، حتى يأتي إلى من يبعثه إليه أبوطالب من كبراء قريش، كمطعم بن عدي وغيره، فيحمل لبني هاشم على ظهره أعدال الدقيق والقمح وهو على أشد خوف من أعدائهم كأبي جهل وغيره، ولو ظفروا به لأراقوا دمه!

أعليٌّ كان يفعل ذلك أيام الحصار في الشعب أم أبوبكر؟ ولقد كان يجيع نفسه ويطعم رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ويظمئ نفسه ويسقيه، وهو كان المعلل له إذا مرض، والمؤنس له إذا استوحش، وأبوبكر بنجوة عن ذلك لا يمسه مما يمسهم ألم، ولم يلحقه مما يلحقهم مشقة، ولايعلم بشئ من أخبارهم وأحوالهم إلا على سبيل الإجمال دون التفصيل، ثلاث سنين محرمة معاملتهم ومناكحتهم ومجالستهم، محبوسين محصورين ممنوعين من الخروج والتصرف في أنفسهم! فكيف أهمل الجاحظ هذه الفضيلة ونسي هذه الخصيصة ولا نظير لها»!

ص: 436

الفصل الثالث والعشرون: عام وفاة أبي طالب وخديجة (علیهما السلام): عام الحزن

1- أبوطالب (رحمة الله) يقود عملية كسر الحصار قبيل وفاته

عندما حذَّر بحيرا الراهب أباطالب أن يدخل بالنبي (صلی الله علیه و آله) إلى دمشق خوفاً عليه من اليهود، يومها عاد أبوطالب (علیه السلام) بحبيبه إلى مكة فطاف حول الكعبة داعياً ربه أن يحفظ محمداً (صلی الله علیه و آله) من كيد اليهود، وأطلق قصائده في مديحه، وتشدد في حراسته، واستمر في ذلك أكثر من ثلاثين سنة!

وما أن بعثه الله رسولاً حتى واجهته قريش بأشد من كيد اليهود، فطلبت من أبي طالب بكل وقاحة أن يسلمها إياه لتقتله! لأن ادعاءه النبوة يهدد تقاسم الزعامة في قبائل قريش، ويعني الدعوة إلى رئاسة بني هاشم!

من ذلك اليوم دخل أبوطالب (رحمة الله) في مواجهة ضارية مع زعماء شرسين وجبناء في آن واحد، وقاد بني هاشم بحكمة وقوة، وجمعهم حوله مؤمنهم وكافرهم، يحمون ابنهم محمداً (صلی الله علیه و آله) بشجاعة هاشمية مميزة!

كان محمد (صلی الله علیه و آله) عنده أعز من أولاده ومن نفسه، فهو محبوبه المفدى، وصديقه الحميم، والنبي الصادق. وقد نجح في حمايته حتى في أشد السنوات في حصار الشعب! وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يوجه عمه الجليل بأدب الإبن مع أبيه، وحنان الرسول على المؤمن. وقد جاءه يوماً بعد سنوات من حصار قريش فقال له: ياعم إن الله عزوجل قد أرسل على صحيفة القوم أرَضَةً فأكلت كل بنودها الظالمة، وأبقت منها إسم الله تعالى!

ص: 437

قال ابن إسحاق في سيرته: 2/142: «فأخبر الله عزوجل بذلك رسوله (صلی الله علیه و آله) فأخبر أباطالب، فقال أبوطالب: يا ابن أخي من حدثك هذا، وليس يدخل الينا أحد ولاتخرج أنت إلى أحد، ولست في نفسي من أهل الكذب؟فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخبرني ربي هذا! فقال له عمه: إن ربك لحق وأنا أشهد أنك صادق. فجمع أبوطالب رهطه ولم يخبرهم ما أخبره به رسول الله كراهية أن يفشوا ذلك الخبر فيبلغ المشركين فيحتالوا للصحيفة بالخبث والمكر، فانطلق أبوطالب برهطه حتى دخلوا المسجد والمشركون من قريش في ظل الكعبة، فلما أبصروه تباشروا به وظنوا أن الحصر والبلاء حملهم على أن يدفعوا إليهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيقتلوه!

فلما انتهى إليهم أبوطالب ورهطه رحبوا بهم وقالوا: قد آن لك أن تطيب نفسك عن قتل رجل في قتله صلاحكم وجماعتكم، وفي حياته فرقتكم وفسادكم! فقال أبوطالب: قد جئتكم في أمر لعله يكون فيه صلاح وجماعة، فاقبلوا ذلك منا. هلموا صحيفتكم التي فيها تظاهركم علينا، فجاؤوا بها ولا يشكون إلا أنهم سيدفعون رسول الله إليهم إذا نشروها، فلما جاؤوا بصحيفتهم قال أبوطالب: صحيفتكم بيني وبينكم، وإن ابن أخي قد خبرني ولم يكذبني أن الله عزوجل قد بعث على صحيفتكم الأرَضة فلم يدع لله فيها إسماً إلا أكلته وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان، فإن كان كاذباً فلكم عليَّ أن أدفعه إليكم تقتلونه، وإن كان صادقاً فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا؟فأخذ عليهم المواثيق وأخذوا عليه! فلما نشروها فإذا هي كما قال رسول الله! وكانوا هم بالغدر أولى منهم، واستبشر أبوطالب وأصحابه، وقالوا أينا أولى بالسحر والقطيعة والبهتان».

وفي رواية ابن سعد: 1/210: «إن الله قد سلط على صحيفتكم الأرضة فلحست كل ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم، وبقي فيها كل ما ذكر به الله».

وفي الخرائج: 1/85:«فما راعَ قريشاً إلا وبنو هاشم عُنُقاً واحداً، قد خرجوا من الشعب! فقالت قريش: الجوع أخرجهم! فجاؤوا حتى أتوا الحِجْر وجلسوا فيه، وكان لا يقعد فيه إلا فتيان قريش. فقالوا: يا أباطالب قد آن لك أن تصالح قومك. قال: قد جئتكم بخبر، إبعثوا إلى صحيفتكم لعله أن يكون بيننا وبينكم صلح.

ص: 438

قال: فبعثوا إليها وهي عند أم أبي جهل، وكانت قبلُ في الكعبة فخافوا عليها السرق، فوضعت بين أيديهم وخواتيمهم عليها. فقال أبوطالب: هل تنكرون منها شيئاً؟ قالوا: لا. قال: إن ابن أخي حدثني ولم يكذبني قط، أن الله قد بعث على هذه الصحيفة الأرَضة، فأكلت كل قطيعة وإثم وتركت كل اسم هو لله، فإن كان صادقاً أقلعتم عن ظلمنا، وإن يكن كاذباً ندفعه إليكم فقتلتموه. فصاح الناس: نعم يا أباطالب، ففتحت ثم أخرجت فإذا هي مُشَرَّبَة كما قال، فكبَّر المسلمون، وامتقعت وجوه المشركين. فقال أبوطالب: أتبين لكم أينا أولى بالسحر والكهانة؟ فأسلم يومئذ عالمٌ من الناس».

وفي إعلام الورى: 1/127: «فتفرق القوم ولم يتكلم أحد.وقال عند ذلك نفر من بني عبدمناف وبني قصي ورجال من قريش ولدتهم نساء بني هاشم منهم مطعم بن عدي بن عامر بن لؤي، وكان شيخاً كبيراً كثير المال له أولاد،

وأبو البختري بن هشام، وزهير بن أمية المخزومي، في رجال من أشرافهم: نحن بَراء مما في هذه الصحيفة! وقال أبوجهل: هذا أمر قضي بليل!

وخرج النبي (صلی الله علیه و آله) من الشعب ورهطه وخالطوا الناس! ومات أبوطالب بعد ذلك بشهرين، وماتت خديجة بعد ذلك».

2- أبوطالب يُوَدِّع حبيبه (صلی الله علیه و آله) ويوصيه بالهجرة إلى المدينة

انتصر أبوطالب (رحمة الله) في كسر الحصار، وحلَّت الفرحة قلب حامي النبي (صلی الله علیه و آله) وفاديه بنفسه وبنيه، وعاد إلى بيته في مدخل الشعب، شجرة باسقة أظلت رسول الله (صلی الله علیه و آله) أكثر من أربعين سنة، وأظلت دعوته أكثر من عشرسنين!

كان أبوطالب قرير العين بما أنعم الله على ابن أخيه وعليه، وأخذ يدير عملياته في ظروف جديدة، مليئة بالأمل، حتى مع المرض. وفي هذه المدة، نظم بقية قصائده في نصرة الإسلام ورسوله (صلی الله علیه و آله)، وراسل ابنه جعفراً في الحبشة بإحداها، يخبره بالمعجزة الربانية وفشل الحصار!

ص: 439

وكان يعقد الجلسات مع حبيبه الغالي (صلی الله علیه و آله) ويتداول معه أخبار قريش، ومستقبل النبي (صلی الله علیه و آله) والإسلام، والخطر الذي سيواجهه بعد وفاته.

كان يعرف أن فراعنة قريش عنيدون حاقدون، وأنه بمجرد أن يغمض عينيه سيقولون مات الذي وحَّد بني هاشم لحمايته، وجاءت الفرصة لقتل محمد (صلی الله علیه و آله)! وسينفلتون كالذئاب الجائعة لدم محمد (صلی الله علیه و آله)!

كان يعرف أن قبائل العرب تخاف من قريش فلا تحمي محمداً (صلی الله علیه و آله)، أو تريد الثمن من محمد (صلی الله علیه و آله) لحمايته بأن تكون لها خلافته، ومحمد (صلی الله علیه و آله) يجيبهم بأن للأمر أهلاً، ويطلب منهم أن يبايعوه على أن لاينازعوا الأمر أهله!

لهذا لم يكن عند أبي طالب أمل إلا في المدينة وبني النجار خاصة، وقد روت المصادر: «لما حضرت أبوطالب الوفاة دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال له: ابنَ أخي: إذا أنا متُّ فائت أخوالك من بني النجار، فإنهم أمنع الناس لما في بيوتهم». تاريخ دمشق: 66/338، الطبقات: 3/543 وتاريخ الذهبي: 1/233.

كما روت المصادر أن أباطالب (علیه السلام) سأل النبي (صلی الله علیه و آله) ذات يوم: «هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: يريدون أن يسجروني أو يقتلوني أو يخرجوني! قال: من خبرك بهذا؟ قال: ربي، قال: نعم الرب ربك استوص به خيراً، قال: أنا أستوصي به؟ بل هو يستوصي بي. فنزلت: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا. الآية». عمدة القاري: 18/246، وتفاسير: الطبري: 9/299، ابن أبي حاتم: 5/1688، الثعلبي: 4/350 وابن كثير: 2/314. وقال في الدر المنثور: 3/179: وأخرج سنيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ».

وقال في لباب النقول/110: «قال ابن كثير: ذكر أبي طالب فيه غريب بل منكر، لأن القصة ليلة الهجرة، وذلك بعد موت أبي طالب بثلاث سنين»!

وسبب استغرابهم: بغضهم لأبي طالب!وإلا فقد رووا أن المشركين كانوا يأتمرون بالنبي (صلی الله علیه و آله) من أول بعثته وقرروا قتله أو سجنه أو نفيه عدة مرات، وكان الله تعالى يخبره بذلك، فيخبر عمه ويتداول الموقف، ونزلت الآية بعد ذلك.

أما قولهم «فاستوص به خيراً» فهو للطعن بأبي طالب (رحمة الله) والصحيح ما رووه هم

ص: 440

في قصة الصحيفة كما سيأتي: «فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخبرني ربي هذا! فقال له عمه: إن ربك لحق، وأنا أشهد أنك صادق». سيرة ابن إسحاق: 2/142.

فتأمل في بغضهم لأبي طالب وللنبي (صلی الله علیه و آله)!

3- جَمَعَ بني هاشم قبل وفاته وأوصاهم بالنبي (صلی الله علیه و آله)

بلغه أن زعماء قريش: «تحالفوا وتقاعدوا لئن مات أبوطالب لتجمعن قبائل قريش كلها على قتله.فجمع بني هاشم وأحلافهم من قريش، فوصاهم برسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: إن ابن أخي نبيٌّ كما يقول.إن محمداً نبي صادق، وأمين ناطق، وإن شأنه أعظم شأن، ومكان من ربه أعلى مكان، فأجيبوا دعوته، واجتمعوا على نصرته، وارموا عدوه من وراء حوزته، فإنه الشرف الباقي لكم مدى الدهر».وأنشأ يقول:

أوصي بنصر النبي الخير مشهده *** علياً ابني وعمَّ الخير عباسا

وحمزة الأسد المخشي صولته *** وجعفراً أن تذودوا دونه الباسا

وهاشماً كلها أوصي بنصرته *** أن يأخذوا دون حرب القوم أمراسا

كونوا فداءً لكم نفسي وما ولدت *** من دون أحمد عند الروع أتراسا

بكل أبيض مصقول عوارضه *** تخاله في سواد الليل مقباسا»

المناقب: 1/55 وروضة الواعظين/54 .

4- وَصَلَتْكَ رَحِمٌ يا عَمّ وجزاك الله عني خيراً

قال ابن واضح اليعقوبي وهو مؤرخ ثبت إن خديجة توفيت قبل أبي طالب (علیهما السلام) بعد كسر الحصار بقليل، فحزن عليها النبي (صلی الله علیه و آله) حزناً عميقاً، وكان يمضي وقته في بيته، أو يزور عمه أباطالب. وذات يوم جاءه الخبر: مات ناصرك أبوطالب وهوت الشجرة الظليلة الحانية!

قال اليعقوبي: 2/35: «توفي أبوطالب بعد خديجة (علیهما السلام) بثلاثة أيام وله ست وثمانون سنة وقيل بل تسعون سنة. ولما قيل لرسول الله (صلی الله علیه و آله): إن أباطالب قد

ص: 441

مات، عظم ذلك في قلبه، واشتد له جزعه، ثم دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرات وجبينه الأيسرثلاث مرات ثم قال: يا عم، ربيت صغيراً، وكفلت يتيماً، ونصرت كبيراً، فجزاك الله عني خيراً. ومشى بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول: وصلتك رحم، وجزيت خيراً. وقال (صلی الله علیه و آله): اجتمعت على هذه الأمة في هذه الأيام مصيبتان، لا أدري بأيهما أنا أشد جزعاً، يعني مصيبة خديجة وأبي طالب».

إن فعل النبي (صلی الله علیه و آله) بليغ، وكلامه بليغ، ورحم الله ابن واضح اليعقوبي على أمانته وهو أقدم من الطبري، فقد توفي سنة 284.

وكان موت خديجة وأبي طالب (علیهما السلام) مصيبتان على أمة الإسلام على رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأنهما مجاهدان في تأسيس هذه الأمة وحمايتها، ونصرة نبيها ومؤسسها.

وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما مات أبوطالب وقف رسول الله (صلی الله علیه و آله) على قبره فقال: جزاك الله من عم خيراً، فقد ربيتني يتيماً، ونصرتني كبيراً».

وروى ابن أبي حاتم في الدر النظيم/221، عن علي (علیه السلام) قال: «أخبرت رسول الله (صلی الله علیه و آله) بموت أبي طالب فبكى ثم قال: إذهب فغسله وكفنه وواره، غفر الله له ورحمه، ففعلت ثم أمرني فاغتسلت ونزلت في قبره، وجعل يستغفر له، وبقي أياماً لا يخرج من بيته».

أقول: كانت قريش تتأهب لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) بمجرد وفاة أبي طالب (رحمة الله)! ومع ذلك شارك في مراسم تشييعه في بيته القريب، وحمله معهم على سريره، وشيع جنازته إلى قبره في الحجون رغم الخطر على حياته كماروي عن الإمام الصادق (علیه السلام)، ثم اعتكف في بيته أياماً، وهو يعالج نشاط قريش وتخطيطهم لقتله. ولعله أوكل دفنه إلى علي بسبب ظرفه الأمني ثم ذهب إلى قبره بعد ذلك.

وفي الجواهر السنية/219، عن عبدالرحمن بن كثير قال: «قلت لأبي عبدالله «الإمام الصادق (علیه السلام)»: إن الناس يقولون إن أباطالب في ضحضاح من النار! فقال: «كذبوا ما بهذا نزل جبرئيل! قلت: وبماذا نزل جبرئيل؟ فقال أتى جبرئيل في بعض ما كان ينزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول: إن أهل الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرتين، وإن أباطالب أسر الإيمان وأظهر

ص: 442

الشرك، فآتاه الله أجره مرتين. ثم قال (علیه السلام): كيف يصفونه بهذا وقد نزل جبرئيل ليلة مات أبوطالب فقال: يا محمد، أخرج من مكة، فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب».

وفي الكافي: 1/439و 8/341 عن الصادق (علیه السلام) قال: «لما توفي أبوطالب أوحى الله إلى رسوله (صلی الله علیه و آله): أخرج من القرية الظالم أهلها، فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب».

ثم روى عن الإمام العسكري (صلی الله علیه و آله) قال: «إن الله أوحى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إني قد أيدتك بشيعتين: شيعة تنصرك سراً فسيدهم وأفضلهم أبوطالب، وشيعة تنصرك علانية، فسيدهم وأفضلهم علي بن أبي طالب».

وفي كمال الدين/174، عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: «والله ما عَبَدَ أبي ولا جدي عبدالمطلب ولا هاشم ولا عبدمناف، صنماً قط. قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم (علیه السلام) متمسكين به».

وفي البحار: 35/116، عن الباقر (علیه السلام): «مات أبوطالب بن عبدالمطلب مسلماً مؤمناً».

وفي المناقب: 1/62: «وقالوا: لو كان محمد نبياً لشغلته النبوة عن النساء، ولأمكنه جميع الآيات، ولأمكنه منع الموت عن أقاربه، ولمَا مات أبوطالب وخديجة، فنزل قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِىَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ». الرعد 38.

5- وفاة خديجة وأبي طالب (علیهما السلام) قبل الهجرة بسنتين وكسر

تفاوتت الرواية في كل المصادر عن سنة وفاة خديجة وأبي طالب (علیهما السلام)، فروي أنها قبل الهجرة بسنة وروي أنها قبلها بثلاث سنوات، والذي أطمئن إليه أنها كانت قبلها بسنتين وكسر، لأن أباطالب (علیه السلام) توفي في شوال وذهب النبي (صلی الله علیه و آله) بعد وفاته مباشرة تقريباً إلى الطائف، وفي موسم الحج بعد وفاة أبي طالب كان لقاؤه بستة من الأنصار، وفي السنة الثانية التقى ببضعة عشر وبايعوه بيعة العقبة الأولى، وفي السنة التالية جاءه السبعون وبايعوه بيعة العقبة الثانية، وبعدها مباشرة كانت هجرته (صلی الله علیه و آله) في ربيع الأول من السنة التالية.

ص: 443

وكانت وفاة خديجة (علیها السلام) قريباً من وفاة أبي طالب، وقد سمى النبي (صلی الله علیه و آله) ذلك العام: عام الحزن.

وفي الطبقات: 1/210: «لما توفي أبوطالب وخديجة بنت خويلد وكان بينهما شهر وخمسة أيام، اجتمعت على رسول الله مصيبتان فلزم بيته وأقلَّ الخروج،ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع به».

وفي تفسير ابن كثير: 4/176: «وخروجه (صلی الله علیه و آله) إلى الطائف كان بعد موت عمه، وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين، كما قرره ابن إسحاق وغيره».

أقول: ما تراه في بعض الروايات من أن وفاة خديجة (علیها السلام) كان قبل الهجرة بثلاث سنين أو سنتين، فوجهه أنها بسنتين وكسر السنة.

أما رواية السنة كما في مستدرك الحاكم: 3/182، فلا تصح.

6- سماه رسول الله (صلی الله علیه و آله): عام الحزن!

في الكافي: 1/440: «فلما فقدهما رسول الله (صلی الله علیه و آله) شنئ المقام بمكة، ودخله حزن شديد، وشكا ذلك إلى جبرئيل (علیه السلام) فأوحى الله تعالى إليه: أخرج من القرية الظالم أهلها، فليس لك بمكة ناصر بعد أبي طالب، وأمره بالهجرة».

وفي عمدة القاري: 8/180، ومناقب آل أبي طالب: 1/150: فكان النبي (صلی الله علیه و آله) يسمي ذلك العام عام الحزن. وفي شرح الأخبار: 3/17: «وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: ما اغتممت بغم أيام حياة أبي طالب وخديجة، لمِا كان أبوطالب يدفعه عنه، وخديجة تعزيه وتصبره وتهون عليه ما يلقاه في ذات الله عزوجل».

وفي أمالي الطوسي/463: «كان الله عزوجل يمنع نبيه (صلی الله علیه و آله) بعمه أبي طالب، فما كان يخلص إليه من قومه أمر يسوؤه مدة حياته، فلما مات أبوطالب نالت قريش من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بغيتها، وأصابته بعظيم من الأذى حتى تركته لِقىً! فقال (صلی الله علیه و آله): لأسرع ما وجدنا فقدك يا عم! وصلتك رحم، فجزيت خيراً يا عم.

ثم ماتت خديجة بعد أبي طالب بشهر فاجتمع بذلك على رسول الله (صلی الله علیه و آله) حزنان حتى

ص: 444

عرف ذلك فيه. قال هند: ثم انطلق ذوو الطول والشرف من قريش إلى دار الندوة، ليأتمروا في رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأسروا ذلك بينهم..الى آخر الحديث».

7- هاجمت قريش النبي (صلی الله علیه و آله) مرات لتقتله فخابت!

كانت الفترة بعد وفاة أبي طالب إلى الهجرة الأخطر على حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقد قال (صلی الله علیه و آله): «ما زالت قريش كاعَّة عني حتى مات أبوطالب». أي منكمشة عن أذاه خوفاً من أبي طالب. إعلام الورى: 1/53 والحاكم: 2/622.

وكثفت محاولاتها لقتله (صلی الله علیه و آله) فكانت تتجسس عن مكانه وتضع الخطط لقتله، وكان جبرئيل (علیه السلام) يخبره، وذات مرة أمره أن يفر ويختبئ مع علي (علیه السلام) في الحجون لأن بيته (صلی الله علیه و آله) كان قرب المسجد.

قال الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 1/449»: «لما توفي أبوطالب نزل جبرئيل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد أخرج من مكة فليس لك فيها ناصر، وثارت قريش بالنبي (صلی الله علیه و آله) فخرج هارباً حتى جاء إلى جبل بمكة يقال له الحجون، فصار إليه».

ومعنى ثاروا به: أنهم هاجموا بيته ليقتلوه!

وفي مجمع الزوائد: 6/15: «وعن أبي هريرة قال: لما مات أبوطالب تحينوا النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: ما أسرع ما وجدتُ فقدك يا عم».

وقال اليعقوبي في تاريخه: 2/36: «واجترأت قريش على رسول الله بعد موت أبي طالب وطمعت فيه، وهموا به مرة بعد أخرى».

وفي تفسير القمي: 2/431: «لما مات أبوطالب (علیه السلام) فنادى أبوجهل والوليد عليهما لعائن الله: هلموا فاقتلوا محمداً فقد مات الذي كان ناصره! فقال الله تعالى: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُو الزَّبَانية.قال: كما دعا إلى قتل محمد رسول الله نحن أيضاً ندع الزبانية».

أقول: هذا يدل على نزول هذه الآيات مرتين، وهو كثير في القرآن.

وفي الطبري: 2/80: «وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته منه، حتى نثر بعضهم على رأسه التراب».

ص: 445

ولم يذكر لنا رواة السلطة أين كان عمر ومن ادعوا لهم البطولة في تلك الفترة! ولماذا ذابوا وقت الشدة كما يذوب الملح؟

8- دفنها النبي (صلی الله علیه و آله) في مقبرة المعلا بالحجون

في الخصال/225، عن الإمام الكاظم (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الله تبارك وتعالى اختار من كل شئ أربعة: اختار من الملائكة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت:، واختار من الأنبياء أربعة للسيف: إبراهيم و داود وموسى وأنا، واختار من البيوتات أربعة، فقال: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ. واختار من البلدان أربعة فقال عزوجل: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ. فالتين المدينة والزيتون بيت المقدس وطور سينين الكوفة وهذا البلد الأمين مكة. واختار من النساء أربعاً: مريم وآسية وخديجة وفاطمة». وفي تاريخ اليعقوبي: 2/35 وأمالي الطوسي/175: «توفيت خديجة بنت خويلد في شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين، ولها خمس وستون سنة، ودخل عليها رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهي تجود بنفسها فقال: بالكُرْهِ مني ما أرى، ولعل الله أن يجعل في الكره خيراً كثيراً. إذا لقيت ضُرَّاتك في الجنة يا خديجة فاقرئيهن السلام. قالت: ومن هنَّ يا رسول الله؟ قال: إن الله زوجنيك في الجنة، وزوجني مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وكلثوم أخت موسى. فقالت: بالرفاء والبنين!

ولما توفيت خديجة، جعلت فاطمة تتعلق برسول الله وهي تبكي وتقول: أين أمي أين أمي؟ فنزل عليه جبريل (علیه السلام) فقال قل لفاطمة: إن الله تعالى بنى لأمك بيتاً في الجنة [من قصب] لانصب فيه ولاصخب. فقالت فاطمة (علیها السلام): إن الله هو السلام ومنه السلام وإليه السلام».

«ودفنت خديجة بالحجون، ونزل في قبرها رسول الله (صلی الله علیه و آله)». الحاكم: 3/182.

«ويستحب أن يزور خديجة (علیها السلام) بالحجون، وقبرها معروف هناك، قريب من سفح الجبل». الدروس الشرعية: 1/468.

ص: 446

9- الوهابيون انتقموا من خديجة!

تقع مقبرة الحجون في مكة على يسار الذاهب إلى منى، وفيها قبور أجداد النبي (صلی الله علیه و آله)، والمشهور منها قبر جده عبدالمطلب، وعمه أبي طالب، وزوجته خديجة سلام الله عليهم، وكان المسلمون منذ الجيل الأول يزورونها ويصلون ويدعون الله تعالى عندها، ويستشفعون إلى الله بأصحابها، وبنوا عليها قباباً.

إلى أن جاء الوهابيون النجديون صنيعة الإنكليز فهدموها بحجة أن زيارتها شرك!

قال الحائري في شجرة طوبى: 2/175، يصف هدمهم لقبرها: «وهم عند الهدم يرتجزون ويضربون الطبل ويغنون بالقوافي، ويستهزؤن بالقبور التي هدموها! هدموا قبة مولد النبي (صلی الله علیه و آله) وقالوا هذا الموضع الذي ولدت فيه تلك المرأة ذلك المولود! وقالوا عندما هدموا قبر خديجة: طالما عبدك الناس فالآن قومي وامنعينا! ونادى بعضهم هاك يا خديجة! وقالوا: أطلعوا للقبب واهدموها واطرحوا الأصنام وارموها، حتى لا يكون لكم معبود غير الله! وهدموا مولد سيدتنا فاطمة (علیها السلام) . ودخلوا حرم النبي (صلی الله علیه و آله) . فأقدمت جماعة من الأعراب على تخريب قبور أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله)! ثم منعوا الناس عن قول يا رسول الله، ويضربونهم! وجعلوا ينادون غيرهم بلفظ: يامشرك وياكافر!».

10- وانتقم القرشيون من أبي طالب (رحمة الله) بعد موته!

بمجرد أن استولى الطلقاء على دولة النبي (صلی الله علیه و آله) ورفعوا شعار نبوته، صار عتاة قريش الذين كذبوه وأبغضوه وعملوا لقتله.مؤمنين دعا لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالخير، وشهد في حقهم بأنهم أبرارٌ أخيارٌ من أهل الجنة!

أما عمه أبوطالب، ناصره وفاديه بنفسه وبأولاده وعشيرته، فأنكروا إسلامه، وغيبوا شعره الصريح بإسلامه، وغيبوا شهادات النبي (صلی الله علیه و آله) في حقه! وافتروا عليه أنه كان كافراً لم يؤمن بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله)!

ومع ذلك أفلتت أحاديث في مصادرهم تكذب افتراءهم! كالذي رواه

ص: 447

ابن سعد في الطبقات: 1/123 عن علي (علیه السلام) قال: «أخبرت رسول الله (صلی الله علیه و آله) بموت أبي طالب فبكى ثم قال: إذهب فغسله وكفنه وواره، غفر الله له ورحمه. قال ففعلت ما قال وجعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يستغفر له أياماً، ولا يخرج من بيته».

وعلق عليه في هامش الخصائص للنسائي/38: «قال البرزنجي كما في أسنى المطالب /35: أخرجه أبو داود وابن الجارود وابن خزيمة. وإنما ترك النبي المشي في جنازته اتقاء شر سفهاء قريش، وعدم صلاته لعدم مشروعية صلاة الجنازة يومئذ».

لكن المبغضين تجاهلوا هذا الحديث وأمثاله، ورووا بدله أن الله نهى نبيه عن الإستغفار لأبي طالب، وأنزل آية في ذمه آية: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ..الخ.! مع أنها نزلت بعد أكثر من عشر سنين من وفاة أبي طالب (علیه السلام)!

ثم كذبوا على لسان علي (علیه السلام) بأنه قال: «لما مات أبوطالب أتيت رسول الله فقلت إن أباطالب عمك الكافر قد مات! فقال رسول الله: إذهب فواره. فقلت: والله لا أواريه! فقال: فمن يواريه إن لم تواره فانطلق فواره، ثم لاتحدث شيئاً حتى تأتيني. فانطلقت فواريته ثم رجعت إلى رسول الله فقال: إنطلق فاغتسل ثم أئتني ففعلت، ثم أتيته فلما أن أتيته دعا لي بدعوات ما أحب أن لي بهن ما على الأرض من شئ». وفي رواية كرروها: «إن عمك الضال قد مات»! ابن إسحاق: 4/223، أم الشافعي: 7/173 الإصابة: 7/200 وتلخيص الحبير: 5/148، عن أحمد، وأبي داود، والنسائي، وابن شيبة، وأبي يعلى، والبزار، والبيهقي.. عن ناجية بن كعب عن علي.. وقال: «مدار كلام البيهقي على أنه ضعيف، ولا يتبين وجه ضعفه، وقد قال الرافعي إنه حديث ثابت مشهور»!

أقول: ذكروا أن البيهقي ضعف ناجية لأن شُعبة وجده يلعب بالشطرنج، فلم يكتب عنه! الثقات لعمر بن شاهين/243.

وتحمس الألباني في أحكام الجنائز/134، لتصحيح حديث ناجية محتجاً بتوثيق ابن حبان له، لكن ابن حبان جرحه فقال في المجروحين: 3/57: «في حديثه تخليط.قال النسائي ليس بثقة، وقال ابن عدي: يسرق الحديث. وقال الجوزجاني مذموم».

ومن عجيب أمرهم أنهم نسبوا القسوة والجلافة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) ليطعنوا

ص: 448

بأبي طالب! ثم نقضوا كلامهم ورووا رثاء علي لأبيه (علیه السلام)!

قال ابن إسحاق: 2/224: «وقال علي بن أبي طالب يرثي أباه حين مات:

أرقت لنوح آخر الليل غردا *** أباطالب مثوى الصعاليك ذا الندى

وذا الحلم لا جلفاً ولم يك قعددا *** لشيخي ينعي والرئيس المسودا

أخا الهلك خلى ثلمة سيشدها *** بنو هاشم أو تستباح وتضهدا

فأمست قريش يفرحون لفقده *** ولست أرى حياً لشيء مخلدا

أرادوا أموراً زينتها حلومهم *** ستوردهم يوماً من الغي موردا

يرجون تكذيب النبي وقتله *** وأن يفتروا بهتاً عليه وجحدا

كذبتم وبيت الله حتى نذيقكم *** صدور العوالي والصقيع المهندا

ويبدوَ منا منظر ذو كريهة *** إذا ما تسربلنا الحديد المسردا

فإما تبيدونا وإما نبيدكم *** وإما تروا سلم العشيرة أرشدا

وإلا فإن الحي دون محمد *** بنو هاشم خير البرية مجندا

نبي أتاه الوحي في كل حطة *** فسماه ربي في الكتاب محمدا

أغر كضوء الشمس صورة وجهه *** جلا الغيم عنه ضوؤه فتعددا

أمين على ما استودع الله قلبه *** وإن قال قولاً كان فيه مسددا

ثم لم يكتفوا بكذبة ناجية على أبي طالب! فزعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) عرض عليه الإسلام في مرض وفاته فأبى أن يقول لاإله إلا الله وقال: أخاف أن يعيروني بها! بل أنا على ملة أبي عبدالمطلب»! قال بخاري: 2/98 و 4/247: «لما حضرت أباطالب الوفاة جاءه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فوجد عنده أباجهل بن هشام وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة. قال رسول الله لأبي طالب: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله! فقال أبوجهل وعبدالله بن أبي أمية: يا أباطالب أترغب عن ملة عبدالمطلب! فلم يزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يعرضها عليه ويعودان

ص: 449

بتلك المقالة حتى قال أبوطالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبدالمطلب! وأبى أن يقول لا إله إلا الله! فقال رسول الله: أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك.فأنزل الله تعالى فيه: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ. ونزلت: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ».

لاحظ أن البخاري زعم أن هذه الآية من سورة براءة نزلت يومئذ، وقد قال هو في صحيحه: 5/115و185 و202: «آخر سورة نزلت كاملة: براءة»!

لكنهم لبغضهم أباطالب (رحمة الله) يتناقضون ولا يستحون! راجع الغدير: 8/4.

ثم لم يكتفوا بذلك! فكذب لهم الزهري بأن علي بن الحسين (علیه السلام): «أخبره أن أباطالب توفي في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلم يَرِثْهُ جعفر ولا علي وورثه طالب وعقيل، وذلك لأنه لايرث المسلم الكافر ولايرث الكافر المسلم». الطبقات: 1/124.

وغرضهم أن يلغوا وراثة النبي (صلی الله علیه و آله) من آبائه: وأعمامه لأنهم كفارٌ كغيرهم من زعماء قريش بل أسوأ! وغرضهم أن يتساووا مع بني هاشم في النبي (صلی الله علیه و آله) فترث قريش سلطانه دون الأنصار لأنهم غرباء، قال عمر في السقيفة: «من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مُدْلٍ بباطل أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة». الطبري: 2/457.

11- معنى شفاعة النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي طالب (رحمة الله)

ورد في حزن النبي (صلی الله علیه و آله) على عمه أبي طالب وتأبينه له قوله (صلی الله علیه و آله): «أما والله لأشفعن لعمي شفاعة يُعجب بها أهل الثقلين».إيمان أبي طالب للمفيد/25، إعلام الورى/282، البحار: 22/261 و 35/125 والغدير: 7/386.

لكنها ليست شفاعة لنجاته من النار كما زعم القرشيون، لأنه كان مسلماً مؤمناً مجاهداً، ويكفيه عمل صغير من أعماله العظيمة لدخول الجنة، بل هي شفاعة لرفع درجته في الجنة، بدليل قوله (صلی الله علیه و آله): «يعجب بها أهل الثقلين».

وكذا معنى الحديث القدسي «الكافي: 1/446» عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «نزل جبرئيل (علیه السلام) على النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول: إني قد

ص: 450

حَرَّمْتُ النار على صلب أنزلك، وبطن حملك، وحِجْر كفلك، فالصلب صلب أبيك عبدالله بن عبدالمطلب، والبطن الذي حملك فآمنة بنت وهب، وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب. وفي رواية: وفاطمة بنت أسد».

وهذاتكريم للنبي (صلی الله علیه و آله) بتكريم من له علاقة بنشأته ونصرته: .

12- سافر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى الطائف وطلب حماية ثقيف

في المحبر لمحمد بن حبيب البغدادي/11: «توفيت خديجة رضيالله عنها بعد أبي طالب بثلاثة أيام. وخرج إلى الطائف بعد ذلك بثلاثة أشهر وثمانية أيام، وأقام بالطائف شهراً ويومين».

والأرجح عندنا ما ذكره البلاذري في أنساب الأشراف: 1/227: «وكان خروج النبي (صلی الله علیه و آله) إلى الطائف لثلاث ليال بقين من شوال سنة عشر من النبوة، وقدم مكة يوم الثلاثاء لثلاث وعشرين ليلة خلت من ذي القعدة».

ولعله يفهم من قول ابن عبدالبر في الدرر/58، ويناسبه الإعتبار لأنهم آذوه في الطائف وطلبوا منه الخروج، ومعناه أنه (صلی الله علیه و آله) بقي فيها بضعة أيام، والطريق من مكة رواحاً ومجيئاً بضعة أيام، وروي أنه بقي يومين في نخلة قبل دخوله إلى مكة، فتكون مجموع سفرته دون الشهر.

ويناسبه أنه (صلی الله علیه و آله) كان حريصاً على لقاء وفود الحجاج في ذي القعدة

وذي الحجة.

وفي المناقب: 1/113: «لما دخل النبي (صلی الله علیه و آله) الطائف رأى عتبة وشيبة جالسين على سرير فقالا: هو يقوم قبلنا «أي لا نقوم للسلام عليه» فلما قرب النبي منهما خر السرير ووقعا على الأرض، فقالا: عجز سحرك عن أهل مكة، فأتيت الطائف»!

وفي المناقب: 1/62: «فلم يقبلوه وتبعه سفهاؤهم بالأحجار ودموا رجليه فخلص منهم واستظل في ظل حبلة «كرمة» منه وقال: اللهم إني أشكو إليك من ضعف قوتي وقلة حيلتي: وناصري وهواني على الناس يا أرحم الراحمين.

فأنفذ عتبة وشيبة ابنا ربيعة إليه بطبق عنب على يدي غلام يدعى عداساً

ص: 451

وكان نصرانياً، فلما مد يده وقال: بسم الله، فقال: إن أهل هذا البلد لا يقولونها، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): من أين أنت؟ قال: من بلدة نينوى، فقال (صلی الله علیه و آله): من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى قال: وبما تعرفه؟ قال: أنا رسول الله، والله أخبرني خبر يونس، فخر عداس ساجداً لرسول الله وجعل يقبل قدميه وهما يسيلان الدماء، فقال عتبة لأخيه: قد أفسد عليك غلامك، فلما انصرف عنه سئل عن مقالته فقال: والله إنه نبي صادق، فقالوا: إن هذا رجل خداع لايفتننك عن نصرانيتك، وقالوا: لو كان محمد نبياً لشغلته النبوة عن النساء ولأمكنه جميع الآيات ولأمكنه منع الموت عن أقاربه. ولما مات أبوطالب وخديجة فنزل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً».

وقال اليعقوبي: 2/36: «فعمد لثقيف بالطائف فوجد ثلاثة نفر إخوة هم يومئذ سادة ثقيف وهم: عبد يالْيَلْ بن عمرو، وحبيب بن عمرو، ومسعود بن عمرو، فعرض عليهم نفسه وشكى إليهم البلاء، فقال أحدهم: ألا إنه يسرق ثياب الكعبة إن كان الله بعثك؟ وقال الآخر: أعجزَ الله أن يُرسل غيرك؟وقال الآخر: والله لا أكلمك أبداً، لئن كنت رسولاً كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك! وتهزؤوا به وأفشوا في قومهم ما قالوه له وقعدوا له صفين، فلما مر رسول الله (صلی الله علیه و آله) رجموه بالحجارة حتى أدموا رجله! فقال رسول الله: ما كنت أرفع قدماً ولا أضعها إلا على حجر! ووافاه بالطائف عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومعهما غلام لهما نصراني ويقال له عداس، فوجها به إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما سمع كلامه أسلم».

وفي الإصابة: 4/385: «وذكر الواقدي في قصة بدر من طريق أبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، عن حكيم بن حزام قال: فإذا عداس جالس على الثنية البيضاء والناس يمرون عليها فوثب لما رأى شيبة وعتبة وأخذ بأرجلهما يقول: بأبي وأمي أنتما، والله إنه لرسول الله وما تساقان إلا إلى مصارعكما! قال: ومر به العاص بن شيبة فوجده يبكي فقال مالك؟ فقال: يبكيني سيداي وسيدا هذا الوادي فيخرجان ويقاتلان رسول الله! فقال له العاص: إنه لرسول الله؟فانتفض عداس انتفاضة شديدة واقشعر

ص: 452

جلده وبكى وقال: إي والله إنه لرسول الله إلى الناس كافة. وذكر الواقدي من وجه آخر أنه نهاهما عن الخروج وهما بمكة فخالفاه، فخرج معهما فقتل ببدر، قال ويقال إنه لم يقتل بها، بل رجع فمات».

13- دعاء النبي (صلی الله علیه و آله) في الطائف

اشارة

في حلية الأبرار: 1/129 و131: «فعمد لحائط من كرومهم، وجلس مكروباً فقال: اللهم إني أشكو إليك غربتي وكربتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، أنت رب المكروبين. اللهم إن لم يكن لك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك. لاأحصي الثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، لك الحمد حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم». ونحوه المناقب: 1/61، إعلام الورى: 1/135، الدرر/62، شرح النهج: 14/96، الدعاء للطبراني/315 وابن هشام: 2/285.

كان علي (علیه السلام) وزيد مع النبي (صلی الله علیه و آله) في سفره إلى الطائف

ذكرت أكثر مصادرهم على أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان وحده في سفره إلى الطائف، أو معه زيد فقط! قال في الطبقات: 1/211: «فخرج إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة، وذلك في ليال بقين من شوال. فأقام بالطائف عشرة أيام».

لكن ابن أبي الحديد المعتزلي روى عن المدائني وهو إمام عندهم، أن علياً (علیه السلام) كان مع النبي (صلی الله علیه و آله) في سفرته تلك، قال في شرح النهج: 4/127: «فكان معه علي وزيد بن حارثة في رواية أبي الحسن المدائني، ولم يكن معهم أبوبكر. وقال ابن إسحاق كان معه زيد بن حارثة وحده. وكان غياب النبي (صلی الله علیه و آله) في سفرة الطائف أربعين يوماً». راجع الصحيح من السيرة: 3/266.

14- طلب النبي (صلی الله علیه و آله) الجوار من مطعم لكسر قرار قريش

كان مطعم بن عدي بن نوفل بن عبدمناف زعيم بني نوفل، من الذين واجهوا النبي (صلی الله علیه و آله)، مع أنه من بني عبدمناف، وقد ورد ذكره في شعر أبي طالب.

ص: 453

وعاش مطعم سبعاً وتسعين سنة وتوفي قبل بدر. «فتح الباري 7/249، وأسد الغابة 1/271»وشارك أخوه طعيمة في بدر وقتل، وشارك فيها ابنه جبير وفاوض النبي باسم قريش على أسرى بدر، وزعم رواة السلطة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «لوكان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له»! بخاري: 5/20.

وجبير هو صاحب وحشي الذي وعده أن يعتقه إن قتل محمداً أو علياً أو حمزة وشجعته هند آكلة الأكباد وجعلت له جائزة، فقتل حمزة! شرح الأخبار 1/268، المناقب 1/166، ابن إسحاق 3/302، تاريخ دمشق 62/411 وشرح النهج 15/11.

وبقي جبير على كفره حتى أسلم مع الطلقاء في فتح مكة. أسد الغابة: 1/271.

وكان يقول: «كنت آذى قريش لمحمد (صلی الله علیه و آله)».الخرائج: 1/130.

وسكن المدينة وجاء مع عثمان إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وطلبا أن يجعل لهم سهماً في الخمس لأنهم من بني عبدمناف فقالا: يا رسول الله قسمت لإخواننا بني المطلب ولم تعطنا شيئاً وقرابتنا مثل قرابتهم! فقال لهما: «إنما بنو المطلب وبنو هاشم شئ واحد. ولم يقسم لبني عبد شمس وبني نوفل شيئاً». صحيح بخاري: 5/79.

وكان مطعم بن عدي صديقاً لبني أمية، وهذا سبب مدح رواة السلطة له بأنه عمل لنقض صحيفة المحاصرة، وأنه أجار النبي (صلی الله علیه و آله) في رجوعه من الطائف، وقولهم إن النبي (صلی الله علیه و آله) بقي سنتين في جواره إلى أن هاجر!

والحقيقة أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يستطيع دخول مكة بحماية حمزة وعلي وحدهما، فضلاً عن بقية بني هاشم! بل يستطيع دخولها لأنه في شهر ذي القعدة الحرام، الذي يأمن فيه كل الناس حتى الأعداء. لكنه أراد أن يخفف غلواء قريش بعد أن اشتدت محاولاتهم لقتله بعد وفاة حاميه أبي طالب (علیه السلام)، فيدخل مكة علناً وهو معتمر فيطوف ويسعى بحماية أحد أعدائه من زعماء قريش، فبعث إلى مطعم أن يحميه حتى يؤدي عمرته فقَبِلَ، فدخل (صلی الله علیه و آله) واعتمر، ثم رد عليه جواره!

وبذلك كسر قرار قريش وإجماعهم على قتله، وخفض من خطرهم على حياته، لأن قتله صار يعني الخلاف بين زعماء قريش أنفسهم!

ص: 454

وفي نفس الوقت خفف عن بني هاشم بعد أبي طالب (رحمة الله)، فصار من السهل عليهم إعلان حمايته بعد أن حماه مطعم وهو من زعماء المشركين!

ففي تفسير القمي: 2/431: «لما مات أبوطالب (علیه السلام) نادى أبوجهل.. هلموا فاقتلوا محمداً فقد مات الذي كان ناصره فقال الله: فَلْيَدعُ نَادِيَهْ سَنَدْعُو الزَّبَانِيَة..لأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أجاره مطعم بن عدي بن نوفل بن عبدمناف، ولم يجسر عليه أحد».

وقال الطبرسي في إعلام الورى: 1/135: «قال علي بن إبراهيم بن هاشم: ولما رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الطائف وأشرف على مكة وهو معتمر، كره أن يدخل مكة وليس له فيها مجير، فنظر إلى رجل من قريش قد كان أسلم سراً فقال له: إئت الأخنس بن شريق فقل له: إن محمداً يسألك أن تجيره حتى يطوف ويسعى فإنه معتمر. فأتاه وأدى إليه ما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال الأخنس: إني لست من قريش، وإنما أنا حليف فيهم والحليف لايجير على الصميم، وأخاف أن يخفروا جواري فيكون ذلك مسبة. فرجع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره، وكان رسول الله في شعب حراء مختفياً مع زيد فقال له: إئت سهيل بن عمرو فاسأله أن يجيرني حتى أطوف بالبيت وأسعى. فأتاه وأدى إليه قوله فقال له: لا أفعل. فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): إذهب إلى مطعم بن عدي فسله أن يجيرني حتى أطوف وأسعى. فجاء إليه وأخبره فقال: أين محمد؟ فكره أن يخبره بموضعه فقال: هو قريب، فقال: إئته فقل له: إني قد أجرتك فتعال وطف واسع ما شئت. فأقبل رسول الله وقال مطعم لولده وأختانه «أصهاره» وأخيه طعيمة بن عدي: خذوا سلاحكم فإني قد أجرت محمداً، وكونوا حول الكعبة حتى يطوف ويسعى، وكانوا عشرة فأخذوا السلاح، وأقبل رسول الله حتى دخل المسجد، ورآه أبوجهل فقال: يا معشر قريش هذا محمد وحده وقد مات ناصره فشأنكم به! فقال له طعيمة بن عدي: يا عم لا تتكلم، فإن أبا وهب قد أجار محمداً! فوقف أبوجهل على مطعم بن عدي فقال: أبا وهب أمجير أم صابئ؟ قال: بل مجير. قال: إذاً لا يُخفر جوارك! فلما فرغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) من طوافه وسعيه جاء إلى مطعم فقال: أبا وهب قد أجرت

ص: 455

وأحسنت فرد عليَّ جواري. قال: وما عليك أن تقيم في جواري؟ قال: أكره أن أقيم في جوار مشرك أكثر من يوم. قال مطعم: يا معشر قريش إن محمداً قد خرج من جواري».

أقول: ردَّ صاحب الصحيح من السيرة: 3/269 رواية جوار مطعم للنبي (صلی الله علیه و آله) بحجة أنه: «لم يكن يقبل أن يكون لمشرك عنده يد يستحق الشكر عليها وهذه يد ولا شك». لكن لا دليل في سيرة نبينا (صلی الله علیه و آله) أو غيره من الأنبياء (علیهم السلام) على إبائهم ذلك، فقد قال يوسف (علیه السلام) لرئيس وزراء مصر: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ. يوسف: 55 وهذه يد على يوسف توجب الشكر دون شك.

وقال موسى (علیه السلام) لفرعون: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.«الشعراء: 22». ولو فعلها فرعون لكانت له يداً له على موسى (علیه السلام) وشكره عليها.

واحتج صاحب الصحيح أيضاً بأن طلب الجوار من مطعم ركونٌ للظالمين، والله تعالى يقول: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ. سورة هود: 113.

وجوابه: أنه ليس ركوناً، ولو سلمنا، فالضرورة والتقية أوسع من ذلك. ولم أرَ أحداً من فقهائنا أفتى بحرمة طلب الجوار من كافر، أو إعطائه لكافر.

وقد حث أميرالمؤمنين (علیه السلام) على الوفاء بالجوار والذمام مطلقاً، فقال في نهجالبلاغة: 2/150: «فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار والوفاء بالذمام..».

ويكفي لإثبات استجارته (صلی الله علیه و آله) بمطعم أن يرويه علي بن إبراهيم والطبرسي وابن شهرآشوب «المناقب: 1/15» وقد أورده علماؤنا على أنه من مسلَّمات السيرة.

ونشير في الختام إلى أن حكيم بن جبير بن مُطعم، كان من خاصة أصحاب الإمام زين العابدين (علیه السلام)، فهو على العكس من جده مطعم.

قال السيد الخوئي (رحمة الله) في معجم الرجال: 7/195: «حكيم بن جبير بن مطعم بن عدي بن عبدمناف القرشي المدني، من أصحاب السجاد (علیه السلام)».

وفي الكشي: 1/44 و338: «ارتد الناس بعد الحسين (علیه السلام) إلا ثلاثة: أبو خالد الكابلي ويحيى بن أم الطويل وجبير بن مطعم، ثم إن الناس لحقوا وكثروا».

وفي الإختصاص/61، عن الإمام الكاظم (علیه السلام):«إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين

ص: 456

حواري رسول الله (علیهما السلام) الذين لم ينقضوا العهد ومضوا عليه؟ فيقوم سلمان والمقداد وأبوذر..الى أن قال: ثم ينادي أين حواري علي بن الحسين؟فيقوم [حكيم بن] جبير بن مطعم، ويحيى بن أم الطويل، وأبو خالد الكابلي، وسعيد بن المسيب».

15- لم يتزوج النبي (صلی الله علیه و آله) في مكة بعد خديجة (علیها السلام)

لايصح قولهم إن النبي (صلی الله علیه و آله) تزوج بعد وفاة خديجة (علیها السلام) قبل الهجرة، لأنه لا يوجد نص صحيح بزواجه في تلك الفترة، ولعل السبب أنها كانت أشد الفترات خطراً على حياته (صلی الله علیه و آله) . فلا تصح رواية أن خولة بنت حكيم زوجة عثمان بن مظعون بأنها عرضت على النبي بعد وفاة خديجة (علیها السلام) أن تخطب له فقبل، وخطبت له سودة بنت زمعة من أبيها وكان كافراً، فجاء النبي (صلی الله علیه و آله) إلى بيته وزوجه، وأن أخاها عبد بن زمعة لما عرف بزواج أخته من النبي (صلی الله علیه و آله) حثا التراب على رأسه!

ولا روايتهم بأن خولة اقترحت على النبي (صلی الله علیه و آله) أن يتزوج بعائشة وقالت له: بنت أبي بكر أحب خلق الله اليك، فأرسلها لخطبتها فوافق أبوبكر وذهب رسول الله إلى بيته فعقد عليها!وقالت عائشة إن عمرها كان يومها ست سنين، وإنه تزوجها في المدينة وقد أكملت تسع سنين.مجمع الزوائد: 9/225 و246 والطبقات: 8/57.

لكنهم رووا أن عائشة كانت متزوجة قبل النبي (صلی الله علیه و آله): «خطب رسول الله عائشة بنت أبي بكر فقال: إني كنت أعطيتها مطعماً لابنه جبير، فدعني حتى أسُلَّها منهم فاستلها منهم، فطلقها فتزوجها رسول الله». الطبقات: 8/59.

وروى الذهبي في تاريخه: 1/279 أن النبي (صلی الله علیه و آله) بقي سنتين لم يتزوج بعد خديجة.

وفي دلائل الامامة/81، عن الصادق (علیه السلام) قال: «خطب رسول الله (صلی الله علیه و آله) النساء وتزوج سودة أول دخوله المدينة، فنقل فاطمة إليها ثم تزوج أم سلمة بنت أبي أمية، فقالت أم سلمة: تزوجني رسول الله وفوض أمر ابنته إليَّ فكنت أدلها وأؤدبها، وكانت والله آدب مني وأعرف بالأشياء كلها».

ص: 457

16- أرسله الله تعالى إلى الإنس والجن

روى الجميع أن الله تعالى صرف إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في عودته من الطائف عند منطقة نخلة، نفراً من الجن، وأمره أن يتلو عليهم القرآن فآمنوا.

ورويَ ذلك أيضاً في عودته من سوق عكاظ عند وادي مِجَنَّة، بكسر الميم وهي قرب مكة. قال الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. الأحقاف: 29.

وقال تعالى في سورة الجن: قُلْ أُوحِيَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا.

وتدل هذه الآية وغيرها على أن الجن أصحاب مستوى ذهني عال، وأن بعضهم قد استوعب بمجرد سماع القرآن من النبي (صلی الله علیه و آله)، وتخرجوا منذرين لأقوامهم!

قال ابن هشام: 2/287: «ثم إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) انصرف من الطائف راجعاً إلى مكة حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى، وهم فيما ذكر لي سبعة نفر من جن أهل نصيبين فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولَّوْا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص الله خبرهم عليه (صلی الله علیه و آله) قال الله عزوجل: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ».

ونخلة: موضع بين الطائف ومكة على مسير ليلة من مكة. معجم البلدان: 5/278.

وفي تفسير القمي: 2/299: «تهجد بالقرآن في جوف الليل، فمر به نفر من الجن فلما سمعوا قراءة رسول الله (صلی الله علیه و آله) استمعوا له، فلما سمعوا قراءته قال بعضهم لبعض: أنصتوا.فجاؤوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فاسلموا وآمنوا وعلمهم رسول الله شرائع الإسلام.ومنهم كانوا يعودون إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) في كل وقت، فأمر رسول الله أميرالمؤمنين (علیه السلام) أن يعلمهم ويفقههم، فمنهم مؤمنون ومنهم كافرون وناصبون ويهود ونصارى ومجوس، وهم ولد الجان.

وسئل العالم (علیه السلام) عن مؤمني الجن أيدخلون الجنة؟ فقال لا، ولكن لله حظائر

ص: 458

بين الجنة والنار، يكون فيها مؤمنو الجن، وفساق الشيعة».

وروى في المحاسن: 2/379: «عن عمر بن يزيد قال: ضللنا سنة من السنين ونحن في طريق مكة، فأقمنا ثلاثة أيام نطلب الطريق فلم نجده، فلما أن كان في اليوم الثالث وقد نفد ماكان معنا من الماء، عمدنا إلى ما كان معنا من ثياب الإحرام ومن الحنوط، فتحنطنا وتكفنا بإزار إحرامنا، فقام رجل من أصحابنا فنادى: يا صالح يا أبا الحسن، فأجابه مجيب من بُعد! فقلنا له: من أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا من النفر الذي قال الله عزوجل في كتابه: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ. ولم يبق منهم غيري، فأنا مرشد الضال إلى الطريق! قال: فلم نزل نتبع الصوت حتى خرجنا إلى الطريق».

وفي الإحتجاج: 1/330، من حديث يهودي مع أميرالمؤمنين (علیه السلام): «ولقد سُخِّرَت لنبينا محمد (صلی الله علیه و آله) الشياطين بالإيمان، فأقبل إليه من الجِنة تسعة من أشرافهم.وهم الذين يقول الله تبارك اسمه فيهم: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ. وهم التسعة فأقبل إليه الجن والنبي (صلی الله علیه و آله) ببطن النخل فاعتذروا بأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً. ولقد أقبل إليه أحد وسبعون ألفاً منهم فبايعوه على الصوم والصلاة والزكاة والحج والجهاد ونصح المسلمين، واعتذروا بأنهم قالوا على الله شططاً». راجع أيضاً المناقب: 1/44 و191، المحاسن: 2/380، الأمان/123، الحاكم: 2/456 و518، مجمع الزوائد: 7/106. والبحار: 10/44، 18/76و90،60/55 وفيه: «ولم يبعث الله نبياً إلى الإنس والجن قبله (صلی الله علیه و آله) وإنما سميا ثقلين لعظم خطرهما

وجلالة شأنهما».

ص: 459

الفصل الرابع والعشرون: النبی (صلی الله علیه و آله) يعرض نفسه على القبائل لحمايته من قريش

1- بدأ (صلی الله علیه و آله) يعرض نفسه على القبائل من السنة الرابعة

أ.كان العرب يحجون إلى مكة في شهر ذي الحجة، ويعتمرون في رجب، ويقيمون بعد الحج سوقهم المشهور سوق عُكاظ. وقد أمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يلتقي بشخصياتهم ويطلب منهم أن يحموه ليبلغ رسالة ربه، لأن قريشاً منعته من تبليغها.

ففي تفسير العياشي: 2/253 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «اكتتم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة سنين ليس يظهر وعلي معه وخديجة (علیهما السلام)، ثم أمره الله أن يصدع بما يؤمر فظهر رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب».

وقال اليعقوبي: 2/36: «كان رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم شريف كل قوم، لايسألهم إلا أن يؤووه ويمنعوه ويقول: لا أكره أحداً منكم، إنما أريد أن تمنعوني مما يراد بي من القتل، حتى أبلغ رسالات ربي».

وفي الطبقات: 1/216: «مكث رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثلاث سنين من أول نبوته مستخفياً ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين، يوافي الموسم كل عام، يتتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة، فلا يجد أحداً ينصره ولا يجيبه، حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ويقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتذل لكم العجم، وإذا آمنتم كنتم

ص: 460

ملوكاً في الجنة.. جاءنا ثلاثة أعوام بعكاظ ومجنة وبذي المجاز، يدعونا إلى الله عزوجل، وأن نمنع له ظهره، حتى يبلغ رسالات ربه». والطبري: 2/84، وسبل الهدى:2/451 والحلبية: 2/153.

وعدَّ منهم المقريزي في الإمتاع: 1/49 خمس عشرة قبيلة، قال: «عرض نفسه على القبائل أيام الموسم ودعاهم إلى الإسلام وهم: بنو عامر، وغسان، وبنو فزارة، وبنو مرة، وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو عذرة، وقيس بن الخطيم».

يضاف اليهم قبيلة ثقيف حيث قصدهم إلى الطائف، والأوس والخزرج، الذين قبلوا عرضه وبايعوه، فهاجر اليهم. وآخرون.

وقال ابن هشام: 2/288 إن النبي (صلی الله علیه و آله) أتى بني كندة فأبوا عليه، وأتى بني عبدالله من بني كلب فلم يقبلوا منه ما عرضه عليهم. وأتى بني حنيفة فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه رداً منهم.

وذكر ابن هشام عن ابن إسحاق أن النبي (صلی الله علیه و آله) قصد سويد بن صامت، أخا بني عمرو بن عوف، وكان سويد حكيماً شاعراً، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان، يعني حكمة لقمان، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): إعرضها عليَّ فعرضها عليه فقال له: إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى عليَّ هو هدى ونور، فتلا عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) القرآن، ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف عنه، فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قد قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل يوم بعاث..

«وهو لايسمع بقادم يقدم مكة من العرب له إسم وشرف، إلا تصدى له، فدعاه إلى الله وعرض عليه ما عنده».

وفي مسند أحمد: 3/322: أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان معروفاً في الأمصار، فكان الرجل

ص: 461

يخرج من اليمن أو من مصر فيأتيه قومه فيقولون: إحذر غلام قريش لايفتنك!

ب. كان يذهب إلى دعوة القبائل ومعه زيد بن حارثة، أو علي (علیه السلام)، وروت المصادر أن أبابكر بعد أن أسلم ذهب معه ذات مرة، كما في ثقات ابن حبان: 1/80 عن علي قال: «لما أمر الله رسوله (صلی الله علیه و آله) أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه وأبوبكر، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبوبكر فسلم وقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة. قال: وأي ربيعة أنتم أمن هامتها أم من لهازمها؟ فقالوا: لا، بل من هامتها العظمى. قال أبوبكر: وأي هامتها العظمى أنتم؟ قالوا: من ذهل الأكبر. قال أبوبكر: فمنكم عوف الذي يقال له لا حُرَّ بوادي عوف؟ قالوا: لا. قال: فمنكم بسطام بن قيس صاحب اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا. قال: فمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا. قال: فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا. قال: فمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا. قال أبوبكر: فلستم إذا ذهلاً الأكبر، أنتم ذهل الأصغر. فقام إليه غلام من بني شيبان يقال له دغفل حين بَقَل وجهه، فقال: على سائلنا أن نسأله! يا هذا إنك سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئاً، فممن الرجل؟ فقال أبوبكر: أنا من قريش. فقال الفتى: بخ بخ أهل الشرف والرئاسة، فمن أي القرشيين أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة. قال: أمكنت والله الرامي من صفاء الثغرة، فمنكم قصي الذي جمع القبائل من فهر، فكان يدعى في قريش مجمعاً؟ قال: لا. قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجافُ؟ قال: لا. قال: فمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا. قال: فمنكم شيبة الحمد عبدالمطلب مطعم طير السماء، الذي كأن وجهه القمر يضئ في الليلة الظلماء الداجية؟ قال: لا. قال: فمن أهل السقاية؟ قال: لا. واجتذب أبوبكر زمام الناقة فرجع إلى رسول الله فقال الغلام:

صادف درأ السيل درأً يدفعه *** يُهيضه حيناً وحيناً يصدعه!

أما والله لو ثبت! قال فتبسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال عليٌّ: فقلت يا أبابكر لقد وقعت من الأعرابي على باقعة «داهية»! فقال لي: أجل يا أبا الحسن، ما من طامة إلا وفوقها

ص: 462

طامة، والبلاء موكل بالمنطق!

قال علي: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار فتقدم أبوبكر [وكان مقدماً في كل خير] فسلَّم وقال: ممن القوم؟ فقالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبوبكر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما وراء هؤلاء القوم عز، هؤلاء غُرَرُ قومهم وفيهم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك. وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالاً ولساناً، وكان غديرتان تسقطان على تربيته، وكان أدنى القوم مجلساً من أبي بكر فقال أبوبكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على ألف، ولن يغلب ألف من قلة. فقال أبوبكر: وكيف المنعة فيكم؟ قال مفروق: علينا الجهد ولكل قوم جد. قال أبوبكر: كيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ قال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضباً حين نلقى، وإنا لأشد ما نكونن لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة ويديل علينا أخرى. لعلك أخو قريش؟ قال أبوبكر: وقد بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا. قال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، قال: فإلى مَ تدعو يا أخا قريش؟ قال: أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله وأن تؤووني وتنصروني، فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله، فكذبت رسله واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد.

فقال مفروق بن عمرو: إلى مَا تدعونا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله (صلی الله علیه و آله): قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. الأنعام:/ 151.

قال مفروق: وإلى مَا تدعو يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله (صلی الله علیه و آله): إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالآحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. «النحل/ 90». فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق

ص: 463

ومحاسن الأعمال، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة، فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا. فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش وإني أرى إن تركنا ديننا واتبعناك على دينك لمجلس جلسته إلينا، زلةٌ في الرأي وقلةُ فكر في العواقب، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر!وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا.

فقال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة، في تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك، وإنما أنزلنا بين ضرتين!

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما هاتان الضرتان؟ قال: أنهار كسرى ومياه العرب، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى لا نحدث حدثاً ولا نؤي محدثاً، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعو إليه مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من أحاطه الله من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم نعم. قال: فتلا رسول الله (صلی الله علیه و آله): يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا.الأحزاب/ 45.

ثم نهض قابضاً على يد أبي بكر وهو يقول: يا أبابكر أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها، بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض»!

ورواه السمعاني في الأنساب: 1/38، ابن كثير في النهاية: 3/173، السيرة:2/160 واعتبره غريباً فقال: «وأغرب من ذلك وأطول ما رواه أبو نعيم والحاكم والبيهقي».

ورواه في تاريخ دمشق: 17/293، مطولاً وليس فيه مديح أبي بكر على لسان علي بقوله [وكان مقدماً في كل خير] ولذلك وضعناها بين معقوفين، لأنها من كلام الراوي. لكن الإشكال في قوله: «فدفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج فما نهضنا حتى بايعوا رسول الله. لأن بيعة الأنصار كانت قبل هجرة النبي بسنتين وسنة».

ص: 464

أقول: هذه الرواية على ما فيها تعطي صورة عن دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) لقبائل العرب في المواسم، كما تدل على أن وقتها في آخر الفترة المكية عندما بايع الأنصار.

ج. كان النبي (صلی الله علیه و آله) يقول للذين يزورهم: «يا بني فلان إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوه ولاتشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه، وأن تؤمنوا وتصدقوني وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به».

«قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا العرب وتذل لكم العجم. وإذا آمنتم كنتم ملوكاً في الجنة». «سبل الهدى: 2/451».«هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي». تاريخ الذهبي 1/281.

«لا أكره أحداً على شئ. من رضي الذي أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد منعي من القتل حتى أبلغ رسالات ربي». السيرة الحلبية: 2/158.

«ألا رجل يعرض على قومه فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عزوجل. فأتاه رجل من همذان فقال: ممن أنت؟ فقال الرجل: من همذان، فقال: هل عند قومك من منعة؟ قال: نعم ثم إن الرجل خشي أن يخفره قومه فأتى رسول الله فقال: آتيهم أخبرهم ثم آتيك من قابل. قال: نعم. فانطلق وجاء وفد الأنصار في رجب». السيرة الحلبية: 2/153، مجمع الزوائد: 6/35 وفتح الباري: 7/171.

د. وكانت القبائل ترفض دعوته (صلی الله علیه و آله) لأن زعماء قريش قاموا بحملة من السنة الأولى على وفود الحجاج: «يقولون لمن أتى مكة: لاتغتروا بالخارج منا، والمدعي النبوة». مجمع البيان: 6/131، الكشاف: 2/406 والواحدي: 1/598.

وقد فسروا المقتسمين في سورة الحجر/89، بالستة عشر الذين أرسلهم الوليد بن المغيرة إلى مداخل مكة، ليحذروا الوفود من النبي (صلی الله علیه و آله)، لكنه بعيد.

والمؤكد أن موقع قريش في العرب، ونشاطها المعادي للنبي (صلی الله علیه و آله) في موسم الحج والعمرة كانا السبب في رفض القبائل حمايته، فكانت تجيبه: «أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك».«ترون أن رجلاً يصلحنا، وقد أفسد قومه». «السيرة الحلبية: 2/155و158 وسبل الهدى 2/451».«يا محمد إعمد لطيتك. أي إمض لوجهك

ص: 465

وقصدك. ويقال: إلحق بطيتك وبنيتك، أي بحاجتك». لسان العرب: 15/20.

ه. وقد قبلت بعض القبائل دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) لكنها اشترطت أن يكون لها الحكم بعده فأجابهم بأن الأمر ليس له، بل لله تعالى وقد عين له أهلاً، وكان يشرط عليهم أن لاينازعوا الأمر أهله! «أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عزوجل وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك! فأبوا عليه.

فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كانت أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش ثم أحد بني عبدالمطلب يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا. قال: فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف، هل لذناباها من مُطَّلب؟! والذي نفس فلان بيده ما تقوَّلها إسماعيلي قط وإنها لحق فأين رأيكم كان عنكم»! ابن هشام: 2/289 والطبري:2/84.

وكذا قبيلة كندة اليمانية: «حدثني أبي عن أشياخ قومه أن كندة قالت له: إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الملك لله يجعله حيث يشاء، فقالوا: لا حاجة لنا فيما جئتنا به». سيرة ابن كثير: 2/159 ونحوه: 4/114.

وفي التراتيب الإدارية للفاسي: 1/2: «كان يطوف على القبائل في أول أمره لينصروه فيقولون له ويكون لنا الأمر من بعدك؟ فيقول: إني قد منعت من ذلك».

و. أخذ (صلی الله علیه و آله) بيعة الأنصار على حمايته، وحماية أهل بيته:، وأن لاينازعوهم الأمر. ففي المناقب: 1/305، وأوسط الطبراني: 2/207، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «أشهد لقد حدثني أبي عن أبيه عن جده عن الحسين بن علي، قال: لما جاءت الأنصار تبايع

ص: 466

رسول الله (صلی الله علیه و آله) على العقبة قال: قم يا علي. فقال علي: على ما أبايعهم يا رسول الله؟ قال: على أن يطاع الله فلا يعصى، وعلى أن يمنعوا رسول الله وأهل بيته وذريته مما يمنعون منه أنفسهم وذراريهم. ثم كان الذي كتب الكتاب بينهم».

وفي الكافي: 8/261، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «وأخذ عليهم عليٌّ أن يمنعوا محمداً وذريته مما يمنعون منه أنفسهم وذراريهم..نجا من نجا، وهلك من هلك».

وفي مناقب ابن سليمان: 2/165: «فالتزمتها رقاب القوم ووفى بها من وفى».

وفي شرح الأخبار: 2/159: «عن الحسن البصري أنه قال: قاتل الله معاوية سلب هذه الأمة أمرها، ونازع الأمر أهله، واستعمل على المؤمنين علجاً، يعني زياداً».

هذا، وقد ورد عن الأئمة (علیهم السلام) ذمُّ الأنصار، لأنهم لم يفوا ببيعتهم لرسول الله (صلی الله علیه و آله) في حماية أهل بيته، وأن لا ينازعوهم الأمر بعده!

وفي تفسير الطبري: 28/59، عن قتادة: «بايعه ليلة العقبة اثنان وسبعون رجلاً من الأنصار، ذكر لنا أن بعضهم قال: هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعون على محاربة العرب كلها أو يسلموا. ذكر لنا أن رجلاً قال: يا نبي الله، إشترط لربك ولنفسك ما شئت، قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأشترط لنفسي أن تمنعوني وأهل بيتي وذريتي مما منعتم منه أنفسكم وأبناءكم. قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا يانبي الله؟قال: لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة».

وفي البخاري: 8/88 وموطأ مالك: 2/445 عن عبادة بن الصامت: «بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في اليسر والعسر المنشط والمكره، وأن لاننازع الأمر أهله». وفي فتح الباري: 13/6 وعمدة القاري: 24/179: «والمراد بالأمر الملك والإمارة».

وعلى ذلك كانت بيعة الحديبية! قال النووي في شرح مسلم: 13/2: «وفي حديث ابن عمر وعبادة: بايعنا على السمع والطاعة، وأن لا ننازع الأمر أهله».

ز. وبعد أن نازعت قريش الأمر أهله، وأخذت دولة النبي (صلی الله علیه و آله) واضطهدت عترته، كذبت على النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه كان يقصد بشرط عدم منازعة الأمر أهله، منازعة قريش وليس عترته! قال السيوطي في الدر المنثور: 6/18: «عن علي وابن

ص: 467

عباس قالا: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يعرض نفسه على القبائل بمكة ويعدهم الظهور، فإذا قالوا: لمن الملك بعدك؟ أمسك فلم يجبهم بشيء، لأنه لم يؤمر في ذلك بشيء حتى نزلت: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ. «الزخرف/ 44»، فكان بعدها إذا سئل قال: لقريش، فلا يجيبوه! وقبلته الأنصار على ذلك».

أقول: لاحظ أنهم زعموا أن الوحي نزل عليه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، ومعناه أن القرآن لك ولقريش، فالخلافة لقريش! وقد جعلوا ذلك على لسان علي وابن عباس ليقولوا إن بني هاشم أنفسهم رووا أن الملك بعد النبي (صلی الله علیه و آله) حق شرعي لقريش، وليس لبني هاشم، ولا للأنصار لأنهم بايعوا النبي (صلی الله علیه و آله) على ذلك!

وهم بذلك يكذبون أنفسهم بأن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يوصِ ولا سأله أحدٌ عن الخلافة! فالصحيح أن خلافته (صلی الله علیه و آله) كانت مطروحة من أول بعثته وأن القبائل كانت تطمع بها وتشرط عليه أن تكون لها بعده فلا يقبل، فترفض حمايته!

ثم كذبوا عليه بأنه كان يجيب القبائل بأن الملك بعده لقريش! فلو صح لسألته القبائل: كيف تريد أن نحميك من قريش أن تقتلك، وتجعل لها الخلافة دوننا!

ولو كان الذكر في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، يعني الخلافة، لوجب أن تكون الخلافة لكل الناس، لأنه تعالى قال: إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ.

بل هذا الحديث من مكذوباتهم لإعطاء الشرعية لنظام «الخلافة» الذي أسسوه في السقيفة! وقد اعترف الذهبي بأنه موضوع! قال في ميزان الإعتدال: 2/255، في ترجمة راويه: «سيف بن عمر الضبي الأسيدي: مصنف الفتوح والردة وغير ذلك قال أبو حاتم: متروك. وقال ابن حبان: اتهم بالزندقة..مكحول البيروتي سمعت جعفر بن أبان سمعت ابن نمير يقول: سيف الضبي تميمي. كان سيف يضع الحديث، وقد اتهم بالزندقة»!

2- استمرت مفاوضة النبي (صلی الله علیه و آله) مع الأنصار بضع سنين

أ. روى الطبري في تفسيره: 4/46، والثعلبي: 3/164، وغيرهما، في تفسير قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا:

ص: 468

«فإنها عداوة الحروب التي كانت بين الحيين من الأوس والخزرج في الجاهلية قبل الإسلام. يزعم العلماء بأيام العرب أنها تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة. وهم أخَوان لأب وأم! فلم يسمع بقوم كان بينهم من العدواة والحرب ما كان بينهم.

ثم إن الله عزوجل أطفأ ذلك بالإسلام وألف بينهم برسوله محمد (صلی الله علیه و آله) فذكرهم جل ثناؤه إذ وعظهم، عظيم ما كانوا فيه في جاهليتهم من البلاء والشقاء بمعاداة بعضهم بعضاً، وقتل بعضهم بعضاً، وخوف بعضهم من بعض، وما صاروا إليه بالإسلام واتباع الرسول (صلی الله علیه و آله) والإيمان به وبما جاء به من الائتلاف والاجتماع».

ب.وكانت آخر الحروب بين الأوس والخزرج حرب بُعاث، إسم حصن للأوس قبل الهجرة بخمس سنين «الحاكم: 3/421» وقيل بثلاث «فتح الباري: 2/367».

وكانوا حينذاك يتفاوضون مع النبي (صلی الله علیه و آله)، ورووا أن أياس بن معاذ الأشهلي الأوسي كان أسلم وبايع النبي (صلی الله علیه و آله) ورجع إلى قومه، فوقعت الحرب وقُتل فيها، فعدوه من الصحابة. «معجم السيد الخوئي: 4/159» ومعناه أن المفاوضة استمرت نحو أربع سنين، حتى بيعة العقبة التي هاجر النبي (صلی الله علیه و آله) على أثرها.

ج. وأول من سمع من النبي (صلی الله علیه و آله) من أهل المدينة فتية فيهم أياس بن معاذ الأشهلي الأوسي كما في رجال الطوسي/22، وعده صحابياً، وكبير الطبراني: 1/276: «لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبدالأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأتاهم فجلس إليهم فقال: هل لكم إلى خير مما جئتم له؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأنزل الله عليَّ الكتاب، ثم شرع لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً: أي قومي، هذا والله خير مما جئتم له! قال فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها في وجه إياس وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا. قال فصمت إياس وقام عنهم

ص: 469

رسول الله (صلی الله علیه و آله) وانصرفوا إلى المدينة فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومه عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات. فما كانوا يشكون أن قد مات مسلماً، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله ما سمع». والطبقات: 3/437، الطبري: 2/85 ووثقه مجمع الزوائد: 6/36.

وقيل أول من رأى النبي (صلی الله علیه و آله): أبو الحيسر، أو سويد بن الصامت. تفسير الطبري: 4/46.

د. ثم جاء بعدهما أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس، فالتقيا بالنبي (صلی الله علیه و آله) وأسلما. قال الطبرسي في إعلام الورى: 1/136: «قال علي بن إبراهيم: قدم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس في موسم من مواسم العرب وهما من الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهراً طويلاً، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث وكانت للأوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة فنزل عليه فقال له: إنه كان بيننا وبين قومنا حرب، وقد جئناك نطلب الحلف عليهم. فقال له عتبة: بعدت دارنا من داركم، ولنا شغل لا نتفرغ لشئ. قال: وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟ قال له عتبة: خرج فينا رجل يدعي أنه رسول الله سفَّه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شباننا وفرق جماعتنا! فقال له أسعد: من هو منكم؟ قال: ابن عبدالله بن عبدالمطلب، من أوسطنا شرفاً وأعظمنا بيتاً!

وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم - النضير وقريظة وقينقاع- أن هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة، لنقتلنكم به يا معشر العرب. فلما سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمع من اليهود، قال: فأين هو؟ قال: جالس في الحجر، وإنهم لا يخرجون من شعبهم إلا في الموسم، فلا تسمع منه ولا تكلمه، فإنه ساحر يسحرك بكلامه. وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب. فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر، لا بد لي أن أطوف بالبيت! قال: ضع في أذنيك القطن. فدخل أسعد المسجد وقد حشا أذنيه بالقطن، فطاف

ص: 470

بالبيت ورسول الله (صلی الله علیه و آله) جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إليه نظرة فجازه! فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل مني! أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا أتعرفه حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم؟ ثم أخذ القطن من أذنيه ورمى به وقال لرسول الله: أنعم صباحاً، فرفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) رأسه إليه وقال: قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام عليكم. فقال له أسعد: إن عهدك بهذا لقريب، إلى ما تدعو يا محمد؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأدعوكم إلى: أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.

فلما سمع أسعد هذا قال له: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبيننا وبين إخوتنا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها الله بك فلا أجد أعز منك، ومعي رجل من قومي فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمم الله لنا أمرنا فيك، والله يا رسول الله لقد كنا نسمع من اليهود خبرك، ويبشروننا بمخرجك ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقني إليك. والله ما جئنا إلا لنطلب الحلف على قومنا، وقد آتانا الله بأفضل مما أتينا له.

ثم أقبل ذكوان، فقال له أسعد: هذا رسول الله الذي كانت اليهود تبشرنا به وتخبرنا بصفته، فهلمَّ فأسلم فأسلم ذكوان، ثم قالا: يا رسول الله إبعث معنا رجلاً يعلمنا القرآن ويدعو الناس إلى أمرك. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لمصعب بن عمير، وكان فتى حدثاً مترفاً بين أبويه يكرمانه ويفضلانه على أولادهما ولم يخرج من مكة، فلما أسلم جفاه أبواه، وكان مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الشعب حتى تغير

ص: 471

وأصابه الجهد فأمره رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالخروج مع أسعد، وقد كان تعلم من القرآن كثيراً، فخرجا إلى المدينة ومعهما مصعب بن عمير فقدموا على قومهم وأخبروهم بأمر رسول الله وخبره، فأجاب من كل بطن الرجل والرجلان، وكان مصعب نازلاً على أسعد بن زرارة، وكان يخرج في كل يوم فيطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الإسلام فيجيبه الأحداث، وكان عبدالله بن أبيّ شريفاً في الخزرج، وقد كان الأوس والخزرج اجتمعوا على أن يملكوه عليهم لشرفه وسخائه، وقد كانوا اتخذوا له إكليلاً احتاجوا في تمامه إلى واسطة كانوا يطلبونها، وذلك أنه لم يدخل مع قومه الخزرج في حرب بعاث، ولم يعن على الأوس وقال: هذا ظلم منكم للأوس ولا أعين على الظلم، فرضيت به الأوس والخزرج، فلما قدم أسعد كره عبدالله ما جاء به أسعد وذكوان فتر أمره، فقال أسعد لمصعب: إن خالي سعد بن معاذ من رؤساء الأوس، هو رجل عاقل شريف مطاع في بني عمرو بن عوف، فإن دخل في هذا الأمر تم لنا أمرنا فهلم نأتي محلتهم، فجاء مصعب مع أسعد إلى محلة سعد بن معاذ فقعد على بئر من آبارهم واجتمع إليه قوم من أحداثهم وهو يقرأ عليهم القرآن، فبلغ ذلك سعد بن معاذ فقال لأسيد بن حضير وكان من أشرافهم: بلغني أن أبا أمامة أسعد ابن زرارة قد جاء إلى محلتنا مع هذا القرشي يفسد شباننا فأته وانهه عن ذلك!فجاء أسيد بن حضير فنظر إليه أسعد فقال لمصعب: إن هذا رجل شريف، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتم أمرنا فاصدق الله فيه.

فلما قرب أسيد منهم قال: يا أبا أمامة يقول لك خالك: لا تأتنا في نادينا ولا تفسد شباننا واحذر الأوس على نفسك. فقال مصعب: أو تجلس فنعرض عليك أمراً فإن أحببته دخلت فيه وإن كرهته نحينا عنك ما تكرهه؟ فجلس فقرأ عليه سورة من القرآن فقال: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟ قال: نغتسل ونلبس ثوبين طاهرين ونشهد الشهادتين ونصلي ركعتين. فرمى بنفسه مع ثيابه في البئر ثم خرج وعصر ثوبه، ثم قال: أعرض فعرض عليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالها ثم صلى ركعتين ثم قال لأسعد: يا أبا أمامة، أنا أبعث إليك الآن

ص: 472

خالك، وأحتال عليه في أن يجيئك. فرجع أسيد إلى سعد بن معاذ، فلما نظر إليه سعد قال: أقسم أن أسيداً قد رجع إلينا بغير الوجه الذي ذهب من عندنا، وأتاهم سعد بن معاذ فقرأ عليه مصعب: حم. تنزيل من الرحمن الرحيم. فلما سمعها قال مصعب: والله لقد رأينا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم فبعث إلى منزله، وأتى بثوبين طاهرين واغتسل وشهد الشهادتين وصلى ركعتين. ثم قام وأخذ بيد مصعب وحوله إليه وقال: أظهر أمرك ولا تهابن أحداً.

ثم جاء فوقف في بني عمرو بن عوف وصاح: يا بني عمرو بن عوف، لا يبقين رجل ولا امرأة ولا بكر ولا ذات بعل ولا شيخ ولا صبي إلا خرج، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب. فلما اجتمعوا قال: كيف حالي عندكم؟ قالوا: أنت سيدنا والمطاع فينا ولا نرد لك أمراً فمرنا بما شئت. فقال: كلام رجالكم ونسائكم وصبيانكم عليَّ حرام حتى تشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فالحمد لله الذي أكرمنا بذلك، وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به! فما بقي دار من دور بني عمرو بن عوف في ذلك اليوم إلا وفيها مسلم أو مسلمة، وحول مصعب بن عمير إليه، وقال له: أظهر أمرك وادع الناس علانية، وشاع الإسلام بالمدينة وكثر، ودخل فيه من البطنين جميعاً أشرافهم، وذلك لما كان عندهم من أخبار اليهود».

ه. أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) مصعب بن عمير (رحمة الله) إلى المدينة قبل ثلاث سنوات من هجرته مع أسعد بن زرارة، وكان مع النبي (صلی الله علیه و آله) في الشعب خوفاً من أهله بني عبدالدار، وكان إرساله قبل بيعة العقبة الأولى بسنة أو نحوها، فلا يصح قول ابن حجر: «كان قبل الهجرة بسنة واحدة». فتح الباري: 3/60.

وكان يأتي إلى مكة ثم يرجع إلى المدينة. قال ابن هشام: 2/299: «ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا مكة».

ص: 473

و.كان لمصعب دور أساسي في بناء قاعدة الإسلام في المدينة، كما كان أحد القادة في معركة أحد، فهو من بني عبدالدار الشجعان الذين لهم لواء الحرب في قريش، وقد أعطى النبي (صلی الله علیه و آله) لمصعب لواء الأنصار في أحُد فأجاد القتال، وعندما انهزم المسلمون في الجولة الثانية ثبت مع النبي (صلی الله علیه و آله) وقاتل حتى استشهد (رحمة الله)، قتله أبيُّ بن خلف بن قميئة، وقيل ظنه رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

«أقبل يومئذ أبيُّ بن خلف وهو على فرس له وهو يقول: هذا ابن أبي كبشة بُؤْ بذنبك لا نجوتُ إن نجوتَ. ورسول الله (صلی الله علیه و آله) بين الحارث بن الصمة وسهل بن حنيف يعتمد عليهما، فحمل عليه فوقاه مصعب بن عمير بنفسه فطعن مصعباً فقتله، فأخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) عنزة «حربة» كانت في يد سهل بن حنيف، ثم طعن أبياً في جربان الدرع، فاعتنق فرسه فانتهى إلى عسكره وهو يخور خوار الثور، فقال أبوسفيان: ويلك ما أجزعك إنما هو خدش ليس بشئ! فقال: ويلك يا ابن حرب أتدري من طعنني! إنما طعنني محمد وهو قال لي بمكة إني سأقتلك فعلمت أنه قاتلي، والله لو أن ما بي كان بجميع أهل الحجاز لقضت عليهم! فلم يزل يخور الملعون حتى صار إلى النار». إعلام الورى: 1/178 والحاكم: 2/327.

وقالت نسيبة بنت كعب رحمها الله: «خرجت أول النهار إلى أحُد وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فجعلت أباشرالقتال وأذب عن رسول الله بالسيف وأرمي بالقوس حتى خلصت إليَّ الجراح..أقبل بن قميئة وقد ولى الناس عن رسول الله يصيح: دلوني على محمد فلا نجوتُ إن نجا! فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه فكنت فيهم، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كان عليه درعان». الطبقات: 8/412.

وفي تفسير القمي: 1/114: «ونظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى رجل من كبار المهاجرين قد ألقى ترسه خلف ظهره وهو في الهزيمة فناداه: يا صاحب الترس ألق ترسك ومُرَّ إلى النار! فرمى بترسه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا نسيبة خذي الترس فأخذت الترس وكانت

ص: 474

تقاتل المشركين، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لمقام نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان»!

والذي أمره النبي (صلی الله علیه و آله) بإلقاء ترسه هو عمر، وروى السرخسي في شرح السير الكبير: 1/200، أن النبي (صلی الله علیه و آله) عندما مدح نسيبة سمى جماعة ممن فروا.

وروي أن عبد بن عمير أخا مصعب كان مع المشركين في أحُد فقتله مصعب، وأن أخاه الآخر أبا عزة الشاعر أسر يوم أحد وقتله النبي (صلی الله علیه و آله)، لأنه كان أسر يوم بدر وأطلقه النبي (صلی الله علیه و آله) بلا فداء، بشرط أن لايعود فعاد وأسر في أحد «الخرائج: 1/149»وروى البيهقي في السنن: 9/65 وغيره، أن أبا عزة جمحي، وليس ابن عمير.

وفي سيرة ابن هشام: 2/472: «قال أبو عزيز: مرَّ بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال: شد يديك به فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك! قال: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية رسول الله إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها، قال: فأستحي فأردها على أحدهم فيردها عليَّ ما يمسها. قال ابن هشام: وكان أبو عزيز صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث، فلما قال أخوه مصعب بن عمير لأبي اليسر وهو الذي أسره ما قال، قال له أبو عزيز: يا أخي هذه وصاتك بي؟! فقال مصعب: إنه أخي دونك! فسألت أمه عن أغلى ما فدى به قرشي؟ فقيل لها: أربعة آلاف درهم، فبعثت بأربعة آلاف درهم ففدته بها».

وقد بالغ الرواة في تصغير سنه يوم أسلم، مع أن عمره كان فوق الثلاثين، لأنه كان يوم استشهد بضعاً وأربعين سنة. عمدة القاري: 8/60.

كما بالغوا في دوره في حرب أحُد، وفي عده من المعذبين في مكة، ويبدو أن أمه وأقاربه من بني عبدالدار اكتشفوا إسلامه فمنعوه من الذهاب إلى النبي (صلی الله علیه و آله)، ثم وافقوا على هجرته إلى الحبشة، ثم رجع إلى مكة وكان مع النبي (صلی الله علیه و آله) في الشعب. كما بالغوا في ترفه قبل الإسلام، وهو صحيح إلى حد.

قال ابن سعد في الطبقات: 3/122 و118: «كان مصعب بن عمير رقيق البشرة،

ص: 475

حسن اللُّمَّة، ليس بالقصير ولا بالطويل، قتل يوم أحد على رأس اثنين وثلاثين شهراً من الهجرة وهو ابن أربعين سنة أو يزيد شيئاً، فوقف عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو في بردة مقتول فقال: لقد رأيتك بمكة وما بها أحدق أرق حلة، ولا أحسن لمة منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة!

ثم خرج مصعب بن عمير من المدينة مع السبعين الذين وافوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) في العقبة الثانية من حاج الأوس والخزرج، ورافق أسعد بن زرارة في سفره ذلك، فقدم مكة فجاء منزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) أولاً، ولم يقرب منزله فجعل يخبر رسول الله عن الأنصار وسرعتهم إلى الإسلام، واستبطائهم رسول الله فسُرَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكل ما أخبره، وبلغ أمه أنه قد قدم فأرسلت إليه: يا عاق أتقدم بلداً أنا فيه لا تبدأ بي! فقال: ما كنت لأبدأ بأحد قبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما سلم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخبره بما أخبره، ذهب إلى أمه فقالت: إنك لعلى ما أنت عليه من الصبأة بعد؟! قال: أنا على دين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو الإسلام الذي رضيالله لنفسه ولرسوله. قالت: ما شكرت ما رثيتك! مرة بأرض الحبشة ومرة بيثرب! فقال: أفر بديني أن تفتنوني! فأرادت حبسه فقال: لئن أنت حبستني لأحرصن على قتل من يتعرض لي! قالت: فاذهب لشأنك وجعلت تبكي، فقال مصعب: يا أمهْ إني لك ناصح عليك شفيق، فاشهدي أنه لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. قالت: والثواقب لا أدخل في دينك فيزري برأيي ويضعف عقلي، ولكني أدعك وما أنت عليه، وأقيم على ديني! قال: وأقام مصعب بن عمير مع النبي (صلی الله علیه و آله) بمكة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، وقدم قبل رسول الله إلى المدينة مهاجراً لهلال شهر ربيع الأول، قبل مقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) باثنتي عشرة ليلة».

وعندما انهزم المسلمون وتركوا نبيهم لسيوف المشركين ثبت معه مصعب واستشهد مع النفر الذين ثبتوا فاستشهدوا أو جرحوا، فبقي هو وعلي (صلی الله علیه و آله) وحدهما! فقاتل قتال الأبطال حتى أمره الله أن يستطل بصخرة، وعليٌّ يرد عنه هجمات قريش فيقصد قائد الكتيبة فيقتله فتنهزم الكتيبة، حتى يئس الكفار وانسحبوا! وأنزل الله في وصف ذلك أربعين آية! 139- 179 آل عمران.

ص: 476

وفي ذلك الوقت العصيب جاءت فاطمة الزهراء (علیها السلام) من المدينة إلى المعركة كالصقر المنقض، وواست رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنفسها، وضمدت جراحه!

ثم جاء النبي (صلی الله علیه و آله) إلى ميدان المعركة وصلى على الشهداء ودفنهم ومنهم عمه حمزة، ومصعب بن عمير رضيالله عنهما. وروى الجميع أنه كبر على عمه حمزة سبعين تكبيرة، وروى في الطبقات: 3/122، أنه (صلی الله علیه و آله) وقف على مصعب: «وهو في بردة مقتول فقال: لقد رأيتك بمكة وما بها أحدق أرق حلة ولا أحسن لُمَّةً منك ثم أنت شعث الرأس في بردة! ثم أمر به أن يقبر فنزل في قبره أخوه أبو الروم بن عمير، وعامر بن ربيعة، وسويبط بن سعد بن حرملة».

ولايصح نزولهم في قبره لأنهم فروا من المعركة ولم يحضروا دفن شهداء أحُد. ورووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) وقف على قبرهم وقال: «أشهد أنكم أحياء عند الله فزوروهم وسلموا عليهم، فوالذي نفس محمد بيده لايسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة».

مجمع الزوائد: 6/123.

ولم يُعقب مصعب بن عمير (رحمة الله) إلا ابنته زينب، وأمها حمنة أخت زينب بنت جحش. الطبقات: 8/241، أسد الغابة: 5/470 والإصابة: 3/163.

ص: 477

الفصل الخامس والعشرون: النبی (صلی الله علیه و آله) يأخذ البيعة من الأنصار استعداداً للهجرة

النبي (صلی الله علیه و آله) يُكَوِّن قاعدة لدعوته في المدينة

1. بعد تكوين قاعدة الإسلام في المدينة وانتشاره بين أهلها، تواصل طلبهم من النبي أن يهاجر اليهم: قال في إعلام الورى: 1/136: «وبلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن الأوس والخزرج قد دخلوا في الإسلام، وكتب إليه مصعب بذلك، وكان كل من دخل في الإسلام من قريش ضربه قومه وعذبوه، فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يأمرهم أن يخرجوا إلى المدينة، فكانوا يتسللون رجلاً فرجلاً، فيصيرون إلى المدينة، فينزلهم الأوس والخزرج عليهم ويواسونهم. قال: فلما قدمت الأوس والخزرج مكة جاءهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال لهم: تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربكم وثوابكم على الله الجنة؟ قالوا: نعم يا رسول الله، فخذ لنفسك وربك ما شئت. فقال: موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق. فلما حجوا رجعوا إلى منى، وكان فيه ممن قد أسلم بشر كثير، وكان أكثرهم مشركين على دينهم، وعبدالله بن أبيّ فيهم، فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في اليوم الثاني من أيام التشريق: فاحضروا دار عبدالمطلب على العقبة، ولا تنبهوا نائماً، وليتسلل واحد فواحد. وكان رسول الله نازلاً في دار عبدالمطلب، وحمزة وعلي والعباس معه، فجاءه سبعون رجلاً من الأوس والخزرج فدخلوا الدار، فلما اجتمعوا قال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربي وثوابكم على الله الجنة؟ فقال أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبدالله بن حرام: نعم يا رسول الله،

ص: 478

فاشترط لنفسك ولربك. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): تمنعوني مما تمنعون أنفسكم، وتمنعون أهلي مما تمنعون أهليكم وأولادكم؟ قالوا: فما لنا على ذلك؟ قال: الجنة، وتملكون بها العرب في الدنيا، وتدين لكم العجم وتكونون ملوكاً. فقالوا: قد رضينا. فقام العباس بن نضلة وكان من الأوس فقال: يا معشر الأوس والخزرج تعلمون على ما تقدمون عليه؟ إنما تقدمون على حرب الأبيض والأحمر، وعلى حرب ملوك الدنيا، فإن علمتم أنه إذا أصابتكم المصيبة في أنفسكم خذلتموه وتركتموه فلا تغروه، فإن رسول الله وإن كان قومه خالفوه فهو في عز ومنعة. فقال له عبدالله بن حرام وأسعد بن زرارة وأبو الهيثم بن التيهان: مالك وللكلام! يا رسول الله، بل دَمُنَا بدمك وأنفسنا بنفسك، فاشترط لربك ولنفسك ما شئت.

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً يكفلون عليكم بذلك كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً. فقالوا: إختر من شئت. فأشار جبرئيل (علیه السلام) إليهم فقال: هذا نقيب، وهذا نقيب، حتى اختار تسعة من الخزرج وهم: أسعد بن زرارة، والبراء بن معرور، وعبدالله بن حرام أبو جابر بن عبدالله، ورافع بن مالك، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وعبدالله بن رواحة، وسعد بن الربيع، وعبادة بن الصامت.

وثلاثة من الأوس وهم: أبو الهيثم ابن التيهان وكان رجلاً من اليمن حليفاً في بني عمرو بن عوف، وأسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة».

وفي المناقب: 1/157: «ثم عاد مصعب إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار إلى الموسم مع حجاج قومهم، فاجتمعوا في الشعب عند العقبة، ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، في أيام التشريق بالليل فقال (صلی الله علیه و آله): أبايعكم على الإسلام، فقال له بعضهم: نريد أن تعرفنا يا رسول الله ما لله علينا وما لك علينا وما لنا على الله؟ قال: أما ما لله عليكم فأن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً. وأما مالي عليكم فتنصروني مثل نسائكم وأبنائكم، وأن تصبروا على عض السيف وأن يقتل خياركم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك ما لنا على الله؟قال: أما في الدنيا فالظهور على

ص: 479

من عاداكم وفي الآخرة الرضوان والجنة.

فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق لنمنعك بما تمنع به أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر.

فقال أبو الهيثم إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا إن قطعناها أو قطعوها فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا، فتبسم رسول الله ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم، ثم قال: أخرجوا لي منكم اثني عشر نقيباً، فاختاروا ثم قال: أبايعكم كبيعة عيسى بن مريم للحواريين كفلاء على قومهم بما فيهم، وعلى أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، فبايعوه على ذلك. فصرخ الشيطان في العقبة: يا أهل الجباجب هل لكم في محمد والصباة معه، قد اجتمعوا على حربكم»!

وفي الطبقات: 1/222: «فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) إن موسى أخذ من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً، فلا يجدن منكم أحد في نفسه أن يؤخذ غيره، فإنما يختار لي جبريل فلما تخيرهم قال للنقباء: أنتم كفلاء على غيركم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي؟ قالوا: نعم».

أقول: «معنى ذلك أن نظام الإثني عشر من الدين الإلهي، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) اعتمد النقباء الإثني عشر لضمان وفاء الأنصار ببيعتهم. وهو نظام اجتماعي للإيمان والكفر، فالنقباء الكافلون لقومهم بالبيعة اثنا عشر، والأئمة بعد النبي (صلی الله علیه و آله) اثنا عشر، والأئمة المضلون الذين يدعون إلى النار، إثنا عشر إماماً أيضاً!

2 ذكر ابن عبدالبر في الدرر/66، أن العقبة الأولى كانت في الموسم قبل حرب بعاث، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) التقى فيها بستة من الخزرج فأسلموا، ورجعوا إلى المدينة فدعواإلى الإسلام حتى انتشر فيهم، وأن العقبة الثانية كانت في العام المقبل مع اثني عشر رجلاً بايعهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند العقبة على بيعة النساء، ولم يكن أُمِرَ بالقتال. ثم كانت العقبة الثالثة عندما رجع مصعب بن عمير إلى مكة وجاء معه إلى الموسم جماعة ممن أسلم من الأنصار، يريدون لقاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) في جملة قوم كفار منهم لم يسلموا

ص: 480

بعد فأسلموا وبايعوا، وكانوا سبعين رجلاً وامرأتين، واختار رسول الله منهم اثنا عشر نقيباً.وكانت بيعتهم على حرب الأسود والأحمر، وأخذ لنفسه واشترط عليهم لربه وجعل لهم نقباء على الوفاء بذلك الجنة».

3. اختار النبي (صلی الله علیه و آله) دار جده عبدالمطلب (رحمة الله) بمنى، عند جمرة العقبة، مكاناً للبيعة وتقدم من تفسير القمي: 1/272وإعلام الورى: 1/142، قوله (صلی الله علیه و آله): «فاحْضَروا دارَ عبدالمطلب على العقبة ولا تنبهوا نائماً وليتسلل واحد فواحد. وكان رسول الله نازلاً في دار عبدالمطلب وحمزة وعلي والعباس معه، فجاءه سبعون رجلاً من الأوس والخزرج فدخلوا الدار».

لكن رواة السلطة لم يذكروا بيت عبدالمطلب وقالوا: «فواعدوا رسول الله العقبة من أواسط أيام التشريق». ابن هشام: 2/299 والدرر/68.

وقد تعجبتُ في هذه السنة 1429 من أن الوهابيين أقاموا مسجداً صغيراً مكان بيت عبدالمطلب جعلوه رمزاً لبيعة الأنصار للنبي (صلی الله علیه و آله)، ويقع قرب جمرة العقبة على يمين الخارج منها إلى مكة، مع أنهم يزيلون آثار الإسلام والنبي وآله (صلی الله علیه و آله)، لكن لا ندري كيف حولوه إلى مسجد ومن أوقفه مسجداً؟! ولعلهم استندوا إلى نص في طبقات ابن سعد: 1/121 يقول إن الموضع كان مسجداً، قال: «وعَدَهُم «النبي (صلی الله علیه و آله)» منى وسط أيام التشريق، ليلة النفر الأول إذا هدأت الرجل، أن يوافوه في الشعب الأيمن، إذا انحدروا من منى بأسفل العقبة، حيث المسجد اليوم». أي في زمن ابن سعد في القرن الثالث.

4. كانت قريش في تلك السنة مستنفرة لمراقبة النبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم، لأنها رأت أن بعض أهل المدينة دخلوا في الإسلام، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) يأمر أصحابه المضطهدين في مكة بالهجرة إلى المدينة. ورغم رقابتهم استطاع النبي (صلی الله علیه و آله) أن يرتب لقاءه بالأنصار سراً، وجعله في بيت عبدالمطلب في منى، وواعدهم في وقت نوم الحجاج: «فخرجوا في ثلث الليل الأول متسللين من رحالهم إلى العقبة»

ص: 481

ولا بد أنه رتب حراسةً عند مدخل الشعب ومدخل الدار.

قال في إعلام الورى: 1/143: «فلما اجتمعوا وبايعوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) صاح بهم إبليس: يا معشر قريش والعرب، هذا محمد والصباة من الأوس والخزرج على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم! فأسمع أهل منى فهاجت قريش وأقبلوا بالسلاح! وسمع رسول الله (صلی الله علیه و آله) النداء فقال للأنصار: تفرقوا، فقالوا: يا رسول الله إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لم أؤمر بذلك ولم يأذن الله لي في محاربتهم. فقالوا: يا رسول الله فتخرج معنا؟قال: أنتظرأمرالله.

فجاءت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا السلاح، وخرج حمزة ومعه السيف فوقف على العقبة هو وعلي بن أبي طالب (علیه السلام)، فلما نظروا إلى حمزة قالوا: ما هذا الذي اجتمعتم عليه؟ قال: ما اجتمعنا وما هاهنا أحد، والله لا يجوز أحد هذه العقبة إلا ضربته بسيفي!

فرجعوا وغدوا إلى عبدالله بن أبيّ وقالوا له: قد بلغنا أن قومك بايعوا محمداً على حربنا! فحلف لهم عبدالله أنهم لم يفعلوا ولا علم له بذلك، وأنهم لم يطلعوه على أمرهم، فصدقوه. وتفرقت الأنصار ورجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى مكة».

أقول: مضافاً إلى نداء إبليس، فقد تكون قريش عرفت خبر بيعة الأنصار من جواسيسها، أو من تحركات الأنصار. أما امتناعها عن مواجهة النبي (صلی الله علیه و آله) فسببه أنها تعرف من هو حمزة وعليٌّ وبنو هاشم، فلم تجرؤ على فتح معركة معهم، خاصة أنها في موسم الحج والأشهر الحرم!

لكن زعماء قريش واصلوا اجتماعاتهم بقية الشهر، حتى قرروا بالإجماع قتل النبي (صلی الله علیه و آله) بعد انتهاء الأشهر الحرم، وعينوا الأشخاص من القبائل للتنفيذ.

ص: 482

الفصل السادس والعشرون: خطة قريش المبرمة لقتل النبی (صلی الله علیه و آله)

1- قريش تستنفر لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) بعد بيعة الأنصار

أ. بعد الحج شاع خبر بيعة العقبة، فثارت قريش على الأنصار! ففي المناقب: 1/158: «نفر الناس من منى وفشى الخبر، فخرجوا في الطلب فأدركوا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه وربطوه بنسع رحله وأدخلوه مكة يضربونه، فبلغ خبره إلى جبير بن مطعم، والحرث بن حرب بن أمية، فأتياه وخلصاه». المناقب: 1/158.

وفي سيرة ابن هشام: 2/306: «فلما بايعنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب «المنازل» هل لكم في مذمم والصباة معه، قد اجتمعوا على حربكم. قال فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): هذا أَزَبُّ العقبة، أتسمع أي عدو الله، أما والله لأفرغن لك. ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إرفَضُّوا إلى رحالكم..قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤونا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم، منكم. قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شئ وما علمناه. قال: وقد صدقوا لم يعلموه.أتوا عبدالله ابن أبي ابن سلول فقالوا له مثل ما قال كعب من القول». ونحوه الطبري: 2/95.

ص: 483

وفي أمالي الطوسي/176، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: «تمثل إبليس لعنه الله في أربع صور: تمثل يوم بدر في صورة سراقة بن جعشم المدلجي فقال لقريش: وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيئٌ مِنْكُمْ.. وتصور يوم العقبة في صورة منبه بن الحجاج فنادى: إن محمداً والصباة معه عند العقبة فأدركوهم، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) للأنصار: لاتخافوا فإن صوته لن يعدوهم.

وتصور يوم اجتماع قريش في دار الندوة في صورة شيخ من أهل نجد، وأشار عليهم في النبي (صلی الله علیه و آله) بما أشار فأنزل الله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ. وتصور يوم قبض النبي (صلی الله علیه و آله) في صورة المغيرة بن شعبة فقال: أيها الناس لا تجعلوها كسروانية ولا قيصرانية، وسِّعوها تتسع، فلا تردوها في بني هاشم، فتنتظر بها الحبالى»!

ب. وتواصلت مشاورات قريش بقية محرم وصفر، حتى كانت جلستهم الشهيرة في أواخر صفر، وقرروا فيها قتل النبي (صلی الله علیه و آله)، وعينوا المنفذين ووقت التنفيذ.

ففي تفسير القمي: 1/273: «فرجعوا إلى مكة وقالوا: لا نأمن من أن يفسد أمرنا ويدخل واحد من مشايخ قريش في دين محمد، فاجتمعوا في الندوة وكان لايدخل دار الندوة إلا من قد أتى عليه أربعون سنة، فدخلوا أربعون رجلاً من مشايخ قريش، وجاء إبليس في صورة شيخ كبير فقال له البوَّاب: من أنت؟ فقال أنا شيخ من أهل نجد لايعدمكم مني رأي صائب، إني حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل، فجئت لأشير عليكم، فقال الرجل: أدخل فدخل إبليس!

فلما أخذوا مجلسهم قال أبوجهل: يا معشر قريش إنه لم يكن أحد من العرب أعزّ منا، نحن أهل الله تغدو الينا العرب في السنة مرتين ويكرموننا، ونحن في حرم الله لايطمع فينا طامع، فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا محمد بن عبدالله فكنا نسميه الأمين لصلاحه وسكونه وصدق لهجته، حتى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه، ادعى أنه رسول الله وأن أخبار السماء تأتيه، فسفه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شبابنا وفرق جماعتنا، وزعم أنه من مات من أسلافنا ففي النار، فلم يرد علينا شيء أعظم من هذا! وقد رأيتُ فيه

ص: 484

رأياً. قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن ندس إليه رجلاً منا ليقتله، فإن طلبت بنو هاشم بدمه أعطيناهم عشرديات، فقال الخبيث: هذا رأي خبيث! قالوا وكيف ذلك؟ قال: لأن قاتل محمد مقتول لامحالة، فمن ذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم؟ فإنه إذا قتل محمد تغضب بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة، وإن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمد على الأرض، فتقع بينكم الحروب في حرمكم وتتفانوا.

فقال آخر منهم: فعندي رأي آخر قالوا: وما هو؟ قال نثبته في بيت ونلقي إليه قوته حتى يأتي عليه ريب المنون فيموت كما مات زهير والنابغة وامرؤ القيس، فقال إبليس: هذا أخبث من الآخر! قالوا: وكيف ذلك؟ قال لأن بني هاشم لا ترضى بذلك، فإذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم واجتمعوا عليكم فأخرجوه! قال آخر منهم: لا ولكنا نخرجه من بلادنا ونتفرغ نحن لعبادة آلهتنا.

قال إبليس: هذا أخبث من الرأيين المتقدمين! قالوا: وكيف ذاك؟ قال: لأنكم تعمدون إلى أصبح الناس وجهاً وأنطق الناس لساناً وأفصحهم لهجة، فتحملونه إلى وادي العرب فيخدعهم ويسحرهم بلسانه، فلا يفجأكم إلا وقد ملأها عليكم خيلاً ورجلاً! فبقوا حائرين ثم قالوا لإبليس: فما الرأي فيه يا شيخ؟ قال: ما فيه إلا رأي واحد. قالوا وما هو؟ قال يجتمع من كل بطن من بطون قريش واحد، ويكون معهم من بني هاشم رجل، فيأخذون سكيناً أو حديدة أو سيفاً، فيدخلون عليه فيضربونه كلهم ضربة واحدة، حتى يتفرق دمه في قريش كلها فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه وقد شاركوا فيه، فإن سألوكم أن تعطوا الدية فأعطوهم ثلاث ديات! فقالوا: نعم وعشر ديات.

ثم قالوا: الرأي رأي الشيخ النجدي! فاجتمعوا ودخل معهم في ذلك أبولهب عم النبي، ونزل جبرئيل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخبره أن قريشاً قد اجتمعت في دار الندوة يدبرون عليك، وأنزل عليه في ذلك: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.

ص: 485

واجتمعت قريش أن يدخلوا عليه ليلاً فيقتلوه، وخرجوا إلى المسجد يُصَفِّرون ويُصفِّقون ويطوفون بالبيت، فأنزل الله: وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. فالمكاء التصفير، والتصدية صفق اليدين، وهذه الآية معطوفة على قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وقد كتبت بعد آيات كثيرة.

فلما أمسى رسول الله جاءت قريش ليدخلوا عليه فقال أبولهب: لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل، فإن في الدار صبياناً ونساءً ولا نأمن أن تقع بهم يد خاطئة. فنحرسه الليلة فإذا أصبحنا دخلنا عليه، فناموا حول حجرة رسول الله (صلی الله علیه و آله)».

قال في الصحيح من السيرة: 4/8: «إن أولئك القوم الذين انتدبتهم قريش اجتمعوا على باب النبي (صلی الله علیه و آله) وهو باب عبدالمطلب على ما في بعض الروايات، يرصدونه يريدون بياته، وفيهم: الحكم بن أبي العاص، وعقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، وأبولهب، وأبوجهل، وأبو الغيطلة، وطعمة بن عدي، وأبي بن خلف، وخالد بن الوليد، وعتبة، وشيبة، وحكيم بن حزام، ونبيه، ومنبه ابنا الحجاج».

أقول: أين كان الذين ادعوا لهم البطولة، وأن الإسلام عز بهم كعمر وسعد وأبي بكر وطلحة؟! تراهم يغيبون في الشدائد ويظهرون في الرخاء؟!

ج. قال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه: المواجهة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) /181: «في دار الندوة، اتفقت زعامة البطون على قتل النبي ووضعت خطة القتل، وتطرقت لأدق التفاصيل! ومهمة الفتية الذين تم اختيارهم من كل البطون تتلخص بتنفيذ خطة الجريمة، وتقضي الخطة بمراقبة البيت المبارك الذي يقيم فيه حتى إذا ما خيم الظلام وهجع السامر، زحف فتية البطون بعزم وهدوء وطوقوا البيت المبارك، فإن خرج النبي خلال فترة التطويق انقضوا عليه بسيوفهم وضربوه ضربة واحدة، وإن لم يخرج خلال مدة معقولة، دخلوا عليه البيت جميعاً وضربوه وهو نائم ضربة رجل واحد!

وقرار زعامة البطون واضح بأن تلك الليلة يتوجب أن تكون آخر ليالي محمد من الحياة، فالأمور مرتبة ترتيباً محكماً، ولا طاقة لبني هاشم على مواجهة البطون خاصة بعد موت سيدهم وعميدهم شيخ البطاح أبي طالب.

ص: 486

كل شئ جهزته البطون لتنفيذ الجريمة وبأعصاب هادئة، مع أن محمداً من قريش ومع أن الهاشميين بنو عمومتهم، ولكن عندما يتمكن الحقد من النفوس فإنها تبور ولا شئ يصلحها.

هيأ الرسول (صلی الله علیه و آله) نفسه للهجرة والخروج من مكة، وكلف ولي عهده والإمام من بعده علي بن أبي طالب، أن يتدثر ببرد النبي الحضرمي الأخضر، وأن ينام في فراش النبي، ليوهم المتآمرين القتلة أن النائم هو النبي وليس علياً فينشغلوا عنه. وكلف النبي ولي عهده أيضاً أن يتولى تأدية الأمانات الموجودة عند الرسول إلى أهلها، وبعد أن يفعل ذلك يحمل أهل النبي، ويتبعه مهاجراً إلى المدينة المنورة.

وبعد أن رتب النبي (صلی الله علیه و آله) أموره ودَّعَ ولي عهده وأهل بيته وخرج مهاجراً.

شاهد النبي المتآمرين القتلة يحيطون بالبيت المبارك إحاطة السوار بالمعصم، ويطوقونه تطويقاً كاملاً، بحيث يتعذر الدخول أو الخروج من البيت!

وقف النبي (صلی الله علیه و آله) وقرأ: يَس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ... وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لايُبْصِرُونَ.

وطال انتظار المتآمرين ولم يخرج النبي وبدأت الوساوس تعمل في صدورهم! لقد انبلج الفجر ولاحت الدنيا، ومن المستحيل أن يتأخر خروج محمد إلى هذا الحد، واقتحموا بيت النبي ودخلوا الحجرة المقدسة، واقتربوا من فراش النبي وكشفوا الغطاء، فإذا النائم بفراش النبي علي وليس محمداً! فهاج القتلة وسألوا علياً عن النبي فقال لهم علي بهدوء المؤمن ورباطة جأشه: «قلتم له أخرج عنا فخرج عنكم»!

أحيطت زعامة بطون قريش علماً بما حدث، فهاجت وماجت وجن جنونها، فأطلقت فرسانها ورجالها ليبحثوا عن محمد وليعودوا به حياً أو ميتاً، وخصصت جائزة كبرى مقدارها مائة ناقة لمن يقبض على محمد، وبذلت زعامة بطون قريش كل وسعها للقبض على محمد، ولكنها فشلت ولم تفلح، حيث دخل النبي الغار وقضى فيه ثلاثة أيام، حتى يئست زعامة البطون من العثور عليه، وبعد ذلك شق طريقه بيمن الله ورعايته إلى عاصمة دولته المباركة».

ص: 487

2- مبيت علي (علیه السلام) في فراش النبي (صلی الله علیه و آله) يفديه بنفسه

اشارة

أ. اتفق الرواة على أن مندوبي قريش دخلوا البيت وهم شاهرون سيوفهم يتقدمهم خالد بن الوليد، فتفاجؤوا بأن النائم مكانه علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فنهض في وجههم وهو شاهر سيفه، وتلاسنوا معه وأساء معه الكلام خالد، فأمسك علي بيده وجذبه وعصر عضده، فصاح خالد كالبَكر أي البعير الصغير، ونزع علي سيف خالد، فتدخل البقية وقالوا لعلي إنهم لايريدون به شراً!

وقد روت حديث المبيت مصادرنا وبعضه مصادرهم. ففي أمالي الطوسي/466 عن عمار وأبي رافع: «فخرج القوم عِزِين «متفرقين» وسبقهم بالوحي بما كان من كيدهم جبرئيل، فتلا هذه الآية على رسول الله (صلی الله علیه و آله): وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ. فلما أخبره جبرئيل بأمر الله في ذلك ووحيه وما عزم له من الهجرة، دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) وقال له: يا علي إن الروح هبط علي بهذه الآية آنفاً، يخبرني أن قريشاً اجتمعوا على المكر بي وقتلي، وأنه أوحى إليَّ ربي عزوجل أن أهجر دار قومي، وأن انطلق إلى غار ثور تحت ليلتي، وأمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي ليخفى بمبيتك عليهم أثري، فما أنت قائل وصانع؟فقال علي (علیه السلام): أوَتسلم بمبيتي هناك يا نبي الله؟قال: نعم، فتبسم علي (علیه السلام) ضاحكاً وأهوى إلى الأرض ساجداً شكراً بما أنبأه رسول الله (صلی الله علیه و آله) من سلامته، وكان علي (علیه السلام) أول من سجد لله شكراً، وأول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الأمة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلما رفع رأسه قال له: إمض لما أمرت فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت أكن فيه بمسرتك، واقعاً منه بحيث مرادك، وإن توفيقي إلا بالله. قال (صلی الله علیه و آله): وإنه ألقي عليك شبه مني، فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي. ثم إني أخبرك يا علي أن الله تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يا ابن عم وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم والذبيح إسماعيل:، فصبراً صبراً فإن رحمة الله قريب من المحسنين. ثم ضمه النبي (صلی الله علیه و آله) إلى صدره وبكى إليه وجداً به،

ص: 488

وبكى علي (علیه السلام) جشعاً لفراق رسول الله (صلی الله علیه و آله) . ولبث رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكانه مع علي يوصيه ويأمره في ذلك بالصبر حتى صلى العشاءين، ثم خرج في فحمة العشاء الآخرة والرصد من قريش قد أطافوا بداره، ينتظرون أن ينتصف الليل وتنام الأعين، فخرج وهو يقرأ هذه الآية: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لايُبْصِرُونَ. وأخذ بيده قبضة من تراب فرمى بها على رؤوسهم فما شعر القوم به حتى تجاوزهم!

فلما غلق الليل أبوابه وأسدل أستاره وانقطع الأثر، أقبل القوم على علي (علیه السلام) يقذفونه بالحجارة والحلم «الأعواد» ولا يشكُّون أنه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، حتى إذا برق الفجر وأشفقوا أن يفضحهم الصبح، هجموا على علي (علیه السلام)، وكانت دور مكة يومئذ سوائب لا أبواب لها، فلما بصر بهم علي (علیه السلام) قد انتضوا السيوف وأقبلوا عليه بها، وكان يقدمهم خالد بن الوليد بن المغيرة، وثب له علي (علیه السلام) فختله وهمز يده فجعل خالد يقمص قماص البكر «يرفس كالفصيل» ويرغو رغاء الجمل ويذعر ويصيح، وهم في عرج الدار «منعطفها» من خلفه، وشد عليهم علي (علیه السلام) بسيفه يعني سيف خالد، فأجفلوا أمامه إجفال النعم إلى ظاهر الدار، فتبصروه فإذا هو علي (علیه السلام)، فقالوا: إنك لعلي؟ قال: أنا علي. قالوا: فإنا لم نردك فما فعل صاحبك؟ قال: لا علم لي به. وقد كان علم يعني علياً (علیه السلام) أن الله تعالى قد أنجى نبيه (صلی الله علیه و آله) بما كان أخبره من مضيه إلى الغار واختبائه فيه، فأذكت قريش عليه العيون، وركبت في طلبه الصعب والذلول.

وأمهل علي (علیه السلام) حتى إذا أعتم من الليلة القابلة انطلق هو وهند بن أبي هالة حتى دخلا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الغار، فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) هنداً أن يبتاع له ولصاحبه بعيرين، فقال أبوبكر: قد كنت أعددت لي ولك يا نبي الله راحلتين نرتحلهما إلى يثرب. فقال: إني لا آخذهما ولا أحدهما إلا بالثمن. قال: فهي لك بذلك، فأمر (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) فأقبضه الثمن، ثم أوصاه بحفظ ذمته وأداء أمانته.

وكانت قريش تدعو محمداً (صلی الله علیه و آله) في الجاهلية الأمين،وكانت تستودعه

ص: 489

وتستحفظه أموالها وأمتعتها، وكذلك من يقدم مكة من العرب في الموسم، وجاءته النبوة والرسالة والأمر كذلك، فأمر علياً (علیه السلام) أن يقيم صارخاً يهتف بالأبطح غدوةً وعشياً: ألا من كان له قبل محمد أمانة أو وديعة، فليأت فلتؤد إليه أمانته.

وقال النبي (صلی الله علیه و آله) «أي كتب إلى علي»: إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تقدم عليَّ، فأدِّ أمانتي على أعين الناس ظاهراً.

ثم إني مستخلفك على فاطمة ابنتي، ومستخلف ربي عليكما ومستحفظه فيكما، وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم، ومن أزمع للهجرة معه من بني هاشم.

قال أبو عبيدة: فقلت لعبيدالله، يعني ابن أبي رافع: أوَكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يجد ما ينفقه هكذا؟ فقال: إني سألت أبي عما سألتني وكان يحدث بهذا الحديث فقال: فأين يذهب بك عن مال خديجة (علیها السلام) ؟ وقال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة..

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي وهو يوصيه: وإذا أبرمت ما أمرتك، فكن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله، وسر إليَّ لقدوم كتابي إليك، ولا تلبث بعده.

وانطلق رسول الله لوجهه يؤم المدينة، وكان مقامه في الغار ثلاثاً، ومبيت علي على الفراش أول ليلة. قال عبيدالله بن أبي رافع: وقد قال علي بن أبي طالب (علیه السلام) شعراً يذكر فيه مبيته على الفراش ومقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الغار ثلاثاً:

وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى- *** ومن طاف بالبيت العتيق وبالحِجْرِ

محمدُ لما خاف أن يمكروا به *** فوقَّاه ربي ذو الجلال من المكر

وبتُّ أراعيهم متى ينشرونني *** ووطنت نفسي على القتل والأسرج

ويأت رسول الله في الغار آمناًج *** هناك وفي حفظ الإله وفي ستر

أقام ثلاثاً ثم زمت قلائص *** قلائص يفرين الحصا أينما تفري»

وفي إعلام الورى: 1/146: «أجمعوا أن يدخلوا عليه ليلاً وكتموا أمرهم، فقال أبولهب: بل نحرسه فإذا أصبحنا دخلنا عليه.فباتوا حول حجرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يفرش له، وقال لعلي بن أبي طالب: يا علي إفدني بنفسك. قال:

ص: 490

نعم يا رسول الله. قال: نم على فراشي والتحف ببردي. فنام (علیه السلام) على فراش رسول الله والتحف ببردته، وجاء جبرئيل (علیه السلام) إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال له: أخرج والقوم يشرفون على الحجرة فيرون فراشه وعلي (علیه السلام) نائم عليه فيتوهمون أنه رسول الله (صلی الله علیه و آله)»!

وفي الخرائج: 1/143: «فدعاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: إن قريشاً دبرت كيت وكيت في قتلي، فنم على فراشي حتى أخرج أنا من مكة، فقد أمرني الله تعالى بذلك. فقلت له: السمع والطاعة، فنمت على فراشه وفتح رسول الله الباب وخرج عليهم وهم جميعاً جلوس ينتظرون الفجر وهو يقول: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. ومضى وهم لايرونه، فرأى أبابكر قد خرج في الليل يتجسس عن خبره، وقد كان وقف على تدبير قريش من جهتهم فأخرجه معه إلى الغار. فلما طلع الفجر تواثبوا إلى الدار وهم يظنون أني محمد، فوثبت في وجوههم وصحت بهم، فقالوا: علي! قلت: نعم. قالوا: وأين محمد؟ قلت: خرج من بلدكم. قالوا: والى أين خرج؟قلت: الله أعلم فتركوني وخرجوا».

وفي تفسير القمي: 1/275: «وأمر رسول الله أن يفرش له ففرش له، فقال لعلي بن أبي طالب: إفدني بنفسك، قال نعم يا رسول الله. قال: نم على فراشي، والتحف ببردتي، فنام علي على فراش رسول الله (صلی الله علیه و آله) والتحف ببردته، وجاء جبرئيل فأخذ بيد رسول الله فأخرجه على قريش وهم نيام وهو يقرأ عليهم: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لايُبْصِرُونَ. وقال له جبرئيل: خذ على طريق ثور وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور، فدخل الغار وكان من أمره ما كان. فلما أصبحت قريش وأتوا إلى الحجرة وقصدوا الفراش، فوثب عليٌّ في وجوههم فقال: ما شأنكم؟ قالوا له أين محمد؟ قال أجعلتموني عليه رقيباً؟ ألستم قلتم نخرجه من بلادنا فقد خرج عنكم!

فأقبلوا يضربون أبا لهب ويقولون أنت تخدعنا منذ الليلة، فتفرقوا في الجبال،

ص: 491

وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له أبو كرز يقفو الآثار، فقالوا له يا أبا كرز اليومَ اليوم، فوقف بهم على باب حجرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: هذه قدم محمد والله إنها لأخت القدم التي في المقام! وكان أبوبكر استقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فرده معه فقال أبو كرز: وهذه قدم ابن أبي قحافة أو أبيه، ثم قال: وهاهنا عبر ابن أبي قحافة. فما زال بهم حتى أوقفهم على باب الغار، ثم قال: ما جاوزا هذا المكان! إما أن يكونا صعدا إلى السماء أو دخلا تحت الأرض. وبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار، وجاء فارس من الملائكة حتى وقف على باب الغار ثم قال: ما في الغار واحد فتفرقوا في الشعاب وصرفهم الله عن رسوله (صلی الله علیه و آله) ثم أذن لنبيه في الهجرة». واليعقوبي: 2/39.

ب. وروى الجميع حديث مباهاة الله تعالى لملائكته بفداء علي (علیه السلام) للنبي (صلی الله علیه و آله) بنفسه، ففي أمالي الطوسي/469: «قال أبو اليقظان: فحدثنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونحن معه بقباء عما أرادت قريش من المكر به، ومبيت علي (علیه السلام) على فراشه، قال: أوحى الله عزوجل إلى جبرئيل وميكائيل أني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه فأيكما يؤثر أخاه؟فكلاهما كرها الموت، فأوحى الله إليهما: عبديَّ ألا كنتما مثل وليي علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين نبيي فآثره بالحياة على نفسه، ثم رقد على فراشه يفديه بمهجته، إهبطا إلى الأرض كلاكما فاحفظاه من عدوه، فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجعل جبرئيل يقول: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب والله عزوجل يباهي بك الملائكة! قال: فأنزل الله عزوجل في علي (علیه السلام): وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ.

وفي المناقب: 1/339: «الثعلبي في تفسيره، وابن عقبة في ملحمته، وأبو السعادات في فضايل العشرة، والغزالي في الإحياء، وفي كيمياء السعادة أيضاً، برواياتهم عن أبي اليقظان. وجماعة من أصحابنا ومن ينتمي الينا، نحو ابن بابويه، وابن شاذان، والكليني، والطوسي، وابن عقدة، والبرقي، وابن فياض، والعبدلي، والصفواني، والثقفي، بأسانيدهم عن ابن عباس، وأبي رافع، وهند بن أبي هالة، أنه قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل أني آخيت بينكما وجعلت عمر

ص: 492

أحدكما أطول من عمر صاحبه فأيكما يؤثر أخاه؟ فكلاهما كره الموت فأوحى الله إليهما: ألا كنتما مثل وليي علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد نبيي، فآثره بالحياة على نفسه، ثم ظل بائتاً على فراشه يقيه بمهجته! إهبطا إلى الأرض جميعاً فاحفظاه من عدوه. فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجعل جبرئيل يقول: بخٍ بخٍ، من مثلك يا ابن أبي طالب والله يباهي بك الملائكة، فأنزل الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ». وشواهد التنزيل: 1/123، الثعلبي في تفسيره: 2/125، المسترشد لابن جرير الطبري/360 والصراط المستقيم: 1/173، أسد الغابة: 4/25، الفضائل لابن عقدة/179، كشف اليقين/89، الصراط المستقيم: 1/173، الصحيح من السيرة:4/32، أمالي الطوسي/468، العمدة/239، الطرائف/37، سعد السعود/216، خصائص الوحي المبين/120، الجواهر السنية/307 والمراجعات/216.

ج. وذكر علي (علیه السلام) في مناسبات هجرة النبي (صلی الله علیه و آله)، ومبيته في فراشه يفديه بنفسه، و روى الصدوق في الخصال/365، عن الإمام الصادق (علیه السلام) أن حاخام اليهود الأكبر أتى علياً (علیه السلام) فقال: «يا أميرالمؤمنين إني أريد أن أسألك عن أشياء لايعلمها إلا نبي أو وصي نبي! قال: سل عما بدا لك يا أخا اليهود؟قال: إنا نجد في الكتاب أن الله عزوجل إذا بعث نبياً أوحى إليه أن يتخذ من أهل بيته من يقوم بأمر أمته من بعده، وأن يعهد إليهم فيه عهداً يحتذي عليه ويعمل به في أمته من بعده، وأن الله عزوجل يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء ويمتحنهم بعد وفاتهم. فأخبرني كم يمتحن الله الأوصياء في حياة الأنبياء، وكم يمتحنهم بعد وفاتهم من مرة؟.. فقال: يا أخا اليهود إن الله عزوجل امتحنني في حياء نبينا محمد (صلی الله علیه و آله) في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي، بنعمة الله له مطيعاً.

قال: فيمَ وفيم يا أميرالمؤمنين؟ قال: أما أولاهن...وأما الثانية يا أخا اليهود، فإن قريشاً لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي (صلی الله علیه و آله) حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار دار الندوة وإبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف، فلم تزل تضرب أمرها ظهراً لبطن حتى اجتمعت آراؤها

ص: 493

على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه، ثم يأتي النبي (صلی الله علیه و آله) وهو نائم على فراشه فيضربونه جميعاً بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه، وإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمها، فيمضي دمه هدراً! فهبط جبرئيل (علیه السلام) على النبي (صلی الله علیه و آله) فأنبأه بذلك، وأخبره بالليلة التي يجتمعون فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار، فأخبرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالخبر وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي، فأسرعت إلى ذلك مطيعاً له مسروراً بأن أقتل دونه، فمضى (صلی الله علیه و آله) لوجهه واضطجعت في مضجعه، وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي (صلی الله علیه و آله)، فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الله».

آية مبيت علي (علیه السلام) على فراش النبي (صلی الله علیه و آله)

1- أنزل الله في علي (علیه السلام): وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ . ففي تفسير العياشي: 1/101 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «فإنها أنزلت في علي بن أبي طالب (علیه السلام) حين بذل نفسه لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله)، ليلة اضطجع على فراش رسول الله (صلی الله علیه و آله)». وأمالي الطوسي/446 و469، عن علي بن الحسين (علیه السلام)، وشواهد التنزيل: 1/123، 129 و130، عن أبي سعيد الخدري. والإرشاد: 1/53، والمسترشد/360، الصراط المستقيم: 1/173، مناقب الخوارزمي/127، منهاج الكرامة/122، الخصال: 2/364، أمالي الطوسي/446، التعجب للكراجكي/122 وشرح الأخبار: 2/345.

2- ضاقت السلطة ذرعاً بنزول الآية في علي (علیه السلام)، فقال رواتها نزلت في صهيب الرومي، لأن المشركين قبضوا عليه ومنعوه من الهجرة، فبذل لهم ماله فنزلت فيه الآية! وتقدم أن صهيباً من قبيلة نمر بن قاسط، وعرف بالرومي لأن الروم أسروه وباعوه عبداً. وكان محباً لعمر. راجع: أسباب النزول للواحدي/39

ومجمع الزوائد: 6/318.

ثم قالوا إن الآية لاتخص علياً، بل تعم المهاجرين والأنصار! عبدالرزاق: 1/81.

ص: 494

ثم قالوا: اختلف أهل التأويل فيمن نزلت، فقال بعضهم في المهاجرين والأنصار، وقال بعضهم في من باع نفسه في الجهاد واستقتل، وقال بعضهم في رجال من المهاجرين بأعيانهم منهم علي، ثم رجح الطبري أنها نزلت فيمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، كما قال عمر. تفسير الطبري: 2/437.

وذكر الفخر الرازي: 5/233، في سبب نزولها أقوالاً، أحدها في صهيب، وعمار وبلال وغيرهم، والثاني: في من أمر بمعروف ونهى عن منكر. والثالث: «نزلت في علي بن أبي طالب بات على فراش رسول الله ليلة خروجه إلى الغار، ويروى أنه لما نام على فراشه قام جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، وجبريل ينادي: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة. ونزلت الآية».

أما الحاكم: 3/4 فصحح مضمونها، ولم يذكر الآية! قال: «عن ابن عباس قال: شرى عليٌّ نفسه ولبس ثوب النبي (صلی الله علیه و آله) ثم نام مكانه وكان المشركون يرمون رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) ألبسه بردة، وكانت قريش تريد أن تقتل النبي (صلی الله علیه و آله) فجعلوا يرمون علياً ويرونه النبي (صلی الله علیه و آله) وقد لبس بردة، وجعل علي يتضوَّر «يظهر الضجر من الحصى الذي يصيبه» فإذا هو علي، فقالوا إنك للئيم، إنك لتتضور وكان صاحبك لا يتضور ولقد استنكرناه منك..»ثم روى عن علي بن الحسين (علیه السلام) قال: «إن أول من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله علي بن أبي طالب وقال علي عند مبيته على فراش رسول الله (صلی الله علیه و آله) .. وذكر أبيات علي (علیه السلام)». ونسج على منوال الحاكم بعض علمائهم، كالصالحي في سبل الهدى: 3/233.

وأنصف بعضهم كالمقريزي، فقال في الإمتاع: 1/57: «فلما كان العتمة اجتمعوا على باب رسول الله (صلی الله علیه و آله) يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه. فلما رآهم (صلی الله علیه و آله) أمر علياً بن أبي طالب رضيالله عنه أن ينام على فراشه ويتشح ببرده الحضرمي الأخضر، وأن يؤدي ما عنده من الودائع والأمانات ونحو ذلك. فقام علي مقامه وغطي ببرد أخضر، فكان أول من شرى نفسه وفيه نزلت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ. وخرج (صلی الله علیه و آله) وأخذ حفنة من تراب وجعله على رؤوسهم وهو يتلو

ص: 495

الآيات من: يس وَالْقٌرْآنِ الحَكِيم.. إلى قوله: فهم لا يبصرون، فطمس الله تعالى أبصارهم فلم يروه وانصرف. وهم ينظرون علياً فيقولون إن محمداً لنائم».

وبهذا ترى عمل السلطة لإبعاد الآية عن علي (علیه السلام)، بل رووا أن معاوية بذل مالاً لصحابي ليجعل الآية في ابن ملجم ويجعل آية أخرى في علي (علیه السلام)!

«قال أبوجعفر الإسكافي: وروي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَأَلَدُّ الْخِصَامِ. وَإِذَا تَوَلَّى سَعىَ فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ.«البقرة/ 204-205»وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهي: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ. فلم يقبل، فبذل له مأتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل أربعمائة فقبل! وقال: إن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي فاختلقوا ما أرضاه! منهم أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير».

شرح النهج: 4/73 والغارات: 2/840.

3- وأنكر بعض النواصب نزول الآية في علي (علیه السلام)، وحديث أن الله باهى به الملائكة ولو استطاع أن ينكر مبيته في فراش النبي (صلی الله علیه و آله) لفعله! لكنه قال إنه لافضيلة لعلي فيه لأن النبي (صلی الله علیه و آله) أخبره بأنه لايصيبهم منهم مكروه! مع أن ذلك كان في رسالة النبي (صلی الله علیه و آله) له من المدينة بعد مبيته على فراشه!

فعندما ساق أبو واقد يسوق بعائلة النبي (صلی الله علیه و آله) سوقاً عنيفاً في الهجرة، قال له علي (علیه السلام): «إرفق بالنسوة يا أبا واقد، إنهن من الضعائف.قال: إني أخاف أن يدركنا الطلب! فقال علي (علیه السلام): إربع عليك فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لي: يا علي، إنهم لن يصلوا من الآن إليك بما تكرهه، ثم جعل يسوق بهن سوقاً رفيقاً». أمالي الطوسي/469 وراجع: نفحات الأزهار: 17/211والغدير: 2/47.

وقال في الصحيح من السيرة: 4/17، 32 و251: «أنكر ابن تيمية على عادته في إنكار فضائل أميرالمؤمنين علي (علیه السلام) وقال: كذبٌ باتفاق أهل العلم بالحديث والسير. وأيضاً

ص: 496

قد حصلت له الطمأنينة بقول الصادق له: لن يخلص إليك شئ تكرهه منهم، فلم يكن فيه فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة، والآية المذكورة في سورة البقرة، وهي مدنية باتفاق، وقد قيل إنها نزلت في صهيب لما هاجر».

ثم رد صاحب الصحيح مكذوبات ابن تيمية وغيره من النواصب.

ص: 497

الفصل السابع والعشرون: هجرة النبی (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة

1- أحكمت قريش خطتها لقتله فنصره الله

أ- اتفقت المصادر على أن آية الهجرة: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ.. ففي تفسير القمي: 1/275: «ونزل جبرئيل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخبره أن قريشاً قد اجتمعت في دار الندوة يدبرون عليك، وأنزل عليه في ذلك: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ».

وفي تفسير العياشي: 2/53، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «ثم تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يقتلوه، ويُخرجوا من كل بطن منهم بشاهر فيضربونه بأسيافهم جميعاً عند الكعبة. ثم قرأ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ.. الآية».

وفي أمالي الطوسي/445، عن ابن عباس قال: «فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهم جلوس على الباب عددهم خمسة وعشرون رجلاً،فأخذ حفنة من البطحاء ثم جعل يذرها على رؤوسهم وهو يقرأ: يس والقرآن الحكيم، حتى بلغ: فأغْشَيْنَاهم فَهُمْ لايُبصرون.. فقال لهم قائل: ما تنظرون قد والله خبتم وخسرتم، والله لقد مر بكم وما منكم رجل إلا وقد جعل على رأسه تراباً! فقالوا: والله ما أبصرناه»!

وفي الدر المنثور: 3/179: «فأطلع الله نبيه (صلی الله علیه و آله) على ذلك، فبات عليٌّ (علیه السلام) على فراش النبي». وسيرة ابن هشام: 2/334 وعامة المصادر.

ص: 498

قال المفيد في مسارِّ الشيعة/48: «شهر ربيع الأول: أول ليلة منه هاجر رسول الله (صلی الله علیه و آله) من مكة إلى المدينة سنة ثلاث عشرة من مبعثه، وكانت ليلة الخميس. وهي ليلة فيها عظيم الفخر لمولى المؤمنين بما يوجب مسرة أوليائه المخلصين.

وفي صبيحة هذه الليلة صار المشركون إلى باب الغار عند ارتفاع النهار لطلب النبي (صلی الله علیه و آله) فستره الله تعالى عنهم، وقلق أبوبكر بن أبي قحافة وكان معه في الغار بمصيرهم إلى بابه، وظن أنهم سيدركونه فحزن لذلك وجزع، فسكَّنه النبي (صلی الله علیه و آله) ورفق به وقوَّى نفسه بما وعده من النجاة منهم، وتمام الهجرة له.

وهذا اليوم يتجدد فيه سرور الشيعة بنجاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) من أعدائه، وما أظهره الله تعالى من آياته، وما أيده به من نصره. وفي الليلة الرابعة منه كان خروج النبي (صلی الله علیه و آله) من الغار متوجهاً إلى المدينة، فأقام بالغار وهو في جبل عظيم خارج مكة غير بعيد منها، إسمه ثَوْر، ثلاثة أيام وثلاث ليال، وسار منه فوصل المدينة يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول، عند زوال الشمس».

أقول: وقعت الهجرة في أول السنة الرابعة عشرة من بعثته (صلی الله علیه و آله)، لأن بيعة العقبة كانت في موسم الثالثة عشرة، وهجرته (صلی الله علیه و آله) بعد انتهاء الموسم ودخول الرابعة عشرة. وقد تسامحوا في ذلك، كما تسامحوا في عد السنة الأولى من بعثته (صلی الله علیه و آله) كاملة،وقد بعث في وسطها في شهر رجب.

2- استنفرت قريش في طلب النبي (صلی الله علیه و آله)

أ. قال اليعقوبي: 2/39: «فطلبوا الأثر فلم يقعوا عليه، وأعمى الله عليهم المواضع، فوقفوا على باب الغار وقد عششت عليه حمامة، فقالوا: ما في هذا الغار أحد وانصرفوا. وخرج رسول الله متوجهاً إلى المدينة، ومرَّ بأم معبدالخزاعية فنزل عندها، ثم نفذ لوجهه حتى قدم المدينة. وكان جميع مقامه بمكة حتى خرج منها إلى المدينة ثلاث عشرة سنة من مبعثه».

ص: 499

وفي إعلام الورى: 1/148: «وأقبل راع لبعض قريش يقال له: ابن أريقط فدعاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال له: يا ابن أريقط أأتمنك على دمي؟قال: إذن والله أحرسك وأحفظك ولا أدل عليك، فأين تريد يا محمد؟ قال: يثرب. قال: والله لأسلكن بك مسلكاً لا يهتدي فيه أحد! قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): إئت علياً وبشره بأن الله قد أذن لي في الهجرة فيهيئ لي زاداً وراحلة..وأخذ به ابن أريقط على طريق نخلة بين الجبال، فلم يرجعوا إلى الطريق إلا بقديد، فنزلوا على أم معبد هناك».

وسيأتي أن النبي (صلی الله علیه و آله) هو الذي أحضر ابن أريقط.

ب. يسأل البعض: مادام الله تعالى أظهر معجزة تعشيش الحمامة ونسج العنكبوت فلماذا لم ينقل نبيه إلى المدينة بمعجزة كما أسرى به إلى القدس في دقائق، وعرج به إلى السماوات في دقائق أو بلمح البصر؟!

والجواب: أنه تعالى على كل شئ قدير، والنبي (صلی الله علیه و آله) عنده الإسم الأعظم، لكنه يعمل بالأسباب الطبيعية ولايطلب من ربه المعجزة إلا أن يأمره.

قال الإمام زين العابدين (علیه السلام): «هكذا قالت قريش للنبي (صلی الله علیه و آله): كيف يمضي إلى بيت المقدس ويشاهد ما فيه من آثار الأنبياء (علیهم السلام) من مكة ويرجع إليها في ليلة واحدة، من لا يقدر أن يبلغ من مكة إلى المدينة إلا في اثني عشر يوماً؟! وذلك حين هاجر منها. ثم قال (علیه السلام): جهلوا والله أمرالله وأمر أوليائه معه! إن المراتب الرفيعة لاتنال إلا بالتسليم لله جل ثناؤه، وترك الإقتراح عليه والرضا بما يدبرهم به. إن أولياء الله صبروا على المحن والمكاره صبراً لمَّا يساوهم فيه غيرهم، فجازاهم الله عزوجل عن ذلك بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم، لكنهم مع ذلك لايريدون منه إلا مايريده لهم»! أمالي الصدوق/539.

3- رفقاء النبي (صلی الله علیه و آله) في الهجرة

أ.المشهور أن رفقاءه (صلی الله علیه و آله) في هجرته: أبوبكر، وعبدالله بن أريقط، وعامر بن فهيرة، وهناك رأي بأن أبابكر لم يكن مع النبي (صلی الله علیه و آله) في الغار، وقد حاول الباحث الشيخ نجاح الطائي أن يثبت ذلك، فتحامل عليه أتباع أبي بكر، وأثاروا ضده ضجة لأنه خالف المتفق

ص: 500

عليه عند المذاهب السنية، والمسكوت عنه في مذهبنا، ولا يتسع المجال لهذا البحث.

وفي شرح الأخبار: 1/259: «مضى نحو الغار وقد واعد أبابكر وعامر بن فهيرة وعبدالله بن أريقط، ليمضوا معه إلى المدينة ومايحتاج إليه ويدلوه على الطريق».

وفي المناقب: 1/142: «أبوبكر وعامر بن فهيرة ودليلهم عبدالله بن أريقط الليثي».

ب. قالوا إن عبدالله بن أريقط اسستأجره أبوبكر دليلاً وإنه لم يكن مسلماً، والصحيح أن النبي (صلی الله علیه و آله) استأجره وكان يعرفه ويثق به قبل الهجرة، فقد أرسله عندما رجع من الطائف إلى زعماء قريش.النهاية: 3/168 وسبل السلام: 2/440.

وفي الخرائج: 1/145، في حديث عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) أن ابن الأريقط أسلم يومها أو ازداد إيماناً، قال: «وافى ابن الأريقط بأغنام يرعاها إلى باب الغار وقت الليل يريد مكة بالغنم، فدعاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: أفيك مساعدة لنا؟ قال: إي والله، فوالله ما جعل الله هذه القبجة على باب الغار حاضنة لبيضها،ولا نسج العنكبوت عليه إلا وأنت صادق، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال (صلی الله علیه و آله): الحمد لله على هدايتك، فصرالآن إلى علي فعرفه موضعنا، ومُرَّ بالغنم إلى أهلها إذا نام الناس، ومُرَّ إلى عبد أبي بكر. فصار ابن الأريقط إلى مكة وفعل ما أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأتى علياً وعبد أبي بكر فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أعدَّ لنا يا أبا الحسن راحلة وزاداً وابعثها إلينا، وأصلح ما تحتاج إليه لحمل والدتك وفاطمة والحقنا بهما إلى يثرب. وقال أبوبكر لعبده مثله، ففعلا ذلك، فأردف رسول الله (صلی الله علیه و آله) ابن الأريقط، وأبوبكر عبده».

وذكر بعضهم أن ابن أريقط عدوي حليف العاص بن وائل السهمي «المحبر/190»والصحيح أنه من جهينة محل ثقة النبي (صلی الله علیه و آله)، وكان عيناً له على المشركين في بدر، قال الثعلبي في «تفسيره: 4/330»، في خبر بدر: «وبعث رسول الله أيضاً عيناً له من جهينة حليفاً للأنصار يدعى ابن الأريقط، فأتاه بخبر القوم». والطبري: 9/247، البغوي:2/232. وسماه في الدرر/80، ابن أرقط وفي أحكام القرآن: 2/512.

ص: 501

ج. وأما عامر بن فهيرة فقالوا إنه غلام أسود سبق إلى الإسلام، فاشتراه أبوبكر وأعتقه إشفاقاً عليه من التعذيب. والصحيح أن الحارث بن سخبرة الأزدي قدم مكة وزوجته أم رومان الكنانية، وتحالف مع أبي بكر، وزوَّج عبده فهيرة من سوداء، فولدت عامر بن فهيرة. وأسلم عامر ومولاه الحارث قبل أبي بكر، ثم مات الحارث فورثه ابنه الطفيل وهو صغير، وتزوج أبوبكر أمه أم رومان، فولدت له عبدالرحمن وعائشة، فهما أخوا الطفيل من أمه.بخاري: 5/43، الطبقات: 8/278 و طبقات خليفة/48.

وقالوا كان عامر بن فهيرة يُعَذَّب، ولم يذكروا من عذبه، فمولاه الحارث مسلم وقد مات، وابنه الطفيل صغير! تهذيب التهذيب: 5/69.

وقال في الصحيح من السيرة: 3/90 إن ابن إسحاق والواقدي قالا إن النبي (صلی الله علیه و آله) اشتراه مع بلال وأعتقهما وليس أبابكر.ومعناه أن علاقته بالنبي (صلی الله علیه و آله) كانت قوية.

وقد استشهد ابن فهيرة في بئر معونة في السنة الرابعة «الإستيعاب: 2/797»فروى رواة السلطة حوله أساطير لتعظيم أبي بكر وقالوا إنهم رأوه رفع إلى السماء! «راجع: صحيح بخاري: 5/44». أما بلال وهو أفضل منه فلا يمدحونه لأنه كتب مع عدد من الصحابة من الشام إلى عمر معترضين على معاوية، فماتوا!

«دعا عليهم «عمر» على المنبر فقال: اللهم اكفني بلالاً وأصحابه! فما حال الحول وفيهم عين تطرف أي ماتوا جميعاً»! «مبسوط السرخسي: 10/16 والبيهقي:9/138». وأشاعوا أنهم ماتوا بالطاعون، لكن يظهرأنهم ماتوا بسم معاوية!

د رووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) ومن معه كانوا أربعة أشخاص، على بعيرين، وأنهم ترادفوا أو تعاقبوا. والتعاقب أن يركب الشخص مرحلة ثم ينزل فيركب صاحبه، والترادف أن يركبا معاً. ففي الدرر/80: «فركبا الراحلتين، وأردف أبوبكر عامر بن فهيرة». «ونحوه الحاكم 3/8». وهو يشير إلى أن ابن أريقط كان يتعاقب مع النبي (صلی الله علیه و آله) ولايركب خلفه احتراماً له. وفي الخرائج: 1/145: «فأردف رسول الله ابن الأريقط». ولعله تعبير عن تعاقبه.

لكن الصحيح أن النبي (صلی الله علیه و آله) هاجر على ناقته القصواء، واشترى بعيراً من أبي بكر

ص: 502

لدليله ابن أريقط، فمات البعيرفاستأجر له بعيراً آخر. وهاجر أبوبكر على بعيره، وكان يتعاقب عليه مع ابن فهيرة. فتكون الرواحل ثلاثاً.

ففي الكافي: 8/339، عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) قال: «ثم إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما قدم عليه علي (علیه السلام) تحول من قبا إلى بني سالم بن عوف وعلي (علیه السلام) معه، يوم الجمعة مع طلوع الشمس فخط لهم مسجداً، ونصب قبلته فصلى بهم فيه الجمعة ركعتين وخطب خطبتين، ثم راح يومه إلى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها».

قال ابن هشام: 2/336: «فلما قرَّب أبوبكر الراحلتين إلى رسول الله قدم له أفضلهما ثم قال: إركب فداك أبي وأمي، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إني لا أركب بعيراً ليس لي، قال: فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي. قال: لا، ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟ قال: كذا وكذا، قال: قد أخذتها به.قال: هي لك يا رسول الله، فركبا وانطلقا وأردف أبوبكرالصديق عامر بن فهيرة مولاه خلفه ليخدمهما في الطريق».

وفي صحيح بخاري: 7/39: «فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيَّ هاتين. قال: النبي: بالثمن». وفي مقدمة فتح الباري/300: «وفي سيرة عبدالغني وغيره أن الثمن كان أربع مائة درهم، وعند الواقدي أنه ثمان مائة».

ونلاحظ أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمرعلياً (علیه السلام) أن يفديه بنفسه، ثم لم يقبل من أبي بكر بعيراً إلا بثمنه، فكيف يزعمون أنه كان ينفق عليه! وفي فتح الباري: 7/183: «سئل عن امتناعه من أخذ الراحلة مع أن أبابكر أنفق عليه ماله؟فقال: أحب أن لا تكون هجرته إلا من مال نفسه»!

لكن البعير الذي اشتراه النبي (صلی الله علیه و آله) من أبي بكر مات في الطريق: «وقف عليهم بعض ظهرهم، وفي بعضها: أعيا». جوامع السير/93 وأسد الغابة: 1/147و 3/10.

قال ابن هشام: 2/340: «فحمل رسول الله (صلی الله علیه و آله) رجل من أسلم يقال له أوس بن حجر على جمل له إلى المدينة وبعث معه غلاماً له يقال له مسعود بن هنيدة «ليرد الجمل كما صرح في الدرر» ثم خرج بهما دليلهما من العرج، فسلك بهما ثنية الغائر عن يمين رَكوبة. حتى هبط بهما بطن رئم ثم قدم بهما قباء على بني

ص: 503

عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الإثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل». الصحيح:4/216، مناقب ابن سليمان: 1/364 والدرر/37.

4- سراقة بن جشعم يحاول قتل النبي (صلی الله علیه و آله) أو أسره

قال الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي 8/263»: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما خرج من الغار متوجهاً إلى المدينة وقد كانت قريش جعلت لمن أخذه مائة من الإبل، فخرج سراقة بن مالك بن جعشم فيمن يطلب، فلحق برسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: رسول الله (صلی الله علیه و آله): اللهم اكفني شر سراقة بما شئت، فساخت قوائم فرسه! فثنى رجله ثم اشتدَّ «جاء ماشياً راكضاً» فقال: يا محمد إني علمت أن الذي أصاب قوائم فرسي إنما هو من قبلك، فادع الله أن يطلق لي فرسي، فلعمري إن لم يصبكم مني خير لم يصبكم مني شر، فدعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأطلق الله عزوجل فرسه، فعاد في طلب رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى فعل ذلك ثلاث مرات! كل ذلك يدعو رسول الله (صلی الله علیه و آله) فتأخذ الأرض قوائم فرسه! فلما أطلقه في الثالثة قال: يا محمد هذه إبلي بين يديك فيها غلامي، فإن احتجت إلى ظهر أو لبن فخذ منه، وهذا سهم من كنانتي علامة، وأنا أرجع فأرد عنك الطلب! فقال (صلی الله علیه و آله): لا حاجة لنا فيما عندك».

ونحوه الثاقب/145، عن ابن عباس، وفيه: «كان سراقة بن جعشم المدلجي قريباً من قريش في ناحية مكة فأتاه رجل فقال: يا سراقة لقد رأيت ركباناً ثلاثة قد مروا فقال سراقة: ينبغي أن يكون هذا محمد، لأتخذن عند قريش يداً! فركب فرسه وأخذ رمحه، وكانت قريش قد بعثت الرجال في كل طريق».والمناقب: 1/64، عن ابن إسحاق، وفيه: «وأتبعه دخان حتى استغاثه، فانطلق الفرس».

فعذله أبوجهل «أي لم يصدقه» وقال سراقة:

أبا حكمٍ واللات لو كنت شاهداً *** لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمُهْ

عجبت ولم تشكك بأن محمداً *** نبي وبرهان فمن ذا يكاتمه

عليك فكف الناس عنه فإنني *** أرى أمره يوماً سيبدو معالمه»

وروى اليعقوبي: 2/40، البيتين الأولين منها. وابن هشام:2/338، برواية مطولة والدرر لابن

ص: 504

عبدالبر/81 وروى في قرب الإسناد/379، بسند صحيح أن قريشاً أرسلت سراقة في

طلب النبي (صلی الله علیه و آله) .

وفي الخرائج: 1/145، والثاقب في المناقب/109 وغيرهما: «فلما قرب قال (صلی الله علیه و آله): اللهم خذه، فارتطم فرسه في الأرض فصاح: يا محمد خلص فرسي، لا سعيت لك في مكروه بعدها، وعلم أن ذلك بدعاء محمد (صلی الله علیه و آله)! فقال: اللهم إن كان صادقاً فخلصه فوثب الفرس. فقال: يا أبا القاسم ستمر برعاتي وعبيدي فخذ سوطي، فكل من تمرُّ به خذ ما شئت فقد حكمتك في مالي. فقال (صلی الله علیه و آله): لا حاجة لي في مالك. قال: فسلني حاجة. قال (صلی الله علیه و آله): رد عنا من يطلبنا من قريش. فانصرف سراقة فاستقبله جماعة من قريش في الطلب فقال لهم: إنصرفوا عن هذا الطريق فلم يمر فيه أحد، وأنا أكفيكم هذا الطريق، فعليكم بطريق اليمن والطائف». وكان سراقة من زعماء بني مدلج من كنانة. الطبري: 2/138.

وبنو مدلج مزارعون في بطن ينبع. المناقب: 1/161 والمحبر/110.

وكان سراقة كبقية زعماء كنانة حليفاً لقريش، وقد تصور الشيطان بصورته في بدر! المناقب: 1/163 ومغازي الواقدي/38.

ولم يُسلم سراقة مع أنه رأى هذه المعجزة، ونجَّاه الله بدعاء رسوله (صلی الله علیه و آله) من الخسف! وزعم أنه أسلم بعد ثمان سنين، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) كان كتب له كتاباً! قال: «حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفرغ من حنين والطائف، خرجت ومعي الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرانة، قال: فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار. قال: فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون: إليك إليك ما تريد؟ قال: فدنوت من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهوعلى ناقته والله لكأني أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جمارة «لب النخل من جمالها» قال: فرفعت يدي بالكتاب ثم قلت: يا رسول الله هذا كتابك لي أنا سراقة بن جعشم. قال: فقال رسول الله: يوم وفاء وبر، أدنه، قال: فدنوت منه فأسلمت». سيرة ابن هشام: 2/338.

وكان عمر يحب سراقة، وأعطاه من غنائم فارس سوارين من كنز كسرى

ص: 505

وبرروا فعل عمر بأن النبي (صلی الله علیه و آله) نظر إلى ذراعي سراقة وقال: «كأني بك وقد لبست سواري كسرى»! «أم الشافعي: 4/165». وكل هذا لأن سراقة حليف للطلقاء!

5- لماذا أخذ النبي (صلی الله علیه و آله) أبابكر معه

اشارة

1. قال في الصحيح من السيرة: 4/212: «لعل الصحيح هو الرواية التي تقول: إن النبي (صلی الله علیه و آله) قد لقي أبابكر في الطريق، وكان أبوبكر قد خرج ليتنسم الأخبار، وربما يكون استصحبه معه لكيلا يسأله سائل إن كان قد رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيقر لهم بأنه رآه ثم يدلهم على الطريق التي سلكها، خوفاً من أن يتعرض لأذاهم».

وفي شواهد التنزيل: 1/127، عن ابن عباس: «أنام رسول الله علياً على فراشه ليلة انطلق إلى الغار،فجاء أبوبكر يطلب رسول الله فأخبره علي أنه قد انطلق فاتبعه».

وفي الخرائج: 1/144: «قال علي (علیه السلام): فدعاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: إن قريشاً دبرت كيت وكيت في قتلي، فنم على فراشي حتى أخرج أنا من مكة فقد أمرني الله تعالى بذلك. فقلت له: السمع والطاعة، فنمت على فراشه وفتح رسول الله (صلی الله علیه و آله) الباب وخرج عليهم وهم جميعاً جلوس ينتظرون الفجر وهو يقول: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ.«يس 9». ومضى وهم لا يرونه، فرأى أبابكر قد خرج في الليل يتجسس عن خبره، وقد كان وقف على تدبير قريش من جهتهم، فأخرجه معه إلى الغار».

بكى أبوبكر لما جاء سُراقة!

في صحيح بخاري: 4/190 ومسند أحمد: 1/3، من حديث عن أبي بكر قال: «فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن مالك بن جعشم، على فرس له، فقلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، فقال: لاتحزن إن الله معنا حتى إذا دنا منا، فكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين أو ثلاثة قال قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت! قال: لم تبكي؟ قال: قلت أما والله ما على نفسي أبكي ولكن أبكي عليك! قال: فدعا عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: اللهم اكفناه بما شئت، فساخت قوائم

ص: 506

فرسه إلى بطنها في أرض صلد! ووثب عنها وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب.». والطبقات: 4/366، أبو يعلى: 1/107، ابن شيبة: 8/457 وعامة مصادرهم.

وقال السيد الأمين في أعيان الشيعة: 1/338: «فلما لحقهم سراقة بن مالك وهو رجل واحد بكى الصاحب خوفاً! أترى لو كان معهم علي (علیه السلام) هل كان يبكي ويهتم لرجل واحد ليس معه أحد، وهو لم يهتم لثمانية فوارس»!

6- ليس في آية الغار مدحٌ لأبي بكر

قال تعالى في سورة التوبة التي نزلت في السنة التاسعة، بعد غزوة تبوك: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ.إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ.إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاتَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

ومعنى الآية: أن الله تكفل بنصرنبيه (صلی الله علیه و آله) وإن لم تنصروه، وقد نصره عندما كان وحيداً فاراً من قومه ليس معه إلا شخص واحد غير مقاتل، فأنزل عليه السكينة والطمأنينة وجنوداً من ملائكته لم يرها رفقاءه. فليس في الآية إلا إشارة إلى شخص كان معه، بقطع النظر عن نوع ذلك الشخص، ومن هُوَ. فالآية متركزة على الحديث عن النبي (صلی الله علیه و آله) وغير ناظرة إلى غيره.

بل يشير إفراد الضمائر فيها إلى أن أبابكر لايشترك معه إلا في مجرد التواجد، فهو لايشترك معه في الإجبار على الهجرة لأنه قال: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، ولم يقل إذ أخرجهما. ولا في تأييد النبي (صلی الله علیه و آله) بالسكينة فقد قال: فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا.ولم يقل عليهما، مع أنه قال في الحديبية وفي حنين: فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ. فدل بإفراد الضمير هنا على

ص: 507

أن صاحبه لم يكن أهلاً لنزول السكينة عليه.

وفي شرح الأخبار: 2/246: «الصحبة قد تكون للبر والفاجروقد وصف الله تعالى في كتابه صحبة مؤمن لكافرفقال: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَيُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ».

لكن مع ذلك، اعتبروا الآية فضيلة لأبي بكر يستحق بها الخلافة!

قال ابن حجر في فتح الباري: 13/180: «قال ابن التين: ما انفرد به أبوبكر وهو كونه ثاني اثنين، وهي أعظم فضائله التي استحق بها أن يكون الخليفة من بعد النبي، لذلك قال «عمر»: وإنه أولى الناس بأموركم.. فقوموا فبايعوه».

وقال في الإصابة: 4/148: «من أعظم مناقبه قول الله تعالى: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ. فإن المراد بصاحبه أبوبكر بلا نزاع.وثبت في الصحيحين من حديث أنس أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لأبي بكر وهما في الغار: ما ظنك باثنين الله ثالثهما».

وفي تحفة الأحوذي: 10/106: «وقد قالوا من أنكر صحبة أبي بكر كَفَرَ، لأنه أنكر النص الجلي! بخلاف صحبة غيره». وهكذا رفعوا آية الغار سيفاً في وجه أهل البیت (علیهم السلام) وشيعتهم فردوها عليهم، ففي الإحتجاج: 2/143 عن الأعمش (رحمة الله) قال: «اجتمعت الشيعة والمحكِّمة «الخوارج» عند أبي نعيم النخعي بالكوفة، وأبوجعفر محمد بن النعمان مؤمن الطاق حاضر، فقال ابن أبي حذرة: أنا أقرر معكم أيتها الشيعة أن أبابكر أفضل من علي ومن جميع أصحاب النبي بأربع خصال، لا يقدر على دفعها أحد من الناس، هو ثان مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في بيته مدفون، وهو ثاني اثنين معه في الغار، وهو ثاني اثنين صلى بالناس آخر صلاة قبض بعدها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وهو ثاني اثنين الصديق من هذه الأمة. فقال أبوجعفر مؤمن الطاق (رحمة الله): يا بن أبي حذرة وأنا أقرر معك أن علياً أفضل من أبي بكر وجميع أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) بهذه الخصال التي وصفتها وأنها مثلبة لصاحبك! وألزمك طاعة علي من ثلاث جهات: من القرآن وصفاً، ومن خبر الرسول (صلی الله علیه و آله) نصاً، ومن حجة العقل اعتباراً.

ووقع الإتفاق على إبراهيم النخعي، وعلى أبي إسحاق السبيعي، وعلى سليمان بن مهران الأعمش، فقال: أبوجعفر مؤمن الطاق: أخبرني يا ابن أبي حذرة عن

ص: 508

النبي (صلی الله علیه و آله) كيف ترك بيوته التي أضافها الله إليه، ونهى الناس عن دخولها إلا بإذنه ميراثاً لأهله وولده؟ أو تركها صدقة على جميع المسلمين؟ قل ما شئت. فانقطع ابن أبي حذرة، لما أورد عليه ذلك وعرف خطأ ما هو فيه!

فقال أبوجعفر مؤمن الطاق: إن تركها ميراثاً لولده وأزواجه، فإنه قبض عن تسع نسوة، وإنما لعايشة بنت أبي بكر تسع ثمن هذا البيت الذي دفن فيه صاحبك، ولا يصيبها من البيت ذراع في ذراع! وإن كان صدقة فالبلية أطمُّ وأعظم، فإنه لم يصب من البيت إلا ما لأدنى رجل من المسلمين، فدخول بيت النبي (صلی الله علیه و آله) بغير إذنه في حياته وبعد وفاته، معصية! إلا لعلي بن أبي طالب (علیه السلام) وولده، فإن الله أحل لهم ما أحل للنبي (صلی الله علیه و آله)!

ثم قال لهم: إنكم تعلمون أن النبي أمر بسد أبواب جميع الناس التي كانت مشرعة إلى المسجد ما خلا باب علي (علیه السلام) فسأله أبوبكر أن يترك له كوة لينظر منها إلى رسول الله فأبى عليه، وغضب عمه العباس من ذلك فخطب النبي (صلی الله علیه و آله) خطبة وقال: إن الله تبارك وتعالى أمر لموسى وهارون: أَنْ تَبَوَآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وأمرهما أن لا يبيت في مسجدهما جنب ولا يقرب فيه النساء إلا موسى وهارون وذريتهما، وأن علياً هو بمنزلة هارون من موسى وذريته كذرية هارون، ولا يحل لأحد أن يقرب النساء في مسجد رسول الله ولا يبيت فيه جنباً إلا علي وذريته. فقالوا بأجمعهم: كذلك كان. قال أبوجعفر: ذهب ربع دينك يا ابن أبي حذرة، وهذه منقبة لصاحبي ليس لأحد مثلها، ومثلبة لصاحبك!

وأما قولك: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ، أخبرني هل أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين في غير الغار؟ قال ابن أبي حذرة: نعم. قال أبوجعفر: فقد أخرج صاحبك في الغار من السكينة وخصه بالحزن! وكان علي (علیه السلام) في هذه الليلة على فراش النبي (صلی الله علیه و آله) وبذل مهجته دونه، وهو أفضل من مكان صاحبك في الغار. فقال الناس: صدقت. فقال أبوجعفر: يا ابن أبي حذرة، ذهب نصف دينك!

وأما قولك ثاني اثنين: الصديق من الأمة، فقد أوجب الله على صاحبك

ص: 509

الإستغفار لعلي بن أبي طالب في قوله عزوجل: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلآخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمان.إلى آخر الآية. والذي ادعيت إنما هو شئ سماه الناس، ومن سماه القرآن وشهد له بالصدق والتصديق أولى به ممن سماه الناس، وقد قال علي (علیه السلام) على منبر البصرة: أنا الصديق الأكبر، آمنت قبل أن آمن أبوبكر وصدقت قبله. قال الناس: صدقت.

قال أبوجعفر مؤمن الطاق: يا بن أبي حذرة، ذهب ثلاثة أرباع دينك!

وأما قولك في الصلاة بالناس، كنت ادعيت لصاحبك فضيلة لم تتم له، وأنها إلى التهمة أقرب منها إلى الفضيلة، فلو كان ذلك بأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما عزله عن تلك الصلاة بعينها، أما علمت أنه لما تقدم أبوبكر ليصلي بالناس خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) فتقدم وصلى بالناس وعزله عنها، ولا تخلو هذه الصلاة من أحد وجهين: إما أن تكون حيلة وقعت منه فلما أحس النبي (صلی الله علیه و آله) بذلك خرج مبادراً مع علته فنحاه عنها لكيلا يحتج بها بعده على أمته، فيكونوا في ذلك معذورين!

وإما أن تكون هو الذي أمره بذلك وكان ذلك مفوضاً إليه كما في قصة تبليغ براءة، فنزل جبرئيل وقال: لا يؤديها إلا أنت أو رجل منك، فبعث علياً في طلبه وأخذها منه وعزله عنها وعن تبليغها! فكذلك كانت قصة الصلاة! وفي الحالتين هو مذموم، لأنه كشف عنه ما كان مستوراً عليه، وفي ذلك دليل واضح أنه لا يصلح للإستخلاف بعده، ولا هو مأمون على شئ من أمر الدين.

فقال الناس: صدقت. قال أبوجعفر مؤمن الطاق: يا بن أبي حذرة ذهب دينك كله، وفضحتَ حيث مدحتَ!

فقال الناس لأبي جعفر: هات حجتك فيما ادعيت من طاعة علي (علیه السلام) .

فقال أبوجعفر مؤمن الطاق: أما من القرآن وصفاً فقوله عزوجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ. فوجدنا علياً (علیه السلام) بهذه الصفة في القرآن في قوله عزوجل: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَاسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَاسِ - يعني في الحرب والشعب-أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. فوقع الإجماع من الأمة بأن علياً أولى بهذا

ص: 510

الأمر من غيره، لأنه لم يفر من زحف قط كما فر غيره في غير موضع! فقال الناس: صدقت. قال: وأما الخبر عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نصاً، فقال: إني تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي: كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض. وقوله (صلی الله علیه و آله): إنما مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، ومن تقدمها مرق ومن لزمها لحق. فالمتمسك بأهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) هاد مهتد بشهادة من الرسول، والمتمسك بغيرها ضال مضل. قال الناس: صدقت يا أبا جعفر.

قال: وأما من حجة العقل فإن الناس كلهم يستعبدون بطاعة العالم، ووجدنا الإجماع قد وقع على علي (علیه السلام) بأنه كان أعلم أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكان الناس يسألونه ويحتاجون إليه، وكان علي مستغنياً عنهم، هذا من الشاهد والدليل عليه من القرآن قوله عزوجل: أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدّيِ إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. فما اتفق يوم أحسن منه ودخل في هذا الأمر عالمٌ كثير».

راجع: عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 1/201، مناقشة المأمون لفقهاء عصره في آية الغار، كتاب سُلَيم/348، الإفصاح للمفيد/185، الصوارم المهرقة/307، الغدير:7/10 والصحيح من السيرة:4/233.

7- كذبة ذات النطاقينَ

قالوا إن أسماء كانت تحمل لهم الطعام إلى الغار، وأنها شقت حزامها قطعتين لتربط الزاد فسماها النبي (صلی الله علیه و آله) ذات النطاقين، مع أنها كانت هاجرت قبلهم إلى المدينة مع زوجها الزبير وكانت حاملاً في شهرها بعبدالله بن الزبير، وقد نص المؤرخ خليفة بن خياط/207، وغيره، على أنها وضعت عبدالله بن الزبير هناك، وهذا ينفي زعم من زعم أنها وضعته في قباء أيام وصول النبي (صلی الله علیه و آله) .

وكذلك جعلت عائشة لنفسها مناقب في الهجرة!

ص: 511

8- النبي (صلی الله علیه و آله) في ضيافة أم معبد

«خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الغار وأخذ به ابن أريقط على طريق نخلة بين الجبال فلم يرجعوا إلى الطريق إلا بقُدَيْد، فنزلوا على أم معبد هناك». إعلام الورى/41.

«أُثال وادٍ بصدر وادي ستارة، و هو المعروف بقُدَيْد، يسيل في وادي الخيمتين.. خيمتا أم معبد.ويقال بئر أم معبد بين مكة والمدينة، نزله رسول الله (صلی الله علیه و آله) في هجرته». معجم البلدان: 2/414 والجبال والأمكنة للزمخشري/2.

وفي الخرائج: 1/146: «سار حتى نزل خيمة أم معبد، فطلبوا عندها قِرىً فقالت: ما يحضرني شئ، فنظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى شاة في ناحية الخيمة قد تخلفت من الغنم لضرها فقال: تأذنين في حلبها؟ قالت: نعم ولا خير فيها، فمسح يده على ظهرها فصارت أسمن ما يكون من الغنم، ثم مسح يده على ضرعها فأرخت ضرعاً عجيباً، ودرت لبناً كثيراً فقال: يا أم معبد هاتي العس، فشربوا جميعاً حتى رووا! فلما رأت أم معبد ذلك قالت: يا حسن الوجه إن لي ولداً له سبع سنين وهو كقطعة لحم لا يتكلم ولا يقوم، فأتته به فأخذ تمرة قد بقيت في الوعاء ومضغها وجعلها في فيه، فنهض في الحال ومشى وتكلم!

وجعل نواها في الأرض فصارت في الحال نخلة، وقد تهدل الرطب منها وكانت كذلك صيفاً وشتاءً! ولما توفي (صلی الله علیه و آله) لم تُرْطِبْ تلك النخلة وكانت خضراء! فلما قتل علي (علیه السلام) لم تخضرّ، وكانت باقية فلما قتل الحسين (علیه السلام) سال منها الدم ويبست!

فلما انصرف أبو معبد ورأى ذلك وسأل عن سببه قالت: مرَّ بي رجل قرشي من حاله وقصته كذا وكذا! قال: يا أم معبد إن هذا الرجل هو صاحب أهل المدينة الذي هم ينتظرونه، ووالله ما أشك الآن أنه صادق في قوله إنه رسول الله، فليس هذا إلا من فعل الله. ثم قصد إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فآمن هو وأهله». ونحوه الثاقب في المناقب/111، عن هند بنت الجون.

وفي مستدرك الحاكم: 3/9: «قال: صفيه لي يا أم معبد. قالت: رأيت رجلاً ظاهرَ الوَضاءة، أبلجَ الوجه، حسنَ الخلق لم تَعِبْهُ ثَجْلَةٌ «بِطنة» ولم تُزْرِ به صَعْلَة «صغر الرأس»

ص: 512

وسيمٌ قسيم «جميل حسن الملامح» في عينيه دَعَجٌ «سواد» وفي أشفاره وَطَف «أجفانه طويلة» وفي صوته صَحَل «ليس صوته حاداً بل فيه حركة محببة كالبحة» وفي عنقه سَطَع «طول» وفي لحيته كثَاثة «كثافة الشعر» أزجُّ أقْرَن «حاجباه مقوسان متصلان» إن صمتَ فعليه الوقار، وإن تكلم سَمَاهُ وعلاه البهاء، أجملُ الناس وأبهاه من بعيد، وأحسنه وأجمله من قريب، حلوُ المنطق، فصلاً لا نزرٌ ولا هَذْر،كأن منطقه خرزات نظمٍ يتحدرن، ربعةٌ لا تشنؤهُ من طول، ولا تقتحمه عين من قِصَر».

وفي المناقب: 1/105: «وقال خطيب منبج:

ومَنْ حَلَب الضئيلة َوهي نِضْوٌ *** فأسبلَ درُّها للحالبينا

وكانت حائلاً فغدت وراحت *** بيمن المصطفى الهادي لبونا»ج

9- وصول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة

وصف الإمام زين العابدين (علیه السلام) هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) في حديث صحيح في الكافي:8/338: «عن سعيد بن المسيب قال: سألت علي بن الحسين (علیه السلام): إبن كم كان علي بن أبي طالب يوم أسلم؟ فقال: أوَكان كافراً قط، إنما كان لعلي (علیه السلام) حيث بعث الله عزوجل رسوله (صلی الله علیه و آله) عشر سنين، ولم يكن يومئذ كافراً، ولقد آمن بالله تبارك وتعالى وبرسوله (صلی الله علیه و آله) وسبق الناس كلهم إلى الإيمان بالله وبرسوله (صلی الله علیه و آله) وإلى الصلاة بثلاث سنين، وكانت أول صلاة صلاها مع رسول الله الظهر ركعتين، وكذلك فرضها الله تبارك وتعالى على من أسلم بمكة ركعتين ركعتين. وكان رسول الله يصليها بمكة ركعتين ويصليها علي (علیه السلام) معه بمكة ركعتين مدة عشر سنين، حتى هاجر رسول الله إلى المدينة، وخلف علياً في أمور لم يكن يقوم بها أحد غيره، وكان خروج رسول الله (صلی الله علیه و آله) من مكة في أول يوم من ربيع الأول، وذلك يوم الخميس من سنة ثلاث عشرة من المبعث، وقدم المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول مع زوال الشمس، فنزل بقبا، فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين، ثم لم يزل مقيماً ينتظر علياً (علیه السلام) يصلي الخمس صلوات ركعتين

ص: 513

ركعتين، وكان نازلاً على عمرو بن عوف، فأقام عندهم بضعة عشر يوماً يقولون له: أتقيم عندنا فنتخذ لك منزلاً ومسجداً؟ فيقول: لا إني أنتظر علي بن أبي طالب وقد أمرته أن يلحقني، ولست مستوطناً منزلاً حتى يقدم علي وما أسرعه إن شاء الله، فقدم علي (علیه السلام) والنبي (صلی الله علیه و آله) في بيت عمرو بن عوف فنزل معه.

ثم إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما قدم عليه علي (علیه السلام) تحول من قبا إلى بني سالم بن عوف وعلي (علیه السلام) معه يوم الجمعة مع طلوع الشمس، فخط لهم مسجداً ونصب قبلته فصلى بهم فيه الجمعة ركعتين وخطب خطبتين، ثم راح يومه إلى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها، وعلي (علیه السلام) معه لايفارقه يمشي بمشيه، وليس يمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ببطن من بطون الأنصار إلا قاموا إليه يسألونه أن ينزل عليهم فيقول لهم: خلوا سبيل الناقة فإنها مأمورة، فانطلقت به ورسول الله (صلی الله علیه و آله) واضع لها زمامها حتى انتهت إلى الموضع الذي ترى، وأشار بيده إلى باب مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي يصلي عنده بالجنائز، فوقفت عنده وبركت ووضعت جرانها على الأرض، فنزل رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأقبل أبوأيوب مبادراً حتى احتمل رحله فأدخله منزله. ونزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) معه حتى بنيَ له مسجده، بنيت له مساكنه ومنزل علي (علیه السلام)، فتحولا إلى منازلهما.

فقال سعيد بن المسيب لعلي بن الحسين: جعلت فداك كان أبوبكر مع رسول الله حين أقبل إلى المدينة فأين فارقه؟ فقال: إن أبابكر لما قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى قبا فنزل بهم ينتظر قدوم علي (علیه السلام) فقال له أبوبكر: إنهض بنا إلى المدينة فإن القوم قد فرحوا بقدومك وهم يستريثون إقبالك إليهم، فانطلق بنا ولا تقم هاهنا تنتظر علياً، فما أظنه يقدم عليك إلى شهر! فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): كلا ما أسرعه ولست أريم حتى يقدم ابن عمي وأخي في الله عزوجل، وأحب أهل بيتي إليَّ، فقد وقاني بنفسه من المشركين. قال: فغضب عند ذلك أبوبكر واشمأز، وداخله من ذلك حسد لعلي (علیه السلام)، وكان ذلك أول عداوة بدت منه لرسول الله (صلی الله علیه و آله) في علي (علیه السلام)، وأول خلاف على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فانطلق حتى دخل المدينة، وتخلف رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقبا ينتظر علياً (علیه السلام) .

قال: فقلت لعلي بن الحسين: فمتى زوج رسول الله فاطمة من علي (علیهما السلام)؟ فقال:

ص: 514

بالمدينة بعد الهجرة بسنة، وكان لها يومئذ تسع سنين.

قال علي بن الحسين (علیه السلام): ولم يولد لرسول الله (صلی الله علیه و آله) من خديجة (علیها السلام) على فطرة الإسلام إلا فاطمة (علیها السلام)، وقد كانت خديجة ماتت قبل الهجرة [بسنة] ومات أبوطالب بعد موت خديجة [بسنة] فلما فقدهما رسول الله سئم المقام بمكة ودخله حزن شديد، وأشفق على نفسه من كفار قريش، فشكا إلى جبرئيل ذلك، فأوحى الله عزوجل إليه: أخرج من القرية الظالم أهلها وهاجر إلى المدينة، فليس لك اليوم بمكة ناصر، وانصب للمشركين حرباً.

فعند ذلك توجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة.

فقلت له: فمتى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هم عليه اليوم؟ فقال: بالمدينة حين ظهرت الدعوة وقوي الإسلام، وكتب الله عزوجل على المسلمين الجهاد، وزاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الصلاة سبع ركعات: في الظهر ركعتين وفي العصر ركعتين وفي المغرب ركعة وفي العشاء الآخرة ركعتين، وأقر الفجر على ما فرضت، لتعجيل نزول ملائكة النهار من السماء، ولتعجيل عروج ملائكة الليل إلى السماء، وكان ملائكة الليل وملائكة النهار يشهدون مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) صلاة الفجر، فلذلك قال الله عزوجل: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً. يشهده المسلمون ويشهده ملائكة النهار وملائكة الليل».

ملاحظات

تضمن هذا الحديث الشريف حقائق مهمة عن البعثة والهجرة، وعن عمر أميرالمؤمنين وفاطمة (علیهما السلام) وزواجهما، وقد جعلناه محوراً فيما كتبناه، إلا قوله إن أباطالب توفي بعد خديجة (علیهما السلام) بسنة، وإنهما توفيا قبل الهجرة بسنة، والظاهر أن فيه تصحيفاً، وقد يكون تصحيف ستة، وسقط ما بعده.

ص: 515

10- نزل النبي (صلی الله علیه و آله) في قباء وهي ضاحية المدينة

في إعلام الورى/41، عن الزهري: «كان بين ليلة العقبة و بين مهاجرة رسول الله ثلاثة أشهر، وكانت بيعة الأنصار لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ليلة العقبة في ذي الحجة، وقدوم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة في شهر ربيع الأول لاثنتي عشرة ليلة خلت منه يوم الإثنين. وكانت الأنصار خرجوا يتوكفون أخباره، فلما أيسوا ورجعوا إلى منازلهم أقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فوافى ذا الحليفة سأل عن طريق بني عمرو بن عوف فدلوه، فرفعه الآل «تلة في الطريق» فنظر رجل من اليهود وهو على أطم له إلى ركبان ثلاثة يمرون على طريق بني عمرو بن عوف فصاح: يا معشر المسلمة هذا صاحبكم قد وافى! فوقعت الصيحة بالمدينة فخرج الرجال والنساء والصبيان، مستبشرين لقدومه يتعادَوْن، فوافى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقصد مسجد قبا ونزل، واجتمع إليه بنو عمرو بن عوف، وسُرُّوا به واستبشروا واجتمعوا حوله (صلی الله علیه و آله) . ونزل على كلثوم بن الهَدْم شيخ من بني عمرو صالح مكفوف البصر، واجتمعت بطون الأوس، وكان بين الأوس والخزرج عداوة، فلم يجسروا أن يأتوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما كان بينهم من الحروب، فأقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتصفح الوجوه فلا يرى أحداً من الخزرج، وقد كان قدم على عمرو بن عوف قبل قدوم رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ناس من المهاجرين فنزلوا فيهم».

وفي المناقب: 1/151: «هاجر إلى المدينة وأمر أصحابه بالهجرة وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، وكانت هجرته يوم الإثنين، وصار ثلاثة أيام في الغار ليُخَيِّب من قصد إليه وروي ستة أيام، ودخل المدينة يوم الإثنين الثاني عشرمن ربيع الأول وقيل الحادي عشر، وهي السنة الأولى من الهجرة، فرد التاريخ إلى المحرم.

وكان نزل بقبا في دار كلثوم بن الهدم، ثم بدار خيثمة الأوسي ثلاثة أيام ويقال اثني عشر يوماً، إلى بلوغ علي وأهل البیت (علیهم السلام) .

وكان أهل المدينة يستقبلون كل يوم إلى قبا وينصرفون، فأسس بقبا مسجدهم وخرج يوم الجمعة ونزل المدينة، وصلى في المسجد الذي ببطن الوادي».

وفي قصص الأنبياء/335 وإعلام الورى: 1/152: «فلما أمسى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فارقه

ص: 516

أبوبكر ودخل المدينة ونزل على بعض الأنصار، وبقي رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقبا نازلاً على كلثوم بن الهدم، فلما صلى المغرب والعشاء الآخرة جاءه أسعد بن زرارة مقنَّعاً فسلم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفرح بقدومه، ثم قال: يا رسول الله ما ظننت أن أسمع بك في مكان فأقعد عنك، إلا أن بيننا وبين إخواننا من الأوس ما تعلم، فكرهت أن آتيهم، فلما أن كان هذا الوقت لم أحتمل أن أقعد عنك.

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) للأوس: من يجيره منكم؟ فقالوا: يا رسول الله، جوارنا في جوارك فأجره. قال: لا، بل يجيره بعضكم. فقال عويم بن ساعدة وسعد بن خيثمة: نحن نجيره يا رسول الله فأجاروه، وكان يختلف إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيتحدث عنده ويصلي خلفه.فبقي خمسة عشر يوماً فوافى علي (علیه السلام) بعياله، فلما وافى كان سعد بن الربيع وعبدالله بن رواحة يكسران أصنام الخزرج، وكان كل رجل شريف في بيته صنم يمسحه ويطيبه، ولكل بطن من الأوس والخزرج صنم في بيت لجماعة يكرمونه ويجعلون عليه منديلاً ويذبحون له، فلما قدم الإثنا عشر من الأنصار أخرجوها من بيوتهم وبيوت من أطاعهم، فلما قدم السبعون كثر الإسلام وفشا، وجعلوا يكسرون الأصنام».

وقال اليعقوبي في تاريخه: 2/40: «قدم رسول الله المدينة يوم الإثنين لثمان خلون من شهر ربيع الأول، وقيل يوم الخميس لاثني عشرة ليلة خلت منه فنزل على كلثوم بن الهدم، فلم يلبث إلا أياماً حتى مات كلثوم، وانتقل فنزل على سعد بن خيثمة في بني عمرو بن عوف، فمكث أياماً. ثم كان سفهاء بني عمرو ومنافقوهم يرجمونه في الليل، فلما رأى ذلك قال: ما هذا الجوار؟ فارتحل عنهم وركب راحلته وقال: خلوا زمامها».

وفي سيرة ابن هشام: 2/340: «كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننتظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال، فإذا لم نجد ظلاً دخلنا، وذلك في أيام حارة. فكان أول من رآه رجل من اليهود وقد رأى ما كنا نصنع وأنا ننتظر قدوم رسول الله (صلی الله علیه و آله) علينا فصرخ بأعلى صوته: يا بني

ص: 517

قَيْلة هذا جدُّكم قد جاء.كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا خرج من منزل كلثوم بن هندم جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة. ونزل أبوبكر الصديق على خبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج بالسُّنح. «الجهة الأخرى للمدينة». ثم قال ابن هشام: «أقام علي بن أبي طالب (علیه السلام) بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدى عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) الودائع التي كانت عنده للناس، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله فنزل معه على كلثوم بن هدم. قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس، وأسس مسجده.فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة».

11- نشيد أهل المدينة: طَلَعَ البدرُ علينا

في المبسوط للطوسي: 8/224: «وأما الحداء وهو الشعر الذي تحث به العرب الإبل على الإسراع في السير، فهو مباح وهو ممدود لأنه من الأصوات كالدعاء والنداء والثغاء والرغاء..وروي أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان في سفر فأدرك ركباً من تميم معهم حاد فأمرهم بأن يحدو وقال: إن حادينا نام آخر الليل.

فأما الكلام في الشعر فهو مباح أيضاً ما لم يكن فيه هجو ولا فحش ولا تشبيب بامرأة لا يعرفها. روى عمرو بن الشريد، عن أبيه قال: أردفني رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شئ؟ قال قلت: نعم، قال: هيه، قال فأنشدته بيتاً فقال: هيه، فأنشدته حتى بلغت مائة بيت. فإذا ثبت أنه مباح فقد روي كثير مما سمعه النبي (صلی الله علیه و آله) ولم ينكره، فمن ذلك ما روي أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما هاجر إلى المدينة استقبله فتيان المدينة، وأنشدوا:

طلع البدر علينا *** من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا *** ما دعا لله داع

[أنت يا مرسل حقاً *** جئت بالأمر المطاع

جئتنا تسعى رويداً *** مرحبا يا خير ساع

جئت شرفت المدينة *** مرحباً ياخير داع

ص: 518

يا نبياً من ضياه *** أشرقت كل البقاع

قد لبسنا ثوب عز *** بعد تمزيق الرقاع

ربنا صل على من *** حل في خير البقاع]

ومر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أزقة المدينة فسمع جواري لبني النجار ينشدن:

نحن جوارٍ من النجارْ *** يا حبذا محمدٌ من جار

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أتحبوني؟ فقالوا: إي والله يا رسول الله. قال: أنا والله أحبكم. ثلاث مرات». وإعلام الورى: 1/151، الصراط المستقيم: 1/158، البحار:19/105، مستدرك سفينة البحار: 5/446، فتح الباري: 8/98 وعمدة القاري: 17/60.

وأشكل في الصحيح من السيرة: 4/109، على رواية هذا النشيد، بأن ثنيات الوداع ليست من جهة مكة بل من جهة الشام، لكن لو صح ذلك جغرافياً فلا يضر بالرواية، لأن ثنيات الوداع تعني التلال التي يودع منها أهل البلد مسافريهم ويستقبلونهم، فيكون النشيد شائعاً عند أهل المدينة فأنشدوه للنبي (صلی الله علیه و آله) وأكملوه بما يناسب. وقد ورد أن إماء مكة استقبلن النبي (صلی الله علیه و آله) في فتح مكة بنفس النشيد. تاج العروس: 11/500.

12- ترك أبوبكر النبي (صلی الله علیه و آله) بقباء وذهب غاضباً!

تقدم من إعلام الورى: 1/152، وقصص الأنبياء/335، أن أبابكر أراد من النبي أن يدخل المدينة فقال (صلی الله علیه و آله): «لا أريم من هذا المكان حتى يوافيني أخي علي بن أبي طالب..فقال أبوبكر: ما أحسب علياً يوافي! قال: بلى ما أسرعه إن شاء الله. فلما أمسى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فارقه أبوبكر ودخل المدينة ونزل على بعض الأنصار».

وتقدم ذلك من الكافي: 8/338. وقد غطى رواة السلطة ترك أبي بكر للنبي (صلی الله علیه و آله) في قباء فلم يصرحوا به! قال ابن هشام: 2/342: «نزل النبي (صلی الله علیه و آله) في قباء ونزل أبوبكر على خبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج، بالسنح».

وفي الطبقات: 3/174: «ولم يزل في بيت الحارث بن الخزرج بالسنح، حتى توفي

ص: 519

رسول الله (صلی الله علیه و آله)». وفي أسد الغابة: 3/219: «وكان منزله بالسنح عند زوجته حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير، وكان قد حجر عليه حجرة من شعر، فما زاد على ذلك حتى تحول إلى المدينة».

وأخطأ ابن أبي الحديد أو كذب ليغطي على أبي بكر! فقال في شرح النهج: 13/305: «وأما حال علي فلما أدى الودائع، خرج بعد ثلاث من هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) فجاء إلى المدينة راجلاً قد تورمت قدماه فصادف رسول الله (صلی الله علیه و آله) نازلاً بقباء على كلثوم بن الهدم فنزل معه في منزله. وكان أبوبكر نازلاً بقباء أيضاً في منزل خبيب بن يساف ثم خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهما معه من قباء».

ومنزل ابن يساف في السنح وليس بقباء! والسنح يقع في العالية خارج المدينة باتجاه نجد: «قال عياض: هذا حد أدناها وأبعدها ثمانية أميال، وبه جزم ابن عبدالبر، وصاحب النهاية». الصحيح من السيرة: 11/63.

13- إسلام سلمان الفارسي في قباء

1. جاءت مجموعات من اليهود بعد نبي الله عيسى (علیه السلام)، وسكنت الجزيرة بانتظار النبي الموعود، وكان أشخاص غير اليهود ينتظرون ظهوره (صلی الله علیه و آله) أيضاً مثل سلمان الفارسي الذي أعجبته المسيحية فترك المجوسية وهاجر إلى الشام، ثم إلى العراق وتركيا وعاش مع علمائهم، ثم جاء إلى أرض العرب ينتظر النبي الموعود.

ففي كمال الدين/161، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان بين عيسى وبين محمد (صلی الله علیه و آله) خمس مائة عام، منها مائتان وخمسون عاماً ليس فيها نبي ولاعالم ظاهر. قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا متمسكين بدين عيسى (علیه السلام) . قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا مؤمنين. ثم قال (علیه السلام): ولا يكون الأرض إلا وفيها عالم.

وكان ممن ضرب في الأرض لطلب الحجة سلمان الفارسي رضيالله عنه، فلم يزل ينتقل من عالم إلى عالم ومن فقيه إلى فقيه، ويبحث عن الأسرار ويستدل بالأخبار، منتظراً لقيام القائم سيد الأولين والآخرين محمد (صلی الله علیه و آله) أربع مائة سنة، حتى بشر

ص: 520

بولادته، فلما أيقن بالفرج خرج يريد تهامة فسبي».

وقد وجد سلمان في المدينة امرأة فارسية، جاءت قبله تنتظر النبي الموعود (صلی الله علیه و آله)! «قال سلمان: لما قدمت المدينة رأيت امرأة إصبهانية كانت قد أسلمت قبلي، فسألتها عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فهي التي دلتني على رسول الله (صلی الله علیه و آله)». طبقات المحدثين بأصبهان لابن حبان: 1/123، الإصابة لابن حجر: 8/29 وأخبار إصبهان: 1/44.

«كان سلمان الفارسي عبداً لبعض اليهود، وقد كان خرج من بلاده من فارس يطلب الدين الحنيف الذي كان أهل الكتب يخبرونه به، فوقع إلى راهب من رهبان النصارى بالشام فسأله عن ذلك وصحبه فقال: أطلبه بمكة مخرجه، واطلبه بيثرب فثَمَّ مهاجره. فقصد يثرب فأخذه بعض الأعراب فسَبَوْهُ، واشتراه رجل من اليهود فكان يعمل في نخله، وكان ذلك اليوم على النخلة يصرمها، فدخل على صاحبه رجل من اليهود فقال: يا أبا فلان أشعرت أن هؤلاء المسلمة قد قدم عليهم نبيهم؟ فقال سلمان: جعلت فداك ما الذي تقول؟ فقال له صاحبه: ما لك وللسؤال عن هذا، أقبل على عملك! قال فنزل وأخذ طبقاً وصيَّر عليه من ذلك الرطب وحمله إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال له رسول الله: ما هذا؟ قال: صدقة تمورنا، بلغنا أنكم قوم غرباء قدمتم هذه البلاد فأحببت أن تأكلوا من صدقتنا. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): سَمُّوا وكلوا. فقال سلمان في نفسه وعقد بإصبعه: هذه واحدة يقولها بالفارسية، ثم أتاه بطبق آخر فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما هذا؟ فقال له سلمان رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أهديتها إليك. فقال: سموا وكلوا، وأكل، فعقد سلمان بيده: اثنين، وقال: هذه اثنان يقولها بالفارسية، ثم دار خلفه فألقى رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن كتفه الإزار فنظر سلمان إلى خاتم النبوة والشامة فأقبل يقبلها! قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): من أنت؟ قال: أنا رجل من أهل فارس قد خرجت من بلادي منذ كذا وكذا، وحدثه بحديثه وبه طول، فأسلم وبشره رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال له: أبشر واصبر، فإن الله سيجعل لك فرجاً من هذا اليهودي». إعلام الورى: 1/42.

ص: 521

وفي إعلام الورى: 1/60: «وكان آخر من أتى «عاش معه سلمان علماء النصارى» آبي، فمكث عنده ما شاء الله، فلما ظهر النبي قال آبي: يا سلمان إن صاحبك الذي تطلبه بمكة قد ظهر، فتوجه إليه سلمان». كمال الدين/665.

وحدَّث سلمان (رحمة الله) عن حاله بعد الراهب آبي: «فلما واريناه أقمت على خير، حتى مر بي رجال من تجار العرب من كلب، فقلت لهم: تحملوني معكم حتى تقدموني أرض العرب وأعطيكم غنمتي هذه وبقراتي، قالوا نعم فأعطيتهم إياها وحملوني حتى إذا جاءوا بي وادي القرى ظلموني فباعوني عبداً من رجل من يهود بوادي القرى». ثم باعه مالكوه إلى أقاربهم من قريظة في المدينة، فكان عبداً لهم نحو سنتين حتى هاجر النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «ذهبت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو بقبا فقلت: إنه بلغني أنك رجل صالح وأن معك أصحاباً لك غرباء، وقد كان عندي شئ للصدقة فرأيتكم أحق من بهذه البلاد به، فها هو هذا فكل منه، فأمسك رسول الله (صلی الله علیه و آله) يده وقال لأصحابه: كلوا ولم يأكل فقلت في نفسي هذه خلة مما وصف لي صاحبي. فاستدرت لأنظر إلى الخاتم في ظهره فلما رآني رسول الله أستدير عرف أني استثبت من شئ قد وصف لي فوضع رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه كما وصف لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله وأبكي! فقال: تحول يا سلمان هاكني، فتحولت فجلست بين يديه وأحب أن يسمع أصحابه حديثي فحدثته». ابن إسحاق: 2/68 وأحمد: 5/443.

وحدَّث سلمان عن عمله عند ذلك اليهودي فقال: «فكنت أسقي كما يسقي البعير حتى دَبَر ظهري وصدري «جُرح» من ذلك، ولا أجد أحداً يفقه كلامي حتى جاءت عجوز فارسية تستقي فكلمتها ففهمت كلامي، فقلت لها: أين هذا الرجل الذي خرج دليني عليه؟قالت: سيمر بك بكرة إذا صلى الصبح».أخبار أصبهان: 1/76.

14- من مناقب سلمان الفارسي (رحمة الله)

1- روت مصادر السنة وصححته أن النبي (صلی الله علیه و آله) اشتراه بأواقي ذهب وثلاث مئة نخلة حتى تطعم، ففي الحاكم: 2/16، أحمد: 5/354 و443 والبيهقي: 10/321، عن بريدة قال:

ص: 522

«وكان لليهود فاشتراه رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكذا وكذا درهماً وعلى أن يغرس نخلاً فيعمل سلمان فيها حتى تطعم، قال فغرس رسول الله «وأصحابه» النخل إلا نخلة واحدة غرسها عمر فحملت النخل من عامها ولم تحمل النخلة، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): من غرسها؟ قالوا: عمر،فنزعها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم غرسها فحملت من عامها».

2. وكان سلمان في أعلى درجات الإيمان وهي الدرجة العاشرة، ففي الخصال/447 عن عبدالعزيز القراطيسي قال: «قال لي أبوعبدالله (علیه السلام): يا عبدالعزيز إن الإيمان عشر درجات، بمنزلة السلم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الواحد لصاحب الإثنين لست على شئ، حتى تنتهي إلى العاشرة، ولا تسقط من هو دونك فيسقطك الذي هو فوقك، فإذا رأيت من هو أسفل منك فارفعه إليك برفق، ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنه من كسر مؤمناً فعليه جبره. وكان المقداد في الثامنة، وأبوذر في التاسعة، وسلمان في العاشرة».

3- آخى النبي (صلی الله علیه و آله) بينه وبين أبيذرواشترط عليه طاعة سلمان. الكافي: 8/162.

4- وكان سلمان مُحَدَّثاً، قال الإمام الصادق (علیه السلام): «كان سلمان محدثاً.قال قلت: فما آية المحدث؟ قال: يأتيه ملك فينكت في قلبه كيت وكيت». «بصائر الدرجات/342». وقال (علیه السلام): «إن سلمان علم الإسم الأعظم». الإختصاص/11 ورجال الطوسي: 1/65.

5- ولذلك اتخذه النبي (صلی الله علیه و آله) خليلاً، قال سلمان: «أوصاني خليلي بسبعة خصال لا أدعهن على كل حال: أوصاني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقى، وأن أحب الفقراء وأدنو منهم، وأن أقول الحق وإن كان مُرّاً، وأن أصل رحمي وإن كانت مدبرة، ولا أسأل الناس شيئاً، وأوصاني أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإنها كنز من كنوز الجنة». المحاسن: 1/11.

6. وتوفي سلمان وهو أمير المدائن، وأمر زوجته: «أن تديف «تُذَوِّب» مسكاً أصابه من الفئ وخبأه لأجل وفاته، وقال لها: ميثيه في الماء، ورشي

ص: 523

بالماء حولي، فإني اليوم يحضرني من ملائكة ربي من لم أرهم قط! ففعلت ذلك، وتوفي في ذلك اليوم». «إكمال الكمال: 7/362». وحضر أميرالمؤمنين (علیه السلام) من المدينة بكرامة وغسل سلمان وصلى عليه وودعه. «الفضائل لشاذان بن جبرئيل/90، في حديث طويل». وقال له: «إذا لقيت رسول الله فقل له ما مرَّعلى أخيك من قومك».

مستدرك السفينة: 6/34.

وفي مدينة المعاجز: 2/14، عن الراوندي: «أن علياً (علیه السلام) دخل المسجد بالمدنية غداة يوم وقال: رأيت في النوم رسول الله (صلی الله علیه و آله) البارحة فقال لي: إن سلمان توفي، ووصاني بغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وها أنا خارج إلى المدائن لذلك. فقال عمر: خذ الكفن من بيت المال. فقال علي (علیه السلام): ذاك مكفي مفروغ منه، فخرج والناس معه إلى ظاهر المدينة، ثم خرج وانصرف الناس، فلما كان قبل الظهيرة رجع وقال: دفنته، وأكثر الناس لم يصدقوه حتى كان بعد مدة ووصل من المدائن مكتوب: إن سلمان توفي يوم كذا، ودخل علينا أعرابي فغسله وكفنه وصلى عليه ودفنه، ثم انصرف. فتعجب الناس كلهم»!

6. تزوج سلمان (رحمة الله) امرأة من قبيلة كندة، وأنجب أولاداً وعرف منهم محمد وعبدالله. رجال الطوسي: 1/68، طرائف المقال: 2/601، الإستيعاب: 2/638، تاريخ دمشق: 21/428، سنن البيهقي: 7/273، تهذيب الكمال: 11/249، لسان الميزان: 3/421،ومصنف عبدالرزاق: 6/153و192.

وذكروا له أولاداً: يحيى بن سلمان «تاريخ دمشق5/227» وعامر بن سلمان «المنفردات لمسلم بن الحجاج/104» ولعله هو عمر بن سلمان «كشف الظنون 2/1488». وزاذان بن سلمان «الدر النظيم/321» وهو إسم فارسي، وهو يروي عن أبيه عن النبي (صلی الله علیه و آله) .

وذكروا لهم ذرية، ففي فهرست منتجب الدين/52: «الشيخ بدر الدين الحسن بن على بن سلمان بن أبي جعفر بن أبي الفضل بن الحسن بن أبي بكر بن سلمان بن عباد بن عمار بن أحمد بن أبي بكر بن علي بن سلمان بن منبه بن محمد بن عمارة بن ابراهيم بن سلمان بن محمد بن سلمان الفارسي رضيالله عنه صاحب رسول الله (صلی الله علیه و آله)، نزيل أشناباد السد من الري، واعظ، فصيح، صالح».

ص: 524

7. وكان سلمان (رحمة الله) من المعمرين، روي أنه عاش أكثر من ثلاث مئة سنة. وكان من كبار صحابة النبي (صلی الله علیه و آله) وأفاضلهم، وقد اشتهر بين المسلمين قول النبي (صلی الله علیه و آله): سلمان منا أهل البیت، وشارك في حروب النبي (صلی الله علیه و آله)، وفي فتح إيران وآذربيجان وغيرها، وصار هذا الفارسي المشرد حاكماً للمدائن مكان كسرى!

وكان من حواريي علي:، وأحد الإثني عشر الذين خطبوا في المسجد بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) وواجهوا أبابكر وهو على المنبر، وأدانوا بيعة السقيفة.

وقد أفاضت المصادر في ذكره فلا يكاد يخلو مصدر حديثي من أحاديثه ومناقبه. وألفت فيه كتب مستقلة، لكنها لاتفي بالغرض.ولعل قومه الفرس أول المقصرين في حقه! فلا ترى في إيران عملاً مهماً باسمه، أو ذكراً مناسباً له!

وقد كتبت له ترجمة في كتاب: قراءة جديدة في الفتوحات.

ص: 525

الفصل الثامن والعشرون: الهجرة العلنية الوحيدة: هجرة علي (علیه السلام)

1- علي (علیه السلام) يؤدي أمانات النبي (صلی الله علیه و آله) جهاراً في مكة

قال المفيد (رحمة الله) في الإرشاد: 1/53: «ومن ذلك أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان أمين قريش على ودائعهم، فلما فَجَأَهُ من الكفار ما أحوجه إلى الهرب من مكة بغتةً، لم يجد في قومه وأهله من يأتمنه على ما كان مؤتمناً عليه سوى أميرالمؤمنين (علیه السلام)، فاستخلفه في رد الودائع إلى أربابها، وقضاء ما عليه من دين لمستحقيه، وجمع بناته ونساء أهله وأزواجه والهجرة بهم إليه، ولم ير أن أحداً يقوم مقامه في ذلك من كافة الناس، فوثق بأمانته وعول على نجدته وشجاعته، واعتمد في الدفاع عن أهله وحامته على بأسه وقدرته، واطمأن إلى ثقته على أهله وحرمه، وعرف من ورعه وعصمته ما تسكن النفس معه إلى إئتمانه على ذلك.

فقام (علیه السلام) به أحسن القيام ورد كل وديعة إلى أهلها، وأعطى كل ذي حق حقه، وحفظ بنات نبيه (علیه السلام) وآله وحرمه، وهاجر بهم ماشياً على قدمه يحوطهم من الأعداء، ويكلؤهم من الخصماء، ويرفق بهم في المسير، حتى أوردهم عليه المدينة على أتم صيانة وحراسة، ورفق ورأفة، وحسن تدبير. فأنزله النبي (صلی الله علیه و آله) عند وروده المدينة داره، وأحله قراره، وخلطه بحرمه وأولاده، ولم يميزه من خاصة نفسه، ولا احتشمه في باطن أمره وسره».

وقال في السيرة الحلبية: 2/232: «فلما توجه (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة قام عليٌّ بالأبطح ينادي: من كان له عند رسول الله وديعة فليأت تُؤَدَّى إليه أمانته. فلما نفد ذلك وردَ عليه كتاب

ص: 526

رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالشخوص إليه، فابتاع ركائب، وقدم ومعه الفواطم ومعه أم أيمن وولدها أيمن وجماعة من ضعفاء المؤمنين». و نحوه الصالحي: 3/267.

2- علي (علیه السلام) يتحدى قريشاً ويعلن عزمه على الهجرة!

قال ابن جبر في نهج الإيمان/311 وابن شهراشوب في المناقب: 1/335: «ذكر الواقدي وغيره أن علياً (علیه السلام) لما عزم على الهجرة قال له العباس: إن محمداً ما خرج إلا خِفْياً وذكر حديثاً ثم قال له: ما أرى أن تمضي إلا في خفارة خزاعة،

فقال علي (علیه السلام):

إن المنية شَرْبَةٌ مورودةٌ *** لا تجزعنَّ وشُدَّ للترحيل

إن ابن آمنة النبي محمداً *** رجل صدوقٌ قال عن جبريل

أرْخ الزمام ولاتخفْ من عائقٍ *** فالله يرديهم إلى التنكيل

إني بربي واثقٌ وبأحمد *** و سبيله متلاحقٌ بسبيلي

أقول: يدل هذا على أن إعلان علي (علیه السلام) هجرته كان بأمر النبي (صلی الله علیه و آله)! فبعد أن هاجر أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) أولاً، ثم هاجر النبي (صلی الله علیه و آله) وأفلت من أظافر قريش! أراد الله تعالى أن تكون هجرة علي (علیه السلام) بأسرة النبي (صلی الله علیه و آله) آية لصدق النبوة، ورسالة قوة، فقريش لا تفهم غيرالقوة»!

3- قريش تدبر محاولة لاغتيال علي (علیه السلام) قبل هجرته

روى ابن شهر آشوب في المناقب: 1/335 عن الواقدي، وأبي الفرج النجدي، وأبي الحسن البكري، وإسحاق الطبراني: «أن علياً (علیه السلام) لما عزم على الهجرة قال له العباس..الى آخر ما تقدم. قال: فكمن له مهلع غلام حنظلة بن أبي سفيان في طريقه بالليل، فلما رآه سل سيفه ونهض إليه فصاح عليٌّ به صيحة خرَّ على وجهه وجلله بسيفه! فلما أصبح توجه نحو المدينة، فلما شارف ضجنان أدركه الطلب بثمانية فوارس».

أقول: هذه أول صيحة وأول ضربة سيف من علي (علیه السلام) صلوات الله عليه.

ص: 527

4- واخترعت قريش مكيدة مالية لعلي (علیه السلام) قبل هجرته

روى في المناقب: 2/175، عن الواقدي، وإسحاق الطبري: «أن عمير بن وابل الثقفي أمره حنظلة بن أبي سفيان أن يدعي على علي (علیه السلام) ثمانين مثقالاً من الذهب وديعةً عند محمد (صلی الله علیه و آله)، وأنه هرب من مكة وأنت وكيله، فإن طلب بينة الشهود فنحن معشر قريش نشهد عليه، وأعطوه على ذلك مائة مثقال من الذهب، منها قلادة عشر مثاقيل لهند، فجاء وادعى على علي (علیه السلام)، فاعتبر الودايع كلها ورأى عليها أسامي أصحابها، ولم يكن لما ذكره عمير خبر، فنصح له نصحاً كثيراً فقال: إن لي من يشهد بذلك وهو أبوجهل، وعكرمة، وعقبة بن أبي معيط، وأبوسفيان، وحنظلة! فقال (علیه السلام): مكيدة تعود إلى من دبرها، ثم أمر الشهود أن يقعدوا في الكعبة، ثم قال لعمير: يا أخا ثقيف أخبرني الآن حين دفعت وديعتك هذه إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أي الأوقات كان؟ قال: ضحوة نهار فأخذها بيده ودفعها إلى عبده. ثم استدعى بأبي جهل وسأله عن ذلك قال: ما يلزمني ذلك.

ثم استدعى بأبي سفيان وسأله فقال: دفعها عند غروب الشمس، وأخذها من يده وتركها في كمه! ثم استدعى حنظلة وسأله عن ذلك فقال: كان عند وقت وقوف الشمس في كبد السماء، وتركها بين يديه إلى وقت انصرافه!

ثم استدعى بعقبة وسأله عن ذلك فقال: تسلمها بيده وأنفذها في الحال إلى داره وكان وقت العصر! ثم استدعى بعكرمة، وسأله عن ذلك فقال: كان بزوغ الشمس أخذها فأنفذها من ساعته إلى بيت فاطمة!

ثم أقبل على عمير وقال له: أراك قد اصفر لونك وتغيرت أحوالك! قال: أقول الحق ولا يفلح غادر، وبيت الله ما كان لي عند محمد وديعة، وإنهما حملاني على ذلك، وهذه دنانيرهم وعقد هند عليه إسمها مكتوب!

ثم قال علي: إيتوني بالسيف الذي في زاوية الدار فأخذه وقال: أتعرفون هذا السيف؟ فقالوا: هذا لحنظلة. فقال أبوسفيان: هذا مسروق. فقال (علیه السلام): إن كنت صادقاً في قولك فما فعل عبدك مهلع الأسود؟ قال: مضى إلى الطائف في حاجة لنا! فقال:

ص: 528

هيهات أن يعود تراه، ابعث إليه أحضره إن كنت صادقاً! فسكت أبوسفيان. ثم قام (علیه السلام) في عشرة عبيد لسادات قريش فنبشوا بقعة عرفها، فإذا فيها العبد مهلع قتيل، فأمرهم بإخراجه فأخرجوه وحملوه إلى الكعبة، فسأله الناس عن سبب قتله فقال: إن أبا سفيان وولده ضمنوا له رشوة عتقه وحثَّاه على قتلي، فكمن لي في الطريق ووثب عليَّ ليقتلني، فضربت رأسه وأخذت سيفه!

فلما بطلت حيلتهم أرادوا الحيلة الثانية بعمير! فقال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله

وأن محمداً رسول الله (صلی الله علیه و آله)»!

5- انتظر النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) في قباء وكتب اليه وطمأنه

في أمالي الطوسي/469: «قال أبيٌّ وابن أبي رافع: ثم كتب رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام) كتاباً يأمره فيه بالمسير إليه وقلة التَّلوُّم «التأخر» وكان الرسول إليه أبا واقد الليثي، فلما أتاه كتاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) تهيأ للخروج والهجرة، فآذن من كان معه من ضعفاء المؤمنين، فأمرهم أن يتسللوا ويتخفوا إذا ملأ الليل بطن كل واد إلى ذي طوى. وخرج علي (علیه السلام) بفاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت الزبير بن عبدالمطلب، وتبعهم أيمن بن أم أيمن مولى رسول الله، وأبو واقد مولى رسول رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم فقال علي: إرفق بالنسوة يا أبا واقد، إنهن من الضعائف. قال: إني أخاف أن يدركنا الطلب! فقال علي (علیه السلام): إربع عليك فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لي: «في رسالته» يا علي إنهم لن يصلوا من الآن إليك بما تكرهه، ثم جعل يعني علياً (علیه السلام) يسوق بهن سوقاً رفيقاً وهو يرتجز ويقول:

ليس إلا الله فارفع ظَنَّكا *** يكفيك ربُّ الناس ما أهمَّكا».

6- علي (علیه السلام) يدوس غطرسة قريش

في أمالي الطوسي/470: «وسار فلما شارف ضجنان أدركه الطلب، وعددهم سبعة فوارس من قريش مستلئمين، وثامنهم مولى لحرب بن أمية يدعى جناحاً، فأقبل علي (علیه السلام) على أيمن وأبي واقد، وقد تراءى القوم فقال لهما: أنيخا الإبل

ص: 529

واعقلاها، وتقدم حتى أنزل النسوة، ودنا القوم فاستقبلهم (علیه السلام) منتضياً سيفه، فأقبلوا عليه فقالوا: أظننت أنك يا غُدَر ناجٍ بالنسوة، إرجع لا أباً لك! قال: فإن لم أفعل؟ قالوا: لترجعن راغماً أو لنرجعن بأكثرك شعراً، وأهون بك من هالك!

ودنا الفوارس من النسوة والمطايا ليثوروها، فحال علي (علیه السلام) بينهم وبينها، فأهوى له جناح بسيفه فراغ علي (علیه السلام) عن ضربته، وتختله علي فضربه على عاتقه، فأسرع السيف مضيَاً فيه حتى مسَّ كاثبة فرسه، فكان (علیه السلام) يشد على قدمه شد الفارس على فرسه، فشد عليهم بسيفه وهو يقول:

خلوا سبيل الجاهد المجاهدِ *** آليت لا أعبدُ غير الواحدِ

فتصدع عنه القوم وقالوا له: أغن عنا نفسك يا ابن أبي طالب. قال: فإني منطلق إلى ابن عمي رسول الله (صلی الله علیه و آله) بيثرب فمن سره أن أفري لحمه وأريق دمه فليتعقبني أو فليدن مني. ثم أقبل على صاحبيه أيمن وأبي واقد فقال لهما: أطلقا مطاياكما».

والكاثبة: مجتمع الكتف! وهذه ثاني ضربة سيف لعلي، صلوات الله عليه.

7- فاطمة بنت أسد أول مسلمة هاجرت مشياً

اختارت فاطمة بنت أسد3أن تهاجر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ماشية على قدميها، تحتسب ذلك عند الله تعالى، ففي الكافي: 1/453 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن فاطمة بنت أسد أم أميرالمؤمنين (علیهما السلام) كانت أول امرأة هاجرت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من مكة إلى المدينة على قدميها، وكانت من أبر الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله) .

وروى عن داود الرقي قال: دخلت على أبي عبدالله (علیه السلام) ولي على رجل مالٌ قد خفتُ تَوَاهُ «ذهابه» فشكوت إليه ذلك فقال لي: إذا صرت بمكة فطف عن عبدالمطلب طوافاً وصل ركعتين عنه، وطف عن أبي طالب طوافاً وصل عنه ركعتين، وطف عن عبدالله طوافاً وصل عنه ركعتين، وطف عن آمنة طوافاً وصل عنها ركعتين، وطف عن فاطمة بنت أسد طوافاً وصل عنها ركعتين، ثم ادع أن يرد عليك مالك. قال: ففعلت ذلك ثم خرجت من باب الصفا، وإذا غريمي واقف يقول: يا داود حبستني، تعال إقبض مالك».

ص: 530

8- ونزلت آيات القرآن تصف علياً (علیه السلام) والفواطم في طريق الهجرة

في أمالي الطوسي/471: «ثم سار ظاهراً قاهراً حتى نزل ضجنان، فتلوَّمَ بها قدر يومه وليلته، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين، وفيهم أم أيمن مولاة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فظل ليلته تلك هو والفواطم، أمه فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفاطمة بنت الزبير، طوراً يصلون، وطوراً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فلم يزالوا كذلك حتى طلع الفجر، فصلى (علیه السلام) بهم صلاة الفجر، ثم سار لوجهه يجوب منزلاً بعد منزل، لا يفتر عن ذكر الله، والفواطم كذلك وغيرهم ممن صحبه، حتى قدموا المدينة، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم بقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوِاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ. رَبَّنأَ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ.

رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاتُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاتُخْلِفُ الْمِيعَادَ. فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لاكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلادْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ. آل عمران: 190-195.

الذَّكَر علي (علیه السلام) والأنثى الفواطم المتقدم ذكرهن، وهن فاطمة بنت رسول الله وفاطمة بنت أسد وفاطمة بنت الزبير. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ: يقول: علي من فاطمة أو قال: الفواطم، وهن من علي (علیه السلام) وتلا (صلی الله علیه و آله): وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ، وقال: يا علي، أنت أول هذه الأمة إيماناً بالله ورسوله، وأولهم هجرة إلى الله ورسوله، وآخرهم عهداً برسوله، لا يحبك والذي نفسي بيده إلا مؤمن قد امتحن الله قلبه للإيمان، ولايبغضك إلا منافق أو كافر».

ص: 531

9- بخلت السلطة برواية هجرة أميرالمؤمنين (علیه السلام)

كأن السلطة أمرت الرواة أن يخفوا مناقب علي (علیه السلام) في هجرته، وما جرى له في مكة، ولا يذكروا لحاق فرسان قريش به وقتله فارسهم جناح، ولا نزول الآيات في عبادته ووالدته وفاطمة: ورفقائهم في طريق الهجرة، ولا أحاديث النبي (صلی الله علیه و آله) في مدحه! فذلك يرفع من قدره، وهم يريدون انتقاص قدره!

قال ابن هشام: 2/335: «قال ابن إسحاق: ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبوبكر الصديق وآل أبي بكر. أما علي فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيما بلغني أخبره بخروجه وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله ليس بمكة أحد عنده شئ يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته».

وقال في: 2/342: «وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها، حتى أدى عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) الودائع التي كانت عنده الناس، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله فنزل معه على كلثوم بن هَدم».

وقال في السيرة الحلبية: 2/233: «كان يسير الليل ويكمن النهار، حتى تفطرت قدماه، فاعتنقه النبي (صلی الله علیه و آله) وبكى رحمة لما بقدميه من الورم، وتفل في يديه وأمرَّهما على قدميه، فلم يشكهما بعد ذلك! ولا مانع من وقوع ذلك من علي مع وجود ما يركبه، لأنه يجوز أن يكون هاجر ماشياً، رغبة في عظيم الأجر».

أقول: كان يسير في الليل بسبب الحر وليس الخوف.

وروى ابن سعد: 3/22: «عن أبي رافع عن علي قال: لما خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة في الهجرة، أمرني أن أقيم بعده حتى أؤدي ودائع كانت عنده للناس، ولذا كان يسمى الأمين، فأقمت ثلاثاً فكنت أظهر ما تغيبت يوماً واحداً، ثم خرجت فجعلت أتبع طريق رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى قدمت بني عمرو بن عوف ورسول الله مقيم فنزلت على كلثوم بن الهدم وهنالك منزل رسول الله.. قدم علي للنصف من شهر ربيع الأول ورسول الله بقباء لم يُرِمْ»يذهب«بعد». تاريخ دمشق: 42/69.

ص: 532

وكثرت مكذوبات الحكومة في هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) وأسرته، وزعموا أن علياً (علیه السلام) لم يؤد أماناته ولم يهاجر بأسرته (صلی الله علیه و آله)! وأن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث شخصين أتيا بهن!

قال في الطبقات: 1/237: «بعث رسول الله من منزل أبي أيوب زيد بن حارثة وأبا رافع، وأعطاهما بعيرين وخمس مائة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتي رسول الله وسودة بنت زمعة»!

والصحيح أنهما كانتامع زوجيهما، وأن سودة لم تكن زوجة النبي في مكة!

10- سرقوا مناقب علي (علیه السلام) وأعطوها لعمر!

فقد هاجر عمر قبل النبي (صلی الله علیه و آله) بشهور أو سنة، سراً خوفاً من قريش، وواعد هشام بن العاص عند إضاة بني غفار في المدينة، ولم يواعده في أطراف مكة ولا في الطريق!

التنبيه للمسعودي/200، الدرر/77، الإمتاع: 9/188، السيرة الحلبية: 2/183 وغيرها.

بل روى الذهبي في تاريخه: 1/313، بسند صحيح عندهم: «فلما اشتدوا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه أمر رسول الله أصحابه بالهجرة فخرجوا رَسْلاً رسلاً..».

وعدَّ في الذين هاجروا عمر وجماعة، وكان ذلك قبل شهور أو سنة من هجرة النبي (صلی الله علیه و آله)! ومع ذلك سرقوا هجرة علي (علیه السلام) وأعطوها لعمر وجعلوا روايتها على لسان علي (علیه السلام)! فقال كما زعموا: «ما علمت أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً إلا عمر بن الخطاب»! أسد الغابة 4/58.

قال في الصحيح من السيرة: 4/195: «ونحن نقطع بعدم صحة هذا الكلام، لأن عمر لم يكن يملك مثل هذه الشجاعة.لما تقدم في حديث إسلامه عن البخاري وغيره من أنه حين أسلم اختبأ في داره خائفاً حتى جاءه العاص بن وائل فأجاره فخرج حينئذٍ». ثم عدد صاحب الصحيح فراره في الحروب وما عرف به من الجبن.

أقول: وقد وثق في مجمع الزوائد: 6/61 حديث عمر عن نفسه، بأنه تواعد مع اثنين عند مشارف المدينة، فحبس أحدهما ونجا الآخر! وقال البخاري: 2/264

ص: 533

إن عمر هاجر في عشرين، ولم يسمِّ أحداً منهم! ولا وصف هجرته كيف كانت!

ومع ذلك يدهشك ابن الجوزي في كتابه: المدهش/224: «هاتوا لنا مثل عمر كل الصحابة هاجروا سراً وعمر هاجر جهراً، وقال للمشركين قبل خروجه: ها أنا على عزم الهجرة، فمن أراد أن يلقاني فليلقني في بطن هذا الوادي»!

لكن كيف نصدق كلام ونحن لا نراه حضر في خطر تعرض له النبي (صلی الله علیه و آله)! ولا نجد له دوراً في نزول النبي (صلی الله علیه و آله) في قباء، ولا في بناء المسجد النبوي.

ثم نقرأ أنه نزل في المدينة قرب اليهود خارج المدينة، وكان يحضر دروسهم، قال كما في البخاري: 1/31: «كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك».

وبنو أمية بن زيد جيران ملاصقون ليهود بني قريظة، وبني زريق. تاريخ المدينة:1/170، ابن إسحاق: 3/299 وابن هشام: 2/569.

وبنو زريق هم الذين كتبوا لعمر التوراة ليتبناها النبي (صلی الله علیه و آله): «جاء عمر بجوامع من التوراة إلى رسول الله فقال يا رسول الله جوامع من التوراة أخذتها من أخٍ لي من

بني زريق، فتغير وجه رسول الله»! مجمع الزوائد: 1/174 ووثقه.

ص: 534

الفصل التاسع والعشرون: أبو أيوب الأنصاري اختاره الله لضيافة رسوله (صلی الله علیه و آله)

أبو أيوب الأنصاري، خالد بن زيد

1. جاء في ترجمته في الأصابة: 2/199: «خالد بن زيد بن كليب. أبوأيوب الأنصاري معروف باسمه وكنيته. شهد العقبة وبدراً وما بعدها، ونزل عليه النبي (صلی الله علیه و آله) لما قدم المدينة، فأقام عنده حتى بنى بيوته ومسجده.

وآخى بينه وبين مصعب بن عمير، وشهد الفتوح وداوم الغزو، واستخلفه علي على المدينة لما خرج إلى العراق ثم لحق به بعد، وشهد معه قتال الخوارج.

عن أبي رهم أن أباأيوب حدثهم أن النبي (صلی الله علیه و آله) نزل في بيته، وكنت في الغرفة فهريق ماء في الغرفة فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا نتتبع الماء شفقاً أن يخلص إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فنزلت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنا مشفق، فسألته فانتقل إلى الغرفة قلت يا رسول الله كنت ترسل إلي بالطعام، فأنظر فأضع أصابعي حيث أرى أثر أصابعك حتى كان هذا الطعام! قال أجل إن فيه بصلاً فكرهت أن آكل من أجل الملك، وأما أنتم فكلوا.

شهد أبوأيوب بدراً ثم لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا وهو في أخرى.ولزم أبوأيوب الجهاد بعد النبي (صلی الله علیه و آله) إلى أن توفي في غزاة القسطنطينية سنة خمسين وقيل إحدى وقيل اثنتين وخمسين وهو أكثر». وهو من رجال الصحاح الستة.

2. و جاء في ترجمته في مصادرنا الكشي: 1/165: «روى الحارث بن حصيرة الأزدي، عن

ص: 535

أبي صادق، عن محمد بن سليمان قال: قدم علينا أبوأيوب الأنصاري فنزل ضيعتنا يعلف خيلاً له، فأتيناه فأهدينا له، قال: قعدنا عنده فقلنا: يا أباأيوب قاتلت المشركين بسيفك هذا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ثم جئت تقاتل المسلمين؟ فقال: إن النبي (صلی الله علیه و آله) أمرني بقتال القاسطين والمارقين والناكثين، فقد قاتلت الناكثين وقاتلت القاسطين، وإنا نقاتل إن شاء الله بالمسعفات بالطرقات بالنهروانات، وما أدري أنى هي؟

وسئل الفضل بن شاذان عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري وقتاله مع معاوية المشركين؟فقال: كان ذلك منه قلة فقه وغفلة، ظنَّ أنه إنما يعمل عملاً لنفسه يقوي به الإسلام ويوهي به الشرك وليس عليه من معاوية شئ كان معه أولم يكن.

وسئل عن ابن مسعود وحذيفة؟ فقال: لم يكن حذيفة مثل ابن مسعود،لأن حذيفة كان ركناً، وابن مسعود خلط ووالى القوم ومال معهم وقال بهم.

وقال أيضاً: إن من السابقين الذين رجعوا إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) أبو الهيثم بن التيهان وأبوأيوب وخزيمة بن ثابت وجابر بن عبدالله وزيد بن أرقم وأبو سعيد الخدري وسهل بن حنيف والبراء بن مالك وعثمان بن حنيف وعبادة بن الصامت، ثم ممن دونهم قيس بن سعد بن عبادة وعدي بن حاتم وعمرو بن الحمق وعمران بن الحصين وبريدة الأسلمي وبشر كثير».

وقال السيد الخوئي: 22/38: «اعتراض الفضل على أبي أيوب الأنصاري في غير محله، وتقدم في البراء بن مالك عد الفضل أباأيوب من السابقين الذين رجعوا إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) . قال المفيد: هو صاحب منزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وله كلام يدعو به الناس إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) ولزوم إطاعته.

وتقدم في ترجمة جندب بن جنادة أبيذر الغفاري، عدُّ أبي أيوب الأنصاري من الإثني عشر الذين مضوا على منهاج نبيهم ولم يغيروا ولم يبدلوا».

أقول: أبوأيوب ذو مكانة جليلة، فهو من نقباء بيعة العقبة، وقد نال شرف نزول رسول الله (صلی الله علیه و آله) في بيته لما هاجر، وبقي عنده مدة حتى كمل بناء بيته ومسجده.

وشهد مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) بدراً وأحداً والخندق ومشاهده كلها. وشهد مع

ص: 536

علي (علیه السلام) مشاهده كلها، وكان والياً له على المدينة، وقائداً في جيشه.

وتدل أحاديث النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) في حقه على إيمانه وجلالته، فقد يكون النبي (صلی الله علیه و آله) أمره بالجهاد حتى مع معاوية بعد علي (علیه السلام)، وأخبره أنه سيدفن عند سور القسطنطينية، ولذلك كان حريصاً على ذلك وأوصى به رغم أن معسكره كان بعيداً عن القسطنطينية.

3. ورد في صفاته «قرب الاسناد/45» أن علياً (علیه السلام) سأله: «يا با أيوب، ما بلغ من كرم أخلاقك؟ قال: لا أؤذي جاراً فمن دونه، ولا أمنعه معروفاً أقدر عليه. قال: ثم قال: ما من ذنب إلا وله توبة، وما من تائب إلا وقد تسلم له توبته، ما خلا السيئ الخلق، لا يكاد يتوب من ذنب إلا وقع في غيره أشر منه».

و روي عنه: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يدخل الحمام إلا بمئزر».مجمع الزوائد: 1/278.

وهذا يدل على أنهم كانوا في الجاهلية يدخلون الحمام عراة، فعلمهم الإسلام الحياء.

وفي المناقب: 1/114: «عن سلمان أنه (صلی الله علیه و آله) لما نزل دار أبي أيوب لم يكن له سوى جدي وصاع من شعير فذبح له الجدي وشواه وطحن الشعير وعجنه وخبزه وقدم بين يدي النبي (صلی الله علیه و آله) فأمر بأن ينادى: ألا من أراد الزاد فليأت دار أبي أيوب، فجعل أبوأيوب ينادي والناس يهرعون كالسيل حتى امتلأت الدار فأكل الناس بأجمعهم والطعام لم يتغير، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إجمعوا العظام، فجمعوها فوضعها في إهابها ثم قال: قومي بإذن الله تعالى فقام الجدي! فضج الناس بالشهادتين».

4. وكان أبوأيوب يصدع بإمامة أهل البیت (علیهم السلام)، ففي الخصال/412: «عن أبي أيوب الأنصاري قال: إن رسول الله مرض مرضة فأتته فاطمة (علیها السلام) تعوده وهو ناقهٌ من مرضه، فلما رأت ما برسول الله (صلی الله علیه و آله) من الجهد والضعف خنقتها العبرة حتى جرت دمعتها على خدها، فقال النبي (صلی الله علیه و آله) لها: يا فاطمة إن الله جل ذكره اطلع على الأرض اطلاعة فاختار منها أباك واطلع ثانية فاختار منها بعلك،

ص: 537

فأوحى إلي فأنكحتكه، أما علمت يا فاطمة أن لكرامة الله إياك زوجك أقدمهم سلما وأعظمهم حلماً وأكثرهم علماً. قال: فسرت بذلك فاطمة واستبشرت بما قال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأراد رسول الله أن يزيدها مزيد الخير كله من الذي قسمه الله له ولمحمد وآل محمد، فقال (صلی الله علیه و آله): يا فاطمة لعلي ثمان خصال: إيمانه بالله وبرسوله، وعلمه وحكمته، وزوجته، وسبطاه حسن وحسين، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وقضاؤه بكتاب الله.يا فاطمة إنا أهل بيت أعطينا سبع خصال لم يعطها أحد من الأولين قبلنا ولا يدركها أحد من الآخرين بعدنا: نبينا خير الأنبياء وهو أبوك، ووصينا خير الأوصياء وهو بعلك، وشهيدنا سيد الشهداء وهو حمزة عم أبيك، ومنا من له جناحان يطير بهما في الجنة وهو جعفر، ومنا سبطا هذه الأمة، وهما ابناك». وفي رواية كفاية الأثر/113: «ومنا الأئمة المعصومون من صلب الحسين، ومنا مهدي هذه الأمة».

5. وكان من الإثني عشر الذين وقفوا ضد السقيفة وخطبوا: ففي الإحتجاج: 1/97 والخصال/461 عن أبان بن تغلب قال: «قلت لأبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام): جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول الله أنكر على أبي بكر فعله وجلوسه مجلس رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ قال: نعم، كان الذي أنكر على أبي بكر اثني عشر رجلاً. من المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص وكان من بني أمية، وسلمان الفارسي، وأبوذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر، وبريدة الأسلمي. ومن الأنصار: أبو الهيثم بن التيهان، وسهل وعثمان ابنا حنيف، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وأبي بن كعب، وأبوأيوب الأنصاري.. وغيرهم. فلما صعد المنبر تشاوروا بينهم في أمره فقال بعضهم: هلا نأتيه فننزله عن منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) .وقال آخرون: إن فعلتم ذلك أعنتم على أنفسكم، وقال الله عزوجل: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى الْتَّهْلُكَةِ، ولكن إمضوا بنا إلى علي بن أبي طالب نستشيره ونستطلع أمره. فأتوا علياً (علیه السلام) فقالوا: يا أميرالمؤمنين ضيعت نفسك وتركت حقاً أنت أولى به، وقد أردنا أن نأتي الرجل فننزله عن منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإن الحق حقك، وأنت أولى بالأمر منه، فكرهنا أن ننزله من دون مشاورتك.فقال لهم علي (علیه السلام): لو فعلتم ذلك ما كنتم إلا حرباً لهم،ولا كنتم إلا كالكحل في العين أو كالملح

ص: 538

في الزاد، وقد اتفقت عليه الأمة التاركة لقول نبيها، والكاذبة على ربها! ولقد شاورت في ذلك أهل بيتي فأبوا إلا السكوت، لما تعلمون من وَغَر صدور القوم وبغضهم لله عزوجل ولأهل بيت نبيه (صلی الله علیه و آله) وأنهم يطالبون بثارات الجاهلية! والله لو فعلتم ذلك لشهروا سيوفهم مستعدين للحرب والقتال، كما فعلوا ذلك حتى قهروني وغلبوني على نفسي ولببوني، وقالوا لي: بايع وإلا قتلناك، فلم أجد حيلة إلا أن أدفع القوم عن نفسي! وذاك أني ذكرت قول رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي إنِ القوم نقضوا أمرك واستبدوا بها دونك وعصوني فيك، فعليك بالصبر حتى ينزل الأمر! ألا وإنهم سيغدرون بك لا محالة، فلا تجعل لهم سبيلاً إلى إذلالك وسفك دمك، فإن الأمة ستغدر بك بعدي! كذلك أخبرني جبرئيل عن ربي تبارك وتعالى! ولكن ائتوا الرجل فأخبروه بما سمعتم من نبيكم (صلی الله علیه و آله) ولا تجعلوه في الشبهة من أمره، ليكون ذلك أعظم للحجة عليه، وأبلغ في عقوبته إذا أتى ربه وقد عصى نبيه (صلی الله علیه و آله) وخالف أمره! قال: فانطلقوا حتى حفوا بمنبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم جمعة فقالوا للمهاجرين: إن الله عزوجل بدأ بكم في القرآن فقال: لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فبكم بدأ. وكان أول من بدأ وقام، خالد بن سعيد بن العاص بإدلاله ببني أمية فقال: يا أبابكر إتق الله فقد علمت ما تقدم لعلي من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ..الى آخر كلامه ومشادته مع عمر بن الخطاب.

ثم قام أبوأيوب الأنصاري فقال: إتقوا الله في أهل بيت نبيكم، وردوا هذا الأمر إليهم، فقد سمعتم كما سمعنا في مقام بعد مقام، من نبي الله (صلی الله علیه و آله)، أنهم أولى به منكم. ثم جلس.

6. أعلن أبوأيوب حديث الغدير، فقد «جاء رهط إلى علي بالرحبة فقالوا: السلام عليك يا مولانا، قال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟قالوا: سمعنا رسول الله يوم غدير خم يقول: من كنت مولاه فإن هذا مولاه. قال رياح فلما مضوا تبعتهم فسألت من هؤلاء؟ قالوا: نفر من الأنصار فيهم أبوأيوب الأنصاري».مسند أحمد: 5/419، وثقه في الزوائد: 9/103 والرياض النضرة: 3/126.

ص: 539

7. وعندما ناشد علي (علیه السلام) الصحابة على وصية النبي (صلی الله علیه و آله) قام أبوأيوب وشهد له. ففي أسد الغابة لابن الاثير: 3/307: «نشد علي الناس في الرحبة من سمع النبي (صلی الله علیه و آله) يوم غدير خم قال ما قال إلا قام؟ ولا يقوم إلا من سمع رسول الله يقول، فقام بضعة عشر رجلاً فيهم أبوأيوب الأنصاري، وأبو عمرة بن عمرو بن محصن، وأبو زينب بن عوف الأنصاري، وسهل بن حنيف، وخزيمة بن ثابت، وعبدالله بن ثابت الأنصاري، وحبشي بن جنادة الصلولي، وعبيد بن عازب الأنصاري، والنعمان بن عجلان الأنصاري، وثابت بن وديعة الأنصاري، وأبو فضالة الأنصاري، وعبدالرحمن بن عبد رب الأنصاري، فقالوا: نشهد أنا سمعنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: ألا من كنت مولا فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه، وأعن من أعانه».

8.واجه أبوأيوب (رحمة الله) مروان بن الحكم في خلافة عثمان، فسكت مروان ولم يتجرأ عليه روى الحاكم: 4/515: «عن داود بن أبي صالح قال: أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر،فأخذ برقبته وقال: أتدري ما تصنع؟ قال: نعم. فأقبل عليه فإذا هو أبوأيوب الأنصاري رضيالله عنه فقال: جئت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولم آت الحجر. سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن إبكوا عليه إذا وليه غير أهله».

أي اعترض عليه مروان لأنه أكب على القبر الشريف، لأن السلطة حَرَّمت ذلك!

فقال له أبوأيوب: يامروان أنا أزور رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأكلمه، ولا أعبدالحجر كما تزعمون، وأنتم الذين وليتم الأمة بدون حق وغيَّرتم الدين، وأنتم الذين قال فيكم النبي (صلی الله علیه و آله): إبكوا على الدين إذا وليه غير أهله! فسكت مروان!

9. وكان أبوأيوب فارساً قائداً شجاعاً، ففي المناقب: 2/355: «وبرز أبوأيوب الأنصاري فنكلوا عنه، فحاذى معاوية حتى دخل فسطاطه». ومعناه أنهم خافوا من مبارزته، أو خافوا أن يفتضحوا إن قتلوه.

ص: 540

وكان في معركة النهروان قائد ميمنة جيش علي (علیه السلام)، وتقدم نحو معسكرهم ورفع لهم راية الأمان.شرح النهج لابن ميثم البحراني: 2/153.

وفي المناقب: 2/374، «أن علياً (علیه السلام) عقد للحسين (علیه السلام) في عشرة آلاف، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف».

وفي الطبري: 4/64 أن علياً (علیه السلام) جعل على الخيل أباأيوب الأنصاري، ورفع معه راية أمان «فناداهم أبوأيوب: من جاء هذه الراية منكم ممن لم يَقتل ولم يستعرض فهو آمن، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، إنه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم. فقال فروة بن نوفل الأشجعي والله ما أدري على أي شئ نقاتل علياً،لا أرى إلا أن أنصرف حتى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو اتباعه، وانصرف في خمس مائة فارس

حتى نزل البندنيجين والدسكرة،وخرجت طائفة أخرى متفرقين فنزلت الكوفة، وخرج إلى علي منهم نحو من مائة وكانوا أربعة آلاف فكان الذين بقوا مع عبدالله بن وهب منهم ألفين وثمان مائة وزحفوا إلى علي، وقدم على الخيل دون الرجال وصف الناس وراء الخيل صفين وصف المرامية أمام الصف الأول وقال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدؤوكم».وفيه: وشد أبوأيوب على زيد بن حصين من قادتهم فقتله، وشد أبو المعتمر الكناني على حرقوص بن زهير رئيسهم فقتله.

وفي المناقب: 2/370: «وجرت بينهم مخاطبات فجعل بعضهم يرجع، فأعطى أميرالمؤمنين (علیه السلام) راية الأمان مع أبي أيوب الأنصاري، فناداهم أبوأيوب: من جاء إلى هذه الراية، أو خرج من بين الجماعة فهو آمن. فرجع منهم ثمانية آلاف رجل، فأمرهم أميرالمؤمنين (علیه السلام) أن يتميزوا منهم، وأقام الباقون على الخلاف وقصدوا إلى النهروان».

10.أعلن أبوأيوب أن حب علي (علیه السلام) ميزان وأن النبي (صلی الله علیه و آله) عَهِدَ له أن يقاتل أعداءه: ففي علل الشرائع: 1/145: «قال أبوأيوب الأنصاري: أعرضوا حب علي على أولادكم، فمن أحبه فهو منكم، ومن لم يحبه فاسألوا أمه من أين جاءت به،

ص: 541

فإني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول لعلي بن أبي طالب: لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق، أو ولد زنية، أو حملته أمه وهي طامث».

وفي كبير الطبراني: 4/172: «عن محنف بن سليم قال: أتينا أباأيوب الأنصاري وهو يعلف خيلاً له بضيعتنا فقِلْنا عنده، فقلت له: أباأيوب قاتلت المشركين مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم جئت تقاتل المسلمين؟ قال: إن رسول الله أمرني بقتال ثلاثة الناكثين والقاسطين والمارقين، فقد قاتلت الناكثين، وقاتلت القاسطين، وأنا مقاتل إن شاء الله المارقين، بالشعفات بالطرقات بالنهراوات وما أدري ماهم».

ورواه الخطيب في تاريخ بغداد: 13/188 وابن عساكر في تاريخ دمشق: 42/472 بسند صحيح عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة والأسود قالا: «أتينا أباأيوب الأنصاري عند منصرفه من صفين فقلنا له: يا أباأيوب إن الله أكرمك بنزول محمد (صلی الله علیه و آله) وبمجئ ناقته تفضلاً من الله وإكراماً لك حتى أناخت ببابك دون الناس، ثم جئت بسيفك على عاتقك تضرب به أهل لا إله إلا الله! فقال: يا هذان إن الرائد لا يكذب أهله، وإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمرنا بقتال ثلاثة مع علي: بقتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين. فأما الناكثون فقد قاتلناهم: أهل الجمل طلحة والزبير، وأما القاسطون فهذا منصرفنا من عندهم، معاوية وعمراً، وأما المارقون فهم أهل الطرفاوات وأهل السعيفات وأهل النخيلات وأهل النهروانات، والله ما أدري أين هم، ولكن لا بد من قتالهم إن شاء الله.

قال: وسمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول لعمار: يا عمار تقتلك الفئة الباغية، وأنت إذ ذاك مع الحق والحق معك، يا عمار بن ياسر، إن رأيت علياً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره،فاسلك مع علي فإنه لن يدليك في ردى ولن يخرجك من هدى، يا عمار من تقلد سيفاً أعان به علياً على عدوه، قلده الله يوم القيامة وشاحين من در، ومن تقلد سيفاً أعان به عدو علي عليه، قلده الله يوم القيامة وشاحين من نار! قلنا: يا هذا حسبك رحمك الله، حسبك رحمك الله»!

وروى قول عمار رضيالله عنه: «سمعت النبي (صلی الله علیه و آله) يقول: يا علي ستقاتلك الفئة الباغية، وأنت على الحق، فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني»!

ص: 542

11.كان والي المدينة، لكنه لم يقاوم غارة بُسْر بن أرطاة! فقد أرسل معاوية بسر بن أبي أرطاة ليغير على المدينة، فخاف منه الناس لشدة فتكه، فنكَّل بهم، وكان أبوأيوب والي المدينة فهرب منها!قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: 2/9: «فدخلوها، وعامل علي عليها أبوأيوب الأنصاري، صاحب منزل رسول الله فخرج عنها هارباً ودخل بُسْر المدينة فخطب الناس وشتمهم وتهددهم يومئذ وتوعدهم، وقال: شاهت الوجوه! قال الله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ. وقد أوقع الله تعالى ذلك المثل بكم وجعلكم أهله، كان بلدكم مهاجر النبي ومنزله، وفيه قبره ومنازل الخلفاء من بعده، فلم تشكروا نعمة ربكم، ولم ترعوا حق نبيكم، وقتل خليفة الله بين أظهركم، فكنتم بين قاتل وخاذل، ومتربص وشامت، إن كانت للمؤمنين قلتم: ألم نكن معكم! وإن كان للكافرين نصيب قلتم: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين! ثم شتم الأنصار فقال: يا معشر اليهود وأبناء العبيد، بني زريق وبني النجار وبني سالم وبني عبدالأشهل، أما والله لأوقعن بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين وآل عثمان، أما والله لأدعنكم أحاديث كالأمم السالفة. فتهددهم حتى خاف الناس أن يوقع بهم، ففزعوا إلى حويطب بن عبدالعزى ويقال إنه زوج أمه فصعد إليه المنبر فناشده، وقال: عترتك وأنصار رسول الله، وليسوا بقتلة عثمان، فلم يزل به حتى سكن، ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه. ونزل فأحرق دوراً كثيره، منها دار زرارة بن حرون، أحد بني عمرو بن عوف، ودار رفاعة بن رافع الزرقي، ودار لابن أبي أيوب الأنصاري، وتفقد جابر بن عبدالله، فقال: ما لي لا أرى جابراً! يا بني سلمة، لا أمان لكم عندي،أو تأتوني بجابر! فعاذ جابر بأم سلمة رضيالله عنها فأرسلت إلى بسر بن أرطاة، فقال: لا أؤمنه حتى يبايع فقالت له أم سلمة: إذهب فبايع، وقالت لابنها عمر إذهب فبايع، فذهبا فبايعاه. قال إبراهيم: وروى الوليد بن كثير عن وهب بن كيسان قال: سمعت جابر بن

ص: 543

عبدالله الأنصاري يقول: لما خفت بسراً وتواريت عنه قال لقومي: لا أمان لكم عندي حتى يحضر جابر، فأتوني وقالوا: ننشدك الله لما انطلقت معنا فبايعت فحقنت دمك ودماء قومك، فإنك إن لم تفعل قتلتَ مقاتلينا، وسبيتَ ذرارينا! فاستنظرتهم الليل، فلما أمسيت دخلت على أم سلمة فأخبرتها الخبر فقالت: يا بنيَّ انطلق فبايع، احقن دمك ودماء قومك، فإني قد أمرت ابن أخي أن يذهب فيبايع، وإني لأعلم أنها بيعة ضلالة».

أقول: كانت غارة ابن أرطاة على المدينة ومكة واليمن، أکثر غارات معاوية فتكاً وتخريباً ونهباً وحرقاً وتقتيلاً، فقد بلغ قتلاها ثلاثون ألفاً!

قال ابن عبدالبر في الإستيعاب: 1/161: «ثم أرسل معاوية بسر بن أرطاة إلى اليمن فسبى نساء مسلمات، فأُقِمْنَ في السوق»!

أي باعوهن! وكان من الطبيعي لأبي أيوب رضيالله عنه أن يقاومه، لكن يظهر أن أهل المدينة كانوا في حالة شديدة من الضعف والانهيار، ولعل أباأيوب كان مريضاً، وإلا فهو قائد عسكري ومن شجعان الأنصار رضيالله عنه.

12.ساءت علاقة أبي أيوب مع معاوية لكنه لم يترك الجهاد: «غزا أرض الروم فمر على معاوية فجفاه، فانطلق ثم رجع من غزوته فجفاه، ولم يرفع له رأساً فقال: أنبأني رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنا سنرى بعده أثرةً.قال معاوية: فبمَ أمركم؟ قال: أمرنا أن نصبر. قال: إصبروا إذاً»! مجمع الزوائد: 9/323 وصححه.

وفي رواية الحاكم: 3/459: «قال وما أمركم؟ قال: أمرنا أن نصبر حتى نرد عليه الحوض، قال: فاصبروا. قال: فغضب أبوأيوب وحلف أن لا يكلمه أبداً».

13. حرص أبوأيوب رضيالله عنه على أن يُدفن عند سور القسطنطينية. ففي المناقب: 1/122: «حكى القعبي أن أباأيوب الأنصاري رؤي عند خليج قسطنطينة فسئل عن حاجته قال: أما دنياكم فلا حاجة لي فيها، ولكن إن مت فقدموني ما استطعتم في بلاد العدو، فإني سمعت رسول الله يقول: يدفن عند سور القسطنطينة

ص: 544

رجل صالح من أصحابي، وقد رجوت أن أكونه».

وزعم رواة السلطة أنه كان مع يزيد بن معاوية في تلك الغزوة فتوفي، والصحيح أنه كان في معسكر الفرقدونه وهو بعيد عن القسطنطينية، وكان الجيش ينتظر مجيئ يزيد ليقوده إلى القسطنطينية لكنه لم يأت وبقي مشغولاً بخمره في دير مران قرب دمشق، حتى وقع المرض والوباء في الجيش ومات قسم منهم، فأوصاهم أبوأيوب (رحمة الله) إن مات أن ينقلوا جنازته ويدفنوه عند سور القسطنطينية، ليكون الذي وعده رسول الله (صلی الله علیه و آله) بذلك، فحملوا جنازته مسافة يومين.

وفي رواية الحاكم: 3/457: «إذا أنا متُّ فاركب ثم اسع في أرض العدو ما وجدت مساغاً، فإذا لم تجد مساغاً فادفني ثم ارجع». ونحوه الإستيعاب: 4/1607.

وفي النهاية: 8 / 59: «ولينطلقوا فيبعدوا بي في أرض الروم ما استطاعوا». ونحوه تاريخ دمشق:16 / 59 والإصابة: 2 / 200 وغريب الحديث: 2 / 713 وأسد الغابة: 2 / 82 وسير الذهبي: 2 / 404، الطبقات: 3 / 485، في رواية أخرى: ولينطلقوا بي فليبعدوا ما استطاعوا... فانطلقوا بجنازته ما استطاعوا. وفي الروض الأنف 4/94: فركب المسلمون به حتى إذا لم يجدوا مساغاً دفنوه.

وقد نص البلاذري وهو مؤرخ ثبت على أن يزيداً لم يذهب حتى إلى معسكر الفرقدونة، الذي كان ينتظره، حتى وقع فيه المرض!

قال البلاذري في أنساب الأشراف/1149: «وأمر يزيد بالغزو فتثاقل واعتلَّ، فأمسك عنه»!وأرسل له معاوية أرسل مرات أن يتحرك فلم يفعل، وقال:

إذا اتكأتُ على الأنماط مرتفقاً *** بدير مُرَّانَ عندي أم كلثوم

فما أبالي بما لاقت جموعهم *** بالغذقذونة من حمى ومن مُومِ

وفي تاريخ دمشق: 65/406: «فكبر ذلك على معاوية فاطلع يوماً على ابنه يزيد وهو يشرب وعنده قينة تغنيه.الأبيات المتقدمة، فقال معاوية: أقسم عليك يا يزيد لترتحلن حتى تنزل مع القوم وإلا خلعتك»، فتهيأ يزيد للرحيل وكتب إلى أبيه:

تجنى لا تزال تعد ديناً *** ليقطع وصل حبلك من حبالي

فيوشك أن يريحك من بلائي *** نزولي في المهالك وارتحالي

ص: 545

وفي الأغاني: 17/211: «فأصابهم جدري فمات أكثر المسلمين، وكان ابنه يزيد مصطبحاً بدير مران مع زوجته أم كلثوم، فبلغه خبرهم فقال...البيتين.

والموم أو البرسام: التهاب رئوي يسمى ذات الجنب، وفسره بعضهم بالجدري.

لسان العرب: 12 / 46 والعين: 8 /422.

أنظر كيف فصلوا هذا الحديث على مقاس معاوية وابنه يزيد!

قال بخاري في صحيحه: 3/232: «فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي (صلی الله علیه و آله) يقول: أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا. قالت أم حرام: قلت يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم. ثم قال النبي (صلی الله علیه و آله): أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم! فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا».

وقصدها أن معاوية أول من غزا في البحر لفتح قبرص فقد أوْجَبَ، أي استحق الجنة! وبنت ملحان هي أم أنس، وكانت زوجة عبادة بن الصامت (رحمة الله) وكان قائداً في جيش قبرص، وماتت بنت ملحان هناك.

قال في فتح الباري: 6/74: «قال المهلب: في هذا الحديث منقبة لمعاوية، لأنه أول من غزا البحر، ومنقبة لولده يزيد، لأنه أول من غزا مدينة قيصر».

وقد عدها ابن تيمية منقبة ليزيد، وكررها في كتبه! كما في منهاجه: 4/544 و571 وقال في مجموع الفتاوى: 3/413 «فإن كان فاسقاً أو ظالماً فالله يغفر للفاسق والظالم لا سيما إذا أتى بحسنات عظيمة». ونحوه في: 4/486 و 18/352 وغيرها.

والصحيح أنهم كذبوا في الغزوتين، وفي جعلهما منقبة! وقد أوضحنا ذلك في المجلد الثاني الخاص بمعاوية من جواهر التاريخ.

وادعت رواية أن يزيداً وصل إلى استانبول: «ضرب باب القسطنطينية بعمود حديد كان في يده فهشمه حتى انخرق، فضرب عليه لوح من ذهب،فهو عليه إلى اليوم»! لكن لم تذكر الرواية لماذا لم يدخل الجنود من مكان ضربة يزيد التي خرقت باب السور، وأن جنود الروم ماتوا من عزم الضربة!

ص: 546

الفصل الثلاثون: النبی (صلی الله علیه و آله) يؤسس مسجد قباء

1- مسجد قباء: أول مسجد أسس على التقوى

قال الله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.

وفي التهذيب: 6/17 قال الإمام الصادق (علیه السلام): لاتدع إتيان المشاهد كلها: مسجد قُبا فإنه المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، ومشربة أم إبراهيم، ومسجد الفضيخ، وقبور الشهداء، ومسجد الأحزاب، وهو مسجد الفتح».

وقال (علیه السلام) كما في جواهر الكلام: 20/108: «هل أتيتم مسجد قُبا أو مسجد الفضيخ أو مشربة أم إبراهيم؟ فقلت: نعم، فقال: إنه لم يبق من آثار رسول الله (صلی الله علیه و آله) شئ إلا وقد غُيِّر غير هذا. قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): من أتى مسجد قبا فصلى فيه ركعتين رجع بعمرة. إبدأ بقبا فصل فيه وأكثر فيه، فإنه أول مسجد صلى فيه رسول الله في هذه العرصة». راجع: العياشي: 2/111، كامل الزيارات/64 و66 والفقيه: 1/229.

ويظهر أن لروح النبي (صلی الله علیه و آله) ارتباطاً بمسجد قباء، فقد روي أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) احتج على أبي بكر بعد السقيفة وقال له: هل تتوب إن رأيت النبي (صلی الله علیه و آله) وأمرك برد الحق إلى صاحبه؟ قال نعم، فأخذه إلى مسجد قباء ورأى النبي (صلی الله علیه و آله) جالساً في محرابه، وأمره برد الحق إلى صاحبه!

بصائر الدرجات/297 والإختصاص/272.

ص: 547

2- مسجد الضرار خطة رومية ضد النبي (صلی الله علیه و آله)!

قال الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لاتَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. لايَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

وقد أسس مسجد الضرار جماعة أبي عامر الراهب، الذي سماه النبي (صلی الله علیه و آله)

أبا عامر الفاسق، وبنوْهُ في السنة التاسعة للهجرة ليكون مقراً لهم، فكشفهم الله تعالى وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) أن يهدمه فهدمه، وجعله المسلمون موضع كناسة!

وقد رأيت موضعه قبل نحو أربعين سنة، إلى يسار الداخل إلى مسجد قباء، وكان محل قمامة، لكن الوهابيين أزالوه.

وفي تفسيرالقمي: 1/305: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا، فإنه كان سبب نزولها أنه جاء قوم من المنافقين إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: يا رسول الله أتأذن لنا أن نبني مسجداً في بني سالم، للعليل والليلة المطيرة والشيخ الفاني؟فأذن لهم رسول الله وهو على الخروج إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله لو أتيتنا فصليت فيه؟ قال (صلی الله علیه و آله): أنا على جناح سفر فإذا وافيت إن شاء الله أتيته فصليت فيه، فلما أقبل رسول الله من تبوك نزلت عليه هذه الآية في شأن المسجد وأبي عامر الراهب: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ، يعني أبا عامر الراهب كان يأتيهم في ذكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه. وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَلِ يَوْمٍ: يعني مسجد قبا، أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. قال كانوا يتطهرون بالماء. وقوله: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.

فبعث رسول الله مالك بن الدخشم الخزاعي، وعامر بن عدي على أن يهدموه ويحرقوه، فجاء مالك فقال لعامر: إنتظرني حتى أخرج ناراً من منزلي، فدخل فجاء

ص: 548

بنار وأشعل في سعف النخل، ثم أشعله في المسجد فتفرقوا، وقعد زيد بن حارثة حتى احترقت البنية، ثم أمر بهدم حائطه».

وقال ابن هشام: 4/956: «كان الذين بنوه اثني عشر رجلاً: خذام بن خالد، من بني عبيد بن زيد، أحد بنى عمرو بن عوف، ومن داره أخرج مسجد الشقاق، وثعلبة بن حاطب، من بني أمية بن زيد، ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد. وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف، من بني عمرو بن عوف، وجارية بن عامر وابناه: مجمع بن جارية، وزيد بن جارية. ونبتل بن الحارث من بني ضبيعة. وبحزج من بني ضبيعة، وبجاد بن عثمان من بني ضبيعة، ووديعة بن ثابت وهو من بني أمية بن زيد».

3- أبو عامر الراهب الفاسق مندوب هرقل

في أعيان الشيعة: 1/284: «وقوله تعالى: وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ: يراد به أبو عامر الراهب، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح «ثياب الشعر» فلما قدم النبي (صلی الله علیه و آله) المدينة حزَّب عليه الأحزاب، ثم هرب بعد فتح مكة إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام وخرج إلى الروم وتنصر، وسماه رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبا عامر الفاسق».

وفي الصحيح من السيرة: 4/130: «عن سعيد بن المسيب.. أبو عامر النعمان بن صيفي الراهب، الذي سماه النبي (صلی الله علیه و آله): الفاسق، كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، فقدم المدينة فقال للنبي (صلی الله علیه و آله): ما هذا الذي جئت به؟

قال: جئت بالحنيفية دين إبراهيم، قال: فأنا عليها فقال (صلی الله علیه و آله): لست عليها لكنك أدخلت فيها ما ليس منها. فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريداً وحيداً، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): نعم أمات الله الكاذب منا كذلك!

وإنما قال هذا يعرض برسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث خرج من مكة.

فلما كان يوم أحُد قال أبو عامر لرسول الله: إن أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك

ص: 549

معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن خرج إلى الروم، وكتب إلى المنافقين: إستعدوا فإني آتيكم من عند قيصر بجند لنخرج محمداً من المدينة، فمات بالشام طريداً وحيداً. وفيه نزل: وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ». وبحار الأنوار: 22/36، تفسير الثعلبي: 5/92 وأسباب النزول للواحدي/175.

وفي شرح النهج: 14/219: «كان أبو عامر الفاسق قد خرج في خمسين رجلاً من الأوس حتى قدم بهم مكة حين قدم النبي (صلی الله علیه و آله) يحرضها ويعلمها أنها على الحق وما جاء به محمد باطل! فسارت قريش إلى بدر ولم يسر معها، فلما خرجت قريش إلى أحد سار معها، وكان يقول لقريش: إني لو قدمت على قومي لم يختلف عليكم منهم اثنان».

وفي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /488: «قال موسى بن جعفر (علیه السلام): وعاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) غانماً ظافراً «من تبوك» وأبطل الله تعالى كيد المنافقين،أمر رسول الله بإحراق مسجد الضرار، وأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا.. الآيات. ثم ذكرأن أبا عامر الراهب كان عجل هذه الأمة كعجل قوم موسى، وأنه دمر الله عليه وأصابه بقولنج وبرص وجذام وفالج ولقوة، وبقي أربعين صباحاً في أشد عذاب، ثم صار إلى عذاب الله تعالى». راجع في قصة أبي عامر الراهب: البحار: 21/252، شرح النهج: 14/219 و244، ابن هشام: 2/423و 4/956، نظرية عدالة الصحابة/45، وقصص الأنبياء للراوندي/350، تفسير الطبري: 11/38 والإستيعاب: 1/381.

وجماعته على مبنى المخالفين لمذهب أهل البیت (علیهم السلام): صحابة عدول!

4- حنظلة بن أبي عامر الفاسق وابنه عبدالله!

جاء أبو عامر الفاسق مع قريش إلى حرب أحُد مع النبي (صلی الله علیه و آله) وشارك فيها، وحفر في مواجهة المسلمين حفائر وغطاها، ليقع المسلمون فيها، فوقع النبي (صلی الله علیه و آله) في إحداها!

وكان له ولد إسمه حنظلة أسلم، أسرع إلى أحُد وترك عروسه وقاتل مع النبي (صلی الله علیه و آله)، وقصد أبا سفيان وكاد أن يقتله فتكاثر عليه المشركون وقتلوه (رحمة الله)، فسبحان من يخرج الحي من الميت، وسيأتي خبره في معركة أحُد.

ص: 550

قال الصدوق في من لايحضره الفقيه: 1/159: «استشهد حنظلة بن أبي عامر الراهب بأحُد فلم يأمر النبي (صلی الله علیه و آله) بغسله وقال: رأيت الملائكة بين السماء والأرض تغسل حنظلة بماء المزن في صحاف من فضة، وكان يسمى غسيل الملائكة».

وكان لحنظلة ولد إسمه عبدالله كان رئيس الأنصار في زمنه، وأوفدوه إلى الشام ليتعرف على حقيقة يزيد بن معاوية وما شاع من فسقه وتهتكه: «فقدموا على يزيد وهو بحَوَّارين فنزلوا على الوليد بن عتبة، فأقاموا عشرة أيام لم يصلوا إلى يزيد! وانتقل يزيد من حوارين منتزهاً، وشَخَصَ الوفد معه، فأذن لهم يوم جمعة. واعتذر إليهم من تركه الإذن لهم عليه وقال: لم أزل وجعاً من رجلي إن الذباب ليسقط عليها فيخيل إليَّ أن صخرة سقطت عليها. وأذن لهم في الإنصراف فرجعوا ذامين له مجمعين على خلعه»!تاريخ دمشق: 26/258 والطبري: 4/380.

قال في الطبقات: 5/66: «أجمعوا على عبدالله بن حنظلة فأسندوا أمرهم إليه فبايعهم على الموت وقال: يا قوم إتقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء! إن رجلاً ينكح الأمهات والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة! والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاء حسناً! فتواثب الناس يومئذ يبايعون

من كل النواحي».

وهكذا كانت ثورة أهل المدينة بعد كربلاء بسنتين، فأرسل اليهم يزيد جيشاً أمعن تقتيلاً في بقية الصحابة والتابعين، واستباح المدينة وقتل عبدالله بن حنظلة. راجع ما كتبناه عن ثورة أهل المدينة في سيرة الإمام زين العابدين (علیه السلام) .

ص: 551

الفصل الحادي والثلاثون: فريضة الهجرة وحقوق المهاجرين في الإسلام

1- أمر النبي (صلی الله علیه و آله) جميع المسلمين بالهجرة

اتفقت المصادر على أن النبي (صلی الله علیه و آله) أرسل مصعب بن عمير إلى المدينة بعد بيعة العقبة الأولى، وكان عدد المسلمين فيها أربعين مسلماً، ثم تكاثروا وجاء منهم في الموسم نحو سبعين وبايعوا النبي (صلی الله علیه و آله)، فأمر المسلمين بالهجرة اليهم فهاجروا، وانتظر هو حتى أمره ربه بالهجرة فهاجر. وبهذا نجحت خطة النبي (صلی الله علیه و آله) في إيجاد قاعدة تحميه من قريش، وتوفر له الجو المناسب ليبلغ رسالة ربه عزوجل، رغم أنف قريش وفعالياتها المستميتة لقتله (صلی الله علیه و آله)!

قال المسعودي في التنبيه والإشراف/200: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمر أصحابه قبل هجرته بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرسالاً فكان أولهم قدوماً أبو سلمة عبدالله بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وعامر بن ربيعة، وعبدالله بن جحش الأسدي، وعمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة».

وقال الواحدي في أسباب النزول/164: «لما أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالهجرة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبيه وأخيه وامرأته: إنا قد أمرنا بالهجرة، فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه، ومنهم من يتعلق به زوجته وعياله وولده، فيقولون: نشدناك الله أن تدعنا إلى غير شئ فنضيع، فيرق فيجلس معهم ويدع الهجرة، فنزل بعتابهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمان.. ونزل في الذين تخلفوا بمكة ولم يهاجروا قوله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا

ص: 552

وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ..».

وقال المقريزي في إمتاع الأسماع: 1/55: «اشتد الأذى على من بمكة من المسلمين فأذن لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الهجرة إلى المدينة، فبادروا إلى ذلك وتجهزوا إلى المدينة في خفاء وستر وتسللوا،فيقال: إنه كان بين أولهم وآخرهم أكثر من سنة، وجعلوا يترافدون بالمال والظهر ويترافقون، وكان من هاجر من قريش وحلفائهم يستودع دوره وماله رجلاً من قومه، فمنهم من حفظ من أودعه، ومنهم من باع..أول من هاجر بعد العقبة الأخيرة وخرج أول الناس أبو سلمة.. ثم هاجر عمر، ثم تلاحق المسلمون بالمدينة يخرجون من مكة أرسالاً».

2- جعل الله الهجرة ميزاناً للإيمان والحقوق

1. جعل الله الهجرة ميزاناً في تقييم المسلمين، وعلاقاتهم، وثبوت حقوقهم المدنية. وقد بدأت بالهجرة إلى الحبشة لما أمر النبي (صلی الله علیه و آله) المسلمين المضطهدين، ثم أمر الباقين بالهجرة إلى المدينة قبل هجرته بأكثر من سنة. ثم أوجب الهجرة إلى المدينة على من يسلم، واستمرت الهجرة إلى فتح مكة فلا هجرة بعد الفتح، إلا الهجرة إلى الإمام (علیه السلام)، والى طلب العلم، والهجرة من البلاد التي ينقص فيها دينه!

2. وقد تضمنت آيات الهجرة مديحاً كبيراً للمهاجرين، بشرط أن يكونوا مخلصين، فقال تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلاجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.النحل/ 41-42.

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَخَيْرُ الرَّازِقِينَ. لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ.الحج/ 58-59.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. «البقرة/ 218». وَالسَّابِقُونَ الأَوَلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنصار وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. 100.

ص: 553

ونزلت أوائل آيات الهجرة في مدح علي والزهراء (صلی الله علیه و آله) ومن هاجر معهما كما تقدم فقال تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوِاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ.. الآيات من آل عمران.

3. وتضمنت حث الأنصار والمسلمين الميسورين على مساعدة المهاجرين، وشرعت لهم حقوقاً، فقال تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَليَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاتُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. النور/22.

مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَللهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ. لْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَءُو الدَّارَ وَالإيمان مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلآخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمان وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رُءُوفٌ رَحِيمٌ.الحشر/7-10.

4. وجعلها الإسلام شرطاً لوجوب الولاية والتناصر، فمن لم يهاجر لا تشرع ولايته: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا اُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَئٍْ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَاُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمٌ. الأنفال/ 72-75.

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا. إِلا الَّذِينَ

ص: 554

يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَّهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً. النساء/88-90.

5. وأوجب الله الهجرة على كل المسلمين يومذاك وأسقطها عن العاجزين فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فيِمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَعَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا. وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا. النساء/ 97-100.

6. والمهاجرون درجات ككل الناس، ومنهم من يذنب ثم يتوب، فيتوب الله عليه: لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصار الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَالتَّوَابُ الرَّحِيمُ.

7. ومع فضل المهاجرين، فضَّل الله المجاهدين منهم ومن غيرهم على القاعدين: لايَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا. دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا. النساء/ 95-96.

8. بل فضَّل الله الجهاد مع النبي (صلی الله علیه و آله) على كل مناصب الشرف التي تفخر بها قريش: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لايَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لايَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ. يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ

ص: 555

مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ. خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمان وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لايَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. التوبة/ 16-24.

9. ومع ولاية المهاجرين وأخُوَّتهم لبعضهم، أبقى الله التوارث حسب النسب، فقال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا.

3- القيمة الشرعية لإجماع المهاجرین والأنصار

تتكون أمة النبي (صلی الله علیه و آله) من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان،وقد أخرج منها طلقاء قريش وعتقاء ثقيف وذرياتهم إلى يوم القيامة، فقال (صلی الله علیه و آله):

«المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة».

وقد روته المصادر بأسانيد صحيحة بشرط الشيخين، كأحمد: 4/363 بروايتين، وأفتى عمر بأن رئاسة الدولة الإسلامية محرمة على الطلقاء، فقال «الطبقات 3/342» «هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد، ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد، وفي كذا وكذ، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شئ».

وَقد بَيَّنَ أهل البیت (علیهم السلام) السبب في جعل الإسلام ما أجمع عليه المهاجرون والأنصار حجة شرعية وهو أن العترة النبوية الطاهرة: في هذه المجموعة فإجماعها يتضمن رأي الإمام المعصوم (علیه السلام) الذي هو حجة شرعية كالقرآن، بحكم: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي».

ولذا احتج علي (علیه السلام) على معاوية بأنك إن لم تعترف بالنص النبوي على الخلافة، فإن المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا على بيعتي، فوجب عليك القبول!

ص: 556

قال (علیه السلام) لأبي هريرة وأبي الدرداء عندما جاءاه برسالة معاوية: «قد أبلغتماني عنه فأبلغاه عني وقولا له: إن عثمان بن عفان لايعدو أن يكون أحد رجلين، إما إمام هدى حرام الدم واجب النصرة لا تحل معصيته ولا يسع الأمة خذلانه، أو إمام ضلالة حلال الدم لا تحل ولايته ولانصرته، فلا يخلو من إحدى الخصلتين. والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل ضالاً كان أو مهتدياً مظلوماً كان أو ظالماً حلال الدم أو حرام الدم، أن لايعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا يبدأوا بشئ، قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة، يجمع أمرهم ويحكم بينهم، ويأخذ للمظلوم من الظالم حقه ويحفظ أطرافهم ويجبي فيأهم ويقيم حجتهم وجمعتهم ويجبي صدقاتهم، ثم يحتكمون اليه في إمامهم المقتول ظلماً ويحاكمون قتلته اليه ليحكم بينهم بالحق، فإن كان إمامهم قتل مظلوماً حكم لأوليائه بدمه، وإن كان قتل ظالماً نظر كيف الحكم في ذلك.

هذا أول ما ينبغي أن يفعلوه أن يختاروا إماماً يجمع أمرهم إن كانت الخيرة لهم ويتابعوه ويطيعوه. وإن كانت الخيرة إلى الله عزوجل والى رسوله (صلی الله علیه و آله)، فإن الله قد كفاهم النظر في ذلك والإختيار، ورسول الله (صلی الله علیه و آله) قد رضي لهم إماماً، وأمرهم بطاعته واتباعه». كتاب سليم/291.

4- من أعمال السلطة لتحريف الهجرة ومصادرتها

أ- الهجرة في الإسلام نوعان: الأول: هجرة أمر بها النبي في عصره وانتهت بفتح مكة، ففي الكافي: 5/443، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لارضاع بعد فطام، ولاوصال في صيام، ولايُتم بعد احتلام، ولاصمت يوم إلى الليل، ولاتَعَرُّبَ بعد الهجرة، ولاهجرة بعد الفتح، ولاطلاق قبل النكاح، ولاعتق قبل ملك، ولايمين للولد مع والده، ولا للمملوك مع مولاه ولا للمرأة مع زوجها.ولا نذر في معصية، ولا يمين في قطيعة».

ونحوه في مبسوط السرخسي: 5/135 عن جابر: «لارضاعَ بعد الفصال، ولايتم

ص: 557

بعد الحلم، ولا صمت يوم إلى الليل، ولا وصال في صيام، ولا طلاق قبل النكاح، ولا عتق قبل الملك، ولا وفاء في نذر في معصية، ولا يمين في قطيعة رحم، ولاتغرب بعد الهجرة، ولا هجرة بعد الفتح».

والنوع الثاني: هجرة بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) إلى الإمام (علیه السلام)، والى طلب العلم، وهجرة من البلاد التي ينقص فيها دينه ولا يستطيع أداء واجباته! راجع: جواهر الكلام: 13/363، 17/337 و 21/34 والمغني: 10/513.

ب. من أعمال بطون قريش: أنهم جعلوا الهجرة امتيازاً مطلقاً لقريش وحقاً مكتسباً لكل مهاجر، فرفعوها شعاراً في مقابل الأنصار وأهل البیت (علیهم السلام)، لأنها برأيهم ميزت المهاجرين على الأنصار، وساوتهم بأهل البیت (علیهم السلام)!

وقد حذف عمر الواو من قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، ليجعل الأنصار تبعاً للمهاجرين، فوقف في وجهه الأنصار وقالوا إنهم مستعدون للحرب من أجل الواو! الحاكم: 3/305.

ج. ومن أعمالهم: أنهم غَلَّبُوا الهجرة على الجهاد، فالمهاجر ممتازٌ على الناس حتى لو كان فرَّاراً هرَّاباً في الحرب، ناكثاً لبيعته للنبي (صلی الله علیه و آله) على أن لايفر!

د. ومن أعمالهم: «أنهم أهملوا شرط الهجرة، بأن تكون لله تعالى لا لمكسب دنيوي، مع أنهم رووا تشديد النبي (صلی الله علیه و آله) للمسلمين على نية الهجرة عندما قال النبي (صلی الله علیه و آله) لعمر: إنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنياً يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه». صحيح بخاري: 1/2، وكرر روايته. وكذا الغازي المقاتل مسائل علي بن جعفر/346.

وقد أخفوا الذين كانت نياتهم من هجرتهم دنيوية، ومنهم من كان يصرح بها كمهاجر أم قيس، الذي قال إنه هاجر ليتزوج أم قيس، وقد ضيعوا إسمه!

قال في فتح الباري: 1/16: «مهاجر أم قيس، ولم نقف على تسميته»!

ويظهر أن تحريف الهجرة بدأ في عهد النبي (صلی الله علیه و آله) ولذا قال: «ألا أنبئكم لمَ سمي المؤمن

ص: 558

مؤمناً؟ لإيمانه الناس على أنفسهم وأموالهم. ألا أنبئكم من المسلم؟ من سلم الناس يده ولسانه. ألا أنبئكم بالمهاجر؟ من هجر السيئات وما حرم الله عليه». علل الشرائع: 2/532، نحوه الكافي: 2/235، المحاسن: 1/285 وفتح الباري: 1/51.

ه. ومن أعمالهم: أنهم غطوا على قرشيين ارتدوا وعصوا ولم يهاجروا، وزعموا أنهم كانوا محبوسين من قبائلهم! ومن أمثلتهم ثلاثة من أقارب عتاة قريش، فقد زعم البخاري في سبع مواضع من صحيحه أن النبي (صلی الله علیه و آله) دعا لهم شهوراً في قنوته أن ينجيهم الله من أيدي المشركين، ويقول: «اللهم أنجِ الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين»!صحيح البخاري: 1/194، 2/15، 3/233، 4/122، 5/171، 7/118 و165.

وهم: ابن الوليد بن المغيرة، وأخ أبي جهل، وابن عمه! «فتح الباري 8/170». ومعنى دعاء النبي (صلی الله علیه و آله) لهم أنهم أخيار! ورووا أن هؤلاء اتفقوا على الهجرة مع عمر فمنعهم قومهم فنزلت فيهم آية التوبة فأرسلها لهم عمر.تفسير الطبري: 24/21.

لكنهم اعترفوا بأن عياشاً أخ أبي جهل: «قتل رجلاً مؤمناً،كان يعذبه مع أبي جهل»! وقالوا إنه أسلم وهاجر مع المهاجرين، فجاء أبوجهل إلى المدينة وربطه وأرجعه إلى مكة، فقال المشركون: «إن أباجهل ليقدر من محمد على ما يشاء. فيأخذ أصحابه فيربطهم»! تفسير الطبري: 5/276.

ورووا: «كان الوليد بن الوليد على دين قومه وشهد بدراً مع المشركين فأسر وافتدى، ثم أسلم ورجع إلى مكة فوثب عليه قومه فحبسوه مع عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام، فألحقه رسول الله بهما في الدعاء». الطبقات: 4/131.

قال المقريزي في إمتاع الأسماع: 9/114: «وكان قوم من الأشراف قد أسلموا ثم فتنوا «ارتدوا»! منهم سلمة بن هشام بن المغيرة، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص السهمي»!

فحقيقة هؤلاء«المهاجرين» أنهم ارتدوا، وبعضهم حارب النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر!

و. ومن أعمالهم: أنهم ادعوا أن آية غزوة الحديبية: وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ

ص: 559

لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا. «الفتح/ 25». نزلت فيمن أحبوا من مشركي قريش وطلقائها! لذا لايمكن الوثوق برواياتهم فيهم.وقد روينا عن أهل البیت (علیهم السلام) أن الآية تقصد المؤمنين في أصلاب المشركين، قال الإمام الصادق (علیه السلام): «كان لله ودايع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين فلم يكن علي (علیه السلام) ليقتل الآباء حتى تخرج الودايع، فلما خرج ظهر على من ظهر وقتله، وكذلك قائمنا أهل البیت لم يظهر أبداً حتى تخرج ودايع الله، فإذا خرجت يظهر على من يظهر فيقتله». تفسير القمي: 2/316.

والمؤكد أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو كان مسلماً ممنوعاً من الهجرة، ولعل منهم طالب بن أبي طالب (رحمة الله)، أما عقيل والعباس بن عبدالمطلب فكان هواهما مع النبي (صلی الله علیه و آله)، لكنهما جاءا مع قريش إلى بدر فوقعا في الأسر، ونزل فيهما قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا اُخِذَ مِنْكُمْ. قال الإمام الصادق (علیه السلام): «نزلت في العباس وعقيل ونوفل، وقال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بني هاشم وأبو البختري فأسروا، فأرسل علياً (علیه السلام) فقال: أنظر من هاهنا من بني هاشم، قال: فمر علي على عقيل بن أبي طالب فحاد عنه فقال له عقيل: يا ابن أم علي، أما والله لقد رأيت مكاني! قال: فرجع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: هذا أبو الفضل في يد فلان، وهذا عقيل في يد فلان، وهذا نوفل بن الحارث في يد فلان. فقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى انتهى إلى عقيل فقال له: يا أبا يزيد قتل أبوجهل! قال: إذا لا تنازعون في تهامة. فقال: إن كنتم أثخنتم القوم وإلا فاركبوا أكتافهم! فقال: فجيئ بالعباس فقيل له: إفْدِ نفسك وافد ابن أخيك، فقال: يا محمد تتركني أسأل قريشاً في كفي! فقال: أعط مما خلفت عند أم الفضل وقلت لها: إن أصابني في وجهي هذا شئ فأنفقيه على ولدك ونفسك، فقال له: يا ابن أخي من أخبرك بهذا؟ فقال: أتاني به جبرئيل (علیه السلام) من عند الله عزوجل! فقال ومحلوفه: ما علم بهذا أحد إلا أنا وهي! أشهد أنك رسول الله، قال: فرجع الأسرى كلهم مشركين إلا العباس وعقيل ونوفل، وفيهم نزلت هذه الآية». الكافي: 8/202.

ص: 560

الفصل الثاني والثلاثون: القرآن المكي والمدني

1- قياسهم القرآن بكتب البشر!

لايقاس القرآن بكتب البشر، فهو المعجزة الخالدة التي ما زالت تتحدى أهل الأرض فيخضعون أمامها، أو يتولون معرضين!

وهو كتاب متوسط الحجم يقع في نحو أربع مئة صفحة، فمجموع كلماته نحو 80.000 كلمة، ومعدل السطر عشر كلمات، ومعدل الصفحة عشرون سطراً.

وقد تنزَّل في مدة بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) ثلاث وعشرين سنة، منها ثلاث عشرة سنة في مكة، نزل فيها بضع وثمانون سورة، في4475 آية، أي ثلاثة أرباع القرآن، لأن مجموعه6226 آية، ونزل بقيته نحو بضع وثلاثين سورة في المدنية، في نحو 1716آية. وقلنا «نحو» بسبب اختلاف الإجتهاد في تعداد الآيات.

راجع: تفسير التبيان للطوسي: 10/438، فهرست ابن النديم/28، شواهد التنزيل: 2/410 والبرهان للزركشي: 1/194. ومواقع:

http://www.lomazoma.com/forum/showthread.php?t=1540

http://wahat.sahara.com/index.php

http://www.alhashemih.com/vb/showthread.php?p=18288

وتأثر بعض المسلمين بالمستشرقين فكتب عن المكي والمدني في القرآن والفرق بينهما، بأسلوب معادٍ يهدف إلى إثبات أن القرآن من تأليف النبي (صلی الله علیه و آله)! وأنه خضع للتطور البشري

ص: 561

في التأليف، في فترة معاداة قريش ومحاصرتها له في مكة، ثم في فترة حروبه (صلی الله علیه و آله) وانتصاره، ثم مرحلة تكوين الدولة والمجتمع.

ووقع بعضهم في تعميمات لاتصح، وظنون لاتغني عن الحق. والصحيح أنه لافرق في البلاغة والإعجاز والجوهر بين النص المكي والمدني، وإن اختلف ظرفاهما، فالمنبع والصيغة ورؤية المؤلف عزوجل فيهما واحدة، ولو نطق النص عن شخصية مؤلفه لقال إنه كلام العليم بالمطلق سبحانه.

أما عن أسباب نزول الآيات وأمكنتها وأوقاتها، فقد ذكرنا في المقدمة أنه لا يمكن الاعتماد على رواياتهم إلا ما ندر، لكثرة مكذوبات رواة السلطة فيها.

هذا، وقد تعرضنا لبعض الآيات في فصول الكتاب، كآيات الأنفال في معركة بدر، وآيات معركة أحُد، وغيرها من مقاطع السيرة.ولا يتسع المجال لعرض معالم السيرة النبوية في القرآن، لأنه يحتاج إلى كتاب مستقل.

2- هَزَّت آيات القرآن وجدان العرب وعقولهم

أ. في إعلام الورى: 1/110: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا يكف عن عيب آلهة المشركين ويقرأ عليهم القرآن فيقولون: هذا شعر محمد! ويقول بعض: بل هو كهانة! ويقول بعضهم: بل هو خطب. وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً وكان من حكام العرب، يتحاكمون إليه في الأمور وينشدونه الأشعار، فما اختاره من الشعر كان مختاراً، وكان له بنون لايبرحون مكة، وكان له عبيد عشرة عند كل عبد ألف دينار يتجر بها، وملك القنطار في ذلك الزمان، والقنطار جلد ثور مملوء ذهباً، وكان من المستهزئين برسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكان عم أبي جهل بن هشام، فقالوا له: يا عبد شمس ماهذا الذي يقول محمد أسحرٌ أم كهانة أم خُطَب؟ فقال: دعوني أسمع كلامه! فدنا من رسول الله وهو جالس في الحجر فقال: يا محمد أنشدني من شعرك. فقال: ما هو شعر ولكنه كلام الله الذي بعث أنبياءه ورسله. فقال: اتلُ عليَّ منه. فقرأ عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله): بسم الله الرحمن الرحيم،

فلما سمع الرحمن استهزأ فقال: تدعو إلى رجل باليمامة يسمى الرحمن؟ قال: لا

ص: 562

ولكني أدعو إلى الله وهو الرحمن الرحيم. ثم افتتح حم السجدة، فلما بلغ إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، وسمعه اقشعر جلده، وقامت كل شعرة في رأسه ولحيته، ثم قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش! فقالت قريش: يا أبا الحكم، صبا أبو عبد شمس إلى دين محمد! أما تراه لم يرجع إلينا، وقد قبل قوله ومضى إلى منزله! فاغتمت قريش من ذلك غماً شديداً وغدا عليه أبوجهل فقال: يا عم نكست برؤوسنا وفضحتنا. قال: وما ذلك يا ابن أخي؟ قال: صبوت إلى دين محمد! قال: ما صبوت وإني على دين قومي وآبائي ولكني سمعت كلاماً صعباً تقشعر منه الجلود. قال أبوجهل: أشعرٌ هو؟ قال: ما هو بشعر. قال: فخطبٌ هي؟ قال: لا إن الخطب كلام متصل، وهذا كلام منثور لا يشبه بعضه بعضاً، له طلاوة. قال: فكهانةٌ هو فكأنه هي؟ قال: لا. قال: فما هو؟ قال: دعني أفكر فيه. فلما كان من الغد، قالوا: يا عبد شمس ما تقول؟ قال: قولوا: هو سحر، فإنه أخذ بقلوب الناس فأنزل الله تعالى فيه:

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا. وَبَنِينَ شُهُودًا. ومَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ.كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا. سَأُرْهِقْهُ صَعُودًا. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ. سَأُصْلِيهِ سَقَرَ». وتفسير القمي: 2/393 والتسهيل: 4/161.

ب. وفي إمتاع الأسماع: 4/345: «أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش «دعاهم إلى طعام» وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويردُّ قولكم بعضه بعضاً! قالوا: فأنت يا عبد شمس، قم وأقم لنا رأياً نقل به، فقال: بل أنتم تقولون وأسمع، قالوا: نقول: إنه كاهن، قال: فما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكهان ولا سجعهم. قالوا: فنقول: إنه مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا بتخالجه

ص: 563

ولا وسوسته. قالوا: فنقول إنه شاعر، قال ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشاعر. قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده. فقالوا: فما نقول يا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لمغدق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن يقولوا: هو ساحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون يسألون الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره! فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا». وابن إسحاق: 2/132، الدر المنثور: 4/106.

ج. وفي تفسير العياشي: 2/295 وتفسير فرات/241 والكافي: 8/266، عن عمرو بن شمر قال: «سألت جعفر بن محمد (علیه السلام): إني أؤمُّ قومي فأجهر ببسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: نعم فاجهر بها قد جهر بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) . ثم قال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن، فإذا قام من الليل يصلي جاء أبوجهل والمشركون يستمعون قراءته «ومنهم عتبة وشيبة» فإذا قال: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وضعوا أصابعهم في آذانهم وهربوا، فإذا فرغ من ذلك جاؤوا فاستمعوا! قال: وكان أبوجهل يقول: إن ابن أبي كبشة ليردد إسم ربه إنه ليحبه. فقال جعفر (علیه السلام): صدق وإن كان كذوباً، فأنزل الله: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا!وهو: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ».

وروى العياشي: 1/21 ردَّت الإمام الصادق (علیه السلام) لإنكارهم البسملة وإخفائها، قال: «ما لهم قاتلهم الله! عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله، فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها»!

3- أكذوبة احتباس الوحي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)

1. زعم رواة السلطة، كما في البخاري، أن الوحي احتبس على النبي (صلی الله علیه و آله) فأراد أن يرمي نفسه من شاهق وینتحر! وزعموا أنه كان لمدة طويلة، أو قصيرة. وأن سببه

ص: 564

خطأ من النبي (صلی الله علیه و آله) حيث قال سأفعل غداً ولم يستثنِ! أو سببٌ من الناس، أو بدون سبب! وكل ذلك لا يصح من ذلك إلا احتاسه قليلاً وعدم نزول جبرئيل (علیه السلام) بسبب وسخ بعض الناس وروائحهم النتنة.

واستدلوا على احتباس الوحي بقوله تعالى: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى.مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، مع أنه قد يكون السبب أن المشركين سألوه هل نزل عليك الوحي اليوم وأمس، فقال لا، فأشاعوا أن محمداً قلاه ربه وتركه، فأجابهم الله تعالى.

واستدلوا بقوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَئٍْ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ. وليس فيها دلالة على أنه (صلی الله علیه و آله) قال سأفعل ذلك غداً ولم يستثن. وقد تكون الآية تعليماً ابتدائياً للرسول والناس،وما ذكروه من عدم استثنائه (صلی الله علیه و آله) لم يثبت منه شئ!

2. كان الوحي ينزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) متتابعاً، وقد يتأخر أياماً، وذكرالله تعالى حكمة تنزيل القرآن متفرقاً، فقال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً. لكن المشركين كانوا يبحثون عن أي شئ لينتقصوا به النبي، قال البخاري: 6/97:«اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة فقالت يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك! فأنزل الله عزوجل: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى».

لكنه حديث مضطرب، لأن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يكن يقم الليل في مكة في المسجد. وقالوا إن المرأة فهي حمالة الحطب أو إحدى عماته (صلی الله علیه و آله) «فتح الباري: 2/8» وزعم بعضهم أنها خديجة (علیها السلام) «عمدة القاري: 7/173» فينبغي أن يكون أصل الحديث أنه غاب عن المسجد يومين فقالت ذلك حمالة الحطب، أما خديجة (علیها السلام) وعماته فلايمكن أن يصدر منهن مثل هذا الكلام.

3. ثم جعلوا مدة احتباس الوحي أربعة أيام، وجعلها بعضهم شهوراً، أو سنوات! وزعمت عائشة كما في البخاري أن ذلك كان في أوائل البعثة فذهب النبي (صلی الله علیه و آله) مراراً إلى شواهق الجبال لينتحر فرده جبرئيل!

ص: 565

ونسب ابن إسحاق: 2/115 وابن هشام: 1/159، إلى النبي (صلی الله علیه و آله) قوله: «قد خشيت أن يكون صاحبي قد قلاني وودعني! فجاء جبريل بسورة والضحى».

4. قال في فتح الباري: 3/6، إنهما قضيتان، بل يفهم من رواياتهم أنها وقعت أكثر من مرتين، فبعضهم ذكر أنها أول البعثة، وبعضهم جعلها بعد نزول سورة المسد وبعضهم جعلها عندما سئل النبي (صلی الله علیه و آله) عن أهل الكهف. وزعم بعضهم أن سبب انقطاع الوحي أنه كان في غرفة النبي (صلی الله علیه و آله) جرو كلب فمات تحت السرير ولم ينتبه له النبي (صلی الله علیه و آله)! أسباب النزول/302 والإتقان: 1/94.

واضطراب روايتهم يوجب زيادة الشك، والمعقول أنهم سألوه (صلی الله علیه و آله) عن شئ مثلاً فقال أنتظر الوحي، فقالوا قلاه ربه أو نحوه، فنزلت الآية.

5. وروى ابن إسحاق، «فتح الباري: 8/545»: «أن المشركين لما سألوا النبي (صلی الله علیه و آله) عن ذي القرنين والروح وغير ذلك ووعدهم بالجواب ولم يستثن، فأبطأ عليه جبريل اثنتي عشرة ليلة أو أكثر فضاق صدره وتكلم المشركون، فنزل جبريل بسورة والضحى وبجواب ما سألوا وبقوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَئٍْ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ». وفي تفسير الطبري: 15/284: «فاحتبس الوحي عنه فيما قيل من أجل ذلك خمس عشرة..فقال: ولاتقولن يا محمد لشئ إني فاعل ذلك غداً،كما قلت لهؤلاء».

وفي رواية عندهم وعندنا أنه (صلی الله علیه و آله) قال لليهود:«تعالوا غداً أحدثكم ولم يستثن، فاحتبس جبرئيل عنه أربعين يوماً» «الفقيه 3/362» فنزل عليه: وَلا تَقُولَنَّ لِشَئٍْ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ». لكن هذا بعيد عن منطقه (صلی الله علیه و آله) وخلقه الذي قال الله عنه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ.

ولعل بعده عن منطق النبي (صلی الله علیه و آله) هو السبب في أن صاحب الجواهر (رحمة الله) لم يصف الحديث بالصحة «جواهر الكلام 35/245» وإن وصفه بذلك صاحب تتمة الحدائق (رحمة الله):2/168.

6. نعم قد يصح أن الوحي كان يتأخر عنه (صلی الله علیه و آله) في وقت ما أو مكان ما، بسبب الروائح الكريهة من أجسامهم! ففي الكافي: 6/492، وقرب الإسناد/23، قال الإمام

ص: 566

الصادق (علیه السلام): «احتبس الوحي عن النبي (صلی الله علیه و آله) فقيل له احتبس الوحي عنك؟ فقال (صلی الله علیه و آله): وكيف لايحتبس وأنتم لا تقلمون أظفاركم، ولاتُنَقٌّون رواجبكم»!

وفي مسند أحمد: 1/243: «ولم لايبطئ عني وأنتم حولي لاتستنون ولا تقلمون أظفاركم، ولا تقصون شواربكم، ولا تنقون رواجبكم». ومجمع الزوائد: 5/167 ووثقه.

والرواجب رؤوس الأصابع، والوسخ تحتها يسمى الرَّفَغ. ابن الأثير: 2/244.

لكن هذا احتباس موقت بسبب وجود القذرين، ويمكن أن ينزل في غيره.

وقد ورد في مصادر الطرفين حساسية الملائكة من الروائح. ففي الكافي: 2/429: «عن عبدالله بن موسى بن جعفر (علیه السلام) قال: سألته عن الملكين يعلمان الذنب إذا أراد العبد أن يفعله أو بالحسنة؟قال فقال (علیه السلام): فريح الكنيف والطيب عندك واحدة؟ قال: قلت: لا.قال (علیه السلام): العبد إذا هم بالحسنة خرج نفسه طيب الريح، فقال صاحب اليمين لصاحب الشمال قف فإنه قد هم بالحسنة، فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه، وريقه مداده فيثبتها له وإذا هم بالسيئة خرج نفسه منتن الريح فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين: قف فإنه قد هم بالسيئة».

وفي كتاب سعيد/53:«فيثبتان ما كان من خير وشر، ويلقيان ماسوى ذلك».

ص: 567

الفصل الثالث والثلاثون: بعض صفات النبي وأخلاقه ومعجزاته (صلی الله علیه و آله)

1- من وصف أميرالمؤمنين (علیه السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله)

في أمالي الطوسي/340، قالوا لأميرالمؤمنين (علیه السلام): «صف لنا نبينا (صلی الله علیه و آله) كأننا نراه، فإنا مشتاقون إليه! قال: كان النبي (صلی الله علیه و آله) أبيض اللون، مشرباً حمرة، أدعج العين، سبط الشعر، كث اللحية، ذا وفرة، دقيق المسربة «شعر الصدر» كأنما عنقه إبريق فضة، يجري في تراقيه الذهب، له شعر من لبته إلى سرته، كقضيبٍ خِيطَ إلى السرة، وليس في بطنه ولا صدره شعر غيره.

شثن الكفين والقدمين، شثن الكعبين، إذا مشى كأنما ينقلع من صخر، إذا أقبل كأنما ينحدر من صبب، إذا التفت التفت جميعاً بأجمعه كله.

ليس بالقصير المتردد، ولا بالطويل الممعَّط «المفرط» وكان في وجهه تدوير، إذا كان في الناس غمرهم، كأنما عرقه في وجهه اللؤلؤ، عرقه أطيب من ريح المسك.

ليس بالعاجز ولا باللئيم، أكرم الناس عشرة، وألينهم عريكة، وأجودهم كفاً. من خالطه بمعرفةٍ أحبه، ومن رآه بديهةً هابه. له غرةٌ بين عينيه. يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله (صلی الله علیه و آله)».

«مستقرُّهُ خيرُ مستقر، ومنبتُه أشرف منبت، في معادن الكرامة، ومماهد السلامة.

قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار، وثُنيت إليه أزمة الأبصار. دفن الله به الضغائن، وأطفأ به الثوائر. ألف به إخواناً، وفرّق به أقراناً، أعز به الذلة، وأذل به العزة. كلامه بيان، وصمته لسان». نهجالبلاغة/الخطبة:94، 187.

ص: 568

«فتأس بنبيك الأطيب الأطهر (صلی الله علیه و آله) فإن فيه أسوةً لمن تأسى، وعزاءً لمن تعزَّى. وأحبُّ العباد إلى الله المتأسِّي بنبيه والمقتصُّ لأثره. قضم الدنيا قضماً، ولم يُعِرْهَا طرفاً. أهضم أهل الدنيا كشحاً، وأخمصهم من الدنيا بطناً. عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها. علم أن الله سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه، وحقر شيئاً فحقره، وصغَّر شيئاً فصغَّره. ولو لم يكن فينا إلاّ حبنا ما أبغض الله ورسوله، وتعظيمنا ما صغَّر الله ورسوله لكفى به شقاقاً لله، ومحادَّةً عن أمر الله!

ولقد كان (صلی الله علیه و آله) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه. ويكون السّتر على باب بيته فتكون فيه التّصاوير فيقول: يا فلانة لإحدى أزواجه غيبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدّنيا وزخارفها. فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً. فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيّبها عن البصر. وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه، وأن يذكر عنده. و لقد كان في رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما يدلّك على مساوئ الدنيا وعيوبها، إذ جاع فيها مع خاصّته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته.

فلينظر ناظر بعقله، أكرم الله محمّداً بذلك أم أهانه؟ فإن قال: أهانه فقد كذب والله العظيم بالإفك العظيم. وإن قال أكرمه، فليعلم أنّ الله قد أهان غيره حيث بسط الدّنيا له، وزواها عن أقرب النّاس منه». نهجالبلاغة/ 88 ح، 580.

«فقاتلَ بمن أطاعه من عصاه، يسوقهم إلى منجاتهم، ويبادر بهم السّاعة أن تنزل بهم. يحسر الحسير «يعالج الضعيف» ويقف الكسير فيقيم عليه حتّى يلحقه غايته، إلاّ هالكاً لا خير فيه. حتّى أراهم منجاتهم، وبوّأهم محلّتهم، فاستدارت رحاهم واستقامت قناتهم». نهجالبلاغة/ الخطبة: 102، 198.

«اللهم داحي المدحوات، وداعم المسموكات، وجابل القلوب على فطرتها، شقيها وسعيدها، إجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، على محمد عبدك

ص: 569

ورسولك، الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق، والمعلن الحق بالحق، والدافع جيشات الأباطيل، والدامغ صولات الأضاليل، كما حمل فاضطلع قائماً بأمرك، مستوفزاً في مرضاتك، غير ناكلٍ عن قدم، ولا واه في عزم، واعياً لوحيك، حافظاً لعهدك، ماضياً على نفاذ أمرك، حتى أورى قبس القابس، وأضاء الطريق للخابط، وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن، وأقام موضحات الأعلام ونيرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك بالحق، ورسولك إلى الخلق.

اللهم افسح له مفسحاً في ظلك، واجزه مضاعفات الخير من فضلك. اللهم أعْلِ على بناء البانين بناءه، وأكرم لديك منزلته، وأتمم له نوره، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة، ومرضي المقالة، ذا منطق عدل، وخطة فصل.

اللهم اجمع بيننا وبينه في برد العيش، وقرار النعمة، ومنى الشهوات، وأهواء اللذات، ورخاء الدعة، ومنتهى الطمأنينة، وتحف الكرامة».نهجالبلاغة: 1/120.

وفي الغارات للثقفي: 1/161: «كان علي (علیه السلام) إذا نعت النبي (صلی الله علیه و آله) قال: لم يك بالطويل الممعط، ولا بالقصير المتردد، وكان ربعة من القوم، ولم يك بالجعد القطط ولا السبط. شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معاً. أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، أوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عِشْرة».

«اختاره من شجرة الأنبياء، ومشكاة الضّياء، وذؤابة العلياء، وسُرَّة البطحاء، ومصابيح الظُّلمة، وينابيع الحكمة». نهجالبلاغة/الخطبة: 106، 205.

2- من وصف بقية الأئمة (علیهم السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله)

في تفسير العياشي: 1/203، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «جاء أعرابي أحد بني عامر فسأل عن النبي (صلی الله علیه و آله) فلم يجده فقالوا هو بقزح «مكان بالمزدلفة» فطلبه فلم يجده، قالوا: هو بمنى. قال: فطلبه فلم يجده، فقالوا: هو بعرفة، فطلبه فلم يجده، قالوا: هو بالمشعر قال: فوجده في الموقف، قال: حَلُّوا «صِفُوا» لي النبي (صلی الله علیه و آله) فقال الناس: يا

ص: 570

أعرابي ما أنكرت! إذا وجدت النبي وسط القوم وجدته مفخماً. قال: بل حَلُّوهُ لي حتى لاأسأل عنه أحداً، قالوا: فإن نبي الله أطول من الربعة، وأقصر من الطويل الفاحش، كأن لونه فضة وذهب، أرجَلُ الناس جُمَّة «شعره ممشط» وأوسع الناس جبهة، بين عينيه غُرَّة، أقنى الأنف، واسع الجبين، كث اللحية، مفلج الأسنان، على شفته السفلى خال، كأن رقبته إبريق فضة، بعيد ما بين مشاشة المنكبين، كأن بطنه و صدره سواء، سبط البنان، عظيم البراثن «الكفين» إذا مشى مشى متكفياً، وإذا التفت التفت بأجمعه، كأن يده من لينها متن أرنب، إذا قام مع إنسان لم ينفتل حتى ينفتل صاحبه، وإذا جلس لم يحلل حبوته حتى يقوم جليسه.

فجاء الأعرابي فلما نظر إلى النبي (صلی الله علیه و آله) عرفه فقال بمحجنه «أشار بعصاته» على رأس ناقة رسول الله عند ذنب ناقته، فأقبل الناس تقول ما أجرأك يا أعرابي؟ قال النبي (صلی الله علیه و آله): دعوه فإنه أريب «عنده حاجة» ثم قال: ما حاجتك؟ قال: جاءتنا رسلك أن تقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتحجوا البيت، وتغتسلوا من الجنابة، وبعثني قومي إليك رائداً، أبغي أن استحلفك وأخشى أن تغضب! قال (صلی الله علیه و آله): لا أغضب، إني أنا الذي سماني الله في التوراة والإنجيل محمد رسول الله المجتبى المصطفى، ليس بفاحش ولاسخاب «عالي الصوت» في الأسواق، ولا يتبع السيئة السيئة، ولكن يتبع السيئة الحسنة، وأنا الذي سماني الله في القرآن: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فسلني عما شئت.

قال: آلله الذي رفع السماوات بغير عمد هو أرسلك؟ قال: نعم هو أرسلني. قال: آلله الذي قامت السماوات بأمره هو الذي أنزل عليك الكتاب وأرسلك بالصلاة المفروضة والزكاة المعقولة؟ قال: نعم، قال: وهو أمرك بالإغتسال من الجنابة وبالحدود كلها؟ قال: نعم. قال: فإنا آمنا بالله ورسله وكتابه واليوم الآخر والبعث والميزان والموقف والحلال والحرام صغيره وكبيره!

قال: فاستغفر له النبي (صلی الله علیه و آله) ودعا له».

وفي الكافي: 1/443 عن جابر الجعفي قال: «قلت لأبي جعفر (علیه السلام): صف لي

ص: 571

نبي الله قال: كان نبي الله (صلی الله علیه و آله) أبيض مشرباً حمرة، أدعج العينين، مقرون الحاجبين، شثن الأطراف، كأن الذهب أفرغ على براثنه، عظيم مشاشة المنكبين، إذا التفت يلتفت جميعاً من شدة استرساله، سربته سائلة من لبته إلى سرته كأنها وسط الفضة المصفاة، وكأن عنقه إلى كاهله إبريق فضة،يكاد أنفه إذا شرب أن يرد الماء، وإذا مشى تكفأ كأنه ينزل في صبب، لم ير مثل نبي الله قبله ولا بعده».

وفي الكافي: 1/446، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا رُئي في الليلة الظلماء، رئي له نور كأنه شقة قمر».

وفي علل الشرائع: 1/55، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «استأذنت زليخا على يوسف فقيل لها: إنا نكره أن نقدم بك عليه لما كان منك إليه، قالت: إني لا أخاف من يخاف الله، فلما دخلت قال لها: يا زليخا مالي أراك قد تغير لونك؟ قالت: الحمد لله الذي جعل الملوك بمعصيتهم عبيداً، وجعل العبيد بطاعتهم ملوكاً! قال لها: ما الذي دعاك يا زليخا إلى ما كان منك؟ قالت: حسن وجهك يا يوسف. فقال: كيف لو رأيت نبياً يقال له محمد يكون في آخر الزمان أحسن مني وجهاً، وأحسن مني خلقاً وأسمح مني كفاً؟قالت: صدقت. قال: وكيف علمت أني صدقت؟ قالت: لأنك حين ذكرته وقع حبه في قلبي. فأوحى الله عزوجل إلى يوسف: إنها قد صدقت، إني قد أحببتها لحبها محمداً، فأمره الله تبارك وتعالى أن يتزوجها».

وفي كتاب المؤمن للحسين بن سعيد/31، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لاتقدر الخلائق على كنه صفة الله عزوجل فكذلك لاتقدر على كنه صفة رسول الله (صلی الله علیه و آله)! وكما لاتقدر على كنه صفة الرسول (صلی الله علیه و آله) كذلك لاتقدر على كنه صفة الإمام (علیه السلام) . وكما لا تقدر على كنه صفة الإمام،كذلك لايقدرون على كنه صفة المؤمن».

وفي المحاسن: 1/143، عن مالك بن أعين الجهني: «وكما لا يقدر أحد أن يصف فضلنا وما أعطانا الله وما أوجب الله من حقوقنا، فكذلك لا يقدر أحد أن يصف حق المؤمن ويقوم به مما أوجب الله على أخيه المؤمن، والله يا مالك إن المؤمنيْن ليلتقيان فيصافح كل واحد منهما صاحبه، فما يزال الله تبارك وتعالى ناظراً إليهما بالمحبة والمغفرة، وإن

ص: 572

الذنوب لتَحَاتُّ عن وجوههما وجوارحهما حتى يفترقا! فمن يقدر على صفة الله وصفة من هو هكذا عند الله»؟!

3- حديث الإمام الحسن (علیه السلام) في صفة النبي (صلی الله علیه و آله)

من أشمل ما ورد في صفة النبي (صلی الله علیه و آله) ما روي عن الإمام الحسن (علیه السلام) قال: «سألت خالي هند أبي هالة وكان وصافاً، عن حلية رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخماً مفخماً، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، عظيم الهامة، رجل الشعر، إن انفرقت عقيقته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب، سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، سهل الخدين، ضليع الفم، أشنب، مفلج الأسنان، دقيق المسربة، كان عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادناً، متماسكاً، سواء البطن والصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، عريض الصدر، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعلى الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفين والقدمين، سائل الأطراف، سبط القصب، خمصان الأخمصين، مسيح القدمين ينبو عنهما الماء. إذا زال زال قلعاً، يخطو تكفؤاً، ويمشي هوناً، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعاً، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يبدر من لقيه بالسلام.

قال: فقلت: فصف لي منطقة، فقال: كان (علیه السلام) متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليست له راحة، طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، يتكلم بجوامع الكلم فصلاً، لا فضول فيه ولا تقصير، دمثاً ليناً ليس بالجافي ولا بالمهين، تعظم عنده النعمة وإن دقت، لا يذم منها شيئاً، غير أنه كان

ص: 573

لا يذم ذواقاً ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحدٌ، ولم يقم لغضبه شئ حتى ينتصر له، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها فضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، يفتر عن مثل حب الغمام.

قال الحسن (علیه السلام): سألت أبي (علیه السلام) عن مدخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: كان دخوله لنفسه مأذوناً له في ذلك، فإذا أوى إلى منزله جزء دخوله ثلاثة أجزاء: جزء لله، وجزء لأهله، وجزء لنفسه، ثم جزء جزءه بينه وبين الناس، فيرد ذلك بالخاصة على العامة، ولا يدخر عنهم منه شيئاً، وكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة من مسألته عنهم، وبإخبارهم بالذي ينبغي، ويقول: ليبلغ الشاهد منكم الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يقدر على إبلاغ حاجته، فإنه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يقدر على إبلاغها، ثبت الله قدميه يوم القيامة. لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقيد من أحد عثرة، يدخلون رواداً، ولا يفترقون إلا عن ذواق، ويخرجون أدلة.

قال: فسألته عن مخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) كيف كان يصنع فيه؟ فقال: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يخزن لسانه إلا عما يعنيه، ويؤلفهم ولاينفرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويهونه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، ولا يقصر عن الحق ولا يجوزه.

الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة للمسلمين، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مؤاساة ومؤازرة.

فسألته عن مجلسه فقال: كان (صلی الله علیه و آله) لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن، وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر

ص: 574

بذلك، ويعطى كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب من جلسائه أن أحداً أكرم عليه منه، من جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، من سأله حاجة لم يرجع إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه خلقه وصار لهم أباً، وصاروا عنده في الخلق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصدق وأمانة، ولا ترتفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تنثى فلتاته، متعادلين، متواصلين فيه بالتقوى، متواضعين، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب.

فقلت: فكيف كان سيرته في جلسائه؟ فقال: كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عياب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، فلا يؤيس منه، ولا يخيب فيه مؤمليه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً ولا يعيره، ولا يطلب عثراته ولا عورته. ولا يتكلم إلا في ما رجا ثوابه. إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا ولا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في مسألته ومنطقه، حتى أن كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فارفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولايقطع على أحد كلامه حتى يجوز، فيقطعه بنهي أو قيام.

قال: فسألته عن سكوت رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: كان سكوته على أربع: على الحلم والحذر والتقدير والتفكر. فأما التقدير ففي تسوية النظر والإستماع بين الناس، وأما تفكره ففيما يبقى أو يفنى، وجمع له الحلم في الصبر، فكان لا يغضبه شئ ولا يستفزه. وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسن ليقتدى به، وتركه القبيح لينتهى عنه، واجتهاده الرأي في صلاح أمته،والقيام فيما جمع لهم من خير الدنيا والآخرة» المناقب: 1/134، العدد القوية للحلي/120، مسند أحمد: 1/96، الحاكم:

ص: 575

2/605، مجمع الزوائد: 8/271 و276، ابن أبي شيبة: 7/ 446، الشمائل المحمدية للترمذي/15، مسند أبي يعلى: 1/304، والأحاديث الطوال/78، المعجم الكبير: 22/155، الفايق: 2/186، الطبقات الكبرى: 1/422،الشفا للقاضي عياض: 1/155 وغيرها.

وعقَّب عليه الصدوق (رحمة الله) في معاني الأخبار/79: «قوله: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخماً مفخماً: معناه كان عظيماً معظماً في الصدور والعيون.. يتلألأ تلألؤ القمر: ينير ويشرق كإشراق القمر. أطول من المربوع وأقصر من المشذب: المشذب الطويل الذي ليس بكثير اللحم.

وقوله: رَجْل الشعر: في شعره تكسر وتعقف.العقيقة: الشعر المجتمع في الرأس. أزهر اللون: نير اللون. أزج الحواجب: طويل امتداد الحاجبين.

أقنى العرنين: في عظم الأنف احديداب في وسطه.كث اللحية: لحيته قصيرة كثيرة الشعر. ضليع الفم: كبير الفم. الأشنب: الشنب في الفم تحدد ورقة وحدة في أطراف الأسنان. دقيق المسربة: الشعر المستدق الممتد من اللبة إلى السرة.

بادناً متماسكاً: تام خلق الأعضاء ليس بمسترخي اللحم ولا بكثيره.

سواء البطن والصدر: بطنه ضامر وصدره عريض. والكراديس: رؤوس العظام.

أنور المتجرد: نيِّر الجسد الذي تجرد من الثياب. رحب الراحة: واسع الراحة كبيرها. شثن الكفين: خشن الكفين. سائل الأطراف: تامها غير طويلة ولا قصيرة. مسيح القدمين: ليس بكثير اللحم فيهما. زال قلعاً: معناه متثبتاً.

يخطو تكفؤاً: خطاه كأنه يتكسر فيها ولا تبختر فيها ولا خيلاء. ويمشي هوناً: معناه السكينة والوقار. ذريع المشية: واسع المشية. كأنما ينحط في صبب: الصبب الإنحدار. إذا غضب أعرض وأشاح: أشاح جَدَّ في الغضب وانكمش.

يفتر عن مثل حب الغمام: يكشف شفتيه عن ثغر أبيض يشبه حب الغمام.

لكل حال عنده عتاد: أعد للأمور أشكالها ونظائرها.

ثم يرد ذلك بالخاصة على العامة: يعتمد في هذه الحال على أن الخاصة ترفع إلى العامة علومه وآدابه وفوائده.

ص: 576

ولا يفترقون إلا عن ذواق: عن علوم يذوقون من حلاوتها ما يذاق من الطعام المشتهي. لا تؤبن فيه الحُرم: أي لا تعاب.

ولا تنثى فلتاته: من غلط فيه غلطة لم يشنع ولم يتحدث بها، يقال: نثوت الحديث أنثوه نثواً إذا حدثت به. إذا تكلم أطرق جلساؤه كأن على رؤوسهم الطير: لإجلالهم نبيهم (صلی الله علیه و آله) لايتحركون. ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ: من صح عنده إسلامه حسن موقع ثنائه عليه عنده».

ونقد صاحب الصحيح: 2/132 هذه الرواية بضعف سندها، وبأن الإمام الحسن عاش مع جده النبي (صلی الله علیه و آله) وروى عنه فلايحتاج في وصفه إلى هند بن أبي هالة، وهو أفصح العرب وأعلم الأمة، رباه النبي (صلی الله علیه و آله) في حجره، وكان يعرف عنه كل شئ مما دق وجل. ثم قال: «تقدم كله يدفع هذا الحديث».

أقول: إشكاله لا يصح، وهذه الصفات وردت بشكل وآخر في غيرها.

4- حديث الإمام الكاظم (علیه السلام) في معجزات النبي (صلی الله علیه و آله)

نكتفي في معجزات النبي (صلی الله علیه و آله) بحديث واحد يُبين عدداً منها باختصار، فقد روى أبو العباس الحميري في قرب الإسناد/317، بسند صحيح عن الإمام الكاظم (علیهما السلام) قال: «كنت عند أبي عبدالله (علیه السلام) ذات يوم وأنا طفل خماسي، إذ دخل عليه نفر من اليهود فقالوا: أنت ابن محمد نبي هذه الأمة والحجة على أهل الأرض؟ قال لهم: نعم. قالوا: إنا نجد في التوراة أن الله تبارك وتعالى آتى إبراهيم وولده الكتاب والحكم والنبوة، وجعل لهم الملك والإمامة، وهكذا وجدنا ذرية الأنبياء لاتتعداهم النبوة والخلافة والوصية، فما بالكم قد تعداكم ذلك وثبت في غيركم، ونلقاكم مستضعفين مقهورين، لا ترقب فيكم ذمة نبيكم؟! فدمعت عينا أبي عبدالله (علیه السلام) ثم قال: نعم لم تزل أمناء الله مضطهدة مقهورة مقتولة بغير حق، والظلمة غالبة، وقليل من عباد الله الشكور.

قالوا: فإن الأنبياء وأولادهم علموا من غير تعليم، وأوتوا العلم تلقيناً، وكذلك ينبغي لأئمتهم وخلفائهم وأوصيائهم، فهل أوتيتم ذلك؟

ص: 577

فقال أبوعبدالله (علیه السلام): ادن يا موسى فدنوت فمسح يده على صدري ثم قال: اللهم أيده بنصرك بحق محمد وآله، ثم قال: سلوه عما بدا لكم.

قالوا: وكيف نسأل طفلاً لا يفقه؟ قلت: سلوني تفقهاً ودعوا العنت!

قالوا: أخبرنا عن الآيات التسع التي أوتيها موسى بن عمران.

قلت: العصا، وإخراجه يده من جيبه بيضاء، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، ورفع الطور، والمن والسلوى آية واحدة، وفلق البحر.

قالوا: صدقت، فما أعطي نبيكم من الآيات اللاتي نفت الشك عن قلوب من أرسل إليه. قلت: آيات كثيرة، أعدها إن شاء الله، فاسمعوا وعوا وافقهوا:

1. أما أول ذلك: أنتم تقرون أن الجن كانوا يسترقون السمع قبل مبعثه، فمنعت في أوان رسالته بالرجوم وانقضاض النجوم، وبطلان الكهنة والسحرة.

2. ومن ذلك: كلام الذئب يخبر بنبوته، واجتماع العدو والولي على صدق لهجته وصدق أمانته، وعدم جهله أيام طفوليته وحين أيفع وفتى وكهلاً، لا يعرف له شِكْل ولا يوازيه مِثل.

3. ومن ذلك: أن سيف بن ذي يزن حين ظفر بالحبشة وفد عليه وفد قريش، فيهم عبدالمطلب، فسألهم عنه ووصف لهم صفته، فأقروا جميعاً بأن هذه الصفة في محمد (صلی الله علیه و آله)، فقال: هذا أوان مبعثه، ومستقره أرض يثرب وموته بها.

4. ومن ذلك: أن أبرهة بن يكسوم قاد الفيلة إلى بيت الله الحرام ليهدمه قبل مبعثه فقال عبدالمطلب: إن لهذا البيت رباً يمنعه، ثم جمع أهل مكة فدعا، وهذا بعدما أخبره سيف بن ذي يزن، فأرسل الله تبارك وتعالى عليهم طيراً أبابيل، ودفعهم عن مكة وأهلها.

5. ومن ذلك: أن أباجهل عمرو بن هشام المخزومي، أتاه وهو نائم خلف جدار ومعه حجر يريد أن يرميه به، فالتصق بكفه.

6. ومن ذلك: أن أعرابياً باع ذَوْداً له من أبي جهل فمَطَله بحقه، فأتى قريشاً وقال: أُعدوني على أبي الحكم فقد لوى حقي، فأشاروا إلى محمد (صلی الله علیه و آله) وهو يصلي في الكعبة

ص: 578

فقالوا: إئت هذا الرجل فاستعده عليه، هم يهزؤون بالأعرابي! فأتاه فقال له: يا عبدالله أعدني على عمرو بن هشام فقد منعني حقي. قال: نعم، فانطلق معه فدق على أبي جهل بابه فخرج إليه متغيراً. فقال له: ما حاجتك؟ قال: أعط الأعرابي حقه. قال: نعم. وجاء الأعرابي إلى قريش فقال: جزاكم الله خيراً، إنطلق معي الرجل الذي دللتموني عليه فأخذ حقي! فجاء أبوجهل فقالوا: أعطيت الأعرابي حقه؟ قال: نعم. قالوا: إنما أردنا أن نغريك بمحمد ونهزأ بالأعرابي! قال: يا هؤلاء دق بابي فخرجت إليه فقال: أعط الأعرابي حقه، وفوقه مثل الفحل فاتحاً فاه كأنه يريدني، فقال: أعطه حقه، فلو قلت: لا، لابتلع رأسي، فأعطيته!

7. ومن ذلك: أن قريشاً أرسلت النضر بن الحارث وعلقمة بن أبي معيط بيثرب إلى اليهود وقالوا لهما: إذا قدمتما عليهم فسائلوهم عنه، وسألوهم عنه فقالوا: صفوا لنا صفته فوصفوه. وقالوا: من تبعه منكم؟ قالوا: سفلتنا. فصاح حبر منهم فقال: هذا النبي الذي نجد نعته في التوراة، ونجد قومه أشد الناس عداوة له.

8. ومن ذلك: أن قريشاً أرسلت سراقة بن جعشم حتى خرج إلى المدينة في طلبه، فلحق به فقال صاحبه: هذا سراقة يا نبي الله فقال: اللهم اكفنيه، فساخت قوائم ظهره فناداه: يا محمد خل عني بموثق أعطيكه أن لا أناصح غيرك، وكل من عاداك لا أصالح. فقال النبي (علیه السلام): اللهم إن كان صادق المقال فأطلق فرسه. فانطلق فوفى وما انثنى بعد ذلك.

9. ومن ذلك: أن عامر بن الطفيل وأربد بن قيس أتيا النبي (صلی الله علیه و آله)، فقال عامر لأربد: إذا أتيناه فأنا أشاغله عنك فاعله بالسيف، فلما دخلا عليه قال عامر: يا محمد خالَّني «أي أخلني بك - الطبري 2/389» قال: لا، حتى تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. وهو ينظر إلى أربد وأربد لا يحير شيئاً. فلما طال ذلك

ص: 579

نهض وخرج وقال لأربد: ما كان أحد على وجه الأرض أخوف على نفسي فتكاً منك، ولعمري لا أخافك بعد اليوم، فقال له أربد: لا تعجل، فإني ما هممت بما أمرتني به إلا ودخلت الرجال بيني وبينك حتى ما أبصر غيرك، فأضربك؟!

10. ومن ذلك: أن أربد بن قيس والنضر بن الحارث اجتمعا على أن يسألاه عن الغيوب فدخلا عليه، فأقبل النبي (صلی الله علیه و آله) على أربد فقال: يا أربد، أتذكر ما جئت له يوم كذا ومعك عامر بن الطفيل؟ فأخبره بما كان فيهما فقال أربد: والله ما حضرني وعامراً أحد، وما أخبرك بهذا إلا ملك من السماء، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسول الله. «وأربد هذا أخ لبيد الشاعر».

11. ومن ذلك: أن نفراً من اليهود أتوه، فقالوا لأبي الحسن جدي: إستأذن لنا على ابن عمك نسأله، فدخل علي (علیه السلام) فأعلمه فقال النبي (صلی الله علیه و آله): وما يريدون مني؟ فإني عبد من عبيدالله، لا أعلم إلا ما علمني ربي، ثم قال: إئذن لهم، فدخلوا عليه فقال: أتسألوني عما جئتم له أم أنبئكم؟ قالوا: نبئنا، قال: جئتم تسألوني عن ذي القرنين، قالوا: نعم، قال: كان غلاماً من أهل الروم ثم ملك، وأتى مطلع الشمس ومغربها، ثم بني السد فيها. قالوا: نشهد أن هذا كذا.

12. ومن ذلك: أن وابصة بن معبدالأسدي أتاه فقال: لا أدعُ من البر والإثم شيئاً إلا سألته عنه، فلما أتاه قال له بعض أصحابه: إليك يا وابصة عن رسول الله، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أدنهْ يا وابصة، فدنوت. فقال: أتسأل عما جئت له أو أخبرك؟ قال: أخبرني. قال: جئت تسأل عن البر والإثم. قال: نعم. فضرب بيده على صدره ثم قال: يا وابصة، البر ما اطمأن به الصدر، والإثم ما تردد في الصدر وجال في القلب، وإن أفتاك الناس وأفْتَوْك.

13. ومن ذلك: أنه أتاه وفد عبدالقيس فدخلوا عليه، فلما أدركوا حاجتهم عنده قال: إئتوني بتمر أهلكم مما معكم، فأتاه كل رجل منهم بنوع منه، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): هذا يسمى كذا وهذا يسمى كذا، فقالوا: أنت أعلم بتمر أرضنا، فوصف لهم أرضهم

ص: 580

فقالوا: أدخلتها؟ قال: لا، ولكن فسح لي فنظرت إليها. فقام رجل منهم فقال: يا رسول الله، هذا خالي وبه خبل، فأخذ بردائه ثم قال: أخرج عدو الله ثلاثاً ثم أرسله، فبرأ. وأتوه بشاة هرمة، فأخذ أحد أذنيها بين أصابعه فصار ميسماً، ثم قال: خذوها فإن هذه السمة في آذان ما تلد إلى يوم القيامة! فهي تتوالد وتلك في آذانها، معروفة غير مجهولة.

14. ومن ذلك: أنه كان في سفر، فمر على بعير قد أعيا، وقام منزلاً على أصحابه فدعا بماء فتمضمض منه في إناء وتوضأ وقال: إفتح فاه فصب في فيه. فمر ذلك الماء على رأسه وحاركه ثم قال: اللهم احمل خلاداً وعامراً ورفيقيهما وهما صاحبا الجمل، فركبوه وإنه ليهتز بهم أمام الخيل.

15. ومن ذلك: أن ناقة لبعض أصحابه ضلت في سفر كانت فيه، فقال صاحبها: لو كان نبياً لعلم أمر الناقة، فبلغ ذلك النبي (علیه السلام) فقال: الغيب لا يعلمه إلا الله، إنطلق يا فلان فإن ناقتك بموضع كذا وكذا، قد تعلق زمامها بشجرة، فوجدها كما قال.

16. ومن ذلك: أنه مر على بعير ساقط فتبصبص له فقال: إنه ليشكو شر ولاية أهله له يسأله أن يخرج عنهم، فسأل عن صاحبه فأتاه فقال: بعه وأخرجه عنك، فأناخ البعير يرغو ثم نهض وتبع النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يسألني أن أتولى أمره. فباعه من علي (علیه السلام)، فلم يزل عنده إلى أيام صفين.

17. ومن ذلك: أنه كان في مسجده، إذ أقبل جمل نادٌّ، حتى وضع رأسه في حجره ثم خرخر، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): يزعم هذا أن صاحبه يريد أن ينحره في وليمة على ابنه فجاء يستغيث. فقال رجل: يا رسول الله، هذا لفلان وقد أراد به ذلك. فأرسل إليه وسأله أن لا ينحره، ففعل.

18. ومن ذلك: أنه دعا على مضر فقال: اللهم أشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسنين يوسف، فأصابهم سنون، فأتاه رجل فقال: فوالله ما

ص: 581

أتيتك حتى لا يخطر لنا فحل ولا يتردد منا رائح. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): اللهم دعوتك فأجبتني وسألتك فأعطيتني، اللهم فاسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً سريعاً طبقاً سجالاً، عاجلاً غير ذائب نافعاً غير ضار. فما قام متى ملأ كل شئ ودام عليهم جمعة، فأتوه فقالوا: يا رسول الله انقطعت سبلنا وأسواقنا، فقال النبي (علیه السلام): حوالينا ولا علينا فانجابت السحابة عن المدينة، وصار فيما حولها، وأمطروا شهراً.

19. ومن ذلك: أنه توجه إلى الشام قبل مبعثه مع نفر من قريش، فلما كان بحيال بحيراء الراهب نزلوا بفناء ديره، وكان عالماً بالكتب، وقد كان قرأ في التوراة مرور النبي (صلی الله علیه و آله) به وعرف أوان ذلك، فأمر فدعى إلى طعامه، فأقبل يطلب الصفة في القوم فلم يجدها، فقال: هل بقي في رحالكم أحد؟ فقالوا: غلام يتيم. فقام بحيراء الراهب فاطلع فإذا هو برسول الله (صلی الله علیه و آله) نائم وقد أظلته سحابة، فقال للقوم: أدعوا هذا اليتيم، ففعلوا وبحيراء مشرف عليه وهو يسير، والسحابة قد أظلته، فأخبر القوم بشأنه وأنه سيبعث فيهم رسولاً، ويكون من حاله وأمره، فكان القوم بعد ذلك يهابونه ويجلونه، فلما قدموا أخبروا قريشاً بذلك، وكان عند خديجة بنت خويلد فرغبت في تزويجه وهي سيدة نساء قريش، وقد خطبها كل صنديد ورئيس قد أبتهم، فزوجته نفسها للذي بلغها من خبر بحيراء.

20. ومن ذلك: أنه كان بمكة أيام ألَّبَ عليه قومه وعشائره، فأمر علياً أن يأمر خديجة أن تتخذ له طعاماً ففعلت، ثم أمره أن يدعو له أقرباءه من بني عبدالمطلب، فدعا أربعين رجلاً فقال: هات لهم طعاماً يا علي، فأتاه بثريدة وطعام يأكله الثلاثة والأربعة فقدمه إليهم، وقال: كلوا وسموا، فسمى ولم يُسَمِّ القوم فأكلوا وصدروا شبعى. فقال أبولهب: جاد ما سحركم محمد يطعم من طعام ثلاث رجال أربعين رجلاً! هذا والله هو السحر الذي لا بعده! فقال علي (علیه السلام): ثم أمرني بعد أيام فاتخذت له مثله ودعوتهم بأعيانهم، فطعموا وصدروا.

21. ومن ذلك: أن علي بن أبي طالب (علیه السلام) قال: دخلت السوق فابتعت لحماً بدرهم

ص: 582

وذُرَةً بدرهم، فأتيت به فاطمة (علیها السلام) حتى إذا فرغت من الخبز والطبخ قالت: لو دعوت أبي فأتيته وهو مضطجع وهو يقول: أعوذ بالله من الجوع ضجيعاً. فقلت له: يا رسول الله إن عندنا طعاماً، فقام واتكأ عليَّ ومضينا نحو فاطمة (علیها السلام)، فلما دخلنا قال: هلم طعامك يا فاطمة فقدمت إليه البَرمة والقرص، فغطى القرص وقال: اللهم بارك لنا في طعامنا. ثم قال: أغرفي لعائشة فغرفت، ثم قال: أغرفي لأم سلمة فغرفت، فما زالت تغرف حتى وجهت إلى نسائه التسع قرصة قرصة ومرقاً. ثم قال: أغرفي لأبيك وبعلك ثم قال: أغرفي وكلي واهدي لجاراتك، ففعلت، وبقي عندهم أياماً يأكلون.

22. ومن ذلك: أن امرأة عبدالله بن مسلَّم أتته بشاة مسمومة، ومع النبي (صلی الله علیه و آله) بشر بن البراء بن عازب، فتناول النبي (صلی الله علیه و آله) الذراع وتناول بشر الكراع، فأما النبي (علیه السلام) فلاكها ولفظها وقال: إنها لتخبرني أنها مسمومة.وأما بشر فلاك المضغة وابتلعها فمات، فأرسل إليها فأقرت، وقال: ما حملك على ما فعلت؟ قالت: قتلت زوجي وأشراف قومي فقلت: إن كان ملكاً قتلته وإن كان نبياً فسيطلعه الله تبارك وتعالى على ذلك.

23. ومن ذلك: أن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: رأيت الناس يوم الخندق يحفرون وهم خماص، ورأيت النبي (علیه السلام) يحفر وبطنه خميص، فأتيت أهلي فأخبرتها فقالت: ما عندنا إلا هذه الشاة ومحرز من ذُرَة. قال: فاخبزي، وذبح الشاة وطبخوا شقها وشووا الباقي، حتى إذا أدرك أتى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله اتخذت طعاماً فائتني أنت ومن أحببت، فشبك أصابعه في يده ثم نادى: ألا إن جابراً يدعوكم إلى طعامه. فأتى أهله مذعوراً خجلاً فقال لها: هي الفضيحة قد حفل بهم أجمعين. فقالت: أنت دعوتهم أم هو؟ قال: هو. قالت: فهو أعلم بهم. فلما رآنا أمر بالأنطاع فبُسطت على الشوارع، وأمره أن يجمع التواري يعني قصاعاً كانت من خشب، والجفان، ثم قال: ما عندكم من الطعام؟ فأعلمته،

ص: 583

فقال: غطوا السدانة والبرمة والتنور، واغرفوا، وأخرجوا الخبز واللحم وغطوا! فما زالوا يغرفون وينقلون ولا يرونه ينقص شيئاً حتى شبع القوم، وهم ثلاثة آلاف! ثم أكل جابر وأهله، وأهدوا وبقي عندهم أياماً.

24. ومن ذلك: أن سعد بن عبادة الأنصاري أتاه عشية وهو صائم فدعاه إلى طعامه،ودعا معه علي بن أبي طالب (علیه السلام) فلما أكلوا قال النبي (صلی الله علیه و آله): نبي ووصي، يا سعد أكل طعامك الأبرار، وأفطر عندك الصائمون، وصلت عليكم الملائكة. فحمله سعد على حمار قطوف وألقى عليه قطيفة، فرجع الحمار وإنه لهملاج ما يسايَر.

25. ومن ذلك: أنه أقبل من الحديبية وفي الطريق ماء يخرج من وشل بقدر ما يروي الراكب والراكبين، فقال: من سبقنا إلى الماء فلا يستقين منه. فلما انتهى إليه دعا بقدح فتمضمض فيه ثم صبه في الماء ففاض الماء، فشربوا وملؤوا أدواتهم ومياضيهم وتوضؤوا. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): لئن بقيتم أو بقي منكم، ليتسعن بهذا الوادي بسقي ما بين يديه من كثرة مائه، فوجدوا ذلك كما قال (صلی الله علیه و آله) .

26. ومن ذلك: إخباره عن الغيوب وما كان وما يكون، فوجد ذلك موافقاً لما يقول. ومن ذلك أنه أخبر صبيحة الليلة التي أسري به بما رأى في سفره، فأنكر ذلك بعض وصدقه بعض، فأخبرهم بما رأى من المارة والممتارة، وهيآتهم ومنازلهم وما معهم من الأمتعة، وأنه رأى عيراً أمامها بعير أوْرَق، وأنه يطلع يوم كذا من العقبة مع طلوع الشمس! فغدوا يطلبون تكذيبه للوقت الذي وقته لهم، فلما كانوا هناك طلعت الشمس فقال بعضهم: كذب الساحر، وأبصر آخرون بالعير قد أقبلت يقدمها الأورق، فقالوا: صدق، هذه نِعَمٌ قد أقبلت!

27. ومن ذلك: أنه أقبل من تبوك فجهدوا عطشاً، وبادر الناس إليه يقولون: الماء الماء يا رسول الله. فقال لأبي هريرة: هل معك من الماء شئ؟ قال: كقدر قدح في ميضاتي، قال: هلم ميضاتك فصب ما فيه في قدح ودعا وأوعاه، وقال: ناد: من أراد الماء! فأقبلوا يقولون: الماء يا رسول الله. فما زال يسكب وأبو هريرة يسقي حتى روي

ص: 584

القوم أجمعون، وملؤوا ما معهم، ثم قال لأبي هريرة: إشرب، فقال: بل آخركم شرباً، فشرب رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

28. ومن ذلك: أن أخت عبدالله بن رواحة الأنصاري مرَّت به أيام حفرهم الخندق فقال لها: إلى أين تريدين؟ قالت: إلى عبدالله بهذه التمرات، فقال: هاتيهن، فنثرت في كفه، ثم دعا بالأنطاع وفرقها عليها وغطاها بالأزُر، وقام وصلى، ففاض التمر على الأنطاع ثم نادى: هلموا وكلوا. فأكلوا وشبعوا، وحملوا معهم، ودفع ما بقي إليها!

29. ومن ذلك: أنه كان في سفر فأجهدوا جوعاً فقال: من كان معه زاد فليأتنا به. فأتاه نفر منهم بمقدار صاع، فدعا بالأزر والأنطاع، ثم صفف التمر عليها، ودعا ربه فأكثر الله ذلك التمر، حتى كان أزوادهم إلى المدينة!

30. ومن ذلك: أنه أقبل من بعض أسفاره فأتاه قوم فقالوا: يا رسول الله، إن لنا بئراً إذا كان القيظ اجتمعنا عليها، وإذا كان الشتاء تفرقنا على مياه حولنا، وقد صار من حولنا عدواً لنا فادع الله في بئرنا، فتفل (صلی الله علیه و آله) في بئرهم ففاضت المياه المغيبة فكانوا لا يقدرون أن ينظروا إلى قعرها بعدُ، من كثرة مائها. فبلغ ذلك مسيلمة الكذاب فحاول ذلك في قليب قليل ماؤه، فتفل الأنكد في القليب، فغار ماؤه وصار كالجبوب!

31. ومن ذلك: أن سراقة بن جعشم حين وجهه قريش في طلبه، ناوله نبلاً من كنانته وقال له: ستمر برعاتي فإذا وصلت إليهم فهذا علامتي، أطعم عندهم واشرب، فلما انتهى إليهم أتوه بعنز حائل فمسح (صلی الله علیه و آله) ضرعها فصارت حاملاً ودرت، حتى ملؤوا الإناء وارتووا ارتواءً!

32. ومن ذلك: أنه نزل بأم شريك فأتته بعكة فيها سمن يسير، فأكل هو وأصحابه ثم دعا لها بالبركة، فلم تزل العكة تصب سمناً أيام حياتها!

33. ومن ذلك: أن أم جميل امرأة أبي لهب أتته حين نزلت سورة «تبَّت» ومع

ص: 585

النبي أبوبكر بن أبي قحافة، فقال: يا رسول الله، هذه أم جميل مُحْفَظَة أي مُغضبة تريدك، ومعها حجر تريد أن ترميك به. فقال: إنها لا تراني. فقالت لأبي بكر: أين صاحبك؟ قال: حيث شاء الله. قالت: لقد جئته ولو أراه لرميته، فإنه هجاني واللات والعزى إني لشاعرة! فقال أبوبكر: يا رسول الله لم تَرَك؟ قال: لا، ضرب الله بيني وبينها حجاباً.

34. ومن ذلك: كتابه المهيمن الباهر لعقول الناظرين [القرآن الكريم] مع ما أعطي من الخلال التي إن ذكرناها لطالت.

فقالت اليهود: وكيف لنا أن نعلم أن هذا كما وصفت؟ فقال لهم موسى (علیه السلام): وكيف لنا أن نعلم أن ما تذكرون من آيات موسى على ماتصفون؟

قالوا: علمنا ذلك بنقل البررة الصادقين. قال لهم: فاعلموا صدق ما أنبأتكم به، بخبر طفل لقنه الله من غير تلقين، ولا معرفة عن الناقلين. فقالوا: نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنكم الأئمة القادة والحجج من عند الله على خلقه. فوثب أبوعبدالله (علیه السلام) فقبل بين عينيَّ ثم قال: أنت القائم من بعدي، فلهذا قالت الواقفة، إنه حي وإنه القائم. ثم كساهم أبوعبدالله (علیه السلام) ووهب لهم وانصرفوا مسلمين». انتهى.

أسماء النبي (صلی الله علیه و آله) وألقابه

قال ابن شهرآشوب في المناقب: 1/131: «وأسماؤه في الأخبار: العاقب، وهو الذي يعقب الأنبياء. الماحي،الذي يمحى به الكفر، ويقال تمحى به سيئات من اتبعه، ويقال الذي لا يكون بعده أحد. الحاشر، الذي يحشر الناس على قدميه. والمقفى، الذي قفى النبيين جماعة. الموقف، يوقف الناس بين يدي الله. القثم وهو الكامل الجامع. ومنه: الناشر، والناصح، والوفي، والمطاع، والنجي، والمأمون، والحنيف، والحبيب، والطيب، والسيد، والمقترب، والدافع، والشافع، والمشفع، والحامد، والمحمود، والموجه والمتوكل، والغيث.

وفي التوراة: ميذميذاي: غفور رحيم، وقيل ميد ميداي: محمد، وقيل مود مود.

وفي حكاية أن إسمه فيها مرقوفا، أي المحمود.

ص: 586

وفي الزبور: قليطا مثل أبي القاسم فقالوا بلقيطا، وقالوا فاروق وقالوا محياثا.

وفي الإنجيل: طاب طاب أحمد، ويقال يعني طيب طيب. وفي كتاب شعيا: نور الأمم، ركن المتواضعين، رسول التوبة، رسول البلاء. وفي الصحف: بلقيطا، وفي صحف شيث: طاليثا، وفي صحف إدريس: بهيائيل، وفي صحف إبراهيم: مود مود. وفي السماء الدنيا: المجتبی، وفي الثانية: المرتضى، وفي الثالثة: المزكى، وفي الرابعة: المصطفى، وفي الخامسة: المنتجب، وفي السادسة: المطهر والمجتبى، وفي السابعة: المقرب والحبيب».

ص: 587

الفصل الرابع والثلاثون: المدينة عند هجرة النبی (صلی الله علیه و آله)

1- النبي (صلی الله علیه و آله) يدخل عاصمته ويؤسس المسجد النبوي

في ذكرى الشيعة: 3/116: «قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) المدينة فنزل في علو المدينة، في بني عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ بني النجار فجاؤوا متقلدين بسيوفهم، فجاء معهم حتى ألقى بفناء أبي أيوب».

وفي الكافي: 8/339: «ثم إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما قدم عليه علي (علیه السلام) تحول من قُبا إلى بني سالم بن عوف وعلي (علیه السلام) معه يوم الجمعة مع طلوع الشمس، فخط لهم مسجداً ونصب قبلته، فصلى بهم فيه الجمعة ركعتين وخطب خطبتين.

ثم راح يومه إلى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها وعلي (علیه السلام) معه لا يفارقه يمشي بمشيه، وليس يمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ببطن من بطون الأنصار إلا قاموا إليه يسألونه أن ينزل عليهم فيقول لهم: خلوا سبيل الناقة فإنها مأمورة، فانطلقت به ورسول الله (صلی الله علیه و آله) واضعٌ لها زمامها، حتى انتهت إلى الموضع الذي ترى، وأشار بيده إلى باب مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي يصلي عنده بالجنائز، فوقفت عنده وبركت ووضعت جرانها على الأرض، فنزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأقبل أبوأيوب مبادراً حتى احتمل رحله فأدخله منزله، ونزل رسول الله وعلي (علیه السلام) معه، حتى بني له مسجده، وبنيت له مساكنه ومنزل علي (علیه السلام) فتحولا إلى منازلهما».

وفي المناقب: 1/115: «فبركت على باب أبي أيوب الأنصاري، ولم يكن في المدينة أفقر

ص: 588

منه، فانطلقت قلوب الناس حسرة على مفارقة النبي (صلی الله علیه و آله) فنادى أبوأيوب: يا أماه إفتحي الباب، فقد قدم سيد البشر وأكرم ربيعة ومضر، محمد المصطفى والرسول المجتبى، فخرجت وفتحت الباب وكانت عمياء فقالت: واحسرتا، ليت كان لي عين أبصر بها إلى وجه سيدي رسول الله، فكان أول معجزة النبي (صلی الله علیه و آله) في المدينة أنه وضع كفه على وجه أم أبي أيوب، فانفتحت عيناها»!

أقول: في بعض الروايات أن أم أبي أيوب جاء وأخذت وسائل النبي (صلی الله علیه و آله) ولا يصح ذلك لأن أباأيوب كان موجوداً وكانت أمه عمياء حتى شفاها النبي (صلی الله علیه و آله) . وسنفرد عنواناً لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.

وفي المناقب: 1/159: «فنزل النبي (صلی الله علیه و آله) على كلثوم بن هدم، وكان يخرج فيجلس للناس في بيت سعد بن خيثمة، وكان قيام علي (علیه السلام) بعد النبي (صلی الله علیه و آله) ثلاث ليال، ثم لحق برسول الله (صلی الله علیه و آله) فنزل معه على كلثوم. فأقام النبي (صلی الله علیه و آله) بقبا يوم الإثنين والأربعاء والخميس، وأسس مسجده وصلى يوم الجمعة في المسجد الذي في بطن الوادي وادي رافوقا، فكانت أول صلاة صلاها بالمدينة، ثم أتاه غسان بن مالك وعباس بن عبادة في رجال من بني سالم فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعُدة والمِنعة، فقال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، يعني ناقته.

ثم تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة، فقالا كذلك.

ثم اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو في رجال من بني ساعدة.

ثم اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد وعبدالله بن رواحة في رجال من بني الحارث بن الخزرج. فانطلقت حتى إذا وازت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بني النجار، فلما بركت ورسول الله (صلی الله علیه و آله) لم ينزل، ووثبت فسارت غير بعيد ورسول الله واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت إلى خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت، ثم تجلجلت ورزمت ووضعت جرانها، فنزل عنها رسول الله (صلی الله علیه و آله) . واحتمل أبوأيوب رحله فوضعه في بيته، ونزل النبي (صلی الله علیه و آله) في بيت أبي أيوب،

ص: 589

وسأل عن المربد فأخبر أنه لسهل وسهيل يتيمين لمعاذ بن عفراء فأرضاهما معاذ، وأمر النبي ببناء المسجد، وعمل فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنفسه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار، وأخذ المسلمون يرتجزون وهم يعملون، فقال بعضهم:

لئن قعدنا والنبيُّ يَعْمَلُ *** لَذَاكَ منَّا العملُ المُضَلَّلُ

والنبي (صلی الله علیه و آله) يقول: لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة.

ثم انتقل من بيت أبي أيوب إلى مساكنه التي بنيت له. وقيل كان مدة مقامه بالمدينة إلى أن بني المسجد وبيوته من ربيع الأول إلى صفر من السنة القابلة».

وفي رواية إعلام الورى: 1/154: «أن دخوله إلى المدينة كان يوم الجمعة، وأنه صلى الجمعة في مسجد بني سالم في طريقه، وصلى إلى بيت المقدس، وصلى معه مائة رجل. ثم انتهى إلى عبدالله بن أبي فأخذ عبدالله كُمَّه ووضعه على أنفه من الغبار وقال للنبي (صلی الله علیه و آله): يا هذا إذهب إلى الذين غروك وخدعوك وأتوا بك فانزل عليهم ولاتَغْشَنا في ديارنا! فسلط الله على دورهم الذر فخربها، فصاروا نُزَّالاً على غيرهم، فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله لايعرض في قلبك من قول هذا شئ، فإنا كنا اجتمعنا على أن نملكه علينا وهو يرى الآن أنك قد سلبته أمراً قد كان أشرف عليه، فانزل عليَّ يا رسول الله، فإنه ليس في الخزرج ولا في الأوس أكثر فم بئر مني، ونحن أهل الجَلَد والعِز. فأرخى زمام ناقته ومرت تَخِبُّ به حتى انتهت إلى باب المسجد الذي هو اليوم، فبركت على باب أبي أيوب خالد بن زيد. وكان أبوأيوب له منزل أسفل وفوق المنزل غرفة، فكره أن يعلو رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي العلو أحب إليك أم السُّفل؟ فإني أكره أن أعلو فوقك. فقال (صلی الله علیه و آله): السُّفل أرفق بنا لمن يأتينا.

قال أبوأيوب: فكنا في العلو أنا وأمي، فكنت إذا استقيت الدلو أخاف أن تقع منه قطرة على رسول الله، وكنت أصعد وأمي إلى العلو خفياً من حيث لا يعلم ولا يحس بنا، ولا نتكلم إلا خُفياً، وكان إذا نام (صلی الله علیه و آله) لا نتحرك، وربما طبخنا في غرفتنا فنجيف الباب على غرفتنا مخافة أن يصيب رسول الله (صلی الله علیه و آله) دخان.

ولقد سقطت جرة لنا وأهريق الماء فقامت أم أبي أيوب إلى قطيفة لم يكن لها والله غيرها،

ص: 590

فألقتها على ذلك الماء تستنشف به، مخافة أن يسيل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) من ذلك شئ! وكان يحضر رسولَ الله (صلی الله علیه و آله) المسلمون من الأوس والخزرج والمهاجرين، وكان أبو أمامة أسعد بن زرارة يبعث إليه في كل يوم غداء وعشاء، في قصعة ثريد عليها عراق «قطع لحم» وكان يأكل معه من حوله حتى يشبعوا، ثم تُرَدُّ القصعة كما هي!

وكان سعد بن عبادة يبعث إليه في كل يوم عشاء ويتعشى معه من حضره، وترد القصعة كما هي! فكانوا يتناوبون في بعثة الغداء والعشاء إليه: أسعد بن زرارة، وسعد بن خيثمة، والمنذر بن عمرو، وسعد بن الربيع، وأسيد بن حضير.

وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يصلي في المربد بأصحابه، فقال لأسعد بن زرارة: إشترِ هذا المربد من أصحابه، فساوم اليتيمين عليه فقالا: هو لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال رسول الله: لا إلا بثمن، فاشتراه بعشرة دنانير، وكان فيه ماء مستنقع فأمر به رسول الله فَسُيِّلَ وأمر باللبن فضُرب فبناه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فحفره في الأرض، ثم أمر بالحجارة فنقلت من الحرة، وكان المسلمون ينقلونها فأقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحمل حجراً على بطنه، فاستقبله أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله أعطني أحمله عنك، قال: لا، إذهب فاحمل غيره.

فنقلوا الحجارة ورفعوها من الحفرة حتى بلغ وجه الأرض،ثم بناه أولاً بالسعيدة لبنة لبنة، ثم بناه بالسميط وهو لبنة ونصف، ثم بناه بالأنثى والذكر لبنتين مخالفتين، ورفع حائطه قامة. ثم اشتد عليهم الحر فقالوا: يا رسول الله لو أظللت عليه ظلاً، فرفع أساطينه في مقدم المسجد إلى ما يلي الصحن بالخشب، ثم ظلله وألقى عليه سعف النخل فعاشوا فيه فقالوا: يا رسول الله لو سقفت سقفاً. قال: لا، عريشٌ كعريش موسى، الأمر أعجل من ذلك.

وابتنى رسول الله (صلی الله علیه و آله) منازله ومنازل أصحابه حول المسجد، وخط لأصحابه خططاً فبنوا فيها منازلهم، وكلٌّ شرع منه باباً إلى المسجد، وخطَّ لحمزة وشرع بابه إلى المسجد، وخط لعلي بن أبي طالب مثل ما خط لهم.

وكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد، فنزل عليه جبرئيل فقال:

ص: 591

يامحمد إن الله يأمرك أن تأمر كل من كان له باب إلى المسجد يسده، ولا يكون لأحد باب إلى المسجد إلا لك ولعلي، يحل لعلي فيه ما يحل لك. فغضب أصحابه وغضب حمزة وقال: أنا عمه يأمر بسد بابي ويترك باب ابن أخي وهو أصغر مني! فجاءه فقال (صلی الله علیه و آله): يا عم لاتغضبن من سد بابك وترك باب علي، فوالله ما أنا أمرت بذلك ولكن الله أمر بسد أبوابكم وترك باب علي! فقال: يا رسول الله رضيت وسلمت لله ولرسوله. قال: وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث بني منازله كانت فاطمة (علیها السلام) عنده».

وفي الكافي: 3/295 قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنى مسجده بالسميط، ثم إن المسلمين كثروا فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فزيد فيه فقال: نعم فأمر به فزيد فيه وبناه بالسعيدة. ثم إن المسلمين كثروا فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فزيد فيه فقال: نعم فأمر به فزيد فيه وبنا جداره بالأنثى والذكر، ثم اشتد عليهم الحر فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فظلل، فقال نعم، فأمر به فأقيمت فيه سواري من جذوع النخل، ثم طرحت عليه العوارض والخصف والإذخر،فعاشوا فيه حتى أصابتهم الأمطار فجعل المسجد يَكِفُ عليهم فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فطين، فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا، عريشٌ كعريش موسى (علیه السلام)، فلم يزل كذلك حتى قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) . وكان جداره قبل أن يظلل قامة، فكان إذا كان الفيئ ذراعاً، وهو قدر مريض عنز صلى الظهر، وإذا كان ضعف ذلك صلى العصر.

وقال (علیه السلام): السميط لبنة لبنة، والسعيدة لبنة ونصف، والذكر والأنثى لبنتان مخالفتان. وعن الحلبي قال: سألته كم كان مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ قال: كان ثلاثة آلاف وست مائة ذراع تكسيراً».

وفي الكافي: 5/121: قال روح بن عبدالرحيم: سألت الإمام الصادق (علیه السلام): «عن شراء المصاحف وبيعها؟ فقال: إنما كان يوضع الورق عند المنبر، وكان ما بين المنبر والحائط قدر ما تمر الشاة أو رجلٌ منحرف، قال: فكان الرجل يأتي ويكتب من ذلك، ثم إنهم اشتروا بعد ذلك. قلت: فما ترى في ذلك؟ قال لي: أشتري أحب إليَّ من أن أبيعه. قلت: فما ترى أن أعطي على كتابته أجراً؟ قال: لا بأس، ولكن هكذا كانوا يصنعون».

ص: 592

2- المدينة واحاتٌ زراعية سكنها العرب اليمانيون

قال الحموي في معجم البلدان: 5/82: «سبخةٌ من الأرض، ولها نخيل كثيرةٌ ومياه، ونخيلهم وزروعهم تسقى من الآبار عليها العبيد. وللمدينة سور، والمسجد في نحو وسطها، وقبر النبي (صلی الله علیه و آله) في شرقي المسجد. وبقيع الغرقد خارج المدينة.

وقُباء خارج المدينة على نحو ميلين إلى ما يلي القبلة، وهي شبيهة بالقرية. وأحُدُ جبل في شمال المدينة، وهو أقرب الجبال إليها، مقدار فرسخين. وبقربها مزارع فيها نخيل وضياع لأهل المدينة، ووادي العقيق فيما بينها وبين الفرع، والفرع من المدينة على أربعة أيام في جنوبيها. وكان على المدينة وتهامة في الجاهلية عامل من قبل مرزبان الزارة يجبي خراجها «حاكم القطيف من قبل كسرى- معجم البلدان 3/126» وكانت قريظة والنضير اليهود ملوكاً حتى أخرجهم منها الأوس والخزرج من الأنصار. وكانت الأنصار تؤدي خراجاً إلى اليهود، قال بعضهم:

نؤدي الخرْج بعد خَرَاج كسرى *** وخَرْج بني قريظة والنضير

لما قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) المدينة وثب على أصحابه وباء شديد حتى أهمدتهم الحمى فما كان يصلي مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلا اليسير، فدعا لهم.

ومن خصائص المدينة أنها طيبة الريح، وللعطر فيها فضل رائحة لا توجد في غيرها، وتمرها الصيحاني لا يوجد في بلد من البلدان مثله، ولهم حَبُّ اللبَّان ومنها يحمل إلى سائر البلدان، وجبلها أحد قد فضله رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

وأخبار مدينة رسول الله (صلی الله علیه و آله) كثيرة، وقد صنف فيها وفي عقيقها وأعراضها وجبالهاكتب. وأما المسافات، فإن من المدينة إلى مكة نحو عشر مراحل، ومن الكوفة إلى المدينة نحو عشرين مرحلة، وطريق البصرة إلى المدينة نحو من ثماني عشرة مرحلة، ويلتقي مع طريق الكوفة بقرب معدن النقرة، ومن الرقة إلى المدينة نحو من عشرين مرحلة، ومن البحرين إلى المدينة نحو خمس عشرة مرحلة، ومن دمشق إلى المدينة نحو عشرين مرحلة، ومثله من فلسطين إلى المدينة».

ص: 593

أقول: روت مصادر التاريخ والسيرة أن الأوس والخزرج قبيلة يمانية سكنت في واحة يثرب من زمن الملك تُبَّع الأول، وعرفوا ببني قَيْلَة، وهي أمهم بنت كال بن عذرة، ورووا أن تُبَّعاً الأول كان ملكاً لليمن والحجاز والعراق، وكان يعرف بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) فأسكن فيها يمانيين، وكتب معهم رسالة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) .

ففي المناقب: 1/17، عن كتاب النبوة لابن بابويه عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن تبعاً قال للأوس والخزرج: كونوا هاهنا حتى يخرج هذا النبي، أمَا لو أدركته لخدمته ولخرجت معه». راجع: ابن هشام: 1/10، الطبري: 1/534، العدد القوية/113، عمدة القاري: 4/176 والصحيح من السيرة: 4/91.

أما اليهود فجاؤوا بعد المسيح (علیه السلام) «الكافي 8/310» لانتظار نبي موعود يكون مهاجره المدينة، ثم جحدوه لأنه من أبناء إسماعيل، وأرادوه من أبناء إسحاق!

لكن ابن خلدون قال: 1/356 واليعقوبي: 1/203: «ملكها بنو إسرائيل من أيديهم فيما ملكوه من أرض الحجاز، ثم جاورهم بنو قيلة من غسان وغلبوهم عليها».

ولا يعني ذلك أن المدينة كانت مملكة، بل واحة فيها يهود، وكانت جزءً من الجزيرة واليمن التي يحكمها تُبَّع، فأسكن فيها الأوس والخزرج، فهابهم اليهود وتحالفوا معهم. فلا دليل على أن اليهود كانوا يوماً حاكمين في الجزيرة.

وتدل تبعية المدينة لمرزبان الزارة الفارسي أي حاكم البحرين، على أن الجزيرة العربية كانت مطوقة بنفوذ الفرس، من دولة المناذرة في العراق وحاكم البحرين وحاكم اليمن وكلهم تابعون لكسرى. وإذا صح بيت الشعر المتقدم، فلا بد أن يكون خرج اليهود الذي يدفعه الأنصار بمعنى رباهم، لأنهم كانوا مرابين.

3- عدد سكان المدينة عند هجرة النبي (صلی الله علیه و آله)

كان سكان المدينة لما هاجر النبي (صلی الله علیه و آله) اليها بضعة آلاف نسمة، وروي أن أربعة آلاف أكلوا في وليمة عرس علي وفاطمة (علیهما السلام)، لكن كان معهم أهل ضواحيها.

ففي أمالي الطوسي/42 والمناقب: 3/129، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قال علي (علیه السلام):

ص: 594

وأكل القوم عن آخرهم طعامي وشربوا شرابي ودعوا لي بالبركة، وصدروا وهم أكثر من أربعة آلاف رجل، ولم ينقص من الطعام شئ! ثم دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالصحاف فملئت ووجه بها إلى منازل أزواجه، ثم أخذ صحفة وجعل فيها طعاماً وقال: هذا لفاطمة وبعلها».

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يأمر بعدَّ المسلمين، فعن حذيفة أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمر أن يكتب له كل من تلفظ بالإسلام من أهل المدينة، فكانوا سبع مئة. ابن ماجة: 2/1337.

ثم قال (صلی الله علیه و آله): «أكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس فكتبنا له ألفاً وخمس مائة رجل، فقلنا نخاف ونحن ألف وخمس مائة»! صحيح بخاري: 4/33.

وكان ذلك في السنة الخامسة، أو السادسة. فتح الباري: 6/124.

4- عدد المسلمين المهاجرين إلى المدينة

يعرف عدد المهاجرين من أحاديث مؤاخاة النبي (صلی الله علیه و آله) بين المهاجرين والأنصار، أو بين المهاجرين أنفسهم أوالأنصار أنفسهم. بل يعرف عدد كل المسلمين يومها لأن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يترك أحداً بدون مؤاخاة. الإمتاع: 1/69.

وفي تاريخ دمشق: 42/52: «آخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين المسلمين فقال لعلي: أنت أخي وأنا أخوك، وآخى بين أبي بكر وعمر، وآخى بين المسلمين جميعاً».

وذكر في الصحيح من السيرة: 4/228، أن المهاجرين كانوا في بدر خمسة وأربعين، ثم وصلوا في المدينة إلى مئة وخمسين. ويضاف اليهم أربعة وعشرون من مهاجري الحبشة جاؤوا إلى المدينة: «لما بلغهم أن النبي (صلی الله علیه و آله) هاجر إلى المدينة رجع منهم إلى مكة ثلاثة وثلاثون رجلاً فمات منهم رجلان بمكة، وحبس منهم سبعة وتوجه إلى المدينة أربعة وعشرون رجلاً، فشهدوا بدراً». فتح الباري: 3/60.

5- كيف تم إسكان المسلمين المهاجرين في المدينة

كان استقبال الأنصار للمسلمين المهاجرين فريداً من نوعه، فقد استضافوهم في بيوتهم وفضلوهم على أنفسهم، ثم وهبوا لهم بيوتاً وأراضي وساعدوهم على

ص: 595

بنائها. وقد مدحهم لإيثارهم فقال تعالى: مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَللهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ. لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَءُوا الدَّارَ وَالإيمان مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمان وَلاتَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رُءُوفٌ رَحِيمٌ.

وفي شرح النهج: 6/29، أن عمرو بن العاص ذم الأنصار لموقفهم في السقيفة ضد خلافة أبي بكر وعمر وقال: «ولقد قاتلونا أمس فغلبونا على البدء، ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة». ثم قال شعراً في ذمهم! فجاء خالد بن سعيد بن العاص فغضب للأنصار وشتم عمرو بن العاص وقال: «يا معشر قريش، إن عمراً دخل في الإسلام حين لم يجد بداً من الدخول فيه، فلما لم يستطع أن يكيده بيده كاده بلسانه! وإن من كيده الإسلام تفريقه وقطعه بين المهاجرين والأنصار. والله ما حاربناهم للدين ولا للدنيا، لقد بذلوا دماءهم لله تعالى فينا، وما بذلنا دماءنا لله فيهم، وقاسمونا ديارهم وأموالهم، وما فعلنا مثل ذلك بهم، وآثرونا على الفقر وحرمناهم على الغنى، ولقد وصى رسول الله بهم وعزَّاهم عن جفوة السلطان، فأعوذ بالله أن أكون وإياكم الخلف المضيع والسلطان الجاني».

وفي جامع أحاديث الشيعة: 8/575، من مناظرة المأمون مع الفقهاء:«قال النبي (صلی الله علیه و آله) للأنصار: إن شئتم أخرجتم المهاجرين من دوركم وأموالكم وقسمت لهم هذه الأموال دونكم، وإن شئتم تركتم أموالكم وأقسمت لكم معهم.

قالت الأنصار: بل إقسم لهم دوننا واتركهم معنا في دورنا وأموالنا، فأنزل الله تبارك وتعالى: وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ، يعني يهود قريظة، فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلارِكَابٍ، لأنهم كانوا معهم بالمدينة أقرب من أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب،

ص: 596

ثم قال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ».

وقال البلاذري في الفتوح: 1/5: «وهبت الأنصار لرسول الله (صلی الله علیه و آله) كل فضل كان في خططها وقالوا: يا نبي الله إن شئت فخذ منازلنا! فقال لهم خيراً».

وفي معجم البلدان: 5/86: «كان (صلی الله علیه و آله) يُقطع أصحابه هذه القطائع، فما كان في عفا من الأرض فإنه أقطعهم إياه، وما كان من الخطط المسكونة العامرة فإن الأنصار وهبوه له، فكان يقطع من ذلك ما شاء. وكان أول من وهب له خططه ومنازله حارثة بن النعمان فوهب له ذلك وأقطعه».

وفي فتح الباري: 6/181 «جعلوا للنبي ما لا يبلغه المأمن من أرضهم، فأقطع النبي (صلی الله علیه و آله) من شاء منه».

وقال الطوسي في المبسوط: 3/274: «روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه أقطع الدور بالمدينة». وذكر في مكاتيب الرسول: 1/350 نحو ثلاثين مورداً من إقطاعاته (صلی الله علیه و آله) .

وفي الطبقات: 8/22: «لما قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) المدينة نزل على أبي أيوب سنة أو نحوها، فلما تزوج علي فاطمة قال لعلي: أطلب منزلاً فطلب علي منزلاً فأصابه مستأخراً عن النبي (صلی الله علیه و آله) قليلاً فبنى بها فيه، فجاء النبي (صلی الله علیه و آله) إليها فقال: إني أريد أن أُحَوِّلَك إليَّ، فقالت لرسول الله (صلی الله علیه و آله): فكلم حارثة بن نعمان أن يتحول عني. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قد تحول حارثة عنا قد استحيت منه، فبلغ ذلك حارثة فتحول وجاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تحول فاطمة إليك وهذه منازلي وهي أسقب بيوت بني النجار بك، وإنما أنا ومالي لله ولرسوله! والله يا رسول الله المال الذي تأخذ مني أحب إليَّ من الذي تدع! فقال رسول الله: صدقت، بارك الله عليك، فحولها رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى بيت حارثة».

وفي صحيح بخاري: 4/208، أن رجلاً سأل عبدالله بن عمر عن علي (علیه السلام): «فذكر محاسن عمله قال: هو ذاك بيته أوسط بيوت النبي (صلی الله علیه و آله) ثم قال: لعل ذاك يسوءك؟ قال: أجل! قال فأرغم الله بأنفك»! وفي فتح الباري: 7/59:

ص: 597

«سألت ابن عمر عن علي فقال: أنظر إلى منزله من نبي الله ليس في المسجد غير بيته».

وفي الكافي: 4/555 عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إذا دخلت من باب البقيع فبيت علي صلوات الله عليه على يسارك، قدر ممر عنز من الباب، وهو إلى جانب بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وباباهما جميعاً مقرونان».

وقال في الطبقات: 8/166 يصف بيوت أزواج النبي (صلی الله علیه و آله): «رأيت منازل أزواج رسول الله حين هدمها عمر بن عبدالعزيز وهو أمير المدينة في خلافة الوليد بن عبدالملك، وزادها في المسجد: كانت بيوتاً باللبن ولها حجر من جريد، مطرور بالطين، عددت تسعة أبيات بحجرها، وهي ما بين بيت عائشة إلى الباب الذي يلي باب النبي (صلی الله علیه و آله)».

أقول: كانت حجرة عائشة أبعد الحجر عن بيت النبي (صلی الله علیه و آله)، أما بيت أبي بكر فكان في السنح من جهة أحد، وبيت عمر كان في العوالي من جهة قباء، وهما يبعدان عن المسجد كيلو مترات، ولم يكن بجانب المسجد وبيت النبي (صلی الله علیه و آله) إلا بيت علي (علیه السلام)، وبعض بيوت بني هاشم. وقد بحثنا ذلك في سيرة الإمام الحسن (علیه السلام) من جواهر التاريخ، وأثبتنا أن النبي (صلی الله علیه و آله) دفن في بيته، لا في بيت عائشة.

6- الوضع السياسي العالمي عند تأسيس النبي (صلی الله علیه و آله) لدولته

كانت الدولتان اللتان تحكمان العالم في عهد النبي (صلی الله علیه و آله): فارس والروم. فكان كسرى يحكم قسماً من العراق مباشرة، وقسماً بواسطة المناذرة، وكانت فيه قبائل عربية كبيرة من أشهرها ربيعة، وكانت البحرين ومحيطها تحت حكم كسرى مباشرة أيضاً، يعين لها حاكماً يسمى المرزبان، وأبرز قبائلها عبدالقيس، وبنو تميم، كما كانت اليمن تحت حكم كسرى وفيها حاكم فارسي إلى جنب الملك، من أبناء الذين حرروها من حكم الحبشة مع سيف بن ذي يزن، وكان فيها قبائل قوية عديدة كهمدان وكندة. أما قبائل الحجاز فكانت شبه مستقلة، وأبرزها قريش بسبب ولايتها للكعبة، وأكثرها عدداً تميم وهوازن في نجد.

ص: 598

وقد شمل حكم كسرى مضافاً إلى بلاد فارس وما وراء النهر إلى حدود الصين وروسيا، وقسماً من الهند، وكانت الشام وفلسطين منطقة صراع بين الفرس والروم، وقد غلب عليها الفرس بعد بعثة النبي (صلی الله علیه و آله)، وأخبر القرآن بأن الروم سيغلبونهم بعد بضع سنين فغلبوهم في أذرعات أيام معركة بدر.

وكانت أمبراطورية الروم أوسع، فكانت روما الغربية تحكم أوروبا الغربية والشرقية، وكان قيصر روما الشرقية في القسطنطينية يحكم تركيا وبلاد الشام وفلسطين ومصر والحبشة، ويمد منها نفوذه إلى أفريقيا، كما يمد نفوذه من جهة الشام إلى الجوف، ويطمع أن يُخضع المدينة ويقضي على النبوة.

وكان اليهود عملاء للرومان مع أنهم دمروا دولتهم، وبعضهم عملاء للفرس الذين دمروا دولتهم من قبل، وقد هاجرت قبائل منهم إلى أرض العرب تنتظر النبي الموعود، على أمل أن يكون من أبنائهم!

أما بقية دول العالم فكان أهمها الهند والصين، وكانتا دولتين نائيتين مقفلتين على نفسيهما. أو ممالك صغيرة تحكمها أسر وقبائل.

ص: 599

الفصل الخامس والثلاثون: النبی (صلی الله علیه و آله) يرسي أسس الدولة الإسلامية

1- آخى النبي (صلی الله علیه و آله) بين المسلمين، واتخذ علياً (علیه السلام) أخاً له

اشارة

كانت المؤاخاة مرتين في مكة والمدينة «فتح الباري: 7/210». وربما آخى النبي (صلی الله علیه و آله) بين المسلم وثلاثة فقد آخى بين سلمان الفارسي وأبيذر، وبينه وبين أبي الدرداء.

قال العلامة الحلي في كشف اليقين/208: «قال حذيفة بن اليمان (رحمة الله): آخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين المهاجرين والأنصار، وكان يؤاخي بين الرجل ونظيره، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب (علیه السلام) فقال: هذا أخي. قال حذيفة: فرسول الله (صلی الله علیه و آله) سيد المرسلين وإمام المتقين، ورسول رب العالمين الذي ليس له في الأنام شبيه ولا نظير، وعلي أخوه. والأخبار في ذلك كثيرة، وهذه منزلة شريفة ومقام عظيم، لم يحصل لأحد مثله».

وقال ابن أبي حاتم في الدر النظيم/250: «قال أهل العدل: وجدنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما آخى بين أصحابه ضم كل شكل إلى شكله وكل إنسان إلى مثله، وكل نظير إلى نظيره، فضم أبابكر إلى عمر، وعثمان إلى أبي عبيدة بن الجراح، وطلحة إلى الزبير، وسعد بن أبي وقاص إلى سعيد بن نفيل، وآخى بينهم على هذا المثال. وآخى بينه وبين أميرالمؤمنين (علیه السلام)».

وفي الدر المنثور: 3/205: «عن ابن عباس قال: كان رسول الله آخى بين المسلمين من المهاجرين والأنصار، فآخى بين حمزة بن عبدالمطلب وبين زيد بن حارثة، وبين عمر بن الخطاب ومعاذ بن عفراء، وبين الزبير بن العوام وعبدالله بن مسعود وبين أبي بكر وطلحة،

ص: 600

وبين عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وقال لسائر أصحابه: تآخوا، وهذا أخي. يعني علي بن أبي طالب».

أما وقت المؤاخاة، فقيل بعد الهجرة بثمانية أشهر وقيل بخمسة، والصحيح أنها في ثاني عشر شهر رمضان في السنة الأولى لهجرة النبي (صلی الله علیه و آله) عند نزول قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.ففي كتاب مسارِّ الشيعة للصدوق (رحمة الله) /7 وفي طبعة/32: «وفي الثاني عشر نزل الإنجيل على عيسى بن مريم، وهو يوم المؤاخاة التي آخى فيه بين أصحابه، وآخى بينه وبين علي (علیه السلام)».

وفي أمالي الطوسي/587: «عن عبدالله بن عباس قال: لما نزلت: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، آخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين المسلمين، فآخى بين أبي بكر وعمر، وبين عثمان وعبدالرحمن، وبين فلان وفلان، حتى آخى بين أصحابه أجمعهم، على قدر منازلهم، ثم قال لعلي بن أبي طالب (علیه السلام): أنت أخي وأنا أخوك».

وروى الجميع مؤاخاة النبي (صلی الله علیه و آله) بينه وبين علي (علیه السلام)، ومن ذلك:

ما رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق: 42/53: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما آخى بين المسلمين أخذ بيد علي فوضعها على صدره، ثم قال: يا علي أنت أخي وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. أما تعلم أن أول من يدعى به يوم القيامة يدعى بي فأقام عن يمين العرش في ظلة فأكسى حلة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعى بأبيك إبراهيم فيقام عن يمين العرش فيكسى حلة خضراء من حلل الجنة.

ثم يدعى بالنبيين والمرسلين بعضهم على إثر بعض فيقومون سماطين فيكسون حللاً خضرا من حلل الجنة.وأنا أخبرك يا علي أنه أول من يدعى بي من أمتي يدعى بك لقرابتك مني ومنزلتك عندي، فيدفع إليك لوائي وهو لواء الحمد، يستبشر به آدم وجميع من خلق الله عزوجل من الأنبياء والمرسلين،فيستظلون بظل لوائي، فتسير باللواء بين السماطين الحسن بن علي عن يمينك والحسين عن يسارك، حتى تقف بيني وبين إبراهيم في ظل العرش، فتكسى حلة خضراء من حلل الجنة فينادي مناد من عند العرش: يا محمد نعم الأب أبوك إبراهيم، ونعم الأخ

ص: 601

أخوك وهو علي. يا علي إنك تدعى إذا دعيت، وتحيا إذا حييت، وتكسى إذا كسيت».

هذا، وفي مؤاخاة النبي (صلی الله علیه و آله) بين المسلمين وبينه وبين علي (علیه السلام)، بحوث مهمة.

أسماء الذين آخى بينهم النبي (صلی الله علیه و آله)

قال ابن هشام: 2/351: «آخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال، فيما بلغنا ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل: تآخوا في الله أخوين أخوين، وأخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: هذا أخي، فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) سيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين، الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد وعلي بن أبي طالب رضيالله عنه، أخوين.

وكان حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله وعم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وزيد بن حارثة مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخوين.. وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين الطيار في الجنة، ومعاذ بن جبل أخو بني سلمة، أخوين.

وكان أبوبكر الصديق.. وخارجة بن زيد... أخوين.

وعمر بن الخطاب.. وعتبان بن مالك..أخوين. وأبو عبيدة بن عبدالله بن الجراح.. وسعد بن معاذ بن النعمان.. أخوين. وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع.. أخوين. والزبير بن العوام، وسلمة بن سلامة بن وقش..أخوين. وعثمان بن عفان، وأوس بن ثابت بن المنذر.. أخوين.

وطلحة بن عبيدالله، وكعب بن مالك..أخوين.

وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وأبى بن كعب.. أخوين.

ومصعب بن عمير بن هاشم، وأبوأيوب خالد بن زيد.. أخوين.

وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعباد بن بشر بن وقش.. أخوين.

وعمار بن ياسر.. وحذيفة بن اليمان.. أخوين.

وأبوذر.. والمنذر بن عمرو.. أخوين..

وكان حاطب بن أبي بلتعة.. وعويم بن ساعدة.. أخوين.

ص: 602

وسلمان الفارسي، وأبو الدرداء عويمر بن ثعلبة.. أخوين.

وبلال.. مؤذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأبو رويحة.. أخوين.

فهؤلاء من سميَ لنا ممن كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) آخى بينهم من أصحابه».

وقال ابن عبد ربه في الدرر/90: «والصحيح عند أهل السير والعلم بالآثار والخبر في المؤاخاة التي عقدها رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين المهاجرين والأنصار في حين قدومه إلى المدينة، أنه آخى بين أبي بكر الصديق وخارجة بن زيد بن أبي زهير، وبين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك، وبين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت بن المنذر أخي حسان بن ثابت، وآخى بين علي بن أبي طالب وبين نفسه (صلی الله علیه و آله) فقال له: أنت أخي في الدنيا والآخرة.. وآخى بين جعفر بن أبي طالب وهو بأرض الحبشة ومعاذ بن جبل. وبين عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع. وبين الزبير وسلمة بن سلامة بن وقش. وبين طلحة وكعب بن مالك. وبين أبي عبيدة وسعد بن معاذ. وبين سعد ومحمد بن مسلمة. وبين سعيد بن زيد وأبي بن كعب. وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب، وبين عمار وحذيفة بن اليمان حليف بني عبدالأشهل، وقد قيل بين عمار وثابت بن قيس. وبين أبي حذيفة بن عتبة وعباد بن بشر. وبين أبيذر والمنذر بن عمرو. وبين ابن مسعود وسهل بن حنيف. وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء. وبين بلال وأبي رويحة الخثعمي حليف الأنصار. وبين حاطب بين أبي بلتعة وعويم بن ساعدة. وبين عبدالله بن جحش وعاصم بن ثابت. وبين عبيدة بن الحارث وعمير بن الحمام. وبين الطفيل بن الحارث أخيه وسفيان بن بشر بن زيد من بني جشم بن الحارث بن الخزرج. وبين الحصين بن الحارث أخيهما وعبدالله بن جبير. وبين عثمان بن مظعون والعباس بن عبادة...وآخى رسول الله بينه «أوس بن ثابت» وبين عثمان بن عفان».

وهذه نصوص في المؤاخاة، وطبيعي أن يكون بعضها ضعيفاً وبعضها مكذوباً:

«فآخى بين أبي بكر وعمر وبين طلحة والزبير، وبين عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف». الطبقات: 3/174 والإكمال/177.

«آخى بين عويم وعمر». تاريخ بخاري: 1/69.

ص: 603

«آخى بين عويم بن ساعدة وحاطب بن أبي بلتعة». الطبقات: 3/459.

«آخى بين أبي بكر وخارجة بن زيد الخزرجي». تاريخ دمشق:30/94.

«آخى بين الزبير وطلحة..آخى بين الزبير وبين كعب بن مالك». الطبقات: 3/102 .

«وآخى النبي (صلی الله علیه و آله) بينه «الزبير» وبين سعد بن معاذ». تهذيب التهذيب: 6/25.

«آخى بين الزبير وبين عبدالله بن مسعود». تاريخ دمشق: 33/76 وسيرالذهبي: 1/467.

«آخى بينه «الزبير»وبين سلمة بن سلامة بن وقش». أسد الغابة: 2/196.

«آخى بين الزبير وبين عبدالله بن مسعود». تاريخ بغداد: 9 /57.

«وآخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين عبدالله بن مسعود ومعاذ بن جبل». الطبقات:3/152.

«وآخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين جعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل». الطبقات: 4/35والإصابة: 1/592.

«آخى بين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت». العثمانية/161.

«وآخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين أبي سبرة بن أبي رهم وبين سلمة بن سلامة بن وقش». الطبقات: 3/402.

«آخى بين عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص.الطبقات: 3/125.

فآخى بينه «ابن عوف» وبين سعد بن الربيع الأنصاري».الإصابة:4/290، صحيح بخاري: 4/222، الآحاد والمثاني: 3/388.

«آخى رسول الله بين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص».الطبقات: 3/120.

«وآخى بين مصعب بن عمير وأبي أيوب الأنصاري، ويقال ذكوان بن عبد قيس». الطبقات: 3/120.

«وآخى رسول الله بين أبي أيوب ومصعب بن عمير».الطبقات: 3/484، والإصابة: 2/200.

«دعا سعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر...ثم آخى بينهما». الآحاد والمثاني: 5/171.

«آخى بين عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان». عمدة القاري: 1/197ذيل الطبري/14.

«آخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء...آخى بين سلمان وحذيفة». الطبقات: 4/84 وتاريخ دمشق: 21/440.

ص: 604

«وآخى بين أبي الدرداء وعوف بن مالك الأشجعي». الطبقات: 4/280.

«آخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين أصحابه بين سلمان وأبي الدرداء. وآخى بين عوف بن مالك وصعب بن جثامة».تاريخ دمشق: 47/48، الآحاد والمثاني: 5/171.

«عن الصادق (علیه السلام): إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) آخى بين سلمان وأبيذر، واشترط على أبيذر أن لا يعصي سلمان». الفوائد الرجالية: 2/149 والصحيح من السيرة: 4/244.

«آخى بين عوف بن مالك والصعب بن جثامة». تاريخ دمشق: 47/48.

«آخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بينه «المنذر بن عمرو» وبين أبيذر الغفاري». الإستيعاب: 3/1449.

«وآخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين المنذر بن عمرو وطليب بن عمير». الطبقات: 3/555.

«وآخى رسول الله بين طليب بن عمير والمنكدر بن عمرو».تاريخ دمشق: 25/143.

«وآخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بينه «سالم مولى أبي حذيفة» و أبي بكر». تأويل ابن قتيبة/285.

«وآخى رسول الله بينه «سالم» وبين معاذ بن ماعص الأنصاري». الطبقات: 3/88.

«وآخى بين معاذ بن ماعص وسالم مولى أبي حذيفة». الطبقات: 3/595.

«آخى بين أبي الهيثم بن التيهان وعثمان بن مظعون». الحاكم:3/286،

«وآخى رسول الله بين الحارثة بن سراقة والسائب بن عثمان بن مظعون». الطبقات:3/510.

«وآخى رسول الله بين السائب بن عثمان وبين حارثة بن سراقة الأنصاري». الطبقات:3/403.

«وآخى رسول الله بين عبدالله بن مظعون وسهل بن عبيدالله بن المعلى الأنصاري» الطبقات: 3/400، الإستيعاب: 2/810 والإصابة: 7/365.

«وآخى رسول الله بين أسيد بن حضير وزيد بن حارثة». الحاكم: 3/387.

«آخى بين حمزة وزيد بن حارثة». الطبقات: 8/159 وتاريخ دمشق: 19/361.

«آخى رسول الله بين عامر بن ربيعة ويزيد بن المنذر بن شريح الأنصاري». الحاكم: 3/358،الطبقات: 3/387 و 3/575 والإستيعاب: 4/1580.

«آخى رسول الله بين خباب وبين جبر بن عتيك». الحاكم: 3/382 والطبقات: 3/166.

ص: 605

«وآخى رسول الله بينه «محمد بن مسلمة» وبين أبي عبيدة بن الجراح». الحاكم:3/333، الطبقات: 3/410 و443، تاريخ دمشق: 55/260 والإصابة: 6/28.

«وآخى رسول الله بينه «شجاع بن وهب» وبين أوس بن خولي». الطبقات: 3/94 و542 والإستيعاب: 2/707.

«وآخى رسول الله بين عمير بن عبد عمرو الخزاعي وبين يزيد بن الحارث بن فسحم». الطبقات: 3/168 و534.

«وآخى رسول الله بين مسعود بن الربيع القاري وبين عبيد بن التيهان». الطبقات: 3/168، الإستيعاب: 3/1392 والإصابة: 6/77.

«وآخى رسول الله بين زيد بن الخطاب ومعن بن عدي بن العجلان». الطبقات:3/377.

«وآخى رسول الله بين عاقل بن أبي البكير وبين مبشر بن عبدالمنذر». الطبقات: 3/388و553.

«آخى رسول الله بين خنيس بن حذافة وأبي عبس بن جبر».الطبقات: 3/393 و450.

«وآخى رسول الله بين معمر بن الحارث ومعاذ بن عفراء». الطبقات: 3/401 و492.

«وآخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين عبدالله بن مخرمة وفروة بن عمرو بن وذفة». الطبقات 3/404 و599.

«وآخى رسول الله بينه «المنذر أبا عبدة» وبين الطفيل بن الحارث بن المطلب». الطبقات: 3/377.

«آخى بين الطفيل بن الحارث وسفيان بن نسر بن عمرو بن الحارث». الطبقات: 3/52، و421.

«وآخى رسول الله بين وهب بن سعد وسويد بن عمرو». الطبقات: 3/407.

«وآخى رسول الله بين الحارث بن خزمة وإياس بن أبي البكير». الطبقات: 3/447.

«آخى رسول الله بين عباد بن بشر وبين أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة». الطبقات: 3/440.

«آخى رسول الله بين صفوان بن بيضاء ورافع بن المعلى».الطبقات: 3/416 و601.

«آخى رسول الله بين رافع بن عنجدة والحصين بن الحارث بن المطلب». الطبقات: 3/461.

«آخى رسول الله بين ثعلبة بن حاطب ومعتب بن الحمراء».الطبقات: 3/460.

«وآخى رسول الله بين عاصم بن ثابت و عبدالله بن جحش».الطبقات: 3/462.

«آخى رسول الله بين عمارة بن حزم ومحرز بن نضلة». الطبقات: 3/486.

ص: 606

«وآخى رسول الله بين عبادة بن الصامت وأبي مرثد الغنوي». الطبقات: 3/546 .

«آخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين أبي دجانة وعتبة بن غزوان». الطبقات: 3/556.

«آخى رسول الله بين عمير بن الحمام وعبيدة بن الحارث». الطبقات: 3/565.

«وآخى بين بشر بن البراء بن معرور وبين واقد بن عبدالله التميمي». الطبقات: 3/570.

«آخى رسول الله بينه «واقد بن عبدالله»وبين بشربن البراء بن معرور».الإستيعاب: 4/1550.

«وآخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين جبار بن صخر والمقداد بن عمرو». الطبقات: 3/576.

«آخى رسول الله بينه «أحمد بن سلمة السلمي» وبين المقداد». الإستيعاب: 1/228.

«آخى رسول الله بين عائذ بن ماعص وسويبط بن عمرو العبدري». الطبقات:3/595.

«آخى بين بلال وبين أبي رويحة الخثعمي». الطبقات: 3/233وتاريخ دمشق: 66/234.

«آخى بين أبي بن كعب وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل». الطبقات:3/498.

«آخى بين المقداد بن عمرو وعبدالله بن رواحة». تاريخ دمشق: 60/157.

«آخى بين الحارث بن الصمة وصهيب». تاريخ الذهبي: 2/252.

«آخى بينه «زيد بن الدثنة الأنصاري»وبين مسطح بن أثانة».الوافي: 15/28.

ومن مكذوباتهم أن النبي (صلی الله علیه و آله) آخى بين نوفل بن الحارث والعباس. الطبقات: 4/46. مع أن العباس لم يهاجر، وخرج في بدر مع المشركين وأخذ أسيراً.

وكذا روايتهم بأنه (صلی الله علیه و آله) آخى بين علي (علیه السلام) وعثمان، وأن عثمان طالب بها علياً (علیه السلام)!

2- النبي (صلی الله علیه و آله) يرسي ميثاق الدولة الإسلامية ويحدد دستورها

اشارة

نورد هنا خلاصة لما كتبه المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه القيم: «حقوق الإنسان عند أهل بيت النبوة والفكر المعاصر»:

«عندما وصل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى إقليم الدولة ومقر المجتمع الجديد، آخى بين الأنصار ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، وآخى مرة ثانية بينه وبين الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فأصبح المسلمون «المهاجرون والأنصار» كعائلة واحدة تربطهم وشائج الإسلام والإيمان وأخوته، وأصبح النبي (صلی الله علیه و آله) ولي هذه العائلة مجتمعة بالنص الشرعي، علاوة على رئاسته العامة لكل مواطني يثرب، من أتباع الديانات الأخرى..

ص: 607

أ- التعاقد بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين المسلمين

تم التعاقد الفعلي والقانوني بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) بصفته الولي، أو السلطة، أو القيادة المختارة إلهياً لقيادة المجتمع الجديد، وبصفته أيضاً المتلقي للشريعة الإلهية والمؤتمن على تطبيق أحكامها في المجتمع الجديد، وبين المسلمين كأعضاء في المجتمع الجديد. وقد حرص رسول الله (صلی الله علیه و آله) على أن يتم الدخول في الإسلام والإنتماء إلى المجتمع الجديد بموجب عقد حقيقي مع كل واحد يريد الدخول في الإسلام والإنتماء لمجتمعه الجديد، وأن يكون من بنود العقد القبول بقيادة الرسول للمجتمع، والقبول بطبيعة أحكام الشريعة الإلهية باعتبار أن «قيادة الرسول وتطبيق الشريعة الإلهية» الضمانة العملية لحماية الإنسان وتمكينه من ممارسة حقوقه كاملة غير منقوصة.

فلم يرو راوٍ قط أن رجلاً أو أنثى دخل في الإسلام دون أن يبايع رسول الله، فكل رجل كان يضع يده بيد الرسول كناية عن تمام التعاقد، وكل أنثى كانت تبايع الرسول بالصيغة والشكل الذي حدده الرسول (صلی الله علیه و آله) ... تلك حقيقة مطلقة لايملك أحد إنكارها، فالبيعة بين الطرفين كناية عن تمام التعاقد حسب الأعراف والأطر القانونية التي كانت سائدة آنذاك، وكانت كل بيعة تتم بالرضا والطواعية التامين، وبدون إكراه أو ضغط..

ب- التعاقد لتحديد إقليم الدولة ومكان المجتمع الجديد

وقع الإختيار الإلهي على مدينة يثرب «المدينة المنورة» لتكون المكان الذي تقام فيه نواة المجتمع الجديد، ومقر الدولة الإسلامية المباركة الجديدة، وكلف الله نبيه أن يترجم هذه التوجيهات الإلهية، فالتقى بعد أداء مناسك الحج بوفد مسلمي المدينة المنورة المكون من73 رجلاً وامرأتين، والذي كان يرأسه أسعد بن زرارة، واتفق هذا الوفد المفوض مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتعاقد معه على ما يلي:

1. أن يهاجر رسول الله وأهل بيته (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة المنورة.

2. أن يقوم الأنصار متكافلين ومتضامنين بحماية رسول الله وأهل بيته (صلی الله علیه و آله) كما يحمي كل واحد منهم نفسه ونساءه وأولاده.

ص: 608

3. أن تتاج الفرصة لمن يرغب من مسلمي مكة بالهجرة إلى المدينة والإنتماء إلى المجتمع الجديد، وأن يتولى الأنصار احتضان المهاجرين كأخوة لهم.

4. أن لايترك رسول الله المدينة المنورة عندما تعلو كلمة الله ويظهر أمره.

وبعد الإتفاق على المضمون الآنف لهذا العقد قام أعضاء الوفد والمرأتان بمبايعة رسول الله (صلی الله علیه و آله) على ذلك فرداً فرداً، كناية عن تمام العقد وإبرامه...

ج- التعاقد مع أتباع الديانات المقيمين في المدينة

بوصول النبي والمهاجرين إلى المدينة المنورة تكونت كل مقومات الدولة:

1. السلطة: المكونة من الإمام وهو رسول الله وأهل شوراه أو حكومته الفعلية.

2. الإقليم: وهو منطقة يثرب أو المدينة المنورة وما حولها.

3.الشعب: من خلال البيعة العامة لرسول الله، عندما استقر في المدينة تكوَّن شعب الدولة الإسلامية وتحدد عملياً من:

1. المسلمين: وهم أمة واحدة من دون الناس، ويتألفون من: المهاجرين والأنصار الأوس والخزرج ومواليهم.

2. اليهود المتحالفين مع قبائل الأوس والخزرج، وهم يهود بني النجار، ويهود بني الحارث، ويهود بني ساعدة، ويهود بني جشم، وبني الأوس، وبني ثعلبة.

3. من قبائل اليهود التي تعيش في أحياء خاصة بها حول المدينة.

4. ممن بقي على الشرك من الأعراب المتواجدين داخل المدينة وحولها.

وكان المسلمون يعرفون الشريعة الإلهية كقانون نافذ في المجتمع، ويرتبطون مع الرسول دائماً في الصلاة يومياً، أو مرة واحدة في الأسبوع على الأقل.

أما العناصر الأخرى في مجتمع الدولة الإسلامية من أتباع الديانات الأخرى غير الإسلام، فهي لاتعرف الحلال من الحرام، وبتعبير آخر فهي تجهل القانون النافذ في المجتمع الجديد الذي بدأت الدولة الإسلامية بتطبيقه، ولم ترتبط مع النبي بأي عقد. صحيح أن الكلمة العليا والقول الفصل في هذا المجتمع للنبي (صلی الله علیه و آله) وأن هذه العناصر قد استقبلته عند وصوله إلى يثرب، وعبرت عن ترحيبها وفرحتها

ص: 609

بقدومه، لكنه (صلی الله علیه و آله) لم ير من المناسب أن يمتد سلطان دولته إلى هذه العناصر دون رضاها والتعاقد معها.

لذلك وضع صحيفة تنظيمية بمثابة ملحق دستوري لتنظيم العلاقة بين أفراد المجتمع الجديد وفئاته، ليعرفوا حدودهم فلا يتجاوزوها، وتتكرس فكرة سيادة الشريعة الإسلامية على الأمة المسلمة، وسيادة القانون.

د- تكييف هذا العقد

وهذا الملحق الدستوري عبارة عن كتاب من محمد (صلی الله علیه و آله): 1- للمؤمنين.

2- لكافة فئات مجتمع المدينة. 3- لمن تبعهم. 4- لمن لحق بهم. 5- لمن جاهد معهم.

ولا تثريب على النبي (صلی الله علیه و آله) لو قدم هذا الملحق كمواد نافذة على جميع المنتمين إلى المجتمع الجديد، لكن روح الإسلام القائمة على الرضا والقبول، وخُلُق النبي الرحيم اقتضت أن يكون بمثابة عقد خاص يشمل كل المسلمين الذين بايعوه، وتعاقدوا معه بدخولهم في الإسلام.

ثم إن هذا الملحق الدستوري...عقدٌ حقيقي نظمه النبي (صلی الله علیه و آله) ووافق عليه أتباع الديانات الأخرى داخل المجتمع الجديد، الذين تربطهم بالأوس والخزرج علاقات القربى والموالاة. ويدل على ذلك المادة التي نصت على أن رسول الله هو المخول والمختص بفصل النزاعات الناتجة عن تطبيق هذه الصحيفة.

ه- الخطوط العريضة لهذا الملحق أو العقد التنظيمي

1. المؤمنون والمسملون من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم أمة من دون الناس.

2. قريش عدوة للمجتمع اليثربي لا تُجَارُ أبداً.

3. يشترك اليهود بالنفقات الحربية ويقتسمون الغنائم.

4. يثرب للجميع وهي محرمة لايقطع شجرها ولا يقتل طيرها ولايروع ساكنها.

5. دين الدولة الجديدة هو الإسلام، ورئيس الدولة هو محمد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وهو مختص بفصل النزاعات التي تنشأ في المجتمع الجديد.

ص: 610

6. المجرم عدو للمجتمع لايجوز إيواؤه. والقاتل يقتل، ويتعاون الجميع على تنفيذ الحكم عليه ولو كان ابن أحدهم.

7. الجريمة شخصية لا يسأل غير مقترفها، والمجتمع كله ضد البغي.

8. جار الإنسان كنفسه لا يضارّ.

9. المجتمع مع المظلوم ضد الظالم.

10. لا تجار المرأة إلا بإذن أهلها.

11. من خرج من المدينة فهو آمن، ومن قعد في بيته فهو آمن.

12. وحتى يضمن الأمن لليهود ومنهم وضعت مادة: لا يجوز لأي يهودي أن يخرج من المدينة إلا بإذن محمد.

13. على المسلمين سداد دين الغارم منهم.

14. اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

15. يهود بني عون أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وكذلك يهود بني الحارث، وبني النجار، وبني ساعدة، وبني جشم، وبني الأوس، وبني ثعلبة وبطانة الجميع كأنفسهم.

16. الله ومحمد جارٌ لمن بَرَّ واتقى، ومن ظلم فلا أمن له.

وقد تألف هذا العقد أو الملحق من47 بنداً تعاقدياً، وكرس البند التعاقدي رقم 21 الشريعة الإسلامية كقانون أعلى نافذ في المجتمع، كما كرس بوضوح تام رئاسة محمد للدولة والمجتمع، بإعطائه الحق بفصل النزاعات والخصومات...

وهذه عقود حقيقية تمت بين السلطة وأعضاء المجتمع، وبين أعضاء المجتمع أنفسهم، وليست عقوداً افتراضية كالتي تصورها روسو!

ونقول بكل موضوعية: إن مثل هذه التعاقدات سابقة إنسانية، ليس لها مثيل في التاريخ البشري..

كل هذه الأسباب دعت النبي (صلی الله علیه و آله) لاعتبار المدينة المنوّرة وطناً للجميع بما فيهم اليهود، واعترف بالتحالفات القبلية السابقة لقدومه وتركها على حالها،

ص: 611

وأعطى تشكيلات المجتمع الحرية بإدارة شؤونها، وعند اختلافها فهو المرجع لحل هذه الإختلافات، وظهر اليهود بمظهر الموالين للنبي (صلی الله علیه و آله) والترتيبات التي أعلنها، وقبلوا بالملحق الدستوري بدليل أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يذكرهم بالعقد كلما هموا بالخروج عليه». انتهى.

3- هل كانت حروب النبي (صلی الله علیه و آله) دفاعية أم هجومية؟

كان مجتمع المدينة مجتمعاً مقاتلاً، لأن المسلمين كانوا مستهدفين.

قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) «أمالي الطوسي/ 174»: «فلما آووا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه ونصروا الله ودينه، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وتحالفت عليهم اليهود وغزتهم القبائل قبيلة بعد قبيلة، فتجردوا للدين وقطعوا ما بينهم وبين العرب من الحبائل، وما بينهم وبين اليهود من العهود، ونصبوا لأهل نجد وتهامة، وأهل مكة واليمامة، وأهل الحزَن وأهل السهل قناة الدين والصبر، تحت حماس الجِلَاد».

وفي سيرة ابن إسحاق: 2/154: «فمكث رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة عشر سنين بعدما أوحى إليه، خائفاً هو وأصحابه، يدعون الله عزوجل سراً وعلانية، ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة وكانوا بها خائفين يمسون ويصبحون في السلاح، فقال رجل من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا رسول الله أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال رسول الله: لن تعبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم، ليس فيه حديد».

قالوا: لهذا، فإن حروب النبي (صلی الله علیه و آله) كانت دفاعاً عن كيانهم ووجودهم، أو وقاية من اعتداء متوقع. وقد تبنى هذا التحليل الكُتَّاب المسلمون المعاصرون، دفاعاً عن الإسلام ونبيه (صلی الله علیه و آله) ورداً على الغربيين الذين اتهموا الإسلام بأنه دين توسعي دموي، يتبنى القتال باسم الجهاد، وأنه انتشر بالقوة في جزيرة العرب، ثم في البلاد التي هاجمها وفتحها.

كما اتهم الغربيون نظام الحكم الإسلامي بأنه نظام ديكتاتوري «ثيوقراطي» يعطي الخليفة صلاحيات مطلقة، ويقمع الرأي المخالف له بإسم الله تعالى.

فأجابهم الكتَّاب المسلمون بأن نظام الحكم الإسلامي يقوم على الشورى، وحاولوا أن يجدوا تطبيقاً للشورى في السقيفة وغيرها، فلم يوفقوا!

ص: 612

4- حقائق غابت عن المُتَّهمين والمدافعين

استند المنتقدون للإسلام على العاطفة والدعاية ضد الإسلام، وأجابهم بعض المسلمين بالقول إن جميع حروب النبي (صلی الله علیه و آله) دفاعية واحتج ببعضها، وبآية: لا إكراه في الدين، وجوابهم أن آيات فريضة الجهاد صريحة في تشريع القتال للدفاع والهجوم، وكذا ما دوَّنه الفقهاء في أبواب الجهاد في مصادر الفقه، كالكافي: 5/13، مبسوط الطوسي: 2/2، الجواهر: 21/3، المجموع: 19/265 والمغني: 10/364.

والجواب الحقوقي في هذه المسائل: أن المالك المطلق للأرض والكون وكل المخلوقات هو الله تعالى، فهو خالقها وصاحبها ومديرها عزوجل، وهو الذي يملك جميع الحقوق القانونية، وكل ملكية وصلاحية لمخلوقاته من ملائكة وبشر وغيرهم، لا بد أن تكون بتمليكه وإعطائه. وبما أنه عزوجل عادل حكيم، فهو لايعطي حق دعوة الناس وحكمهم إلا للمطهرين المعصومين من أنبيائه وأوصيائه:.

1- قال الله تعالى في بيان خلقه وملكيته المطلقة للكون: «ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَايَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ».

«قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرض وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ».

«إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لايَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ».

2- وقال تعالى في تسليط رسله:: «وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلارِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ».

3- وقال تعالى في الإذن لرسوله وأوصيائه:: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُوا الصَّلَوةَ وَآتَوُا

ص: 613

الزَّكَوةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ». الحج: 39-41.

4- وقال تعالى يأمر المؤمنين بالقتال بقيادة نبيه وأوصيائه المعصومين(علیهم السلام): «قَاتِلُوا الَّذِينَ لايُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا. الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا». النساء: 75-76.

وقد حصرت أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) المأذون لهم بالدعوة والقتال بالمعصومين الذين اختارهم الله تعالى وهم النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) «تهذيب الأحكام: 6/131» ولا تشمل الذين اختارهم الناس، أو فرضوا حكمهم بقوة السلاح.

لذلك كتب فقهاء مذهبنا بحوثاً فقهية مفصلة في حق الحكم في عصر غيبة النبي والإمام:، وهل يكون بالشورى ويتم تطبيقه بالإنتخابات المعروفة، أم هو حق للمعصوم فقط، فإن غاب فالناس في حالة فراغ، والحكم غير شرعي، والمؤمنون يتعايشون مع الحكومات الموجودة، ويعملون لتحسين أدائها وتقليل ظلمها. وقال القليل منهم إن حق الحكم للناس لمن ينتخبونه ضمن الشروط الشرعية، وإن لم يصح وصفه بأنه خليفة للنبي (صلی الله علیه و آله) .

وقال بعضهم كالسيد الخميني (رحمة الله) إن الحكم في عصر الغيبة للفقيه الجامع للشرائط «المرجع أو المجتهد» وله الولاية المطلقة على الناس شبيهاً بالمعصوم (علیه السلام)، لكنه (رحمة الله) قبل بنظام يعتمد الانتخابات، بشرط أن يمضي نتيجتها الفقيه ولي الأمر.

وأما فقهاء مذاهب السلطة فقالوا يجب على المسلمين أن يبايعوا حاكماً ويصير خليفة شرعياً للنبي (صلی الله علیه و آله) بمجرد أن يصفق على يده بالبيعة شخص واحد، فيجب على الباقين بيعته، ويجوز إجبارهم بالسيف عليها! فإن قام ضده أحد وجب قتاله لأنه باغ معتد بخروجه على الإمام، لكن إذا غلب الباغي تحول إلى خليفة شرعي ووجبت بيعته! وبهذا تكون الشرعية عندهم لمن غلب وتسلط، ويكون الله تعالى مع من غلب!

ص: 614

5- أذن الله لرسوله (صلی الله علیه و آله) بقتال المشركين

في الكافي: 8/341، بسند صحيح عن ابن المسيب، عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) قال: «لما ماتت خديجة قبل الهجرة بسنة، ومات أبوطالب.. حزن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حزناً شديداً، وخاف على نفسه من كفار قريش فأوحى الله إليه: أخرج من القرية الظالم أهلها، وهاجر إلى المدينة، فليس لك بمكة ناصر، وانصب للمشركين حرباً. فعند ذلك توجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) من مكة إلى المدينة».

وفي تفسير القمي: 1/71:«قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَكُرْهٌ لَكُمْ. نزلت بالمدينة ونسخت آية: كُفُّوا أيْدِيَكم.. التي نزلت بمكة».

وفي جواهر الكلام: 21/57:«فلما أرادوا ما هموا به من تبييته، أمره الله بالهجرة وفرض عليه القتال، فقال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا..».

وفي الكافي: 5/13، عن أبي عمرو الزبيري، أنه قال للإمام الصادق (علیه السلام): «أخبرني عن الدعاء إلى الله والجهاد في سبيله، أهو لقوم لا يحل إلا لهم ولا يقوم به إلا من كان منهم، أم هو مباح لكل من وحد الله عزوجل وآمن برسوله (صلی الله علیه و آله) ومن كان كذا فله أن يدعو إلى الله عزوجل وإلى طاعته وأن يجاهد في سبيله؟

فقال: ذلك لقوم لايحل إلا لهم ولا يقوم بذلك إلا من كان منهم. قلت: من أولئك؟ قال: من قام بشرائط الله عزوجل في القتال والجهاد على المجاهدين، فهو المأذون له في الدعاء إلى الله عزوجل، ومن لم يكن قائماً بشرائط الله عزوجل في الجهاد على المجاهدين فليس بمأذون له في الجهاد ولا الدعاء إلى الله، حتى يحكم في نفسه ما أخذ الله عليه من شرائط الجهاد.

قلتُ: فبيِّن لي يرحمك الله. قال: إن الله تبارك وتعالى أخبر نبيه في كتابه الدعاء إليه ووصف الدعاة إليه فجعل ذلك لهم درجات يعرف بعضها بعضاً ويستدل بعضها على بعض فأخبر أنه تبارك وتعالى أول من دعا إلى نفسه ودعا إلى طاعته واتباع أمره فبدأ بنفسه فقال: وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. ثم ثنى برسوله فقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ

ص: 615

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. يعني بالقرآن..ثم ذكر من أذن له في الدعاء إليه بعده وبعد رسوله في كتابه فقال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ

هُمُ الْمُفْلِحُونَ..

ثم أخبر عن هذه الأمة وممن هي وأنها من ذرية إبراهيم ومن ذرية إسماعيل من سكان الحرم ممن لم يعبدوا غير الله قط، الذين وجبت لهم الدعوة، دعوة إبراهيم وإسماعيل من أهل المسجد الذين أخبر عنهم في كتابه أنه أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا... ثم أخبر تبارك وتعالى أنه لم يأمر بالقتال إلا أصحاب هذه الشروط فقال عزوجل: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ..

وذلك أن جميع ما بين السماء والأرض لله عزوجل ولرسوله ولأتباعهما من المؤمنين من أهل هذه الصفة، فما كان من الدنيا في أيدي المشركين والكفار والظلمة والفجار من أهل الخلاف لرسول الله (صلی الله علیه و آله) والمولي عن طاعتهما مما كان في أيديهم ظلموا فيه المؤمنين من أهل هذه الصفات وغلبوهم عليه مما أفاء الله على رسوله، فهو حقهم أفاء الله عليهم ورده إليهم، وإنما معنى الفيئ كل ما صار إلى المشركين ثم رجع مما كان قد غُلب عليه أو فيه، فما رجع إلى مكانه من قول أو فعل فقد فاء.. وإن لم يكن مستكملاً لشرائط الإيمان فهو ظالم، ممن يبغي ويجب جهاده حتى يتوب! وليس مثله مأذوناً له في الجهاد والدعاء إلى الله عزوجل، لأنه ليس من المؤمنين المظلومين الذين أذن لهم في القرآن في القتال..

فليتق الله عزوجل عبدٌ ولا يغتر بالأماني التي نهى الله عزوجل عنها، من هذه الأحاديث الكاذبة على الله التي يكذبها القرآن، ويتبرأ منها ومن حملتها ورواتها».

وقال اليعقوبي في تاريخه: 2/44: «وأقام رسول الله يتلوَّم ويتهيأ للقتال حتى أنزل الله، عزوجل: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. والآية التي بعدها. وقال: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ. إلى آخر الآية. فكان الرجل من المؤمنين يعد بعشرة من المشركين حتى أنزل الله عزوجل: الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ

ص: 616

يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ. وأنزل الله عليه سيفاً من السماء له غمد، فقال له جبريل: ربك يأمرك أن تقاتل بهذا السيف قومك حتى يقولوا: لا إله إلا الله وإنك رسول الله، فإذا فعلوا ذلك حرمت دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. فكان أول سرية سارت ولواء عقد في الإسلام لحمزة بن عبدالمطلب».

وقال ابن هشام: 2/320: «أذن الله عزوجل لرسوله (صلی الله علیه و آله) في القتال والإنتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم، فكانت أول آية أنزلت في إذنه له في الحرب وإحلاله له الدماء والقتال لمن بغى عليهم، فيما بلغني عن عروة بن الزبير وغيره من العلماء، قول الله تبارك وتعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ».

وفي الكافي: 5/7 و2 قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إن الله عزوجل بعث رسوله بالإسلام إلى الناس عشر سنين، فأبوا أن يقبلوا حتى أمره بالقتال! فالخير في السيف وتحت السيف والأمر يعود كما بدأ. قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الخير كله في السيف وتحت ظل السيف، ولا يقيم الناس إلا السيف، والسيوف مقاليد الجنة والنار».

ص: 617

الفصل السادس والثلاثون: زواج النبی (صلی الله علیه و آله) بعد وفاة خديجة (علیها السلام)

لم يتزوج النبي (صلی الله علیه و آله) على خديجة وتزوج بعد هجرته

قال ابن شهر آشوب في المناقب: 1/137: «في إعلام الورى، ونزهة الأبصار، وأمالي الحاكم، وشرف المصطفى: أنه (صلی الله علیه و آله) تزوج بإحدى وعشرين امرأة. وقال ابن جرير وابن مهدي: واجتمع له إحدى عشرة امرأة في وقت.

ترتيب أزواجه: تزوج بمكة أولاً خديجة بنت خويلد، قالوا: وكانت عند عتيق بن عايذ المخزومي ثم عند أبي هالة زرارة بن نباش الأسدي.

وروى أحمد البلاذري، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي، وأبوجعفر في التلخيص: أن النبي (صلی الله علیه و آله) تزوج بها وكانت عذراء، يؤكد ذلك ما ذكر في كتابي الأنوار والبدع أن رقية وزينب كانتا ابنتي هالة أخت خديجة.

وسودة بنت زمعة بعد موتها بسنة، وكانت عند سكران بن عمرو من مهاجري الحبشة فتنصر ومات بها. وعائشة بنت أبي بكر، وهي ابنة سبع قبل الهجرة بسنتين، ويقال كانت ابنة ست ودخل بها بالمدينة في شوال وهي ابنة تسع، ولم يتزوج غيرها بكراً، وتوفي النبي وهي ابنة ثمانية عشر سنة، وبقيت إلى أمارة معاوية وقد قاربت السبعين.

وتزوج بالمدينة أم سلمة، واسمها هند بنت أمية المخزومية، وهي بنت عمته عاتكة بنت عبدالمطلب، وكانت عند أبي سلمة بن عبدالأسد، بعد وقعة بدر من سنة اثنتين من التاريخ،

ص: 618

وفي هذه السنة تزوج بحفصة بنت عمر وكانت قبله تحت خنيس بن عبدالله ابن حذاقة السهمي، فبقيت إلى آخر خلافة علي (علیه السلام) وتوفيت بالمدينة. وزينب بنت جحش الأسدية، وهي ابنة عمتها أميمة بنت عبدالمطلب، وكانت عند زيد بن حارثة، وهي أول من ماتت من نسائه بعده في أيام عمر، بعد سنتين من التاريخ.

وجويرية بنت الحارث بن ضرار المصطلقية، ويقال إنه اشتراها فأعتقها وتزوجها وماتت في سنة خمسين،وكانت عند مالك بن صفوان بن ذي السفرتين. وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وإسمها رملة وكانت عند عبدالله بن جحش، في سنة ست، وبقيت إلى أمارة معاوية.

وصفية بنت حي بن أخطب النضري، وكانت عند سلام بن مسلم، ثم عند كنانة ابن الربيع، وكانت أتي بها وأسر بها في سنة سبع. وميمونة بنت الحارث الهلالية، خالة ابن عباس، وكانت عند عمير بن عمرو الثقفي، ثم عند أبي زيد بن عبدالعامري، خطبها للنبي (صلی الله علیه و آله) جعفر بن أبي طالب وكان تزويجها وزفافها وموتها وقبرها بسرف، وهو على عشرة أميال من مكة في سنة سبع، وماتت في سنة ست وثلاثين. وقد دخل بهؤلاء.

والمطلقات أو من لم يدخل بهن أو من خطبها ولم يعقد عليها: فاطمة بنت شريح وقيل بنت الضحاك، تزوجها بعد وفاة ابنته زينب وخيرها حين أنزلت عليه آية التخيير فاختارت الدنيا ففارقها، فكانت بعد ذلك تلقط البعر وتقول: أنا الشقية اخترت الدنيا. وزينب بنت خزيمة بن الحرث أم المساكين من عبدمناف، وكانت عند عبيدة بن الحرث بن عبدالمطلب. وأسماء بنت النعمان بن الأسود الكندي من أهل اليمن. وأسماء بنت النعمان، لما دخلت عليه قالت: أعوذ بالله منك، فقال: أعذتك إلحقي بأهلك، وكانت بعض أزواجه علمتها وقالت: إنك تحظين عنده. وقتيلة أخت الأشعث بن قيس الكندي، ماتت قبل أن يدخل بها، ويقال طلقها فتزوجها عكرمة بن أبي جهل وهو الصحيح.

وأم شريك، وإسمها غزية بنت جابر من بني النجار. وسنا بنت الصلت من

ص: 619

بني سليم، ويقال خولة بنت حكيم السلمي ماتت قبل أن تدخل عليه، وكذلك صراف أخت دحية الكلبي.

ولم يدخل بعمرة الكلابية، وأميمة بنت النعمان الجونية، والعالية بنت ظبيان الكلابية، ومليكة الليثية. وأما عميرة بنت بريد رأى بها بياضاً فقال: دلستم عليَّ فردها، وليلى بنت الحطيم الأنصارية ضربت ظهره وقالت: أقلني، فأقالها فأكلها الذئب، وعمرة من العرطا «كذا» وصفها أبوها حتى قال: إنها لم تمرض قط، فقال (صلی الله علیه و آله): ما لهذه عند الله من خير. والتسع اللاتي قبض عنهن: أم سلمة، زينب بنت جحش، ميمونة، أم حبيبة، صفية، جويرية، سودة، عائشة، حفصة.

قال زين العابدين (علیه السلام)، والضحاك، ومقاتل: المُوهبة امرأة من بني أسد، وفيه ستة أقوال. ومات قبل النبي (صلی الله علیه و آله): خديجة، وزينب بنت خزيمة. وأفضلهن خديجة، ثم أم سلمة، ثم ميمونة.

مبسوط الطوسي، أنه اتخذ من الإماء ثلاثاً: عجميتين وعربية فأعتق العربية واستولد إحدى العجميتين، وكان له سريتان يقسم لهما مع أزواجه: مارية القبطية، وريحانة بنت زيد القرظية، أهداهما المقوقس صاحب الإسكندرية، وكانت لمارية أخت اسمها سيرين فأعطاها حسان فولدت عبدالرحمن، فتوفيت مارية بعد النبي بخمس سنين، ويقال إنه أعتق ريحانة ثم تزوجها.

وفي الأنوار، والكشف، واللمع، وكتاب البلاذري: أن زينب ورقية كانتا ربيبتيه من جحش، فأما القاسم والطيب فماتا بمكة صغيرين».

أم سَلمة أفضل أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) بعد خديجة (علیها السلام)

اشارة

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «أفضلهن خديجة بنت خويلد، ثم أم سلمة، ثم ميمونة». «الخصال/419». وقد تزوج سَوْدة أول دخوله المدينة، ثم تزوج أم سلمة وهي بنت عم أبي جهل، أبوها أبو أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر المخزومي! وكان يسمى زاد الراكب لكرمه، وأبوجهل هو: عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم. دلائل الإمامة/ 81 وعمدة القاري: 17/84.

ص: 620

أما زوجها قبل النبي (صلی الله علیه و آله) أبو سلمة فهو: «عبدالله بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم». «الحاكم: 4/16و 19». وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة.

وكان أخوها لأبيها عبدالله بن أبي أمية من أشد أعداء النبي (صلی الله علیه و آله) مع أنه ابن عاتكة بنت عبدالمطلب عمة النبي (صلی الله علیه و آله)! وهو الذي قال: «لا أومن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سُلَّماً وترقى فيه وأنا أنظر، حتى تأتيها، وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفرٍ من الملائكة، يشهدون لك أنك كما تقول»!

وفيه وفي رفقائه نزل قوله تعالى: «وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولاً».أسباب النزول/199.

«وقد أسلمت أم سلمة وزوجها وهاجرا إلى الحبشة، ورزقت منه ثلاثة بنين وثلاث بنات، ورجعوا من الحبشة إلى المدينة وتوفي أبو سلمة قبل بدر، فتزوج بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعد بدر في شوال. وعاشت إلى خلافة يزيد بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام)، وصلى عليها سعيد بن زيد وكان أمير المدينة».المناقب: 1/138، الإستيعاب: 4/1920 و 3/18، ذخائر العقبى/250، الحاكم:4/18، أسباب النزول/199،الطبقات: 8/43 وابن إسحاق: 2/180.

خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) لأم سلمة

أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) يخطبها فأجابته: «فيَّ خصال ثلاث: أما أنا فكبيرة، وأنا مُطفلٌ، وأنا غيورٌ. فقال (صلی الله علیه و آله): أما ما ذكرت من الغيرة فندعو الله حتى يذهبه عنك، وأما ما ذكرت من الكبر فأنا أكبر منك، والطفل إلى الله وإلى رسوله». «ابن إسحاق: 5/429، الطبقات: 8/91». وفي رواية قالت: أنا امرأة مصبية، أي عندي أطفال.

وفي الانتصار للمرتضى/285: «فقالت ليس أحد من أوليائي حاضراً، فقال (صلی الله علیه و آله): ليس أحد من أوليائك حاضراً أو غائباً إلا ويرضى بي، ثم قال لعمر

ص: 621

بن أبي سلمة وكان صغيراً: قم فزوجها، فتزوج النبي (صلی الله علیه و آله) بغير ولي».

وكانت موصوفة بالجمال، «ففي الكافي: 5/117»، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «مات الوليد بن المغيرة فقالت أم سلمة للنبي (صلی الله علیه و آله): إن آل المغيرة قد أقاموا مناحة فأذهب إليهم؟ فأذن لها، فلبست ثيابها وتهيأت وكانت من حسنها كأنها جان، وكانت إذا قامت فأرخت شعرها جلل جسدها وعقدت بطرفيه خلخالها، فندبت ابن عمها بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالت:

أنعى الوليد بن الوليد *** أبا الوليد فتى العشيرة

حامي الحقيقة ماجد *** يسمو إلى طلب الوتيرة

قد كان غيثاً في السنين *** وجعفراً غدقاً وميرة

قال: فما عاب ذلك عليها النبي (صلی الله علیه و آله) ولا قال شيئاً».

وقالت عائشة: «لما تزوج رسول الله أم سلمة حزنت حزناً شديداً لما ذكروا لنا من جمالها! قالت: فتلطفت لها حتى رأيتها فرأيتها والله أضعاف ما وُصفت لي في الحسن والجمال! قالت: فذكرت ذلك لحفصة وكانتا يداً واحدة، فقالت: لا والله إن هذه إلا الغيرة ما هي كما يقولون، فتلطفت لها حفصة حتى رأتها فقالت: قد رأيتها ولا والله ما هي كما تقولين وإنها لجميلة! قالت: فرأيتها بعد فكانت لعمري كما قالت حفصة، ولكني كنت غَيْرَى». الطبقات: 8/94.

أمينة النبي (صلی الله علیه و آله) وعترته (علیهم السلام)

أدَّت أم سلمة رضيالله عنها واجبها في خدمة النبوة والإمامة على أحسن وجه وكان لها دور في نشر حديث رسول الله (صلی الله علیه و آله)، والدفاع عن أميرالمؤمنين والزهراء والحسنين والأئمة (علیهم السلام)، سواء في عهد النبي (صلی الله علیه و آله)، أو بعد وفاته (صلی الله علیه و آله)، وفي مواجهة أهل السقيفة، ثم في مواجهة عائشة وطلحة والزبير ومعاوية ويزيد! وساعدها على ذلك أنها من شخصيات بني مخزوم، وأنها أطول نساء النبي (صلی الله علیه و آله) عمراً، وصاحبة مكانة محترمة عند النبي (صلی الله علیه و آله)، وقد أودع عندها تربة كربلاء التي أتاه بها جبرئيل (علیه السلام) وأخبرها أنها عندما يقتل الحسين (علیه السلام) في كربلاء تتحول إلى دم عبيط، أي صافٍ! وقد استفاضت

ص: 622

روايتها في مصادر الشيعة والسنة، فمن ذلك ما رواه أحمد: 3/242 ووثقوه، عن أنس بن مالك: «أن ملك المطر استأذن ربه أن يأتي النبي فأذن له فقال لأم سلمة: إملكي علينا الباب لا يدخل علينا أحد، قال: وجاء الحسين ليدخل فمنعته فوثب فدخل فجعل يقعد على ظهر النبي (صلی الله علیه و آله) وعلى منكبه وعلى عاتقه، قال فقال الملك للنبي (صلی الله علیه و آله): أتحبه؟ قال: نعم.قال: أما إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه! فضرب بيده فجاء بطينة حمراء، فأخذتها أم سلمة فَصَرَّتها في خمارها، قال ثابت: بلغنا أنها كربلاء».

ومن مصادرنا ما رواه الطوسي في أماليه/315، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: «بينا أنا راقد في منزلي إذ سمعت صراخاً عظيماً عالياً من بيت أم سلمة زوج النبي (صلی الله علیه و آله) فخرجت يتوجه بي قائدي إلى منزلها، وأقبل أهل المدينة إليها الرجال والنساء، فلما انتهيت إليها قلت: يا أم المؤمنين ما بالك تصرخين وتغوثين؟ فلم تجبني وأقبلت على النسوة الهاشميات وقالت: يا بنات عبدالمطلب أسعدنني وابكين معي، فقد والله قتل سيدكن وسيد شباب أهل الجنة، قد والله قتل سبط رسول الله وريحانته الحسين! فقيل: يا أم المؤمنين ومن أين علمت ذلك؟ قالت: رأيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المنام الساعة شَعِثاً مذعوراً فسألته عن شأنه ذلك، فقال: قتل ابني الحسين وأهل بيته اليوم فدفنتهم، والساعة فرغت من دفنهم! قالت: فقمت حتى دخلت البيت وأنا لا أكاد أن أعقل، فنظرت فإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرئيل من كربلاء فقال: إذا صارت هذه التربة دماً فقد قتل ابنك، وأعطانيها النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: إجعلي هذه التربة في زجاجة أو قال: في قارورة ولتكن عندك، فإذا صارت دما عبيطاً فقد قتل الحسين! فرأيت القارورة الآن وقد صارت دماً عبيطاً تفور! قال: وأخذت أم سلمة من ذلك الدم فلطخت به وجهها، وجعلت ذلك اليوم مأتماً ومناحة على الحسين (علیه السلام)، فجاءت الركبان بخبره، وأنه قتل في ذلك اليوم!

قال عمرو بن ثابت قال أبي: فدخلت على أبي جعفر محمد بن علي (علیه السلام) منزله

ص: 623

فسألته عن هذا الحديث، وذكرت له رواية سعيد بن جبير هذا الحديث عن عبدالله بن عباس فقال: أبوجعفر (علیه السلام) حدثنيه عمر بن أبي سلمة، عن أمه أم سلمة».

كما أعطاها صحيفة علامةً على إمامة علي (علیه السلام)، ففي بصائر الدرجات/186، عن ابن عباس و: 188، عن أم سلمة قالت: «أعطاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) كتاباً قال: أمسكي هذا فإذا أنا قبضت فقام رجل على هذه الأعواد يعني المنبرفأتاك يطلب هذا الكتاب فادفعيه إليه. قالت: فلما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) صعد أبوبكر المنبر فانتظرته به فلم يأت، فلما مات صعد عمر فانتظرته فلم يأت فلما مات عمر صعد عثمان فانتظرته فلم يأت، فلما مات عثمان صعد أميرالمؤمنين فلما صعد ونزل جاء فقال: يا أم سلمة أريني الكتاب الذي أعطاك رسول الله (صلی الله علیه و آله) . فقالت: وإنك أنت صاحبه؟ فقالت: أما والله إن الذي كنت أحب أن يحبوك به فأخرجته إليه ففتحه فنظر فيه ثم قال: إن في هذا لعلما جديداً. قال قلت أي شئ كان ذلك؟ قال: كل شئ يحتاج إليه ولد آدم»!

ونحوه بصائر الدرجات/183، عن عمر بن أم سلمة: «فاستأذن عليٌّ فدخل فقال لها: أعطني الكتاب الذي دفع إليك بآية كذا وكذا، وكأني أنظر إلى أمي حتى قامت إلى تابوت لها في جوفها تابوت صغير، فاستخرجت من جوفه كتاباً فدفعته إلى علي (علیه السلام)، ثم قالت لي أمي: يا بنيَّ إلزمه فلا والله ما رأيت بعد نبيك إماماً غيره»!

كما استودعها المؤمنين (علیه السلام) مواريث الأنبياء (علیه السلام) لتسلمها إلى الإمام الحسن (علیه السلام)، «ففي الكافي: 1/298»، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إن علياً حين سار إلى الكوفة استودع أم سلمة كتبه والوصية، فلما رجع الحسن (علیه السلام) دفعتها إليه».

كما استودعها الإمام الحسين (علیه السلام) وصيته ومواريث الأنبياء (علیهم السلام)، «ففي الكافي: 1/304»، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن الحسين صلوات الله عليه لما صار إلى العراق استودع أم سلمة الكتب والوصية، فلما رجع علي بن الحسين (علیه السلام) دفعتها إليه».

وفي بصائر الدرجات/197،عن حمران أنه سأل الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «سألته عما يتحدث الناس أنه دفعت إلى أم سلمة صحيفة مختومة؟ قال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما قبض ورث علي (علیه السلام) سلاحه وما هنالك، ثم صار إلى الحسن والحسين، فلما خشيا أن

ص: 624

يفتشا استودعا أم سلمة، ثم قبضا بعد ذلك فصار إلى أبيك علي بن الحسين (علیه السلام)، ثم انتهى إليك أو صار إليك؟ قال نعم».

وفي غيبة الطوسي/195: «لما توجه الحسين (علیه السلام) إلى العراق دفع إلى أم سلمة زوج النبي (صلی الله علیه و آله) الوصية والكتب وغير ذلك، وقال لها: إذا أتاك أكبر ولدي فادفعي إليه ما دفعت إليك، فلما قتل الحسين أتى علي بن الحسين (صلی الله علیه و آله) أم سلمة فدفعت إليه كل شئ أعطاها الحسين (علیه السلام)».

طلب معاوية شهادتها بإمامة علي (علیه السلام)

روى محمد بن سليمان في المناقب: 1/507 عن عبيدالله بن أبي رافع قال: «كنا جلوساً في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) عام حج معاوية بن أبي سفيان، ومعي عبدالله بن عباس وسعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عمر، فأتانا معاوية فسلم وقعد إلينا، فاشمأز منه ابن عباس حين قعد إليه حتى عرف ذلك معاوية، فقال له: يا ابن عباس كأنك مشمئز مني كأنك واجدٌ عليَّ أن طلبت بدم أميرالمؤمنين وكنتُ أحق من طلب بدمه وأقواهم عليه؟ فقال له ابن عباس: وبمَ أنت أحق الناس؟ قال: أليس ابن عمي قتل وهو أميرالمؤمنين؟ فقال ابن عباس: فهذا! وأشار إلى ابن عمر أحق بالأمر منك! قد قتل أبوه وهو خليفته! فقال له معاوية: قتل أباه مشرك وقتل ابن عمي المسلمون. فقال ابن عباس: فذاك أشرإذن. قال: ثم التفت معاوية إلى سعد فقال: يا سعد ما منعك أن تقاتل معي وتخرج إذ طلبت بدم أميرالمؤمنين؟ فقال له سعد: أقاتل علي بن أبي طالب وقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى؟! فقال له معاوية: من سمع هذا معك؟ فقال: أم سلمة زوج النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: قوموا بنا إليها فقمنا جميعاً فدخلنا عليها فقال لها سعد: يا أم المؤمنين إني ذكرت لمعاوية أن رسول الله قال لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، فأنكر ذلك وقال: من سمعه معك فذكرتك فهل سمعت ذاك من رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ فقالت أم سلمة: أما مرة

ص: 625

واحدة فلا، ولكن سمعته من رسول الله (صلی الله علیه و آله) مراراً! فقال معاوية لسعد: أنت أظلم وأقل عذراً إذ سمعت هذا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلم تخرج إليه ولم تقاتل معه ولم تنصره! فلو سمعتُ هذا من رسول الله لم أقاتله».

ونحوه: 1/421، وفيه قال معاوية لسعد: «ألْوَمُ والله ما كنت عندي الساعة! لو سمعتُ هذا من رسول الله، ما زلت خادماً لعلي حتى أموت»!

من امتيازاتها على نساء النبي (صلی الله علیه و آله)

كانت أم سلمة كخديجة، تشتري العبيد وتعتقهم، وربما اشترت الصغير فربته حتى يكبر وأعتقته، لذا تجد عدداً من الرواة والعلماء من موالي أم سلمة ففي الإصابة: 7/4: «أبو إبراهيم مولى أم سلمة.. قال: كنت عبداً لأم سلمة، فكنت أبيت على فراش النبي وأتوضأ من محضنته، فلما بلغت مبالغ الرجال أعتقتني».

وكانت تشجع المملوك على العمل ليحرر نفسه، ففي الطبقات: 5/296، عن نصاح بن سرجس بن يعقوب عن أبيه قال: «كاتبتني أم سلمة على نجوم «أقساط»وفيتها، فكلمتها أن تحط عني وتقاطعني على ذهب أو ورق، ففعلت. وعجَّلت لها ذلك ووضعت عني.وكان شيبة إمام أهل المدينة في القراءة في دهره».

وهذا عدد آخر من موالي أم سلمة رضيالله عنها:

ففي الهداية الكبرى/115، في حديث زفاف فاطمة (علیها السلام): «فخرج مولى لأم سلمة زوجة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فنثر سكراً ولوزاً ونثر الناس من كل جانب».

وفي الطبقات: 5/297: «عبدالله بن رافع مولى أم سلمة زوج النبي (علیه السلام) عتاقةً، سمع من أم سلمة، وبقي حتى سمع منه عبدالله بن أبي يحيى وموسى بن عبيدة وقدامة بن موسى وجارية بن أبي عمران، وكان ثقة كثير الحديث.

ناعم بن أجيل مولى أم سلمة. قيس مولى أم سلمة، ويكنى أبا قدامة.

أبو ميمونة مولى أم سلمة. وكان قارئ أهل المدينة في زمانه، وهو الذي قرأ عليه نافع بن أبي نعيم كثير بن أفلح».

وفي المغني: 12/339: «عن نبهان مولى أم سلمة، عن أم سلمة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: إذا

ص: 626

كان لإحداكن مكاتب فملك ما يؤدي، فلتحتجب منه».

«وفي إسناده نبهان مولى أم سلمة شيخ الزهري وقد وثق» المجموع: 16/136.

«عن عبدالله بن رافع، مولى أم سلمة».الموطأ: 1/8.

«عن طلحة بن يحيى عن عبدالله بن فروخ مولى أم سلمة».الجوهر النقي: 6/189.

«سفينة هو مولى أم سلمة، وشرطت عليه أن يخدم النبي (صلی الله علیه و آله)». المحلى: 5/157.

«أفلح.. مولى لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وقيل مولى لأم سلمة». سبل السلام: 3/216.

«عن ناعم مولى أم سلمة». مسند أحمد: 2/163.

«حدثني عمرو، عن أبي السمح، عن السائب مولى أم سلمة، عن أم سلمة عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال خير مساجد النساء قعر بيوتهن». مسند أحمد:6/297.

«حبيب، عن ناعم مولى أم سلمة، عن أم سلمة». مسند أحمد: 6/299.

«عن السائب مولى أم سلمة أن نسوة دخلن على أم سلمة من أهل حمص». «مسند أحمد: 6/301». «أن أبا الجراح مولى أم سلمة أخبره». مسند أحمد: 6/326.

«عبدالله بن زياد بن سمعان مولى أم سلمة مكي».رجال الطوسي/231.

«القزاز قال: سمعت مولى لأم سلمة يقول: سمتني أم سلمة مخوضاً، وكنت طويلاً». علل أحمد: 1/221.

«عبدالله بن زياد بن سمعان هو مولى أم سلمة» «التاريخ الصغير للبخاري: 2/106». «نجيح أبو معشر السندي المدني مولى أم سلمة».«التاريخ الصغير للبخاري2/187». «السائب مولى أم سلمة» «نفيع مولى أم سلمة» «يزيد مولى أم سلمة». «التاريخ الكبير للبخاري4/153، 8/113 و271». «أبي الجراح مولى أم سلمة».كنى البخاري/19.

«أحمر مولى أم سلمة، قيل هو اسم سفينة».الإصابة: 1/187.

«من طريق إبراهيم بن عبدالرحمن بن صبيح مولى أم سلمة» الإصابة: 3/327.

«المهاجر مولى أم سلمة يكنى أبا حذيفة صحب النبي (صلی الله علیه و آله) وخدمه، وشهد فتح مصر واختط بها، ثم تحول إلى طحا فسكنها إلى أن مات».الإصابة: 6/181.

«أبي سليمان مولى أم سلمة»«الإصابة: 6/501».«قيس مولى أم سلمة»

تعجيل المنفعة/346.

ص: 627

«ويقال بل كانت أم الحسن «البصري» مولاة لأم سلمة.فيذكرون أن أمه كانت ربما غابت فيبكي الصبي فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجئ أمه فدر عليها ثديها فشربه فيرون أن تلك الحكمة والفصاحة من بركة ذلك». الطبقات:7/156.

وفي أمالي الصدوق/463، عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) قال: «بلغ أم سلمة زوجة النبي أن مولى لها يتنقص علياً (علیه السلام) ويتناوله، فأرسلت إليه فلما أن صار إليها قالت له: يا بنيَّ بلغني أنك تتنقص علياً وتتناوله؟ قال لها: نعم يا أماه. قالت: أقعد ثكلتك أمك حتى أحدثك بحديث سمعته من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم اختر لنفسك! إنا كنا عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) تسع نسوة وكانت ليلتي ويومي من رسول الله فدخل النبي (صلی الله علیه و آله) وهو متهلل أصابعه في أصابع علي، واضعاً يده عليه فقال: يا أم سلمة، أخرجي من البيت وأخليه لنا، فخرجت واقبلا يتناجيان، أسمع الكلام وما أدري ما يقولان، حتى إذا انتصف النهار أتيت الباب فقلت: أدخل يا رسول الله؟ قال: لا. فكبوت كبوة شديدة مخافة أن يكون ردني من سخطة، أو نزل في شئ من السماء، ثم لم ألبث أن أتيت الباب الثانية فقلت: أدخل يا رسول الله؟ فقال: لا. فكبوت كبوة أشد من الأولى. ثم لم ألبث حتى أتيت الباب الثالثة، فقلت: أدخل يا رسول الله؟ فقال: أدخلي يا أم سلمة، فدخلت وعلي جاث بين يديه، وهو يقول: فداك أبي وأمي يا رسول الله، إذا كان كذا وكذا فما تأمرني؟ قال: آمرك بالصبر. ثم أعاد عليه القول الثانية فأمره بالصبر، فأعاد عليه القول الثالثة فقال له: يا علي يا أخي، إذا كان ذاك منهم فسل سيفك وضعه على عاتقك واضرب به قدماً قدماً، حتى تلقاني وسيفك شاهر يقطر من دمائهم! ثم التفت (علیه السلام) إلي فقال لي: ما هذا الكآبة يا أم سلمة؟ قلت: للذي كان من ردك لي يا رسول الله. فقال لي: والله ما رددتك من موجدة وإنك لعلى خير من الله ورسوله، لكن أتيتني وجبرئيل عن يميني، وعلي عن يساري، وجبرئيل يخبرني بالأحداث التي تكون من بعدي، وأمرني أن أوصي بذلك علياً!

يا أم سلمة، إسمعي واشهدي: هذا علي بن أبي طالب أخي في الدنيا وأخي في الآخرة.

يا أم سلمة إسمعي واشهدي: هذا علي بن أبي طالب وزيري في الدنيا، ووزيري

ص: 628

في الآخرة. يا أم سلمة إسمعي واشهدي: هذا علي بن أبي طالب، حامل لوائي في الدنيا وحامل لوائي غداً في القيامة. يا أم سلمة إسمعي واشهدي: هذا علي بن أبي طالب وصيي وخليفتي من بعدي، وقاضي عداتي، والذائد عن حوضي.

يا أم سلمة إسمعي واشهدي: هذا علي بن أبي طالب سيد المسلمين، وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.

قلت: يا رسول الله، من الناكثون؟قال: الذين يبايعونه بالمدينة وينكثون بالبصرة. قلت: من القاسطون؟ قال: معاوية وأصحابه من أهل الشام. قلت: من المارقون؟ قال: أصحاب النهروان.

فقال مولى أم سلمة: فرجت عني فرج الله عنك، والله لاسببت علياً أبداً»!

«عن عبدالله بن مغيرة مولى أم سلمة زوج النبي (صلی الله علیه و آله) أنها قالت: نزلت هذه الآية في بيتها: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً. أمرني رسول الله أن أرسل إلى علي وفاطمة والحسن والحسين، فلما أتوه اعتنق علياً بيمينه والحسن بشماله والحسين على بطنه وفاطمة عند رجله، فقال: اللهم هؤلاء أهلي وعترتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. قالها ثلاث مرات. قلت: فأنا يا رسول الله. فقال: إنك على خير إن شاء الله». أمالي الطوسي/263.

«عن أبي الأحوص مولى أم سلمة قال: إني مع الحسن (علیه السلام) بعرفات ومعه قضيب وهناك أجراء يحرثون، فكلما هموا بالماء أجبل عليهم، فضرب بقضيبه إلى الصخرة فنبع لهم منها ماء واستخرج لهم طعاماً». دلائل الامامة/171.

أي كانوا يحفرون بئراً فظهر صخر صعب، فضربه الإمام (علیه السلام) فنبع الماء، ثم استخرج لهم طعاماً من هناك. راجع لسان العرب: 11/97.

أذى نساء النبي (صلی الله علیه و آله) لأم سلمة!

قالت عائشة، «البخاري 3/132»: «إن نساء رسول الله كنَّ حزبين: فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة. والحزب الآخر: أم سلمة وسائر نساء

ص: 629

رسول الله»! روى في الطبقات: 8/80، عن فاطمة الخزاعية قالت إن عائشة قالت لها: «دخل علي يوماً رسول الله فقلت: أين كنت منذ اليوم؟ قال: يا حميراء كنت عند أم سلمة. فقلت: ماتشبع من أم سلمة»!

وروى بخاري: 3/108، أن أم سلمة أرسلت إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وهو عند عائشة، بقصعة فيها طعام: «فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر ففلقت به الصحفة». وفي سبل السلام: 3/70 والنسائي: 7/70: «واتفقت مثل هذه القصة من عائشة في صحفة أم سلمة. ووقع مثلها لصفية».

وتدخَّل عمر بين نساء النبي (صلی الله علیه و آله) فغضبت أم سلمة كما في «البخاري: 6/69»: «فقالت أم سلمة: عجباً لك يا ابن الخطاب دخلت في كل شئ، حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأزواجه»!

وفي الكافي: 5/565، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن أبابكر وعمر أتيا أم سلمة فقالا لها: يا أم سلمة إنك قد كنت عند رجل قبل رسول الله فكيف رسول الله من ذاك في الخلوة؟! فقالت: ما هو إلا كسائر الرجال! ثم خرجا عنها وأقبل النبي فقامت إليه مبادرة فرقاً أن ينزل أمر من السماء فأخبرته الخبر فغضب رسول الله حتى تربد وجهه والتوى عرق الغضب بين عينيه، وخرج وهو يجر رداؤه حتى صعد المنبر.فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ما بال أقوام يتبعون عيبي ويسألون عن غيبي! والله إني لأكرمكم حسباً وأطهركم مولداً وأنصحكم لله في الغيب، ولايسألني أحد منكم عن أبيه إلا أخبرته..الى آخر الحديث».

أم سلمة عند وفاة النبي (صلی الله علیه و آله)

وروت أم سلمة أجواء وفاة النبي (صلی الله علیه و آله)، فقالت كما في الخصال/642: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مرضه الذي توفي فيه: ادعوا لي خليلي، فأرسلت عائشة إلى أبيها فلما جاء غطى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجهه وقال: ادعوا لي خليلي! فرجع أبوبكر! وبعثت حفصة إلى أبيها، فلما جاء غطى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجهه وقال: ادعوا لي خليلي».

ص: 630

وفي الإرشاد: 1/185: «فأفاق إفاقة فافتقد علياً فقال وأزواجه حوله: ادعوا لي أخي وصاحبي، وعاوده الضعف فأصمت، فقالت عائشة أدعوا له أبابكر، فدعي فدخل عليه فقعد عند رأسه فلما فتح عينه نظر إليه وأعرض عنه بوجهه، فقام أبوبكر وقال: لو كان له إلي حاجة لأفضى بها إلي. فلما خرج أعاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) القول ثانية وقال: أدعوا لي أخي وصاحبي، فقالت حفصة أدعوا له عمر، فدعي فلما حضر رآه النبي فأعرض عنه فانصرف. ثم قال: أدعوا لي أخي وصاحبي، فقالت أم سلمة: أدعوا له علياً فإنه لا يريد غيره، فدعي أميرالمؤمنين (علیه السلام) فلما دنا منه أومأ إليه فأكب عليه فناجاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) طويلاً، ثم قام فجلس ناحية حتى أغفى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال له الناس: ما الذي أوعز إليك يا أبا الحسن؟ فقال: علمني ألف باب فتح لي كل باب ألف باب، ووصاني بما أنا قائم به إن شاء الله. ثم ثقل وحضره الموت وأميرالمؤمنين حاضر عنده. فلما قرب خروج نفسه قال له: ضع رأسي يا علي في حجرك، فقد جاء أمرالله عزوجل فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك، ثم وجهني إلى القبلة وتول أمري وصل علي أول الناس، ولاتفارقني حتى تواريني في رمسي، واستعن بالله تعالى فأخذ علي رأسه فوضعه في حجره فأغمي عليه فأكبت فاطمة تنظر في وجهه وتندبه وتبكي» أقول: من الغريب أن أحمد بن حنبل روى هذا الحديث: 1/356!

أدانت أم سلمة أهل السقيفة

فقد روى سليم بن قيس (رحمة الله) في كتابه/389، عن البراء بن عازب في إجبارهم علياً على البيعة: «فقام عمر فقال لأبي بكر: ما يجلسك فوق المنبر وهذا جالس محارب، لا يقوم فيبايعك، أو تأمر به فنضرب عنقه، والحسن والحسين قائمان، فلما سمعا مقالة عمر بكيا، فضمهما (علیه السلام) إلى صدره فقال: لا تبكيا، فوالله ما يقدران على قتل أبيكما. وأقبلت أم أيمن حاضنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالت: يا أبابكر، ما أسرع ما أبديتم حسدكم ونفاقكم، فأمر بها عمر فأخرجت من المسجد وقال: ما لنا

ص: 631

وللنساء. وقام بريدة الأسلمي وقال: أتثب ياعمر على أخي رسول الله وأبي ولده وأنت الذي نعرفك في قريش بما نعرفك؟ ألستما قال لكما رسول الله: إنطلقا إلى علي وسلما عليه بإمرة المؤمنين؟ فقلتما: أعن أمر الله وأمر رسوله؟ قال: نعم. فقال أبوبكر: قد كان ذلك ولكن رسول الله قال بعد ذلك: لا يجتمع لأهل بيتي النبوة والخلافة. فقال: والله ما قال هذا رسول الله، والله لا سكنت في بلدة أنت فيها أمير، فأمر به عمر فضرب وطرد. وأقبلت أم أيمن النوبية حاضنة رسول الله وأم سلمة فقالتا: يا عتيق، ما أسرع ما أبديتم حسدكم لآل محمد! فأمر بهما عمر أن تخرجا من المسجد، وقال: ما لنا وللنساء»!

وفي قرب الإسناد/60، عن الصادق (علیه السلام) قال:«كانت امرأة من الأنصار تدعى حسرة تغشى آل محمد وتحن، وإن [فلاناً وفلاناً] لقياها ذات يوم فقالا: أين تذهبين يا حسرة؟فقالت: أذهب إلى آل محمد فأقضي من حقهم، وأحدث بهم عهداً فقالا: ويلك إنه ليس لهم حق، إنما كان هذا على عهد رسول الله! فانصرفت حسرة ولبثت أياماً ثم جاءت فقالت لها أم سلمة زوجة النبي (صلی الله علیه و آله): ما أبطأ بك عنا يا حسرة؟ فقالت: استقبلني [فلان وفلان] فقالا: أين تذهبين يا حسرة؟ فقلت: أذهب إلى آل محمد فأقضي من حقهم الواجب. فقالا: إنه ليس لهم حق إنما كان هذا على عهد النبي (صلی الله علیه و آله)! فقالت أم سلمة: كذبا لعنهما الله! لايزال حقهم واجباً على المسلمين إلى يوم القيامة»!

كما أن أم سلمة رضيالله عنها بعد خطبة فاطمة (علیها السلام) في المسجد، فحثَّت المسلمين على نصرتها، ففي دلائل الإمامة/124، والدر النظيم/480، أنها قالت بعد خطبة فاطمة (علیها السلام) وجواب أبي بكر لها: «ألمثل فاطمة بنت رسول الله يقال هذا القول؟! هي والله الحوراء بين الإنس، والنفس للنفس، ربيت في حجور الأتقياء، وتناولتها أيدي الملائكة، ونمت في حجور الطاهرات، ونشأت خير نشأ، وربيت خير مربى، أتزعمون أن رسول الله حرم عليها ميراثه ولم يُعلمها، وقد قال الله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرتكَ الأَقْرَبِين! أفأنذرها وخالفت متطلبه وهي خيرة النسوان، وأم سادة الشبان، وعديلة ابنة عمران، تمت بأبيها رسالات ربه، فوالله لقد كان يشفق عليها من الحر والقر ويوسدها يمينه ويلحفها بشماله!

ص: 632

رويداً ورسول الله بمرأى منكم، وعلى الله تردون، واهاً لكم فسوف تعلمون! قال: فحرمت أم سلمة عطاءها تلك السنة»!

نصيحة أم سلمة لعائشة أن لاتعصي النبي (صلی الله علیه و آله)

وكان لها موقف تاريخي مع عائشة، فقد نصحتها وحذرتها، لتثنيها عن الخروج. قال الشريف المرتضى في رسائله: 4/66: «ومن الأخبار الطريفة ما رواه نصر بن مزاحم هذا عن أبي عبدالرحمن المسعودي عن السري بن إسماعيل بن الشعبي عن عبدالرحمن بن مسعود العبدي قال: كنت بمكة مع عبدالله بن الزبير وبها طلحة والزبير. قال: فأرسلا إلى عبدالله بن الزبير، فأتاهما وأنا معه فقالا له: إن عثمان قتل مظلوماً وإنا نخاف الإنتشار من أمة محمد، فإن رأت عائشة أن تخرج معنا لعل الله يرتق بها فتقاً ويشعب بها صدعاً. قال: فخرجنا نمشي حتى انتهينا إليها فدخل عبدالله بن الزبير في سمرها وجلست على الباب، فأبلغها ما أرسلا به إليها فقالت: سبحان الله، ما أمرت بالخروج، وما تحضرني امرأة من أمهات المؤمنين إلا أم سلمة، فإن خرجت خرجت معها! فرجع إليهما فأبلغهما ذلك فقالا: إرجع إليها فلتأتها فإنها أثقل عليها منا، فرجع إليها فبلغها فأقبلت حتى دخلت على أم سلمة فقالت أم سلمة: مرحباً بعائشة، والله ما كنت لي بزائرة فما بدا لك؟ قالت: قدم طلحة والزبير فخبرا أن أميرالمؤمنين عثمان قتل مظلوماً! قال: فصرخت أم سلمة صرخة أسمعت من في الدار فقالت: يا عائشة أنت بالأمس تشهدين عليه بالكفر، وهو اليوم أميرالمؤمنين قتل مظلوماً، فما تريدين! قالت: تخرجين معي، فلعل الله أن يصلح بخروجنا أمر أمة محمد! فقالت: يا عائشة أخرج وقد سمعت من رسول الله ما سمعت! نشدتك بالله يا عائشة الذي يعلم صدقك إن صدقت، أتذكرين يومك من رسول الله فصنعت حريرة في بيتي فأتيته بها وهو يقول: والله لا تذهب الليالي والأيام حتى تتنابح كلاب ماء بالعراق يقال له الحوأب امرأة من نسائي في فتية باغية، فسقط الإناء من يدي، فرفع رأسه إلي فقال: ما بالك يا أم سلمة؟ قلت: يا رسول الله ألا يسقط

ص: 633

الإناء من يدي وأنت تقول ما تقول؟ ما يؤمنني أن أكون أنا هي! فضحكتِ أنت فالتفت إليك فقال: ما يضحكك يا حمراء الساقين، إني لأحسبك هي!

ونشدتك بالله يا عائشة أتذكرين ليلة أسرى بنا رسول الله من مكان كذا وكذا وهو بيني وبين علي بن أبي طالب يحدثنا، فأدخلت جملك فحال بينه وبين علي، فرفع مرفقة كانت معه فضرب بها وجه جملك وقال: أما والله ما يومك منه بواحد ولا بليته منك بواحدة، أما إنه لا يبغضه إلا منافق أو كذاب!

وأنشدك الله يا عائشة أتذكرين مرض رسول الله الذي قبض فيه فأتاك أبوك يعوده ومعه عمر، وقد كان علي بن أبي طالب يتعاهد ثوب رسول الله ونعله وخفه ويصلح ماوهى منها، فدخل قبل ذلك فأخذ نعل رسول الله وهي حضرمية وهو يخصفها خلف البيت، فاستأذنا عليه فأذن لهما فقالا: يا رسول الله كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أحمد الله تعالى. قالا: ما بد من الموت؟ قال: لا بد منه. قالا: يا رسول الله فهل استخلفت أحداً؟فقال: ما خليفتي فيكم إلا خاصف النعل، فخرجا فمرا على علي وهو يخصف النعل!

كل ذلك تعرفينه يا عائشة وتشهدين عليه، لأنك سمعته من رسول الله (صلی الله علیه و آله)!

ثم قالت أم سلمة: يا عائشة أنا أخرج على علي بعد هذا الذي سمعته عن رسول الله؟! فرجعت عائشة إلى منزلها فقالت: يا ابن الزبير أبلغهما أني لست بخارجة بعد الذي سمعته من أم سلمة، فرجع فبلغهما. قال: فما انتصف الليل حتى سمعنا رغاء إبلها ترتحل، فارتحلت معهما».

وأضاف الشريف المرتضى (رحمة الله): «و من العجائب أن يكون مثل هذا الخبر الذي يتضمن النص بالخلافة، وكل فضيلة غريبة، موجوداً في كتب المخالفين وفيما يصححونه من روايتهم ويصنفونه من سيرتهم ولا يتبعونه، لكن القوم رووا ما سمعوا وأودعوا كتبهم ما حفظوا ونقلوا، ولم يتخيروا ويتبينوا ما وافق مذهبهم دون ما خالفهم. وهكذا يفعل المسترسل المستسلم للحق»! شرح النهج: 2/78،العقد الفريد:3/96، البدء والتاريخ: 2/109،

الفائق للزمخشري: 1/190.

ص: 634

وروى نحوه في الإختصاص/116، وفيه تفصيلات، وفيه: «وقد جمع القرآن ذيلك فلا تبذخيه، وسكني عقيراك فلا تضحي بها.وما كنت قائله لو أن رسول الله عرض لك ببعض الفلوات وأنت ناصة قلوصاً من منهل إلى آخر؟! أقسم بالله لو سرت مسيرك هذا ثم قيل لي أدخلي الفردوس لاستحييت أن ألقى محمداً (صلی الله علیه و آله) هاتكة حجاباً قد ضربه عليَّ! ثم قالت: لو ذكَّرتك من رسول الله (صلی الله علیه و آله) خمساً في علي لنهشتني نهش الحية الرقشاء المطرقة ذات الحبب! قالت: ويوم جمعنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) في بيت ميمونة فقال: يا نسائي إتقين الله ولا يسفر بكن أحد! أتذكرين هذا يا عائشة؟ قالت: نعم، ما أقبلني لوعظك وأسمعني لقولك فإن أخرج ففي غير حرج، وإن أقعد ففي غير بأس، وخرجت»!

ورواه ابن أعثم في الفتوح: 2/454، وفيه أن اُم سلمة قالت لها: «فاتقي الله يا عائشة في نفسك، واحذري ما حذرك الله ورسوله ولا تكوني صاحبة كلاب الحوأب، ولايغرنك الزبير وطلحة، فإنهما لا يغنيان عنك من الله شيئاً! قال: فخرجت عائشة من عند أم سلمة وهي حنقة عليها!

وكتبت أم سلمة إلى علي بن أبي طالب: لعبدالله علي أميرالمؤمنين، من أم سلمة بنت أبي أمية، سلام عليك ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فإن طلحة والزبير وعائشة وبنيها بني السوء وشيعة الضلال، خرجوا مع ابن الجزار عبدالله بن عامر إلى البصرة، يزعمون أن عثمان بن عفان قتل مظلوماً، وأنهم يطلبون بدمه! والله كافيكم وجعل دائرة السوء عليهم إن شاء الله تعالى. وتالله لولا ما نهى الله عزوجل عنه من خروج النساء من بيوتهن، وما أوصى به رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند وفاته، لشخصت معك، ولكن قد بعثت إليك بأحب الناس إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وإليك ابني عمر بن أبي سلمة. والسلام.

فلما سمع علي ذلك دعا محمد بن أبي بكر وقال له: ألا ترى إلى أختك عائشة كيف خرجت من بيتها الذي أمرها الله عزوجل أن تقر فيه، وأخرجت معها طلحة والزبير يريدان البصرة لشقاقي وفراقي؟! فقال له محمد: يا أميرالمؤمنين

ص: 635

لا عليك، فإن الله معك ولن يخذلك، والناس بعد ذلك ناصروك، والله تبارك وتعالى كافيك أمرهم إن شاء الله».

ولما أصرَّت عائشة على الفتنة، آلت أم سلمة على نفسها أن لاتكلمها كل عمرها! ففي مواقف الشيعة للأحمدي: 1/93: «دخلت على أم سلمة بعد رجوعها من وقعة الجمل وقد كانت أم سلمة حلفت أن لا تكلمها أبداً، من أجل مسيرها إلى محاربة علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فقالت عائشة: السلام عليك يا أم المؤمنين، فقالت: يا حائط ألم أنهك ألم أقل لك؟ قالت عائشة: فإني أستغفر الله وأتوب إليه كلميني يا أم المؤمنين! قالت: يا حائط! ألم أقل لك ألم أنهك؟ فلم تكلمها حتى ماتت! وقامت عائشة وهي تبكي وتقول: وا أسفاه على ما فرط مني». المحاسن للبيهقي/181.

لماذا لايسمون أم سلمة: أم المؤمنين؟

مع المكانة العظيمة لأم سلمة (علیها السلام)، تراهم يذكرون في كتبهم اسمها مجرداً! بينما يذكرون اسم عائشة مقروناً بأم المؤمنين، دائماً أو غالباً! وبذلك تعرف موقفهم من مرويات أم سلمة (علیها السلام)، التي تبلغ أضعاف ما روته عائشة في الكمية، وهي أرقى من روايات عائشة في النوعية، وليس فيها إفراط عائشة ومبالغاتها في مدح نفسها، ولا إسفافها في الأمور الشخصية!

قال العلامة الحلي (رحمة الله): «وعظموا عائشة على باقي نسوانه (صلی الله علیه و آله) ..وساعدوها على حرب أميرالمؤمنين (علیه السلام)! ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما طلبت حقها من أبي بكر ولا شخص واحد بكلمة واحدة! وسموها أم المؤمنين ولم يسموا غيرها بذلك»! شرح منهاج الكرامة للميلاني: 1/454.

وقال الکراجکي/102: «ومن عجيب أمرهم تفضيلهم عائشة بنت أبي بكر على جميع أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) ..وكثرة ترحمهم عليها وإظهارهم الخشوع والبكاء عند ذكرها، ثم لا يذكرون خديجة بنت خويلد وفضلها متفق عليه وعلو قدرها لا شك فيه، وهي أول من آمن برسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنفقت عليه مالها. وكان يكثر ذكرها ويحسن الثناء عليها ويقول: مانفعني مال كمالها، ورزقه الله الولد منها، ولم يتزوج في حياتها إكراماً لها»!

ص: 636

أقول: ما ذكره العلامة (رحمة الله) يدل على مخالطته لهم وتتبعه مؤلفاتهم، وهم كذلك إلى اليوم يعبرون عن زوجات النبي (صلی الله علیه و آله) بأسمائهن فإذا وصلوا إلى عائشة قالوا: أم المؤمنين!

أولاد أم سلمة

كان لها من أبي سلمة ثلاثة أبناء، هم: سلمة ومحمد وعمر، وثلاث بنات: درة وزينب وأم كلثوم، فهم صحابة وربائب النبي (صلی الله علیه و آله) . وأشهرهم عمر ويسمى أيضاً عمرو، ثم زينب التي روي أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يلاعبها وهي طفلة ويقول: «يا زوينب، يا زوينب، مراراً». الجامع الصغير: 2/396.

وكان عمر أصغر من أخويه وأبرزهما، فقد رضي به النبي (صلی الله علیه و آله) أن يزوجه والدته ولياً لها: «زوجها إياه عمر بن أبي سلمة وهو صغير لم يبلغ الحلم». الكافي: 5/391.

وجاءت أم سلمة بولديها محمد وسلمة إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) لينصراه وقالت له: «هما عليك صدقة، فلو يصلح لي الخروج لخرجت معك». رجال الطوسي/48.

ومعنى كلامها أنهما وقف لله تعالى لنصرتك. وقال ابن عقدة: «جاءت بعمر وسلمة. وشهد عمر مع علي حرب الجمل ثم استعمله على فارس، وتوفي في خلافة عبدالملك بن مروان بالمدينة. وعاش أخوه سلمة إلى خلافة عبدالملك، وكان أسن من عمر». مذيل الطبري/58.

وفي نهجالبلاغة: 3/67: «من كتاب له (علیه السلام) إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي وكان عامله على البحرين، فعزله واستعمل النعمان بن عجلان الزرقي مكانه:

أما بعد فإني قد وليت النعمان بن عجلان الزرقي على البحرين، ونزعت يدك بلا ذم لك ولا تثريب عليك، فلقد أحسنت الولاية وأديت الأمانة، فأقبل غير ظنين ولا ملوم ولا متهم ولا مأثوم، فقد أردت المسير إلى ظَلَمَة أهل الشام وأحببت أن تشهد معي، فإنك ممن استظهر به على جهاد العدو، وإقامة عمود الدين إن شاء الله».

ورواه في أنساب الأشراف/158 واليعقوبي: 2/201، وفيه: «جعلنا الله وإياك من الذين يعملون بالحق وبه يعدلون. فأقبل عمر فشهد معه ثم انصرف، وتبع علياً إلى الكوفة فمكث معه سنة وبعض أخرى».

ص: 637

سودة بنت زمعة أول زوجات النبي (صلی الله علیه و آله) بعد خديجة (علیها السلام)

1- سَوْدَة بنت زَمْعَة القرشية. أبوها زمعة بن قيس من قبيلة عامر بن لؤي القرشية، التي عرف منها ابن الزبعرى الشاعر الذي كان يهجو النبي (صلی الله علیه و آله)، وعمرو بن عبد ود، الذي قتله علي (علیه السلام) مع ابنه يوم الخندق، وحويطب بن عبدالعزى، «العلل لابن حنبل: 3/422» ومنهم بسر بن أرطاة القائد السفاك عند معاوية، الذي أغار على الحجاز واليمن وكانا تحت حكم علي (علیه السلام) فقتل في غارته ثلاثين ألفاً! «ابن خياط/150». ومنهم عبدالله بن مخرمة بن عبدالعزى، الذي رووا أنه انحاز في بدر من صف المشركين إلى صف النبي (صلی الله علیه و آله) . ابن هشام: 1/246.

وكان رئيسهم سهيل بن عمرو، من أشد المشركين على النبي (صلی الله علیه و آله)، والمفاوض عنهم في صلح الحديبية.وعندما غضب القرشيون على أبي سفيان في فتح مكة واتهموه بأنه وافق محمداً (صلی الله علیه و آله) على تسليمه مكة بدون شروط، عزلوه ونصبوا بدله سهيل بن عمرو، فصار زعيم قريش. وكان له دور في الإعداد للسقيفة.

وقد وقع سهيل أسيراً يوم بدر هو وعبد بن زمعة أخ سودة.«ابن هشام: 2/534»وقد يكون عبد هذا نفسه عبدالله بن زمعة الذي نصوا عليه.الطبقات: 4/204.

وكانت سودة زوجة السكران بن عمرو، أخ سهيل بن عمر، فقد هاجر إلى الحبشة خوفاً من أخيه سهيل وعشيرته، ثم استرضاه ورجع إلى مكة قبل الهجرة فتوفي فيها، وروى ابن سعد أنه مات في الحبشة وأن له ولداً من سودة. «الطبقات: 4/204» وقال غيره لم يكن لهما أولاد «أنساب السمعاني: 4/117».

وقال الطبري: 2/411: «وكان السكران من مهاجرة الحبشة فتنصر ومات بها، فخلف عليها رسول الله». وقد اشتبه السرخسي «المبسوط 28/186» في إسم أبيها زمعة بن قيس، فحسبوه زمعة بن الأسود. وتنبه له ابن حجر. الإصابة: 4/322.

وبهذا نعرف الحكمة من زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بسودة لمكانتها في قريش ومكانة أقاربها.

2. خطب النبي (صلی الله علیه و آله) سودة قبل الهجرة وتزوج بها بعد الهجرة، ووصفتها عائشة فقالت: «كانت سودة امرأة ضخمة ثبطة» نيل الأوطار: 5/142،ومسند أحمد: 6/94.

ص: 638

وفي إمتاع الأسماع: 6/33: «كانت امرأة ثقيلة ثبطة وكان في أذنها ثقل، وأسنَّت عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) فهم بطلاقها، ويقال طلقها في سنة ثمان من الهجرة تطليقة».

وفي دلائل الامامة/81: «تزوج سودة أول دخوله المدينة فنقل فاطمة إليها، ثم تزوج أم سلمة بنت أبي أمية، فقالت أم سلمة: تزوجني رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفوَّض أمر ابنته إليَّ فكنت أدلها وأؤدبها، وكانت والله آدب مني وأعرف بالأشياء كلها».

وزعمت عائشة، «مسند أحمد: 6/210» أن خولة بنت حكيم زوجة عثمان بن مظعون عرضت على النبي (صلی الله علیه و آله) بعد وفاة خديجة سودة وعائشة، فأمرها أن تخطبهما له، وكان عمر عائشة ست سنين! فقال أبوبكر لخولة: «أدعي لي رسول الله فدعته فزوجها إياه، وعائشة يومئذ بنت ست سنين»!

ثم زعمت عائشة أن خولة ذهبت بعد خطبتها هي إلى زمعة والد سودة، وكان شيخاً كبير السن فحيته بتحية الجاهلية! وخطبت منه سودة فقبل: «فجاء رسول الله إليه فزوجها إياها، فجاءها أخوها عبد بن زمعة من الحج فجعل يحثي في رأسه التراب..قالت عائشة فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحرث بن الخزرج في السنح. قالت فجاء رسول الله فدخل بيتنا واجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء فجاءتني أمي وإني لفي أرجوحة بين عذقين ترجح بي فأنزلتني من الأرجوحة ولي جُمَيْعَة «شعر قليل» ففرقتها ومسحت وجهي بشئ من ماء، ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب وإني لأنهج حتى سكن من نفسي، ثم دخلت بي فإذا رسول الله جالس على سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلستني في حجره، ثم قالت هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهم وبارك لهم فيك، فوثب الرجال والنساء فخرجوا، وبنى بي رسول الله في بيتنا، ما نحرت عليَّ جزور ولا ذبحت عليَّ شاة، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله إذا دار إلى نسائه، وأنا يومئذ بنت تسع سنين».

ولايمكن قبول رواية أن النبي (صلی الله علیه و آله) تزوج في مكة بعد خديجة (علیها السلام)، لمعارضتها بغيرها، مضافاً إلى أنه كان بعد وفاة أبي طالب وخديجة في ظرف أمني خطير،

ص: 639

وقد اختفى مدة في الحجون خوفاً على حياته من قريش!

وكذلك لا نقبل أن النبي (صلی الله علیه و آله) ذهب إلى بيت أبي بكر في المدينة وتزوج بعائشة هناك، لأن أبابكر كان يعيش في خيمة شعر عند أهل زوجته!قال ابن سعد في الطبقات: 3/174: «ولم يزل في بيت الحارث بن الخزرج بالسنح، حتى توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله)». وفي أسد الغابة: 3/219: «كان منزله بالسنح عند زوجته حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير، وكان قد حجر عليه حجرة من شعر، فما زاد على ذلك حتى تحول إلى المدينة». أي صار خليفة.

3. زعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) أرسل: «زيد بن حارثة وأبا رافع وأعطاهما بعيرين وخمس مائة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتي رسول الله وسودة بنت زمعة».«الطبقات: 1/237» لكن روايتهم استفاضت بأن النبي (صلی الله علیه و آله) انتظر علياً (علیه السلام) في قباء حتى جاء بعائلته، ولم تكن فيهم سودة ولا عائشة، فلا بد أن تكون هذه الرواية من قصص عائشة الكثيرة التي مدحت فيها نفسها! والمعقول أنها هاجرت مع أمها ونزلت في بيت أبيها أبي بكر، وكان له زوجتان في السنح غير أم رومان. أما سودة فلا يعرف كيف هاجرت إلى المدينة.

4. وكانت عائشة وحفصة تسخران من سودة وتؤذيانها حتى صارت من حزبهما، ففي دلائل الإعجاز للجرجاني وأحاديث عائشة للعسكري: 1/63: «سمعت أم المؤمنين عائشة سودة تنشد: عديٌّ وتيمٌ تبتغي من تحالفُ! فقالت عائشة لحفصة: ماتُعَرِّضُ إلا بي وبك! يا حفصة فإذا رأيتني أخذت برأسها فأعينيني! فقامت فأخذت برأسها وخافت حفصة فأعانتها، وجاءت أم سلمة فأعانت سودة! فأتى النبي فأُخْبِرَ وقيل له: أدرك نساءك يقتتلن! فقال: ويحكن مالكن؟ فقالت عائشة: يا رسول الله ألا تسمعها تقول: عدي وتيم تبتغي من تحالفُ. فقال: ويحكن ليس عديكن ولا تيمكن، إنما هو عدي تميم، وتيم تميم»!

ورأتها عائشة وحفصة تزينت فقالتا: خرج الدجال! خرج الدجال! فخافت سودة: «وكانت امرأة طويلة فدخلت خباء كان لوقودهم!قالت: واستضحكنا فدخل

ص: 640

رسول الله فإذا سودة تنتفض فقال: مالك؟ فقالت: يا رسول الله خرج الدجال؟فقال: لا، وهو خارج؟فأخذ بيدها وأخرجها وجعل ينفض بكم قميصه عن وجهها وعن خمارها أثر الدخان ونسج العنكبوت».الآحاد والمثاني: 6/208.

وفي مختصر تاريخ دمشق: 18/286: «قالت عائشة2 كان عندي رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسوده فصنعت حريره فجئت بها فقلت لسودة: كلي، فقالت: لا أحبه، فقلت والله لتأكلين أو لألطخن وجهك! فقالت: ماأنا بذائقة، فاخذت من الصحفة شيئاً فلطخت به وجهها»!

5. وقالوا: «أسنَّت عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) فهم بطلاقها» ولا يصح، لأنه اتهام للنبي (صلی الله علیه و آله)، فإنه ما تزوج ولا طلق لأسباب جنسية، فقد يكون السبب أنها صارت من حزب عائشة، أو أنها كانت تعظم سهيل بن عمرو أخ زوجها السابق! فعندما رأته مع أسارى بدر حرضته على النبي (صلی الله علیه و آله) ووبخته كيف استسلم ولم يقاوم! وقالت له بحضور النبي (صلی الله علیه و آله): «أي أبا يزيد، أعطيتم بأيديكم، ألا متم كراماً! فقال لها رسول الله: أعلى الله ورسوله تحرضين ياسودة»! ابن هشام: 2/472.

كما لايصح قولهم إنها لم يكن لها إربة بالرجال فوهبت ليلتها لعائشة! قال الشافعي «في الأم 5/152»: «أراد فراق سودة فقالت: لاتفارقني ودعني حتى يحشرني الله في أزواجك، وأنا أهب ليلتي ويومى لأختي عائشة».

وأصله ما زعمته عائشة فقالت كما في صحيح بخاري: 3/135: «كان (صلی الله علیه و آله) يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي (صلی الله علیه و آله) تبتغى بذلك رضا رسول الله».

والصحيح أن الله تعالى أسقط عن نبيه (صلی الله علیه و آله) القسمة لنسائه، فقال: تُرْجِى مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُئْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ. فلا حق لسودة حتى تهبه.

ص: 641

الفصل السابع والثلاثون: زواج علي و فاطمة (علیهما السلام)

1- خَطَبَها كبار الصحابة فردهم النبي (صلی الله علیه و آله)!

روى الجميع أن أبابكر وعمر وغيرهما خطبا الزهراء (علیها السلام)، فردهم النبي (صلی الله علیه و آله) . قال ابن سعد في الطبقات: 8/19: «إن أبابكر خطب فاطمة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا أبابكر أنتظر بها القضاء، فذكر ذلك أبوبكر لعمر فقال له عمر: ردك يا أبابكر. ثم إن أبابكر قال لعمر: أخطب فاطمة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فخطبها فقال له مثلما قال لأبي بكر: أنتظر بها القضاء، فجاء عمر إلى أبي بكر فأخبره فقال: له ردك يا عمر»!

وفي تذكرة الخواص/276، عن أحمد في الفضائل: «فقال رسول الله: إنها صغيرة، وإني أنتظر بها القضاء، فلقيه عمر فأخبره، فقال: ردك، ثم خطبها عمر فرده».

وفي سنن النسائي: 6/62: «فقال رسول الله: إنها صغيرة فخطبها علي فزوجها منه».

وفي مجمع الزوائد: 9/204 عن الطبراني الكبير: 22/408 ووثقه: «خطب أبوبكر وعمر فاطمة فقال النبي: هي لك يا علي».

وفي المناقب: 3/122: «اشتهر في الصحاح بالأسانيد عن أميرالمؤمنين (علیه السلام)، وابن عباس، وابن مسعود، وجابر الأنصاري، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، وأم سلمة، بألفاظ مختلفة ومعان متفقة، أن أبابكر وعمر خطبا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) مرة بعد أخرى فردهما. وروى ابن بطة في الإبانة أنه خطبها عبدالرحمن فلم يجبه. وفي رواية غيره أنه قال: بكذا من المهر، فغضب (صلی الله علیه و آله) ومد يده إلى حصى فرفعها فسبحت في يده، وجعلها في ذيله فصارت دراً

ص: 642

ومرجاناً، يعرض به جواب المهر».

وفي الصحيح من السيرة: 5/270: «وقد عاتب الخاطبون النبي (صلی الله علیه و آله) على منعهم وتزويج علي (علیه السلام)، فقال (صلی الله علیه و آله): والله ما أنا منعتكم وزوجته، بل الله منعكم وزوجه! وقد ورد عنه (صلی الله علیه و آله) أنه قال: لو لم يُخلق علي ما كان لفاطمة كفؤ».

وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/203: «عن علي (علیه السلام) قال: قال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي لقد عاتبتني رجال قريش في أمر فاطمة، وقالوا: خطبناها إليك فمنعتنا وزوجت علياً؟! فقلت لهم: والله ما أنا منعتكم وزوجته بل الله تعالى منعكم وزوجه! فهبط عليَّ جبرئيل (علیه السلام) فقال: يا محمد إن الله جل جلاله يقول: لو لم أخلق علياً لما كان لفاطمة ابنتك كفو على وجه الأرض، آدم فمن دونه»!

وفي كشف الغمة: 2/100: «إن الله عزوجل زوجك فاطمة (علیها السلام)، وجعل صداقها الأرض، فمن مشى عليها مبغضاً لها مشى حراماً».

ورد الشريف المرتضى روايتهم بأن علياً (علیه السلام) آذى فاطمة (علیها السلام) فقال: «إن الله تعالى هو الذي اختار علياً لفاطمة، فكيف يختار لها من يؤذيها ويغمها»! الشافي: 2/277.

2- تولى الله أمر فاطمة (علیها السلام) دون أبيها (صلی الله علیه و آله)

النبي (صلی الله علیه و آله) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، لكن لا ولاية له على ابنته الزهراء (علیها السلام)!

فقد علل رده لمن خطبها غير علي (علیه السلام) بأن أمرها لله تعالى وليس له!

وفي الكافي: 5/568، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنما أنا بشر مثلكم أتزوج فيكم وأزوجكم، إلا فاطمة، فإن تزويجها نزل من السماء».

وفي كشف الغمة: 1/363، من كلام أبي بكر قال: «قد خطبها الأشراف من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: إن أمرها إلى ربها، إن شاء أن يزوجها زوجها».

وهذا يدل على أنها كانت منذورة لله تعالى مثل مريم (علیها السلام)، أو أن الله تعالى أمر نبيه أن يترك أمرها له! وهذا مقام عظيم لم يبلغه قبلها رجل ولا امرأة!

وقد حاول بعضهم أن ينتقص من مقامها (علیها السلام) ويعمم هذه الفضيلة، فروى

ص: 643

الحاكم: 4/49 أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «ما أنا أزوج بناتي ولكن الله تعالى يزوجهن».لكنه (صلی الله علیه و آله) زوج زينب وأم كلثوم ولم يقل إن أمرهن لله تعالى وليس له!

ويشبه ذلك ما رواه الحاكم: 2/201، عن عروة عن خالته عائشة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال عن ابنته أو ربيبته زينب: «هي أفضل بناتي أصيبت فيَّ. فبلغ ذلك علي بن الحسين فانطلق إلى عروة فقال: ما حديث بلغني عنك تحدثه تنتقص فيه حق فاطمة (علیها السلام) ؟ فقال: والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأني أنتقص فاطمة حقاً هو لها! وأما بعد، فلك أن لا أحدث به أبداً.

قال عروة: وإنما كان هذا قبل نزول آية: أدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَأَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ..».

ومعناه أنه يعتذر عن خالته عائشة بأنها قالت إن النبي (صلی الله علیه و آله) قال بنتي قبل نزول النهي عن النسبة بالتبني. ومعناه أن زينب ربيبة النبي (صلی الله علیه و آله) وليست بنته.

3- عرس الزهراء (علیها السلام) أعظم عرس في تاريخ الأنبياء (علیهم السلام)

أمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يزوج فاطمة من علي (علیهما السلام) ويحتفل بعرسها. قال أنس: «كنت قاعداً عند النبي (صلی الله علیه و آله) فغشيه الوحي فلما سُرِّيَ عنه قال: أتدري يا أنس ما جاء به جبريل من عند صاحب العرش؟قلت: بأبي وأمي!وما جاء به جبريل من عند صاحب العرش؟ قال: إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي». تاريخ دمشق: 37/13، نحوه كبير الطبراني: 10/156، الزوائد: 9/204، المناقب لابن مردويه/196، الجامع الصغير: 1/258، كنز العمال: 11/606، و13/671، الكشف الحثيث/174، جواهر المطالب: 1/155، سبل الهدى: 11/38، الحلبية: 2/471 وغيرها وصححوه.

ووصفت الأحاديث في مصادر الطرفين مراسم الخطبة، ثم العقد، ثم تهيئة المنزل، وتأثيثه، ثم وليمة الزفاف. وتبلغ نحو خمسين صفحة!

4- أيها الرسول: زوج النور من النور

نزل جبرئيل بأمر الله تعالى لرسوله (صلی الله علیه و آله) أن يزوج النور من النور، فتحدث النبي (صلی الله علیه و آله) في المسجد وأمر علياً (علیه السلام) أن يخطب فخطب وطلب منه يد فاطمة (علیها السلام)،

ص: 644

وأجابه النبي (صلی الله علیه و آله) بالقبول، وأخبر المسلمين باحتفال الملأ الأعلى بعرسهما.

ثم باع علي (علیه السلام) درعه وجاء بثمنه مهراً وأعطاه للنبي (صلی الله علیه و آله)، فأعطى منه قبضة إلى أم سلمة وأم أيمن لشراء لوازم عرس الزهراء (علیها السلام)، وقبضة لسلمان وأبي بكر، لشراء لوازم المنزل. ثم أمر الصحابة والصحابيات بتهيئة المنزل.

وبقيت الزهراء بعد عقد زواجها مدة في بيت أبيها (صلی الله علیه و آله)، ثم أقام النبي (صلی الله علیه و آله) مراسم زفافها فأولم وليمة كبيرة لم يحدث التاريخ بأوسع منها في كل سيرته (صلی الله علیه و آله) . والأحاديث في مراسم زواج الزهراء (علیها السلام) عديدة، اخترنا نماذج منها:

في المناقب: 3/123 وتاريخ بغداد: 4/432: «طلع النبي (صلی الله علیه و آله) ووجهه مشرق كالبدر، فسأله ابن عوف عن ذلك فقال: بشارة أتتني من ربي لأخي وابن عمي وابنتي، واللهُ زوج علياً بفاطمة (علیهما السلام)، وأمر رضوان خازن الجنان فهز شجرة طوبى فحملت رقاعاً بعدد محبي أهل بيتي، وأنشأ من تحتها ملائكة من نور، ودفع إلى كل ملك صكاً براءة من النار، بأخي وابن عمي وابنتي، فكاك رقاب رجال ونساء من أمتي.

دعاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: أبشر يا علي فإن الله قد كفاني ما كان من همتي تزويجك، أتاني جبرئيل ومعه من سنبل الجنة وقرنفلها، فتناولتهما وأخذتهما فشممتهما، فقلت: ما سبب هذا السنبل والقرنقل؟ قال: إن الله أمر سكان الجنة من الملائكة ومن فيها أن يزينوا الجنان كلها، بمغارسها وأشجارها وثمارها وقصورها، وأمر ريحها فهبت بأنواع العطر والطيب، وأمر حور عينها بالقراءة فيها طه ويس وطواسين وحم وعسق، ثم نادى مناد من تحت العرش: ألا إن اليوم يوم وليمة علي، ألا إني أشهدكم أني زوجت فاطمة من علي، رضاً مني ببعضهما لبعض.

ثم بعث الله سبحانه سحابة بيضاء فقطرت من لؤلؤها وزبرجدها ويواقيتها، وقامت الملائكة فنثرن من سنبلها وقرنفلها، وهذا مما نثرت الملائكة».

وفي حديث خباب بن الأرت: أن الله تعالى أوحى إلى جبرئيل: «زوج النور

ص: 645

من النور وكان الولي الله، والخطيب جبرئيل، والمنادي ميكائيل، والداعي إسرافيل، والناثر عزرائيل، والشهود ملائكة السماوات والأرضين. ثم أوحى إلى شجرة طوبى أن انثري ما عليك، فنثرت الدر الأبيض والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر واللؤلؤ الرطب، فبادرن الحور العين يلتقطن، ويهدين بعضهن».

وفي تعبير: زوج النور من النور سرٌّ لطيف، لأن نور النبوة صار جزءين، وافترق في عبدالله وأبي طالب: جزء للنبوة، وجزء للإمامة، ثم اجتمع في الحسن والحسين (علیهما السلام) .

قال الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 1/442»: «إن الله كان إذ لا كان، فخلق الكان والمكان وخلق نور الأنوار، الذي نورت منه الأنوار، وأجرى فيه من نوره الذي نورت منه الأنوار، وهو النور الذي خلق منه محمداً (صلی الله علیه و آله) وعلياً (علیه السلام)، فلم يزالا نورين أولين، إذ لا شئ كون قبلهما، فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة، حتى افترقا في أطهر طاهرين في عبدالله وأبي طالب (علیهم السلام)».

وقال القاضي سعيد في شرح توحيد الصدوق: 2/79:«وعندها يتحد النوران اللذان اقتسما في عبدالله وأبي طالب رضيالله عنهما».

5- خطبة علي (علیه السلام) الرسمية وجواب النبي (صلی الله علیه و آله)

قال في المناقب: 3/126: «وخطب النبي على المنبر في تزويج فاطمة (علیها السلام) خطبة، رواها يحيى بن معين في أماليه، وابن بطة في الإبانة بإسنادهما عن أنس بن مالك مرفوعاً، ورويناها عن الرضا (علیه السلام) .وروى ابن مردويه أنه قال لعلي: تكلم خطيباً لنفسك، فقال: الحمد لله الذي قرب من حامديه، ودنا من سائليه، ووعد الجنة من يتقيه، وأنذر بالناس من يعصيه، نحمده على قديم إحسانه وأياديه، حمد من يعلم أنه خالقه وباريه، ومميته ومحييه، ومسائله عن مساويه، ونستعينه ونستهديه، ونؤمن به ونستكفيه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبلغه وترضيه، وأن محمداً عبده ورسوله، صلاة تزلفه وتخطيه، وترفعه وتصطفيه.

والنكاح ما أمر الله به ورضيه، واجتماعنا مما قدره الله وأذن فيه، وهذا رسول الله

ص: 646

زوجني ابنته فاطمة على خمس مائة درهم وقد رضيت، فاسألوه واشهدوا.

وفي خبر: زوجتك ابنتي فاطمة على ما زوجك الرحمن، وقد رضيت بما رضيالله لها، فدونك أهلك فإنك أحق بها مني.

وفي خبر: فنعم الأخ أنت، ونعم الختن أنت، ونعم الصاحب أنت، وكفاك برضى الله رضاً، فخر عليٌّ ساجداً شكر الله تعالى وهو يقول: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): آمين».

6- عرس فاطمة (علیها السلام) في السماء

في تفسير العياشي: 2/211، عن الإمام الباقر (علیه السلام): «أمر الله طوبى فنثرت عليهم من حللها وسندسها، وإستبرقها، ودرها، وزمردها، وياقوتها، وعطرها، فأخذوا منه حتى ما دروا مايصنعون به. ولقد نحل الله طوبى في مهر فاطمة (علیها السلام)، فهي في دار علي بن أبي طالب».

وفي المناقب: 3/128: «قيل لرسول الله (صلی الله علیه و آله): قد علمنا مهر فاطمة في الأرض فما مهرها في السماء فقال: سل ما يعنيك ودع ما لا يعنيك. قيل: هذا مما يعنينا يا رسول الله، قال: كان مهرها في السماء خمس الأرض، فمن مشى عليها مبغضاً لها أو لولدها، مشى عليها حراماً إلى أن تقوم الساعة».

وفي روضة الواعظين/144،عن علي (علیه السلام) قال: «أتاني رسول رسول لله فقال لي: أجب النبي وأسرع، فما رأينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أشد فرحاً منه اليوم! قال: فأتيته مسرعاً فقال: أبشر ياعلي فإن الله تعالى قد كفاني ماكان من همي من أمر تزويجك. قلت: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: أتاني جبرئيل ومعه سنبل الجنة وقرنفلها فناولنيهما، فأخذتهما فشممتهما فقلت: ما سبب هذا السنبل والقرنفل؟ فقال: إن الله تعالى أمر سكان الجنة من الملائكة ومن فيها أن يزينوا الجنان كلها، بمغارسها وأشجارها وثمارها وقصورها، ثم نادى مناد: ألا يا ملائكتي وسكان جنتي،

ص: 647

باركوا علي بن أبي طالب حبيب محمد وفاطمة بنت محمد، فقد باركت عليهما. قال علي: فقلت: يا رسول الله بلغ من قدري حتى أني ذكرت في الجنة وزوجني الله في ملائكته. فقال (صلی الله علیه و آله): إن الله تعالى إذا أكرم وليه وأحبه، أكرمه بما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، فاختار الله لك يا علي. فقلت: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ.. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): آمين».

وفي تاريخ دمشق: 42/126: «عن جابر بن عبدالله قال: دخلت أم أيمن على النبي وهي تبكي فقال لها: ما يبكيك لا أبكى الله عينيك؟ قالت: بكيت يا رسول الله لأني دخلت منزل رجل من الأنصار قد زوج ابنته رجلاً من الأنصار، فنثر على رأسها اللوز والسكر، فذكرت تزويجك فاطمة من علي بن أبي طالب ولم ينثر عليها شيئاً! فقال النبي (صلی الله علیه و آله): لا تبكي يا أم أيمن فوالذي بعثني بالكرامة واستخصني بالرسالة ما أنا زوجته ولكن الله زوجه، ما رضيت حتى رضي علي، وما رضيت فاطمة حتى رضيالله رب العالمين. يا أم أيمن، إن الله لما أن زوج فاطمة من علي أمر الملائكة المقربين أن يحدقوا بالعرش فيهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وأمر الجنان أن تزخرف فتزخرفت، وأمر الحور العين أن يتزينَّ فتزينَّ، وكان الخاطب الله وكان الملائكة الشهود! ثم أمر شجرة طوبى أن تنثر فنثرت عليهم اللؤلؤ الرطب مع الدر الأبيض مع الياقوت الأحمر مع الزبرجد الأخضر، فابتدر حور عين من الجنان يرفلن في الحلي والحلل يلتقطنه،ويقلن هذا من نثار فاطمة بنت محمد، فهن يتهادينه بينهن إلى يوم القيامة».

أقول: يظهر أن أم أيمن تتكلم عن المرحلة الأولى من عرس فاطمة (علیها السلام)، فقد ورد في حديث زفافها أنهم نثروا في عرسها: «فخرج مولى لأم سلمة زوجة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فنثر سكراً ولوزاً ونثر الناس من كل جانب».الهداية الكبرى/115.

ص: 648

7- تهيئة النبي (صلی الله علیه و آله) منزل فاطمة وعلي (علیهما السلام)

روى الطبراني في الأوسط: 6/290 وابن ماجة: 1/615: «عن عائشة وأم سلمة قالتا: أمرنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن نجهز فاطمة حتى ندخلها على علي، فعمدنا إلى البيت ففرشناه تراباً ليناً من أعراض البطحاء، ثم حشونا مرفقتين ليفاً فنفشناه بأيدينا، ثم أطعمنا تمراً وزبيباً وسقينا ماء عذباً، وعمدنا إلى عود فعرضناه في جانب البيت ليلقى عليه الثوب ويعلق عليه السقاء. فما رأينا عرساً أحسن من عرس فاطمة».

وكان أميرالمؤمنين (علیه السلام) يسكن في بيت مع أمه فاطمة بنت أسد، وعندما تزوج انتقل إلى بيته الجديد وسكنت معه والدته (علیها السلام) .

ففي ذخائر العقبى/51 1: «فقال علي لأمه فاطمة بنت أسد: إكفي بنت رسول الله الخدمة خارجاً، سقاية الماء والحاجة وتكفيك العمل في البيت (علیهم السلام) العجن والطحن».

8- وصف أثاث بيت فاطمة (علیها السلام)

في المناقب: 3/127: «قال الصادق (علیه السلام): وسكب الدراهم في حجره، فأعطى منها قبضة كانت ثلاثة وستين أو ستة وستين إلى أم أيمن لمتاع البيت، وقبضة إلى أسماء بنت عميس للطيب، وقبضة إلى أم سلمة للطعام، وأنفذ عماراً وأبابكر وبلالاً لابتياع ما يصلحها. وكان مما اشتروه قميص بسبعة دراهم، وخمار بأربعة دراهم، وقطيفة سوداء خيبرية وسرير مزمل بشريط، وفراشان من خيش مصر حشو أحدهما ليف وحشو الآخر من جز الغنم، وأربع مرافق من أدم الطايف، حشوها إذخر، وستر من صوف، وحصير هجري، ورحاء اليد، وسقاء من أدم ومخضب من نحاس، وقعب للبن، وشن للماء، ومطهرة مزفتة، وجرة خضراء، وكيزان خزف.. ونطع من أدم،وعباء قطراني، وقربة ماء». إلى آخر الروايات.

ص: 649

9- أفخم الأعراس عرس فاطمة (علیها السلام)

أقام النبي (صلی الله علیه و آله) بأمر ربه عرساً لفاطمة وعلي (علیهما السلام) لانظير له في تاريخ الأنبياء (علیهم السلام)، فقد زوج بناته أو ربيباته قبل فاطمة (علیها السلام) وبعدها، وتزوج هو، وكانت احتفالاته مختصرة، فكان يدعو من حضر إلى طعام من تمر وسمن وما شابه، وانتهی الأمر.

وقد جاء في رواية الطبراني في الأوسط: 6/290 وابن ماجة: 1/615: «عن عائشة: فما رأينا عرساً أحسن من عرس فاطمة».

وضاق بعض حساد علي وفاطمة (صلی الله علیه و آله) بهذا الحديث فقالوا إنه كان أحسن عرس فقط بالحَيْس، أي حلاوة التمر، أو الطحين التي تحاس بالدهن!

ورووا «عن جابر: حضرنا عرس علي، فما رأينا عرساً كان أحسن منه حَيْساً» «الطبراني الأوسط: 6/290». ثم حاولوا أن يضعفوا رواية ابن ماجة بسلم بن خالد الزنجي، فقال في مجمع الزوائد: 4/50: «وهو ضعيف وقد وثق».

وقد وثقه ابن معين والدارقطني وابن حبان، وهم من كبار الأئمة عندهم!

ففي تاريخ ابن معين: 1/50: «سألت يحيى عن مسلم بن خالد الزنجي فقال ثقة». وفي مشاهير ابن حبان /234: «كان أبيض مشرب الحمرة، فلذلك قيل زنجي! مات سنة تسع وسبعين ومائة، وكان من فقهاء أهل مكة، ومنه تخرج الشافعي وإياه كان يجالس قبل أن يلقى مالكاً».«قال الدارقطني: ثقة». تهذيب التهذيب: 10/117.

فقد ضعفوه لروايته فضائل أهل البیت (علیهم السلام)!قال بخاري في الضعفاء/110: «منكر الحديث»!ولعلهم لبغضهم إياه سموه زنجياً، مع أنه أبيض أحمر!

10- وليمة الزفاف بعد شهر من العقد

أقام النبي (صلی الله علیه و آله) وليمة عامة لعرس علي وفاطمة (علیهما السلام)، ومدَّ السفر للناس في المسجد، ففي مناقب علي بن أبي طالب (علیه السلام) لأبي بكر بن مردويه/198، ومناقب ابن شهر آشوب: 3/129: «في حديث: فمكث علي تسعة وعشرين ليلة، فقال له جعفر وعقيل: سله أن يدخل عليك أهلك، فعرفت أم أيمن ذلك وقالت: هذا من أمر النساء

ص: 650

فخلت به أم سلمة فطالبته بذلك، فدعاه النبي (صلی الله علیه و آله) وقال: حباً وكرامة، فأتى الصحابة بالهدايا، فأمر بطحن البُر وخبزه، وأمر علياً بذبح البقر والغنم، فكان النبي (صلی الله علیه و آله) يُفَصِّل «الذبيحة» ولم يُرَ على يده أثر دم!

فلما فرغوا من الطبخ أمر النبي (صلی الله علیه و آله) أن ينادى على رأس داره: أجيبوا رسول الله وذلك كقوله تعالى: وأذن في الناس بالحج «والناس في أماكنهم يسمعون دعوته» فأجابوا من النخلات والزروع، فبسط النطوع في المسجد وصدر الناس، وهم أكثر من أربعة آلاف رجل وسائر نساء المدينة، ورفعوا منها ما أرادوا، ولم ينقص من الطعام شئ! ثم عادوا في اليوم الثاني وأكلوا! وفي اليوم الثالث أكلوا مبعوثة أبي أيوب، ثم دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالصحاف فملئت ووجه إلى منازل أزواجه، ثم أخذ صحفة وقال: هذا لفاطمة وبعلها.

ثم دعا فاطمة، وأخذ يدها فوضعها في يد علي وقال: بارك الله لك في ابنة رسول الله يا علي نعم الزوج فاطمة، ويا فاطمة نعم البعل علي.

وفي مناقب آل أبي طالب: 1/114: «وأتى أبوأيوب بشاة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) في عرس فاطمة فنهاه جبرئيل عن ذبحها، فشق ذلك عليه فأمر (صلی الله علیه و آله) زيد بن جبير الأنصاري فذبحها بعد يومين، فلما طبخ أمر ألا يأكلوا إلا باسم الله وأن لا يكسروا عظامها، ثم قال: إن أباأيوب رجل فقير، إلهي أنت خلقتها وأنت أفنيتها وإنك قادر على إعادتها، فأحيها يا حي لا إله إلا أنت. فأحياها الله وجعل فيها بركة لأبي أيوب وشفاء المرضى في لبنها، فسماها أهل المدينة المبعوثة، وفيها قال عبدالرحمن بن عوف أبياتاً منها:

ألم ينظروا شاة ابن زيد وحالها *** وفي أمرها للطالبين مزيد

وقد ذبحت ثم استُجِرَّ إها بها *** وفصلها فيما هناك يزيد

وأنضج منها اللحم والعظم والكلى *** فهلهله بالنار و هو هريد

فأحيى له ذو العرش والله قادر *** فعادت بحال ما يشاء يعود

ص: 651

11- تزيين النساء لفاطمة (علیها السلام)

«وكان النبي (صلی الله علیه و آله) أمر نساءه أن يزينها، ويصلحن من شأنها في حجرة أم سلمة، فاستدعين من فاطمة (علیها السلام) طيباً فأتت بقارورة، فسألت عنها فقالت: كان دحية الكلبي يدخل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيقول لي: يا فاطمة هاتي الوسادة فاطرحيها لعمك، فكان إذا نهض سقط من بين ثيابه شئ فيأمرني بجمعه.

فسئل رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن ذلك فقال: هو عنبر يسقط من أجنحة جبرئيل!

وأتت بماء ورد، فسألت أم سلمة عنه فقالت: هذا عرق رسول الله (صلی الله علیه و آله) كنت آخذه عند قيلولة النبي عندي.

وروي أن جبرئيل (علیه السلام) أتى بحلة قيمتها الدنيا، فلما لبستها تحيرت نسوة قريش منها، وقلن: من أين لك هذا؟ قالت: هذا من عند الله».المناقب:3/130.

وفي المعجم الكبير للطبراني: 22/408: «عن عبدالله بن مسعود قال: سأحدثكم بحديث سمعته من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، سمعته في غزوة تبوك يقول ونحن نسير معه: إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي (علیهما السلام) ففعلت، قال جبريل: إن الله بنی جنة من لؤلؤة «ووصفها بتفصيل» قلت: يا جبريل لمن بنى الله هذه الجنة؟ قال: بناها لفاطمة ابنتك وعلي بن أبي طالب، سوى جنانها، تحفة أتحفها وأقر عينيك يا رسول الله».

12- مراسم زفاف فاطمة لعلي (علیهما السلام)

في شرح الأخبار: 2/358: «ثم قال: يا أسماء، إملئي لي مخضب ماء وآتيني به، فملأت وأتته به، فأخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) منه ومجَّه في فيه، ثم غسل فيه وجهه وقدميه، ودعا فاطمة (علیها السلام) فأخذ كفاً من ذلك الماء فنضحه على صدرها، وأخذ كفاً ثانياً فنضحه على ظهرها، ثم أمرها أن تشرب بقية الماء.

ثم دعا بعلي (علیه السلام) فصنع به مثل ذلك، ثم قال: اللهم إنهما مني وأنا منهما، فكما أذهبت عني الرجس وطهرتني، فأذهبه عنهما وطهرهما. ثم قال: قُوما إلى بيتكما جمع الله بينكما، وبارك لكما في سيركما، وأصلح بالكما.

ص: 652

قالت أسماء: إنه (صلی الله علیه و آله) لم يزل يدعو لهما لم يشرك في دعائه أحداً حتى توارى في حجرته».وكشف الغمة: 1/382، كشف اليقين/198، ينابيع المودة: 2/64، المناقب: 3/131.

وفي رواية أنه (صلی الله علیه و آله) دعا لهما: «اللهم إنهما مني وأنا منهما، اللهم كما أذهبت عني الرجس وطهرتني فطهرهما... اللهم اجمع شملهما، واجعلهما وذريتهما من ورثة جنة النعيم. اللهم بارك فيهما وبارك عليهما، وأنت وليهما في الدنيا والآخرة».خصائص أميرالمؤمنين/115،مناقب أميرالمؤمنين: 2/203 والبحار: 43/122.

وفي مناقب آل أبي طالب: 3/130، عن كتاب مولد فاطمة (علیها السلام) للصدوق قال: «أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بنات عبدالمطلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة (علیها السلام) وأن يفرحن ويرجزن ويكبرن ويحمدن، ولا يقلن ما لا يرضيالله. قال جابر: فأركبها على ناقته، وفي رواية على بغلته الشهباء، وأخذ سلمان زمامها، وحولها سبعون حوراء والنبي (صلی الله علیه و آله) وحمزة وعقيل وجعفر وأهل البیت يمشون خلفها مشهرين سيوفهم، ونساء النبي (صلی الله علیه و آله) قدامها يرجزن. فأنشأت أم سلمة».ثم ذكر أراجيز أم سلمة، وعائشة، وحفصة، ومعاذة أم سعد بن معاذ.

وروى الطبراني في معجمه الكبير: 22/410 حديثاً مطولاً فيه ذكر مراسم زفاف فاطمة (علیها السلام) شبيهاً بحديث المناقب.

وفي المناقب: 3/130: «تاريخ الخطيب، وكتاب ابن مردويه، وابن المؤذن، وابن شيرويه الديلمي، بأسانيدهم عن علي بن الجعد، عن ابن بسطام، عن شعبة بن الحجاج، وعن علوان عن شعبة، عن أبي حمزة الضبعي، عن ابن عباس وجابر: أنه لما كانت الليلة التي زُفت فاطمة إلى علي (علیهما السلام) كان النبي (صلی الله علیه و آله) أمامها، وجبرئيل عن يمينها، وميكائيل عن يسارها، وسبعون ألف ملك من خلفها، يسبحون الله ويقدسونه».

أقول: هذا مقام رباني عظيم، حيث خرج النبي (صلی الله علیه و آله) ومعه كبار الملائكة:، مع فاطمة (علیها السلام) من بيته إلى بيت علي (علیه السلام) الذي كان أول الأمر بعيداً نسبياً عن المسجد.

وفي شرح إحقاق الحق: 25/410، عن توضيح الدلائل للإيجي/334، عن ابن سيرين،

ص: 653

عن أم سلمة، وسلمان من حديث: «حتى إذا صلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) عشاء الآخرة انصرف إلى بيت فاطمة (علیها السلام) فدعاها فأجلسها خلف ظهره، ثم دعا علياً فأخذ بيد فاطمة فوضعها في يد علي وقال (صلی الله علیه و آله): إنطلقا إلى بيتكما ولا تحدثا شيئاً حتى آتيكما. فقامت فاطمة (علیها السلام) معه غير عاصية ولامتلكئة حتى دخلا بيتهما فجلسا على فراش، ثم قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى دخل عليهما فجلس بينهما، ثم قال لعلي: قم فائتني بماء، فأخذ علي قعباً فاصطب من ماء شلوة فأتاه به، فأخذ رسول الله القعب بيده ثم أخذ ملء فيه ماء فتمضمض به ثم أعاده في القعب، فأخذ قبضة من الماء فنضح به رأس علي ووجهه وصدره، ثم قال (صلی الله علیه و آله): إشربه فشربه.

ثم قال لفاطمة: قومي فائتني بماء، فجاءت به أيضاً في القدح، فأخذ رسول الله ملء فيه فتمضمض به فأعاده في القدح، ثم أخذ قبضة فنضح به رأس فاطمة ووجهها ونحرها. ثم قام وخلاهما.ولبث رسول الله (صلی الله علیه و آله) أربعاً لايدخل عليهما».

وفي الإصابة: 8/265: «وأخرج الدولابي في الذرية الطاهرة بسند جيد عن عبدالله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليلة بني علي بفاطمة: لا تحدث شيئاً حتى تلقاني فدعا بماء فتوضأ منه ثم أفرغه عليهما وقال: اللهم بارك فيهما وبارك عليهما، وبارك لهما في نسلهما».

المعجم الكبير للطبراني: 22/409: «فجاءت مع أم أيمن فقعدت في جانب البيت وأنا في جانب فجاء النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: ههنا أخي؟ فقالت: أم أيمن أخوك قد زوجته بنتك! فدخل النبي (صلی الله علیه و آله) فقال لفاطمة ائتيني بماء، فقامت إلى قعب في البيت فجعلت فيه ماء فأتته به فمج فيه ثم قال لها قومي فنضح بين ثدييها وعلى رأسها. ثم قال: اللهم أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. ثم قال لها أدبري فأدبرت فنضح بين كتفيها،ثم قال: اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم، ثم قال ائتيني بماء فعملت الذي يريده فملأت القعب ماء فأتيته به فأخذ منه بفيه ثم مجه فيه ثم صب على رأسي وبين يدي ثم قال: اللهم إني أعيذه وذريته من الشيطان الرجيم، ثم قال: أدخل على أهلك بسم الله والبركة».

ص: 654

13- صديقات أمها (علیها السلام) حضرن عرسها

ورد في أحاديث زواج فاطمة (علیها السلام) ذكر أسماء بنت عميس وأم سلمة، وكانتا صديقتين لأمها خديجة (علیها السلام) وروي أنها أوصتهما بفاطمة (علیها السلام) . وكانت أم سلمة مع زوجها أبي سلمة المخزومي، فرجعوا إلى مكة ثم هاجروا إلى المدينة.

أما أسماء فأشكل بعضهم بأنها كانت مع زوجها جعفر بن أبي طالب في الحبشة «كشف الغمة للإربلي: 1/383» لكنه يدل على أنها حضرت خصيصاً لخدمة الزهراء (علیها السلام) في عرسها، وقد كثر مجئ المهاجرين من الحبشة إلى المدينة، وشارك عدد منهم في بدر وأحد، وبقي جعفر بن أبي طالب ينفذ المهام التي أمره بها النبي (صلی الله علیه و آله) والمتعلقة بالحبشة، فقد كانت مركز الروم في أفريقيا. وفي السنة السابعة أمر النبي (صلی الله علیه و آله) جعفراً (رحمة الله) بالعودة مع بضعة أشخاص كانوا معه لأسباب مختلفة.

وقد روى الطبراني في معجمه الكبير: 22/412 وغيره حضور أسماء عرس فاطمة (علیها السلام) قال: «ثم إن النبي (صلی الله علیه و آله) دخل فلما رأينه النساء ذهبن وبينهن وبين النبي ستر، وتخلفت أسماء بنت عميس فقال لها النبي (صلی الله علیه و آله): على رسلك من أنت؟ قالت أنا التي أحرس ابنتك،إن الفتاة ليلة تبنى بها لا بد لها من امرأة تكون قريبة منها إن عرضت لها حاجة، أو أرادت شيئاً أفضت بذلك إليها. قال: فإني أسأل إلهي أن يحرسك من بين يديك، ومن خلفك، وعن يمينك، وعن شمالك، من الشيطان الرجيم».

14- ولادة الإمام الحسن (علیه السلام)

في أمالي الصدوق/197: «عن زيد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين (علیه السلام) قال: لما ولدت فاطمة (علیها السلام) الحسن (علیه السلام) قالت لعلي: سمه. فقال: ما كنت لأسبق باسمه رسول الله. فجاء رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) فأُخرج إليه في خرقة صفراء فقال: ألم أنهكم أن تلفوه في خرقة صفراء! ثم رمى بها وأخذ خرقة بيضاء فلفه فيها، ثم قال لعلي (علیه السلام): هل سميته؟ فقال: ما كنت لأسبقك باسمه؟فقال (صلی الله علیه و آله): وما كنت

ص: 655

لأسبق باسمه ربي عزوجل، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جبرئيل أنه قد ولد لمحمد ابن فاهبط واقرئه السلام وهنئه، وقل له: إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون، فهبط جبرئيل فهنأه من الله عزوجل، ثم قال: إن الله عزوجل يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون. قال: وما كان اسمه؟ قال: شبر. قال: لساني عربي. قال: سمه الحسن، فسماه الحسن.

فلما ولد الحسين (علیه السلام) أوحى الله عزوجل إلى جبرئيل أنه قد ولد لمحمد ابن فاهبط إليه وهنئه، وقل له: إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون، قال: فهبط جبرئيل فهنأه من الله تبارك وتعالى ثم قال: إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى فسمه باسم ابن هارون. قال: وما اسمه؟ قال: شبير. قال: لساني عربي. قال: سمه الحسين، فسماه الحسين».

وفي الكافي: 1/461: «ولد الحسن بن علي (علیهما السلام) في شهر رمضان في سنة بدر، سنة اثنين بعد الهجرة. وروي أنه ولد في سنة ثلاث ومضى (علیه السلام) في شهر صفر في آخره من سنة تسع وأربعين، ومضى وهو ابن سبع وأربعين سنة وأشهر».

وفي الكافي: 6/ 33: «عن الحسين بن خالد قال: سألت أبا الحسن الرضا (علیه السلام) عن التهنية بالولد متى؟ فقال إنه قال: لما ولد الحسن بن علي هبط جبرئيل بالتهنية على النبي (صلی الله علیه و آله) في اليوم السابع وأمره أن يسميه ويكنيه ويحلق رأسه ويعق عنه ويثقب أذنه، وكذلك حين ولد الحسين (علیه السلام) أتاه في اليوم السابع فأمره بمثل ذلك.

قال: وكان لهما ذؤابتان في القرن الأيسر، وكان الثقب في الأذن اليمنى في شحمة الأذن، وفي اليسرى في أعلى الأذن، فالقرط في اليمنى والشنف في اليسرى، وقد روي أن النبي (صلی الله علیه و آله) ترك لهما ذؤابتين في وسط الرأس. وهو أصح من القرن».

وفي الهداية للصدوق/ 70: «وقال النبي (صلی الله علیه و آله) لفاطمة (علیها السلام): أنقبي على أذني ابني الحسن والحسين خلافاً على اليهود». وفي قاموس الكتاب المقدس/316: «وكانت عادة قومية عند الإسماعيليين أن يلبس الرجال أقراطاً». قضاة: 8 25 و 26.

أقول: اتفق جمهور المؤرخين على أن ولادة الإمام الحسن (علیه السلام) في نصف شهر رمضان،

ص: 656

واختلفوا هل كانت في السنة الثانية للهجرة أو الثالثة، تبعاً لتاريخ زواج علي وفاطمة (صلی الله علیه و آله) . والمرجح قول الإربلي في كشف الغمة: 2/136: «أصح ما قيل في ولادته أنه ولد بالمدينة في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وكان والده علي بن أبي طالب (علیه السلام) قد بنیٰ بفاطمة (علیها السلام) في ذي الحجة من السنة الثانية

من الهجرة».

فالمرجح أن الأمر الإلهي بزواج فاطمة بعلي (علیهما السلام) نزل على النبي (صلی الله علیه و آله) عندما كثر الخاطبون لها (علیها السلام) في السنة الأولى من الهجرة، ولعله (صلی الله علیه و آله) عقد زواجهما في تلك الفترة، كما روى ابن سعد واليعقوبي، وأخر زفافها إلى السنة الثانية في ذي الحجة كما نصت رواية ابن المسيب عن الإمام زين العابدين (علیه السلام): «فقلت لعلي بن الحسين: فمتى زوج رسول الله فاطمة من علي؟ فقال: بالمدينة بعد الهجرة بسنة وكان لها يومئذ تسع سنين» «الكافي 8/338». ومعنى تسع سنين أنها دخلت في العاشرة، لأن ولادتها في العشرين من جمادى الثانية سنة خمس للبعثة، أي بعد أربع سنوات ونصف من البعثة التي كانت في رجب نصف السنة فحسبت سنة، ويكون عمرها عند هجرته (صلی الله علیه و آله) في ربيع الأول في السنة الثالثة عشرة من بعثته نحو ثمان سنين، وعمرها عند زواجها في ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة نحو تسع سنين ونصفاً، وولدت الحسن (علیه السلام) وعمرها نحو عشر سنوات ونصفاً.

وتؤيد رواية اليعقوبي: 2/41 ما ذكرناه: «زوجها رسول الله (صلی الله علیه و آله) من علي بعد قدومه بشهرين، وقد كان جماعة من المهاجرين خطبوها إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلما زوجها علياً قالوا في ذلك! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما أنا زوجته ولكن الله زوجه».

ورواية ابن سعد: 8 /22: «تزوج علي بن أبي طالب فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) في رجب بعد مقدم النبي (صلی الله علیه و آله) المدينة بخمسة أشهر، وبنى بها مرجعه من بدر».

ص: 657

15- ولادة الإمام الحسين (علیه السلام)

في الكافي: 1/463: «ولد الحسين بن علي (علیهما السلام) في سنة ثلاث، وقبض (علیه السلام) في شهر المحرم من سنة إحدى وستين من الهجرة، وله سبع وخمسون سنة وأشهر.

عن عبدالرحمن العرزمي، عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: كان بين الحسن والحسين (علیهما السلام) طهرٌ، وكان بينهما في الميلاد ستة أشهر وعشراً».

وفي مصباح المتهجد/826، عن الإمام الباقر (علیه السلام) أن مولده (علیه السلام) في الثالث من شعبان.

وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/52: «عن سُليم بن قيس الهلالي قال: سمعت عبدالله بن جعفر الطيار يقول: كنت عند معاوية والحسن والحسين وعبدالله بن عباس وعمر بن أبي سلمه، وأسامة بن زيد يذكر حديثاً جرى بينه وبينه وأنه قال لمعاوية بن أبي سفيان: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم أخي علي بن أبي طالب (علیه السلام) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد فابني الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم ابني الحسين (علیه السلام) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد فابني علي بن الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وستدركه يا علي، ثم ابني محمد بن علي الباقر أولى بالمؤمنين من أنفسهم وستدركه يا عبدالله، وتكملة اثني عشر إماماً، تسعه من ولد الحسين. قال عبدالله: ثم استشهدت الحسن والحسين وعبدالله بن عباس وعمر بن أبي سلمه وأسامة بن زيد، فشهدوا لي عند معاوية. قال سليم بن قيس: وقد كنت سمعت ذلك من سلمان وأبيذر والمقداد وأسامة، أنهم سمعوا من رسول الله (صلی الله علیه و آله)».

وفي كامل الزيارات/140: «عن إبراهيم بن شعيب الميثمي قال: سمعت أبا عبدالله (علیه السلام) يقول: إن الحسين بن علي (علیهما السلام) لما ولد أمر الله عزوجل جبرئيل (علیه السلام) أن يهبط في ألف من الملائكة فيهنئ رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الله ومن جبرئيل (علیه السلام)، قال: وكان مهبط جبرئيل (علیه السلام) على جزيرة في البحر فيها ملك يقال له: فطرس،كان من الحملة فبعث في شي فأبطأ فيه، فكسر جناحه وألقي في تلك الجزيرة يعبدالله فيها ست مائة عام، حتى ولد الحسين (علیه السلام) فقال الملك لجبرئيل (علیه السلام): أين تريد. قال: إن الله تعالى أنعم على محمد (صلی الله علیه و آله) بنعمة فبعثت أهنيه من الله ومني، فقال: يا جبرئيل إحملني معك لعل

ص: 658

محمداً (صلی الله علیه و آله) يدعو الله لي، قال فحمله فلما دخل جبرئيل على النبي (صلی الله علیه و آله) وهنأه من الله وهنأه منه وأخبره بحال فطرس، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا جبرئيل أدخله، فلما أدخله أخبر فطرس النبي (صلی الله علیه و آله) بحاله فدعا له النبي (صلی الله علیه و آله) وقال له: تمسح بهذا المولود وعد إلى مكانك. قال: فتمسح فطرس بالحسين (علیه السلام) وارتفع، وقال: يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أما أن أمتك ستقتله وله عليَّ مكافاة أن لا يزوره زائر إلا بلغته عنه، ولا يسلم عليه مسلِّم إلا بلغته سلامه، ولايصلي عليه مصل إلا بلغته عليه صلاته، قال: ثم ارتفع».

أقول: حديث فطرس صحيح السند فيجب قبوله، لكن الإشكال فيه أنه يدل على ارتكاب الملائكة للذنوب واستحقاقهم للعقوبة، وأنه يعارض قول تعالى: عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لايَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ. وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. لكن الصحيح أن هذه الآيات تتكلم عن زبانية جهنم المكرمين الذين لا يسبقونه بالقول. فلا مانع أن هناك أنواع أخرى، تصدر منهم المعصية مثل فطرس.

على أن المعصية أمر نسبي، كما أن اعتراض الملائكة في استخلاف آدم (علیه السلام) عُدَّ معصية: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ.«وروى في الكافي: 4/188»:«فأعرض عنها«الملائكة»فرأت أن ذلك من سخطه فلاذت بعرشه، فأمر الله ملكاً من الملائكة أن يجعل لها بيتاً في السماء السادسة يسمى الضراح بإزاء عرشه، فصيره لأهل السماء يطوف به سبعون ألف ملك في كل يوم لا يعودون ويستغفرون».

ص: 659

الفصل الثامن والثلاثون: هدف سرايا النبی (صلی الله علیه و آله) وحروبه

1- عدد سرايا النبي (صلی الله علیه و آله) وغزواته وحروبه، وهدفها

أعلنت قبائل العرب عداءها مع قريش لأهل المدينة لأنهم بايعوا النبي (صلی الله علیه و آله) على حمايته وقتال أعدائه: «فلما آووا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه ونصروا الله ودينه رمتهم العرب عن قوس واحدة، وتحالفت عليهم اليهود، وغزتهم القبائل قبيلة بعد قبيلة». أمالي الطوسي/173، بمعناه الغارات للثقفي: 2/479 والحاكم: 2/401 .

وقد اعتمد النبي (صلی الله علیه و آله) لمواجهة هذا العداء إرسال السرايا، وهي مجموعات مقاتلة صغيرة وكبيرة، تبعث لأهداف محددة ومناطق محددة، لمحاربة عدو يتعاون مع قريش ضد الإسلام، أو يخشى منه أن يغزو المدينة.

واصطلح الرواة على إسم السرية إذا لم يكن النبي (صلی الله علیه و آله) فيها، فإن كان فيها سميت غزوة، وهو مجرد اصطلاح، وقد تكون السرية أكثر عدداً وأشد قتالاً. ثم نراهم خالفوا هذا الإصطلاح، فسموا معركة مؤتة وغيرها غزوة.

ويمكن حصرأهداف سراياه وغزواته (صلی الله علیه و آله) بثلاثة: حماية الدولة، وإظهار القوة لإرهاب من يفكر بالإعتداء، ومحاولة جر قريش إلى الحرب.

قال ابن هشام: 4/1027: «وكان جميع ما غزا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنفسه سبعاً وعشرين غزوة. قاتل منها في تسع غزوات: بدر، وأحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح،

ص: 660

وحنين، والطائف. وكانت بعوثه (صلی الله علیه و آله) وسراياه ثمانياً وثلاثين». فيكون المجموع نحو سبعين، وقيل اثنان وسبعون، شرح المغني: 5/339.

وقال أهل البیت (علیهم السلام) إن مجموع سراياه وغزواته (صلی الله علیه و آله) ثمانون، فعندما سُمَّ المتوكل نذر إن عوفي أن يتصدق بمال كثير، فتحير الفقهاء في مبلغ المال، فأرسل إلى الإمام الهادي (علیه السلام) فأجابه إن الكثير ثمانون، لقوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، وكانت ثمانين موطناً. وروي ذلك عن الصادق (علیه السلام) وأفتى به عدد من فقهائنا.

الكافي: 7/463، الفقيه:3/368 و 4/206، التهذيب: 8 /309، فقه الرضا/274، المقنع/411، المقنعة/565، الخلاف: 3/359، المختلف: 8/188 والجواهر: 35/416.

وكانت أول غزواته (صلی الله علیه و آله) بدر، وآخرها تبوك قبيل وفاته (صلی الله علیه و آله) واستغرقت ثمانين يوماً ولم يقع فيها حرب، لأن الروم انسحبوا من تبوك عندما توجه اليهم، ووقع الأكيدر ملك الدومة في الأسر، فكتب النبي (صلی الله علیه و آله) معه صلحاً.

وأهم حروبه (صلی الله علیه و آله): بدر، وأحد، والخندق، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، ومؤتة. والباقي إما سرايا، أو لم تكن فيها معركة تذكر.

وفي المناقب: 1/161: «إن جميع ما غزا النبي (صلی الله علیه و آله) بنفسه ست وعشرون غزوة على هذا النسق: البواط، العشيرة، بدر الأولى، بدر الكبرى، السويق، ذي إمرة، أحد، نجران، بنو سليم، الأسد، بنو النضير، ذات الرقاع، بدر الآخرة، دومة الجندل، الخندق، بنو قريظة، بنو لحيان، بنو قرد، بنو المصطلق، الحديبية، خيبر، الفتح، حنين، الطايف، تبوك، ويلحق بها بنو قينقاع.

وقاتل في تسع وهي: بدر الكبرى، وأحد، والخندق، وبني قريظة، وبني المصطلق، وبني لحيان، وخيبر، والفتح، وحنين، والطايف.

وأما سراياه فست وثلاثون، أو لها سرية حمزة لقى أباجهل بسيف البحر في ثلاثين من المهاجرين».

ومما تلاحظه في روايات السلطة في سرايا النبي (صلی الله علیه و آله) وغزواته: أنهم عملوا لتوظيفها لتكبير أشخاص السلطة وأقاربهم وقبائلهم، وطمس أدوار غيرهم!

ص: 661

فاخترعوا بطولات ومناقب كاذبة، وادعوا حضور أشخاص لم يحضروا، وأنكروا فرار أشخاص فروا، وسرقوا أدوار أشخاص ونسبوها إلى آخرين!

ووصل أمرهم إلى إنكار غزوة بكاملها كغزوة ذات السلاسل التي كان قائدها علي (علیه السلام)، واخترعوا بدلها غزوة لا وجود لها وسموها بنفس الإسم!

ثم حاولوا التخفيف عن أعداء الإسلام خاصة القرشيين، حتى لو كان ثمن ذلك إلقاء اللوم على النبي (صلی الله علیه و آله) أو المسلمين، فجعلوا أخذ الأسرى منهم في بدر سبباً للعقوبة الإلهية للمسلمين بهزيمتهم في أحُد، والعقوبة للنبي (صلی الله علیه و آله) بجرحه!

كما أنهم كذبوا على النبي (صلی الله علیه و آله) في فعله وقوله، وانتقصوا من شخصيته (صلی الله علیه و آله) أحياناً، لتبرير فعل حاكم، أو صحابي، أو ادعاء منقبة له!

2- معجزة إنشاء الأمة والمد الحضاري!

من عجائب نبينا (صلی الله علیه و آله) وخصائص شخصيته الربانية، أنه استطاع أن ينشئ أكبر أمة وأكبر مد حضاري في تاريخ الأرض، في مدة قياسية هي عشر سنوات بعد هجرته، وبأقل كلفة عرفتها حركة كبرى! حيث لم يتجاوز عدد القتلى من جيشه وجيوش أعدائه كما حسبه بعضهم 589 شخصاً!

3- سرايا النبي (صلی الله علیه و آله) وغزواته قبل بدر

ذكرت مصادرنا وعدد من مصادرهم أن:«أول سرية سارت ولواء عقد في الإسلام، لحمزة بن عبدالمطلب في شهر ربيع الأول من سنة اثنتين إلى سيف البحر، من ناحية العيص من أرض جهينة، في ثلاثين راكباً من المهاجرين، فلقي أباجهل في ثلاث مائه راكب من قريش، فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، وكان موادعاً للفريقين، وانصرفوا ولم يك بينهم قتال». اليعقوبي: 2/44 .

وزعم ابن حجر في فتح الباري: 7/67 والإستيعاب: 1/370 أنها كانت بإمرة عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب. وهذا فهرس لسرايا النبي (صلی الله علیه و آله) إلى بدر من سيرة ابن هشام: 2/428، الطبري: 2/121، ذخائر العقبى/175، إعلام الورى: 1/163 والصحيح من السيرة: 5/272.

ص: 662

أول غزوة غزاها (صلی الله علیه و آله) في صفر على رأس اثني عشر شهراً من مقدمه، فخرج حتى بلغ الأبواء، يريد قريشاً وبني ضمرة، ثم رجع ولم يلق كيداً، فأقام بالمدينة بقية صفر وصدراً من شهر ربيع الأول، وبعث عبيدة بن الحارث في ستين راكباً من المهاجرين ليس فيهم أحد من الأنصار، فالتقى هو والمشركون على ماء يقال له أحياء، وكانت بينهم الرماية، وعلى المشركين أبوسفيان بن حرب.

ثم غزا (صلی الله علیه و آله) في شهر ربيع الآخر يريد قريشاً، حتى بلغ بُوَاط ولم يلق كيداً.

ثم رجع (صلی الله علیه و آله) من العشيرة إلى المدينة فلم يقم بها عشر ليال، حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) في طلبه حتى بلغ وادياً يقال له سفوان من ناحية بدر، وهي غزوة بدر الأولى، وفاته كرز فلم يدركه.

فرجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأقام جمادى الآخرة ورجب وشعبان، وكان بعث بين ذلك سعد بن أبي وقاص في ثمانية رهط، فرجع ولم يلق كيداً.

ثم بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) عبدالله بن جحش إلى نخلة، في اثني عشر رجلاً من المهاجرين وقال: كنَّ بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش ولم يأمره بقتال، وكتب له كتاباً وقال: اخرج أنت وأصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك وانظر ما فيه وامض لما أمرتك. فلما سار يومين وفتح الكتاب فإذا فيه: أن امض حتى ننزل نخلة، فائتنا من أخبار قريش بما يصل إليك منهم، فقال لأصحابه حين قرأ الكتاب: سمعاً وطاعة، من كان له رغبة في الشهادة فلينطلق معي! فمضى معه القوم حتى إذا نزلوا النخلة مر بهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان والمغيرة ابنا عبدالله، معهم تجارة قدموا بها من الطائف، أدَم وزبيب، فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبدالله وكان قد حلق رأسه، فقالوا: عُمَّار، ليس عليكم منهم بأس، وأتمر أصحاب رسول الله وهي آخر يوم من رجب، فقالوا: لئن قتلتموهم إنكم لتقتلونهم في الشهر الحرام، ولئن تركتموهم ليدخلن هذه الليلة مكة فليمتنعن منكم! فأجمع القوم على قتلهم فرمى واقد بن عبدالله التميمي عمر بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان

ص: 663

بن عبدالله والحكم بن كيسان، وهرب المغيرة بن عبدالله فأعجزهم، واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله فقال لهم: والله ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام، وأوقف الأسيرين والعير ولم يأخذ منها شيئاً، وأسقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وقالت قريش: استحل محمد الشهر الحرام، فأنزل الله سبحانه:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَكَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ «البقرة/217». فلما نزل ذلك أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) العير وفداء الأسيرين، وقال المسلمون: أتطمع لنا أن نكون غزاة؟ فأنزل الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «البقرة/218». وكانت هذه قبل بدر بشهرين. ورد عبدالله بالخمس على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقسم الباقي بين أصحابه، فكان أول خمس خمسه (صلی الله علیه و آله) .

وعلى رأس ثمانية أشهر من مهاجره الشريف، عقد لعبيدة بن الحارث بن المطلب على ستين رجلاً، ليلقوا أبا سفيان في بطن رابغ وكان في مئتين. وفي هذه السرية فر المقداد، وعتبة بن غزوان،«مهاجرين»إلى المسلمين.

وبعد ذلك كانت سرية سعد بن أبي وقاص على فريق من المهاجرين أيضاً ليعترضوا عيراً لقريش فسبقتهم. وقيل كان ذلك بعد بدر.

ثم كانت غزوة الأبواء، خرج فيها النبي (صلی الله علیه و آله) بنفسه يريد قريشاً وبني مرة بن بكر فتلقاه سيد بني مرة بالأبواء فصالحه، ثم رجع (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة.

وبعدها كانت غزوة بواط، جبل لجهينة، قرب المدينة خرج (صلی الله علیه و آله) في مئتين من المهاجرين أيضاً، يعترض عير بني ضمرة، فبلغ بواطاً ورجع ولم يلق كيداً.

وبعدها بأيام قلائل كانت غزوة العشيرة، يريد قريشاً، حتى نزل العشيرة من بطن ينبع، فأقام بها بقية جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، ووادع فيها بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً.

ص: 664

وفيها كنَّى علياً (علیه السلام) بأبي تراب، فروي عن عمار بن ياسر قال: «كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة، فقال لي علي: هل لك يا أبا اليقظان في هذه الساعة بهذا النفر من بني مدلج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون. فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ثم غشينا النوم، فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء«تراب ناعم»من الأرض فنمنا فيه، فوالله ما أهبنا إلا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقدمه فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء، فيومئذ قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): يا أبا تراب لما عليه من التراب. فقال: ألا أخبركم بأشقى الناس؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذا ووضع رسول الله (صلی الله علیه و آله) يده على رأسه، حتى يبل منها هذه، ووضع يده على لحيته»!

ثم كانت سرية ابن جحش في رجب أو في جمادى الثانية من السنة الثانية، في ثمانية أو اثني عشر رجلاً من المهاجرين. وكتب له النبي (صلی الله علیه و آله) كتاباً وأمره أن لا يفتحه حتى يسير يومين، ففتحها بعد يومين فوجد فيها بعد البسملة: أما بعد، فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك، حتى تنزل بطن نخلة، فترصد بها عير قريش، حتى تأتينا منها بخبر.

4- مشروعية سياسة النبي (صلی الله علیه و آله) في السرايا و الغزوات

1. بهذه التحركات السريعة المتنوعة عرف أهل المدينة وجيرانهم اليهود، ومن وراءهم من قريش والعرب، أن الدولة التي أقامها النبي (صلی الله علیه و آله) قوية ومتوثبة. فقد كان هذا هو الطريق الوحيد لردع ذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، وفراعنة قريش!

عرفوا يقظة النبي (صلی الله علیه و آله) وتنبهه لتحركاتهم، وسرعة تحريكه لقواته، ولو إلى مسافات بعيدة، تصل أحياناً إلى مئات الكيلومترات.

ولذلك وادعه بنو مدلج وكتبوا معه صلحاً يتعهدون فيه بعدم قتاله، وعدم معاونة أحد على قتاله! مع أنهم قريبون من مكة، ومع أن زعيمهم سراقة بن جشعم اعترض النبي (صلی الله علیه و آله) في طريق هجرته ليقتله أو يأسره ويأخذ جائزة

ص: 665

قريش، وكانت مئة بعير من قريش! اليعقوبي: 2/39 والثاقب/145.

فقد تفاجأ سراقة عندما رأى النبي (صلی الله علیه و آله) بعد خمسة عشر شهراً في وسط عشيرته، في مئات من المسلمين مملوئين شجاعة وتوثباً، فعقد معه معاهدة عدم اعتداء!

2. لم يكتف النبي (صلی الله علیه و آله) بإرسال القادة الشجعان في سرايا الإستطلاع والترهيب، بل كان يشارك فيها شخصياً عندما يرى لزوم ذلك، أو يأمره ربه به، ونلاحظ أنه شارك في ثلاثة غزوات قبل بدر هي: الأبواء وبواط والعشيرة، وهذا يعطي لدولته ودعوته جدية خاصة.

3. كان هدف النبي (صلی الله علیه و آله) أن يقطع طريق تجارة قريش الأساسية، وهي طريق المدينة إلى الشام وفلسطين ومصر، وبذلك لا يبقى لها إلا طريق الطائف إلى نجد والعراق، وطريق جدة إلى الحبشة، وطريق اليمن، لكن تجارتها إلى هذه المناطق ثانوية.

وقد حاولت قريش أن تسلك طريق العراق إلى الشام بعد معركة بدر، فأثبت لها النبي (صلی الله علیه و آله) أنها أيضاً تحت سيطرته!

ففي سيرة ابن إسحاق: 3/296، ابن هشام: 2/563: «أن قريشاً كانت قد أخافت طريقها التي تسلك إلى الشام حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق، وخرج منهم تجار فيهم أبوسفيان بن حرب ومعه فضة كثيرة، وهو معظم تجارتهم، واستأجروا من بني بكر بن وائل رجلاً يقال له فرات بن حيان يدلهم على الطريق، وبعث رسول الله زيد بن حارثة في ذلك الوجه، فلقيهم على ذلك الماء فأصاب تلك العير وما فيها وأعجزه الرجال».

بل وقعت الطرق الأخرى تحت تهديد النبي (صلی الله علیه و آله)، كما حصل في السنة السابعة عندما أسرت سرية للنبي (صلی الله علیه و آله) ثمامة بن أثال زعيم اليمامة، وعفا عنه النبي (صلی الله علیه و آله) فأسلم ثمامة وذهب إلى مكة فقالوا له: «صبوتَ؟! قال: لا، ولكني أسلمت مع محمد، ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله)». «الكافي: 8/299، تاريخ المدينة: 2/435». فجاء أبوسفيان إلى المدينة مستغيثاً، فكتب اليه النبي (صلی الله علیه و آله) أن يرفع عنهم الحصار فرفعه. ابن هشام: 4/1053 وأسباب النزول/211.

ص: 666

4. كان النبي (صلی الله علیه و آله) يعرف أن التحرش بقوافل قريش يعني الإستعداد لرد فعلها العنيف الذي قد يصل إلى الحرب، بل هذا ما يريده (صلی الله علیه و آله)، فقد أوحى إليه ربه عزوجل: «اخرج من القرية الظالم أهلها وهاجر إلى المدينة، فليس لك بمكة ناصر، وانصب للمشركين حرباً. فعند ذلك توجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) من مكة إلى المدينة». «الكافي: 8/341 وتفسيرالعياشي: 1/257». ومعناه أن هذا المد الإسلامي يجب أن يتم، والعقبة أمامه قريش، ولا يمكن إزاحتها إلا بحربها وإخضاعها.

أما الوجه القانوني لأمر الرسول بحرب قريش، فهو أن المالك للجميع هو الله تعالى، وقد قال: وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ.

وهذا معنى قول النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر: «قم يا علي، قم يا حمزة، قم يا عبيدة، قاتلوا على حقكم الذي بعث به نبيكم». «الفصول المهمة: 1/315». فحقهم على قريش أن الله الخالق المالك أرسل رسولاً (صلی الله علیه و آله) وأمره أن يبلغ دينه لعباده، فكذبته قريش ومنعته هو وأصحابه من تبليغه للناس، وظلمتهم واضطهدتهم، فأعطاهم الله حق حربها وإزاحتها من طريقهم.

ويؤيد ذلك ما رواه ابن شهراشوب في المناقب: 1/161: «لما كان بعد سبعة أشهر من الهجرة نزل جبرئيل بقوله: أُذِنَ للَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَوةَ وَآتَوُا الزَّكَوةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللَّهِ عَاقِبَةُ الآمُورِ. وقلده في عنقه سيفاً، وفي رواية: لم يكن له غمد، فقال له: حارب بهذا قومك حتى يقولون لا إله إلا الله».

ويؤيد ذلك أيضاً ما رواه في الكافي: 5/10: «عن حفص بن غياث،

عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: سأل رجل أبي صلوات الله عليه عن حروب أميرالمؤمنين (علیه السلام) وكان السائل من محبينا، فقال له أبوجعفر (علیه السلام): بعث الله محمداً (صلی الله علیه و آله) بخمسة أسياف، ثلاثة منها شاهرة فلا تغمد حتى تضع الحرب

ص: 667

أوزارها، ولن تضع الحرب أوزارها حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها آمن الناس كلهم في ذلك اليوم،فيومئذ: لايَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا.

وسيف منها مكفوف، وسيف منها مغمود، سله إلى غيرنا وحكمه إلينا.

وأما السيوف الثلاثة الشاهرة: فسيف على مشركي العرب قال الله عزوجل: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَآتَوُا الزَّكَوةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ.. فهؤلاء لا يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الإسلام، وأموالهم وذراريهم سبي على ما سن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإنه سبى وعفى وقبل الفداء..الخ».

ص: 668

الفصل التاسع والثلاثون: معركة بدر-- يوم الفرقان

1- معالم معركة بدر ونتائجها

1- موقع بدر

في معجم البلدان: 1/358 ومعجم البكري: 1/231: «ماء على ثمانية وعشرين فرسخاً من المدينة، في طريق مكة». أي نحو مئة وخمسين كيلو متراً من المدينة باتجاه مكة، وإسم الوادي الذي هو فيه يَلْيَل، وهو يصب في البحر. لاحظ البلاذري: 1/288.

أما زمان المعركة فكان يوم الجمعة السابع عشر من رمضان السنة الثانية للهجرة. كشف اليقين/124، ابن هشام: 1/158، عن الإمام الباقر (علیه السلام) والطبري: 2/128و148.

2- كانت مدة المعركة نصف نهار

فقد انتهت ظهراً، وبدأت مع طلوع الشمس برسالة النبي (صلی الله علیه و آله) إلى قريش بأنه لايحب أن يبدأ حروبه بهم لأنهم قومه، وطلب منهم أن يرجعوا ويتركوه والعرب ويكونوا على الحياد! وقبل ذلك زعيمهم عتبة بن ربيعة، وكان هو وأبوجهل المخزومي قائديْ قريش، فركب عتبة بعيره وخطب في معسكرهم داعياً إلى قبول اقتراح النبي (صلی الله علیه و آله) وأعلن أنه يدفع من ماله دية ابن الحضرمي الذي تطالب قريش النبي (صلی الله علیه و آله) بدمه لأن أحد سرايا النبي (صلی الله علیه و آله) قتلته. فقبل عامة الناس كلامه لكن أباجهل رفض واتهمه بالجبن ووبخه وأفحش له القول! فغضب عتبة

ص: 669

وثارت حميته الجاهلية، فدعا أخاه شيبة وابنه الوليد، ولبسوا عدة حربهم وبرزوا للقتال!

فبرز اليهم من بني هاشم: علي وحمزة وعبيدة، وانتصروا عليهم ثم برز عدة أبطال من مشركي قريش، فقتلهم علي وحمزة. ثم كانت الحملة العامة واستغرقت نحو ساعتين، قتل فيها تسعة من المسلمين، ونحو سبعين من المشركين، ووقعت فيهم الهزيمة فأسر المسلمون منهم نحو سبعين، فيهم شخصيات منهم. وجمع المسلمون الغنائم وأدوا الصلاة، وسرعان ما اختلفوا عليها اختلافاً سيئاً، واتهم بعضهم بعضاً بأنه غلَّ أشياء أي سرقها وأخفاها، واتهم مرضى القلوب النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه غلَّ قطيفة! أي عباءة ثمينة كانت لأحد زعماء المشركين،

فكشف الله كذبهم وبرأ نبيه (صلی الله علیه و آله) .

ثم أنزل الله سورة الأنفال، وفيها حقائق مهمة عن حال الصحابة ونقاط ضعفهم وقوتهم، وعن معركة بدر ومستقبل الإسلام.

3- وعد الله المسلمين بالنصر في بدر

اتفقت المصادر على أن النبي (صلی الله علیه و آله) أخبر أصحابه قبل الخروج إلى بدر أن الله تعالى أمره أن يعترض قافلة قريش، واحتمال أن تستنفر قريش لحربهم، ولذلك كره قسم منهم الخروج، كما قال الله تعالى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. وكان ذلك يوم الاثنين الثامن من شهر رمضان، بعد ثمانية عشر شهراً للهجرة.

البحار: 19/232.

ولما أفلتت القافلة وجاءهم خبر مجيئ قريش للحرب، استشارهم النبي (صلی الله علیه و آله) هل يواصلون السير للقاء قريش أو يرجعون؟ فأشار أبوبكر وعمر والكارهون للحرب بالرجوع، وأشار عدد من المؤمنين الشجعان بالمضي، وكان أحسنهم موقفاً رئيس الأنصار سعد بن معاذ (رحمة الله) . فمشى بهم النبي (صلی الله علیه و آله) حتى وصلوا مساء إلى بدر، فوجدوا المشركين سبقوهم إلى الماء، فنزلوا وهم في حالة من التعب والخوف، وأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) ليلاً فاستقى لهم، وبات يصلي ويدعو ربه فأنزل الله عليهم المطر،

ص: 670

وقيل إنهم بقوا مدة بلا ماء.

ففي تفسير مقاتل: 2/7: «ونزل المسلمون حيالهم على غير ماء، وبينهم وبين عدوهم بطن واد فيه رمل، فمكث المسلمون يوماً وليلة يصلون محدثين مجنبين. فحزن المسلمون وخافوا وامتنع منهم النوم، فعلم الله ما في قلوب المؤمنين من الحزن فألقى الله عليهم النعاس أمنة من الله ليذهب همهم، وأرسل السماء عليهم ليلاً فأمطرت مطراً جواداً حتى سالت الأودية، وملؤوا الأسقية وسقوا الإبل، واتخذوا الحياض، واشتدت الرملة وكانت تأخذ إلى كعبي الرجال». راجع: المناقب: 1/122، تفسير الواحدي: 1/432 والطبري: 9/257.

وفي تفسير ابن عبدالسلام: 1/526، أن الذين: «غشيهم النعاس ببدر فهم الرسول (صلی الله علیه و آله) وكثير من أصحابه، فناموا». لكن سيأتي أن النبي (صلی الله علیه و آله) لم ينم ليلة بدر، وأن النعاس نزل على المؤمنين دون مرضى القلوب الذين أهمتهم أنفسهم! وسيأتي وصفهم في سورة الأنفال وفي أحُد، وأن عيونهم بقيت«تبحلق»ولم ينزل عليهم أمنة ولا نعاساً! قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئْ.

4- عدد أهل بدر مقدس، وليس كل البدريين مقدسين

كان عدد المسلمين أهل بدر ثلاث مئة وثلاث عشرة، وقيل أكثر، ففي المناقب: 1/161: «خرج (صلی الله علیه و آله) سابع عشر شهر رمضان، ويقال ثالثه في ثلاث مائة وسبعة عشر رجلاً في عدة أصحاب طالوت، منهم ثمانون راكباً أو سبعون، ويقال سبعة وسبعين رجلاً من المهاجرين، ومائتي وثلاثين رجلاً من الأنصار وكان المقداد فارساً فقط. يعتقب النفر على البعير الواحد، وكان بين النبي (صلی الله علیه و آله) وبين أبي مرثد الغنوي بعير ويقال فرس. وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف».

«فخرجنا فلما سرنا يوماً أو يومين، أمرنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن نتعادَّ ففعلنا، فإذا نحن ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً، فأخبرنا النبي (صلی الله علیه و آله) بعدتنا فسُرَّ بذلك

ص: 671

وحمد الله، وقال عدة أصحاب طالوت. فقال: ما ترون في القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم؟ فقلنا: يا رسول الله لا والله مالنا طاقة بقتال القوم، إنما خرجنا للعير». الطبراني الكبير: 4/174، مجمع الزوائد: 6/73 وحسنه. وراجع: الطبري:2/138.

أقول: قداسة عدد الثلاث مئة وثلاثة عشر رجلاً ليست بسبب أهل بدر، لأن فيهم بنص سورة الأنفال من غلَّ من الغنائم،وفيهم من اتهم النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه غلَّ! وفيهم مرضى القلوب، وهم أسوأ أنواع المنافقين!

بل قداسة هذا العدد لأنه عدد الملائكة الذين كانوا مع نوح (علیه السلام) والذين نزلوا على النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر، وهم غير المسومين والمردفين، وسيكونون مع الإمام المهدي (علیه السلام) وهذا عدد أصحاب المهدي الخاصين، لكنهم كلهم أولياء الله، ما فيهم منافق أو مريض القلب، فهم مقدسون وعددهم.

ففي كمال الدين/672: «فإذا نشر راية رسول الله (صلی الله علیه و آله) انحط إليه ثلاثة عشر ألف ملك وثلاث مائة وثلاثة عشر ملكاً، كلهم ينتظر القائم (علیه السلام)، وهم الذين كانوا مع نوح (علیه السلام) في السفينة، والذين كانوا مع إبراهيم الخليل (علیه السلام) حيث ألقي في النار، وكانوا مع عيسى (علیه السلام) حيث رفع. وأربعة آلاف مسومين ومردفين».

وفي غيبة النعماني/322: «وهم الذين كانوا مع موسى لما فلق له البحر.. ومعهم أربعة آلاف صعدوا إلى السماء يستأذنون في القتال مع الحسين، فهبطوا إلى الأرض وقد قتل فهم عند قبره». ودلائل الامامة/457، الخرائج: 2/782 وغيرها.

5- كان عدد المشركين تسع مئة وخمسون

ففي الدر المنثور: 3/165: «فنفروا على كل صعب وذلول، وقال أبوجهل: أيظن محمد أن يصيب مثل ما أصاب بنخلة! سيعلم أنمنع عيرنا أم لا؟ فخرجوا بخمسين وتسع مائة مقاتل وساقوا مائة فرس، ولم يتركوا كارهاً للخروج يظنون أنه في صَغْو محمد وأصحابه، ولا مسلماً يعلمون إسلامه، ولا أحداً من بني هاشم، إلا من لايتهمون «كأبي لهب، كان مريضاً وهلك يوم وصل خبر بدر» إلا أشخصوه معهم،

ص: 672

فكان ممن أشخصوا العباس بن عبدالمطلب، ونوفل بن الحارث، وطالب بن أبي طالب، وعقيل بن أبي طالب، في آخرين، فهنالك يقول طالب بن أبي طالب:

يارب إما يخرجن طالبْ *** بمقنب من هذه المقانبْ

في نفر مقاتل يحاربْ *** فليكن المسلوب غير السالبْ

والراجع المغلوب غير الغالبْ.

ونحوه الكافي: 8/375 وفيه: «فقالت قريش: إن هذا لعلينا فردوه! وفي رواية أخرى عن أبي عبدالله (علیه السلام) أنه كان أسلم».

لكن طالباً (رحمة الله) لم يرجع إلى مكة ولم يُعرف مصيره، فالمرجح أن القرشيين قتلوه!

«أجمعت قريش لحرب رسول الله بأحابيشها ومن أطاعهم من قبائل بني كنانة وأهل تهامةكل أولئك قد استُغووا على حرب رسول الله». ابن إسحاق: 3/302.

وروي أن معهم من الأحابيش ألفين، والصحيح أن الأحابيش كانوا قلة: «لم يشهد بدراً إلا قرشي أو أنصاري، أو حليف لأحد الفريقين». عبدالرزاق: 5/348.

ويدل على عددهم عدد الأباعر المنحورة لطعامهم، ففي المحبر/161 والمنمق/389، لابن حبيب: «المطعمون من قريش لحرب يوم بدر: أبوجهل وهو عمرو بن هشام بن المغيرة، نحر أول يوم عشراً، ثم نحر أمية بن خلف تسعاً، ثم نحر سهيل بن عمرو أخو بني عامر بن لؤي عشراً، ثم شيبة بن ربيعة نحر عشراً، ثم نحر منبه ونبيه ابنا الحجاج عشراً ثم نحر أبو البختري العاص بن هشام بن الحارث بن أسد عشراً، ثم نحر العباس بن عبدالمطلب وكان أخرج إلى بدر كارهاً، عشراً. وذكر محمد بن عمرأن قريشاً لم تطعم من الطعام العباس لعلمها بهواه وميله مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنه أخرج مكرهاً».

وروي أن المطعمين كانوا اثني عشر ونزل فيهم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ. راجع: إعلام الورى: 2/168، شرح النهج: 14/205، تفسير الثعلبي: 4/355، أسباب النزول للواحدي/159، تفسير البيضاوي: 3/106، فتح القدير: 5/318 والمعارف/154.

ص: 673

6- نزل الملائكة في بدر ومعهم جبرئيل (علیه السلام)

وقد رآهم علي (علیه السلام) لما ذهب ليستقي وسلموا عليه، ففي تفسير القمي 1/256: «ثم رفع يده (صلی الله علیه و آله) إلى السماء وقال: يا رب إن تهلك هذه العصابة لم تعبد، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد. ثم أصابه الغشي فسري عنه وهو يسلت العَرَق عن وجهه ويقول: هذا جبرئيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين، قال: فنظرنا فإذا بسحابة سوداء فيها برق وريح، قد وقعت على عسكر رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقائل يقول: أقدم حيزوم أقدم حيزوم! وسمعنا قعقعة السلاح من الجو»!

وفي المناقب: 1/118: «ظهروا على الخيل البُلْق بالثياب البيض يوم بدر، يقدمهم جبرئيل على فرس يقال له حيزوم».

وفي المناقب: 1/161: «قال علي وابن عباس في قوله: مُسَوَّمِين: كان عليهم عمايم بيض أرسلوها بين أكتافهم. وسمع غفاري في سحابة حمحمة الخيل وقائل يقول: أقدم حيزوم. قال رجل: يا رسول الله إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك! فقال (صلی الله علیه و آله): ذاك ضَرْبُ الملائكة. لم يقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وإنما أتوا بالمدد».

وفي تفسير الثعلبي: 4/234: «قال أبو داود المازني وكان شهد بدراً: اتبعت رجلاً من المشركين لأضربه يوم بدر، فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل سيفي! فعرفت أنه قتله غيري! وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه، قال: لقد رأيت يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف! وقال ابن عباس: حدثني رجل عن بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا في جبل ليشرف بنا على بدر ونحن مشركان، ننتظر الواقعة على من يكون الدبرة، فننتهب مع من ينتهب! قال: فبينما نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلاً يقول: أقدم حيزوم. قال: فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت».

وتاريخ الطبري: 2/152. وسيأتي أنهم سلموا على علي (علیه السلام) لما ذهب ليلاً ليستقي.

ص: 674

7- وكان الشيطان في معركة بدر

واتفقت الرواية على أنه جاء بصورة سراقة بن مالك زعيم بني مدلج، ليُطَمْئِنَ قريشاً بأن كنانة لن يهاجموا مكة إن ذهبت قريش لحرب النبي (صلی الله علیه و آله) .

قال ابن هشام: 2/445: «لما أجمعت قريش المسير، ذكرت الذي كان بينها وبين بني بكر فكاد ذلك يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي وكان من أشراف بني كنانة، فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشئ تكرهونه، فخرجوا سراعاً».

وفي أمالي الطوسي/176: «تمثل إبليس لعنه الله في أربع صور: تمثل يوم بدر في صورة سراقة بن جعشم المدلجي فقال لقريش: لاغَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِئٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاتَرَوْنَ.

وتصور يوم العقبة في صورة منبه بن الحجاج فنادى: إن محمداً والصباة معه عند العقبة فأدركوهم فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) للأنصار: لاتخافوا فإن صوته لن يعدوهم.

وتصور يوم اجتماع قريش في دار الندوة في صورة شيخ من أهل نجد، وأشار عليهم في النبي (صلی الله علیه و آله) بما أشار، فأنزل الله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.

وتصور يوم قبض النبي (صلی الله علیه و آله) في صورة المغيرة بن شعبة فقال: أيها الناس لا تجعلوها كسروانية ولا قيصرانية، وسعوها تتسع فلا تردُّوها في بني هاشم فتنتظر بها الحبالى»!

وفي المناقب: 1/163 عن الإمام الباقر (علیه السلام): «كان إبليس في صف المشركين أخذ بيد الحارث بن هشام فنكص على عقبيه فقال له الحارث: يا سُرَاقُ أين، أتخذلنا على هذه الحالة؟! فقال له: إني أرى مالاترون، فقال: والله ما نرى إلا جعاسيس يثرب «الجعسوس: القصير الذميم» فدفع في صدر الحارث وانطلق وانهزم الناس! فلما قدموا مكة قالوا: هزم الناس سراقة! فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم! فقالوا: إنك أتيتنا يوم كذا فحلف لهم، فلما

ص: 675

أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان».

وفي البحار: 19/342 عن عمارة الليثي قال: «حدثني شيخ صياد من الحي كان يومئذ على ساحل البحر قال: سمعت صياحاً: يا ويلاه يا ويلاه، قد ملأ الوادي: يا حرْباه يا حرباه! فنظرت فإذا سراقة بن جعشم فدنوت منه فقلت: مالك فداك أبي وأمي؟ فلم يُرجع إليَّ شيئاً! ثم أراه اقتحم البحر ورفع يديه ماداً يقول: يا رب ما وعدتني! فقلت في نفسي: جُنَّ وبيت الله سراقة! وذلك حين زاغت الشمس عند انهزامهم يوم بدر».

وفي المناقب: 2/74: «عن ابن عباس: لما تمثل إبليس لكفار مكة يوم بدرعلى صورة سراقة بن مالك، وكان سائق عسكرهم إلى قتال النبي (صلی الله علیه و آله) فأمرالله تعالى جبرئيل فهبط إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعه ألف من الملائكة، فقام جبرئيل عن يمين أميرالمؤمنين، فكان إذا حمل عليٌّ حمل معه جبرئيل، فبصر به إبليس فولى هارباً وقال: إني أرى ما لاترون! قال ابن مسعود: والله ما هرب إبليس إلا حين رأى أميرالمؤمنين فخاف أن يأخذه ويستأسره ويعرفه الناس فهرب، فكان أول منهزم»!

أقول: يبدو أن هذا هو السبب في وضعهم حديث هروب الشيطان من عمر! فقد رووا هروبه من علي (علیه السلام) في بدر، فزعموا أنه كان يهرب من عمر كل عمره!

قال بخاري: 4/96: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاًّ «طريقاً» إلا سلك فجاً غير فجك». وبذلك فضلوا عمر على النبي (صلی الله علیه و آله)، لأن بخاري نفسه روى عن النبي (صلی الله علیه و آله): «إن الشيطان عرض لي فشد عليَّ يقطع الصلاة عليَّ، فأمكنني الله منه».بخاري: 4/94. راجع: ألف سؤال وإشكال: 2/474.

8- كان شعار المسلمين في بدر: يا نصر الله اقترب اقترب

ففي الكافي: 5/47، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «شعارنا: يا محمد يا محمد. وشعارنا يوم بدر: يا نصرالله اقترب اقترب. وشعار المسلمين يوم أحد: يا نصرالله اقترب. ويوم بني النضير: يا روح القدس أرح. ويوم بني قينقاع: يا ربنا لا يغلبُنَّك. ويوم الطائف: يا رضوان. وشعار يوم حنين: يا بني عبدالله. ويوم الأحزاب: حم لا يبصرون. ويوم

ص: 676

بني قريظة: يا سلام أسلمهم. ويوم المريسيع وهو يوم بني المصطلق: ألا إلى الله الأمر. ويوم الحديبية: ألا لعنة الله على الظالمين. ويوم خيبر يوم القموص: يا علي آتهم من عل. ويوم الفتح: نحن عباد الله حقاً حقاً. ويوم تبوك: يا أحد يا صمد. ويوم بني الملوح: أمت أمت. ويوم صفين: يا نصر الله.

وشعار الحسين (علیه السلام): يا محمد. وشعارنا: يا محمد».

وروي عنه (علیه السلام): «قدم أناس من مزينة على النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: ما شعاركم؟ قالوا: حرام، قال: بل شعاركم: حلال. وروي أن شعار المسلمين يوم بدر: يا منصور أمت، ويوم أحد للمهاجرين: يا بني عبدالرحمن، وللأوس: يا بني عبدالله».

وفي جواهر الكلام: 21/55: «ينبغي اتخاذ الشعار في الحرب، وهو النداء الذي يعرف به أهلها، فيكون علامة على ذلك».

2- معركة بدر فرقانٌ في تكوين الأمة الإسلامية

1- حدد الله هدف معركة بدر

بقوله عزوجل: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَّكْفِيَكُمْ أَن يُّمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ. بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلامِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.

لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ. لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئْ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ. وَللهِ مَا فِي لسَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»

فالهدف: إهلاك طرفٍ، أي قطعة من قبائل قريش، وكبْتُ الباقين وهزيمتهم!

وروي عن علي (علیه السلام) أنه قال: «أما بنو مخزوم فقطع الله دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين». فتح الباري: 7/235.

ورووا عن ابن عباس أنه سأل عمر عن هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ

ص: 677

كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ: «فقال من هم؟قال: هم الأفجران من بني مخزوم وبني أمية، أخوالي وأعمامك! فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر، وأما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين». فتح الباري: 8/287.

لكن معنى الآية: أن الله تعالى أراد أن يستأصل بعضهم سياسياً، ويخرجهم من ساحة الصراع مع الإسلام، بقتل زعمائهم! لذلك لم نرَ لهم أي دور مهم في التاريخ، وهم: بنو عبدالدار أصحاب راية قريش، وقد قتل علي (علیه السلام) منهم في بدر وأحُد بضعة عشر قائداً! كما استأصل الله بني المغيرة سياسياً، وهم العائلة المالكة في بني مخزوم، فقد انطفأت مخزوم بعد مقتل أبي جهل في بدر، ولم يبرز منهم إلا خالد بن الوليد! فعزله عمر سياسياً حتى مات في بيته في حمص! ثم برز بعده ابنه عبدالرحمن وأحبه أهل الشام، وطلبوا من معاوية أن يجعله ولي عهده، فقتله بالسم! وبه انتهى بنو المغيرة سياسياً كلياً.

كما أراد عزوجل من معركة بدر أن يكبت الكافرين من قريش، أي يخزيهم بالهزيمة والأسر، ويمهل بعضهم ويتوب عليهم إن أسلموا وتابوا.

وقد عدَّهم الإمام الباقر (علیه السلام) من المُرْجَوْن لأمر الله فقال: «المرجَوْن: هم قوم قاتلوا يوم بدر وأحد ويوم حنين، وسلِموا، ثم أسلموا بعد تأخر، فإما يعذبهم وإما يتوب عليهم». تفسير العياشي: 2/110.

ومعنى قوله تعالى لرسوله (صلی الله علیه و آله): لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئْ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ. وَللهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ: أنه يجب أن تتبع إرادة الله تعالى لأن الأمر له، فهو صاحب العلم والحكمة المطلقيْن، وله أهداف في الإنسان بقانون صراع الخير والشر.

2- سمى الله بدراً يوم الفرقان

أي في تكوين الأمة المسلمة، لأنه ميزها عن المشركين، قال تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئْ قَدِيرٌ. الأنفال: 41.

ص: 678

فهي الفرز الإجتماعي الضروري لتكوين أمة الإسلام وتمييزها عن غيرها، حتى لو حدث فيها اختلاط بعد ذلك. ففي الأصول الستة عشر/86 أن الإمام الصادق (علیه السلام) قال عن بدر: «هو الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، وهو اليوم الذي فرق الله بين الحق والباطل، وإنما كان قبل ذلك اليوم هذا كذا، ووضع كفيه أحدهما على الآخر. وإنما كان (صلی الله علیه و آله) يومئذ خرج في طلب العير. وأهل بدر الذين شهدوا إنما كانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً، ولم يريدوا القتال إنما ظنوا أنها العيرالتي فيها أبوسفيان، فلما أتى أبوسفيان الوادي نزل في بطنه عن ميسرة الطريق، فقال: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى. قلت له: ما العُدوة الدنيا؟ قال: مما يلي الشام، والعدوة القصوى: مما يلي مكة. قلت: فالعدوتان بين ضفتي الوادي؟ فقال: نعم. قال أبوعبدالله (علیه السلام): ونادى الشيطان على جبل مكة: إن هذا محمد في طلب العير، فخرجوا على كل صعب وذلول».

والراوي مهتم بالمكان، والإمام (علیه السلام) يقصد الفرز الإجتماعي العقائدي، ولأهمية هذا الفرقان خلده الله تعالى في شريعته، فكانت ليلة بدر ويومها من الأوقات الفضيلة، تستحب فيهما العبادة والغسل: «ليلة سبع عشرة من شهر رمضان، وهي ليلة التقى الجمعان».الحدائق: 4/180 وصححه.

وفي الطبراني الكبير: 9/221: «التمسوا ليلة القدر لسبع عشرة خلت من رمضان صبيحة يوم بدر يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان. وفي إحدى وعشرين، وفي ثلاث وعشرين، فإنها لا تكون إلا في وتر».

3- بدر فرقانٌ في تكوين شيعة العترة

فقد شرع الله الخمس لقرابة نبيه (صلی الله علیه و آله) قبل بدر، لكنه ربطه بالإيمان بما أنزل يومها: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئٍْ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَاأَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ. يقول عزوجل: أيها المختلفون على الغنائم، المتهمون لنبيهم (صلی الله علیه و آله) بأنه غلَّ

ص: 679

وسرق منها! إنكم مدينون بوجودكم وانتصاركم لمحمد (صلی الله علیه و آله) وقرابته:، فاعلموا أن لهم خمس ما غنمتم إن كنتم مؤمنين بما عاينتم! ألا ترون أن الملائكة وبني هاشم هم الذين حققوا النصر، فلولاهم لما كنتم أمة ولا دولة؟!

وفي تحف العقول لابن شعبة الحراني (رحمة الله) /341: «فلما قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) المدينة أنزل الله عليه: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئٍْ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى..».

قال البيضاوي: 3/109: «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ: متعلق بمحذوف دل عليه: وَاعْلَمُوا. أي: إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء، فسلموه إليهم».

وفي الكافي: 8/63: «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، فنحن والله عنى بذي القربى، الذين قرننا الله بنفسه وبرسوله (صلی الله علیه و آله)».

وفي كتاب سُلَيْم بن قيس (رحمة الله) /228: «قال سُلَيْم: ثم أقبل«علي (علیه السلام)» على العباس وعلى من حوله ثم قال: ألا تعجبون من حبسه وحبس صاحبه عنا سهم ذي القربى الذي فرضه الله لنا في القرآن؟ وقد علم الله أنهم سيظلموناه وينتزعونه منا فقال: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ».

فالفرقان في سورة الفرقان بثلاث معان: فرقان الأمة وتمييزها عن غيرها. وفرقان الموالين للنبي (صلی الله علیه و آله) في أهل بيته من الأمة. وفرقان البصيرة للمؤمن ليميز بين الحق والباطل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا. الفرقان: 29.

4- كان تشريع الخمس قبل بدر

وإن نزلت آيته على أثر بدر، ففي كتاب الأوائل للطبراني/90: «أول خمس خُمِّسَ عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) مغانم عبدالله بن جحش».

وفي الدرر/100: «ثم قدموا بالعير والأسيرين وقال لهم عبدالله بن جحش إعزلوا مما غنمنا الخمس لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ففعلوا فكان أول خمس في الإسلام». ونحوه أسباب النزول للواحدي/43، الطبقات: 2/75، تفسير الثعلبي: 2/140، البغوي: 1/189،الطبقات: 2/11و30، تاريخ اليعقوبي: 2/69 والصحيح من السيرة: 4/335.

ص: 680

كما اتفقت المصادر على أن النبي (صلی الله علیه و آله) عيَّنَ مسؤولاً عن الخمس هومحمية بن جزء. ففي صحيح مسلم: 3/118، أن شابين من بني هاشم طلبا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) أن يستعملهما على الصدقات فقال (صلی الله علیه و آله): «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس! أدعوا لي محمية، وكان على الخمس، ونوفل بن الحارث بن عبدالمطلب. قال فجاءاه فقال لمحمية: أنكح هذا الغلام ابنتك للفضل بن عباس فأنكحه، وقال لنوفل بن الحارث: أنكح هذا الغلام ابنتك. وقال لمحمية: أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا».ونحوه ابن هشام: 3/820، أحمد: 4/166،البيهقي: 7/31، فتح الباري: 11/9، ابن خزيمة: 4/56، الطبقات: 2/64 و 4/198 والإصابة: 6/37.

أقول: كان تشريع الخمس قبل بدر، لكن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يأخذه في بدر خاصة، ربما لأن بعضهم أساء الأدب واتهمه بأنه غلَّ قطيفة! الصحيح من السيرة: 5/90.

وفي تفسير القمي: 1/255: «فلم يخمس رسول الله (صلی الله علیه و آله) ببدر وقسمه بين أصحابه ثم استقبل يأخذ الخمس بعد بدر». ومثله الشافعي في أحكام القرآن: 2/183.

وقال البخاري وابن جرير وغيرهما إن غنائم بدر خمست. سيرة ابن كثير: 2/469.

3- خلاصة معركة بدر

1- يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ!

في تفسير علي بن إبراهيم القمي: 1/256: في قوله تعالى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ.يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. قال: «كان سبب ذلك أن عيراً لقريش خرجت إلى الشام فيها خزائنهم، فأمر رسول الله أصحابه بالخروج ليأخذوها، فأخبرهم أن الله قد وعده إحدى الطائفتين إما العير وإما قريش أن أظفُر بهم، فخرج في ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً، فلما قارب بدر كان أبوسفيان في العير فلما بلغه أن الرسول (صلی الله علیه و آله) قد خرج يتعرض العير، خاف خوفاً شديداً ومضى إلى الشام، فلما وافى البَهْرة «موضع باليمامة» اكترى ضمضم الخزاعي بعشرة دنانير وأعطاه

ص: 681

قلوصاً وقال له: إمض إلى قريش وأخبرهم أن محمداً والصُّبَاة «المسلمين» من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم فأدركوا العير! وأوصاه أن يخرم ناقته ويقطع أذنها حتى يسيل الدم ويشق ثوبه من قبل ودبر! فإذا دخل مكة ولى وجهه إلى ذنب البعير وصاح بأعلى صوته: يا آل غالب، اللطيمة اللطيمة، العير العير، أدركوا أدركوا، وما أراكم تدركون! فإن محمداً والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم.

2- منام عاتكة بنت عبدالمطلب

«رأت عاتكة بنت عبدالمطلب قبل قدوم ضمضم في منامها بثلاثة أيام كأن راكباً قد دخل مكة ينادي: يا آل غُدر يا آل فهر! أغدوا إلى مصارعكم صبح ثالث!

ثم وافى بجمله على أبي قبيس فأخذ حجراً فدهدهه من الجبل، فما ترك من دور قريش إلا أصابها منه فلذة، وكأن وادي مكة قد سال من أسفله دماً! فانتبهت ذعرة فأخبرت العباس بذلك، فأخبر العباس عتبة بن ربيعة، فقال عتبة: مصيبة تحدث في قريش، وفشت الرؤيا في قريش! وبلغ ذلك أباجهل فقال: ما رأت عاتكة هذه الرؤيا، وهذه نبية ثانية في بني عبدالمطلب! واللات والعزى لننتظر ثلاثة أيام فإن كان ما رأت حقاً فهو كما رأت، وإن كان غير ذلك لنكتبن بيننا كتاباً أنه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالاً ولا نساءً من بني هاشم!

فلما مضى يوم قال أبوجهل: هذا يوم قد مضى، فلما كان اليوم الثاني قال أبوجهل: هذان يومان قد مضيا، فلما كان اليوم الثالث وافى ضمضم ينادي في الوادي: يا آل غالب يا آل غالب اللطيمة اللطيمة..فتصايح الناس بمكة وتهيؤوا للخروج، وقام سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وأبو البختري بن هشام ومنبه ونبيه ابنا الحجاج ونوفل بن خويلد، فقالوا: يا معشر قريش والله ما أصابكم مصيبة أعظم من هذه، أن يطمع محمد والصباة من أهل يثرب أن يتعرضوا لعيركم التي فيها خزائنكم، فوالله ما قرشي ولا قرشية إلا ولها في هذه العير شئ فصاعداً، وإنه الذل والصغار أن يطمع محمد في أموالكم ويفرق بينكم وبين متجركم، فاخرجوا».تفسير القمي: 1/256.

ص: 682

3- أثرياء قريش يمولون الحرب

أخرج صفوان بن أمية خمس مائة دينار وجهز بها، وأخرج سهيل بن عمرو خمس مائة، وما بقي أحد من عظماء قريش إلا أخرجوا مالاً، وحملوا وقوَّوْا، وخرجوا على الصعب والذلول، ما يملكون أنفسهم! كما قال الله تعالى: خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ، وأخرجوا معهم العباس بن عبدالمطلب، ونوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب. وأخرجوا معهم القينات. يشربون الخمر، ويضربون بالدفوف!

4- جيش النبي (صلی الله علیه و آله) المتواضع الفقير

وخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً، فلما كان بقرب بدر على ليلة منها بعث بشير بن أبي الدعناء، ومجد بن عمرو، يتجسسان خبر العير، فأتيا ماء بدر وأناخا راحلتيهما واستعذبا من الماء، وسمعا جاريتين قد تشبثت إحداهما بالأخرى وتطالبها بدرهم كان لها عليها فقالت: عير قريش نزلت أمس في موضع كذا وكذا، وهي تنزل غداً هاهنا، وأنا أعمل لهم وأقضيك، فرجع أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبراه بما سمعا، فأقبل أبوسفيان بالعير فلما شارف بدر تقدم العير وأقبل وحده حتى انتهى إلي ماء بدر، وكان بها رجل من جهينة يقال له كسب الجهني فقال له: يا كسب هل لك علم بمحمد وأصحابه؟ قال: لا: قال: واللات والعزى لئن كتمتنا أمر محمد لاتزال قريش معادية لك آخر الدهر، فإنه ليس أحد من قريش إلا وله في هذه العير النش فصاعداً فلا تكتمني، فقال: والله مالي علم بمحمد، وما بال محمد وأصحابه بالتجار، إلا أني رأيت في هذا اليوم راكبين أقبلا واستعذبا من الماء وأناخا راحلتيهما ورجعا، فلا أدري من هما.

فجاء أبوسفيان إلى موضع مناخ إبلهما ففت أبعار الإبل بيده فوجد فيها النوى فقال: هذه علايف يثرب، هؤلاء عيون محمد، فرجع مسرعاً وأمر بالعير فأخذ بها نحو ساحل البحر وتركوا الطريق ومروا مسرعين، ونزل جبرئيل على

ص: 683

رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره أن العير قد أفلتت، وأن قريشاً قد أقبلت لتمنع عن عيرها، وأمره بالقتال ووعده النصر.

وكان نازلاً ماء الصفراء فأحب أن يبلو الأنصار لأنهم إنما وعدوه أن ينصروه في الدار، فأخبرهم أن العير قد جازت، وأن قريشاً قد أقبلت لتمنع عن عيرها، وأن الله قد أمرني بمحاربتهم، فجزع أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) من ذلك وخافوا خوفاً شديداً! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أشيروا عليَّ، فقام الأول «أبوبكر»فقال: يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها، ما آمنتْ منذ كفرتْ، ولا ذلت مند عزَّت، ولم تخرج «أنت» على هيئة الحرب! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أجلس فجلس، قال: أشيروا علي، فقام الثاني «عمر» فقال مثل مقالة الأول، فقال (صلی الله علیه و آله): أجلس فجلس!

ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله إنا قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله، ولو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراش لخضنا معك، ولا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ، ولكنا نقول: امض لأمر ربك فإنا معك مقاتلون! فجزَّاهُ النبي (صلی الله علیه و آله) خيراً ثم جلس. ثم قال: أشيروا عليَّ، فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله كأنك أردتنا؟ قال: نعم، قال: فلعلك خرجت على أمر قد أمرت بغيره؟ قال: نعم، قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله، فمرنا بما شئت وخذ من أموالنا ما شئت واترك منها ما شئت، والذي أخذت منه أحب إلي من الذي تركت منه، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك! فجزَّاه خيراً.

ثم قال سعد: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله ما خضت هذا الطريق قط ومالي به علم، وقد خلفنا بالمدينة قوماً ليس نحن بأشد جهاداً منهم، ولو علموا أنه الحرب لما تخلفوا، ولكنا نَعُدُّ لك الرواحل ونلقى عدونا، فإنا لصُبَّرٌ عند اللقاء أنجادٌ في الحرب، وإنا لنرجو أن يقر الله عينك بنا، فإن يك ما تحب فهو ذلك وإن يكن غير ذلك قعدت على رواحلك فلحقت بقومنا.

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أو يحدث الله غير ذلك، كأني بمصرع فلان هاهنا وبمصرع

ص: 684

فلان هاهنا وبمصرع أبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومنبه ونبيه ابني الحجاج، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله الميعاد!

فنزل جبرئيل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) بهذه الآية: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ.. إلى قوله: وَلَوْكَرِهَ المُجْرِمُون. فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالرحيل حتى نزل عشاءً على ماء بدر وهي العدوة الشامية، وأقبلت قريش فنزلت بالعدوة اليمانية.

5- عقلاء من بني عبدمناف ضد الحرب، لكن!

ولقي عتبة بن ربيعة أبا البختري بن هشام بن هاشم بن عبدالمطلب فقال له: أما ترى هذا البغي، والله ما أبصر موضع قدمي! خرجنا لنمنع عِيرنا وقد أفلتت فجئنا بغياً وعدواناً، والله ما أفلح قوم قط بغوا، ولوددت أن ما في العير من أموال بني عبدمناف ذهب كله ولم نسر هذا المسير! فقال له أبو البختري: إنك سيد من سادات قريش، تَحَمَّل العير التي أصابها محمد (صلی الله علیه و آله) وأصحابه بنخلة ودم ابن الحضرمي فإنه حليفك، فقال عتبة: أنت عليَّ بذلك وما على أحد منا خلاف إلا ابن حنظلة، يعني أباجهل، فسر إليه وأعلمه أني قد تحملت العير التي قد أصابها محمد، ودم ابن الحضرمي. فقال أبو البختري فقصدت خباءه فإذا هو قد أخرج درعاً له فقلت له: إن أبا الوليد بعثني إليك برسالة، فغضب ثم قال: أما وجد عتبة رسولاً غيرك؟ فقلت: أما والله لو غيره أرسلني ما جئت ولكن أبا الوليد سيد العشيرة، فغضب أشد من الأولى فقال: تقول سيد العشيرة! فقلت: أنا أقوله وقريش كلها تقوله! إنه قد تحمل العير ودم ابن الحضرمي.

فقال: إن عتبة أطول الناس لساناً وأبلغهم في الكلام ويتعصب لمحمد! فإنه من بني عبدمناف وابنه معه«أبو حذيفة» ويريد أن يُخذِّل بين الناس! لا، واللات والعزى حتى نقتحم عليهم بيثرب، ونأخذهم أسارى فندخلهم مكة وتتسامع العرب بذلك، ولا يكونن بيننا وبين متجرنا أحد نكرهه!

ص: 685

6- خاف المسلمون من جيش قريش!

وبلغ أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) كثرة قريش ففزعوا فزعاً شديداً وبكوا واستغاثوا فأنزل الله على رسوله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. «الأنفال/ 9-10». فلما مشى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وَجَنَّهُ الليل ألقى الله على أصحابه النعاس حتى ناموا، وأنزل الله تبارك وتعالى عليهم السماء، وكان نزل الوليد في موضع لايثبت فيه القدم، فأنزل الله عليهم السماء حتى تثبت أقدامهم على الأرض، وهو قول الله تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ. وذلك أن بعض أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) احتلم: وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ، وكان المطر على قريش مثل العزالى «كصب القرب» وكان على أصحاب رسول الله رذاذاً، بقدر ما لبَّد الأرض.

7- وخاف المشركون من المسلمين!

وخافت قريش خوفاً شديداً فأقبلوا يتحارسون يخافون البيات، فبعث رسول الله عمار بن ياسر وعبدالله بن مسعود فقال: أدخلا في القوم وأتياني بأخبارهم، فكانا يجولان في عسكرهم لايرون إلا خائفاً ذعراً، إذا صهل الفرس وثب على جحفلته! فسمعوا منبة بن الحجاج يقول:

لايترك الجوع لنا مبيتا *** لا بد أن نموت أو نميتا.

قال (صلی الله علیه و آله): والله كانوا شباعى ولكنهم من الخوف قالوا هذا، وألقى الله على قلوبهم الرعب كما قال الله تعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبوُا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ. فلما أصبح رسول الله (صلی الله علیه و آله) عبأ أصحابه وكان في عسكره فرَسان: فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد، وكان في عسكره سبعون جملاً يتعاقبون عليها، فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وعلي بن أبي طالب على جمل، يتعاقبون عليه والجمل لمرثد، وكان في عسكر قريش أربع مائة فرس، فعبأ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصحابه

ص: 686

بين يديه وقال: غضوا أبصاركم، ولا تبدؤوهم بالقتال، ولا يتكلمن أحد، فلما نظر قريش إلى قلة أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال أبوجهل: ما هم إلا أكلة رأس، ولو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذاً باليد! فقال عتبة بن ربيعة: أترى لهم كميناً ومدداً؟فبعثوا عمر بن وهب الجمحي وكان فارساً شجاعاً فجال بفرسه حتى طاف إلى معسكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم صعد الوادي وصوب، ثم رجع إلى قريش فقال: ما لهم كمين ولا مدد، ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع، أما ترونهم خرساً لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الأفاعي، ما لهم ملجأ إلا سيوفهم، وما أراهم يولون حتى يقتلون، ولا يقتلون حتى يقتلون بعددهم، فارتؤوا رأيكم! فقال أبوجهل: كذبت وجبنت وانتفخ منخرك، حين نظرت إلى سيوف يثرب!

8- وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا

فزع أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين نظروا إلى كثرة قريش وقوتهم، فأنزل الله على رسوله (صلی الله علیه و آله): وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ، وقد علم الله أنهم لايجنحون ولايجيبون إلى السلم وإنما أراد سبحانه بذلك ليطيِّب قلوب أصحاب رسول الله، فبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى قريش فقال: يا معشر قريش ما أحد من العرب أبغض إليَّ من أن أبدأ بكم، خَلُّوني والعرب فإن أكُ صادقاً فأنتم أعلى بي عيناً، وإن أك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمري، فارجعوا.

فقال عتبة: والله ما أفلح قوم قط ردوا هذا! ثم ركب جملاً له أحمر فنظر إليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) يجول في العسكر وينهى عن القتال، فقال: إن يكن عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر، فإن يطيعوه يرجعوا ويرشدوا، فأقبل عتبة يقول: يا معشر قريش إجتمعوا واستمعوا. ثم خطبهم فقال: يُمْنٌ رَحْبٌ فرحبٌ مع يمن. يا معشر قريش: أطيعوني اليوم واعصوني الدهر، وارجعوا إلى مكة واشربوا الخمور وعانقوا الحور، فإن محمداً له إلٌّ «عهد» وذمة، وهو ابن عمكم

ص: 687

فارجعوا ولا تنبذوا رأيي، وإنما تطالبون محمداً بالعير التي أخذها محمد بنخيلة، ودم ابن الحضرمي وهو حليفي وعليَّ عقله. فلما سمع أبوجهل ذلك غاظه وقال: إن عتبة أطول الناس لساناً وأبلغهم في الكلام، ولئن رجعت قريش بقوله ليكونن سيد قريش آخر الدهر، ثم قال: يا عتبة نظرت إلى سيوف بني عبدالمطلب وجبنت وانتفخ سحرك، وتأمر الناس بالرجوع، وقد رأينا ثارنا بأعيننا!

فنزل عتبة عن جمله وحمل علي أبي جهل وكان على فرس فأخذ بشعره، فقال الناس: يقتله، فعرقب فرسه وقال: أمثلي يُجَبَّن، وستعلم قريش اليوم أينا ألأم وأجبن وأينا المفسد لقومه، لا يمشي إلا أنا وأنت إلى الموت عياناً! ثم قال: هذا حبائي وخياره فيه وكل جانٍ يده إلى فيه! ثم أخذ بشعره يجره فاجتمع الناس فقالوا: يا أبا الوليد اللهَ اللهَ لا تَفُتَّ في أعضاد الناس، تنهى عن شئ وتكون أوله! فخلصوا أباجهل من يده، فنظر عتبة إلى أخيه شيبة، ونظر إلى ابنه الوليد فقال: قم يا بنيَّ فقام، ثم لبس درعه وطلبوا له بيضة تسع رأسه، فلم يجدوها لعظم هامته، فاعتم بعمامتين ثم أخذ سيفه وتقدم هو وأخوه وابنه ونادى: يا محمد أخرج الينا أكفاءنا من قريش! فبرز إليه ثلاثة نفر من الأنصار عَوْد ومُعَوَّد وعَوف من بني عفراء فقال عتبة: من أنتم، انتسبوا لنعرفكم. فقالوا: نحن بنو عَفْرَا أنصار الله وأنصار رسول الله (صلی الله علیه و آله) . قال: ارجعوا فإنا لسنا إياكم نريد، إنما نريد الأكفاء من قريش! فبعث إليهم رسول الله أن ارجعوا فرجعوا، وكره أن يكون أول الكرة بالأنصار، فرجعوا ووقفوا موقفهم.

9- أطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم

ثم نظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب وكان له سبعون سنة فقال له: قم يا عبيدة، فقام بين يديه بالسيف، ثم نظر إلى حمزة بن عبدالمطلب فقال: قم يا عم، ثم نظر إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) فقال له: قم يا علي وكان أصغرهم، فقال: فاطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم، قد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطفي نور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا عبيدة عليك بعتبة،

ص: 688

وقال لحمزة عليك بشيبة، وقال لعلي عليك بالوليد بن عتبة. فمروا حتى انتهوا إلى القوم فقال عتبة من أنتم، إنتسبوا لنعرفكم؟ فقال عبيدة: أنا عبيدة بن حارث بن عبدالمطلب، فقال كفوٌ كريم، فمن هذان؟ قال حمزة بن عبدالمطلب وعلي بن أبي طالب، فقال: كفوان كريمان، لعن الله من أوقفنا وإياكم هذا الموقف! فقال شيبة لحمزة: من أنت؟ فقال أنا حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله، وقال له شيبة: لقد لقيت أسد الحلفاء، فانظر كيف تكون صولتك يا أسد الله! فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة ففلق هامته، وضرب عتبة عبيدة على ساقه فقطعها وسقطا جميعاً، وحمل حمزة على شيبة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما، وكل واحد يتقي بدرقته. وحمل أميرالمؤمنين (علیه السلام) على الوليد بن عتبة فضربه على عاتقه فأخرج السيف من إبطه! فقال علي (علیه السلام): فأخذ يمينه المقطوعة بيساره فضرب بها هامتي فظننت أن السماء وقعت على الأرض! ثم اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون: ياعليُّ أما ترى الكلب قد أبهر عمك! فحمل علي (علیه السلام) ثم قال: يا عم طأطئ رأسك، وكان حمزة أطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره، فضربه أميرالمؤمنين (علیه السلام) على رأسه فطير نصفه، ثم جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه، وحمل عبيدة بين حمزة وعلي (علیه السلام) حتى أتيا به رسول الله فنظر إليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) واستعبر، فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ألست شهيداً؟ فقال: بلى أنت أول شهيد من أهل بيتي. قال: أما لو كان عمك حياً لعلم أني أولى بما قال منه، قال وأي أعمامي تعني؟ قال أبوطالب حيث يقول:

كذبتم وبيت الله نبزي محمداً *** ولما نطاعن دونه ونناضل

وننصره حتى نصرَّع حوله *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) أما ترى ابنه كالليث العادي بين يدي الله ورسوله، وابنه الآخر في جهاد لله بأرض الحبشة؟! فقال: يا رسول الله أسخطتَ عليَّ في هذه الحالة؟ فقال: ما سخطت عليك، ولكن ذكرتَ عمي، فانقبضت لذلك».

ص: 689

10- أبوجهل ينصح قريشاً!

وقال أبوجهل لقريش: لا تعجلوا ولا تبطروا كما عجل وبطر أبناء ربيعة، عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزراً، وعليكم بقريش فخذوهم أخذاً حتى ندخلهم مكة فنعرفهم ضلالتهم التي كانوا عليها...

وجاء إبليس إلى قريش في صورة سراقة بن مالك فقال لهم: أنا جاركم، إدفعوا إليَّ رايتكم، فدفعوها إليه وجاء بشياطينه يهول بهم على أصحاب رسول الله، ويخيل إليهم ويفزعهم، وأقبلت قريش يقدمها إبليس معه الراية، فنظر إليه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال: غضوا أبصاركم، وعضوا على النواجذ، ولا تسلوا سيفاً حتى آذن لكم، ثم رفع يده إلى السماء وقال: يا رب إن تهلك هذه العصابة لم تعبد، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد. ثم أصابه الغشي فسري عنه وهو يسلت العرق عن وجهه ويقول: هذا جبرئيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين، قال: فنظرنا فإذا بسحابة سوداء فيها برق وريح، قد وقعت على عسكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقائل يقول: أقدم حيزوم أقدم حيزوم! وسمعنا قعقعة السلاح من الجو! ونظر إبليس إلى جبرئيل فتراجع ورمى باللواء فأخذ منبه بن الحجاج بمجامع ثوبه ثم قال: ويلك يا سراقة تفتُّ في أعضاد الناس، فركله إبليس ركلة في صدره وقال: إِنِّي أَرَى مَا لاتَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ! وهو قول الله: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاغَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيٌْ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاتَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ... قال وحمل جبرئيل (علیه السلام) على إبليس فطلبه حتى غاص في البحر وقال: رب أنجز لي ما وعدتني من البقاء إلى يوم الدين!

وروي في الخبر أن إبليس التفت إلى جبرئيل وهو في الهزيمة فقال: يا هذا أبَدَا لكم فيما أعطيتمونا؟ فقيل لأبي عبدالله (علیه السلام): أترى كان يخاف أن يقتله؟ فقال: لا ولكنه كان يضربه ضرباً يشينه منها إلى يوم القيامة!

11- شاهت الوجوه!

وأنزل على رسوله (صلی الله علیه و آله): إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ

ص: 690

الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبوُا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ. قال أطراف الأصابع. وخرج أبوجهل من بين الصفين فقال: اللهم إن محمداً قطعنا الرحم وأتانا بما لانعرفه فأحنه الغداة! فأنزل الله على رسوله (صلی الله علیه و آله): إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَخَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. ثم أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) كفاً من حصى فرمى به وجوه قريش وقال: شاهت الوجوه! فبعث الله رياحاً تضرب في وجوه قريش فكانت الهزيمة! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): اللهم لايفلتنَّ فرعون هذه الأمة أبوجهل بن هشام. فقتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون، والتقى عمرو بن الجموح مع أبي جهل فضرب عمرو أباجهل بن هشام على فخذيه، وضرب أبوجهل عمرو على يده فأبانها من العضد، فتعلقت بجلدة فاتكأ عمرو على يده برجله ثم نزا في السماء حتى انقطعت الجلدة ورمى بيده! وقال عبدالله بن مسعود: انتهيت إلى أبي جهل وهو يتشحط في دمه فقلت: الحمد لله الذي أخزاك، فرفع رأسه فقال: إنما أخزى الله عبد بن أم عبدالله لمن الدين ويلك؟ قلت: لله ولرسوله وإني قاتلك! ووضعت رجلي على عنقه فقال: ارتقيت مرتقىً صعباً يارويعي الغنم! أما إنه ليس شئ أشد من قتلك إياي في هذا اليوم إلا تولى قتلي رجل من المطيبين أو رجل من الأحلاف! فاقتلعت بيضة كانت على رأسه، فقتلته وأخذت رأسه وجئت به إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقلت: يا رسول الله البشرى هذا رأس أبي جهل بن هشام، فسجد لله شكراً.

12- أسرى من بني هاشم

وأسر أبو بشرالأنصاري العباس بن عبدالمطلب وعقيل بن أبي طالب، وجاء بهما إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال له: هل أعانك عليهما أحد؟ قال: نعم رجل عليه ثياب بياض، فقال رسول الله: ذاك من الملائكة، ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): للعباس إفد نفسك وابن أخيك، فقال: يا رسول الله قد كنت أسلمت، ولكن

ص: 691

القوم استكرهوني، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الله أعلم بإسلامك إن يكن ما تذكر حقاً فإن الله يجزيك عليه، وأما ظاهر أمرك فقد كنت علينا. ثم قال (صلی الله علیه و آله): يا عباس إنكم خاصمتم الله فخصمكم، ثم قال: إفد نفسك وابن أخيك، وقد كان العباس أخذ معه أربعين أوقية من ذهب، فغنمها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلما قال للعباس إفد نفسك فقال: يا رسول الله إحسبها من فدائي، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا، ذاك أعطانا الله منك، فأفد نفسك وابن أخيك، فقال العباس: فليس لي مال غير الذي ذهب مني، قال: بلى المال الذي خلفته عند أم الفضل بمكة فقلت لها إن حدث عليَّ حدث فاقسموه بينكم. فقال: ماتتركني إلا وأنا أسأل الناس بكفي!

فأنزل الله على رسوله في ذلك: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا اُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.وَإِنْ يُريِدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. الأنفال/ 70-71.

ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعقيل: قد قتل الله يا أبا يزيد: أباجهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشیبة بن ربيعة، ونبيه ومنبه ابني الحجاج، ونوفل بن خويلد، والنضر بن الحارث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط، وفلاناً وفلاناً. فقال عقيل: إذاً لا تنازع في تهامة، فإن كنت قد أثخنت القوم وإلا فاركب أكتافهم! فتبسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) من قوله. وكان القتلى ببدر سبعين والأسرى سبعين، قتل منهم أميرالمؤمنين (علیه السلام) سبعة وعشرين ولم يأسر أحداً، فجمعوا الأسارى وقرنوهم في الحبال وساقوهم على أقدامهم، وجمعوا الغنائم. وقتل من أصحاب رسول الله تسعة رجال، فمنهم سعد بن خثيمة، وكان من النقباء.

13- الرحيل من بدر إلى المدينة

«فرحل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونزل الأثيل عند غروب الشمس، وهو من بدر على ستة أميال فنظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث بن كلدة وهما في قران واحد، فقال النضر لعقبة: يا عقبة أنا وأنت من المقتولين، فقال عقبة: من

ص: 692

بين قريش؟ قال: نعم لأن محمداً قد نظر الينا نظرة رأيت فيها القتل، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي عليَّ بالنضر وعقبة، وكان النضر رجلاً جميلاً عليه شعر، فجاء علي فأخذ بشعره فجره إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال النضر: يا محمد أسألك بالرحم الذي بيني وبينك إلا أجريتني كرجل من قريش، إن قتلتهم قتلتني وإن فاديتهم فاديتني، وإن أطلقتهم أطلقتني. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا رحم بيني وبينك، قطع الله الرحم بالإسلام، قدمه يا علي فاضرب عنقه! فقال عقبة: يا محمد ألم تقل لا تُصبر قريش أي لا يقتلون صبراً، قال: أفأنت من قريش؟ إنما أنت علج من أهل صفورية، لأنت في الميلاد أكبر من أبيك الذي تدعى له، لست منها! قدمه يا علي فاضرب عنقه، فقدمه وضرب عنقه!

فلما قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) النضر وعقبة، خافت الأنصار أن يقتل الأسارى كلهم فقاموا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: يا رسول الله قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين، وهم قومك وأساراك، هبهم لنا يا رسول الله وخذ منهم الفداء وأطلقهم، فأنزل الله عليهم: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

أقول: النص المتقدم لعلي بن إبراهيم (رحمة الله) وأكثره موافق لرواية المصادر السنية وقد ضمنه روايات عن المعصومين(علیهم السلام)، كما في محاولة جبرئيل ضرب إبليس.

كما ضمنه رأيه في تفسير بعض الآيات كآية فداء الأسرى، ولا نوافقه عليه، لأنه جعل نزولها وتحليل الفداء للمسلمين بعد ستة أميال من المسير من بدر، وقد تقدم في كلامه أن النبي (صلی الله علیه و آله) طلب من عمه العباس في بدر أن يفدي نفسه، ومعناه أن تشريع الفداء كان من بدر، ولم ينزل في طريق العودة منها!

مضافاً إلى الإشكال بأنه كيف يحلل الله شيئاً ثم يعاقب عليه، فقد أحل لهم الفداء فكيف يعاقبهم بخسارة سبعين رجلاً منهم! وستأتي مسألة أسرى بدر.

ص: 693

4- أضواء من سيرة النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر

1- رسالة أبي جهل إلى النبي (صلی الله علیه و آله)

روى في الإحتجاج: 1/40 عن الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) أن أباجهل أرسل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) رسالة قبيل بدر، وهي: «يا محمد إن الخيوط التي في رأسك هي التي ضيقت عليك مكة، ورمت بك إلى يثرب، وإنها لا تزال بك تنفرك وتحثك على ما يفسدك ويتلفك، إلى أن تفسدها على أهلها وتصليهم حر نار جهنم، وما أرى ذلك إلا وسيؤول إلى أن تثور عليك قريش ثورة رجل واحد، لقصد آثارك ودفع ضرك وبلائك، فتلقاهم بسفهائك المغترين بك، ويساعدك على ذلك من هو كافر بك مبغض لك، فيلجؤه إلى مساعدتك ومظافرتك خوفه لأن لا يهلك بهلاكك ويعطب عياله بعطبك، ويفتقر هو ومن يليه بفقرك وبفقر شيعتك، إذ يعتقدون أن أعداءك إذا قهروك ودخلوا ديارهم عنوة لم يفرقوا بين من والاك وعاداك واصطلموهم باصطلامهم لك، وأتوا على عيالاتهم وأموالهم بالسبي والنهب،كما يأتون على أموالك وعيالك، وقد أعذر من أنذر وبالغ من أوضح!

وأُدِّيَتْ هذه الرسالة إلى محمد وهو بظاهر المدينة بحضرة كافة أصحابه وعامة الكفار من يهود بني إسرائيل، وهكذا أُمِر الرسولُ ليُجبِّن المؤمنين، ويغري بالوثوب عليه سائر من هناك من الكافرين! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) للرسول: قد أطريت مقالتك واستكملت رسالتك؟ قال: بلى. قال: فاسمع الجواب:

إن أباجهل بالمكاره والعطب يتهددني، ورب العالمين بالنصر والظفر يعدني، وخبر الله أصدق والقبول من الله أحق! لن يضر محمداً من خذله أو يغضب عليه بعد أن ينصره الله ويتفضل بجوده وكرمه عليه.

قل له: يا أباجهل إنك واصلتني بما ألقاه في خلدك الشيطان، وأنا أجيبك بما ألقاه في خاطري الرحمن، إن الحرب بيننا وبينك كائنة إلى تسع وعشرين يوماً، وإن الله سيقتلك فيها بأضعف أصحابي! وستلقى أنت وشيبة وعتبة والوليد وفلان وفلان

ص: 694

وذكر عدداً من قريش في قليب بدر، مقتولين! أقتل منكم سبعين وآسر منكم سبعين، وأحملهم على الفداء الثقيل!

ثم نادى (صلی الله علیه و آله) جماعة من بحضرته من المؤمنين واليهود وسائر الأخلاط: ألا تحبون أن أريكم مصارع هؤلاء المذكورين، مصرع كل واحد منهم؟

قالوا: بلى. قال: هلموا إلى بدر فإن هناك الملتقى والمحشر، وهناك البلاء الأكبر لأضع قدمي على مواضع مصارعهم، ثم ستجدونها لا تزيد ولا تنقص ولا تتغير ولا تتقدم ولا تتأخر لحظة، ولا قليلاً ولا كثيراً!

فلم يَخُفَّ ذلك على أحد منهم ولم يجبه إلا علي بن أبي طالب (علیه السلام) وحده قال: نعم بسم الله. فقال الباقون: نحن نحتاج إلى مركوب وآلات ونفقات ولايمكننا الخروج إلى هناك وهو مسيرة أيام! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لسائر اليهود: فأنتم ماذا تقولون؟ فقالوا: نحن نريد أن نستقر في بيوتنا ولا حاجة لنا في مشاهدة ما أنت في ادعائه محيل! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لانَصَبَ لكم في المسير إلى هناك، أخطوا خطوة واحدة،فإن الله يطوي الأرض لكم ويوصلكم في الخطوة الثانية إلى هناك!

قال المسلمون: صدق رسول الله فلنُشَرَّفْ بهذه الآية، وقال الكافرون والمنافقون: سوف نمتحن هذا الكذاب لينقطع عذر محمد، وتصير دعواه حجة عليه وفاضحة له في كذبه! قال: فخطى القوم خطوة ثم الثانية، فإذا هم عند بئر بدر، فتعجبوا! فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: إجعلوا البئر العلامة واذرعوا من عندها كذا ذراع، فذرعوا فلما انتهوا إلى آخرها، قال: هذا مصرع أبي جهل يجرحه فلان الأنصاري ويجهز عليه عبدالله بن مسعود، أضعف أصحابي.

ثم قال: إذرعوا من البئر من جانب آخر ثم من جانب آخر ثم من جانب آخر، كذا وكذا ذراعاً وذراعاً، وذكر أعداد الأذرع مختلفة، فلما انتهى كل عدد إلى آخره قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): هذا مصرع عتبة، وهذا مصرع شيبة، وذاك مصرع الوليد، وسيقتل فلان وفلان إلى أن سمى سبعين منهم بأسمائهم وأسماء آبائهم! وسيؤسر فلان وفلان إلى أن ذكر سبعين منهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وصفاتهم

ص: 695

ونسب المنسوبين إلى أمهاتهم وآبائهم، ونسب الموالي منهم إلى مواليهم.

ثم قال: أوقفتم على ما أخبرتكم به؟ قالوا: بلى. قال: إن ذلك من الله لحق كائن بعد ثمانية وعشرين يوماً في اليوم التاسع والعشرين، وعداً من الله مفعولاً، وقضاءً حتماً لازماً.

ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا معشر المسلمين واليهود اكتبوا بما سمعتم. فقالوا: يا رسول الله قد سمعنا ووعينا ولا ننسى، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الكتابة أذكر لكم. فقالوا: يا رسول الله فأين الدواة والكتف؟فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ذلك للملائكة! ثم قال: يا ملائكة ربي أكتبوا ما سمعتم من هذه القصة في الكتاب، واجعلوا في كم كل واحد منهم كتفاً من ذلك! ثم قال: يا معشر المسلمين تأملوا أكمامكم وما فيها وأخرجوها واقرؤوها، فتأملوها وإذا في كم كل واحد منهم صحيفة قرأوها وإذا فيها ذكر ما قاله رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ذلك سواء لا يزيد ولا ينقص ولايتقدم ولا يتأخر. فقال: أغيضوها في أكمامكم تكن حجة عليكم، وشرفاً للمؤمنين منكم، وحجة على أعدائكم، فكانت معهم!

فلما كان يوم بدر، جرت الأمور كلها ببدر كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا تزيد ولا تنقص، قابلوها في كتبهم فوجدوها كما كتبتها الملائكة، لا تزيد ولا تنقص ولا تتقدم ولا تتأخر، فقبل المسلمون ظاهرهم، ووكلوا باطنهم إلى خالقهم».

2- سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ

أنزل الله قبل بدر سورة القمر وأخبر فيها بأن قريشاً ستنهزم! وكان النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر: مصلتاً سيفه يتلو قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. واشترك في حرب بدر بنفسه، وقاتل قتالاً شديداً «الصحيح: 5/43». وكان (صلی الله علیه و آله) أخبرهم عن هزيمتهم في أول بعثته عندما طلبوا منه معجزة: «فقالوا له: يا محمد إنك قد ادعيت عظيماً لم يدعه آباؤك، ولا أحد من بيتك ونحن نسألك أمراً إن أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنك نبي ورسول، وإن لم تفعل علمنا أنك ساحر كذاب! فقال (صلی الله علیه و آله): وما تسألون؟ قالوا

ص: 696

تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك. فقال (صلی الله علیه و آله): إن الله على كل شئ قدير، فإن فعل الله لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحق؟ قالوا نعم. قال: فإني سأريكم ما تطلبون، وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير، وأن فيكم من يطرح في القليب، ومن يحزب الأحزاب! ثم دعا ربه فأراهم ما طلبوا فازدادوا كفراً»! نهجالبلاغة:2/157.

3- من أدعية النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر وغيرها

وكان (صلی الله علیه و آله) يعلم أنه سيقاتل في بدر، لكنه تألف أصحابه واستشارهم مرتين، «فتح الباري 7/223» أولاهما قبل حركته من المدينة، والثانية عندما بلغه نجاة القافلة ومجئ قريش لحربه، وذلك تطبيقاً لقوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ. ثم عزم (صلی الله علیه و آله) ولم يهتم لتخويف مرضى القلوب الذين قالوا: غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ. ولالجدل الصحابة المنهارين: كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ! وكان في سفره وفي ليلة بدر ويومها، يدعو ربه تعالى.

ومن أدعيته (صلی الله علیه و آله) لما خرج من المدينة: «اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعالةٌ فأغنهم من فضلك. قال: فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهراً، للرجل البعير والبعيران، واكتسى من كان عارياً، وأصابوا طعاماً من أزوادهم، وأصابوا فداء الأسرى». الإمتاع: 12/178.

وعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «لما نظر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى كثرة المشركين وقلة المسلمين استقبل القبلة وقال: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض. فنزلت: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ». الصحيح 5/35.

وبات (صلی الله علیه و آله) في ليلة بدر يدعو: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لاتعبد في الأرض، فلما أن طلع الفجر نادى: الصلاة عباد الله، فجاء الناس من تحت الشجر والجحف، فصلى بنا رسول الله وحرض على القتال». الطبري: 2/134.

ص: 697

«ودعا يوم بدر حتى سقط رداؤه عن منكبيه يستنجز الله وعده» القرطبي: 3/256. وعن علي (علیه السلام) قال: «إغتنموا الدعاء عند خمسة مواطن: عند قراءة القرآن، وعند الأذان، وعند نزول الغيث، وعند التقاء الصفين، وعند دعوة المظلوم.

كان (صلی الله علیه و آله) إذا لقي العدو قال: اللهم إنك أنت عصمتي وناصري ومعيني. اللهم بك أصول وبك أقاتل. وكان (صلی الله علیه و آله) إذا لقي العدو عبأ الرجَّالة وعبأ الخيل والإبل.

كان (صلی الله علیه و آله) إذا زحف للقتال يعبئ الكتائب ويفرق بين القبائل، ويقدم على كل قوم رجلاً، ويصفف الصفوف، ويكردس الكراديس، ثم يزحف إلى القتال.

كان (صلی الله علیه و آله) إذا زحف للقتال جعل ميمنةً، وميسرةً وقلباً يكون هو فيه، ويجعل لها روابط ويقدم عليها مقدمين، ويأمرهم بخفض الأصوات والدعاء، واجتماع القلوب، وشهر السيوف، وإظهار العدة، ولزوم كل قوم مكانهم، ورجوع كل من حمل إلى مصافه بعد الحملة». دعائم الإسلام: 1/371.

وقال ابن مسعود: «ما سمعنا مناشداً ينشد حقاً له أشد مناشدة من محمد يوم بدر يقول: اللهم إني أنشدك ما وعدتني، إن تهلك هذه العصابة لاتعبد. ثم التفت كأن وجهه القمر فقال: كأني أنظر إلى مصارع القوم عشية».الزوائد: 6/82.

وأراد بخاري أن يمدح أبابكر فذمه، فزعم أن النبي (صلی الله علیه و آله) أفرط في الدعاء حتى نهاه أبوبكر! قال في صحيحه: 6/54: «قال النبي (صلی الله علیه و آله) وهو في قبة: اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لاتعبد بعد اليوم! فأخذ أبوبكر بيده فقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك! وهو يَثب «يقفز» في الدرع! فخرج وهو يقول: سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر»!وتعبيره لا يخلو من انتقاص النبي (صلی الله علیه و آله)! وهم لايتورعون عن الطعن في نبيهم (صلی الله علیه و آله)، لمدح من يحبونه من الصحابة!

4- وعطش النبي (صلی الله علیه و آله) فاستقى لهم علي (علیه السلام)

لما وصلوا إلى بدر نزلوا على غير ماء لأن قريشاً سبقتهم إلى الماء، أو لأن عين بدر كانت مملوكة كما يظهر. وعطش النبي (صلی الله علیه و آله) فذهب علي (علیه السلام) ليلاً وجاء له بالماء. وفي

ص: 698

الصباح أنزل الله عليهم المطر فاستقوا واغتسلوا، وألقى الله عليهم النعاس فناموا، وبقي النبي (صلی الله علیه و آله) تلك الليلة يصلي ويدعو ربه. وكانت ليلة جمعة.

5-كانت وقعة بدر يوم جمعة

وفي يوم الجمعة يوم بدر صلى النبي (صلی الله علیه و آله) بالمسلمين الفجر وصفَّهم، وأرسل إلى قريش يقترح عليهم الرجوع وعدم الحرب، واستجاب له عتبة بن ربيعة لكن أباجهل جَبَّنَه! فأخذت عتبة الحمية وبرز هو وابنه الوليد وأخوه شيبة، فبرز اليهم أبناء عفراء من الأنصار، فأبوا وطلبوا أن يبرز اليهم أكفاءهم، فاختار النبي (صلی الله علیه و آله) لهم ثلاثة من بني هاشم، علياً، وحمزة، وعبيدة، ونصرهم الله تعالى على فرسان قريش. وبارز علي (علیه السلام) وحمزة عدة أخرى فقتلاهم، فأمر النبي (صلی الله علیه و آله) المسلمين بالزحف وزحف معهم وقاتل، وهزم الله المشركين شر هزيمة!

قال علي (علیه السلام): «لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي (صلی الله علیه و آله) وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً.. كنا إذا احمرَّ البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله (صلی الله علیه و آله)، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه».مكارم الأخلاق/18.

وكان علي (علیه السلام) في المعركة قرب النبي (صلی الله علیه و آله) فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): «ناولني كفاً من حصى، فرمى بها في وجوههم وقال لهم: شاهت الوجوه! فلم يبق أحد منهم إلا ولى الدبر لذلك منهزماً».الدر النظيم/152.

وفي إعلام الورى/169: «فكثر الله المسلمين في أعين الكفار، وقلل المشركين في أعين المؤمنين كيلا يفشلوا، وأخذ رسول الله كفاً من تراب فرماه إليهم وقال: شاهت الوجوه! فلم يبق منهم أحد إلا اشتغل بفرك عينيه». وفي رواية «فما بقي أحد إلا امتلأت عينه من الحصباء، وأفواههم ومناخرهم».المناقب: 1/164.

وفي الطبري: 2/150: «ثم نفحهم بها وقال لأصحابه: شدوا، فكانت الهزيمة».

وفي الصحيح: 5/53: «وبالمناسبة فإن عائشة قالت في حرب الجمل: ناولوني كفاً من تراب، فناولوها فحثت في وجوه أصحاب أميرالمؤمنين (علیه السلام) وقالت:

ص: 699

شاهت الوجوه، كما فعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأهل بدر! فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): وما رميت إذ رميت ولكن الشيطان رمى! وليعودنَّ وبالك عليكِ إن شاء الله! وَنَظَرَتْ إلى علي (علیه السلام) وهو يجول بين الصفوف في حرب الجمل فقالت: أنظروا إليه كأن فعله فعل رسول الله يوم بدر، أما والله ما ينتظر بكم إلا زوال الشمس، وهكذا كان».

أقول: وزعموا أن أبابكر كان مع النبي (صلی الله علیه و آله) في العريش، لكن لم يكن عريش في بدر، ثم إن النبي (صلی الله علیه و آله) قاتل وأبوبكر وعمر لم يقاتلا، وذهبا إلى خلف!

6- خاطب النبي (صلی الله علیه و آله) فراعنة المشركين

أمر النبي (صلی الله علیه و آله) أن يُلقى قتلى المشركين في بئر مهجورة لاماء فيها، ثم وقف عليهم وخاطبهم فأحياهم الله وسمعوه، قال لهم: «لقد كنتم جيران سوء لرسول الله، أخرجتموه من منزله وطردتموه، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه، فقد وجدتُ ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقال له عمر: يا رسول الله ما خطابك لهامٍ قد صَدِيَتْ؟

فقال له: مَهْ يا ابن الخطاب! فوالله ما أنت بأسمع منهم! وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع الحديد، إلا أن أعرض بوجهي هكذا عنهم».

«فقال المنافقون: إن رسول الله يكلم الموتى! فنظر إليهم فقال: لو أذن لهم في الكلام لقالوا: نعم، وإن خير الزاد التقوى». رواه الصدوق في الفقيه: 1/180، تصحيح الإعتقاد/92، الصحيح من السيرة: 5/64، الطبري: 2/155، ابن هشام: 2/466، القرطبي: 7/377 وسمى منهم بضعة رجال.

7- أبوجهل فرعون الفراعنة

كان النبي (صلی الله علیه و آله) يدعو على أبي جهل ويعتبره فرعون الفراعنة، ويوم بدر أحاطت بأبي جهل قبيلته «ولما كان يومئذٍ ورأت بنو مخزوم مقتل من قتل قالوا: أبو الحكم لايُخلص إليه! فإن ابني ربيعة قد عجلا وبطرا، ولم تُحام عليهما عشيرتهما، فاجتمعت بنومخزوم فأحدقوا به فجعلوه في مثل الحرْجة، وأجمعوا أن يلبسوا لأمة أبي جهل رجلاً منهم فألبسوها عبدالله بن المنذر بن أبي رفاعة فصمد له علي (علیه السلام) فقتله وهو يراه أباجهل،

ص: 700

ومضى عنه وهو يقول: خذها وأنا ابن عبدالمطلب!

ثم ألبسوها أبا قيس بن الفاكه بن المغيرة، فصمد له حمزة وهو يراه أباجهل فضربه فقتله وهويقول: خذها وأنا ابن عبدالمطلب!

ثم ألبسوها حرملة بن عمرو فصمد له علي (علیه السلام) فقتله، وأبوجهل في أصحابه! ثم أرادوا أن يلبسوها خالد بن الأعلم، فأبى أن يلبسها»! مغازي الواقدي/47.

أقول: كان أبوجهل في المعركة محاطاً ببني مخزوم وغيرهم من قريش و: «لما اصطفت الخيلان يوم بدر رفع أبوجهل يده وقال: اللهم إنه أقطعنا للرحم، أتانا بما لا نعرفه فأجئه بالعذاب، فأنزل الله: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِع». القمي: 2/385.

أي جاء تفسيرها. ولما اشتدت المعركة انشغل بنو مخزوم بأنفسهم، وانفرجوا عن زعيمهم أبي جهل، فاشترك في قتله معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ ابن عفراء، وأجهز عليه ابن مسعود أضعف أصحاب النبي، كما أخبرالنبي (صلی الله علیه و آله) الدرر /110.

ووقف النبي (صلی الله علیه و آله) على مصارع عتاة قريش بعد المعركة وخاطبهم: «جزاكم الله من عصابة شراً، لقد كذبتموني صادقاً، وخونتموني أميناً! ثم التفت إلى أبي جهل فقال: إن هذا أعتى على الله من فرعون! إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحَّدَ الله، وهذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزى» أمالي الطوسي: 1/316 والزوائد: 6/91.

8- أبو حذيفة بن عتبة وابنه محمد

كان أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة مسلماً مع النبي (صلی الله علیه و آله)، وكان ابنه محمد شيعياً من أبطال فتح الشام ومصر. وفي الطبري: 2/156: «لما أمر بهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يُلْقَوْا في القليب، أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، فنظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيما بلغني في وجه أبي حذيفة بن عتبة فإذا هو كئيب قد تغير، فقال: يا أبا حذيفة لعلك دخلك من شأن أبيك شئ، أو كما قال؟ فقال: لا والله يا نبي الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد

ص: 701

الذي كنت أرجو له، أحزنني ذلك. قال فدعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) له بخير وقال له خيراً».

9- وخاطب علي (علیه السلام) طلحة في البصرة وقاضي القضاة

فعل علي (علیه السلام) بعد معركة الجمل في البصرة، شبيهاً بما فعل النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر. قال المفيد في الإرشاد: 1/256: «فمر بكعب بن سور فقال: هذا الذي خرج علينا في عنقه المصحف يزعم أنه ناصر أمه،يدعو الناس إلى ما فيه وهو لا يعلم ما فيه، ثم استفتح فخاب كل جبار عنيد، أما إنه دعى الله أن يقتلني فقتله الله. أجلسوا كعب بن سور، فأُجلس فقال له أميرالمؤمنين (علیه السلام): يا كعب، لقد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً؟ ثم قال: أضجعوا كعباً.

ومرَّ على طلحة بن عبيدالله فقال: هذا الناكث بيعتي والمنشئ الفتنة في الأمة والمُجْلب عليَّ، الداعي إلى قتلي وقتل عترتي! أجلسوا طلحة فأُجلس، فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): يا طلحة بن عبيدالله، قد وجدتُ ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدتَ ما وعد ربك حقاً!؟ ثم قال: أضجعوا طلحة، وسار. فقال له بعض من كان معه: يا أميرالمؤمنين أتكلم كعباً وطلحة بعد قتلهما؟ قال: أما والله إنهما لقد سمعا كلامي، كما سمع أهل القليب كلام رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم بدر».

10- أفطر النبي (صلی الله علیه و آله) وخالفه بعضهم فسماهم العصاة

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إذا خرج الرجل في شهر رمضان مسافراً أفطر. إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) خرج من المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة، فلما انتهى إلى كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر، فشربه وأفطر، ثم أفطر الناس معه، وتمَّ ناسٌ على صومهم، فسماهم العصاة! وإنما يؤخذ بآخر أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله)».الفصول المهمة: 1/691.

وفي سنن النسائي: 4/177: «فدعا بقدح من الماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون، فأفطر بعض الناس وصام بعض، فبلغه أن ناساً صاموا فقال: أولئك العصاة»! لكن الشافعي برر للعصاة ووقف معهم فقال: «بلغه أن ناساً صاموا فقال: أولئك العصاة،

ص: 702

فوجه هذا إذا لم يحتمل قلبه قبول رخصة الله تعالى، فأما من رأى الفطر مباحاً وصام وقويَ على ذلك، فهو أعجب إليَّ». الترمذي: 2/107.

كما كان النبي (صلی الله علیه و آله) يحرص على الإعتكاف في شهر رمضان، فعن الإمام الصادق (علیه السلام)، قال: «كانت بدر في شهر رمضان، فلم يعتكف رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلما كان من قابل اعتكف عشرين، عشراً لعامه، وعشراً قضاءً لما فاته». الكافي: 4/175.

5- أضواء من سيرة علي (علیه السلام) في بدر

1- أحس علي (علیه السلام) بالملائكة وسلموا عليه

بعث النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) ليلة بدر ليستقي لهم، فأحس بنزول مجموعات الملائكة، ففي تفسير العياشي: 2/65: «عن علي بن الحسين (علیه السلام) قال: لما عطش القوم يوم بدر، انطلق علي (علیه السلام) بالقربة يستقي وهو على القليب، إذ جاءت ريح شديدة ثم مضت، فلبث ما بدا له، ثم جاءت ريح أخرى ثم مضت، ثم جاءت أخرى كادت أن تشغله وهو على القليب، ثم جلس حتى مضت، فلما رجع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخبره بذلك فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أما الريح الأولى ففيها جبرئيل مع ألف من الملائكة، والثانية فيها ميكائيل مع ألف من الملائكة، والثالثة فيها إسرافيل مع ألف من الملائكة، وقد سلموا عليك وهم مدد لنا، وهم الذين رآهم إبليس فنكص على عقبيه يمشي القهقرى حتى يقول: وَقَالَ إِنِّي بَرِيٌْ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاتَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

وفي المناقب: 2/80 عن: «محمد بن ثابت بإسناده عن ابن مسعود، والفلكي المفسر، بإسناده عن محمد بن الحنفية قال: بعث رسول الله علياً في غزوة بدر أن يأتيه بالماء حين سكت أصحابه عن إيراده... وفي رواية: ما أتوا إلا ليحفظوك، وقد رواه عبدالرحمن بن صالح بإسناده عن الليث وكان يقول: كان لعلي في ليلة واحدة ثلاثة آلاف منقبة وثلاث مناقب، ثم يروي هذا الخبر، قال الحميري:

وسلم جبريل وميكال ليلةً *** عليه وإسرافيلُ حياه معربا

ص: 703

أحاطوا به في ردءة جاء يستقي *** وكل على ألف بها قد تحزبا

ثلاثة آلافٍ ملائكَ سلموا *** عليه فأدناهم وحِيّاً ومرحبا»

وفي أمالي الطوسي/547، أنه (علیه السلام) قال حين ناشد المسلمين بعد قتل عثمان: «فهل فيكم من سلم عليه في ساعة واحدة ثلاثة آلاف من الملائكة، وفيهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ليلة القليب لما جئتُ بالماء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) غيري؟! قالوا: لا».

2- علمه الخضر (علیهما السلام) دعاء قبل بدر

ففي التوحيد للصدوق/89: «قال (علیه السلام): رأيت الخضر (علیه السلام) في المنام قبل بدر بليلة فقلت له: علمني شيئاً أُنصرُ به على الأعداء، فقال: قل: يا هوَ، يا من لا هوَ إلا هو. فلما أصبحت قصصتها على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال لي: يا علي عُلِّمْتَ الاسم الأعظم، فكان على لساني يوم بدر.وإن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قرأ: قُلْ هُوَ الله أحَد، فلما فرغ قال: يا هو، يا من لا هو إلا هو، إغفر لي وانصرني على القوم الكافرين. وكان علي (علیه السلام) يقول ذلك يوم صفين وهو يطارد، فقال له عمار بن ياسر:

يا أميرالمؤمنين ما هذه الكنايات؟ قال: إسم الله الأعظم وعماد التوحيد لله

لا إله إلا هو، ثم قرأ: شَهِدَ الله أنَّهُ لا إلهَ إِلَّا هُو، وآخر الحشر، ثم نزل فصلى أربع ركعات قبل الزوال. وقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): الله معناه المعبود الذي يأله فيه الخلق ويؤله إليه، والله هوالمستور عن درك الأبصار، المحجوب عن الأوهام والخطرات».

وهذا يدل على أن سر الإسم الأعظم وتأثيره إنما هو في من يعلمه ومن يدعو به.

3- بدر أول معركة خاضها علي (علیه السلام)

كانت معركة بدر أول حرب يخوضها علي (علیه السلام)، وكان عمره نحو أربع وعشرين سنة، على الرواية المشهورة بأن عمره عند البعثة عشر سنين، وعلى رواية الإثنتي عشرة سنة يكون عمره (علیه السلام) ستاً وعشرين، وكانت بدر بعد أربع عشرة سنة ونصفاً من البعثة.

ولم يشترك (علیه السلام) قبلها في حرب لكن كان له تجربتان في القتال في مكة بعد هجرة

ص: 704

النبي (صلی الله علیه و آله) حيث كمن له فارسٌ في الليل ليفاجأه ويقتله: «فصاح علي به صيحة خرَّ على وجهه وجلله بسيفه» «المناقب1/335»فكانت هذه أول صيحة له وأول ضربة سيف!

ثم في طريق هجرته (علیه السلام) لما أرسلت قريش بضعة فرسان ليردوه، يقودهم فارس معروف بفتكه، فأدركوه قريب ضجنان: «فأهوى له جَنَاح بسيفه فراغ علي (علیه السلام) عن ضربته، وتختله علي (علیه السلام) فضربه على عاتقه، فأسرع السيف مضيَاً فيه حتى مسَّ كاثبة فرسه»! أمالي الطوسي/470.

فكانت هذه ثاني ضربة لعلي (علیه السلام)! والكاثبة: مجتمع الكتف. أي شقت ضربته كتف الفارس وبدنه، حتى وصلت إلى مرتفع ظهر فرسه!

وفي نسخة المناقب: 2/312 أن سعد بن أبي وقاص رأى علياً يوم بدر: «يحمحم فرسه» وقد كان راجلاً ولم يكن عنده فرس، فهو تصحيف لما رواه الخوارزمي في مناقبه/158، عن سعد: «قال معاوية: أتحب علياً؟ قلت: وكيف لا أحبه وقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي، ولقد رأيته بارز يوم بدر وهو يُحمحم كما يحمحم الفرس، ويقول:

ما تنقمُ الحرب العوان مني *** بازلُ عامين حديثٌ سني

سنحْنَحْلُ الليل كأني جني *** لمثل هذا ولدتني أمي!

فما رجع حتى خضب سيفه». ومناقب ابن سُلَيْمان: 2/569، الصراط المستقيم: 2/4، الفايق: 1/95، ينابيع المودة: 1/158، النهاية لابن الأثير: 2/412، لسان العرب: 11/52 وفيه: يقول: أنا مستجمع الشباب مستكمل القوة.وابن هشام: 2/463، روى أن أباجهل تمثل بهذا الشعر!.

4- سطع نجم علي (علیه السلام) في بدر

وبرز بطلاً فاق عمه حمزة (رحمة الله)، حيث قتل قرينه، وساعد حمزة على قتل قرينه: «وحمل أميرالمؤمنين على الوليد بن عتبة فضربه على عاتقه فأخرج السيف من إبطه ثم اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون: يا علي أما ترى

ص: 705

الكلب قد أبهر عمك! فحمل علي (علیه السلام) ثم قال: يا عم طأطئ رأسك وكان حمزة أطول من شيبة، فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه أميرالمؤمنين (علیه السلام) على رأسه فطرح نصفه، ثم جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه».المناقب: 1/311.

وفي الفصول المهمة لابن الصباغ: 1/315، أن المبارزة كانت بالترتيب: بارز عليٌّ (علیه السلام) الوليد، ثم بارز حمزة عتبة، ثم بارز عبيدة شيبة. «برز الوليد لعلي فقال: من أنت؟ فقال: أنا عبدالله وأخو رسوله، فقتله». الطبقات: 2/23 وابن كثير: 2/414.

ولم يذكر رواة السلطة أنه (علیه السلام) قتل قرن حمزة وأجهز على قرن عبيدة، قالوا: «أما علي فلم يمهل الوليد أن قتله». «ابن هشام 2/456» ومعناه أنه برز مع صاحبيه لقرنيهما!

وفي الدر النظيم/152: «ثم بارز أميرالمؤمنين (علیه السلام) العاص بن سعيد بن العاص بعد أن أحجم عنه من سواه، فلم يلبث إلا أن قتله. وبرز إليه حنظلة بن أبي سفيان فقتله، وبرز بعده طعيمة بن عدي فقتله، وقتل بعده نوفل بن خويلد وكان من شياطين قريش. ولم يزل (علیه السلام) يقتل واحداً منهم بعد واحد حتى أتى على شطر المقتولين منهم وكانوا سبعين قتيلاً. وتولى كافة من حضر بدراً من المسلمين مع ثلاثة آلاف من الملائكة المسومين الشطر الآخر، وكان قتل أميرالمؤمنين (علیه السلام) للشطر بمعونة الله تعالى له وتوفيقه وتأييده ونصره، وكان الفتح له بذلك».

وفي الإرشاد: 1/74: «فاختلفا ضربتين أخطأت ضربة الوليد أميرالمؤمنين (علیه السلام) واتقى بيده اليسرى ضربة أميرالمؤمنين فأبانتها. فروي أنه كان يذكر بدراً وقتله الوليد فقال في حديثه: كأني أنظر إلى وميض خاتمه في شماله، ثم ضربته ضربة أخرى فصرعته وسلبته، فرأيت به ردعاً من خَلوق «طيب» فعلمت أنه قريب عهد بعرس».

وفي إعلام الورى: 1/170: «قتل علي (علیه السلام) ببدر من المشركين: الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان شجاعا فاتكاً، والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية والد سعيد بن العاص، وطعيمة بن عدي بن نوفل، شجره بالرمح وقال: والله لاتخاصمنا في الله بعد اليوم أبداً! ونوفل بن خويلد، وهو الذي قرن أبابكر وطلحة قبل الهجرة بحبل وعذبهما يوماً إلى الليل، وهو عم الزبير بن العوام.

ص: 706

ولما أجلت الوقعة قال النبي (صلی الله علیه و آله): من له علم بنوفل؟ فقال (علیه السلام): أنا قتلته، فكبر النبي (صلی الله علیه و آله) ثم قال: الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه.

وروى جابر عن الباقر عن أميرالمؤمنين (علیهما السلام) قال: لقد تعجبت يوم بدر من جرأة القوم، وقد قتلت الوليد بن عتبة، إذ أقبل إليَّ حنظلة بن أبي سفيان، فلما دنا مني ضربته بالسيف فسالت عيناه، ولزم الأرض قتيلاً».

«قتل (علیه السلام) من المشركين في بدر نصف السبعين وشارك في قتل النصف الآخر! وقد عدَّ الشيخ المفيد ستة وثلاثين بأسمائهم ممن قتلهم علي (علیه السلام)، وقال ابن إسحاق: أكثر قتلى المشركين يوم بدر كان لعلي». الصحيح من السيرة: 5/59.

وفي كشف الغمة: 1/181: «قال الواقدي في كتاب المغازي: جميع من يحصى قتله من المشركين ببدر تسعة وأربعون رجلاً، منهم من قتله علي وشرك في قتله اثنان وعشرون رجلاً، شرك في أربعة وقتل بانفراده ثمانية عشر، وقيل إنه قتل بانفراده تسعة بغير خلاف وهم: الوليد بن عتبة بن ربيعة خال معاوية قتله مبارزة، والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية، وعامر بن عبدالله، ونوفل بن خويلد بن أسد وكان من شياطين قريش، ومسعود بن أبي أمية بن المغيرة، وقيس بن الفاكه، وعبدالله ابن المنذر بن أبي رفاعة، والعاص بن منبه بن الحجاج، وحاجب بن السايب. وأما الذين شاركه في قتلهم غيره فهم: حنظلة بن أبي سفيان أخو معاوية وعبيدة بن الحارث، وزمعة وعقيل ابنا الأسود بن المطلب.

وأما الذين اختلف الناقلون في أنه قتلهم أو غيره فهم: طعيمة بن عدي، وعمير بن عثمان بن عمرو، وحرملة بن عمرو، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو العباس بن قيس، وأوس الجمحي، وعقبة بن أبي معيط صبراً، ومعاوية بن عامر. فهذه عدة من قيل إنه قتلهم في هذه الرواية، غير النضر بن الحارث فإنه قتله صبراً بعد القفول من بدر. هذا من طرق الجمهور.

فأما المفيد فقد ذكر في كتابه الإرشاد.. أثبت رواة العامة والخاصة معاً أسماء الذين تولى أميرالمؤمنين (علیه السلام) قتلهم ببدر من المشركين، على اتفاق فيما نقلوه من

ص: 707

ذلك واصطلاح، فكان ممن سموه. فذلك ستة وثلاثون رجلاً، سوى من اختلف فيه، أو شرك أميرالمؤمنين فيه غيره، وهم أكثر من شطر المقتولين ببدر على ما قدمناه. وعلى اختلاف المذهبين في تعيين عدة المقتولين، فقد اتفقا على أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قتل النصف ممن قتل ببدر أو قريباً منه!

وقال المفيد (رحمة الله): فمن مختصرالأخبار التي قد جاءت بشرح ما أثبتناه، ما رواه شعبة عن أبي إسحاق عن حارث بن مضرب، قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: لقد حضرنا بدراً وما فينا فارس إلا المقداد بن الأسود، ولقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا من نام غير رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فإنه كان منتصباً في أصل شجرة يصلي ويدعو حتى الصباح»! راجع في من قتلهم (علیه السلام) في بدر: شرح الأخبار: 1/263، أعيان الشيعة: 6/245،مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي/199، شرح النهج:18/19 وغيرها.

5- يقاتل ثم يعود ليطمئن على النبي (صلی الله علیه و آله)

وكان جبرئيل (علیه السلام) يوجه النبي (صلی الله علیه و آله) في قتاله فكان يقاتل شوطاً ثم يرجع إلى مركزه ويدعو. ويظهر أنه بعد أن ألقى كف الحصى على المشركين، واصل الدعاء حتى وقعت الهزيمة، قال علي (علیه السلام): «لما كان يوم بدر قاتلت شيئاً من قتال، ثم جئت مسرعا لأنظر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما فعل. فجئت فإذا هو ساجد يقول: يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم، لا يزيد عليها. فرجعت إلى القتال، ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك أيضاً. فذهبت إلى القتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك، حتى فتح الله عليه». الصحيح من السيرة: 5/68.

وروت ذلك عامة مصادرهم، وفي بعضها أنه (علیه السلام) رجع إلى النبي (صلی الله علیه و آله) مرتين، كما في النسائي: 6/157، الطبقات: 2/26، الحاكم: 1/147 وصححه. وفي مجمع الزوائد: 10/147، أنها ثلاث مرات، وكذا الثعالبي عن الترمذي، وغيره.

وشارك النبي (صلی الله علیه و آله) في القتال، وقال علي (علیه السلام): «رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي (صلی الله علیه و آله) وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً».

مكارم الأخلاق/18.

ص: 708

6- مدحه النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر ورفع بيده

وأكد للمسلمين أنه وزيره ووليهم من بعده، ففي الإحتجاج: 1/209: «قال (علیه السلام) في احتجاجه على أعضاء شورى عمر: نشدتكم بالله هل فيكم أحد أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بيده يوم بدر فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه وهو يقول: ألا إن هذا ابن عمي ووزيري فوازروه وناصحوه، فإنه وليكم بعدي،غيري؟قالوا لا».

7- وكان معه جبرئيل وميكائيل وعزرائيل (علیهم السلام)

«وكان جبرئيل يقاتل عن يمين علي (علیه السلام) وميكائيل عن يساره، وملك الموت قدامه». «المناقب: 3/54». وسماه المشركون: الموت الأحمر. المناقب: 3/43.

وسماه الطلقاء والمنافقون: قَتَّال العرب، فعندما حمل الحسين (علیه السلام) على جيش عمر بن سعد الحسين في كربلاء وكانوا ثلاثين ألفاً، قال لهم عمر بن سعد: «الويل لكم أتدرون من تبارزون! هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتَّال العرب فاحملوا عليه من كل جانب». المناقب: 3/258.

وسموه: قاتل الأحبة، ففي جواهر الكلام: 21/331، أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) لما زار عائشة بعد معركة الجمل: «انتهى إلى دار عظيمة فاستفتح ففتح له، فإذا هو بنساء يبكين بفناء الدار، فلما نظرن إليه صحن صيحة واحدة وقلن: هذا قاتل الأحبة، فلم يقل لهن شيئاً وسأل عن حجرة عائشة ففتح له بابها، وسمع بينهما كلام شبيه بالمعاذير لاوالله وبلى والله، ثم خرج فنظر إلى امرأة أدماء طويلة، فقال لها يا صفية فأتته مسرعة، فقال ألا تبعدين هؤلاء الكلبات يزعمن أني قاتل الأحبة! ولو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذه الحجرة ومن في هذه وأومأ إلى ثلاث حجر! فذهبت إليهن وقالت لهن: فما بقيت في الدار صائحة إلا سكتت ولا قائمة إلا قعدت! قال الأصبغ وكان في إحدى الحجر عائشة ومن معها من خاصتها، وفي الأخرى مروان بن الحكم وشباب من قريش، وفي الأخرى عبدالله

ص: 709

بن الزبير وأهله! فقيل للأصبغ: فهلا بسطتم أيديكم على هؤلاء فقتلتموهم، أليس هؤلاء كانوا أصحاب القرحة فلمَ استبقيتموهم؟! قال: قد ضربنا والله بأيدينا إلى قوائم سيوفنا، وأحددنا أبصارنا نحوه لكي يأمرنا فيهم بأمر فما فعل وأوسعهم عفواً».

8- كانت بدر ثالث امتحان لأميرالمؤمنين (علیه السلام)

تحدث أمير المؤمين (علیه السلام) عن بدر في مناسبات، واعتبرها أحد امتحاناته الربانية السبعة التي وفقه الله للنجاح فيها، فقال له حبر يهودي إن كتبنا تقول إن وصي هذا النبي يمتحن في حياته وبعد وفاته، فأخبرني كم هذه الإمتحانات وما هي؟ فأجابه (علیه السلام): «وأما الثالثة يا أخا اليهود، فإن ابني ربيعة وابن عتبة، كانوا فرسان قريش، دَعوا إلى البراز يوم بدر فلم يبرز لهم خلق من قريش، فأنهضني رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع صاحبيَّ رضيالله عنهما وقد فعل، وأنا أحدث أصحابي سناً وأقلهم للحرب تجربة، فقتل الله عزوجل بيدي وليداً وشيبة، سوى من قتلت من جحاجحة قريش في ذلك اليوم، وسوى من أسرت، وكان مني أكثر مما كان من أصحابي. واستشهد ابن عمي في ذلك (رحمة الله)». الخصال/367.

وذكر (علیه السلام) بدراً، رداً على قولهم إنهم بايعوا أبابكر يوم السقيفة خوفاً على الإسلام فقال (علیه السلام): «ما لنا ولقريش؟ وما تنكر منا قريش غير أنا أهل بيت شيَّد الله فوق بنيانهم بنياننا، وأعلى الله فوق رؤوسهم رؤوسنا، واختارنا الله عليهم فنقموا عليه أن اختارنا عليهم! وسخطوا ما رضيالله وأحبوا ما كره الله! فلما اختارنا عليهم شركناهم في حريمنا وعرفناهم الكتاب والسنة، وعلمناهم الفرايض والسنن وحفظناهم الصدق واللين، وديَّناهم الدين والإسلام، فوثبوا علينا وجحدوا فضلنا ومنعونا حقنا، وأَلَتُونا أسباب أعمالنا!

اللهم فإني أستعديك على قريش فخُذ لي بحقي منها، ولاتدع مظلمتي لها، وطالبهم يا رب بحقي، فإنك الحكم العدل.

يا معشر المهاجرين والأنصار: أين كانت سبقة تيمٍ وعديٍّ إلى سقيفة بني ساعدة خوف الفتنة؟ ألا كانت يوم الأبواء إذ تكاتفت الصفوف وتكاثرت الحتوف

ص: 710

وتقارعت السيوف؟ أم هلا خشيا فتنة الإسلام يوم ابن عبد وُدّ، وقد نفح بسيفه وشمخ بأنفه وطمح بطرفه!وهلا كانت مبادرتهما يوم بدر إذ الأرواح في الصَّعْداء ترتقي، والجياد بالصناديد ترتدي، والأرض من دماء الأبطال ترتوي؟

ثم عدَّد (علیه السلام) وقايع النبي (صلی الله علیه و آله) وقرَّعهما بأنهما في كل هذه المواقف كانا مع النظارة! ثم قال: ما هذه الدهماء والدهياء التي وردت علينا من قريش؟ أنا صاحب هذه المشاهد وأبو هذه المواقف، وابن هذه الأفعال الحميدة...». المناقب: 2/46.

وذكر (علیه السلام) بدراً، في رسالة إلى معاوية: «فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا، وهموا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل، ومنعونا العذب، وأحلسونا الخوف، واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب، فعزم الله لنا على الذب عن حوزته، والرمي من وراء حرمته، مؤمننا يبغي بذلك الأجر، وكافرنا يحامي عن الأصل. ومن أسلم من قريش خلوٌ مما نحن فيه، بحلف يمنعه، أو عشيرة تقوم دونه، فهو من القتل بمكان آمن. وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا احمر البأس وأحجم الناس قدم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حر السيوف والأسنة! فقتل عبيدة بن الحارث يوم بدر، وقتل حمزة يوم أحد، وقتل جعفر يوم مؤتة. وأراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة، ولكن آجالهم عُجلت، ومنيته أُجلت.

فيا عجباً للدهر إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي، ولم تكن له كسابقتي التي لا يدلي أحد بمثلها، إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه، ولا أظن الله يعرفه،

والحمد لله على كل حال».نهجالبلاغة: 3/8.

وفي رسالة له (علیه السلام) إلى معاوية: «وقد دعوت إلى الحرب فدع الناس جانباً واخرج إليَّ واعف الفريقين من القتال، ليعلم أينا المرين على قلبه والمغطى على بصره! فأنا أبو حسن قاتل جدك وخالك وأخيك شدخاً يوم بدر، وذلك السيف معي، وبذلك القلب ألقى عدوي، ما استبدلت ديناً ولا استحدثت نبياً. وإني لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين، ودخلتم فيه مكرهين».نهجالبلاغة: 11/8.

وفي رسالة له (علیه السلام) إلى معاوية أيضاً: «فأنا ابن عبدالمطلب صاحب ذلك

ص: 711

السيف، وإن قائمه لفي يدي، وقد علمتَ من قتلتُ من صناديد بني عبد شمس، وفراعنة بني سهم وجمح وبني مخزوم، وأيتمت أبناءهم وأيَّمت نساءهم، وأذكرك ما لست له ناسياً يوم قتلت أخاك حنظلة وجررت برجله إلى القليب، وأسرت أخاك عمراً فجعلت عنقه بين ساقيه رباطاً، وطلبتك ففررت ولك حصاص» «نهج السعادة: 4/213». والحصاص: ركض الشيطان إذا سمع الأذان، وركض الكلب إذا اشتد عدوه وهو يمصع بذنبه - نهاية ابن الأثير: 1/396.

9- نزل جبرئيل بذي الفقار على النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر
1- نزل به جبرئيل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ففي الكافي: 1/234 و 8/267، وأمالي الصدوق/364 «عن الإمام الرضا (علیه السلام): «سألته عن ذي الفقار سيف رسول الله (صلی الله علیه و آله) من أين هو؟ قال: هبط به جبرئيل من السماء، وكانت حليته من فضة، وهو عندي».

وفي الاحتجاج: 1/200 أن علياً (علیه السلام) قال في احتجاجه على أعضاء شورى عمر: «نشدتكم بالله هل فيكم أحد نوديَ باسمه من السماء يوم بدر: لاسيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا عليٌّ، غيري؟ قالوا: لا».

وفي الفقيه للصدوق: 4/178: «كان له سيفان،يقال لأحدهما ذو الفقار والأخرى: العون، وكان له سيفان آخران يقال لأحدهما: المخذم، والآخر الرسوم».

وفي تاريخ اليعقوبي: 2/88: «وكان رسم رايته العقاب، وكانت سوداء على عمل الطيلسان، وكان له سيف يقال له المخدام وسيف يقال له الرسوب، وسيفه الذي يلزمه ذو الفقار، وقد روي أن جبريل نزل به من السماء، فكان طوله سبعة أشبار وعرضه شبراً، وفي وسطه كال وكانت عليه قبيعة فضة ونعل فضة، وفيه حلقتان فضة، ورمحه المثوي حربته العنزة، وكان يمشي بها في الأعياد بين يديه ويقول: هكذا أخلاق السنن، وقوسه الكتوم وكنانته الكافور، ونبله المتصلة، وترسه الزلوق، ومغفره السبوع، ودرعه ذات الفضول وفيها زردتان زائدتان، وفرسه السكب،

ص: 712

وفرس آخر المرتجز، وفرس آخر السجل، وفرس آخر البحر».

2- سُمِّيَ ذو الفقار لفقراته ولأنه يفقر من ضرب به

في علل الشرائع: 1/160عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إنما سمي سيف أميرالمؤمنين (علیه السلام) ذا الفقار،لأنه كان في وسطه خط في طوله، فشبه بفقار الظهر، فسميَ ذا الفقار بذلك، وكان سيفاً نزل به جبرئيل (علیه السلام) من السماء، وكانت حلقته فضة، وهو الذي نادى به مناد من السماء: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي.

وروي أنه سمي ذا الفقار، لأنه ما ضرب به أحدٌ إلا افتقر في الدنيا والآخرة، وهو معنى منتزع من إسمه.

وفي المناقب: 3/81: «عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: إنما سمي سيف أميرالمؤمنين ذو الفقار، لأنه كان في وسطه خطة في طوله مشبهة بفقار الظهر. وزعم الأصمعي أنه كان فيه ثماني عشرة فقرة. تاريخ أبي يعقوب: كان طوله سبعة أشبار، وعرضه شبر، وفي وسطه كالفقار. قال ابن حماد:

فأنزل الله ذا الفقار له *** مع جبرئيل الأمين منتجبا

وقيل إن النبي ناوله *** جريدة رطبة لها اجتلبا

فانقلبت ذا الفقار في يده *** كرامة من إلهه وحبا

سيف يكون الإله طابعه *** فكيف ينبو وأن يقال نبا

وقال الزاهي:

من هزم الجيش يوم خيبره *** وهز باب القموص واقتلعه

من هز سيف الإله بينكم *** سيف من النور ذو العلى طبعه

أبوعبدالله (علیه السلام): نظر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى جبرئيل بين السماء والأرض على كرسي من ذهب وهو يقول: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي.

القاضي أبوبكر الجعاني بإسناده عن الصادق (علیه السلام): نادى ملك من السماء يوم أحد يقال له رضوان: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي، ومثله في إرشاد المفيد، وأمالي الطوسي عن عكرمة وأبي رافع. وقد رواه السمعاني في فضائل

ص: 713

الصحابة، وابن بطة في الإبانة، إلا انهما قالا: يوم بدر. قال أحمد بن علوية:

لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى *** إلا أبو حسن فتى الفتيان

قال النبي أما علمت بأنه *** مني ومنه أنا وقد أبلاني

جبريل قال له واني منكما *** فمضى بفضل خلاصة الخلان

وقال أبو مقاتل بن الداعي العلوي:

ومن مشى جبريل مع ميكاله *** عن جانبيه في الحروب إذا مشى

ومن ينادي جبرئيل معلناً *** والحرب قد قامت على ساق الردى

لا سيف إلا ذو الفقار فاعلموا *** ولا فتى إلا علي في الورى

وقال الزاهي:

لا فتى في الحروب غير علي *** لا ولا صارم سوى ذي الفقار

وقال العوني:

من صاح جبريل بالصوت العلي به *** دون الخلائق عند الجحفل اللجب

فخرا ولا سيف إلا ذو الفقار ولا *** غير الوصي فتى في هفوة الكرب

وقال منصور الفقيه:

من قال جبرئيل والأرماح شارعة *** والبيض لامعة والحرب تشتعل

لا سيف يذكر إلا ذو الفقار ولا *** غير الوصي إمام أيها الملل

وقال آخر:

جبريل نادى في الوغى *** والنقع ليس بمنجل

والمسلمون بأسرهم *** حول النبي المرسل

والخيل تعثر بالجما *** جم والوشيح الذيل

هذا النداء لمن له *** الزهراء ربة منزل

لا سيف إلا ذو الفقار *** ولا فتى إلا علي

وقال غيره:

ص: 714

لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى *** إلا علي للطغاة طعون

ذاك الوصي فما له من مشبه *** فضلاً ولا في العالمين قرين

ذاك الوصي وصي أحمد في الورى *** عف الضماير للإله أمين

وقال آخر:

من كان يمدح ذا ندى لنواله *** فالمدح مني للنبي وآلهِ

لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى *** إلا علي في أوان قتالهِ

نادى النبي له بأعلى صوته *** يا رب من والى علياً والهِ».

3- أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى

في معاني الأخبار للصدوق/119: «إن أعرابياً أتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخرج إليه في رداء ممشق فقال: يا محمد لقد خرجت إليَّ كأنك فتى. فقال (صلی الله علیه و آله): نعم يا أعرابي أنا الفتى، ابن الفتى، أخو الفتى. فقال: يا محمد، أما الفتى فنعم، وكيف ابن الفتى وأخو الفتى؟ فقال: أما سمعت الله عزوجل يقول: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، فأنا ابن إبراهيم، وأما أخو الفتى فإن منادياً نادى في السماء يوم أحد: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي، فعلي أخي وأنا أخوه».

4- ماضربت به أحداً إلا ودخل النار!

كتب (علیه السلام) إلى حاكمٍ خان بيت المال: «فسبحان الله، أما تؤمن بالمعاد؟أو ما تخاف نقاش الحساب؟ أيها المعدود كان عندنا من ذوي الألباب! كيف تسيغ شراباً وطعاماً وأنت تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً؟ وتبتاع الإماء وتنكح النساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين، الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال وأحرز بهم هذه البلاد. فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك، لأعذرن إلى الله فيك، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار»! نهجالبلاغة: 3/62.

ص: 715

5- قیل كان يَعْوَجُّ فيقيمه علي (علیه السلام) بركبته

وفي شرح النهج: 2/282 في حربه (علیه السلام) للخوارج: «التفت إلى أصحابه فقال لهم: شدوا عليهم فأنا أول من يشد عليهم. وحمل بذي الفقار حملة منكرة ثلاث مرات كل حملة يضرب به حتى يعوج متنه، ثم يخرج فيسويه بركبتيه، ثم يحمل به».

6- انكسر سيفه يوم أحد فأعطاه النبي (صلی الله علیه و آله) ذا الفقار

في علل الشرائع: 1/7 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال في أحُد: «وكان علي (علیه السلام) كلما حملت طائفة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) استقبلهم وردهم حتى أكثر فيهم القتل والجراحات حتى انكسر سيفه.فجاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال يا رسول الله إن الرجل يقاتل بسلاحه وقد انكسر سيفي، فأعطاه سيفه ذا الفقار، فما زال يدفع به عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى أثر وانكسر، فنزل عليه جبرئيل (علیه السلام) وقال: يا محمد، إن هذه لهي المواساة من علي لك، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إنه مني وأنا منه، فقال جبرئيل وأنا منكما. وسمعوا دوياً من السماء: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي».

الخرائج: 1/148قال علي (علیه السلام): «انقطع سيفي يوم أحد فرجعت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقلت: إن المرء يقاتل بسيفه، وقد انقطع سيفي، فنظر إلى جريدة نخل عتيقة يابسة مطروحة فأخذها بيده، ثم هزها فصارت سيفه ذا الفقار فناولنيه، فما ضربت به أحداً إلا وقده بنصفين».

أقول: يظهر من ذلك أن سر ذي الفقار من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأنه كان له وقد يعطيه لعلي (علیه السلام) في المعركة، ولما انكسر في أحد عوض الله نبيه بأن أمره أن يهز جريدة النخل اليابسة، فكانت ذا الفقار بنفس خصائصه. وروي أنه (صلی الله علیه و آله) أعطاه لعلي (علیه السلام) لما برز إلى عمرو بن ود، بعد أحُد بستين.

وفي المناقب: 3/81: «وقد روى كافة أصحابنا أن المراد بهذه الآية: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ للَّنَّاسِ، ذو الفقار أنزل به من السماء على النبي فأعطاه علياً.

وسئل الرضا (علیه السلام) من أين هو؟ فقال: هبط به جبرئيل من السماء، وكان حلية من فضة وهو عندي. وقيل: أمر جبرئيل أن يتخذ من صنم حديد في اليمن فذهب علي

ص: 716

وكسره واتخذ منه سيفين: مخذم، وذا الفقار وطبعهما عمير الصيقل، وقيل: صار إليه يوم بدر أخذه من العاص بن منبه السهمي وقد قتله، وقيل: كان من هدايا بلقيس إلى سُلَيْمان، وقيل: أخذه من منبه بن الحجاج السهمي في غزاة بني المصطلق بعد أن قتله، وقيل: كان سعف نخل نفث فيه النبي (صلی الله علیه و آله) فصار سيفاً، وقيل: صار إلى النبي (صلی الله علیه و آله) يوم بدر فأعطاه علياً (علیه السلام)، ثم كان مع الحسن، ثم مع الحسين، إلى أن بلغ المهدي (علیه السلام)».

والذي أرجحه أن ذا الفقار نزل من السماء، ولكنه كان قابلاً للكسركأي سيف، فانكسر بيد علي (علیه السلام) مرات، وعوضه الله بسعفة نخل صارت بيد النبي (صلی الله علیه و آله) ذا الفقار.

وفي إحداها أمر نبيه بأن يصنعه من حديد هو قاعدة صنم في اليمن وأصل ذلك الحديد من سليمان (علیه السلام)، فبعث علياً (علیه السلام) وأتى به وأعطاه للحداد فصنع منه ذا الفقار.

ففي بصائر الدرجات/206: «عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: جاء جبرئيل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال يا محمد، إن باليمن صنماً من حجارة، له مقعد من حديد، فابعث إليه حتى يجاء به، قال فبعثني النبي (صلی الله علیه و آله) إلى اليمن فجئت بالحديد، فدفعته إلى عمر الصيقل، فضرب عنه سيفين ذا الفقار ومُخَذَّماً، فتقلد رسول الله (صلی الله علیه و آله) مخذماً وقلدني ذا الفقار، ثم إنه صار إليَّ بعدُ مخذم».

أقول: ظاهر قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ للَّنَّاسِ، أنه نازل من السماء، وقيل إنه غبار من كواكب أخرى. وورد أن للمهدي (علیه السلام) أنصاراً من كواكب أخرى حديدهم ليس كحديدكم، فيبدو أن حديد ذي الفقار يختلف عن الحديد العادي، وقد روي أن ضربته تترك أثراً كالكي بالنار،ولم أعثر عليها الآن، وهي من روايات صفين.

7- وقاتلَ الحسين (علیه السلام) بذي الفقار يوم عاشوراء

في أمالي الصدوق/222: «ثم وثب الحسين (علیه السلام) متوكئاً على سيفه، فنادى بأعلى صوته، فقال: أنشدكم الله، هل تعرفوني؟ قالوا: نعم، أنت ابن رسول الله وسبطه.. قال: فأنشدكم الله، هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنا

ص: 717

متقلده؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فأنشدكم الله، هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنا لابسها؟ قالوا: اللهم نعم..قال: فبم تستحلون دمي، وأبي الذائد عن الحوض غداً، يذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الصادي عن الماء، ولواء الحمد في يدي جدي يوم القيامة؟ قالوا: قد علمنا ذلك كله، ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشاً! فأخذ الحسين (علیه السلام) بطرف لحيته، وهو يومئذ ابن سبع وخمسين سنة، ثم قال: اشتد غضب الله على قوم قتلوا نبيهم، واشتد غضب الله على هذه العصابة الذين يريدون قتل ابن نبيهم».

8- ذو الفقار في مواريث النبي (صلی الله علیه و آله)

في الكافي: 1/236 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما حضرت رسول الله (صلی الله علیه و آله) الوفاة دعا العباس بن عبدالمطلب وأميرالمؤمنين (علیه السلام) فقال للعباس: يا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته؟فرد عليه فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني شيخ كثير العيال قليل المال، من يطيقك وأنت تباري الريح، قال: فأطرق (صلی الله علیه و آله) هنيئة ثم قال: ياعباس أتأخذ تراث محمد وتنجز عداته وتقضي دينه؟ فقال بأبي أنت وأمي شيخ كثير العيال قليل المال وأنت تباري الريح. قال: أما إني سأعطيها من يأخذها بحقها، ثم قال: يا علي يا أخا محمد أتنجز عدات محمد وتقضي دينه وتقبض تراثه؟فقال: نعم بأبي أنت وأمي ذاك علي ولي. قال العباس: فنظرت إليه حتى نزع خاتمه من أصبعه فقال: تختم بهذا في حياتي، قال: فنظرت إلى الخاتم حين وضعته في أصبعي فتمنيت من جميع ما ترك الخاتم. ثم صاح: يا بلال عليَّ بالمغفر، والدرع، والراية، والقميص، وذي الفقار، والسحاب، والبرد، والأبرقة، والقضيب. قال: فوالله ما رأيتها غير ساعتي تلك-يعني الأبرقة- فجييء بشقة كادت تخطف الأبصار، فإذا هي من أبرق الجنة فقال: يا علي إن جبرئيل أتاني بها،وقال: يا محمد اجعلها في حلقة الدرع واستدفر بها مكان المنطقة. ثم دعا بزوجي نعال عربيين جميعاً، أحدهما مخصوف والآخر غير مخصوف، والقميصين القميص الذي أسري به فيه، والقميص الذي خرج فيه يوم أحد، والقلانس الثلاث: قلنسوة السفر،وقلنسوة العيدين والجمع، وقلنسوة كان

ص: 718

يلبسها ويقعد مع أصحابه. ثم قال: يا بلال علي بالبغلتين: الشهباء والدلدل، والناقتين: العضباء والقصوى، والفرسين: الجناح كانت توقف بباب المسجد لحوائج رسول الله (صلی الله علیه و آله) يبعث الرجل في حاجته فيركبه فيركضه في حاجة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وحيزوم، وهو الذي كان يقول أقدم حيزوم، والحمار عفير، فقال: أقبضها في حياتي. فذكر أميرالمؤمنين (علیه السلام) إن أول شيء من الدواب توفي عفير ساعة قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) قطع خطامه ثم مر يركض، حتى أتى بئر بني خطمة بقباء فرمى بنفسه فيها، فكانت قبره».

9- ذو الفقار من علامات الإمام (علیه السلام)

في عيون أخبار الرضا (علیه السلام):1/192 قال الإمام الرضا (علیه السلام): «للإمام علامات: يكون أعلم الناس وأحكم الناس وأتقى الناس وأحلم الناس وأشجع الناس وأسخى الناس وأعبدالناس.. ويكون عنده سلاح رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسيفه ذو الفقار».

10- طلبه المسور ابن مخرمة من الإمام زين العابدين (علیه السلام)

ففي مسند أحمد: 4/226والبخاري: 4/47: «ابن شهاب أن علي بن حسين حدثه أنهم حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية، مقتل حسين بن علي رحمة الله عليه لقيه المسور بن مخرمة فقال له: هل لك إلي من حاجة تأمرني بها؟ فقلت له: لا، فقال: فهل أنت معطي سيف رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإني أخاف أن يغلبك القوم عليه. وأيم الله لئن أعطيتنيه لا يخلص إليهم أبداً حتى تبلغ نفس».

وفي فتح الباري: 6/149: «والذي يظهر أن المراد بالسيف المذكور ذو الفقار الذي تنفله يوم بدر، ورأى فيه الرؤيا يوم أحد».

وذكر ابن حجروغيره أن غرض المسور حفظ السيف له إكراماً لجدته فاطمة (علیها السلام) .

11- وقالوا إنه كان سيف منبه بن الحجاج

قال البلاذري في أنساب الأشراف: 1/14: «وأما نبيه فقتله علي بن أبي طالب. وقتل أيضاً العاص بن منبه، وكان صاحب ذي الفقار، سيف رسول الله (صلی الله علیه و آله) وذلك الثبت. وبعضهم يقول: إنه كان سيف منبه».

ص: 719

وقال الواقدي في المغازي: 1/103: «عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: تنفل رسول الله (صلی الله علیه و آله) سيفه ذا الفقار يومئذٍ، وكان لمنبه بن الحجاج».

وقال الطبري: 2/172: «وفي غزوة بدر انتقل رسول الله (صلی الله علیه و آله) سيفه ذا الفقار وكان لمنبه بن الحجاج. وفيها غنم جمل أبي جهل، وكان مهرياً يغزو عليه».

أقول: لعلهم وضعوا هذه الروايات ليسلبوا علياً فضيلة نزول ذي الفقار من السماء.

12- وادعاه العباسيون والحسنيون

قال العيني في عمدة القاري: 15/33: «ولم يزل ذو الفقار عنده (صلی الله علیه و آله) حتى وهبه لعلي رضيالله تعالى عنه قبل موته ثم انتقل إلى آله. وكانت له عشرة أسياف منها: ذو الفقار، تنفله يوم بدر».

وفي الطبري: 6/219: «الأصمعي قال: رأيت الرشيد أميرالمؤمنين بطوس متقلداً سيفاً فقال لي: يا أصمعي ألا أريك ذا الفقار؟ قلت بلى جعلني الله فداك، قال: استل سيفي هذا، فاستللته فرأيت فيه ثمان عشرة فقارة».

وفي وفيات الأعيان: 6/330: «كان سبب وصوله إلى هارون الرشيد فيما ذكره أبوجعفر الطبري بإسناد متصل إلى عمر بن المتوكل عن أمه وكانت أمه تخدم فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضيالله عنهما قالت: كان ذو الفقار مع محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضيالله عنه يوم قتل في محاربته لجيش أبي جعفر المنصور العباسي والواقعة مشهورة، فلما أحس محمد بالموت دفع ذا الفقار إلى رجل من التجار كان معه وكان له عليه أربع مائة دينار وقال له خذ هذا السيف، فإنك لا تلقى أحداً من آل أبي طالب إلا أخذه منك وأعطاك حقك».

وفي الكافي: 1/233: قيل للإمام الصادق (علیه السلام) إن شخصين يزعمان أن عبدالله بن الحسن عنده سيف رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال: «والله ما رآه عبدالله بن الحسن بعينيه ولا بواحدة من عينيه، ولا رآه أبوه، اللهم إلا أن يكون رآه عند علي بن الحسين، فإن كانا صادقين فما علامة في مقبضة، وما أثر في موضع مضربه!

ص: 720

وإن عندي لسيف رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وإن عندي لراية رسول الله (صلی الله علیه و آله) ودرعه ولأمته ومغفره، فإن كانا صادقين فما علامة في درع رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟

وإن عندي لراية رسول الله (صلی الله علیه و آله) المغلبة، وإن عندي ألواح موسى وعصاه، وإن عندي لخاتم سُلَيْمان بن داود، وإن عندي الطست الذي كان موسى يقرب به القربان، وإن عندي الإسم الذي كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا وضعه بين المسلمين والمشركين لم يصل من المشركين إلى المسلمين نشابة. وإن عندي لمِثْل التابوت الذي جاءت به الملائكة. ومَثَلُ السلاح فينا كمثل التابوت في بني إسرائيل، في أي أهل بيت وجد التابوت على أبوابهم أوتوا النبوة، ومن صار إليه السلاح منا أوتي الإمامة، ولقد لبس أبي درع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخطت على الأرض خطيطاً ولبستها أنا فكانت وكانت، وقائمنا من إذا لبسها ملأها إن شاء الله».

وصححه المجلسي الأول في روضة المتقين: 12/243 وقال: «وفي البصائر في الموثق كالصحيح عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: لبس أبي درع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات الفضول فخطت، ولبستها أنا ففضلت».

إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة المتواترة فيما تقدم.

وفي بصائر الدرجات/205: «أتاني إسحاق بن جعفر فعظم عليّ بالحق والحرمة السيف الذي أخذه هو سيف رسول الله. فقلت: لا،كيف يكون هذا وقد قال أبوجعفر (علیه السلام): مثل السلاح فينا مثل التابوت في بني إسرائيل حيثما دار

دار الأمر».

10- غُلُوُّ السُّلطة في الصَّحابة البدريين، غَيْر علي

كانت معركة بدر معجزة ربانية، وسر إعجازها النبي (صلی الله علیه و آله) والملائكة، وبطولة علي (علیه السلام) وبني هاشم. وقد سرقت السلطة القرشية ذلك وأعطته لكل الصحابة وجعلتهم جميعاً كالملائكة: أبطالاً أخياراً أبراراً، من أهل الجنة!

ويكفي جواباً على زعمهم: سورة الأنفال التي نزلت خصيصاً في بدر،

ص: 721

وكشفت سقوط صحابة بدريين خرجوا من المدينة على كره كأنهم يساقون إلى الموت!

ومنهم من أراد من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يرجع ولايقاتل قريشاً، بنص رواة «الخلافة»!

ومنهم من كان يلحُّ على النبي (صلی الله علیه و آله) في مكة أن يقاتل قريشاً فيقول لهم كفوا أيديكم واصبروا، فلما كتب عليه القتال في بدر اعترضوا على ربهم لماذا كتب عليهم القتال، ونكصوا عن مبارزة الفرسان، وفروا إلى خلف الصفوف، جبناً وحباً للحياة! فوبخهم الله تعالى بقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً!

ومنهم: من اختلفوا على الغنائم، واتهموا بعضهم البعض طمعاً بدراهم معدودات أو بفرس أو بعير، أو ثوب قماش، أو نصف كيس شعير!

ومنهم: من أعماه الطمع وأفقده دينه فاتهم نبيه (صلی الله علیه و آله) بأنه سرق قطيفةً أو عباءة! فكذبهم الله تعالى بقوله: وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ!

ونورد في العناوين التالية بعض الحقائق عن مواقف بعض الصحابة في بدر:

6- منافقون تحمسوا للقتال في مكة ونكصوا في بدر!

قال الله عزَّ وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً.

فالآية تتحدث عن منافقين كانوا في مكة يطالبون النبي (صلی الله علیه و آله) بقتال المشركين فأمرهم بكف أيديهم، ولم يأمر بكف اليد في المدينة، فلما كتب الله عليهم القتال بعد الهجرة، ظهر نفاقهم وأنهم جبناء يخافون الناس أكثر مما يخافون الله!

كما ظهرت وقاحتهم فاعترضوا على الله تعالى لماذا كتب عليهم القتال الآن؟! وكشفت أسماء بعضهم رواية الواحدي في أسباب النزول/111 وابن حجر: 2/918، قال: «نزلت هذه الآية في نفر من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) منهم عبدالرحمن بن عوف، والمقداد بن الأسود، وقدامة بن مظعون، وسعد بن أبي وقاص، كانوا يلقون

ص: 722

من المشركين أذى كثيراً ويقولون: يا رسول الله إئذن لنا في قتال هؤلاء، فيقول لهم: كفوا أيديكم عنهم، فإني لم أومر بقتالهم، فلما هاجر رسول الله إلى المدينة، وأمرهم الله تعالى بقتال المشركين،كرهه بعضهم وشق عليهم فأنزل الله تعالى هذه الآية»!

وروى الحاكم: 2/66 و307، أنها نزلت في عبدالرحمن بن عوف، وأصحاب له، وصححه على شرط بخاري، قال: «أتوا النبي (صلی الله علیه و آله) فقالوا: يا نبي الله كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة؟! فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم، فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا! فأنزل الله تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ». والنسائي: 3/3 و 6/325، البيهقي: 9/11،والطبري في تفسيره: 5/234.

وروى الطبري أيضاً أنها نزلت في: «أناس من أصحاب رسول الله.كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد..فلما فرض عليهم القتال شقَّ عليهم»!

وقال الرازي في تفسيره: 10/184: «والأولى حمل الآية على المنافقين، لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، ولا شك أن من هذا كلام المنافقين.فالمعطوف في المنافقين وجب أن يكون المعطوف عليهم فيهم أيضاً».

وسمَّى الثعلبي: 3/345 منهم أربعة ورجح أنها: «نزلت في قوم كانوا مؤمنين، فلما فرض عليهم الجهاد نافقوا عن الجهاد من الجبن وتخلفوا عن الجهاد. ويدل عليه أن الله لايتعبدالكافر والمنافق بالشرائع، بل يتعبدهم أولاً بالإيمان ثم بالشرائع، فلما نافقوا نبه الله على أحوالهم. وقد قال الله مخبراً عن المنافقين أنهم آمنوا ثم كفروا». وقال البغوي: 1/453: «يخشون الناس: يعني يخشون مشركي مكة».

وفي برهان الزركشي: 1/422: «فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ. هذه الإشارة للفريق الذين نافقوا من القوم: الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ».

وفي تنوير المقباس من تفسير ابن عباس/74: «إذا فريق منهم: طائفة، منهم طلحة بن عبدالله. يخشون الناس: يخافون أهل مكة».

ص: 723

وفي العجاب لابن حجر: 2/918: «من هذا الفريق طلحة بن عبيدالله، كذا قال، ولعله كان ممن قال ذلك أولاً، وأما الفريق الذين قالوا: لم كتبت علينا القتال فاللائق أنهم ممن لم يرسخ الإيمان في قلبه، وطلحة كان من الراسخين»!

وتصدى علماء السلطة للدفاع عمن ذمهم الله، فقالوا إن خوفهم طبيعي! وقال بعضهم يستحيل أن يكون هؤلاء من الصحابة، فردوا بذلك القرآن!

قال القرطبي: 5/281: «معاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم يعلم أن الآجال محدودة والأرزاق مقسومة، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين»!

وهذه مكابرة منهم أو ردٌّ على الله تعالى! لأن المذمومين صحابة منافقون كانوا في بدر! وهم أكثر من خمسة، وقد جبنوا في بدر وتخبؤوا خلف المقاتلين، وطمعوا بالغنائم واتهموا البعض بالغل والسرقة!واتهموا نبيهم (صلی الله علیه و آله) بأنه غلَّ قطيفة حمراء! وتجد بقية صفاتهم في سورة الأنفال الفاضحة!

وقد خلطوا بهم شخصاً بريئاً هو المقداد (رحمة الله)! ونسُوا أنهم رووا أن، موقفه عكس ذلك تماماً! ففي البخاري: 5/187 أن النبي (صلی الله علیه و آله) استشار أصحابه فقال المقداد: «يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن إمض ونحن معك! فكأنه سُرِّيَ عن رسول الله». ومعنى سُرِّيَ عنه: أنه ارتاح لكلامه بعد غضبه من أهل آية: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، الذين خوَّفوه من قريش، وأنها ما ذلت منذ عزت، وأن من قاتلها ذل!

7- مرضى القلوب «مكيون بدريون»!

ذكر الله تعالى «الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» في اثنتي عشرة آية، وجعلهم قسماً مقابل المؤمنين والمنافقين والمشركين. وحذر منهم من أوائل البعثة في سورة المدثر فقال: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً..وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً. «المدّثّر: 31» ثم ذكرهم في معركة بدر فقال: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. الأنفال/ 49.

ص: 724

ثم ذكرهم في معركة الأحزاب: هُنَالِكَ ابْتُلِي الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا. الأحزاب/11-12.

وقد دلس أتباع السلطة فجعلوهم قسماً من المنافقين مع أنهم قسم مقابلهم! ثم جعلوا المنافقين كلهم من المدينة وقالوا ليس في القرشيين منافق! لكنهم اصطدموا بآية كفوا أيديكم، وهي في صحابة كبار وبالآية 31 من المدثر المكية،، فهم موجودون في مكة قبل الهجرة إذن، لكن أتباع السلطة القرشية يكابرون!

قال في الكشاف: 4/184: «فإن قلت: كيف ذكر الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون، والسورة مكية ولم يكن بمكة نفاق، وإنما نجم بالمدينة؟ قلت: معناه: وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة».

وهذه مكابرة أخرى لإبعاد النفاق عن القرشيين! لأن الآية نزلت في مكة في منافقين موجودين، وليس في أناس سيأتون بعد بضع عشرة سنة!

ومن مكابرتهم أيضاً حصرهم سبب النفاق بالخوف لإبعاده عن القرشيين، مع أن سببه قد يكون الطمع بموقعٍ مع النبي (صلی الله علیه و آله)، بل هو أكثر إغراءً لشخص معدم من عشيرة معدمة، يسمع بأن كنوز كسرى وقيصر ستقع في يد ذلك النبي (صلی الله علیه و آله) .

ولهذا السبب نجد أن القرآن حذر من مرضى القلوب القرشيين في مكة، ثم في بدر، وأحد، والأحزاب، وبقية حياة النبي (صلی الله علیه و آله)، وبعده!

وتدلك صفاتهم على أنهم طبقة سياسية منافقة، لها طموح سياسي مفرط، وأنهم حشريون يتدخلون في كل قضية! بل يحددون لله تعالى ما يجب أن يفعله، ويقولون إن جعله زبانية جهنم تسعة عشر اشتباه! مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً؟!

وتراهم يسخرون من المؤمنين الذين أطاعوا النبي (صلی الله علیه و آله) وشجعوه على المضي إلى بدر لقتال قريش: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ!

وتراهم يعترضون على النبي (صلی الله علیه و آله) ويحملونه مسؤولية الهزيمة في أحُد، لأنه لم يشركهم في القيادة، ولم يأخذ برأيهم في الإدارة! يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئٍْ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَالايُبْدُونَ لَكَ..يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌْ مَاقُتِلْنَا هَاهُنَا!

ص: 725

ولم يتراجع فضولهم ولا خفَّ جُبنهم،فوصفهم الله تعالى في حرب الأحزاب: وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا.. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاغُرُورًا. الأحزاب/ 10و12.

وكشف الله تعالى عدداً من صفاتهم، ورسم فيها خوفهم: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ. طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمر فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ. محمّد/ 20-21.

ثم أخبرهم الله تعالى بأنهم سيحكمون الأمة بعد النبي (صلی الله علیه و آله) ويفسدون! وأنهم استحقوا اللعن والطرد من رحمته، لأنهم عرفوا الهدى جيداً ثم كفروا، وأخفوا كفرهم! وأخبرهم بأنهم عقدوا اتفاقية سرية مع اليهود على طاعتهم في إبعاد عترة النبي (صلی الله علیه و آله) عن خلافته! فقال عزوجل: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا. إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَانَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ. محمّد/ 22-26.

وقد أقسم الإمام الصادق (علیه السلام) على أن مرض قلوبهم هو عداوة أهل البیت (علیهم السلام)، لأن هدفهم من إسلامهم سرقة دولة النبي (صلی الله علیه و آله) والوصول إلى الحكم وإبعاد عترة النبي (صلی الله علیه و آله)! قال (علیه السلام) في حديث النداء السماوي: «ويرتاب يومئذ الذين في قلوبهم مرض. والمرض والله عداوتنا».غيبة النعماني/267.

فمرضى القلوب هم الطبقة السياسية من المنافقين، الذين يعشيون ذواتهم فقط ويقيسون الأمور والأشياء بالنفع والضرر المادي الشخصي، ويزيدون على المنافقين بأنهم يفسرون الأمور دائماً بالمعادلات السياسية، ويتعاملون مع النبي (صلی الله علیه و آله)

بهذه المعادلة ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً!

وقد يصير المنافق من مجموعة مرضى القلوب، كما في قوله تعالى عن ولاء اليهود والنصارى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ. وهذا قول رئيس المنافقين ابن سلول «تفسير القمي 1/170والطبري 6/376» لكنه أيضاً من مرضى

ص: 726

القلوب، لطموحه ومنهجه السياسي المادي!

وهذا هو السبب في وصف الله تعالى لمرض القلب بأنهم رجس، لأن أحدهم يجعل نفسه إلهاً مقابل الله تعالى، وقيِّماً على الرسول (صلی الله علیه و آله)، بل على ربه عزوجل! وهذا عمل شيطاني يستحق صاحبه عليه العقوبة، قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ. التوبة: 125.

وقد حاول رواة السلطة إبعاد الرجس عن القرشيين، وجعلوه لأناس ارتدوا وحاربوا النبي (صلی الله علیه و آله) وقتلوا في بدر! قال ابن إسحاق: 3/290: «كانوا أسلموا ورسول الله (صلی الله علیه و آله) هاجر إلى المدينة وحبسهم آباؤهم وعشائرهم بمكة وفتنوهم فافتتنوا، ثم ساروا مع قومهم إلى بدر فأصيبوا به جميعاً، فهم فتية مسلمون! فمن بني أسد بن عبدالعزى بن قصي الحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، ومن بني مخزوم أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة وقيس بن الوليد بن المغيرة، ومن بني جمح علي بن أمية بن خلف، ومن بني سهم العاص بن منبه بن الحجاج».

ونحوه تفسير الطبري: 10/29، عن مجاهد، وفيه: «خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) قالوا: غر هؤلاء دينهم حتى قدموا على ما قدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم»! وتفسير الصنعاني: 2/261، مجمع الزوائد: 6/78، فتح الباري: 8/198 وشرح النهج: 14/156.

وهذا التفسير مضحك، لأن الذين قاتلوا النبي (صلی الله علیه و آله) مع قريش مع المشركين ومن المشركين، فلا يوصف بأنه من فئة المنافقين أو من فئة الذين في قلوبهم مرض! ولايطمح أن يكون له شراكة في القيادة مع النبي (صلی الله علیه و آله) ليقول: هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَئ؟!

وقد أجاد صاحب تفسير الميزان: 9/109 فقال: «سياق الآية الظاهر في حضورهم، وقولهم ذلك عند التقاء الفئتين يأبى ذلك.والذي ذكره لاينطبق على الآية البتة فالقرآن لايسمي المشركين منافقين ولا الذين في قلوبهم مرض».

وقصده أنه القرآن يعبر عن الكفار بالمشركين، ولا يسميهم مرضى القلوب ومنافقين.

ص: 727

8- «صحابة» اتهموا النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه غلَّ

يأخذك العجب عندما تقرأ أن الصحابة البدريين «الأبرار الأخيار» بعد انتصارهم في بدر، اختلفوا على الغنائم وتشاجروا وساءت أخلاقهم، واتهم بعضهم بعضاً، وبلغ بهم الأمر أن اتهموا نبيهم (صلی الله علیه و آله) بأنه سرق قطيفة، فبرأه الله تعالى!

قال عبادة بن الصامت كما في تاريخ الذهبي: 2/64: «نزلت الأنفال حين تنازعنا في الغنيمة وساءت فيها أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، وجعله إلى رسوله (صلی الله علیه و آله) فقسمه بين المسلمين على السواء».

ومن المؤكد أن هؤلاء المتشاجرين على الحطام، ليسوا أبطال بدر ولا صنَّاع نصرها، ولا أظن أن فيهم مقاتلاً حتى من الدرجة الثانية والثالثة! بل هم من الذين يلتطون خلف الصفوف! والذين اتهموا النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه سرق قطيفة، لا يمكن أن يكونوا مؤمنين به! وأما الذي سرق قطيفة وطمرها بعيداً في التراب، واتهم بها النبي (صلی الله علیه و آله) فهو كأي بدوي سارق مُفْترٍ، لامن الصحابة ولا المؤمنين!

وخلاصة ما حدث بعد المعركة: أن قريشاً انهزمت عند الظهر فانشغل بعض المسلمين بتعقب الفارين، وكان همُّ بعضهم أن يأخذ أسيراً ليربح فِدْيته، مع أن النبي (صلی الله علیه و آله) نهاهم عن الأسر حتى يثخنوا فيهم. وقسم آخر منهم سارع إلى أخذ الغنائم، وكانت كلها: «مئة وخمسين من الإبل وعشرة أفراس. وعند ابن الأثير: ثلاثين فرساً، ومتاعاً، وسلاحاً، وأنطاعاً، وأدماً كثيراً».الصحيح: 5/89.

والمتاع: الوسائل. والأنطاع: ما يفرش. والأدم المواد الغذائية: كالجبن واللحم .

واشتكى بعضهم للنبي (صلی الله علیه و آله) بأن فلاناً أخذ لنفسه شيئاً، أو أخذ كثيراً، فلم يترك له شيئاً، فأمرهم النبي (صلی الله علیه و آله) أن يردوا جميع ما أخذوه حتى ينزل فيه أمر الله، فردوه على مضض، وفقدوا بعضه، ومنه القطيفة التي اتهموه (صلی الله علیه و آله) بها.

وساق النبي (صلی الله علیه و آله) الأسرى والغنائم حتى وصل إلى الصفراء، فنزلت سورة الأنفال، وفيها أن الغنائم للنبي (صلی الله علیه و آله) خاصة فوزعها عليهم بالسوية، وقتل هناك أحد أشرار قريش، وساق بقية الأسرى إلى المدينة. قال الطبري: 2/156: «ثم إن رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ص: 728

أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع فاختلف المسلمون فيه»!

وقال علي بن إبراهيم القمي: 1/126: «كان سبب نزولها أنه كان في الغنيمة التي أصابوها يوم بدر قطيفة حمراء ففقدت، فقال رجل من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما لنا لا نرى القطيفة، ما أظن إلا أن رسول الله أخذها! فأنزل الله في ذلك: وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ.الخ. فجاء رجل إلى رسول الله فقال: إن فلاناً غل قطيفة فأخبأها هنالك، فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بحفر ذلك الموضع، فأخرج القطيفة»!

وفي شرح النهج: 14/168، أنهم طلبوا من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يستغفر له فلم يفعل! وفي الترمذي: 4/297 وأبي داود: 2/243: «فقال بعض الناس: لعل رسول الله أخذها».

وفي عدد من رواياتهم بدون لعل! كالطبراني الكبير: 11/288، وتفسير الطبري: 4/206، عن ابن عباس قال: «كانت قطيفة فقدت يوم بدر فقالوا: أخذها رسول الله»! وفي تفسير الثعالبي: 2/134: «وقد روي أن المفقود إنما كان سيفاً».

وفي أسباب النزول/84، والعجاب لابن حجر: 2/777 وغيرهما: «لكن المنافقين اتهموا رسول الله (صلی الله علیه و آله) في شي من الغنيمة، فأنزل الله عزوجل: وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ..».

فقد اعترف أتباع السلطة بأن البدريين كان فيهم منافقون، فلماذا لايكون فيهم مرضى القلوب وهم سادتهم؟! وكيف يقال لهؤلاء: عدول ومن أهل الجنة؟!

وفي أمالي الصدوق/164: «قال علقمة: فقلت للصادق (علیه السلام): يا ابن رسول الله إن الناس ينسبوننا إلى عظائم الأمور، وقد ضاقت بذلك صدورنا! فقال (علیه السلام): يا علقمة، إن رضا الناس لايملك وألسنتهم لاتضبط! فكيف تَسلمون مما لم يسلم منه أنبياء الله ورسله وحججه:؟! ألم ينسبوا يوسف (علیه السلام) إلى أنه هم بالزنا؟ ألم ينسبوا أيوب (علیه السلام) إلى أنه ابتلي بذنوبه؟ ألم ينسبوا داود (علیه السلام) إلى أنه تبع الطير حتى نظر إلى امرأة أوريا فهواها؟وأنه قدم زوجها أمام التابوت حتى قتل ثم تزوج بها؟ ألم ينسبوا موسى (علیه السلام) إلى أنه عنين، وآذوه حتى برأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً؟ ألم ينسبوا جميع أنبياء الله إلى أنهم سحرة طلبة الدنيا؟ ألم ينسبوا مريم بنت عمران(علیها السلام) إلى أنها حملت بعيسى من رجل نجار اسمه يوسف؟!

ص: 729

ألم ينسبوا نبينا محمداً (صلی الله علیه و آله) إلى أنه شاعر مجنون؟ ألم ينسبوه إلى أنه هوی امرأة زيد بن حارثة فلم يزل بها حتى استخلصها لنفسه؟ ألم ينسبوه يوم بدر إلى أنه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء حتى أظهره الله عزوجل على القطيفة وبرأ نبيه (صلی الله علیه و آله) من الخيانة، وأنزل بذلك في كتابه: وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ!

ألم ينسبوه إلى أنه ينطق عن الهوى في ابن عمه علي (علیه السلام) حتى كذبهم الله عزوجل فقال سبحانه: مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى..». النجم: 3،4

9- سبب تعمد «الخلافة» الغلو في أهل بدر؟

قال في الصحيح من السيرة: 5/134، تحت عنوان: أهل بدر مغفور لهم: «ويذكرون أنه حينما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتجهز لفتح مكة،كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى أهل مكة يحذرهم، وأعطاه امرأة لتوصله إليهم، فأخبر جبرئيل النبي بالأمر فأرسل علياً ونفراً معه إلى روضة خاخ، موضع بين مكة والمدينة، ليأخذوا الكتاب منها، فأدركوها في ذلك المكان وفتشوا متاعها فلم يجدوا شيئاً، فهموا بالرجوع فقال علي: والله ما كذبنا ولا كذبنا، وسل سيفه وقال لها: أخرجي الكتاب وإلا لأضربن عنقك، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها! فرجعوا بالكتاب إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فأرسل إلى حاطب فسأله عنه فاعترف به، وادعى أنه إنما فعل ذلك لأنه خشيهم على أهله، فأراد أن يتخذ عندهم يداً، فصدقه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعذره، لكن عمر بن الخطاب رأى أن حاطباً خان الله ورسوله فطلب من النبي أن يضرب عنق حاطب فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): أليس من أهل بدر؟ لعل الله - أو إن الله - اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم»! قال الحلبي: وهو يفيد أن ما يقع منهم من الكبائر لا يحتاجون إلى التوبة عنه لأنه إذا وقع يقع مغفوراً، وعبر فيه بالماضي مبالغة في تحققه. وهذا كما لا يخفى بالنسبة للآخرة لا بالنسبة لأحكام الدنيا، ومن ثم لما شرب قدامة بن مظعون الخمر في أيام عمر حُدَّ وكان بدرياً. وقال الحلبي أيضاً: وفي الخصائص الصغرى نقلاً عن شرح جمع الجوامع أن الصحابة كلهم لا يفسقون بارتكاب

ص: 730

مايفسق به غيرهم. ورووا عنه (صلی الله علیه و آله) قوله: لن يدخل النار أحد شهد بدراً.

ونقول: «إذا كان شرب البدري للخمر لايضر ولا يحتاجون للتوبة من الكبائر، فليكن الزنا حتى بالمحارم غير مضر لهم أيضاً! وكذلك تركهم الصلاة وسائر الواجبات وغيرها! وليكن أيضاً قتل النفوس كذلك، ولقد قتلوا عشرات الألوف في وقعتي الجمل وصفين، وقتلوا العشرات سراً وجهراً غيلة وصبراً! فإن ذلك كله لايضر، ولا يوجب لهم فسقاً ولا عقاباً»! انتهى.

أقول: أكد النبي (صلی الله علیه و آله) على مكانة عترته الطاهرين: طوال حياته، وجعلهم وصيته المؤكدة لأمته فقال: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي» فقامت قريش باضطهادهم، ونصبت مقابلهم الصحابة وزعمت أنهم كلهم عدول، بل ادعت لبعضهم العصمة وفضلته على النبي (صلی الله علیه و آله) بأساليب ملتوية!

فكل ما تراه من مبالغة في الصحابة وغلو فيهم، وفضائل مكذوبة لهم، إنما هو من أعمال السلطة لجعلهم وجوداً مقابل النبي (صلی الله علیه و آله) وعترته الطاهرين:.

ومن ذلك غلوهم في أهل بدر حيث جعلوهم كلهم صانعي تاريخ الإسلام مع أن قسماً منهم كانوا عالةً على المسلمين حتى إذا انتصروا ادعوا أنهم أبطال النصر!

راجع كتاب: نظرية عدالة الصحابة، للمحامي الأردني، خير من كتب في الموضوع.

10- التعجب من أغلاط العامة في الصحابة!

قال أبو الفتح الكراجكي (رحمة الله) في كتابه: التعجب من أغلاط العامة/83: «الفصل الحادي عشر في أغلاطهم في الصحابة: ومن عجيب أمرهم غلوهم في تفخيم الصحابة وإفراطهم في تعظيمهم، وقولهم لا يدخل الجنة مستنقص لأحد منهم، وليس بمسلم من روى قبيحاً عنهم! ويقولون إنا لا نعرف لأحد منهم بعد إسلامه عيباً، وليس منهم من واقع ذنباً، ويجعلون من خالفهم في هذا زنديقاً، ومن ناظرهم فيه أو طلب الحجة منهم عليه، مبتدعاً شريراً.

هذا ولهم في الرسل المصطفين والأنبياء المفضلين، الذين احتج الله تعالى بهم

ص: 731

على العالمين صلوات الله عليهم أجمعين، أقوال تقشعر منها الجلود، وترتعد لها القلوب، ولا تثبت عند سماعها النفوس، يتدينون بذكرها، ويتحملون بنشرها، ويغتاظون على من أنكرها ودحضها، كغيظهم على من أضاف إلى أحد الصحابة بعضها، فينسبون آدم وحواء إلى الشرك، وإبراهيم الخليل إلى الإفك والشك، ويوسف إلى ارتكاب المحظور والجلوس من زليخا مجلس الفجور، وموسى إلى أنه قتل نفساً ظلماً، وداود إلى أنه عشق امرأة أوريا وحمله عشقها إلى أن قتل زوجها وتزوجها، ويونس إلى أنه غضب على الله تعالى.

ويقولون في سيدنا محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين (صلی الله علیه و آله) في تزويجه بامرأة زيد بن حارثة، وفي غير ذلك من الأقوال القبيحة المفتعلة ما لا ينطلق لمؤمن بذكره لسان، ولا يثبت لمسلم عند سماعه جنان، ولا يطلقه عاقل، ولا يجيزه منه إلا كافر جاهل! فإذا قيل لهم إن جميع الأخبار الواردة في ذلك باطلة، وسائر الآيات التي تظنون أنها تقتضيه متأولة، وقد شهدت العقول بعصمة الأنبياء (علیهم السلام) ودل القرآن على فضلهم وتميزهم عن الأنام، فوجب أن تتأول الأقوال بما يوافق مقتضى الإستدلال. قالوا إذا سمعوا هذا الكلام: هذا ضلال وترفض، وهو فتح باب التزندق! فياليت شعري كيف صار الهتف بالأنبياء (علیهم السلام) بالباطل إسلاماً وستراً، والطعن على بعض الصحابة بالحق ضلالاً وكفراً؟! وكيف صار القادح في الأفاضل المصطفين: ثبتاً صديقاً ومن قدح في أحد قوم غير معصومين رافضياً زنديقاً؟! ألم يسمعوا قول الله تعالى في أنبيائه صلوات الله عليهم: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ، وقوله سبحانه وتعالى لأصحاب نبيه: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ.

وقول النبي (صلی الله علیه و آله): إن من أصحابي من لا يراني بعد أن يفارقني! فأي نسبة بين الطبقتين، وأي تقارب بين القبيلتين، لولا ما مع خصومنا من العصبية التي حرمتهم حسن التوفيق. وقد قال بعض المعتزلة لأحد الشيعة: إن أمركم معشر الشيعة لعجيب، ورأيكم طريف غير مصيب، لأنكم أقدمتم على وجوه الصحابة الأخيار، وعيون الأتقياء الأبرار، الذين سبقوا إلى الإسلام واختصوا بصحبة الرسول

ص: 732

وشاهدوا المعجزات، وقطعت أعذارهم الآيات، وصدقوا بالوحي، وانقادوا إلى الأمر والنهي، وجاهدوا المشركين، ونصروا رسول رب العالمين، ووجب أن يحسن بهم الظنون، ويعتقد فيهم الإعتقاد الجميل، فزعمتم أنهم خالفوا الرسول، وعاندوا أهله من بعده، واجتمعوا على غصب حق الإمام وإقامة الفتنة في الأنام، واستأثروا بالخلافة، وسارعوا إلى الترأس على الكافة، وهذا مما تنكره العقول وتشهد أنه مستحيل، فالتعجب منكم طويل!

فأجابه: أما المؤمنون من الصحابة الأخيار، والعيون من الأتقياء الأطهار، فمن هذه الأمور مبرؤون، ونحن عن ذمهم متنزهون، وأما من سواهم ممن ظهر زللهم وخطؤهم، فإن الذم متوجه إليهم، وقبيح فعلهم طرق القول عليهم، ولو تأملت حال هؤلاء الأصحاب لعلمت أنك نفيت عنهم خطأ قد فعلوا أمثاله ونزهتهم عن خلاف قد ارتكبوا أضعافه، وتحققت أنك وضعت تعجبك في غير موضعه، وأوقعت استطرافك في ضد موقعه، فاحتشمت من خصمك، ورددت التعجب إلى نفسك. وهؤلاء القوم الذين فضلتهم وعظمتهم، وأحسنت ظنك بهم ونزهتهم، هم الذين دحرجوا الدباب ليلة العقبة بين رجلي ناقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) طلباً لقتله.

وهم الذين كانوا يضحكون خلفه إذا صلى بهم، ويتركون الصلاة معه وينصرفون إلى تجاراتهم ولهوهم، حتى نزل القرآن يهتف بهم.

وهم الذين جادلوا في خروجه إلى بدر، وكرهوا رأيه في الجهاد، واعتقدوا أنه فيما دبره على غير الصواب، ونزل فيهم: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ.

وهم الذين كانوا يلتمسون من النبي (صلی الله علیه و آله) بمكة القتال وينازلونه في الجهاد منازلة ويرون أن الصواب خلاف ما تعبدوا به في تلك الحال من الكف والإمساك، فلما حصلوا في المدينة وتكاثر معهم الناس، ونزل عليهم فرض الجهاد وأمروا بالقتال كرهوا ذلك وطلبوا التأخير من زمان إلى زمان، ونزل فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ

ص: 733

قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ.

وهم الذين أظهروا الأمانة والطاعة، وأضمروا الخيانة والمعصية، حتى نزل فيهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. الأنفال: 27.

وهم الذين كفوا عن الإثخان في القتل يوم بدر وطمعوا في الغنائم، حتى نزل فيهم: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.

وهم الذين شكوا يوم الخندق في وعيد الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وخبثت نياتهم، فظنوا أن الأمر بخلاف ما أخبرهم به النبي (صلی الله علیه و آله)، إذ نزل فيهم: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِي الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا.

وهم الذين نكثوا عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونقضوا ما عقده عليهم في بيعته تحت الشجرة، وأنفذهم إلى قتال خيبر فولوا الدبر ونزل فيهم: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُولاً.

وهم الذين انهزموا يوم حنين وأسلموا النبي (صلی الله علیه و آله) للأعداء، ولم يبق معه إلا أميرالمؤمنين (علیه السلام) وتسعة من بني هاشم، ونزل فيهم: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. وأمثال ذلك مما يطول بشروحه الذكر!

وهم الذين قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ..

وهم الذين قال لهم النبي (صلی الله علیه و آله): لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لاتبعتموه! قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذاً؟

وهم الذين قال لهم: ألا لأعرفنكم ترتدون بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.

وهم الذين قال لهم: إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة، وإنه سيجاء برجال من

ص: 734

أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابي؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم!

وهم الذين قال لهم: بينما أنا على الحوض إذ مُرَّ بكم زمراً فتفرق بكم الطرق فأناديكم: ألا هلموا إلى الطريق، فينادي مناد من ورائي: إنهم بدلوا بعدك، فأقول: ألا سحقاً ألا سحقاً. وهم الذين قال لهم عند وفاته: جهزوا جيش أسامة ولعن من تخلف عنه، فلم يفعلوا.

وهم الذين قال (صلی الله علیه و آله) لهم: إئتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي فلم يفعلوا وقال أحدهم: دعوه فإنه يهجر! ولم ينكر الباقون عليه!

هذا مع إظهارهم الإسلام واختصاصهم بصحبة النبي (صلی الله علیه و آله) ورؤيتهم الآيات، وقطع أعذارهم بالمعجزات! فانظر الآن أينا أحق بأن يتعجب، وأولانا بأن يتعجب منه: من أضاف إلى هؤلاء الأصحاب ما يليق بأفعالهم، ومن جعلهم فوق منازل الأنبياء (علیهم السلام)، وهذه أحوالهم»؟!

11- ماذا قال الشيخان لما استشارهم النبي (صلی الله علیه و آله) بشأن بدر؟

وصف الله تعالى في لوحة خالدة إلى يوم الدين، خوف بعض الصحابة وانهيارهم لما أمرهم النبي (صلی الله علیه و آله) بالخروج لاعتراض قافلة قريش! فقال عزوجل: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وأخبرهم النبي (صلی الله علیه و آله) أن الله وعده إحدى الطائفتين، إما العير وإما النفير! فأفلتت منهم القافلة وبلغهم أن قريشاً جاءت لحربهم، فاستشارهم النبي (صلی الله علیه و آله)، وطلبوا منه الرجوع وعدم قتال قريش!

قال مسلم في صحيحه: 5/170: «شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، قال فتكلم أبوبكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه». ولم يبين لماذا أعرض عنهما!

وفي الدر المنثور: 3/165: «فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله إنها قريش وعزها! والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت، والله لتقاتلنك، فتأهب

ص: 735

لذلك أهبته وأعدد له عدته». وعيون الأثر: 1/327 والنهاية: 3/321.

وهنا حذفوا الفقرة الحساسة وهي قوله للنبي (صلی الله علیه و آله): «ولم تخرج على هيئة الحرب»! أي إرجع ولا تقاتل قريشاً لأنك لم تستعد! أو حرفوها وجعلوها: والله لتقاتلنك فتأهب لذلك واعدد له عدته! أو نسبوها إلى شخص مجهول!

لكن موقف الشيخين واضح، وهو التحذير من مواجهة قريش وطلب الرجوع!

قال في الكشاف: 2/143، تخريج الأحاديث: 2/11، السيرة الحلبية: 2/385 وغيرها: «فاستشار النبي (صلی الله علیه و آله) أصحابه وقال: ما تقولون؟ إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فالعير أحب إليكم أم النفير؟ قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدو! فتغير وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله): ثم ردد عليهم فقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبوجهل قد أقبل! فقالوا يا رسول الله، عليك بالعير ودع العدو»!

فهؤلاء الذين أجابوا النبي (صلی الله علیه و آله) بهذا الكلام المنافق، هم الذين قال الله عنهم: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ؟ الأنفال/6

وكمثال لتعصب علماء السلطة وتغطيتهم على فلان وفلان: أن ابن حزم الذي حكم بأن أصحاب هذه الآية فساق!

قال في الأحكام: 6/308: «وكذلك من قلد في فتيا أو نحلة وقامت عليه الحجة، فعندنا فهو فاسق مردود الشهادة.قال الله تعالى: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. فذم عزوجل من عاند بعد أن تبين له الحق».

لكن مَن هم الفساق الذين جادلوا في الحق! لقد ذابوا كالملح، وذاب جواب أبي بكر وعمر، وقال رواة قريش: إنهما قالا وأحسنا، وكان الله يحب المحسنين!

فقد قالت روايتهم إن النبي (صلی الله علیه و آله) أعرض عنهما وتغير وجهه، ثم فرح وأشرق وجهه بموقف المقداد «بخاري: 5/4».

لكن رواة الخلافة يصرون على قولهم: إنهما قالا فأحسنا! فتح الباري: 7/223.

وفي المناقب: 1/162: «شاور النبي (صلی الله علیه و آله) أصحابه في لقائهم أو الرجوع؟فقال أبوبكر وعمر كلاماً فأجلسهما! ثم قال المقداد وسعد بن معاذ كلاماً فدعا لهما وسُرَّ، ونزل:

ص: 736

سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ». آل عمران/151

وفي تفسير القمي: 1/158وتفسير أبي حمزة /180، عن الإمام الباقر (علیه السلام) ملخصاً: «نزل جبرئيل (علیه السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره بنفير المشركين من مكة فاستشار أصحابه في طلب العير وحرب النفير، فقام أبوبكر فقال: يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها، ما آمنت منذ كفرت، ولا ذلت منذ عزت، ولم تخرج على هيئة الحرب! فقال (صلی الله علیه و آله): أجلس فجلس. ثم قام عمر بن الخطاب فقال مثل ذلك! فقال (صلی الله علیه و آله): أجلس فجلس. ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها وقد آمنا بك وصدقنا، وشهدنا أن ما جئت به حق، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك، والله لانقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ. ولكنا نقول: امض لأمر ربك فإنا معك مقاتلون! فجزَّاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) خيراً على قوله ذاك.

ثم قال (صلی الله علیه و آله): أشيروا عليَّ أيها الناس، وإنما يريد الأنصار، لأن أكثر الناس منهم ولأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا إنا براء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا، ثم أنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع أبناءنا ونساءنا. فكان (صلی الله علیه و آله) يتخوف أن لا يكون الأنصار يرون أن عليهم نصرته، إلا على من دهمه بالمدينة من عدو. فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله كأنك أردتنا؟ فقال: نعم. قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله، فمرنا بما شئت وخذ من أموالنا ما شئت، واترك منها ما شئت، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك، ولعل الله عزوجل أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله! ففرح بذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: سيروا على بركة الله، فإن الله عزوجل قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله وعده، والله لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وفلان وفلان، وأمر رسول الله بالرحيل وخرج إلى بدر».

ص: 737

12- افتراؤهم على النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه أخطأ وأصاب عمر!

بحثنا في كتاب: ألف سؤال وإشكال: 2/355 قصة أسرى بدر التي زعم عمر أنه أصاب فيها وأن النبي (صلی الله علیه و آله) أخطأ!

وخلاصتها: أن آيات الأنفال صريحة في أن عمله (صلی الله علیه و آله) كان بتوجيه ربه عزوجل، لاحظ قوله تعالى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ. الأنفال: 5-8.

ولم يدَّع أحدٌ يومها ولا في حياة النبي (صلی الله علیه و آله) أنه أخطأ في الحرب، أو في أخذ أسرى أو في إطلاقهم مقابل فدية! لكن عمر ادعى في خلافته أنه نهى النبي (صلی الله علیه و آله) عن أخذ الأسرى القرشيين المحترمين، ونهاه عن أخذ الفدية منهم فلم يطعه، فعاقبه الله في معركة أحد، فانهزم جيشه وقتل منهم سبعون، وأصيب هو (صلی الله علیه و آله)! فنزلت آيات توبخه والمسلمين على ذنبهم في بدر، وتؤيد رأي عمر!

قال في مجمع الزوائد: 6/115: «عن عمر بن الخطاب قال: فلما كان عام أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون، وفرَّ أصحاب رسول الله عن النبي، فكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، وأنزل الله عزوجل: أَوَلَمّآ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، بأخذكم الفداء»!

وهذا الحديث الصحيح عندهم، ظالمٌ وباطلٌ: أولاً: لأن التوبيخ في الآية ليس للنبي (صلی الله علیه و آله) بل للذين أرادوا غنيمة القافلة وخافوا من القتال، ومنهم أبوبكر وعمر كما تقدم! وللذين أخذوا الأسرى ولم يقتلوهم فيثخنوا في الأرض.

ثم إن روايتهم التي جعلوها فضيلة لعمر وطعناً بالنبي (صلی الله علیه و آله)، متهافتة!

ففي الدر المنثور: 3/163: «فقال: ماترون في القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم؟ فقلنا يا رسول الله لا والله مالنا طاقة بقتال القوم، إنما خرجنا للعير. إلى أن قال: فقتلنا

ص: 738

وأسرنا، فقال عمر: يا رسول الله ما أرى أن تكون لك أسرى فإنما نحن داعون مؤلفون، فقلنا معشر الأنصار: إنما يحمل عمر على ما قال حسده لنا، فنام رسول الله ثم استيقظ ثم قال: أدعوا لي عمر فدعي له فقال له: إن الله قد أنزل عليَّ: ماكان لنبي أن تكون له أسرى..» وحسَّنه في الزوائد: 6/73.

وهو يدل على أن عمر وأبابكر قالا: لا طاقة لنا بقتال قريش، وأن عمر كان معارضاً لأخذ الأسرى تعصباً أن يأسرهم الأنصار فيربحوا فديتهم! ثم زعموا بعد ذلك أن عمر كان أشد على المشركين، وأن رأيه كان أن تضرب أعناقهم!

ثم إن عمر زعم أنه اعترض في بدر فنزلت الآية مؤيدة لرأيه، لأن بدراً لم تكن إثخاناً كافياً يحلل أخذ الأسرى! فدعاه النبي (صلی الله علیه و آله) فقرأها له وأقرَّ أن عمر أصاب وأنه (صلی الله علیه و آله) أخطأ وبكى على ذنبه! ومع ذلك خالف (صلی الله علیه و آله) أمر ربه وأخذ الأسرى وساقهم إلى المدينة! ثم عصى ربه ثانية فأخذ منهم الفداء!

وقد روى ذلك أحمد: 1/30، برواية طويلة عن عمر يحكي فيها منقبته، قال: «فأخذ منهم الفداء فلما أن كان من الغد قال عمر: غدوتُ إلى النبي فإذا هو قاعد وأبوبكر وإذا هما يبكيان!فقلت يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك. فقال النبي: الذي عرض عليَّ أصحابك من الفداء! لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة! وأنزل الله عزوجل: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض. فلما كان يوم أحُد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء! فقتل منهم سبعون وفر أصحاب النبي عن النبي وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه! وأنزل الله تعالى: أَوَلَمّآ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا...بأخذكم الفداء»! و مسلم: 3 /158 و170، مجمع الزوائد: 6 /113 و 115 و 118، أحمد: 1 /32 وأبي داود: 1/608.

فقد زعم عمر أن رأيه كان قتل الأسرى فوافقه الوحي، لكن النبي (صلی الله علیه و آله) عصى ولم يقتلهم! ثم وزعم أن النبي (صلی الله علیه و آله) أخذ الفداء في اليوم الثاني فنزلت الآية توبخه فقعد هو وأبوبكر يبكيان على ذنبهما! ومع ذلك عاد بالأسرى إلى المدينة وأخذ

ص: 739

الفداء! فمن يصدق أن الله تعالى ناقض نفسه فأحل لهم الغنائم والأسرى وعفا عنهم، ثم عاقبهم في أحُد! وأن النبي (صلی الله علیه و آله) بكى على ذنبه، ثم أصر عليه؟!

13- معنى: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض

معنى الإثخان في الأرض: الإثخان في قتل المشركين، وقد نهاهم النبي (صلی الله علیه و آله) بعد هزيمة المشركين أن يأخذوا أسرى قبل أن يثخنوهم قتلاً ويدمروا قوتهم القتالية، لكنهم أخذوا أسرى قبل ذلك طمعاً في فدائهم! فالتوبيخ في الآية لهؤلاء وليس للنبي (صلی الله علیه و آله) كما تصوره عمر وتبعه رواة الخلافة!

قال أبو الفتح الكراجكي (رحمة الله) في: التعجب من أغلاط العامة/88: «وهم الذين كفوا عن الإثخان في القتل يوم بدر وطمعوا في الغنائم حتى نزل فيهم: مَاكَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا..».

واختاره السيد الخوئي كما سيأتي. فلم يبق مكان لكثير مما رووه وقالوه!

14- أكذوبة: لو نزل العذاب ما نجى منه إلا ابن الخطاب!

أرادوا مدح عمر بن الخطاب فوضعوا على لسان النبي (صلی الله علیه و آله): «لو نزل العذاب لما نجا منه إلا ابن الخطاب»! ومعناه أن الجميع بمن فيهم النبي (صلی الله علیه و آله) كانوا في معرض العذاب الإلهي لأخذهم أسرى بدر وفدائهم، إلا عمر!

ومع أنهم اعترفوا بأنه حديث مكذوب، إلا أن علماءهم كانوا وما زالوا يستشهدون به ويصححونه عملياً! فهو كحديث: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» ينصون على أنه موضوع مكذوب، لكنهم يستشهدون به، في الفضائل، والعقائد، والفقه، والتفسير، وخطب المساجد!

قال السيوطي في الدر المنثور: 3/202: «عن ابن عمر قال... فأخذ رسول الله بقول أبي بكر ففاداهم رسول الله، فأنزل الله: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. فقال رسول الله: إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم ولو نزل العذاب ما أفلت إلا عمر».

ص: 740

وقال السرخسي في المبسوط: 10/139: «قال (صلی الله علیه و آله): لو نزل العذاب ما نجا منه إلا عمر، فإنه كان أشار بقتلهم»! وقال الغزالي في المستصفى/170: «حيث نزلت الآية على وفق رأي عمر: لو نزل بلاء من السماء ما نجا منه إلا عمر».

وفي تفسير ابن الجوزي: 3/258: «فلقي النبي عمر فقال: كاد يصيبنا في خلافك بلاء».

وقال الكاشاني في بدائع الصنائع: 7/119: «وأشار سيدنا عمر إلى القتل، فقال رسول الله: لو جاءت من السماء نار ما نجا إلا عمر»!

وقد تناقض الجصاص فقال في أحكام القرآن: 3/94: «يستحيل أن يكون الوعيد في قول قاله لرسول الله (صلی الله علیه و آله) لأنه: مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى. ومن الناس من يجيز ذلك على النبي (صلی الله علیه و آله) من طريق اجتهاد الرأي! ويجوز أيضاً أن يكون النبي أباح لهم أخذ الفداء، وكان ذلك معصية صغيرة! فعاتبه الله والمسلمين عليها»!

وحاول القرطبي في تفسيره: 8/45، إبعاد التوبيخ عن النبي (صلی الله علیه و آله) فجعله على الذين أمروه به، ثم جعله على الذين باشروا الحرب! ثم جعله على النبي (صلی الله علیه و آله)! واعتذر عنه بأنه انشغل عن الإثخان بالحرب وعن قتل الأسرى!

فانظر إلى هذا التناقض والتخبط والإصرار على تفضيل عمر على النبي (صلی الله علیه و آله)!

وسر القضية في أسرى بدر: تعصب عمر ضد الأنصار، لأنهم أخذوا زعماء قريش أسرى في بدر، ثم أطلقوهم بفدية وكانوا يَمُنُّون بذلك عليهم! فاضطغن ذلك القرشيون عليهم وتبعهم عمر، وحملوا مسؤوليته للنبي (صلی الله علیه و آله)!

ولم أجد من وافقنا من علمائهم في تبرئة النبي (صلی الله علیه و آله)، إلا قلة كالفخر الرازي حيث قال في المحصول: 6/15: «إذا جوزنا له (صلی الله علیه و آله) الاجتهاد فالحق عندنا أنه لا يجوز أن يخطئ، وقال قوم: يجوز بشرط أن لايقر عليه. لنا: أنا مأمورون باتباعه في الحكم لقوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ. فلو جاز عليه الخطأ لكنا مأمورين بالخطأ، وذلك ينافي كونه خطأ.

واحتج المخالف بقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ. وقال تعالى: في أسارى بدر: لَوْلاكِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِي مَا

ص: 741

أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. فقال عليه الصلاة والسلام: لو نزل عذاب من الله لما نجا إلا ابن الخطاب، وهذا يدل على أنه أخطأ في أخذ الفداء.

والجواب عن هذه الوجوه: في الكتاب الذي صنفناه في عصمة الأنبياء (علیهم السلام)».

ثم، إن عمر زعم أن العذاب نزل على النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمين في أحُد لأخذهم الفداء من قريش في بدر فهل نجا منه هو، وقد وصف نفسه فقال: «لما كان يوم أحد هزمناهم، ففررت حتى صعدت الجبل، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروى«عنزة جبلية» والناس يقولون قتل محمد»! ألا يكفيه من نزول العذاب الذي جعله على النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمين، أنه شمله قول الله تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَاْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. الأنفال 16.

ثم رأينا المشركين قرروا عدم قتله في أحد، فما هو السبب؟!

ففي سيرة ابن هشام: 2/282 والدر المنثور: 2/88: «وكان ضرار بن الخطاب لحق عمر بن الخطاب «وليس أخاه» يوم أحُد فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول: أنج يا ابن الخطاب. لا أقتلك»!

فهل كان عفوهم عنه في أحد يا ترى، بسبب تعصبه لهم ضد الأنصار!

15- أكذوبة مشاورة النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي بكر في العريش

اخترع أتباع أبي بكر وعمر دوراً لهما في العريش، أي في الخيمة مع النبي (صلی الله علیه و آله)، وزعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) استبقى أبابكر ليستشيره في إدارة المعركة!

قال ابن هشام: 2/457: «ثم عدَّل رسول الله (صلی الله علیه و آله) الصفوف ورجع إلى العريش فدخله ومعه فيه أبوبكر الصديق، ليس معه فيه غيره».

يقصد بذلك أن أبابكر لم يقاتل،لأنه كان يحرس النبي (صلی الله علیه و آله)، لكنهم رووا أن الأنصار كانوا يحرسونه (صلی الله علیه و آله) . ففي سيرة ابن هشام: 2/458: «وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) متوشحٌ السيف، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله (صلی الله علیه و آله) يخافون عليه كرة العدو».

ص: 742

ثم إنه من الثابت أن النبي (صلی الله علیه و آله) قاتل في بدر قتالاً شديداً ولم يكن معه أبوبكر ولا عمر، فأين كانا وقت القتال؟ قال علي (علیه السلام): «لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي (صلی الله علیه و آله) وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً»!

«مكارم الأخلاق للطبرسي/18». ورواه مجمع الزوائد: 9/12، بطرق وحسنه، وابن أبي شيبة: 7/578، تاريخ دمشق: 4/14، كنز العمال: 10/397 وقال إن الطبري صححه.

إذن لا بد من القول إن أبابكر كان مثل عمر يحفظ نفسه بالفرار إلى الصفوف الخلفية، فقد حدَّثَ عمرعن نفسه بأنه كان في أطراف المعركة فرأى العاص بن أبي أحيحة فهابه وهرب منه! قال لابنه سعيد بن العاص: «مالي أراك معرضاً كأني قتلت أباك؟ إني لم أقتله ولكن قتله أبو حسن! رأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه فإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ فهبته وزغت عنه! فقال: إلى أين يا ابن الخطاب! وصمد له علي فتناوله، فما رمت من مكاني حتى قتله!

فقال له علي: اللهم غفراً ذهب الشرك بما فيه ومحا الإسلام ما تقدم، فما لك تهيِّج الناس عليَّ؟ فكفَّ عمر. وقال سعيد: أما إنه ما كان يسرني أن يكون قاتل أبي غير ابن عمه علي بن أبي طالب». ابن هشام 2/464 وكشف الغمة 1/186.

فقد برأ عمر نفسه من قتل العاص، واعترف أنه هرب منه، فآيات الفرار إلى الصفوف الخلفية تشمله!

ومع ذلك ادعوا أنه وأبابكركانا في العريش! وغرضهم تفضيلهما على علي (علیه السلام) الذي تحمل نصف أعباء المعركة، وجندل بسيفه نصف قتلى بدر من طغاة قريش!

وقد أجابهم علماؤنا على ذلك، فقال الشريف المرتضى (رحمة الله) في الفصول المختارة/34: «إن المعتزلة والحشوية يدعون أن جلوس أبي بكر وعمر مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في العريش أفضل من جهاد أميرالمؤمنين (علیه السلام) بالسيف لأنهما كانا مع النبي في مستقره يدبران الأمر معه، ولولا أنهما أفضل الخلق عنده لما اختصهما بالجلوس معه..الى أن قال: فأما ما توهموه من أنه حبسهما للإستعانة برأيهما، فقد ثبت أنه كان

ص: 743

كاملاً وأنهما كانا ناقصين عن كماله، وكان معصوماً وكانا غير معصومين، وكان مؤيداً بالملائكة وكانا غير مؤيدين، وكان يوحى إليه وينزل القرآن عليه ولم يكونا كذلك، فأي فقر يحصل له مع ما وصفناه إليهما»!

وقال المفيد في الإفصاح/198: «ثم يقال لهم: خبرونا عن حبس رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبابكر وعمر عن القتال في يوم بدر لحاجة إلى مشورتهما عليه، وتدبيرهما الأمر معه أقلتم ذلك ظناً أو حدساً، أم قلتموه واعتمدتم فيه على اليقين؟فإن زعموا أنهم قالوا ذلك بالظن والحدس والترجيم، فكفاهم بذلك خزياً في مقالهم وشناعةً وقبحاً، وإن ادعوا العلم به والحجة فيه طولبوا بوجه البرهان عليه، وهل ذلك من وجه العقل أدركوه أم وجوه السمع والتوقيف؟! فلا يجدون شيئاً يتعلقون به من الوجهين جميعاً. ثم يقال لهم».

وقد واصل المتأخرون الإفتخار بما اخترعه أسلافهم وزادوا عليه! فجعل ابن تيمية أبابكر وعمر أشجع من علي (علیه السلام)! وأغمض عن فرارهما في بدر وأحد وخيبر وحنين وغيرها! قال في منهاجه: 8/86 و78: «فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد ومنه مايكون بالحجة والبيان والدعوة..وأبوبكر وعمر مقدمان في أنواع الجهاد غير قتال البدن! قال أبو محمد بن حزم: وجدناهم يحتجون بأن علياً كان أكثر الصحابة جهاداً وطعناً في الكفار وضرباً، والجهاد أفضل الأعمال. قال: وهذا خطأ لأن الجهاد ينقسم أقساماً ثلاثة: أحدها الدعاء إلى الله تعالى باللسان، والثاني الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير، والجهاد باليد في الطعن والضرب أقل مراتب الجهاد! ثم قال ابن تيمية: «وإذا كانت الشجاعة المطلوبة من الأئمة بشجاعة القلب، فلا ريب أن أبابكر كان أشجع من عمر وعمر أشجع من عثمان وعلي وطلحة والزبير، وهذا يعرفه من يعرف سيرهم وأخبارهم، فإن أبابكر باشر الأهوال التي كان يباشرها النبي من أول الإسلام إلى آخره، ولم يجبن ولم يحرج ولم يفشل، وكان يقدم على المخاوف يقي النبي (صلی الله علیه و آله) بنفسه يجاهد المشركين تارة بيده وتارة بلسانه وتارة بماله،وهو في ذلك كله مقدم!

وكان يوم بدر مع النبي (صلی الله علیه و آله) في العريش مع علمه بأن العدو يقصدون مكان رسول الله، وهو ثابت القلب ربيط الجأش يظاهر النبي ويعاونه. ولما قام النبي (صلی الله علیه و آله)

ص: 744

يدعو ربه ويستغيث ويقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذا العصابة لا تعبداللهم اللهم.. جعل أبوبكر يقول له: يا رسول الله هكذا مناشدتك ربك إنه سينجز لك ما وعدك! وهذا يدل على كمال يقين الصديق وثقته بوعد الله وثباته وشجاعته»! وكرره في مجموع فتاواه: 28/257.

وقد رد علماء الشيعة المعاصرون على هذر ابن تيمية وابن حزم!راجع الغدير: 7/200، محاضرات في الإعتقادات للسيد الميلاني: 1/324، دراسات في منهاج السنة/214، الصحيح من السيرة: 5/41 وقد شكك في أصل وجود العريش في بدر.

آيتان في الفرار إلى الصفوف الخلفية

لم ينقلوا فرار أحد من المسلمين في بدر، لكن نزلت آيتان في سورة الأنفال وهي سورة بدر، تنهيان عن الفرار من الزحف، فلا بد أنها تقصدان من فروا من الصفوف الأمامية إلى الخلفية.كما أنها تحذير من الفرار في المستقبل!

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلامُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَاْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 15-16.

وسيأتي بسند صحيح عندهم، أن أحد عشر صحابياً فيهم أبوبكر وعمر، شربوا الخمر بعد بدر، وتغنوا بالنوح على قتلى المشركين في بدر! فلا حول ولا قوة إلا بالله.

 

«تم المجلد الأول من السيرة النبوية عند أهل البیت (علیهم السلام)»

ص: 745

ص: 746

فهرس الموضوعات

مقدمة الطبعة الثانية .............................................................................................. 5

تمهيد ............................................................................................................. 7

أهمية السيرة النبوية.................................................................................................. 7

كانت الخلافة تحرق مصادر السيرة!................................................................................... 8

كنوزٌ من السيرة وعلوم الإسلام أحرقتها السلطة! ...................................................................... 9

القرآن مصدر للسيرة لكنهم ضيعوا أسباب نزوله!..................................................................... 12

شعر أبي طالب (علیه السلام) مصدر للسيرة .................................................................................... 13

أهل البيت (علیهم السلام) أدرى بسيرة جدهم (صلی الله علیه و آله) وأصدق.................................... 15

هدف الكتاب وفروقه عن السيرة الرسمية ............................................................................ 16

الفصل الأول/أول ما خلق الله نورالنبي (صلی الله علیه و آله) 23

1. عوالم وجودنا قبل هذا العالم .................................................................................... 23

2. خلق الله نور نبينا وآله (صلی الله علیه و آله) قبل هذا العالم...................................................................... 24

3. أحاديث خلق نور النبي (صلی الله علیه و آله) في مصادر السنيين ............................................................... 28

4. ملاحظات على أحاديث نور النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................................ 30

رواياتهم التي تحاول تحريف أحاديث النور......................................................................... 32

الفصل الثاني/جزيرة العرب في عصر النبي (صلی الله علیه و آله) 35

1. أحوال العرب في عصر النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................................... 35

1. كان للعرب دول ................................................................................................ 35

2. الحالة الإقتصادية للعرب ....................................................................................... 36

3. أديان العرب قبل الإسلام ...................................................................................... 36

4. كان العرب أميين ............................................................................................... 37

5. وكان العرب مجتمعاً محارباً ....................................................................................... 38

ص: 747

6. تكلم خمسة أنبياء بالعربية ....................................................................................... 38

7. إقرؤوا القرآن بألحان العرب ....................................................................................... 39

8. أوجب الإسلام على عرب البادية الهجرة .......................................................................... 40

9. الهجرة إلى طلب العلم ............................................................................................ 40

10 . العروبة باللغة وليست بالنسب ................................................................................... 40

11 . وجَّه الإسلام عصبية العرب إلى التعصب للخير ................................................................... 41

2. أعلن النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) سيد العرب!.......................................................................... 42

3. وصف جاهلية العرب ......................................................................................... 45

1. وصفها المغيرة بن شعبة لعامل كسرى ............................................................................. 45

2. و وصفها جعفر بن أبي طالب للنجاشي ............................................................................ 45

3. و وصف علي (علیه السلام) جاهلية العرب ................................................................................. 46

4. و وصفت الزهراء (علیها السلام) جاهلية العرب ............................................................................... 46

4. نشر كعب الأحبار أمنياته بهلاك العرب!........................................................................ 47

5. ردَّ أهل البيت (علیهم السلام) على فرية كعب عن العرب .................................................................. 48

6. زعموا أن العرب لا يكونون من الأبدال!......................................................................... 48

7. أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بظلم قريش لأهل بيته (علیهم السلام) .................................................................... 49

8. سينقذ الله العرب بيد أهل البيت (علیها السلام) ........................................................................... 51

9. تحذيرات النبي (صلی الله علیه و آله) للعرب من الطغيان ........................................................................ 54

10 . رفض الأئمة (علیهم السلام) تعصب العرب ضد الشعوب الأخرى ......................................................... 55

الفصل الثالث /اليهود في الجزيرة العربي ة 57

1. هاجر اليهود إلى الجزيرة ينتظرون النبي الموعود................................................................... 57

2. أخبر اليهود العرب بولادة النبي الموعود (صلی الله علیه و آله) ...................................................................... 59

3. سبب معاداة اليهود للنبي (صلی الله علیه و آله) أنه من بني إسماعيل!............................................................. 61

4. كتب النبي (صلی الله علیه و آله) عهدًا مع اليهود للتعايش...................................................................... 62

الفصل الرابع /مكانة الكعبة عند العر ب 64

1. بَّوَأ الله الكعبة لإبراهيم وذريته (علیهم السلام) وسماهم الأمة المسلمة ........................................................ 64

2. أولياء الكعبة هم إبراهيم وذريته المنصوص عليهم (علیهم السلام) ......................................................... 66

3. الإمامة عهد الله لإبراهيم و إسماعيل وبعض ذريتهما (علیهم السلام) ....................................................... 66

4. نصوص التوراة عن إسكان إبراهيم ذريته في مكة ............................................................... 67

5. وفرة أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) في الكعبة و إبراهيم و إسماعيل (علیهم السلام) ............................................... 69

6. عقيدة العرب بالكعبة......................................................................................... 70

7. أما الأ كاسرة الفرس فكان بعضهم يقدسون الكعبة ............................................................ 72

الفصل الخامس/آباء النبي (صلی الله علیه و آله) موحدون لكن السلطة كَفَّرتهم! 73

ص: 748

1. لماذا أصر «الخلفاء» على تكفير آباء النبي (صلی الله علیه و آله) ...................................................................... 73

2. تفرد مذهبنا بعقيدة إيمان آباء النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................................... 75

جَدَّا النبي (صلی الله علیه و آله) هاشم وعبد المطلب ................................................................................ 77

1. تفوُّق هاشم جد النبي (صلی الله علیه و آله) على قريش............................................................................ 77

2. أمية وهاشم يشبهان قابيل وهابيل ............................................................................... 78

3. عبد المطلب عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء (علیهم السلام) ................................................................ 81

4. ورَّث عبد المطلب بهاءه إلى أولاده!................................................................................ 82

5.آيات عبد المطلب (علیه السلام) في زمزم .................................................................................... 82

6. رؤيا عبد المطلب كرؤيا أشعيا النبي (علیهما السلام) ........................................................................... 84

7. شرح رؤيا عبد المطلب ........................................................................................... 87

8. آية عبد المطلب مع ثقيف.......................................................................................... 90

9. آيات عبد المطلب (علیه السلام) في غزو أبرهة للكعبة ........................................................................ 91

10 . عبد المطلب وأصحاب الفيل .................................................................................... 93

11 . تعاظم حسد قريش لعبد المطلب (علیه السلام) ........................................................................... 97

12 . أسس حلف الفضول لمنع الإعتداء على الحجاج................................................................. 98

13 . سن عبد المطلب سنناً فأجراها الله في الإسلام .................................................................. 102

14 . وهذا يكفي لمن كان له قلب!.................................................................................... 103

15 . عبد المطلب: إبراهيم الثاني...................................................................................... 103

16 . نذَر عبد المطلب (رحمة الله) أحد أبنائه قرباناً للكعبة! ................................................................... 103

17 . افتخر النبي (صلی الله علیه و آله) بجديه (علیهما السلام) فقال: أنا ابن الذبيحين.............................................................. 104

18 . الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق ............................................................................ 107

19 . النبي (صلی الله علیه و آله) وارث عبد المطلب..................................................................................... 109

20 . وكان عبد المطلب شاعراً، وكذا أبوطالب (صلی الله علیه و آله) ..................................................................... 114

21 . أولاد عبد المطلب عشرة، والعباس............................................................................... 115

الفصل السادس/والده عبدالله ووالدته آمنة (علیهما السلام) ومولده المبارك 118

1. قلة الروايات عن والدي النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................................ 118

2. تكريم خاص لوالدي النبي (صلی الله علیه و آله) وأسرته ........................................................................ 118

3. افتخر النبي (صلی الله علیه و آله) بأمه وجداته (علیهم السلام) ............................................................................. 119

4. عبدالله والد النبي (صلی الله علیه و آله) من كبار أولياء الله ...................................................................... 120

5. تزوج والد النبي (صلی الله علیه و آله) وهو في سنّ السابعة عشرة ................................................................. 120

6.خطب عبد المطلب لابنه عبدالله، وخطب لنفسه ............................................................... 121

7. حملت به أمه في منى في بيت أبيه عبد المطلب ................................................................ 123

8. المرأة التي عرضت نفسها على عبدالله ......................................................................... 123

9. توفي عبدالله في المدينة وهو شاب ............................................................................. 124

10 . ما ورثه النبي (صلی الله علیه و آله) من أبيه وأمه (علیهما السلام) ......................................................................... 124

11 . آمنة بنت وهب من كرائم العرب ............................................................................. 125

ص: 749

12 . تحدثت آمنة عن حملها برسول الله (صلی الله علیه و آله) ....................................................................... 125

13 . وِلد رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم الجمعة ............................................................................... 127

14 . بعض الآيات الربانية عند ولادته (صلی الله علیه و آله) ........................................................................ 129

15 . نسَبٌ طاهرٌ شامخٌ إلى إبراهيم وآدم (علیهم السلام) ...................................................................... 131

16 . رضاع النبي (صلی الله علیه و آله) من أمه آمنة (علیها السلام) ............................................................................ 133

17 . نشأته في البادية ورضاعه من حليمة ........................................................................ 135

18 . وفاؤه (صلی الله علیه و آله) لحليمة وأولادها ................................................................................... 137

19 . زيارة النبي (صلی الله علیه و آله) قبري والديه عبدالله وآمنة (صلی الله علیه و آله) ............................................... 138

20 . ظلم المسلمين لنبيهم في والديه (صلی الله علیه و آله)! ........................................................................ 139

21 . أم أيمن حاضنة النبي (صلی الله علیه و آله) وخادمة فاطمة (علیها السلام) ................................................................. 141

الفصل السابع /في كفالة جده الحنون، وبيت عمه الحنون (علیهم السلام) 149

1. في كفالة جده الحنون عبد المطلب ............................................................................. 149

2. استسقى به جده عبد المطلب فسقاهم الله تعالى ................................................................ 151

3. عاش صباه وشبابه في بيت عمه الحنون أبي طالب (علیه السلام) ....................................................... 152

4. واستسقى به عمه أبوطالب فسقاهم الله تعالى ................................................................. 154

5. حديث يَحبَِرا الراهب مع النبي (صلی الله علیه و آله) وعمه في الشام ............................................................. 157

6. شاعت نبوءة بحيرا عند العرب ................................................................................ 162

الفصل الثامن/زواجه (صلی الله علیه و آله) بخديجة (سلام الله علیها) 165

سبب زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بخديجة (علیها السلام) ................................................................................ 165

1. سمعت خديجة بكراماته (صلی الله علیه و آله) فخطبته ............................................................................ 165

2. خطب أبوطالب خديجة للنبي (صلی الله علیه و آله) .............................................................................. 166

3. وهبت خديجة كل أموالها إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ......................................................................... 167

4. وصار بيت خديجة (علیها السلام) بيت النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................................... 168

5. كان النبي (صلی الله علیه و آله) يمدح خديجة (علیها السلام) ................................................................................ 170

6. عائشة متهمة ولا تقبل شهادة المتَّهَم ............................................................................ 171

7. أحل الله لنبيه (صلی الله علیه و آله) من النساء ما شاء .......................................................................... 171

8. اشتهر وفاء النبي (صلی الله علیه و آله) لخديجة (علیها السلام) ............................................................................... 172

9. وكانت خديجة أماً لعلي (علیه السلام) ..................................................................................... 173

10 . عظموا أمر عائشة على باقي نساء النبي (صلی الله علیه و آله) ..................................................................... 173

11 . أنفق النبي (صلی الله علیه و آله) على المؤمنين من أموال خديجة (علیها السلام) ............................................................. 174

12 . كانت خديجة (علیها السلام) أجمل زوجات النبي (صلی الله علیه و آله) ...................................................................... 174

13 . بنات النبي (صلی الله علیه و آله) أم ربائبه؟ ..................................................................................... 174

الفصل التاسع /ولادة أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) 177

1. قالوا إن ولادة علي (علیه السلام) في الكعبة متواترة عندهم، ثم أنكروها!.................................................. 177

ص: 750

2. رواية يزيد بن قعنب .......................................................................................... 178

3. دلالة ولادة علي في الكعبة .................................................................................... 180

4.إسم علي و إسم حيدرة......................................................................................... 180

5. ولد علي (علیه السلام) قبل البعثة بعشر سنين........................................................................... 182

6. أخذ النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) وهو طفلٌ فرباه ليكون له عضدًا...................................................... 183

الفصل العاشر /مقدمات بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) 188

1. حكَّمَتْه قريش في وضع الحجر قبل بعثته (صلی الله علیه و آله) .................................................................. 188

2. قبل الأربعين كان (صلی الله علیه و آله) نبياً وكان يصلي معه علي وخديجة (علیهما السلام) ................................................. 189

3. وروى الجميع أنه صلى وعلياً سبعاً قبل الناس................................................................ 193

4. وروى الجميع ما يدل على نبوته (صلی الله علیه و آله) قبل رسالته!............................................................. 194

5. زعموا أن إسرافيل نزل عليه قبل جبرئيل....................................................................... 195

الفصل الحادي عشر /كيف بدأت بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) 197

1. رواية أهل البيت (علیهم السلام) عن البعثة وابتداء الوحي................................................................ 197

2. طامات عائشة التي تبنتها السلطة............................................................................. 200

3. الموقف الشرعي من رواية عائشة.............................................................................. 202

4. رووا نحو ما روينا، وأعرضوا عنه لأجل عائشة!................................................................. 204

الفصل الثاني عشر /المرحلة الأولى دعوة بني هاشم خاص ة 206

1. نزل خبر بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) كالصاعقة على زعماء قريش! ........................................................ 206

2. استمرت العاصفة ثلاث سنين حتى أهلك الله المستهزئين...................................................... 208

3. الإنجازات الرسولية في هذه المرحلة............................................................................. 209

4. معنى السرية في المرحلة الأولى للدعوة.......................................................................... 210

5. آية المستهزئين تكشف تخبط رواة السلطة وكذبهم! ............................................................ 211

6. تخبط الكتَّاب المعاصرين في مراحل الدعوة تبعاً لرواة السلطة................................................ 214

الفصل الثالث عشر/دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) عشيرته واستنفار قريش ضدهم 216

1.بعد بعثته أمره الله تعالى: وَأْنذِْر عَشِيرََتكَ الأَقْرَبِيَن ............................................................. 216

2.غَيَّبَتْ الحكومات حديث الدار ................................................................................ 217

3.خلافة علي (علیه السلام) كانت محسومة من أول البعثة................................................................. 220

4.النبأ العظيم وصية محمد (صلی الله علیه و آله) لابن عمه ........................................................................ 221

الفصل الرابع عشر/أبوطالب (علیه السلام) يوحد بني هاشم لحماية النبي (صلی الله علیه و آله) 225

1.أبوطالب يقف في وجه قريش بقوة ............................................................................. 225

2.وشذ أبولهب فحاول أبوطالب تحريك شهامته فقال:........................................................... 227

ص: 751

أبولهب يحاول اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله) .................................................................................... 228

هلك أبولهب بعد هز يمة قريش في بدر .............................................................................. 229

3- عرضوا على أبي طالب أن يأخذ شاباً بدل النبي (صلی الله علیه و آله)!.......................................................... 229

4. من هو عمارة الذي أرادوا أن يعطوه بدل النبي (صلی الله علیه و آله) ؟ ........................................................... 232

5- سورة المدثر تفضح رئيس المستهزئين الوليد بن المغيرة!........................................................ 233

6- أبوطالب يطلق لاميته في بلاد العرب ......................................................................... 235

7- ملاحظات حول لامية أبي طالب (رحمة الله) وشعره ................................................................... 245

الفصل الخامس عشر /الإسراء والمعراج 248

1- آيات الإسراء والمعراج.......................................................................................... 248

2- كان الإسراء والمعراج بالجسد والروح .......................................................................... 248

3- برنامجٌ رباني لإعداد النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................................ 249

4- عُرِج بالنبي (صلی الله علیه و آله) مئة وعشرين مرة! ........................................................................... 250

5- الإسراء والمعراج من عقائد الإسلام............................................................................. 251

6- هل المسجد الأقصى مسجد القدس أو البيت المعمور؟......................................................... 252

7- عَّلمه الله في المعراج علم ما يكون............................................................................. 254

8- كان الإسراء إلى المدينة وكوفان والطور وبيت المقدس ......................................................... 256

9- استنفر أبوطالب ليلة الإسراء لأنه افتقد النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................. 258

10- رأت قريش آيات المعراج فزادت كفرًا وعتوًا................................................................... 260

11- صفة البُراق الذي حمل النبي (صلی الله علیه و آله) في معراجه................................................................. 261

12- النبي (صلی الله علیه و آله) سيركب البراق يوم القيامة ....................................................................... 263

13- ركب إبراهيم (علیه السلام) البراق والمهدي (علیه السلام) سيركبه ................................................................ 264

14- قميص المعراج وقميص أحُد من ماريث الأنبيا (علیهم السلام) ........................................................... 264

15- معنى سدرة المنتهى.......................................................................................... 265

16- لم يرَ النبي (صلی الله علیه و آله) ربه بعینه بل رأى من آياته الكبرى.......................................................... 266

17- زعم أتباع السلطة أنه رأى ربه في داره شاباً أمرد! ............................................................ 268

18- أخذ الله ميثاق الأنبياء (علیهم السلام) للنبي وآله (صلی الله علیه و آله) ................................................................. 270

19- حديث النبي (صلی الله علیه و آله) مع ملك الموت (علیه السلام) ...................................................................... 273

20- آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون.................................................................... 274

21- كلم الله نبيه (صلی الله علیه و آله) في المعراج بصوت علي (علیه السلام) ................................................................ 275

22- أراه الله تعالى مكانة المؤمن عنده ........................................................................... 277

23- تشريع الصلاة في المعراج................................................................................... 277

24- ردَّ أهل البيت (علیهم السلام) مزاعم الآخرين في تشريع الأذان.......................................................... 280

25- أخبر الله تعالى نبيه (صلی الله علیه و آله) أنه سيمتحنه في ثلاث............................................................... 281

ص: 752

26- مكانة عترة النبي (صلی الله علیه و آله) ..................................................................................... 283

27- المزيد من أحاديث مقام النبي وآله (صلی الله علیه و آله) .................................................................... 286

28- رأى النبي (صلی الله علیه و آله) مستقبل أهل بيته (علیهم السلام) ...................................................................... 294

29- العنف واللامعقول والمكذوبات في أحاديث المعراج! ......................................................... 294

30- ربط النبي (صلی الله علیه و آله) البراق لئلا يهرب!............................................................................ 295

31- إمتحان للرسول (صلی الله علیه و آله) غير معقول!............................................................................ 295

32- أكذوبة شق صدر النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................................ 296

33- الأنبياء يصلون في قبورهم.................................................................................. 297

34- النساء المعلقات بأثدائهن! ................................................................................. 297

رواية وحيدة في مصادرنا ........................................................................................... 298

35- نماذج أخرى من رواياتهم المكذوبة في المعراج................................................................ 300

الفصل السادس عشر /أول من أسلم و أول من أعلن إسلامه 303

1- أول من أسلم وأعلن إسلامه: علٌّي وخديجة (علیهما السلام) .............................................................. 303

2- إسلام جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه........................................................................ 307

3- كان أبوطالب وحمزة يخفيان إسلامهما........................................................................ 310

4- زيد بن حارثة الذي اختار النبي (صلی الله علیه و آله) على أبيه!................................................................ 315

5- أبوذر الغفاري (رحمة الله) رابع المسلمين المعلنين إسلامهم............................................................. 316

6- إسلام عمرو بن عبسة السلمي أخ أبي ذر لأمه................................................................. 325

7- قالوا أبوبكر أول من أسلم وقال سعد أسلم بعد خمسين....................................................... 327

8- خامس المسلمين خالد بن سعيد بن العاص الأموي......................................................... 328

9- من أوائل المسلمين عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ........................................................ 339

10- إسلام عمار ووالديه ياسر وسمية رضي الله عنهم............................................................... 342

الفصل السابع عشر/ولادة الصديقة الزهراء (سلام الله علیها) وبقية أولاد النبي (صلی الله علیه و آله) 349

1- لم تتزوج خديجة (علیها السلام) قبل النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................................... 349

2- عدد أولاد النبي (صلی الله علیه و آله) .......................................................................................... 351

زينب وأم كلثوم ورقية: بنات، أم ربائب؟........................................................................... 352

مؤيدات لرأي السيد جعفر مرتضى.................................................................................. 352

حَصَرَ اللهُ ذرية نبيه (صلی الله علیه و آله) بفاطمة (علیها السلام) ............................................................................... 354

لكن النبي (صلی الله علیه و آله) يؤمن بالبداء ولا يحتم على ربه ...................................................................... 356

سورة الكوثر بشارة ربانية بالذرية الطاهرة .......................................................................... 357

3- سنة ولادة فاطمة الزهراء (علیها السلام) ................................................................................ 358

ولدت (علیها السلام) في العشرين من جمادى الثانية........................................................................... 359

فاطمة استثنائية لا تقاس بها امرأة.................................................................................. 361

عائشة تشهد بأن فاطمة (علیها السلام) أصدق الناس لهجة ................................................................. 363

ص: 753

كانت فاطمة (علیها السلام) تسكن مع أبيها في مكة والمدينة .................................................................. 363

غرفة فاطمة (علیها السلام) وبيتها في المدينة ................................................................................... 364

الفصل الثامن عشر /المرحلة الثانية، الدعوة العامة: فاصدع بما تؤمر 367

1- عدد سكان مكة وموقع قريش في العرب..................................................................... 367

2- رؤساء قريش عند بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................................ 368

3- قريش معدن فراعنة وأكثرهم حق عليهم القول! ............................................................. 371

4- فراعنة قريش أكثر من خمسة والمؤذُون للنبي (صلی الله علیه و آله) بالعشرات ................................................. 373

5- المستهزئون الخمسة عقبة أزاحها الله من طريق الدعوة!...................................................... 375

6- رئيس المستهزئين الوليد بن المغيرة ........................................................................... 377

7- إهلاك المستهزئين غيَّرَ ميزان القوة لصالح النبي (صلی الله علیه و آله) ......................................................... 384

الفصل التاسع عشر /تعذيب المسلمين في مكة 391

1. ملاحظات حول المعذبين لإسلامهم............................................................................ 391

2. أسماء المعذبين ................................................................................................ 394

الفصل العشرون /مكذوبات السلطة في دارالأرقم 398

من مكذوبات رواة السلطة في دار الأرقم......................................................................... 398

الفصل الحادي والعشرون /هجرة المسلمين إلى الحبشة 403

1. ملاحظات حول الهجرة ........................................................................................ 403

2. دور جعفر بن أبي طالب (رحمة الله) المميز في الحبشة..................................................................... 414

الفصل الثاني والعشرون /محاصرة قريش لبني هاشم في شعب أبي طالب 418

1. مؤتمر زعماء قريش لإجبار بني هاشم على تسليم النبي (صلی الله علیه و آله) ...................................................... 418

2. أعطونا ابنكم لنقتله، و إلا.. .................................................................................. 419

3. النبي (صلی الله علیه و آله) يخلد مكان المؤتمر وطغيان زعمائه ................................................................... 420

4. أبوطالب صُحيَِّن الشِّعْب ويحرس النبي (صلی الله علیه و آله)!................................................................... 422

5. بعد سنوات الحصار جاءت المعجزة الإلهية ..................................................................... 423

6. سنوات الحصار والشدائد على بني هاشم...................................................................... 423

7. أبوطالب يؤرخ بقصائده حصار الشعب ...................................................................... 426

8. رواة الخلافة جعلوا لؤم قريش نبلاً!............................................................................ 431

9. لك الله يا أباطالب!.......................................................................................... 433

10 . كذبة المليون أوقية ذهب وأخواتها!............................................................................ 434

11 . علي بن أبي طالب (علیه السلام) منكور الفضل كأبيه!.................................................................. 435

ص: 754

الفصل الثالث والعشرون /عام وفاة أبي طالب وخديجة (علیهما السلام): عام الحزن 437

1. أبوطالب (رحمة الله) يقود عملية كسر الحصار قبيل وفاته.............................................................. 437

2. أبوطالب يَودِّع حبيبه (صلی الله علیه و آله) ويوصيه بالهجرة إلى المدينة ......................................................... 439

3. عَمجََ بني هاشم قبل وفاته وأوصاهم بالنبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................ 441

4. وصََلتْكَ رحِمٌ يا عَمّ وجزاك الله عني خيرًا....................................................................... 441

5. وفاة خديجة وأبي طالب (علیهما السلام) قبل الهجرة بسنتين وكسر ......................................................... 443

6. سماه رسول الله (صلی الله علیه و آله): عام الحزن!................................................................................ 444

7. هاجمت قريش النبي (صلی الله علیه و آله) مرات لتقتله فخابت! ............................................................... 445

8. دفنها النبي (صلی الله علیه و آله) في مقبرة المعلا بالحجون ....................................................................... 446

9. الوهابيون انتقموا من خديجة!................................................................................. 447

10 . وانتقم القرشيون من أبي طالب (رحمة الله) بعد موته! .................................................................. 447

11 . معنى شفاعة النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي طالب (رحمة الله) ......................................................................... 450

12 . سافر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى الطائف وطلب حماية ثقيف............................................................... 451

13 . دعاء النبي (صلی الله علیه و آله) في الطائف................................................................................... 453

كان علي (علیه السلام) وزيد مع النبي (صلی الله علیه و آله) في سفره إلى الطائف ............................................................. 453

14 . طلب النبي (صلی الله علیه و آله) الجوار من مطعم لكسر قرار قريش............................................................ 453

15 . لم يتزوج النبي (صلی الله علیه و آله) في مكة بعد خديجة (علیها السلام) .................................................................. 457

16 . أرسله الله تعالى إلى الإنس والجن............................................................................. 458

الفصل الرابع والعشرون/النبي (صلی الله علیه و آله) يعرض نفسه على القبائل لحمايته من قريش 460

1- بدأ (صلی الله علیه و آله) يعرض نفسه على القبائل من السنة الرابعة............................................................ 460

2- استمرت مفاوضة النبي (صلی الله علیه و آله) مع الأنصار بضع سنين.......................................................... 468

الفصل الخامس والعشرون /النبي (صلی الله علیه و آله) يأخذ البيعة من الأنصار استعدادًا للهجر ة 478

النبي (صلی الله علیه و آله) ُيكَّوِن قاعدة لدعوته في المدينة........................................................................ 478

الفصل السادس والعشرون /خطة قريش المبرمة لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) 483

1- قريش تستنفر لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) بعد بيعة الأنصار .............................................................. 483

2- مبيت علي (علیه السلام) في فراش النبي (صلی الله علیه و آله) يفديه بنفسه.............................................................. 488

آية مبيت علي (علیه السلام) على فراش النبي (صلی الله علیه و آله) .......................................................................... 494

الفصل السابع والعشرون /هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة 498

1- أحكمت قريش خطتها لقتله فنصره الله....................................................................... 498

2- استنفرت قريش في طلب النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................................... 499

3- رفقاء النبي (صلی الله علیه و آله) في الهجرة....................................................................................... 500

ص: 755

4- سراقة بن جشعم يحاول قتل النبي (صلی الله علیه و آله) أو أسره................................................................. 504

5- لماذا أخذ النبي (صلی الله علیه و آله) أبابكر معه................................................................................. 506

بكى أبوبكر لما جاء سُراقة! ......................................................................................... 506

6. ليس في آية الغار مدحٌ لأبي بكر................................................................................ 507

7. كذبة ذات النطاقيَن........................................................................................... 511

8. النبي (صلی الله علیه و آله) في ضيافة أم معبد .................................................................................. 512

9. وصول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة.................................................................................... 513

10 . نزل النبي (صلی الله علیه و آله) في قباء وهي ضاحية المدينة.................................................................... 516

11 . نشيد أهل المدينة: طَلعَ البدُر علينا........................................................................... 518

12 . ترك أبوبكر النبي (صلی الله علیه و آله) بقباء وذهب غاضباً!.................................................................... 519

13 . إسلام سلمان الفارسي في قباء ............................................................................... 520

14 . من مناقب سلمان الفارسي (رحمة الله) ............................................................................... 522

الفصل الثامن والعشرون/الهجرة العلنية الوحيدة: هجرة علي (علیه السلام) 526

1- علي (علیه السلام) يؤدي أمانات النبي (صلی الله علیه و آله) جهارًا في مكة ............................................................... 526

2- علي (علیه السلام) يتحدى قريشاً ويعلن عزمه على الهجرة! ............................................................. 527

3- قريش تدبر محاولة لاغتيال علي (علیه السلام) قبل هجرته............................................................... 527

4- واخترعت قريش مكيدة مالية لعلي (علیه السلام) قبل هجرته .......................................................... 528

5- انتظر النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) في قباء وكتب اليه وطمأنه........................................................... 529

6- علي (علیه السلام) يدوس غطرسة قريش ............................................................................... 529

7- فاطمة بنت أسد أول مسلمة هاجرت مشياً .................................................................. 530

8- ونزلت آيات القرآن تصف علياً (علیه السلام) والفواطم في طريق الهجرة ................................................. 531

9- بخلت السلطة برواية هجرة أميرالمؤمنين (علیه السلام) .................................................................. 532

10- سرقوا مناقب علي (علیه السلام) وأعطوها لعمر!....................................................................... 533

الفصل التاسع والعشرون /أبو أيوب الأنصاري اختاره الله لضيافة رسوله (صلی الله علیه و آله) 535

أبو أيوب الأنصاري، خالد بن زيد................................................................................ 535

الفصل الثلاثون/النبي (صلی الله علیه و آله) يؤسس مسجد قباء 547

1- مسجد قباء: أول مسجد أسس على التقوى................................................................... 547

2- مسجد الضرار خطة رومية ضد النبي (صلی الله علیه و آله)! ................................................................... 548

3- أبو عامر الراهب الفاسق مندوب هرقل........................................................................ 549

4- حنظلة بن أبي عامر الفاسق وابنه عبدالله!.................................................................... 550

ص: 756

الفصل الحادي والثلاثون/فريضة الهجرة وحقوق المهاجرين في الإسلام 552

1- أمر النبي (صلی الله علیه و آله) جميع المسلمين بالهجرة........................................................................... 552

2- جعل الله الهجرة ميزاناً للإيمان والحقوق ........................................................................ 553

3- القيمة الشرعية لإجماع المهاجرین والأنصار................................................................... 556

4- من أعمال السلطة لتحريف الهجرة ومصادرتها................................................................ 557

الفصل الثاني والثلاثون/القرآن المكي والمدني 561

1- قياسهم القرآن بكتب البشر!.................................................................................. 561

2- هَزَّت آيات القرآن وجدان العرب وعقولهم...................................................................... 562

3- أكذوبة احتباس الوحي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) .................................................................... 564

الفصل الثالث والثلاثون/بعض صفات النبي وأخلاقه ومعجزاته (صلی الله علیه و آله) 568

1- من وصف أميرالمؤمنين (علیه السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله) .................................................................... 568

2- من وصف بقية الأئمة (علیهم السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ..................................................................... 570

3- حديث الإمام الحسن (علیه السلام) في صفة النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................. 573

4- حديث الإمام الكاظم (علیه السلام) في معجزات النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................. 577

أسماء النبي (صلی الله علیه و آله) وألقابه........................................................................................... 586

الفصل الرابع والثلاثون/المدينة عند هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) 588

1. النبي (صلی الله علیه و آله) يدخل عاصمته ويؤسس المسجد النبوي............................................................ 588

2. المدينة واحاتٌ زراعية سكنها العرب اليمانيون................................................................ 593

3. عدد سكان المدينة عند هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) ....................................................................... 594

4. عدد المسلمين المهاجرين إلى المدينة........................................................................... 595

5. كيف تم إسكان المسلمين المهاجرين في المدينة................................................................ 595

6. الوضع السياسي العالمي عند تأسيس النبي (صلی الله علیه و آله) لدولته ........................................................ 598

الفصل الخامس والثلاثون/النبي (صلی الله علیه و آله) يرسي أسس الدولة الإسلامية 600

1- آخى النبي (صلی الله علیه و آله) بين المسلمين، واتخذ علياً (علیه السلام) أخاً له........................................................... 600

أسماء الذين آخى بينهم النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................................. 602

2- النبي (صلی الله علیه و آله) يرسي ميثاق الدولة الإسلامية ويحدد دستورها....................................................... 607

أ. التعاقد بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين المسلمين......................................................................... 608

ب. التعاقد لتحديد إقليم الدولة ومكان المجتمع الجديد............................................................. 608

ج. التعاقد مع أتباع الديانات المقيمين في المدينة ................................................................... 609

د. تكييف هذا العقد ............................................................................................... 610

ه. الخطوط العريضة لهذا الملحق أو العقد التنظيمي ................................................................. 610

3. هل كانت حروب النبي (صلی الله علیه و آله) دفاعية أم هجومية؟ .............................................................. 612

ص: 757

4- حقائق غابت عن ا تَّهُلممين والمدافعين ....................................................................... 613

5- أذن الله لرسوله (صلی الله علیه و آله) بقتال المشركين............................................................................ 615

الفصل السادس والثلاثون/زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بعد وفاة خديجة (سلام الله علیها) 618

لم يتزوج النبي (صلی الله علیه و آله) على خديجة وتزوج بعد هجرته ................................................................. 618

أم سَلمة أفضل أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) بعد خديجة (علیها السلام) .................................................................. 620

خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) لأم سلمة ......................................................................................... 621

أمينة النبي (صلی الله علیه و آله) وعترته (علیهم السلام) ....................................................................................... 622

طلب معاوية شهادتها بإمامة علي (علیه السلام) ............................................................................ 625

من امتيازاتها على نساء النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................................. 626

أذى نساء النبي (صلی الله علیه و آله) لأم سلمة!..................................................................................... 629

أم سلمة عند وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................................................ 630

أدانت أم سلمة أهل السقيفة ...................................................................................... 631

نصيحة أم سلمة لعائشة أن لاتعصي النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................... 633

لماذا لايسمون أم سلمة: أم المؤمنين؟.............................................................................. 636

أولاد أم سلمة ..................................................................................................... 637

سودة بنت زمعة أول زوجات النبي (صلی الله علیه و آله) بعد خديجة (علیها السلام) ......................................................... 638

الفصل السابع والثلاثون/زواج علي و فاطمة (علیهما السلام) 642

1- خَطَ اَهب كبار الصحابة فردهم النبي (صلی الله علیه و آله)!...................................................................... 642

2- تولى الله أمر فاطمة (علیها السلام) دون أبيها (صلی الله علیه و آله) ....................................................................... 643

3- عرس الزهراء (علیها السلام) أعظم عرس في تاريخ الأنبياء (علیهم السلام) ......................................................... 644

4. أيها الرسول: زوج النور من النور............................................................................... 645

5. خطبة علي (علیه السلام) الرسمية وجواب النبي (صلی الله علیه و آله) ..................................................................... 646

6. عرس فاطمة (علیها السلام) في السماء................................................................................. 647

7. تهيئة النبي (صلی الله علیه و آله) منزل فاطمة وعلي (علیهما السلام) ....................................................................... 649

8. وصف أثاث بيت فاطمة (علیها السلام) ................................................................................ 649

9. أفخم الأعراس عرس فاطمة (علیها السلام) .............................................................................. 650

10 . وليمة الزفاف بعد شهر من العقد ............................................................................. 650

11 . تزيين النساء لفاطمة (علیها السلام) ................................................................................... 652

12 . مراسم زفاف فاطمة لعلي (علیهما السلام) ............................................................................... 652

13 . صديقات أمها (علیها السلام) حضرن عرسها........................................................................... 655

14 . ولادة الإمام الحسن (علیه السلام) ....................................................................................... 655

15 . ولادة الإمام الحسين (علیه السلام) ..................................................................................... 658

ص: 758

الفصل الثامن والثلاثون/هدف سرايا النبي (صلی الله علیه و آله) وحروبه 660

1- عدد سرايا النبي (صلی الله علیه و آله) وغزواته وحروبه، وهدفها................................................................. 660

2- معجزة إنشاء الأمة والمد الحضاري! .......................................................................... 662

3- سرايا النبي (صلی الله علیه و آله) وغزواته قبل بدر ............................................................................. 662

4- مشروعية سياسة النبي (صلی الله علیه و آله) في السرايا و الغزوات ............................................................ 665

الفصل التاسع والثلاثون/معركة بدر.. يوم الفرقان 669

1- معالم معركة بدر ونتائجها .................................................................................... 669

1. موقع بدر ....................................................................................................... 669

2. كانت مدة المعركة نصف نهار ................................................................................... 669

3. وعد الله المسلمين بالنصر في بدر ............................................................................... 670

4. عدد أهل بدر مقدس، وليس كل البدريين مقدسين ............................................................ 671

5. كان عدد المشركين تسع مئة وخمسون .......................................................................... 672

6. نزل الملائكة في بدر ومعهم جبرئيل (علیه السلام) .......................................................................... 674

7. وكان الشيطان في معركة بدر.................................................................................... 675

8. كان شعار المسلمين في بدر: يا نصر الله اقترب اقترب .......................................................... 676

2. معركة بدر فرقانٌ في تكوين الأمة الإسلامية................................................................... 677

1. حدد الله هدف معركة بدر ..................................................................................... 677

2. سمى الله بدراً يوم الفرقان ...................................................................................... 678

3. بدر فرقانٌ في تكو ين شيعة العترة .............................................................................. 679

4. كان تشريع الخمس قبل بدر .................................................................................... 680

3- خلاصة معركة بدر .......................................................................................... 681

1. يُسَاقُونَ إلی الْمَوْتِ! ............................................................................................. 681

2. منام عاتكة بنت عبد المطلب................................................................................... 682

3. أثرياء قريش يمولون الحرب.................................................................................... 683

4. جيش النبي (صلی الله علیه و آله) المتواضع الفقير................................................................................ 683

5. عقلاء من بني عبدمناف ضد الحرب، لكن! ................................................................... 685

6. خاف المسلمون من جيش قريش! ............................................................................ 686

7. وخاف المشركون من المسلمين! ................................................................................ 686

8. وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ................................................................................. 687

9. أطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم.............................................................................. 688

10 . أبوجهل ينصح قريشاً!.......................................................................................... 690

11 . شاهت الوجوه!................................................................................................. 690

12 .أسرى من بني هاشم............................................................................................ 691

13 . الرحيل من بدر إلى المدينة..................................................................................... 692

4- أضواء من سيرة النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر .............................................................................. 694

1. رسالة أبي جهل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) .................................................................................... 694

2. سَیُهزَمُ الجَمعُ وَیُوَلُّونَ الدُّبُرَ....................................................................................... 696

ص: 759

3. من أدعية النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر وغيرها............................................................................ 697

4. وعطش النبي (صلی الله علیه و آله) فاستقى لهم علي (علیه السلام) ....................................................................... 698

5.كانت وقعة بدر يوم جمعة ....................................................................................... 699

6. خاطب النبي (صلی الله علیه و آله) فراعنة المشركين............................................................................... 700

7.أبوجهل فرعون الفراعنة ......................................................................................... 700

8. أبو حذيفة بن عتبة وابنه محمد.................................................................................. 701

9. وخاطب علي (علیه السلام) طلحة في البصرة وقاضي القضاة............................................................. 702

10 . أفطر النبي (صلی الله علیه و آله) وخالفه بعضهم فسماهم العصاة ................................................................ 702

5.أضواء من سيرة علي (علیه السلام) في بدر ............................................................................... 703

1. أحس علي (علیه السلام) بالملائكة وسلموا عليه.......................................................................... 703

2.علمه الخضر (علیهما السلام) دعاء قبل بدر................................................................................. 704

3. بدر أول معركة خاضها علي (علیه السلام) ................................................................................ 704

4. سطع نجم علي (علیه السلام) في بدر ...................................................................................... 705

5. يقاتل ثم يعود ليطمئن على النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................................... 708

6. مدحه النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر ورفع بيده.............................................................................. 709

7. وكان معه جبرئيل وميكائيل وعزرائيل (علیهم السلام) ...................................................................... 709

8.كانت بدر ثالث امتحان لأميرالمؤمنين (علیه السلام) ........................................................................ 710

9. نزل جبرئيل بذي الفقار على النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر ................................................................ 712

10 . غُلُوُّ السُّلطة في الصَّحابة البدريين، غَيْر علي ................................................................... 721

6. منافقون تحمسوا للقتال في مكة ونكصوا في بدر!............................................................. 722

7. مرضى القلوب «مكيون بدريون!» ........................................................................... 724

8. «صحابة» اتهموا النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه غلَّ......................................................................... 728

9. سبب تعمد «الخلافة» الغلو في أهل بدر؟ ..................................................................... 730

10. التعجب من أغلاط العامة في الصحابة!.................................................................... 731

11. ماذا قال الشيخان لما استشارهم النبي (صلی الله علیه و آله) بشأن بدر؟....................................................... 735

12. افتراؤهم على النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه أخطأ وأصاب عمر! ............................................................ 738

13. معنى: حَتى يثْخِنَ فی الأرض ............................................................................... 740

14. أكذوبة: لو نزل العذاب ما نجی منه إلا ابن الخطاب!....................................................... 740

15. أكذوبة مشاورة النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي بكر في العريش................................................................ 742

آيتان في الفرار إلى الصفوف الخلفية ............................................................................. 745

ص: 760

المجلد 2

هویة الکتاب

شابک: 9786006612881

شماره کتابشناسی ملی: 4793168

عنوان و نام پدیدآور: السیرة النبویه عند اهل البیت علیهم السلام/ علی الکورانی العاملی.

مشخصات نشر: قم: دار النشر المعروف، 1438 ق.= 2017 م.= 1396.

مشخصات ظاهری: 2 ج. / یادداشت: عربی.

یادداشت: چاپ دوم. / یادداشت: ج. 2 (چاپ دوم: 1438 ق. = 2017 م.).

یادداشت: کتاب حاضر اولین بار در سال 1388 تحت عنوان «جواهرالتاریخ: السیرةالنبویه عند اهل البیت(ع)» توسط انتشارات باقیات منتشر شده است.

عنوان دیگر: جواهرالتاریخ: السیرةالنبویه عند اهل البیت(ع).

موضوع: محمد(ص)، پیامبر اسلام، 53 قبل از هجرت- 11 ق. / موضوع: 632 .Muhammad, Prophet, d

موضوع: سنت نبوی/ موضوع: * Wonts of the Prophet

موضوع: اسلام -- تاریخ -- از آغاز تا 11 ق/ موضوع: 632 Islam -- History -- To

رده بندی دیویی: 93 / 297

رده بندی کنگره: 1396 9ج 9ک / 46 / BP24

سرشناسه: کورانی، علی، 1944 - م. Kurani,Ali

وضعیت فهرست نویسی: فیپا

السيرة النبوية عند أهل البيت علیهم السلام (2)

المؤلف: علي الکَوراني

الناشر: دارالمعروف، قم المقدّسة.

الطبعة: الأولی.

تاریخ النشر: ذيقعدة 1438 ه.ق - July 2017

المطبعة: باقری - قم المقدّسة.

عدد المطبوع: 3000 نسخة.

شابک: 1- 88 - 6612 - 600 - 978

دار المعروف

للطباعة و النشر

مرکز النشر والتوزیع:

إيران - قم المقدّسة - شارع مصلّی القدس - رقم الدّار: 682 . ص-ب: 158 - 37156 تلفون: 32926175 25 (0)0098

جمیع الحقوق محفوظة ومسجلة للمؤلف

www.maroof.org

Email: nashremaroof@gmail.com

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

السيرة النبوية عند أهل البيت علیهم السلام

علی الکورانی العاملی

المجلد الثانی

الطبعة الثانية- منقحة ومزيدة

2017-1438

دارالمعروف

ص: 3

ص: 4

الفصل الأربعون: سورة الأنفال سورة بدر

الأنفال فضحت كثيراً من الصحابة البدريين!

اتفق الرواة على أن سورة الأنفال نزلت بعد معركة بدر، وهي خمس وسبعون آية. وأكثر آياتها في شأن بدر، وموقف الإسلام من قريش، وتوجيه المسلمين في جوانب من الحرب والسلم، وتشريع الخمس لآل النبي (صلی الله علیه و آله).

قال سعيد بن جبير: «قلت لابن عباس: سورة التوبة؟ قال: التوبة، بل هي الفاضحة! ما زالت تنزل ومنهم ومنهم. حتى ظنوا أن لا يبقى منا أحد إلا ذكر فيها! قلت: سورة الأنفال؟ قال: تلك سورة بدر. قلت: فالحشر؟قال: نزلت في بني النضير». مسلم: 8/245.

وقد تقدمت بعض آيات السورة، وهذا نصها مع شرح مختصر لمضمون الآيات:

إختلافهم على الغنائم

1. يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.1.

بدأت السورة حديثها عن أكبر معركة في تاريخ الإسلام، باختلاف المسلمين على الغنائم! لتقول لهم أيها المسلمون إن مشكلتكم الطمع بالماديات فانتبهوا!

ص: 5

المؤمنون حقاً لا يختلفون على غنائم!

2. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. أَلَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.2-4.

عرَّضت هذه الآيات بقسم من الصحابة البدريين، فمدحت المؤمنين حقاً الذين لايختلفون على غنائم، لأنهم أصحاب إيمان عميق، ووصفتهم بأنهم ينفقون مما رزقهم الله، لأنهم ينتظرون مغفرته ورزقه في الآخرة!

صحابة يجادلون نبيهم وكأنهم يساقون إلى الموت!

3. كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ. 5-8.

ثم وبَّخهم عزوجل بتذكيرهم كيف أخرج نبيه (صلی الله علیه و آله) من بيته بالحق، وقسم منهم خائفون يجادلون النبي (صلی الله علیه و آله) بالباطل، لأنه طرح عليهم احتمال الحرب وهم يريدون القافلة دون الحرب! فكانوا كمن يساقون إلى الموت سوقاً رغماً عنهم!

الإمداد الإلهي للمسلمين في بدر

4. إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ. إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبوُا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ. ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ. 9-14.

ذكرت الآيات خوف المسلمين واستغاثتهم بربهم عندما واجهوا جيش قريش،

ص: 6

وكيف استجاب الله تعالى لهم وأمدهم بأنواع من المدد الغيبي، المعنوي والمادي المنظور وغير المنظور. وجعلت استغاثة النبي (صلی الله علیه و آله) استغاثتهم، والإستجابة لنبيه (صلی الله علیه و آله) استجابة لاستغاثة المسلمين.

الفرار إلى الصفوف الخلفية كالفرار من المعركة

5.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلامُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَاْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.15-16.

وهذا أمرٌ مشددٌ بأن لايفروا في المعركة، وتهديدٌ لهم وتعريض بهم! ولم يُنقل فرار أحد منهم في بدر إلى خارج المعركة، فلا بد أنها تقصد فرارهم من الصفوف الأمامية إلى الخلفية، كما حدث عمر عن نفسه لما رأى العاص بن سعيد.

وتقدم قوله «ابن هشام: 2/464».«رأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه فإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ فهبته وزغت عنه! فقال: إلى أين يا ابن الخطاب! وصمد له علي فتناوله، فما رمت من مكاني حتى قتله»!

وهذا اعتراف بالفرار من الزحف!

قاتلَ النبي (صلی الله علیه و آله) ورمى المشركين بكف حصى

6. فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْليَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ.

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَخَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. 17-19.

أخبر الله عزوجل بأنه هو طرف المعركة، وهو الذي قتل المشركين، وهو الذي رمى بيد النبي (صلی الله علیه و آله)، وهو الذي أجرى المعركة على يد المؤمنين ليمتحنهم ويجزيهم جزاء حسناً. وخاطب الكفار ودعاهم إلى التوبة، وتوعدهم إن

عادوا بالهزيمة.

ص: 7

أمر الله المسلمين بطاعة الرسول (صلی الله علیه و آله) وذكرهم بنعمه عليهم

7. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. 20 -26.

ثم أكد عزوجل على حقيقة إيمانية عملية هي طاعة المؤمنين لنبيهم (صلی الله علیه و آله) طاعة كاملة، وفيه تعريض بالذين جادلوه بعد وضوح الأمر، خوفاً من المعركة، ثم لم يطيعوه واختلفوا في الغنيمة! وحذرهم من أن مخالفة النبي (صلی الله علیه و آله) ظلمٌ ينتج عنه فتنة لاتختص بفاعلها، فعليهم نهيه عن المنكر. ثم ذكَّرهم عزوجل بنعمته عليهم وأنه هيأ لهم المدينة موطناً ومأمناً وقاعدة، وأنعم عليهم بنصره ورزقه.

وحذرهم من خيانة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وخيانة أنفسهم

8. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًاوَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.27-29.

ثم حذرهم الله عزوجل من نوعين من الخيانة، خيانة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) بمخالفة أوامره. وخيانة أماناتهم بالتعدي على ما اؤتمن عليه أحدهم من حقوق الآخرين وأموالهم. وقد حدث ذلك في بدر ففي الطريق خان بعضهم الله ورسوله بجدلهم النبي (صلی الله علیه و آله) متعمدين! وفي بدر اتهموه (صلی الله علیه و آله) بأنه غلَّ وأخفى قطيفة من الغنائم فبرأه الله! وبعضهم خان الأمانة وغلَّ! وتحدثت الآية الثانية عن نعمة الفرقان بين الخير والشر والخطأ والصواب، كما كانت بدر فرقاناً ميزت بين المسلمين والمشركين.

ص: 8

وذكَّر قريشاً بتآمرهم على الرسول (صلی الله علیه و آله) وعملهم لقتله

9. وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ. وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَلِينَ. وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَالْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. 30-35.

وهذه الفقرة في تكذيب قريش للنبي (صلی الله علیه و آله) وتآمرهم عليه لقتله أو نفيه من مكة! وهي تؤكد أنهم فقدوا المنطق السَّلِيم بسبب تكبرهم، فطلبوا من الله أن يقتلهم بحجارة من السماء إن كان محمد (صلی الله علیه و آله) صادقاً! وهي حالة من العناد وعبادة الذات تجعل صاحبها عدوانياً وتعميه عن الإيمان! وتعميهم حتى عن الإيمان بالكعبة التي يعيشون ببركتها، ولذلك استحقوا العذاب الإلهي!

وذكَّر قريشاً بتآمرهم ضد الإسلام وهددهم

10. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ. لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ. قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَلِينَ. وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِير. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ. 36 -40.

خصص الله هذه الفقرة لنشاط القرشيين ومن وراءهم، وإنفاقهم الأموال لعداء النبي (صلی الله علیه و آله)، وأخبر أنهم سيغلبون في هذا الصراع لأنه إرادة ربانية لفرز الأخيار من الأشرار. وأنذرهم بالهزيمة إن واصلوا معاركهم مع النبي (صلی الله علیه و آله)،

ص: 9

وأطمعهم بالعفو عما أسلفوا إن انتهوا، وأمر المسلمين بمواصلة قتالهم حتى يخمدوا فتنتهم ويزيحوهم من طريق انتشار الإسلام.

وشرَّع الله فريضة الخمس لبني هاشم لأنهم أسسوا الأمة والدولة

11. وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئٍْ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ. إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِز. وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمور. 41-44.

يقول الله بذلك للمسلمين: أيها المختلفون على الغنائم، المتهمون لنبيهم (صلی الله علیه و آله) بأنه سرق منها! إنكم مدينون بانتصاركم لمحمد (صلی الله علیه و آله) وقرابته:، فاعلموا أن لهم خمس ما غنمتم إن كنتم مؤمنين بالله تعالى وما عاينتم من فعله! ألا ترون أن الله خطط ووقت وأدار المعركة، ونصركم عليهم وحسم المعركة بالملائكة وبني هاشم، فلولاهم لما كنتم أمة ولا دولة؟ فأدوا اليهم المالية التي خصهم الله بها!

وأمر المسلمين بالثبات في الحرب وأن لا يبطروا كالمشركين

12. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِي مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاتَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ. 45-48.

أكدت الفقرة على خمسة أحكام وقواعد في الحرب: وجوب الثبات وحرمة الفرار، وذكر الله كثيراً في الحرب، وطاعة الرسول، والمحافظة على وحدة الجبهة الداخلية

ص: 10

وحرمة التنازع والإختلاف، وعدم الإعتداد بالنفس والبطر كحالة قريش في بدر، التي غشها الشيطان فأساءت تقدير المعركة وانهزمت!

وحذرهم من المنافقين ومرضى القلوب في داخلهم

13. إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.«49». وهذه الآية ذكرت المسلمين بموقف المنافقين، ومرضى القلوب وهم أخطر المنافقين! فهؤلاء كانوا يتوقعون هزيمة المسلمين أمام قريش لأنها برأيهم أكثر وأقوى، ويصفون المؤمنين بأنهم مغرورون بدينهم ووعد نبيهم! ومعنى الآية: واذكروا إذ يقول هذان النوعان منكم إنكم مغرورون، فهم لضعف إيمانهم يرون التوكل على الله والإيمان بوعده غروراً، مع أنه

إيمان ويقين!

وحذرهم من عاقبة أعداء الرسل (علیهم السلام)

14. وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ. كَدَاْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. كَدَأبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ.50-54.

صوَّرت هذه الفقرة حالة الكفار عند الموت وفي الآخرة، وذكرتهم بأنهم تجري عليهم سنة الله في عقوبة المكذبين للرسل، كآل فرعون ومن قبلهم، الذين انطبقت عليهم قاعدة تغيير النعم وسلبها، بسبب كفرانها وتغير أنفس أصحابها!

ونبه المسلمين إلى شرالدواب الخائنين

15. إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لايُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لايَتَّقُونَ. فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ

ص: 11

يَذَّكَّرُونَ. وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لايُحِبُّ الْخَائِنِينَ. 55-58.

أنذرت هذه الفقرة الفئات اليهودية والقبائل التي عقد معها النبي (صلی الله علیه و آله) معاهدات تعايش وعدم اعتداء، ثم نقض بعضهم عهده واعتدى على المسلمين. وأمرت النبي (صلی الله علیه و آله) بمعالجة وضعهم والمبادرة إلى حربهم إن رأى بوادر الخيانة.

وعَلَّم المسلمين قواعد التعامل مع أعدائهم

16. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لايُعْجِزُونَ. وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَاللهِ وَعَدُوَكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَئٍْ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَالسَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.59-66.

وهنا أنذر الله تعالى الكافرين، وأمر المسلمين بأن يعدوا العدة لحربهم، وأن يسالموهم إن أرادوا السلم، ولا يخافوا من مناوراتهم السياسية.

وبيَّن للمسلمين أن وحدتهم والتفافهم حول نبيهم (صلی الله علیه و آله) نعمةٌ غير عادية، وهي من فعل الله تعالى ولطفه بهم فعليهم أن يعرفوا قيمتها ويؤدوا حقها.

وأمر النبي (صلی الله علیه و آله) بأن يقاتل الكفار بمن أطاعه من المؤمنين حتى لو كانوا قلة.

ثم كشف سبحانه تراجع في مستوى المسلمين في بدر! فقد أراد أن يكون المسلم الواحد منهم مقابل عشرة، لكنه بسبب ضعفهم في بدر، جعل الواحد منهم مقابل اثنين فقط! وقد ظهر هذا الضعف بجدلهم للنبي (صلی الله علیه و آله) واختلافهم في الغنائم، وخيانة بعضهم، وجبن آخرين.

ص: 12

وبَّخ الذين سارعوا إلى أسر القرشيين قبل أن يثخنوا فيهم

17. مَاكَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا اُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ يُريِدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. 67-71.

وفي هذه الآية تفاسير تنشأ من معنى الإثخان، ومعنى عرض الدنيا الذي أراده الصحابة، وتكليف النبي (صلی الله علیه و آله) وموقفه بشأن الأسرى.

والتفسير الصحيح: أن معنى الإثخان في الأرض الإثخان في قتال المشركين، حيث نهاهم النبي (صلی الله علیه و آله) بعد هزيمة المشركين أن يأخذوا منهم أسرى قبل أن يثخنوهم قتلاً ويدمروا قوتهم القتالية، لكنهم أخذوا أسرى طمعاً في فدائهم! وقد اختاره أبو الفتح الكراجكي (رحمة الله) في: التعجب من أغلاط العامة/88، قال: «وهم الذين كفوا عن الإثخان في القتل يوم بدر وطمعوا في الغنائم حتى نزل فيهم: مَاكَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا..».

فالآية تنهى عن الأسر قبل الإثخان، وقد أثخن النبي (صلی الله علیه و آله) في الأرض وقطع مسافة طويلة، لكن المسلمين لم يثخنوا في قتالهم ومطاردتهم، واكتفى الواحد منهم بأسير ليأخذ فديته! وهذا المعنى يتسق مع السياق: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا، وقوله: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ. وقد اختاره السيد شرف الدين (رحمة الله)

في النص والإجتهاد /323

واختاره السيد الخوئي (رحمة الله) في البيان/365، قال: «المعروف بين الشيعة الإمامية أن الكافر المقاتل يجب قتله ما لم يسلم، ولايسقط قتله بالأسر قبل أن يثخن المسلمون الكافرين ويعجز الكافرون عن القتال لكثرة القتل فيهم».

واختار شبيهه صاحب الصحيح من السيرة: 5/111، قال: «كانت ثمة أوامر

ص: 13

خاصة بالنسبة لأسرى بدر بينها النبي (صلی الله علیه و آله) لأصحابه، ولكنهم قد أصروا على مخالفتها فاستحقوا العذاب العظيم، ثم عفا الله عنهم رحمة بهم وتألفاً لهم».

وتوجد تفاسير أخرى تنفي اللوم عن النبي (صلی الله علیه و آله).كقول السيد الميلاني إن النهي فيها يدل على الترفع ولايدل على التحريم.

لكن عمر زعم أنه أصاب وأخطأ النبي (صلی الله علیه و آله)، وأن الله وافقه ونهى نبيه عن الأسر وأخذ الفداء، فخالف النبي (صلی الله علیه و آله) فنزلت الآية توبخه وتوبخ الأنصار لأنهم أخذوا الأسرى طمعاً بفدائهم! راجع رواياتهم في تفسير الطبري: 10/55.

ويرده أن الآية الأخيرة تدل على صحة أسرهم، وقد تقدم من الكافي: 8/2020: «نزلت في العباس وعقيل ونوفل وقال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بني هاشم، وأبو البختري، فأسروا، فأرسل علياً فقال: أنظر من هاهنا من بني هاشم..فجيئ بالعباس فقيل له: إفد نفسك وافد ابن أخيك، فقال: يا محمد تتركني أسأل قريشاً في كفي؟ فقال: أعط مما خلفت عند أم الفضل وقلت لها: إن أصابني في وجهي هذا شئ فأنفقيه على ولدك ونفسك، فقال له: يا ابن أخي من أخبرك بهذا؟ فقال: أتاني به جبرئيل (علیه السلام) من عند الله عزوجل فقال ومحلوفه: ما علم بهذا أحد إلا أنا وهي! أشهد أنك رسول الله، قال: فرجع الأسرى كلهم مشركين إلا العباس وعقيل ونوفل. وفيهم نزلت هذه الآية».

وأعلن الله وحدة الأمة من المهاجرين والأنصار

18. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا اُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَئْ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَاُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمٌ. 72-75.

أخبر الله أن بدر يوم الفرقان بين الحق والباطل وتمييز الأمة المسلمة عن غيرها.

ص: 14

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «هو اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل، وإنما كانا قبل ذلك اليوم هذا كذا ووضع كفيه أحدهما على الآخر». الأصول الستة عشر/2568.

وجاءت هذه الفقرة ختاماً للسورة، فبينت أن الأمة المسلمة أمة واحدة، مهاجروها وأنصارها، وأوجبت الهجرة إلى دولة الإسلام على كل مسلم، إلا من أجاز لهم النبي (صلی الله علیه و آله)، أو أمرهم بالبقاء في بلادهم، وقد استمرت هذه الفريضة حتى فتح مكة.

ثم أمر الله المسلمين أن يعتبروا الكفار أمة واحدة مهما كانت اختلافاتهم، وحذرهم من وقوع فساد كبير في الأرض، إن خالفوا ولم يوحدوا سياستهم تجاههم!

كثرة مكذوبات السلطة عن بدر!

تبين لك أن البدريين فيهم المميزون بإيمانهم وشجاعتهم، وفيهم المتوسطون، وفيهم المنافقون، ومرضى القلوب. لكن رواة السلطة أكثروا المكذوبات فيهم، ومنها ما يقصد به تنقيص مقام النبي (صلی الله علیه و آله)، ومنها ما يقصد به إثبات مناقب كاذبة لصحابة يحبونهم، ومنها للتغطية على مثالب آخرين يحبونهم!

فمن ذلك: قولهم إن النبي (صلی الله علیه و آله) نام يوم بدر: «فدنا القوم منهم، فجعل الصديق يوقظه ويقول: يارسول الله دنوا منا، فاستيقظ»!الدر المنثور: 3/167 وابن كثير: 2/405.

ومنها: قولهم إن أول قتيل كان مهجع غلام لعمر! ومستندهم في ذلك «يقال»! ولم يبينوا متى قتل ومن قتله! راجع الصحيح: 5/65.

ومنها: قول عمر إنه قتل خاله هشام بن العاص، وقد قتله علي (علیه السلام).«الواقدي: 1/149». على أن خالد بن الوليد كان لا يقبل أنه خاله وأن أم عمر من بني مخزوم.

ومن مكذوباتهم قولهم إن النبي (صلی الله علیه و آله) أعطى سهماً من غنائم بدر لعثمان، لأنه تخلف لتمريض زوجته بنت النبي (صلی الله علیه و آله) ! وأنه أعطى لطلحة بن عبيدالله ولسعيد ابن عم عمر صاحب حديث العشرة المبشرة، لأن النبي (صلی الله علیه و آله) بعثهما في استطلاع قافلة قريش، والصحيح أنهما كانا في تجارة بالشام! راجع الصحيح: 5/98.

إلى كثير من المكذوبات في مناقب أبي بكر وعمر وعثمان وسعد بن أبي وقاص، ومن على شاكلتهم، للتعويض عن دورهم في المعركة!

ص: 15

الصحابة الأبرار الذين اسشتهدوا في بدر

في الصحيح من السيرة: 5/57: «واستشهد من المسلمين، قيل تسعة، وقيل أحد عشر، وقيل أربعة عشر، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار».

والمشهور أربعة عشر، ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار. البحار: 19/206، شرح النهج: 14/207، الطبري: 2/171، الطبقات: 2/17، النهاية: 3/366 والإمتاع: 1/119.

وعدهم ابن هشام: 2/524: عبيدة بن الحارث بن المطلب، وعمير بن أبي وقاص، وذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة، وعاقل بن البكير، ومهجع مولى عمر، وصفوان بن بيضاء، وسعد بن خيثمة، ومبشر بن عبدالمنذر بن زنبر، ويزيد بن الحارث «ابن فسحم» وعمير بن الحمام، ورافع بن المعلى، وحارثة بن سراقة بن الحارث، وعوف ومعوذ، ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد، ابنا عفراء.

سورة الروم بشرت بالنصر في معركة بدر

كانت الدولتان الكبيرتان في عصرالنبي (صلی الله علیه و آله) فارس والروم. وقد مد الروم نفوذهم إلى مصر وبلاد الشام، وكان النصارى في الجزيرة على ارتباط بهم، خاصة نجران، وكانت الحبشة قاعدتهم في أفريقيا.

ومد الفرس نفوذهم إلى العراق والبحرين واليمن، وكانت بلاد الشام ومصر محل صراع بينهم وبين الروم، وقد حكمها الفرس لمدة قرنين قبل المسيحية، حتى غلبهم عليها الروم سنة 231 قبل الميلاد. وحاول الفرس في عهد كسرى أن يستعيدوا السيطرة عليها، فكانت معارك بينهم وبين الروم، ومنها معركة أذرعات وهي درعا الواقعة على الحدود السورية الأردنية، فانتصر فيها الفرس وفرح مشركوا قريش الذين كانوا يتعاطفون مع الفرس لأنهم وثنيون مثلهم، بينما تعاطف المسلمون مع الروم لأنهم أهل كتاب، فنزلت سورة الروم تبشرهم بأن الروم سيغلبون الفرس وأن المؤمنين سيفرحون بنصر الله أي نصرهم في بدر.

قال الله تعالى: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. اَلَمِ. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ

ص: 16

سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأمر مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لايَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ. الروم: 1-7.

قال في مجمع البيان: 8/43 والطبري: 21/22: «هذه من الآيات الدالة على أن القرآن من عند الله عزوجل، لأن فيها أنباء ما سيكون، وما يعلم ذلك إلا الله عزوجل. قال عطية: سألت أبا سعيد الخدري عن ذلك، فقال: التقينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومشركوا العرب، والتقت الروم وفارس، فنصرنا الله على مشركي العرب ونصر أهل الكتاب على المجوس، ففرحنا بنصرالله إيانا على مشركي العرب ونصرأهل الكتاب على المجوس، فذلك قوله: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ».

وفسرأهل البیت (علیهم السلام) فرح المؤمنين بفرحهم بانتصارهم على الفرس وفتحهم لبلادهم. «الكافي 8/269» وفرحهم «بنصرالله عند قيام القائم (علیه السلام)» «تأويل الآيات: 1/434» وفرحهم في القيامة: «يعني نصر فاطمة لمحبيها». «معاني الأخبار/397». وعليه يكون معنى قوله تعالى: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ، فرحهم بأول النصر في بدر، ثم بمراحل انتصار المؤمنين في الدنيا والآخرة.

بدأ تدهور الأمبراطورية الفارسية من أيام بدر!

قال اليعقوبي: 2/46: «أعز الله نبيه وقتل من قريش من قتل، فأوفدت العرب وفودها إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وحاربت ربيعة كسرى وكانت وقعتهم بذي قار «الناصرية» فقالوا: عليكم بشعار التهامي فنادوا: يا محمد يا محمد! فهزموا جيوش كسرى وقتلوهم! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا. وكان يوم ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر أربعة، أو خمسة».

وقال اليعقوبي: 1/225: «وأما يوم ذي قار، فإنه لما قتل كسرى أبرويز النعمان بن المنذر بعث إلى هانئ بن مسعود الشيباني أن ابعث إليَّ ما كان عبدي النعمان استودعك من أهله وماله وسلاحه. وكان النعمان أودعه ابنته وأربعة آلاف درع، فأبى هانئ وقومه أن يفعلوا، فوجه كسرى بالجيوش من العرب والعجم،

ص: 17

فالتقوا بذي قار فأتاهم حنظلة بن ثعلبة العجلي فقلدوه أمرهم، فقالوا لهانئ: ذمتك ذمتنا ولا نخفر ذمتنا! فحاربوا الفرس فهزموهم ومن معهم من العرب، وكان مع الفرس إياس بن قبيصة الطائي وغيره من إخوة معد وقحطان، فأتى عمرو بن عدي بن زيد كسرى وأخبره الخبر فخلع كتفه فمات! فكان أول يوم انتصرت فيه العرب من العجم». راجع: المعارف لابن قتيبة/603 والطبري: 1/600.

وقال ابن خلدون: 2 ق: 1/302: «وأما بنو عجل بن لجيم بن صعب، وهم الذين هزموا الفرس بمؤتة يوم ذي قار، فمنازلهم من اليمامة إلى البصرة، وقد دثروا وخلفهم اليوم في تلك البلاد بنو عامر المنتفق بن عقيل بن عامر، وكان منهم بنو أبي دلف العجلي، كانت لهم دولة بعراق العجم».

وفي الإصابة: 2/117، أن رئيس ربيعة حنظلة بن سيار، بلغه انتصار النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر ونزول سورة الأنفال، فأرسل خمس غنائمه من الفرس إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وقال:

ونحن بعثنا الوفد بالخيل ترتمي *** بهم قُلُصٌ نحو النبيِّ محمدِ

بما لقي الهرموز والقوم إذ غزوا *** وما لقيَ النعمان عند التورد»

ص: 18

الفصل الحادي والأربعون: «الخلافة الإسلامية» تثأر من بني هاشم لقتلى بدر!

1- تعصب قريش القبلي أشد من تعصب اليهود القومي

خسرت قريش في معركة بدر نحو سبعين من شخصياتها على يد النبي (صلی الله علیه و آله)، فرفعت شعار» قتلى بدر«وأقامت عليهم أكبر مناحة في التاريخ! فلا توجد معركة أعمق تأثيراً في التاريخ من بدر، وما زالت نتائجها ممتدةً في حياتنا إلى اليوم!

وإذا قارنا توظيف قريش لشعار قتلى بدر، بتوظيف اليهود للهولوكوست، نجد أن القرشيين فاقوا اليهود بالإبتزاز كثيراً! وأول ابتزازهم سيطرتهم على الدولة بعد النبي (صلی الله علیه و آله) وعزلهم عترته أهل بيته:.

قال عثمان لعلي (علیه السلام): «ما أصنع إن كانت قريش لاتحبكم، وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين، كأن وجوههم شنوف الذهب، تشرب أنوفهم قبل شفاههم»!

أي وجوههم جميلة كأقراط الذهب وأنوفهم طويلة جميلة. نثر الدرر/259، ابن حمدون/1567، شرح النهج: 9/22 والمناقب: 3/21.

فقريش لايمكنها أن تحب بني هاشم أبداً، لأنهم قتلوا ساداتها! فهي صاحبة ثأر عند النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) وجميع بني هاشم، إلى يوم القيامة!

وقد أخبر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن قريشاً لن تنسى هزيمة بدر وقتل نخبة قادتها وفرسانها! وبالفعل جعلتها كمحرقة اليهود! واخترعت مبررات للإنتقام من

ص: 19

بني هاشم وشيعتهم، وعزلت بني هاشم عن الخلافة، لأن في أعناقهم دماء قريش والعرب وقد أخذوا النبوة وهي كافية عليهم، فالخلافة يجب أن تكون لبقية قبائل قريش!

لذلك قال النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): «فاصبر لظلم قريش إياك وتظاهرهم عليك، فإنها ضغائن في صدور قوم، أحقاد بدر وتِراتُ أحد! وإن موسى أمر هارون حين استخلفه في قومه إن ضلوا ثم وجد أعواناً أن يجاهدهم بهم، فإن لم يجد أعواناً أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم، فافعل أنت كذلك، إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن دمك». كتاب سُلَيْم/305.

2- تأسست الخلافة القرشية على الثأر من بني هاشم!

اعترف ابن أبي الحديد، وهو سني معتزلي متعصب لأبي بكر وعمر، أن ثارات بدر وأحُد أوجبت قيام خلافة قرشية على أساس الثأر من بني هاشم، وقال إن بغض القرشيين للنبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) وبني هاشم طبيعي حتى بعد أن أسلموا!

قال في شرح النهج: 13/299: «ولست ألوم العرب لا سيما قريشاً في بغضها له»علي«وانحرافها عنه، فإنه وترها وسفك دماءها، وكشف القناع في منابذتها! ونفوس العرب وأكبادهم كما تعلم! وليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس، كما نشاهده اليوم عياناً، والناس كالناس الأُوَل، والطبائع واحدة! فاحسب أنك كنت من سنتين أو ثلاث جاهلياً أو من بعض الروم، وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك، ثم أسلمت، أكان إسلامك يُذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه؟ كلا، إن ذلك لغير ذاهب، هذا إذا كان الإسلام صحيحاً والعقيدة محققة، لا كإسلام كثير من العرب! فبعضهم أسلم تقليداً، وبعضهم للطمع والكسب، وبعضهم خوفاً من السيف، وبعضهم على طريق الحمية والإنتصار، أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه!

واعلم أن كل دم أراقه رسول الله (صلی الله علیه و آله) بسيف علي (علیه السلام) وبسيف غيره، فإن العرب بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) عصبت تلك الدماء بعلي بن أبي طالب وحده، لأنه لم يكن في رهطه من

ص: 20

يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلا بعلي وحده! وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل، فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته، طالبت بها أمثل الناس من أهله!

لمَّا قَتَلَ قومٌ من بني تميم أخاً لعمرو بن هند، قال بعض أعدائه يحرض عَمْرواً عليهم:

من مُبْلغٌ عَمْراً بأن المَرْ *** ء لم يُخلق صَبارهْ

فاقتل زرارة لا أرى *** في القوم أمثلَ من زرارهْ!

فأمره أن يقتل زرارة رئيس بني تميم، ولم يكن قاتلاً أخ الملك ولاحاضراً قتله»!

أقول: يخاطب الشاعر الملك هند بن عمرو ملك الحيرة، بأن الإنسان لم يخلق صَبَارة، أي حجراً، بل له إحساسات ومنها غريزة الثأر، فيجب عليك أن تأخذ ثأرك من بني تميم الذين قتل أحدهم أخاك حتى لو كان قتل خطأ، وكان رئيسهم زرارة بن عدس غائباً عن قتله، لكنه أنسب شخصية لتقتله بثأرك.

فأطاع الملك الشاعر وهاجم بني تميم وقتل رئيسهم زرارة، وقتل معه أكثر من مئتين، وبقر بطون نسائهم وأحرقهم! فالقاعدة عند القبائل أن الثأر لا ينسى بحال من الأحوال والأزمان! وقريش لها ثأر عند محمد (صلی الله علیه و آله) وأعظمه ثأرها في بدر وأحُد، ولا يجوز أن تنساه حتى لو أسلمت!

وهذا اعتراف جرئ من ابن أبي الحديد، وهو عالم متعصب للشيخين، بأن خلافة قريش قامت على الثأر من بني هاشم، وأن بطون قريش عصبت دماء قتلاها بعلي (علیه السلام). أما وصية النبي (صلی الله علیه و آله) بعترته وجعلهم كالقرآن، فلا يسقط ثأر قريش عندهم! وأول الثأر أن تأخذ منهم دولة النبي (صلی الله علیه و آله) وتعزلهم.

وعلى المسلم المنصف أن يفهم النتيجة الضخمة لذلك، على الإسلام كله.

ولذلک كانت أصوات علماء السلطة أنفسهم ترتفع أحياناً، كما فعل قتادة!

قال أبان بن عثمان: «حدثني فضيل البرجمي قال: كنت بمكة وخالد بن عبدالله القشيري أمير «من قبل عبدالملك بن مروان» وكان في المسجد عند زمزم فقال: أدعوا لي قتادة، قال: فجاء شيخ أحمر الرأس واللحية، فدنوت لأسمع، فقال

ص: 21

خالد: يا قتادة أخبرني بأكرم وقعة كانت في العرب، وأعز وقعة كانت في العرب، وأذل وقعة كانت في العرب! فقال: أصلح الله الأمير، أخبرك بأكرم وقعة كانت في العرب وأعز وقعة كانت في العرب، وأذل وقعة كانت في العرب، وهي واحدة! قال خالد: ويحك واحدة! قال: نعم أصلح الله الأمير. قال: أخبرني؟ قال: بدر.

قال: وكيف ذا؟ قال: إن بدراً أكرم وقعة كانت في العرب بها أكرم الله عزوجل الإسلام وأهله، وهي أعز وقعة كانت في العرب بها أعز الله الإسلام وأهله، وهي أذل وقعة كانت في العرب، فلما قتلت قريش يومئذ ذلت العرب. فقال له خالد: كذبت لعمر الله إن كان في العرب يومئذ من هو أعز منهم.

ويلك يا قتادة أخبرني ببعض أشعارهم؟ قال: خرج أبوجهل يومئذ وقد أعلم ليرى مكانه وعليه عمامة حمراء وبيده ترس مذهب وهو يقول:

ماتنقم الحرب الشموس مني *** بازلُ عامين حديثُ السن

لمثل هذا و لدتني أمي

فقال: كذب عدو الله إن كان ابن أخي لأ فرس منه، يعني خالد بن الوليد وكانت أمه قشيرية»من عشيرته«فقال: ويلك يا قتادة من الذي يقول: أُوفي بميعادي وأحمي عن حسب؟ فقال: أصلح الله الأمير ليس هذا يومئذ، هذا يوم أحد خرج طلحة بن أبي طلحة وهو ينادي من يبارز؟ فلم يخرج إليه أحد فقال: إنكم تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار، ونحن نجهزكم بأسيافنا إلى الجنة، فليبرزن إلي رجل يجهزني بسيفه إلى النار، وأجهزه بسيفي إلى الجنة! فخرج إليه علي وهو يقول:

أنا ابن ذي الحوضين عبدِ المطلبْ *** وهاشمِ المطعمِ في العامِ السَّغِبْ

أوفي بميعادي وأحمي عن حَسَبْ

فقال خالد: كذب لعمري، والله أبو تراب ما كان كذلك! فقال الشيخ: أيها الأمير إئذن لي في الإنصراف، قال: فقام الشيخ يفرج الناس بيده وخرج وهو يقول: زنديقٌ ورب الكعبة، زنديقٌ ورب الكعبة»! الكافي: 8/111. فالسلطة تريد إنكار بطولات علي (علیه السلام) وكل تاريخه!

ص: 22

3- ودون الرواة صفحات طويلة في حزن قريش على قتلى بدر

فقد حرَّمت قريش البكاء والزينة، حتى أخذت بثارها نسبياً في معركة أحد! قال ابن هشام: 2/474:»ناحت قريش على قتلاهم ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمداً وأصحابه فيشمتوا بكم.وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة بن الأسود، وعقيل بن الأسود، والحارث بن زمعة، وكان يحب أن يبكى على بنيه، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلام له، وقد ذهب بصره: أنظر هل أُحِلَّ النَّحْبُ، هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلي أبكي على أبي حكيمة، يعني زمعة، فإن جوفي قد احترق. قال: فلما رجع إليه الغلام قال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته، قال: فذاك حين يقول الأسود:

أتبكي أن يضل لها بعير *** ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر ولكن *** على بدر تقاصرت الجدود

على بدر سراة بني هصيص *** ومخزوم ورهط أبي الوليد

وبكى إن بكيت على عقيل *** وبكى حارثا أسد الأسود

وبكيهم ولا تسمى جميعاً *** وما لأبي حكيمة من نديد

وفي ديوان الحماسة للمرزوقي: 1/617: «على بدر تقاصرت الجدود: يريد أن الذي يجب البكاء له ما جرى على رؤساء قريش وأرباب الجدود فيهم ببدر، وأن الحيف العظيم والخسران المبين والغبن الشديد في ذاك، لا في ضلال بَكر، أي بعير».

ونظم شعراء قريش قصائد كثيرة في رثاء قتلى بدر، نشروها بين العرب، خاصة من شعر ابن الزِّبَعْرَى، وضرار بن الخطاب، والحاخام كعب بن الأشرف، وكلها هجاء للنبي (صلی الله علیه و آله) والأنصار، ومدح لمشركي قريش، فكانت تقرأ في مجالس الأمراء، وصارت ثقافة لمجالس الخمر، حتى تأثر بها بعض المسلمين!

وسيأتي أن بعض الصحابة شربوا الخمر في المدينة، وتغنوا بالنوح على قتلى بدر! ومن شعر ضرار، سيرة ابن هشام: 2/539:

ص: 23

عجبت لفخر الأوس والحين دائر *** عليهم غدا، والدهر فيه بصائر

وفخر بني النجار أن كان معشر *** أصيبوا ببدر كلهم ثَمَّ صابر

فإن تك قتلى غودرت من رجالنا *** فإنا رجال بعدهم سنغادر

وتردى بنا الجرد العناجيج وسطكم *** بني الأوس حتى يشتفي النفس ثائر

ومن شعرعبدالله بن الزبعرَى السهمي «ابن هشام: 2/541»:

ماذا على بدر وماذا حوله *** من فتية بيض الوجوه كرام

تركوا نبيهاً خلفهم ومنبهاً *** وابني ربيعة خير خصم فئام

والحارث الفياض يبرق وجهه *** كالبدر جلى ليلة الأظلام

والعاصي بن منبه ذا مرة *** رمحاً تميماً غير ذي أوصام

تنمى به أعراقه وجدوده *** ومآثر الأخوال والأعمام...

واشتهرت قصيدته في أحُد أكثر من غيرها:

يا غراب البين أسمعت فقل *** إنما تنطق شيئاً قد فعل

أبلغن حسان عني آية *** فقريض الشعر يشفي ذا الغلل

كم قتلنا من كريم سيد *** ماجد الجدين مقدام بطل

فسل المهراس من ساكنه؟ *** بين أقحاف وهام كالحجل

ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل

حين حكت بقباء بركها *** واستحر القتل في عبدالأشل

فقتلنا الضعف من أشرافهم *** وعدلنا ميل بدر فاعتدل

بسيوف الهند تعلو هامهم *** عَلَلاً تعلوهمُ يعد نهل

فأجابه حسان بن ثابت:

ذهبتْ يا بن الزبعرى وقعةٌ *** كان منا الفضل فيها لو عدل

ص: 24

ولقد نلتم ونلنا منكم *** وكذاك الحرب أحياناً دول

نضع الأسياف في أكتافكم *** حيث نهوى عللاً بعد نهل

ومن شعركعب بن الأشرف اليهودي، «ابن هشام 2/564»:

«طحنت رحى بدر لمهلك أهله *** ولمثل بدر تستهل وتدمع

قتلت سراة الناس حول حياضهم *** لا تبعدوا، إن الملوك تصرع

كم قد أصيب به من أبيض ماجد *** ذي بهجة يأوى إليه الضيع..

وقال أياس بن زنيم يحرض مشركي قريش على قتل علي (علیه السلام):

في كل مجمع غاية أخزاكم *** جذعٌ أبرُّ على المذاكي القرَّح

لله دركم ألمَّا تنكروا *** قد ينكر الحرُّ الكريم ويستحي

هذا ابن فاطمة الذي أفناكم *** ذبحاً وقتلاً قعصةً لم يذبح

أين الكهول وأين كل دعامة *** في المعضلات وأين زين الأبطح

أفناهم قعصاً وضرباً يفتري *** بالسيف يعمل حده لم يصفح

أعطوه خرجاً واتقوا بمصيبة *** فعل الذليل وبيعة لم تربحِ»

الإصابة: 1/231، أنساب الأشراف/188 وتاريخ دمشق: 42/8.

4- الشيخان يشربان الخمر وينوحان على قتلى بدر!

بلغ من تأثير الإعلام القرشي، أن مجالس الخمر والسمر في المدينة كان يقرأ فيها شعر الرثاء والنياحة على قتلى بدر! وقد رووا أن مجلساً ضم أحد عشر صحابياً فيهم الشيخان أبو بكر وعمر، شربوا الخمر وغنوا بالنوح على قتلى بدر!

فجاء النبي (صلی الله علیه و آله) وبيده سعفة أو مكنسة يريد أن يضربهم!

وتتفاجأ بأن هذا الحديث صحيح عندهم، فقد رواه تمام الرازي المتوفى: 414، في كتابه الفوائد: 2/228، برقم: 1593 وطبعة: 3/481، بسند صحيح عن عوف، عن أبي القموص قال: «شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرم فأخذت فيه، فأنشأ يقول:

ص: 25

تَحَيَّيْ بالسلامة أمَّ بكرٍ *** وهل لك بعد رهطك من سلام

ذريني أصطبح يا بكر إني *** رأيت الموت نقَّبَ عن هشام

فودَّ بنو المغيرة أن فدوْهُ *** بألف من رجال أو سوام

فكائن بالطويِّ طويِّ بدر *** من القينات والخيل الكرام

فكائن بالطويِّ طويِّ بدر *** من الشيزى تُكلل بالسنام

فبلغ ذلك النبي (صلی الله علیه و آله) فقام معه جريدة يجر إزاره حتى دخل عليه، فلما نظر إليه قال: أعوذ من سخط الله ومن سخط رسوله، والله لا يلج لي رأساً أبداً! فذهب عن رسول الله ما كان فيه، وخرج ونزل عليه: فَهَلْ أنتمْ مُنْتَهُون؟! فقال عمر: انتهينا والله».

ورواه الثعلبي في تفسيره: 2/142 دون أن يسميهما قال: «وكان قوم يشربونها ويجلسون في بيوتهم، وكانوا يتركونها أوقات الصلاة، ويشربونها في غير حين الصلاة، إلى أن شربها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر، ويقول... فبلغ ذلك رسول الله فخرج مسرعاً يجر رداءه حتى انتهى إليه، ورفع شيئاً كان بيده «سعفة» ليضربه، فلما عاينه الرجل قال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله، والله لا أطعمها أبداً».

ورواها ابن هشام: 2/549 بأطول منه، وفيها أبيات أبي بكر في إنكارالآخرة قال:

«يخبرنا الرسول بأن سنحيا *** وكيف حياة أصداءٍ وهامِ»!

وفي الصحيح من السيرة: 5/301:

أيوعدني ابن كبشة أن سنحيا *** وكيف حياة أصداءٍ وهامِ

أيعجز أن يرد الموت عني *** وينشرني إذا بليت عظامي

ألا من مبلغ الرحمان عني *** بأني تارك شهر الصيام

فقل الله يمنعني شرابي *** وقل لله يمنعني طعامي»

وروى ابن حجر في الإصابة: 7/39 عن الفاكهي في كتاب مكة أن الرجل كان

ص: 26

أبابكر! وفيه: «شرب أبو بكر الخمر فأنشأ يقول: فذكر الأبيات.فبلغ ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقام يجر إزاره حتى دخل فتلقاه عمر وكان مع أبي بكر، فلما نظر إلى وجهه محمراً، قال: نعوذ بالله من غضب رسول الله!والله لايلج لنا رأسا أبداً! فكان أول من حرمها على نفسه! واعتمد نفطويه على هذه الرواية فقال: شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرم، ورثى قتلى بدر من المشركين»!

وذكر ابن حجر في فتح الباري: 10/31، أن تلك الجلسة كانت حفلة خمر في بيت أبي طلحة، وكانوا أحد عشر صحابياً، وكان ساقيهم أنس بن مالك! ثم قال: «ولأحمد عن يحيى القطان عن حميد عن أنس: كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء، ونفراً من الصحابة عند أبي طلحة. ووقع عند عبدالرزاق عن معمر بن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس، أن القوم كانوا أحد عشر رجلاً، وقد حصل من الطرق التي أوردتها تسمية سبعة منهم، وأبهمهم في رواية سُلَيْمان التيمي عن أنس.ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره من طريق عيسى بن طهمان عن أنس، أن أبابكر وعمر كانا فيهم! وهو منكر، مع نظافة سنده، وما أظنه إلا غلطاً»!

يقصد أن سند الحديث صحيح وكان فيهم أبو بكر وعمر، لكن مكانتهما كثيرة فهو حديث مستنكر! لكن مذهبه إذا صح الحديث فلا قيمة لاستغراب معناه!

والأدهى من ذلك أن القصةكانت عند تواصل نزول سورة المائدة، أي قبل وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) بشهر أو شهرين! لأن آية: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ. «المائدة: 91». من سورة المائدة، وهي آخر سورة نزلت من القرآن، قبيل وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) !

كما نلاحظ أن القصة انتشرت بين المسلمين، وقالوا إن القصيدة لأبي بكر! فنفت عائشة أن يكون أبوها نظم هذا الشعر، ولم تنف مشاركته في الحفلة وإنشاده!

فقد روى بخاري في صحيحه: 4/263 دفاعها فقال: «عن عائشة أن أبابكر تزوج امرأة من كلب يقال لها أم بكر، فلما هاجر أبو بكر طلقها فتزوجها ابن

ص: 27

عمها هذا الشاعر، الذي قال هذه القصيدة، ورثى كفار قريش:

وماذا بالقليب قليب بدر *** من الشيزى تزين بالسنام

وماذا بالقليب قليب بدر *** من القينات والشرب الكرام

تحييْ بالسلامة أم بكر *** وهل لي بعد قومي من سلام

يحدثنا الرسول بأن سنحيا *** وكيف حياة أصداء وهام»

لكن عائشة لم تحل المشكلة، لأنها نفت أن أباها نظم القصيدة ولم تنف إنشاده لها! فالمهم عندها نفي نظمها لأنها تثبت كفر ناظمها وإنكاره النبوة والآخرة، أما إنشادها فهو أقل مصيبةً!

وروى ابن حجر في الإصابة: 7/39 أنها كانت غاضبة لأن الناس لم يصدقوها! «كانت تدعو على من يقول إن أبابكر الصديق قال هذه القصيدة ثم تقول: والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا في الإسلام، ولكن تزوج امرأة من بني كنانة ثم بني عوف فلما هاجر طلقها فتزوجها ابن عمها هذا الشاعر، فقال هذه القصيدة يرثي كفار قريش الذين قتلوا ببدر، فتحامى الناس أبابكر من أجل المرأة التي طلقها، وإنما هو أبو بكر بن شعوب».

تقصد أن أم بكر المخاطبة بالقصيدة هي زوجة أبيها لكنه طلقها عندما هاجر، وتزوجها ابن شعوب وهو الذي نظم القصيدة! راجع في الموضوع: أمالي الطوسي/737، رواها بسبعة أبيات، ابن هشام: 2/549 ورواها بتسعة أبيات، الغدير: 6/251،7/96 و7/95،فتح الباري: 10/30، قد أطال في الموضوع ودافع بما يستطيع، لكن كلامه فيه تعجب وتحير، وسيرة ابن كثير: 2/535، مستدرك الوسائل: 17/83، السقيفة أم الفتن/74، فيض القدير: 1/ 117، الإصابة: 7/38، الصحيح من السيرة: 5/301 و304، مجمع الزوائد: 5/51، الهداية الكبرى/106، أمالي المرتضى: 2/18، النص والإجتهاد/311، أحاديث الشعر للمقدسي/57، النهاية:3/412، تفسير الثعلبي: 2/142 والإصابة: 7/38.

ص: 28

5- دين قريش القبول بالتناقض!

من تناقض القرشيين أنهم أرادوا خلافة النبي (صلی الله علیه و آله)، وبنفس الوقت أرادوا أن يأخذوا منه ثأر بدر! وقد ظهرت «مناحتهم» على قتلى بدرعلى ألسنة «خلفاء النبي (صلی الله علیه و آله)»! الذين يعرفون جيداً أنه لولا معركة بدر لما كان إسلامٌ، ولا خلافةٌ يجلسون على كرسيها! ويعرفون أن الذي يجلس على كرسي خلافة محمد يفترض أنه مسلم، وأنه إلى جانب النبي (صلی الله علیه و آله) في معركة بدر، وضد من قتلهم من المشركين! لكن تعقيد الشخصية القرشية جعلتهم يتبنون نتيجة معركة بدر التي منها الخلافة، ويتبنون «مناحة قومهم» على قتلى بدر، لأنها تنفعهم ضد بني هاشم وتساعدهم في إبعادهم عن الخلافة!

قال عمر لابن عباس في محاورته الشهيرة في الخلافة: «كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة، فتجخفوا جخفاً «تكبراً» فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت.. أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشاً في أمر قريش لايزول»! تاريخ الطبري: 3/288، شرح النهج: 6/50، جمهرة الأمثال: 1/339 والعقد الفريد/1378.

وقال عبدالله بن عمر لعلي (علیه السلام): «كيف تحبك قريش وقد قتلت في يوم بدر وأحُد من ساداتهم سبعين سيداً، تشرب أنوفهم الماء قبل شفاهم»! المناقب: 3/21.

وتقدم قول عثمان لعلي (علیه السلام) مثل ذلك.

فالخلیفة المحترم يعرف أنه لولا قتل بني هاشم لمشركي قريش في بدر، لما كانت دولة النبي (صلی الله علیه و آله) التي يتنعم بحكمها! ويعرف أن قتلى بدر طغاة، عملوا لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر وقبلها. ويعرف أن قريشاً أعلنت إسلامها والمفروض أنها تبرأت من الشرك والمشركين!

ومع ذلك يعطي قريشاً الحق في كره بني هاشم ومطالبتهم بدماء مشركيها! فاعجب لخليفةٍ يدين منطق الإسلام الذي يلبس ثوبه ويحكم بإسمه!

وعندما تقوم «الخلافة» على أساس الثأر من بني هاشم، فمن الطبيعي أن تقوم بقتل الأئمة من عترة النبي (صلی الله علیه و آله) وتقمع شيعتهم، وتشوه سمعتهم، وتبيد

ص: 29

المصادر الثقافية لمذهبهم! وما زالت هذه السياسة سارية في العالم الإسلامي إلى اليوم!

لاحظ جواب الزهراء لأم سلمة (علیها السلام) «المناقب: 2/49»: «كيف أصبحت يابنت رسول الله؟فقالت: أصبحت بين كمد وكرب! فُقِدَ النبي (صلی الله علیه و آله) وظُلِمَ الوصي، وهُتك والله حجابه، وأصبحت إمامته مقتصة على غير ما شرع الله في التنزيل، وسنها النبي (صلی الله علیه و آله) في التأويل!ولكنها أحقاد بدرية وتِرات أحدية كانت عليها قلوب النفاق مكتمنة فلما استهدف الأمر أرسلت علينا شآبيب الآثارمن مخيلة الشقاق».

وقال علي (علیه السلام) لقريش: «وإني لصاحبكم بالأمس، لعمر أبي وأمي لن تحبوا أن يكون فينا الخلافة والنبوة، وأنتم تذكرون أحقاد بدر وثارات أحد! أما والله لو قلت ما سبق الله فيكم، لتداخلت أضلاعكم في أجوافكم، كتداخل أسنان دوارة الرحى! فإن نطقت يقولون حسداً! وإن أسكت فيقال ابن أبي طالب جزع من الموت! هيهات هيهات، الساعة يقال لي هذا؟! وأنا المميت المائت، وخواض المنايا في جوف ليل حالك». الإحتجاج: 1/127.

وقال عبدالرحمن بن جندب: «لما بويع عثمان، سمعت المقداد بن الأسود الكندي يقول لعبدالرحمن بن عوف: والله يا عبدالرحمن ما رأيت مثل ما أُتِيَ إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم (صلی الله علیه و آله) ! فقال له عبدالرحمن: وما أنت وذاك يا مقداد؟ قال: إني والله أحبهم لحب رسول الله لهم ويعتريني والله وجد لا أبثه بثة، لتشرُّف قريش على الناس بشرفهم واجتماعهم على نزع سلطان رسول الله (صلی الله علیه و آله) من أيديهم!

فقال له عبدالرحمن: ويحك والله لقد اجتهدت نفسي لكم! فقال له المقداد: أما والله لقد تركت رجلاً من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون، أما والله لو أن لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي إياهم يوم بدر وأحد!

فقال له عبدالرحمن: ثكلتك أمك يا مقداد لا يسمعن هذا الكلام منك الناس، أما والله إني لخائف أن تكون صاحب فرقة وفتنة. قال جندب: فأتيته بعد ما انصرف من مقامه وقلت له: يا مقداد أنا من أعوانك، فقال: رحمك الله إن الذي نريد لايغني فيه الرجلان والثلاثة. فخرجت من عنده فدخلت على علي (علیه السلام) فذكرت له ما قال وما قلت. قال: فدعا لنا بالخير». أمالي المفيد/169.

ص: 30

وقال في الصحيح من السيرة: 6/154: «ولم تستطع قريش أن تنسى ثارات بدر وأحُد وسائر المعارك، حتى أن حرب صفين كما قالت أم الخير بنت الحريش: كانت لإحن بدرية وأحقاد جاهلية وضغائن أحدية، وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك ثارات بني عبد شمس! بل إن مجزرة كربلاء وفاجعة قتل الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه كانت لها دوافع بدرية وإحن أحدية أيضاً، فقد قال اللعين يزيد بن معاوية: ليت أشياخي ببدر شهدوا... ولما وصل رأس الحسين (علیه السلام) إلى المدينة رمى مروان بالرأس نحو قبر النبي (صلی الله علیه و آله) وقال: يا محمد يوم بيوم بدر»!

وفي تاريخ الطبري: 8/187: «طلب يزيد بثارات المشركين عند المسلمين، فأوقع بأهل الحرة الوقيعة التي لم يكن في الإسلام أشنع منها، ولا أفحش مما ارتكب من الصالحين فيها! وشفى بذلك حقد نفسه وغليله، وظن أن قد انتقم من أولياء الله وبلغ النوى لأعداء الله، فقال مجاهراً بكفره، ومظهراً لشركه:

ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل

قد قتلنا القرم من ساداتكم *** وعدلنا ميل بدر فاعتدل

فأهلوا واستهلوا فرحاً *** ثم قالوا يا يزيد لا تشل

لست من خندف إن لم أنتقم *** من بني أحمد ما كان فعل

لعبت هاشم بالملك فلا *** خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل!

هذا هو المروق من الدين، وقول من لايرجع إلى الله ولا إلى دينه ولا إلى كتابه»!

وقد أجابت زينب (علیها السلام) يزيداً في مجلسه فقالت له: «أتقول: ليت أشياخي ببدر شهدوا.. غير متأثم ولامستعظم، وأنت تنكث ثنايا أبي عبدالله بمخصرتك! ولمَ لاتكون كذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإهراقك دماء ذرية رسول الله ونجوم الأرض من آل عبدالمطلب. ولتردنَّ على الله وشيكاً موردهم، ولتودن أنك عميت وبكمت، وأنك لم تقل: فاستهلوا وأهلوا فرحاً.. اللهم خذ بحقنا وانتقم لنا ممن ظلمنا».بلاغات النساء لابن طيفور/20.

ص: 31

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «لقي المنهال بن عمرو علي بن الحسين بن علي (علیه السلام) فقال له: كيف أصبحت يا ابن رسول الله؟ قال: ويحك أما آن لك أن تعلم كيف أصبحت؟ أصبحنا في قومنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون، يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا! وأصبح خير البرية بعد محمد (صلی الله علیه و آله) يلعن على المنابر! وأصبح عدونا يعطى المال والشرف، وأصبح من يحبنا محقوراً منقوصاً حقه، وكذلك لم يزل المؤمنون! وأصبحت العجم تعرف للعرب حقها بأن محمداً منها، وأصبحت قريش تفتخر على العرب بأن محمداً منها، وأصبحت العرب تعرف لقريش حقها بأن محمداً منها، وأصبحت العرب تفتخر على العجم بأن محمداً منها! وأصبحنا أهل البیت لايُعرف لنا حق! فهكذا أصبحنا يا منهال»! تفسير القمي:2/134.

ص: 32

الفصل الثاني والأربعون: النبي (صلی الله علیه و آله) والعرب من غزوة بدر إلى أحد

1- ثلاث غزوات وعدة سرايا في سنة واحدة!

ينبغي التذكير بأن النبي (صلی الله علیه و آله) مسدد من ربه، لاينطق عن الهوى ولا يفعل إلا ما يؤمر به. ومن ذلك خروجه بنفسه لحرب عدوه، أو إرساله سرايا.

«رجع النبي (صلی الله علیه و آله) من بدر في الثاني والعشرين من رمضان في السنة الثانية للهجرة وكانت حرب أحُد في الرابع عشر من شوال سنة ثلاث للهجرة». المحبر/111.

وفي هذه السنة بعث النبي (صلی الله علیه و آله) عدة سرايا في مهمات دفاعية أو هجومية، وشارك بنفسه في ثلاث غزوات، وعدها بعضهم ستاً. عيون الأثر: 1/382.

والصحيح أنها ثلاثة، لكن تسميات الرواة لها متعددة.

كما بعث سرايا في مهمات خاصة لاغتيال يهود ناشطين في عداء الإسلام، منها سرية سالم بن عمير لقتل أبي عفك اليهودي، وسرية أخرى لقتل كعب بن الأشرف. «الطبقات: 2/27» وسرية لقتل عصماء بنت مروان.

2- غزوة بني سُلَيْم

غزوة بني سُلَيْم وبني غطفان بناحية نجد، وسماها بعضهم غزوة قرقرة الكَدَر لأنهم مروا فيها عليها، والقرقرة الأرض الملساء، والكَدَر اللون غير النقي. وهي نفسها غزوة الفرع، وغزوة بحران، وهو معدن بالحجاز، «ابن هشام: 6/18» قرب الفرع، «الطبري: 2404» وهي

ص: 33

نفسها غزوة ذي أمر، لوحدة أحداثهما.

«ولما رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة من بدر لم يُقم بالمدينة إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بني سُلَيْم، حتى بلغ ماء من مياههم يقال له الكَدَر، فأقام عليه ثلاث ليال، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً. فأقام بها بقية شوال وذا القعدة، وفادى في إقامته جل أسارى بدر من قريش». إعلام الورى: 1/172.

3- غزوة ذات السويق

ثم كانت غزوة السويق، وذلك أن أبا سفيان نذر أن لايمس رأسه من جنابة حتى يغزو محمداً (صلی الله علیه و آله) وكان العرب مع عبادتهم الأصنام فيهم بقايا شريعة إبراهيم الحنيفية ومنها غسل الجنابة. فخرج أبوسفيان في مائة راكب من قريش ليبرَّ يمينه، حتى إذا كان على بريد من المدينة أتى بني النضير ليلاً، فضرب على حيي بن أخطب بابه فأبى أن يفتح له، فانصرف عنه إلى سلام بن مشكم وكان سيد بني النضير، فاستأذن عليه فأذن له وسارَّه، ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه. وبعث رجلاً من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية يقال لها العريض، فوجدوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له فقتلوهما ثم انصرفوا.

ونذر بهم الناس أحسُّوا فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) في طلبهم حتى بلغ قرقرة الكَدَر، فرجع وقد فاته أبوسفيان، ورأوا زاداً من أزواد القوم قد طرحوها يتخففون منها للنجاء. فقال المسلمون حين رجع رسول الله بهم: يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة؟ فقال: نعم». إعلام الورى: 1/173.

وفي إمتاع الأسماع: 1/123، عن ابن إسحاق أنه (صلی الله علیه و آله) غزا قريشاً حتى بلغ بحران معدناً بالحجاز من ناحية الفرع، فأقام بها شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً».

والمرجح أنها نفس غزوة السويق، وهي تدل على أن أبا سفيان لم يستطع تجنيد أكثر من مئتي راكب، فجاء بهم خفية إلى قرب المدينة، وتسلل ليلاً مع بضعة أشخاص

ص: 34

إلى حلفائه يهود بني النضير في ضاحية المدينة، فخاف رئيسهم حي بن أخطب أن يفتح له وينقض عهده مع النبي (صلی الله علیه و آله) فذهب أبوسفيان إلى رئيس آخر من بني النضير هو ابن مشكم، ففتح له وتداول معه في حرب النبي (صلی الله علیه و آله) وشرب معه الخمر، ونصحه أن يرجع قبل أن يكتشف محمد (صلی الله علیه و آله) وجوده، فرجع تلك الليلة، لكنه أراد أن يقوم بعمل ما، فأرسل بضعة نفر إلى مزرعة معبد بن عمرو الأنصاري المنفردة عن المدينة، فقتلوه مع أجيره وأحرقوا زرعه ونخله!

فتبعهم النبي (صلی الله علیه و آله) بأصحابه فأسرعوا وتخففوا من زادهم ورموه عن جمالهم، وكان السويق وهو الحنطة المحمصة المطحونة، يضاف اليها زيت أو سكر. فسميت غزوة السويق أو ذات السويق.

4- غزوة ذي أمر

بعد غزوة السويق أقام (صلی الله علیه و آله) بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم، وكانت غزوة ذي أمر، وذلك لما بلغه أن جمعاً من غطفان تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف المدينة، عليهم رجل يقال له: دعثور بن الحارث بن محارب، فخرج في أربع مائة وخمسين رجلاً ومعهم أفراس، وهرب منه الأعراب فوق ذرى الجبال ونزل (صلی الله علیه و آله) ذا أمر وعسكر به، وأصابهم مطر، فذهب النبي (صلی الله علیه و آله) لحاجته فأصابه المطر فبلَّ ثوبه، فنزع ثيابه ونشرها لتجف وألقاها على شجرة ثم اضطجع تحتها، وكان وادي أمر بينه وبين أصحابه، والأعراب ينظرون إلى ما يفعل، فقالت الأعراب لدعثور وكان سيدهم وأشجعهم: قد أمكنك محمد وقد انفرد من بين أصحابه، فاختار سيفاً من سيوفهم صارماً، ثم أقبل مشتملاً على السيف حتى قام على رأس رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالسيف مشهوراً فقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟ قال: الله! ودفع جبرئيل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقام على رأسه وقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والله لا أكثِّر عليك جمعاً أبداً! فأعطاه

ص: 35

رسول الله سيفه وأدبر، ثم أقبل بوجهه وقال: والله لأنت خير مني! قال رسول الله: أنا أحق بذلك منك. فأتى قومه فقيل له: أين ماكنت تقول وقد أمكنك والسيف في يدك؟ قال: قد كان والله ذلك، ولكني نظرت إلى رجل أبيض طويل دفع في صدري فوقعت لظهري، فعرفت أنه ملك وشهدت أن محمداً رسول الله. والله لا أكَثِّرُ عليه! وجعل يدعو قومه إلى الإسلام ونزلت هذه الآية: یا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ..».

أقول: وردت روايات أخرى في قصة دعثور «راجع الصحيح: 6/17»وكان اليهود وقريش يحركون بعض قبائل نجد مثل بني سُلَيْم للغارة على المدينة، وكانت لهم سابقة في غزو المدينة، ومعارك مع الأوس والخزرج، فبادر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى غزوهم لدفع شرهم، فتفرقوا ولم يواجهوه، وهدى الله رئيسهم.

5- سرية حارثة بن زيد لاعتراض قافلة قريش

وأشهر سرايا النبي (صلی الله علیه و آله) بعد بدر، سرية زيد بن حارثة لاعتراض قافلة قريش الذاهبة إلى الشام عن طريق العراق، وقد سميت غزوة قرقرة الكَدَر، لأنهم مروا عليها، وغزوة بني سُلَيْم لأنهم مروا عليهم، وغزوة القِرَدَة، باسم ماء في نجد. كما سميت غزوة مع أنها سرية وإسم الغزوة خاص بالتي يشارك فيها النبي (صلی الله علیه و آله).

قال في إعلام الورى: 1/174:«بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) زيد بن حارثة بعد رجوعه من بدر إلى المدينة بستة أشهر، فأصابوا عيراً لقريش على القردة فيها أبوسفيان ومعه فضة كثيرة، وذلك لأن قريشاً قد خافت طريقها التي كانت تسلك إلى الشام حين كان من وقعة بدر، فسلكوا طريق العراق واستأجروا رجلاً من بكر بن وائل يقال له فرات بن حيان يدلهم على الطريق، فأصاب زيد بن حارثة تلك العير وأعجزته الرجال هرباً. وفي رواية الواقدي: أن ذلك العير مع صفوان بن أمية، وأنهم قدموا بالعير إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأسروا رجلاً أو رجلين، وكان فرات بن حيان أسيراً فأسلم،

فتُرِكَ من القتل».

ص: 36

فأعطى النبي (صلی الله علیه و آله) خمسها لبني هاشم، فبلغ عشرين ألف درهم، وقسم الباقي بين المقاتلين. الإمتاع: 1/129.

وفي الطبقات: 2/36: «كانت لهلال جمادی الآخرة.. والقردة من أرض نجد بين الربذة والغمرة. وأسر فرات بن حيان فأتي به النبي (صلی الله علیه و آله) فقيل له إن تسلم تترك، فأسلم فتركه رسول الله».

6- محاولة قريش قتل النبي (صلی الله علیه و آله) ثأراً ببدر

كان صفوان بن أمية زعيم كنانة المتحالفة مع مشركي قريش، وكان ثرياً فجَنَّدَ شخصاً لقتل النبي (صلی الله علیه و آله)، وأرسله متخفياً إلى المدينة.

ففي الخرائج: 1/119 من حديث علي (علیه السلام) مع اليهودي عن معجزات النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «ومنها: أن المشركين لما رجعوا من بدر إلى مكة أقبل عمير بن وهب الجمحي حتى جلس إلى صفوان بن أمية بن خالد الجمحي، فقال صفوان: قبح الله العيش بعد قتلى بدر! قال عمير: أجل والله ما في العيش بعدهم خير، ولولا ديْنٌ عليَّ لا أجد له قضاء، وعيال لا أدع لهم شيئاً، لرحلت إلى محمد حتى أقتله إن ملأت عيني منه، فإنه بلغني أنه يطوف في الأسواق، وإن لي عندهم علة، أقول قدمت على ابني هذا الأسير. ففرح صفوان بقوله وقال: يا أبا أمية هل نراك فاعلاً؟ قال: إي ورب البنية. قال صفوان: فعليَّ دينك وعيالك أسوة عيالي، وأنت تعلم أن ليس بمكة رجل أشد توسعاً على عياله مني.فقال عمير: قد عرفت بذلك يا أبا وهب. قال: صفوان: فإن عيالك مع عيالي لن يسعني شئ ويعجز عنهم، ودَيْنك عليَّ. فحمله صفوان على بعيره وجهزه وأجرى على عياله ما يجري على عيال نفسه، وأمر عمير بسيفه فشُحذ وسُمَّ، ثم خرج إلى المدينة، وقال لصفوان: أكتم عليَّ أياماً حتى أقدمها. فلم يذكرها صفوان، فقدم عمير فنزل على باب المسجد وعقل راحلته وأخذ السيف فتقلده، ثم عمد نحو رسول الله، فلما رآه النبي (صلی الله علیه و آله) قال له: ما أقدمك يا عمير؟ قال: قدمت في أسيري

ص: 37

عندكم تفادوننا وتحسنون إلينا فيه فإنكم العشيرة. قال النبي (صلی الله علیه و آله): فما بال السيف؟ قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت من شئ! إنما نسيته حين نزلتُ وهو في رقبتي!

فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): فما شرطت لصفوان في الحجر؟ ففزع عمير وقال: ماذا شرطت له؟ قال: تحملت له بقتلي على أن يقضي دينك ويعول عيالك، والله حائل بيني وبين ذلك! قال عمير: أشهد أنك رسول الله وأنك صادق، وأن لا إله إلا الله، كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي وبما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديث كان شيئاً بيني وبين صفوان كما قلت، لم يطلع عليه غيري وغيره، وقد أمرته أن يكتم عليَّ أياماً فأطلعك الله عليه، فآمنت بالله وبرسوله وشهدت أن ما جئت به صدق وحق! قال (صلی الله علیه و آله): علموا أخاكم القرآن، وأطلقوا له أسيره.

فقال عمير: «إني كنت جاهداً على إطفاء نور الله وقد هداني الله فله الحمد، فأذن لي لألحق قريشاً فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام، فأذن له فلحق بمكة، وكان صفوان يسأل عن عمير فقيل له: إنه أسلم، فطرح عياله! وقدم عمير فدعاهم إلى الله وأخبرهم بصدق رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأسلم معه نفر كثير». ورواه في مغازي الواقدي/71، في الإحتجاج: 1/333، مختصراً ورواه ابن هشام: 2/485، لكن زاد فيه منقبة لعمر بأنه هو الذي اكتشف عميراً وحذر منه النبي (صلی الله علیه و آله) !

ص: 38

الفصل الثالث والأربعون: النبي (صلی الله علیه و آله) واليهود من غزوة بدرالى أحد

1- حاخامات اليهود في زمن النبي (صلی الله علیه و آله)

يتشابه زعماء بطون قريش مع أقاربهم اليهود إلى حد كبير، في عدائهم للنبي وعنادهم! فقد كذَّبوه وآذوه، وحاولوا قتله طول ثلاث عشرة سنة، وبعدها!

ثم هاجر (صلی الله علیه و آله) عنهم وطلب منهم أن يتركوه والعرب ويقفوا على الحياد، فلم يفعلوا، وأصروا على حربه، فحاربوه في بدر وانهزموا، ولم يأخذوا العبرة. ثم أحُد والخندق، ولم يأخذوا العبرة. وابتلاهم الله بالقحط والسنوات العجاف فكانوا كما قال الله عنهم: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ. وباغتهم النبي (صلی الله علیه و آله) في مكة ففتحها وأجبرهم على خلع سلاحهم فلم يعتبروا!

وكذلك اليهود في إصرارهم على عداوته (صلی الله علیه و آله) وحماقتهم وفتح الحروب عليه! فقد جاؤوا بعد المسيح (علیه السلام) إلى جزيرة العرب، وسكنوا في تيماء وأم القرى وخيبر والمدينة ومكة، ينتظرون النبي الموعود (صلی الله علیه و آله)، وكانوا يتوعدون به العرب وأنه سيأتي ويكونون معه، وبذلك هيؤوا أهل المدينة للإيمان به! ولما بعثه الله تعالى كفروا به، لأنه من أولاد إسماعيل (علیه السلام) وليس من أولاد إسحاق (علیه السلام) ! وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ. البقرة: 89-90.

ص: 39

وكان اليهود مجموعات قبلية يرأسهم حاخاماتهم. وقد جاؤوا لهدف ديني هو انتظار بعثة النبي الموعود ومعهم كتبهم، وتحالفوا في المدينة مع الأوس والخزرج واشتغلوا بالزراعة والتجارة والصياغة.

وكان لهم في كل منطقة مدرستان: المدراس لتدريس التوراة وتسمى الفهر، «لسان العرب: 5/66» والمشناة، التي لتدريس التلمود أو الشريعة.

وكان أسوأ حاخاماتهم: كعب بن الأشرف رئيس بني النضير، وخليفته حیي بن أخطب، فقد أفرطا في عداء النبي (صلی الله علیه و آله) وتحريك قريش والعرب ضده!

وذكر ابن هشام: 2/358 أسماء اليهود الذين نصبوا العداء للنبي (صلی الله علیه و آله) وكان ابن إسحاق خبيراً بهم، قال: «ونصبت عند ذلك أحبار يهود لرسول الله (صلی الله علیه و آله) العداوة بغياً وحسداً وضغناً..وكانت أحبار يهودهم الذي يسألون رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويتعنتونه ويأتونه باللبس ليلبسوا الحق بالباطل، فكان القرآن ينزل فيهم وفيما يسألون عنه.. منهم: حيي بن أخطب، وأخواه أبو ياسر بن أخطب، وجدي بن أخطب، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وسلام بن أبي الحقيق، وأخوه سلام بن الربيع..والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وعمرو بن جحاش، وكعب بن الأشرف، وهو من طيئ، ثم أحد بني نبهان، وأمه من بني النضير، والحجاج بن عمرو، حليف كعب بن الأشرف، وكردم ابن قيس، حليف كعب بن الأشرف، فهؤلاء من بني النضير.

ومن بني ثعلبة بن الفطيون: عبدالله بن صوريا الأعور، ولم يكن بالحجاز في زمانه أعلم بالتوراة منه، وابن صلوبا، ومخيريق، وكان حبرهم، أسلم.

ومن بني قينقاع: زيد بن اللصيت.. وسعد بن حنيف، ومحمود بن سيحان، وعزيز بن أبي عزيز، وعبدالله بن صيف. قال ابن إسحاق: وسويد بن الحارث، ورفاعة بن قيس، وفنحاص، وأشيع، ونعمان بن أضا، وبحري بن عمرو، وشاس بن عدي، وشاس بن قيس، وزيد بن الحارث، ونعمان بن عمرو، وسكين بن أبي سكين، وعدي بن زيد، ونعمان بن أبي أوفى، أبو أنس، ومحمود بن دحية، ومالك بن صيف.. وكعب بن راشد، وعازر، ورافع بن أبي رافع، وخالد، وإزار بن أبي إزار.. ورافع بن حارثة،

ص: 40

ورافع بن حريملة، ورافع بن خارجة، ومالك بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت، وعبدالله بن سلام بن الحارث، وكان حبرهم وأعلمهم، وكان اسمه الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله (صلی الله علیه و آله) عبدالله، فهؤلاء من بني قينقاع.

ومن بني قريظة: الزبير بن باطا بن وهب، وعزال بن شمويل، وكعب بن أسد، وهو صاحب عقد بني قريظة الذي نقضه عام الأحزاب، وشمويل بن زيد، وجبل بن عمرو بن سكينة، والنحام بن زيد، وقردم بن كعب، ووهب بن زيد، ونافع بن أبي نافع، وأبو نافع، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، وكردم بن زيد، وأسامة بن حبيب، ورافع بن رميلة، وجبل بن أبي قشير، ووهب بن يهوذا، فهؤلاء من بني قريظة.

ومن يهود بني زريق: لبيد بن أعصم، وهو الذي أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن نسائه. ومن يهود بني حارثة: كنانة بن صورياء. ومن يهود بني عمرو بن عوف: قردم بن عمرو. ومن يهود بني النجار: سلسلة بن برهام.

فهؤلاء أحبار اليهود، وأهل الشرور والعداوة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه».

ومعنى قوله عن لبيد بن الأعصم بأنه أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن نسائه، أنه سحر النبي (صلی الله علیه و آله) كما زعمت عائشة فصار يتصور أنه قاربها ولم يقاربها! وهذا عندنا من المكذوبات على رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما بينا في محله.

قال في الصحيح: 6/21: «اليهود شعب عنصري مؤمن بتفوق عنصره على البشر كافة! والناس عندهم لا قيمة لهم ولا اعتبار، وإنما خلقوا لخدمة الإسرائيليين وحسب! فكل الناس إذن يجب أن يكونوا في خدمتهم وتحت سلطتهم كما يقول لهم تلمودهم. فقد جاء في التلمود ما ملخصه: إن الإسرائيلي معتبر عند الله أكثر من الملائكة، وإن اليهودي جزء من الله، ومن ضرب يهودياً فكأنه ضرب العزة الإلهية، والشعب المختار هم اليهود فقط، وأما باقي الشعوب فهم حيوانات. ويعتبر اليهود غير اليهود أعداء لهم ولا يجيز التلمود أن يشفق اليهود على أعدائهم. ويلزم التلمود الإسرائيليين بأن يكونوا دنسين مع الدنسين، ويمنع

ص: 41

من تحية غير اليهودي إلا أن يخشوا ضررهم، ولا يجيزون الصدقة على غير اليهودي ويجوز لهم سرقة ماله وغشه. كما أن على الأمميين أن يعملوا ولليهود أن يأخذوا نتاج هذا العمل. ويجيز التلمود التعدي على عرض الأجنبي لأن المرأة إن لم تكن يهودية فهي كالبهيمة. ولليهودي الحق في اغتصاب غير اليهوديات. ويحرم على اليهودي أن يُنجي غيره. إلى آخر ما هنالك».

ولم يسلم منهم إلا النادر مثل الحاخام مخيريق، وكان صادقاً، واستشهد مع النبي (صلی الله علیه و آله) في أحُد، ورووا أن عبدالله بن سلام أسلم، ولا أظنه صادقاً!

2-كعب بن الأشرف رئيس بني النضير

في المناقب: 1/48: «قال كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف ووهب بن يهودا وفنحاص بن عازورا: يا محمد إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا في التوراة أَلاّنُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ، فإن زعمت أن الله بعثك الينا فجئنا به نصدقك،فنزلت: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ. البقرة: 89-90.

وقوله: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. أراد زكريا ويحيى وجميع من قتلهم اليهود».

وفي مجمع البيان: 3/347 أن كعباً جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) عند هجرته وطلب منه معجزة فأراه، فاستكبر ولم يؤمن! وسألوه عندما خرج من عند النبي (صلی الله علیه و آله): «أهو نبي؟ فقال: هو هو! فقيل: ماله عندك؟ فقال: العداوة إلى الموت»!

وفي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /92، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما قدم المدينة وظهرت آثار صدقه وآيات حقه، وبينات نبوته، كادته اليهود أشد كيد، وقصدوه أقبح قصد، يقصدون أنواره ليطمسوها، وحججه ليبطلوها! فكان ممن قصده للرد عليه وتكذيبه: مالك بن الصيف، وكعب بن الأشرف، وحيي بن

ص: 42

أخطب، وجدي بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب، وأبو لبابة بن عبدالمنذر، وشعبة. فقال مالك لرسول الله (صلی الله علیه و آله): يا محمد تزعم أنك رسول الله؟

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): كذلك قال الله خالق الخلق أجمعين.

قال: يا محمد لن نؤمن لك أنك رسول الله حتى يؤمن لك هذا البساط الذي تحتنا! ولن نشهد أنك عن الله جئتنا حتى يشهد لك هذا البساط. وقال أبولبابة بن عبدالمنذر: لن نؤمن لك يا محمد أنك رسول الله، ولا نشهد لك به حتى يؤمن ويشهد لك هذا السوط الذي في يدي. وقال كعب بن الأشرف: لن نؤمن لك أنك رسول الله ولن نصدقك به حتى يؤمن لك هذا الحمار الذي أركبه!

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنه ليس للعباد الإقتراح على الله تعالى، بل عليهم التَّسْليم لله والانقياد لأمره والاكتفاء بما جعله كافياً. أما كفاكم أنه أنطق التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم بنبوتي ودل على صدقي؟ وبين لكم فيها ذكر أخي ووصيي وخليفتي وخير من أتركه على الخلائق من بعدي علي بن أبي طالب، وأنزل عليَّ هذا القرآن الباهر للخلق أجمعين، المعجز لهم عن أن يأتوا بمثله وأن يتكلفوا شبهه. وأما هذا الذي اقترحتموه فلست أقترحه على ربي عزوجل، بل أقول إنما أعطاني ربي تعالى من دلالة هو حسبي وحسبكم، فإن فعل عزوجل ما اقترحتموه فذاك زائد في تطوله علينا وعليكم، وإن منعنا ذلك فلعلمه بأن الذي فعله كاف فيما أراده منا. قال: فلما فرغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) من كلامه هذا أنطق الله البساط فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً أحداً صمداً حياً قيوماً أبداً، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولم يشرك في حكمه أحداً، وأشهد أنك يا محمد عبده ورسوله، أرسلك بالهدى ودين الحق ليظهرك على الدين كله ولو كره المشركون. وأشهد أن علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف أخوك ووصيك، وخليفتك في أمتك.. فعجب القوم وقال بعضهم لبعض: ما هذا إلا سحر مبين! فاضطرب البساط وارتفع..وأنطق الله سوط أبي لبابة، ثم أنطق حمار كعب بن الأشرف، فقال: هذا سحر!

ص: 43

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ياكعب بن الأشرف حمارك خير منك! فلما انصرف القوم من عند رسول الله ولم يؤمنوا أنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ..».

وكان كعب يقود الحاخامات ضد النبي (صلی الله علیه و آله) ويتصلون بالمؤمنين من الأنصار ويلقون عليهم الشبهات ليكفروا، ونزلت فيهم آيات كقوله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاّنُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. آل عمران: 183.

وقد وقع اليهود بطوائفهم الثلاث: قينقاع والنضير وقريظة، معاهدات تعايش مع النبي (صلی الله علیه و آله) لكنهم كانوا يتعاونون خفيةً مع قريش، وعندما انهزمت في بدر أصابهم الذهول، وقصد كعب وابن أخطب مكة يحرضانهم على النبي (صلی الله علیه و آله) !

وفي شرح النهج: 14/196 عن الواقدي، قال: «وفرق الله عزوجل ببدر بين الكفر والإيمان، وأذل رقاب المشركين والمنافقين واليهود، ولم يبق بالمدينة يهودي ولا منافق إلا خضعت عنقه! وقال قوم من المنافقين ليتنا خرجنا معه حتى نصيب غنيمة! وقالت يهود فيما بينها: هو الذي نجد نعته في كتبنا والله لاترفع له راية بعد اليوم إلا ظهرت! وقال كعب بن الأشرف: بطن الأرض اليوم خير من ظهرها! هؤلاء أشراف الناس وساداتهم وملوك العرب وأهل الحرم والأمن قد أصيبوا! وخرج إلى مكة فنزل على أبي وداعة بن ضبيرة، وجعل يرسل هجاء المسلمين، ورثى قتلی بدر من المشركين فقال:

طحنت رحى بدر لمهلك أهله *** ولمثل بدر يستهل ويدمع

قتلت سراة الناس حول حياضهم *** لا تبعدوا، إن الملوك تُصرَّع

نبئت أن الحارث بن هشامهم *** في الناس يبني الصالحات ويجمع

ليزور يثرب بالجموع وإنما *** يسعى على الحسب القديم الأروع

قال الواقدي.. فلما أرسل كعب هذه الأبيات أخذها الناس بمكة عنه وأظهروا المراثي، وقد كانوا حرَّموها كيلا يشمت المسلمون بهم! وجعل الصبيان والجواري ينشدونها بمكة، فناحت بها قريش على قتلاها شهراً، ولم تبق دار بمكة إلا فيها النوح،

ص: 44

وجَزَّ النساء شعورهن، وكان يؤتى براحلة الرجل منهم أو بفرسه فتوقف بين أظهرهم فينوحون حولها! وخرجن إلى السكك وضربن الستور في الأزقة، فخرجن إليها ينحن»! ورواه ابن هشام بنحوه: 2/564 والمقريزي في الإمتاع: 12/179باثني عشر بيتاً.

وفي أسباب النزول/62: «وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكباً إلى أهل مكة أبي سفیان وأصحابه، فوافقوهم وأجمعوا أمرهم وقالوا: لتكونن كلمتنا واحدة، ثم رجعوا إلى المدينة فأنزل الله فيهم هذه الآية: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ..».

3- غزوة النبي (صلی الله علیه و آله) ليهود بني قينقاع بضاحية المدينة

كان بنو قينقاع صاغة يعملون بالذهب، وليس عندهم بساتين، ولهم سوق الذهب المعروف قرب المدينة. وكان بنو النضير أصحاب زراعة وبساتين، ويشبههم بنو قريظة. وعددهم جميعاً بضعة آلاف نسمة.

قال في إعلام الورى: 1/157: «قال علي بن إبراهيم بن هاشم: جاءته اليهود قريظة والنضير والقينقاع «كل يهود المدينة» فقالوا: يا محمد إلى مَ تدعو؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وإني الذي تجدوني مكتوباً في التوراة، والذي أخبركم به علماؤكم أن مخرجي بمكة ومهاجري في هذه الحرة، وأخبركم عالم منكم جاءكم من الشام. فقال: تركت الخمر والخمير وجئت إلى البؤس والتمور، لنبي يبعث في هذه الحرة، مخرجه بمكة ومهاجره هاهنا، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم، يركب الحمار، ويلبس الشملة، ويجتزئ بالكسرة، في عينيه حمرة، وبين كتفيه خاتم النبوة، ويضع سيفه على عاتقه، لايبالي من لاقى، وهو الضحوك القتال، يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر.

فقالوا له: قد سمعنا ما تقول، وقد جئناك لنطلب منك الهدنة، على أن لا نكون لك ولاعليك ولا نعين عليك أحداً، ولا نتعرض لأحد من أصحابك، ولا تتعرض لنا ولا لأحد من أصحابنا، حتى ننظر إلى ما يصير أمرك وأمر قومك!

ص: 45

فأجابهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى ذلك وكتب بينهم كتاباً: أن لا يعينوا على رسول الله ولا على أحد من أصحابه، بلسان ولايد ولا بسلاح ولا بكراع في السر والعلانية لا بليل ولا بنهار، والله بذلك عليهم شهيد. فإن فعلوا فرسول الله (صلی الله علیه و آله) في حل من سفك دمائهم، وسبي ذراريهم ونسائهم، وأخذ أموالهم!

وكتب لكل قبيلة منهم كتاباً على حدة، وكان الذي تولى أمر بني النضير حیي بن أخطب. فلما رجع إلى منزله قال له أخواه جدي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب: ما عندك؟ قال: هو الذي نجده في التوراة، والذي بشرنا به علماؤنا، ولا أزال له عدواً، لأن النبوة خرجت من ولد إسحاق وصارت في ولد إسماعيل، ولا نكون تبعاً لولد إسماعيل أبداً!

وكان الذي ولي أمر قريظة كعب بن أسد، والذي تولى أمر بني قينقاع مخيريق وكان أكثرهم مالاً وحدائق، فقال لقومه: تعلمون أنه النبي المبعوث فهلمَّ نؤمن به ونكون قد أدركنا الكتابين! فلم تجبه قينقاع إلى ذلك».

قال الشافعي في الأم: 4/181: «ولم تخرج «اليهود» إلى شئ من عداوته (صلی الله علیه و آله) بقول يظهر ولا فعل حتى كانت وقعة بدر، فكلم بعضها بعضاً بعداوته والتحريض عليه». لكن في الصحيح: 6/36: «بدأ اليهود قبل بدر بالتحريض على الرسول والمسلمين والتعرض لهم بمختلف أنواع الأذى، فكان أبو عفك اليهودي يحرض على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويقول فيه الشعر، فنذر سالم بن عمير أن يقتله أو يموت دونه، فذهب إليه فقتله..ثم كانت حرب بدر ونتائجها المذهلة، فزاد ذلك من مخاوف اليهود والمشركين والمنافقين على حد سواء، فصعَّدوا من نشاطاتهم». وعدَّد أنشطتهم ضد المسلمين فقال: 6/30:

«1 - قد أشار الجاحظ إلى أنهم شبَّهوا على العوام واستمالوا الضعفة، ومالؤوا الأعداء والحسدة، ثم جاوزوا الطعن وإدخال الشبهة.الخ...

2 - طرح الأسئلة الإمتحانية على النبي (صلی الله علیه و آله) بهدف تعجيزه! ويلاحظ أن هذه المحاولات كانت تبذل من قبل مختلف قبائل اليهود.

ص: 46

3 - ولما فشلوا في محاولاتهم محاربة الإسلام على صعيد الفكر، اتجهوا نحو أسلوب الضغط الإقتصادي على المسلمين فيذكرون أن رجالاً من أهل الجاهلية باعوا يهوداً بضاعة ثم أسلموا وطلبوا من اليهود دفع الثمن فقالوا: ليس علينا أمانة، ولا قضاء عندنا، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه! وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم! فجاء في الآية المباركة الرد عليهم: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الآمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.

4 - ممالأة أعداء الإسلام ومساعدتهم بكل ما أمكنهم، ولو بالتجسس.

5 - محاربة الإسلام أيضاً عن طريق إثارة الفتن بين المسلمين، ولا سيما بين الأوس والخزرج، ونذكر على سبيل المثال قضية شاس بن قيس.

6 - تآمرهم على حياة النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) وتحريضهم الناس عليه.

7 - محاولات إثارة البلبلة وتشويش الأوضاع، بإشاعة الأكاذيب وتخويف ضعاف النفوس من المسلمين.

8- تآمرهم مع المنافقين على الإسلام، وممالأتهم قريشاً على حرب الرسول (صلی الله علیه و آله).

9- تآمرهم لمنع المسلمين من الخروج للحرب، وكانوا يجتمعون في بيت سويلم اليهودي لأجل تثبيط الناس عن الرسول (صلی الله علیه و آله).وقد صبر الرسول عليهم، تفادياً لحرب أهلية في مقره الجديد.. حتى طفح الكيل وبلغ السيل الزبى».

أقول: من طريف أخبار اليهود أن بني قريظة والنضير كانوا حلفاء الأوس، وبني قينقاع حلفاء الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حرب، فكانت كل فئة من اليهود تحارب مع حلفائها فتقاتل إخوانها وتقتل منهم! فوبخهم الله تعالى وقال لهم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاتُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالآثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَاتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ

ص: 47

وَهُوَمُحَرَّمٌ عَلَيْكُمُ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَاوَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.

البقرة: 84-85.

4- سارع بنو قينقاع بعد بدر إلى نقض عهدهم

كانت هزيمة قريش في بدر صاعقة على اليهود، فأسرع الحاخام كعب بن الأشرف إلى مكة لتقوية قلوب القرشيين، ونشط في عداء النبي (صلی الله علیه و آله) وهجائه حتى أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بقتله! كما أعلن بنو قينقاع نقض عهدهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) وأخذوا يستعدون لحربه، وكانوا صاغة اليهود وأكثرهم ثروة، ولهم سوق الذهب في ضاحية المدينة، المعروف باسم: سوق بني قينقاع. الحموي: 4/424.

وكان رئيس بني قينقاع الحاخام مخيريق رضی الله عنه، ورأَّسوه عليهم لأنه من بني النضير وهم وقريظة من ذرية هارون (علیه السلام)، لكنهم لم يطيعوه لما دعاهم إلى الإيمان بالنبي (صلی الله علیه و آله)، ونصحهم بعدم نقض عهدهم معه.

وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج وطرف حلفهم عبادة بن الصامت، وكان من النقباء وخيار الصحابة، وعبدالله بن سلول، وكان رأس المنافقين من أهل المدينة ومن الذين في قلوبهم مرض، أي الطبقة السياسية في المنافقين.

وكانت قريش تراسل ابن سلول وبني قينقاع قبل بدر، تحثهم على حرب النبي (صلی الله علیه و آله)، ومما كتبته اليهم: «إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم»!

فلما بلغ ذلك النبي (صلی الله علیه و آله) لقيهم فقال: لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ماكانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم! فلما سمعوا ذلك من النبي (صلی الله علیه و آله) تفرقوا. فبلغ ذلك كفار قريش فكتبوا إلى اليهود بعد وقعة بدر: إنكم أهل الحلقة والحصون، وإنكم لتقاتلن صاحبنا، أو لنفعلن كذا وكذا. أبو داود: 2/33.

ص: 48

هنا سارع بنو قينقاع فنقضوا عهدهم وأخذوا يستعدون للحرب، فنزل قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ. قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ.

وفي تفسير القمي: 1/97: «لما رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من بدرأتى بني قينقاع وهو يناديهم، وكان بها سوق يسمى سوق النبط، فأتاهم رسول الله فقال: يا معشر اليهود قد علمتم ما نزل بقريش، وهم أكثر عدداً وسلاحاً وكراعاً منكم، فادخلوا في الإسلام فقالوا: يا محمد أإنك تحسب حربنا مثل حرب قومك؟! والله لو لقيتنا للقيت رجالاً! فنزل عليه جبرئيل فقال: يامحمد: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ». ونحوه ابن إسحاق: 3/294.

وفي إعلام الورى: 1/175: «كانت غزوة بني قينقاع يوم السبت للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة. وروي أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حاصرهم ستة أيام حتى نزلوا على حكمه..خرجوا من المدينة، ونزلوا أذرعات».

فكانت غزوتهم بعد بضعة وعشرين يوماً من رجوع النبي (صلی الله علیه و آله) من معركة بدر.

وفي سيرة ابن إسحاق: 3/295: «كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله وحاربوا فيما بين بدر وأحد، فحاصرهم رسول الله حتى نزلوا على حكمه، فقام اليه عبدالله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم فقال: يا محمد أحسن في مواليَّ، وكانوا حلفاء الخزرج، فأبطأ عنه رسول الله فقال: يا محمد أحسن، فأعرض عنه رسول الله، فأدخل يده في جيب درع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال له رسول الله وغضب رسول الله ثم قال: ويحك أرسلني، فقال: لاوالله لا أرسلك حتى تحسن في مواليَّ، أربع مائة حاسر وثلاث مائة دارع، منعوني من الأحمر والأسود وتحصدهم في غداة واحدة! إني والله امرؤ أخشى الدوائر! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): هم لك»!

وفي الطبري: 2/173: «فقال النبي (صلی الله علیه و آله): خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم، فأرسلوهم، ثم أمر بإجلائهم وغَنَّمَ الله عزوجل رسوله والمسلمين ما كان لهم

ص: 49

من مال، ولم تكن لهم أرضون إنما كانوا صاغة فأخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) لهم سلاحاً كثيراً وآلة صياغتهم، وكان الذي ولي إخراجهم من المدينة بذراريهم عبادة بن الصامت فمضى بهم حتى بلغ بهم ذباب وهو يقول: الأقصى فالأقصى».

ونحوه الطبقات: 2/29، وفيه: «وجدوا في حصنهم سلاحاً كثيراً وآلة الصياغة، فأخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) صفيه والخمس، وفض أربعة أخماس على أصحابه، فكان أول خمسٍ خُمِّسَ بعد بدر».

5- رئيس بني قينقاع خير بني يهود

كان الحاخام مخيريق (رحمة الله) أغنى اليهود، وقد وفقه الله للإسلام فقصد النبي (صلی الله علیه و آله) عند وصوله إلى قباء وأسلم على يده، ودعا قومه إلى الإسلام وأن ينصروه في أحد فأبوا، فذهب إلى أحد بعد أن أوصى للنبي (صلی الله علیه و آله) بكل أمواله وكانت بساتين كبيرة وقاتل واستشهد في أحد رضی الله عنه.

قال في المناقب: 1/146: «وكان مخرنق أحد بني النضير حبراً عالماً أسلم وقاتل مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأوصى بماله لرسول الله وهو سبع حوائط وهي: المينب، والصايفة، والحسنى، ويرقد، والعواف، والكلاء، ومشربة أم إبراهيم».

وفي الإصابة: 6/46: «كان عالماً وكان أوصى بأمواله للنبي (صلی الله علیه و آله) وهي سبع حوائط... وشهد أحداً فقتل بها فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): مخيريق سابق يهود، وسلمان سابق فارس، وبلال سابق الحبشة... فلما خرج النبي (صلی الله علیه و آله) إلى أحُد قال لليهود: ألا تنصرون محمداً؟ والله إنكم لتعلمون أن نصرته حق عليكم! فقالوا: اليوم يوم السبت! فقال: لا سبت لكم! وأخذ سيفه ومضى إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقاتل حتى أثبتته الجراحة، فلما حضره الموت قال: أموالي إلى محمد يضعها حيث شاء..».

وفي سيرة ابن هشام: 2/362: «قال: لا سبت لكم، ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأحد، وعهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد يصنع فيها ما أراه الله. وقبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمواله فعامة صدقات رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالمدينة منها».

ص: 50

وقد أرى الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يوقف أموال مخيريق، ويجعل ولايتها لابنته فاطمة الزهراء وذريتها (علیها السلام)، وكذا نخل بني النضير الذي أفاءه الله على نبيه (صلی الله علیه و آله) ولم يوجف عليه بخيل ولاركاب.

قال في فتح الباري: 6/140: «فكان نخل بني النضير لرسول الله (صلی الله علیه و آله) خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها...وبقي منها صدقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) التي في أيدي

بني فاطمة رضی الله عنها». لكن أبابكر وعمر صادرا ه من الزهراء (علیها السلام) وصادرا فدكاً، بحجة أنهما وليا النبي (صلی الله علیه و آله) وقالا إنهما يعطيان المأكل والمشرب لعترة النبي (صلی الله علیه و آله) !

6- غزوة بني النضير

لم يكتف بنو النضير وسيدهم كعب بخيانة النبي (صلی الله علیه و آله)، بل حاولوا اغتياله! فأمره الله تعالى أن يقتل كعباً وبعض شرارهم لينذرهم بذلك، ثم يغزوهم.

«أجمعت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبراً، حتى نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالكتائب فحصرهم فقال لهم: إنكم والله لا تأمنون عندي، إلا بعهد تعاهدوني عليه». سنن أبي داود: 2/33.

وفي الصحيح: 6/58: «فبينما هم على مجاهرتهم وكفرهم إذ جاءت امرأة مسلمة إلى سوقهم، فجلست عند صائغ منهم لأجل حلي لها، فأرادوها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ أو رجل آخر إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها وهي لا تشعر! فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا منها، فصاحت فوثب مسلم على من فعل ذلك فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستنصر أهل المسلم بالمسلمين فغضب المسلمون، وقال (صلی الله علیه و آله): ماعلى هذا أقررناهم! فتبرأ عبادة بن الصامت من حلفهم، وقال: يا رسول الله أتولى الله ورسوله وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار».

ص: 51

7- حاصر النبي (صلی الله علیه و آله) بني النضير وانتصرعليهم بعلي (علیه السلام)

قال المفيد في الإرشاد: 1/92 ونحوه المناقب: 2/332: «لما توجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى بني النضير عمل على حصارهم، فضرب قبته في أقصى بني خطمة من البطحاء فلما أقبل الليل رماه رجل من بني النضير بسهم فأصاب القبة، فأمر النبي (صلی الله علیه و آله) أن تحول قبته إلى السفح، وأحاط به المهاجرون والأنصار. فلما اختلط الظلام فقدوا أميرالمؤمنين (علیه السلام) فقال الناس: يا رسول الله لا نرى علياً؟

فقال (صلی الله علیه و آله): أراه في بعض ما يصلح شأنكم! فلم يلبث أن جاء برأس اليهودي الذي رمى النبي (صلی الله علیه و آله) وكان يقال له عزورا، فطرحه بين يدي النبي (صلی الله علیه و آله) فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): كيف صنعت؟ فقال: إني رأيت هذا الخبيث جريئاً شجاعاً، فكمنت له وقلت ما أجرأه أن يخرج إذا اختلط الظلام يطلب منا غِرة، فأقبل مصلتاً سيفه في تسعة نفر من أصحابه اليهود، فشددت عليه فقتلته، وأفلت أصحابه ولم يبرحوا قريباً، فابعث معي نفراً فإني أرجو أن أظفر بهم!

فبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) معه عشرة فيهم أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، فأدركوهم قبل أن يلجوا الحصن فقتلوهم وجاؤوا برؤوسهم إلى النبي (صلی الله علیه و آله)، فأمر أن تطرح في بعض آبار بني حطمة، وكان ذلك سبب فتح حصون بني النضير. وفي تلك الليلة قتل كعب بن الأشرف..«غير كعب المعروف».

وفيما كان من أميرالمؤمنين (علیه السلام) في هذه الغزاة وقتله اليهودي، ومجيئه إلى النبي (صلی الله علیه و آله) برؤوس التسعة النفر، يقول حسان:

لله أي كريهة أبليتَها *** ببني قريظة والنفوس تطلَّعُ

أردى رئيسهم وآبَ بتسعة *** طوراً يشلهم وطوراً يدفع»

وفي الصحيح: 8/92 تحت عنوان: الفتح على يد علي (علیه السلام): ما حاصله:

«كان لهذه الضربة تأثير كبير على معنويات بني النضير، وضج الرعب في قلوبهم فإن تصدي رجل واحد من المسلمين لعشرة منهم، ثم قتل العشرة جميعاً، يؤذن بأن

ص: 52

المسلمين قادرون على إبادتهم، واستئصال شأفتهم بسهولة ويسر!

ويلاحظ أن شعر حسان ذكر أن هذه القضية وقعت في بني قريظة، لكن الرواية تنص على حدوث ذلك في بني النضير، فيكون الخلل في الرواية لشعر حسان».

8- غرور بني النضير عند جلائهم!

حكم النبي (صلی الله علیه و آله) على بني النضير بالجلاء عن المدينة بسبب خيانتهم وحربهم، فهاجروا إلى درعا، وتعمدوا أن يخرجوا بمظاهر الزينة والإحتفال!

قال في الصحيح، ملخصاً: 8/174: «فخرجوا ومعهم الدفوف والمزاميرتجلداً.. ثم شقوا سوق المدينة والنساء في الهوادج، عليهن الحرير والديباج، وقطف الخز الخضر والحمر، قد صف لهم الناس فجعلوا يمرون قطاراً في إثر قطار، فحملوا على ست مائة بعير. ومروا يضربون بالدفوف ويزمرون بالمزامير. ونادى أبو رافع سلام بن أبي الحقيق ورفع مسك الجمل: إن هذا المسك مملوء من الحلي.. نعده لخفض الأرض ورفعها، فإن يكن النخل تركناه فإنا نقدم على نخل بخيبر.

فقد كان بنو النضير أهل جبروت وقسوة وبغي وعنجهية واعتداد بالنفس، حتى إنهم ليظلمون إخوانهم من بني قريظة، وهم أيضاً من بني هارون ظلماً فاحشاً، ومخالفاً لأحكام التوراة الصريحة، وحتى لأحكام أهل الجاهلية! واستقبلهم يهود خيبر بالنساء والأبناء والأموال، معهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم بزهاء وفخر، مارؤي مثله من حي من الناس في زمانهم». وفي الصحيح: 8/142: «تنص الروايات على أن الرجل من بني النضير كان يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به»!

9- بداية حشر اليهود بإجلاء بني النضير

اشارة

في تفسير القمي: 2/358: «سورة الحشر مدنية آياتها أربع وعشرون: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا...

ص: 53

سبب نزول ذلك أنه كان بالمدينة ثلاثة أبطن من اليهود: بنو النضير وقريظة وقينقاع، وكان بينهم وبين رسول الله (صلی الله علیه و آله) عهد ومدة فنقضوا عهدهم، وكان سبب ذلك من بني النضير في نقض عهدهم أنه أتاهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) يستسلفهم دية رجلين قتلهما رجل من أصحابه غيلة، يعني يستقرض، وكان قصد كعب بن الأشرف فلما دخل على كعب قال: مرحباً يا أبا القاسم وأهلاً! وقام كأنه يضع له الطعام وحدث نفسه أن يقتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويتبع أصحابه، فنزل جبرئيل فأخبره بذلك، فرجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة وقال لمحمد بن مسلمة الأنصاري: إذهب إلى بني النضير فأخبرهم أن الله عزوجل قد أخبرني بما هممتم به من الغدر، فإما أن تخرجوا من بلدنا وإما أن تأذنوا بحرب!

فقالوا: نخرج من بلادك. فبعث إليهم عبدالله بن أبيّ ألا تخرجوا وتقيموا وتنابذوا محمداً الحرب، فإني أنصركم أنا وقومي وحلفاي، فإن خرجتم خرجت معكم وإن قاتلتم قاتلت معكم. فأقاموا وأصلحوا حصونهم وتهيؤوا للقتال، وبعثوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إنا لا نخرج فاصنع ما أنت صانع. فقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكبر وكبر أصحابه، وقال لأميرالمؤمنين (علیه السلام): تقدم إلى بني النضير، فأخذ أميرالمؤمنين (علیه السلام) الراية وتقدم، وجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأحاط بحصنهم. وغدر بهم عبدالله بن أبيّ! وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا ظهر بمقدم بيوتهم حصنوا ما يليهم وخربوا ما يليه، وكان الرجل منهم ممن كان له بيت حسن خربه، وقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمر بقطع نخلهم فجزعوا من ذلك، وقالوا يا محمد: إن الله يأمرك بالفساد؟ إن كان لك هذا فخذه وإن كان لنا فلا تقطعه.

فلما كان بعد ذلك قالوا: يا محمد نخرج من بلادك وأعطنا ما لنا. فقال: لا، ولكن تخرجون ولكم ما حملت الإبل، فلم يقبلوا ذلك فبقوا أياماً، ثم قالوا: نخرج ولنا ما حملت الإبل، فقال: لا، ولكن تخرجون ولا يحمل أحد منكم شيئاً فمن وجدنا معه شيئاً من ذلك قتلناه، فخرجوا على ذلك، ووقع قوم منهم إلى فدك ووادي القرى، وخرج منهم قوم إلى الشام، فأنزل الله فيهم: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ

ص: 54

لَمْ يَحْتَسِبُوا.. إلى قوله: شديد العقاب.

وأنزل الله عليه فيما عابوه من قطع النخل: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ.. إلى قوله: رَبَّنَا إِنَّكَ رُءُوفٌ رَحِيمٌ.

وأنزل الله عليه في عبدالله بن أبيّ وأصحابه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لآخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ.. إلى قوله: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ.ثم قال: مَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يعني بني قينقاع، قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. ثم ضرب في عبدالله بن أبيّ وبني النضير مثلاً، فقال: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِئٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ...

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) للأنصار:«إن شئتم دفعت إليكم فَيْء المهاجرين منها، وإن شئتم قسمتها بينكم وبينهم وتركتهم معكم؟ قالوا: قد شئنا أن تقسمها فيهم، فقسمها رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين المهاجرين ودفعها عن الأنصار، ولم يعط من الأنصار إلا رجلين: سهيل بن حنيف وأبو دجانة، فإنهما ذكرا حاجة».

وتقدم أن بني النضير أخذوا ما حملت الإبل، فلا بد أن يكون هؤلاء بنو قريظة.

وفي هذا الموضوع أربع مسائل:

المسألة الأولى: معنى حشر اليهود وهو موضوع السورة:

فقد سماه الله تعالى الحشر الأول، ولا تجد في كلام المفسرين ما يقنعك بحشرهم الأول والثاني! وغاية ما ذكروه أن الحشر الأول إجلاؤهم من الحجاز إلى الشام والثاني حشرهم في الآخرة من بلاد الشام أيضاً أو من عدن! ورتبوا عليهما ما رووه من أن الشام أرض المحشر والمنشر، وأن الناس يحشرون من عدن بنار تسوقهم إلى الشام أرض المحشر.

لكن يردُّه أن سورة الحشر نزلت في حشر بني النضير، وقد بدأ حشر اليهود ببني قينقاع الذين أجلاهم النبي (صلی الله علیه و آله) قبلهم؟ وأجابوا بأن بني النضير أول من

ص: 55

حشروا إلى الشام، ولا يصح ذلك لأن بني قينقاع ذهبوا إلى أذرعات الشام، وهي المعروفة اليوم بدرعا، بينما ذهب أكثر بني النضير إلى خيبر وقليل منهم إلى الشام!

والجواب المقنع: أن حشر اليهود الثاني يكون عند ظهور الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، ويعبر عنه بيوم الرجعة، أي رجعة أهل البیت (علیهم السلام). التفسير الأصفى: 2/1281.

ويرتبط حشرهم بآيات إفسادهم في الأرض مرتين، وقد كان إفسادهم الأول قبل الإسلام وانتهى بهزيمتهم وحشرهم الأول على يد النبي (صلی الله علیه و آله)، ثم كان إفسادهم الثاني بعد الإسلام وينتهي بحشرهم الثاني الذي قال عنه الله تعالى: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرض فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا. الإسراء: 104.

أما لماذا جعل الله تعالى إجلاء بني النضير أول حشر اليهود وليس بني قينقاع؟ فقد يكون السبب أن بني النضير كانت لهم أراض وبساتين فأجلاهم منها، بينما كان بنو قينقاع صاغة وتجار ذهب، وأن بني النضير من ذرية هارون دون بني قينقاع. فقد يكون للأرض، أو لقادة بني إسرائيل، دخلاً في بدء الإجلاء.

والجواب الأقوى: أن إجلاء اليهود وحشرهم بدأ ببني قينقاع وتواصل ببقيتهم لكن الحكمة اقتضت تأخير نزول السورة التي ذكرت حشرهم إلى ما بعد إجلاء بني النضير، كما أجمع المفسرون، أو بعد إجلاء بني قريظة كما هو محتمل، ولعلها لو نزلت بعد إجلاء بني قينقاع، لأضر ذلك بخطة إجلاء الباقين.

المسألة الثانية: هل قطع النبي (صلی الله علیه و آله) نخل بني النضير أو أحرقه؟

ذكرت مصادر الجميع أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمر بقطع بعض النخلات من بساتين بني النضير، وقد تكون نخلات ملتفة تقع بين معسكره وحصونهم، كانوا يتخذونها مخبأ لعمليات ليلية، فقطع منها أو من سعفها الملتف بقدر الضرورة، ويؤيده أنهم سموها البويرة أي الأرض الصغيرة التي كانت بوراً غير مغروسة ثم غرست.

لاحظ قول ابن شهراشوب في المناقب: 1/170: «ثم حاصرهم نيفاً وعشرين يوماً وأمر بقطع نخلات، قوله:مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ، وهي البويرة في قول حسان».

ص: 56

فالمقطوع هو نخلات قطعها المسلمون بإجازة النبي (صلی الله علیه و آله) لغرض مشروع! لكن رواة السلطة بالغوا في المسألة وصوروا الأمر كأنه إبادة منطقة نخيل واسعة، وغرضهم أن يبرروا ماارتكبه بعضهم في الفتوحات أو الحروب الداخلية من إحراق أشجار وبيوت! لاحظ تضخيم البخاري: 5/23: «حرق رسول الله (صلی الله علیه و آله) نخل بني النضير وقطعه، وهي البويرة، فنزل: مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ».وغرضه إثبات منقبة لبعض الصحابة كانوا بزعمه أعقل من النبي (صلی الله علیه و آله) وأرحم فنهوه عن ذلك!

قال السرخسي في المبسوط: 10/32: «وأمر بقطع النخيل بخيبر حتى أتاه عمر فقال: أليس أن الله تعالى وعدك خيبر؟فقال: نعم. فقال: إذاً تقطع نخيلك ونخيل أصحابك! فأمر بالكف عن ذلك! ولما حاصر ثقيفاً أمر بقطع النخيل والكروم، حتى شق ذلك عليهم»!

وفي السير الكبير: 1/55: «قال الراوي: فأخبرني رجال رأوا السيوف في نخيل النطاة وقيل لهم: هذا مما قطع رسول الله!والنطاة اسم حصن من حصون خيبر»!

وفي دلائل النبوة للبيهقي: 5/157وسننه: 9/90: «وزاد عروة في روايته قال: وأمر رسول الله المسلمين حين حاصروا ثقيفاً أن يقطع كل رجل من المسلمين خمس نخلات أو حبلات من كرومهم! فأتاه عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله إنها عفاء لم تؤكل ثمارها! فأمرهم أن يقطعوا ما أكلت ثماره الأول فالأول»!

كما رووا أن أبابكر كان أعقل من النبي (صلی الله علیه و آله) أيضاً فأوصى بأن لايقطع الشجر! فهي روايات موظفة لمدح عمر وأبي بكر ولو بالطعن بالنبي (صلی الله علیه و آله) ! تعويضاً لهما عن عدم مشاركتهما في قتال! وهذا كافٍ لإسقاط الرواية.

المسألةالثالثة: لماذا جعلاللهأرض بنيالنضير ملكاً خاصاً للنبي (صلی الله علیه و آله) ؟
اشارة

نص القرآن على أن البلاد التي تفتح بدون قتال تكون ملكاً خاصاً للنبي (صلی الله علیه و آله)، قال تعالى: وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ

ص: 57

رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ. الحشر: 6.

وفي المقنعة للمفيد/278: «الأنفال لرسول الله (صلی الله علیه و آله) خاصة في حياته، وهي للإمام القائم مقامه من بعده خالصة، كما كانت له عليه وآله السلام في حياته، قال الله عزوجل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ.وماكان للرسول من ذلك فهو لخليفته القائم في الأمة مقامه من بعده. والأنفال كل أرض فتحت من غيرأن يوجف عليها بخيل ولا ركاب، والأرضون الموات، وتركات من لاوارث له من الأهل والقرابات، والآجام، والبحار، والمفاوز، والمعادن، وقطايع الملوك. روي عن الصادق (علیه السلام) أنه قال: نحن قوم فرض الله تعالى طاعتنا في القرآن، لنا الأنفال، ولنا صفو الأموال. يعني بصفوها ما أحب الإمام من الغنائم واصطفاه لنفسه قبل القسمة، من الجارية الحسناء والفرس الفارِهِ والثوب الحسن، وما أشبه ذلك من رقيق أو متاع، على ما جاء به الأثر من هذا التفسير عن السادة:». وجواهر الكلام: 16/7، 117، 137 و 21/169.

وقد اتفق المسلمون على أن أراضي بني النضير خاصة للنبي (صلی الله علیه و آله) دون غيره. ففي سنن أبي داود: 2/33، تاريخ المدينة: 1/173 وفتح الباري: 6/140: «فكان نخل بني النضير لرسول الله (صلی الله علیه و آله) خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها..وبقي منها صدقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) التي في أيدي بني فاطمة رضی الله عنها».

وقال المفيد في الإرشاد: 1/92 ونحوه المناقب: 2/332: «واصطفى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أموال بني النضير، فكانت أول صافية قسمها رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين المهاجرين الأولين، وأمر علياً (علیه السلام) فحاز ما لرسول الله منها فجعله صدقة، فكان في يده أيام حياته، ثم في يد أميرالمؤمنين (علیه السلام) بعده، وهو في ولد فاطمة (علیها السلام) حتى اليوم».

أقول: يضاف إلى ما أجمع عليه فقهاؤنا ما روته مصادرنا: أن الله تعالى مَلَّكَ الأرض كلها لنبيه (صلی الله علیه و آله) وبعده للإمام من أهل بيته: كقول الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «قال رسول الله: خلق الله آدم وأقطعه الدنيا قطيعة، فما كان لآدم فلرسول الله (صلی الله علیه و آله) وماكان لرسول الله فهو للأئمة من آل محمد:». الكافي: 1/409.

وفي الكافي: 1/407، عن أبي خالد الكابلي عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «وجدنا في كتاب

ص: 58

علي (علیه السلام) أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض، ونحن المتقون والأرض كلها لنا، فمن أحيا أرضاً من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل منها. فإن تركها أو أخربها وأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها، فهو أحق بها من الذي تركها، يؤدي خراجها إلى الامام من أهل بيتي وله ما أكل منها حتى يظهر القائم من أهل بيتي بالسيف، فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها كما حواها رسول الله (صلی الله علیه و آله)».

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «أما علمت أن الدنيا والآخرة للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء، جائز له ذلك من الله». الكافي: 1/408.

وقد صادروها بعد النبي (صلی الله علیه و آله)، ثم ردها عمر، ثم صادروها وادعوا أنهم

أولى بها..الخ.

وقال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه الخطط السياسية/311:

1 - ترك رسول الله الحوائط السبعة اللاتي وهبهن له مخيريق.

2 - ما وهبه الأنصار إياه، وهو كل ما ارتفع من أراضيهم الزراعية.

3 - أراضي بني النضير الزراعية ونخيلها.

4 - ثمانية أسهم من مجموع: 36 سهماً من أراضي خيبر.

5 - أراضي وادي القرى الزراعية.

وبعد وفاة الرسول استولى عليها أبو بكر. جاء في مجمع الزوائد: 9/39 عن عمر، أنه «لما قبض رسول الله جئت أنا وأبو بكر إلى علي فقلنا: ما تقول فيما ترك رسول الله؟ قال: نحن أحق الناس برسول الله! قال فقلت: والذي بخيبر؟ قال: والذي بخيبر. قلت: والذي بفدك؟ قال: والذي بفدك. فقلت: أما والله حتى تحزوا رقابنا بالمناشير!

قرارات إقتصادية لا بد منها: لإجبار الآل الكرام على الإحتكام للسلطة، بغض النظر عن طبيعة القرارات التي ستصدر عنها.

ص: 59

1- تجريد الآل الكرام من سلاح خطير وهو المال، فإذا استعمله الآل الكرام، فقد يؤلفون به قلوب المسلمين ويستميلونهم لصالح قضيتهم.

2- ربط الآل الكرام بالسلطة الحاكمة، وجعل رغيفهم بيد هذه السلطة، لتضمن السيطرة الكاملة عليهم وتحييدهم وإلغاء دورهم كقيادة سياسية شرعية.

3 - عزل الآل الكرام شعبياً حتى تميل عنهم أعين الناس.

4- الحيلولة العملية بين الآل الكرام والمطالبة بالجمع بين النبوة والخلافة.

تحقيق هذه الأهداف

فقد فاوض الآل الكرام واحتكموا إلى السلطة، فحكمت السلطة بتنفيذ قراراتها الإقتصادية، وحرمانهم من التركة ومن المنح ومن سهم ذوي القربى! وبموت فاطمة انصرف الناس عن علي فشق بنفسه طريق المصالحة وبايع هو وبنو هاشم وسلموا بالأمر الواقع! فعساه أن يتمكن يوماً من اطلاع الأمة على الحقيقة المرة وأن يبصر الناس بالتقاطيع الأساسية للمنظومة السياسية الإلهية فيقارنوا بينها وبين ما حدث في التاريخ»!

من أين يأكلون بحق السماء؟!

قال في الخطط السياسية/321، تحت هذا العنوان: مشكلة الآل الكرام الحقيقية أنه محظور عليهم أن يأخذوا الصدقة فهي محرمة عليهم، لذلك خصهم الله تعالى بسهم ذوي القربى لتغطية هذه الناحية. هل يعيش الآل الكرام وأهل البیت عيش السوقة؟ هل يتسولون الناس؟ من أين يأكلون؟

عن أنس بن مالك أن أبابكر قال لفاطمة عندما سألته عن سهم ذوي القربى: أفَلَكِ هو ولأقربائك؟ قالت نعم، قال: لا، أنفق عليكم منه. وقال مرة: السهم لكم في حال حياة النبي، وبعد موته ليس لكم. و«في سنن الترمذي: 7/111» أن أبابكر قال: إني أعول من كان يعول رسول الله، وأنفق على من كان رسول الله ينفق عليه!

فالدولة إذاً هي تنفق على أهل بيت محمد بدليل قول أبي بكر: إن رسول الله قال لانورث ما تركناه فهو صدقة، أن يأكل آل محمد من هذا المال، ليس لهم أن

ص: 60

يزيدوا على المأكل. فالحاكم يقدم لهم المأكل ولا يزيدون على المأكل! فطوال التاريخ يجب على أهل البیت أن يرتبطوا بالحاكم الذي يقدم لهم المأكل، ومن الحشمة وحسن الخلق أن يطيع الإنسان من يطعمه»! راجع البخاري: 2/200، أبا داود: 2/49 والنسائي: 2/ 179.

المسألة الرابعة: مسجد الفضيخ وتحريم الخمر

قال في الصحيح: 8/186ما حاصله: «قال اليعقوبي وغيره: في هذه الغزوة شرب المسلمون الخمر فسكروا فنزل تحريم الخمر.. قال في الروضة: إن غزوة بني النضير سنة ثلاث: وإن تحريم الخمر بعد غزوة أحد. وروى القمي أنه لما نزل تحريم الخمر خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المسجد فقعد فيه، ثم دعا بآنيتهم التي كانوا ينتبذون فيها فأكفأها كلها وقال: هذه كلها خمر وقد حرمها الله. وكان أكثر شي أكفئ يومئذ من الأشربة الفضيخ فلذلك سمي المسجد بمسجد الفضيخ.

وأكثر من ذلك كله جرأة على الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ما رووه عن ابن عمر: أن النبي أتي بجرة فضيخ فلذلك سمي مسجد الفضيخ! والفضيخ: عصير العنب وشراب يتخذ من التمر. ومسجد الفضيخ هو المعروف بمسجد رد الشمس.

ونقول: إن تحريم الخمر كان في مكة، فإن صح شئ من هذه الرواية فلابد أن يكون الصحابة خالفوا حكم الله فيها وارتكبوا الحرام فنهاهم رسول الله (صلی الله علیه و آله).. وقد يكون أتيَ به فرفضه ونهى عنه».

ص: 61

الفصل الرابع والأربعون: تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة

1- مكة قبل بيت المقدس قبلة آدم ونوح وإبراهيم (علیهم السلام)

منذ أن أسكن الله آدم (علیه السلام) وبنيه في الأرض، أمرهم أن يتجهوا في صلاتهم إلى مركز في الأرض يسمى القبلة، فكانوا يصلون إلى الكعبة، فهي كما قال الله تعالى: إِنَّ أَوَلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ. ثم جعل الله بيت المقدس قبلة لإبراهيم (علیه السلام)، وأمره في نفس الوقت أن يجدد بناء الكعبة.

وعندما بعث الله رسوله (صلی الله علیه و آله) أمره أن يتجه إلى قبلة جده إبراهيم (علیه السلام) لحكمة، ثم أمره بعد هجرته أن يتجه إلى القبلة الأولى لأجداده آدم والأنبياء:، وأنزل عليه: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ.

وقد جعل اليهود قبلة إبراهيم (علیه السلام) قبلة قومية وتعصبوا لها وفضلوها على الكعبة، مع أن الكعبة أقدم منها، وقد جدد إبراهيم (علیه السلام) بناءها.

في الكافي: 4/239 قال زرارة (رحمة الله): «كنت قاعداً إلى جنب أبي جعفر (علیه السلام) وهو محتبٍ مستقبل الكعبة فقال: أما إن النظر إليها عبادة، فجاءه رجل من بجيلة يقال له: عاصم بن عمر فقال لأبي جعفر: إن كعب الأحبار كان يقول: إن الكعبة تسجد لبيت المقدس في كل غداة! فقال أبوجعفر: فما تقول فيما قال كعب؟ فقال: صدق، القول ما قال كعب!

فقال أبوجعفر (علیه السلام): كذبت وكذب كعب الأحبار معك، وغضب! قال زرارة: ما رأيته

ص: 62

استقبل أحداً بقول كذبت غيره! ثم قال: ما خلق الله عزوجل بقعة في الأرض أحب إليه منها، ثم أومأ بيده نحو الكعبة، ولا أكرم على الله عزوجل منها، لها حرَّم الله الأشهر الحرم في كتابه يوم خلق السماوات والأرض، ثلاثة متوالية للحج: شوال وذو العقدة وذو الحجة، وشهر مفرد للعمرة رجب».

2- الكعبة والأمة الوسط

قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ.

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَمِنَ الظَّالِمِينَ..

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَاكُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلايَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاتَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى وَلأُتِمَّ نِعْمَتي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون.البقرة: 143-150.

قال المحقق البحراني في الحدائق الناضرة: 6/368: «في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: سألته هل كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يصلي إلى بيت المقدس؟ قال نعم. فقلت أكان يجعل الكعبة خلف ظهره؟ فقال أما إذا كان بمكة فلا، وأما إذا هاجر إلى المدينة فنعم، حتى حُوِّل إلى الكعبة.

وروى الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي بإسناده إلى الصادق أن

ص: 63

النبي (صلی الله علیه و آله) صلى بمكة إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة، وبعد هجرته (صلی الله علیه و آله) صلى بالمدينة سبعة أشهر، ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة، وذلك أن اليهود كانوا يعيرون رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويقولون له أنت تابعٌ لنا تصلي إلى قبلتنا، فاغتم رسول الله (صلی الله علیه و آله) من ذلك غماً شديداً، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من الله تعالى في ذلك أمراً، فلما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلى من الظهر ركعتين، فنزل عليه جبرئيل (علیه السلام) فأخذ بعضديه وحوله إلى الكعبة وأنزل عليه: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ.الآية. فصلى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة. وقال الصدوق في الفقيه..ثم أخذ بيد النبي (صلی الله علیه و آله) فحول وجهه إلى الكعبة وحول من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال، فكان أول صلاته إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة. وبلغ الخبر مسجداً بالمدينة وقد صلى أهله من العصر ركعتين فحولوا نحو القبلة، فكانت أول صلاتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة، فسمى ذلك المسجد مسجد القبلتين.فقال المسلمون: صلاتنا إلى بيت المقدس تضيع يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأنزل الله عزوجل: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ. يعني صلاتكم إلى بيت المقدس».

أقول: وروينا، أن تحويل القبلة كان في النصف من رجب في السنة الثانية للهجرة كما في مسارّ الشيعة للمفيد/57، إقبال الأعمال: 3/254 وغيرهما.

وفي تهذيب الأحكام: 2/43: «إن بني عبدالأشهل أتوْهم وهم في الصلاة وقد صلوا ركعتين إلى بيت المقدس فقيل لهم: إن نبيكم قد صرف إلى الكعبة، فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء، وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلوا صلاة واحدة إلى قبلتين. فلذلك سمي مسجدهم مسجد القبلتين».

وروى في تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /491، مناقشة اليهود للنبي (صلی الله علیه و آله) في تغيير القبلة إلى الكعبة، وفيه: «وجاء قوم من اليهود إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: يا محمد هذه القبلة بيت المقدس قد صليت إليها أربع عشرة سنة ثم تركتها الآن، أفحقاً كان ما كنت عليه فقد تركته إلى باطل، فإن ما يخالف الحق فهو باطل. أو باطلاً كان ذلك فقد كنت عليه طول هذه المدة، فما يؤمننا أن تكون إلى الآن على باطل؟

ص: 64

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):«بل ذلك كان حقاً وهذا حق، يقول الله: قُلْ للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. إذا عرف صلاحكم يا أيها العباد في استقبال المشرق أمركم به، وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به، وإن عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به، فلا تنكروا تدبير الله تعالى في عباده وقصده إلى مصالحكم. ثم قال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): لقد تركتم العمل يوم السبت، ثم عملتم بعده من سائر الأيام، ثم تركتموه في السبت ثم عملتم بعده، أفتركتم الحق إلى الباطل أو الباطل إلى حق، أو الباطل إلى باطل أو الحق إلى حق؟قولوا كيف شئتم فهو قول محمد وجوابه لكم! قالوا: بل ترك العمل في السبت حق والعمل بعده حق.فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): فكذلك قبلة بيت المقدس في وقته حق».

3- ترك بنو أمية الكعبة وحججوا الناس إلى بيت المقدس!

لما سيطر ابن الزبير على الحجاز، استغل موسم الحج لنشر أحاديث النبي (صلی الله علیه و آله) في بني مروان ولعنهم، فخاف عبدالملك بن مروان من ذلك فمنع الحج، وأمر الناس أن يحجوا بدل مكة إلى بيت المقدس!

قال اليعقوبي: 2/261: «فضج الناس وقالوا: تمنعنا من حج بيت الله الحرام وهو فرض من الله علينا؟! فقال لهم: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول الله قال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس. وهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام. وهذه الصخرة التي يروى أن رسول الله وضع قدمه عليها لما صعد إلى السماء تقوم لكم مقام الكعبة!فبنى على الصخرة قبة، وعلق عليها ستور الديباج، وأقام لها سدنة، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة، وأقام بذلك أيام بني أمية»!!

فانظر إلى جرأة حكومات الخلافة على تحريف الإسلام، والى ضعف دين المسلمين ومطاوعتهم لها! وفي مقابل ذلك قام الإمام زين العابدين (علیه السلام) بنشاط واسع لتركيز مكانة الكعبة الشريفة، وإحباط عمل السلطة، كما وثقناه في سيرته (علیه السلام).

ص: 65

الفصل الخامس والأربعون: زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بعائشة وحفصة

زوجات الأنبياء (علیهم السلام) فيهم الصالحات والطالحات

اعتقادنا أن كل أعمال النبي (صلی الله علیه و آله) بأمر ربه، فكما أنه لا ينطق عن الهوى، لايفعل عن الهوى، وزواجه (صلی الله علیه و آله) كله بأمر ربه، وحِكْمَته وأغراضه متعددة، لجلب منفعة للرسالة أو دفع مفسدة عنها. لكنه لايدل على اختيار إلهي لتلك الزوجة وأسرتها، إلا إذا نص النبي (صلی الله علیه و آله) على ذلك. فلا قيمة لما تخيله البعض أو زعموه.

وقد بين الله عزوجل ذلك في المثل الذي ضربه لنساء النبي (صلی الله علیه و آله) بزوجتي نوح ولوط، فقال:: ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحِينِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ. وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ.التحريم: 10-12.

فلا يصح الإستدلال على مدح نساء النبي (صلی الله علیه و آله) بقوله تعالى: وَالطَّيِّبَاتُ للَّطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ للَّطَّيِّبَاتِ، لأن الآية تقصد أهل الجنة، لا أهل الدنيا.

وقد روت عائشة في مدح نفسها كثيراً، وادعت أن جبرئيل جاء النبي (صلی الله علیه و آله) بصورتها على منديل حرير، وقال له: «هذه زوجتك في الدنيا والآخرة».«تاريخ بغداد: 11/221». ورووا أن جبرئيل طبع صورتها على كف النبي (صلی الله علیه و آله)»! وشهد الذهبي بأنه مكذوب، ميزان الإعتدال: 3/44.

ص: 66

وقال الشيخ أبو رية في كتابه أبو هريرة شيخ المضيرة/135: «أسرع أبو هريرة فتبرع بحديث من كيسه يقول فيه: إن طول تلك الخرقة ذراعان وعرضها شبر»!

ونحن لانثق بأحاديث عائشة، وحفصة خاصة في مدح نفسيهما وأسرتيهما، ونعتقد أنه تزوجهما لمصلحة، وأنهما عملتا ضد النبي (صلی الله علیه و آله) وتظاهرتا عليه بنص القرآن، فأنزل الله فيهما: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَمَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ. عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا.

وأنهما عصتا الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وشقتا عصا المسلمين، وخرجت عائشة على إمامها (علیه السلام)، وسببت قتل ألوف المسلمين، وانقسام الأمة!

عائلتا عائشة وحفصة

إسمها عائشة بنت أبي بكر وإسمه عتيق بن أبي قحافة، وقبيلته بنو تيم بن مرة. وحفصة بنت عمر بن الخطاب بن نفيل، وقبيلته بنو عَدِيّ، وهما من القبائل الصغيرة، ولعل عدد تيم عند بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) نحو ثلاث مئة نفر، وعدد قبيلة عدي لا يبلغ مئة. ولم يكن لهما موقع بين قبائل مكة، ولذلك قال أبوسفيان لعلي (علیه السلام) عندما تفاجأ ببيعة أبي بكر كما في تاريخ الطبري: 2/449: «ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش! والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجالاً»!

وذكر المؤرخ ابن حبيب في المنمق/80، أن بني عدي سرقوا ناقة لبني عبد شمس فطردوهم من مكة!«فارتحلوا، وتعرض بنو سهم لهم وأنزلوهم بين أظهرهم، وقالوا: والله لاتخرجون! وأم سهم بن عمرو الأَلُوف بنت عدي بن كعب، فأقاموا وهم حلف بني سهم».

وقال ابن حبيب/129، إنهم لقلتهم لم يكن لهم رئيس:«ولم يكن من قريش قبيلة إلا وفيها سيد يقوم بأمرها ويطلب بثأرها، إلا عدي بن كعب».

وكان مسكنهم خارج مكة في الحثمات، وقد رأيت الحثمات قريباً من غار ثور،

ص: 67

وهي صخرات سوداء كبار ليس بينها فسحة لنصب خيمة كبيرة.

قال البكري في معجمه: 2/425: «الحثمة بفتح أوله وإسكان ثانيه: صخرات بأسفل مكة بها رَبْعُ عمر بن الخطاب». ومعجم البلدان: 2/218 ولسان العرب: 12/115.

وعليه، فقد ولدت عائشة وحفصة ونشأتا في بيت عادي فقير، ولاصحة لزعم عائشة بأن أباها كان ثرياً، وأنه كان ينفق على النبي (صلی الله علیه و آله) !

مبالغة عائشة في فضائل أبيها وثروته

أكثروا من روايات عائشة عن هجرة أبيها وثروته الطائلة، وعن هجرتها وفضائلها هي. مع أن النبي (صلی الله علیه و آله) صادف أبابكر في طريق هجرته فأخذه معه، وأمر علياً (علیه السلام) في الغار أن يشتري منه بعيراً لدليله ابن أريقط، فاشتراه من أبي بكر ونقَّده الثمن أربع مئة درهم أو ثمان مئة كما روى ابن حجر، ثم مات البعير في الطريق فاستأجر النبي (صلی الله علیه و آله) بعيراً لدليله لبقية الطريق!

وعندما وصل النبي (صلی الله علیه و آله) إلى قباء أصرَّ عليه أبو بكر أن يدخل إلى المدينة فأبى، فتركه من عصر ذلك اليوم وذهب إلى السنح فلا تسمع له خبراً في الهجرة!

أما عن ثروة أبي بكر: فكان في الجاهلية معلم صبيان وصار خياطاً. ولما ولي أمر المسلمين، قال لهم:»إني أحتاج إلى القوت فجعلوا له في كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال. والنبي (صلی الله علیه و آله) كان قبل الهجرة غنياً بمال خديجة ولم يحتج إلى الحرب وتجهيز الجيوش، وبعد الهجرة لم يكن لأبي بكر شئ البتة.منهاج الكرامة/187.

وعندما استُخلف أبو بكر قال: «إن حرفتي لم تكن لتعجز عن مؤونة أهلي، وقد شغلت بأمر المسلمين وسأحترف للمسلمين في مالهم، وسيأكل آل أبي بكر من هذا المال».«الطبقات: 3/184». فجعلوا له كل يوم درهمين ونصف شاة.«مغني ابن قدامه: 11/377». ثم جعلوا له ألفي درهم في السنة: «فقال زيدوني فإن لي عيالاً، وقد شغلتموني عن التجارة، فزادوه خمس مائة». الطبقات:3/184.

وفي الطبقات: 3/186: «فأقام هناك بالسنح بعدما بويع له ستة أشهر، يغدو على

ص: 68

رجليه إلى المدينة، وربما ركب على فرس له، وعليه إزار ورداء ممشق، فيوافي المدينة فيصلي الصلوات بالناس، فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسنح.فكان إذا حضر صلى بالناس وإذا لم يحضر صلى عمر بن الخطاب. وكان يقيم يوم الجمعة في صدر النهار بالسنح يصبغ رأسه ولحيته ثم يروح لقدر الجمعة فيُجَمِّع بالناس. وكان رجلاً تاجراً، فكان يغدو كل يوم السوق فيبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه، وربما خرج هو نفسه فيها».

قال في منهاج الكرامة/187:»أما إنفاقه على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فكذب، لأنه لم يكن ذا مال، فإن أباه كان فقيراً في الغاية وكان ينادي على مائدة عبدالله بن جدعان بمد في كل يوم يقتات به! فلو كان أبو بكر غنياً لكفى أباه».

أقول: تبارت أسماء بنت أبي بكر مع أختها عائشة في الحديث عن ثروة أبيهما التي حرمهم إياها وأنفقها على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فقالت أسماء «مسند أحمد: 6/350»: «لما خرج رسول الله وخرج معه أبو بكر، احتمل أبو بكر ماله كله معه، خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم، قالت: وانطلق بها معه، قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه! قالت قلت: كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً، قالت فأخذت أحجاراً فتركتها فوضعتها في كوة لبيت كان أبي يضع فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوباً ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال! قالت: فوضع يده عليه فقال: لا بأس، إن كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا لكم بلاغ. قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكني قد أردت أن أسكِّن الشيخ بذلك»! ورواه الحاكم:3/5والزوائد:6/59 وصححاه، واعتمده أئمتهم كالشاطبي، فقال في الإعتصام:2/201: «فإنه هاجر بجميع ماله وكان خمسة آلاف».

ثم إن أسماء بنت أبي بكر كانت عند الهجرة في المدينة، فقد هاجرت مع زوجها الزبير وكانت حاملاً بعبدالله، وولدته في قباء عندما وصل النبي (صلی الله علیه و آله).

ومن جهة أخرى: رووا في صحيح مسلم: 6/117: «بينا أبو بكر قاعد وعمر

ص: 69

معه إذ أتاهما رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: ما أقعدكما هاهنا؟ قالا: أخرجنا الجوع من بيوتنا»

وفي الترغيب والترهيب: 3 /148: «فانطلقوا حتى أتوا باب أبيأيوب الأنصاري فأطعمهم»! وقال الرازي في تفسيره: 4/ 169: «وأما الجوع فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي إلى المدينة لقلة أموالهم».

فأين صارت ثروة أبي بكر جد الفخر الرازي، وهل ضاعت في طريق الهجرة؟! فالصحيح أن الجائعين كانا الشيخين وكان النبي (صلی الله علیه و آله) مدة سنة في بيت أبيأيوب (رحمة الله).

أما عائشة فرفعت سقف ثروة أبيها وجعلتها خيالية فتحير فيها علماء السلطة! قالت كما في سنن النسائي: 5/358«: «فخرتُ بمال أبي في الجاهلية، وكان ألف ألف أوقية! فقال النبي (صلی الله علیه و آله):أسكتي يا عائشة فإني كنت لك كأبي زرع لأم زرع! ثم أنشأ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحدث أن إحدى عشرة امرأة اجتمعن في الجاهلية، فتعاهدن لتخبرن كل امرأة بما في زوجها ولا تكذب، فتحدثت كل منهن بمدح أو ذم، وكانت آخرهم أم زرع فمدحته، وذكرت أنه تزوج عليها ثم طلقها فتزوجت شاباً وأعطاها كثيراً، لكنها بقيت تمدح أبا زرع وتفضله عليه، فقالت عائشة في آخر الحديث: «قلت: يا رسول الله بل أنت خير من أبي زرع».وروته مصادرهم ووثقه علماؤهم أو صححوه، كتهذيب الكمال: 23 / 392، ميزان الإعتدال: 3/375، مجمع الزوائد: 4/317، فتح الباري:

9 / 222، تاريخ بخاري الكبير: 1/224، تهذيب الكمال: 21 / 416، تهذيب التهذيب: 8 / 325، سنة ابن أبي عاصم/225، إعانة الطالبين: 4/199 والطبراني الكبير: 23 / 174.

وتبلغ الأوقية في ذلك الوقت أربعين درهماً، وفي زمن الإمام الصادق (علیه السلام) ألف درهم، «الأوزان والمقادير/16» فتكون ثروة أبي بكر حسب قول عائشة ألف مليون درهم، وهو أمرٌ غير معقول! ولهذا اضطر الذهبي إلى معالجة هذه الكذبة فحذف منها صفراً! قال في سيره: 2/185: «وأعتقد لفظة ألف الواحدة باطلة فإنه يكون أربعين ألف درهم، وفي ذلك مفخر لرجل تاجر، وقد أنفق ماله في ذات الله، ولما هاجر كان قد بقي معه ستة آلاف درهم، فأخذها صحبته. أما ألف ألف أوقية فلا تجتمع إلا لسلطان كبير».

والصحيح أن الألف الثانية أيضاً زائدة، ولايمكن فصلها عن أختها لأن علماءهم

ص: 70

تلقوا الخبر وصححوه برواية: ألف ألف أوقية!

كما تبرع الذهبي بأن أبابكر أنفق المليون درهم على النبي (صلی الله علیه و آله) في مكة، لأن ذلك لم يروه أحد حتى في صاع حنطة في سنوات حصارهم في الشعب! ولا بدراهم يسيرة أعطاها لمسلم، إلا ما زعموه من شرائه لبلال، ولم يثبت، أما ما زعموه من إنفاقه على ابن خالته مسطح، فقد كان يعمل معه.

قال الأميني (رحمة الله) في الغدير: 8 /50: ونضدت له «عائشة» ثلاث مائة وستين كرسياً في داره، وأسدلت على كل كرسي حلة بألف دينار، كما سمعته عن الشيخ محمد زين العابدين البكري، وأنت تعلم ما يستتبع هذا التجمل من لوازم وآثار وأثاث ورياش، ومناضد وأواني وفرش، لا تقصر عنها في القيمة! وما يلزم من خدم وحشم، وقصور شاهقة وغرف مشيدة، وما يلازم هذه البسطة في المال من خيل وركاب وأغنام ومواش وضيع وعقار، إلى غيرها من توابع!

من أي حرفة أو مهنة أو صنعة أو ضياع حصل الرجل على مليون أوقية من النقود؟ وكان يومئذ يوم فاقة لقريش، وكانوا كما وصفتهم الصديقة الطاهرة في خطبتها مخاطبة أبابكر والقوم معه: كنتم تشربون الطَّرَق، وتقتالون الوَرق، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله برسوله (صلی الله علیه و آله)»!

وقال المفيد (رحمة الله) في الإفصاح/229، ما خلاصته: «لو كان للرجلين فضل حسب ما ادعيتموه لوجب أن تأتي به الأخبار وترويه نقلة السير والآثار، بل وجب أن يظهر على حد يوجب علم اليقين، لأن جميع الدواعي إلى انتشار فضائل الرجلين متوفرة! ألا ترى أنهما كانا أميري الناس، وكان المُظهر لولايتهما من زمانهما إلى هذه الحال هو الظاهر على عدوه، والمظهر لعداوتهما مهدور الدم أو خائفاً مطروداً عن البلاد! حتى صار القتل مسنوناً لمن أظهر ولاية أميرالمؤمنين (علیه السلام) وإن كان مظهراً لمحبة أبي بكر وعمر! ومن تبرأ من أميرالمؤمنين (علیه السلام) حكموا له باعتقاد السنة وولاية أبي بكر وعمر وعثمان، ونال القضاء والشهادات والإمارات، وقربت منازلهم من خلفاء بني أمية وبني العباس بالعصبيه لهؤلاء والدعاء إلى

ص: 71

إمامتهم، والتخرص بما يضيفونه إليهم من الفضل الذي يخالف القرآن وتنفيه السنة، ويستحيل في العقول»!

وأما عمر فكان أفقر من أبي بكر: فقد حدث عن نفسه أنه كان يرعى بعيراً لأبيه ولا يعطيه قوته! قال عمر، تاريخ المدينة لابن شبة 2/655:«لقد رأيتني وإني لأرعى على الخطاب في هذا المكان، وكان والله ما علمت فظاً غليظاً.. وأنا في إبل للخطاب، أحتطب عليها مرة وأختبط عليها أخرى! آتي بالخَبْط وهو ورق الشجر.»

وفي كنز العمال: 4/589: «أخذ عمر يحدث عن نفسه فقال: لقد رأيتني وأختاً لي نرعى على أبوينا ناضحنا قد ألبستنا أمنا نقبتها، وزودتنا من الهينة فنخرج بناضحنا فإذ طلعت الشمس ألقيت النقبة إلى أختي وخرجت أسعى عرياناً فنرجع إلى أمنا وقد جعلت لنا لعبة من ذلك الهينة فياخصباه»!

أي صنعت لهم طعاماً عصيدة من حب الحنظل على شكل هِينَة، وهي الزَّنَمَة المدلاة تحت فم الماعز كالأصابع.الفائق: 3/405 وشرح النهج: 12/20.

وعندما كبر عمر صار مبرطشاً. ففي النهاية لابن الأثير: 1/119: «وهوالدلال أو الساعي بين البائع والمشتري، وورد في الحديث كان عمر رضی الله تعالى عنه في الجاهلية مبرطشاً، أي كان يكتري للناس الإبل والحمير ويأخذ عليه جعلاً، أو هو بالسين المهملة كما ذهب إليه ابن دريد».و تاج العروس: 9/58 ولسان العرب: 6/26.

كم كان عمر عائشة لما تزوجها النبي (صلی الله علیه و آله)

روت في زواجها لاتصح، فقد قالت إن النبي (صلی الله علیه و آله) عقد زواجه عليها وعمرها ست سنين، وتزوجها وعمرها تسع سنين، لكنهم قالوا إنها أصغر من أختها أسماء بعشر سنين: «عن ابن أبي الزناد أن أسماء بنت أبي بكر كانت أكبر من عائشة بعشر سنين».البيهقي: 6/204، سير أعلام النبلاء: 3/380، تاريخ دمشق: 69/10 وسبل السلام: 1/39.

وفي تهذيب الأسماء: 2/597: «ولدت أسماء قبل هجرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) بسبع وعشرين سنة، وكان لأبيها أبي بكر حين ولدت إحدى وعشرون سنة».

ص: 72

ومعناه أن عمر عائشة كان سبع عشرة سنة، فأين الست سنين والتسع؟!

ومن ناحية ثانية، كان عمر أبيها لما ولدت أسماء إحدى وعشرون سنة، فعمره لما ولدت عائشة إحدى وثلاثون، وعمره لما هاجر ست وخمسون لأنهم قالوا إنه أكبر من النبي (صلی الله علیه و آله) بثلاث سنين، فيكون عمر عائشة عند الهجرة خمساً وعشرين.

فأين الست سنين والتسع؟!

ومما يؤيد أن سن عائشة أكبر مما قالت سن أمها أم رومان فقد كانت في الجاهلية زوجة ابن سخبرة وولدت له الطفيل، وجاؤوا من الأردن مع ابنهما وغلامهما ابن فهيرة وسكنوا في مكة، ومات زوجها ابن سخبرة، فتزوجها أبو بكر وولدت له ولدين: عبدالرحمن وعائشة ولم تلد له بعدهما ويبدو أنها بلغت سن اليأس، وكان عبدالرحمن في بدر مع المشركين فطلب أن يبارزه أبوه فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما رووا: متعنا بنفسك يا أبابكر. فلا بد أن يكون عبدالرحمن في العشرينات أوالثلاثينات، وعائشة بعده مباشرة، فأين الست سنوات والتسع؟!

النهاية: 8/95، الحاكم: 3/474، الحلبية: 2/414، البيهقي: 8/186 و 6/204، الإستيعاب 2/824 و616 و سبل السلام: 1/39. راجع في ابن سخبرة: الطبقات: 8 /276، التعديل والتجريح: 3/1155، تهذيب الكمال: 13/389، تهذيب التهذيب: 8/149 والإصابة: 3/421، 4/117 و 8/391.

ادعت عائشة أنها لم تتزوج قبل النبي (صلی الله علیه و آله)

لكن روى ابن سعد: 8/59 بسند صحيح عندهم: «خطب رسول الله (صلی الله علیه و آله) عائشة بنت أبي بكر الصديق فقال: إني كنت أعطيتها مطعماً لابنه جبير، فدعني حتى أسلها منهم، فاستسلها منهم فطلقها، فتزوجها رسول الله».

وفي الطبراني الكبير: 23/26: «وكان أبو بكر قد زوجها جبير بن مطعم فخلعها منه».

وفي صفة الصفوة: 2/15والمنتظم: 5/302: «دعني حتى أسلها من جبير سلاً رفيقاً».

يضاف اليه أنها كانت تكنى أم عبدالله، فقد يكون لها ولد من مطعم بن جبير إسمه عبدالله ومات. روى البيهقي: 9/311: «أنها قالت: يا رسول الله ألا تكنيني

ص: 73

فكل نسائك لها كنية؟ فقال: بلى إكتني بابنك عبدالله، فكانت تكنى أم عبدالله. وفسروا ذلك بأن النبي (صلی الله علیه و آله) قصد ابن أختها عبدالله بن الزبير، لكن لم يعهد أن امرأة من العرب تكنت بابن أختها! وروي أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لها تَكَنَّيْ، والصحيح أنها هي التي طلبت منه كنية، وغرضها أن يسمي لها النبي (صلی الله علیه و آله) ولداً حتى ترزقه! أحمد: 6/186،الحاكم: 4/278،الطبراني الكبير:23/18، الطبقات: 8/66، مفرد البخاري/183 وغيرها.

عائشة أكثر نساء النبي (صلی الله علیه و آله) كلاماً

وأكثرهن إثارة للجدل! فقد أثارت بأقوالها وأفعالها إشكالات وأسئلة عجز عن جوابها محبوها، ومن أولها خروجها على الخليفة الشرعي وشقها عصا المسلمين، وإشعالها حرب الجمل التي قتل فيها ألوف بدون سبب، وقد هزمت فيها شر هزيمة ورجعت مملوءة غيظاً! وكانت تقول: «إن يوم الجمل لمعترض في حلقي، ليتني متُّ قبله أو كنت نسياً منسياً»! مسند ابن راهويه:2/34.

ثم يعجزون عن تبرير إرسالها بضعة رجال إلى أختها وزوجة أخيها، لترضع الواحد منهم، فيصيرمحرماً عليها كما تزعم، ويدخل عليها مع أنه أجنبي!

وكانت تحتجب عن الحسن والحسين (علیهما السلام) مع أنهما من محارمها! ولم تزر فاطمة (علیها السلام) في مرضها، وقد زارها أبو بكر وعمر!

ثم يعجزون عن تفسيرمدحها المفرط لنفسها، وحديثها عن ملبسها ومأكلها ونومها ويقظتها وجمالها وفضلها على نساء النبي (صلی الله علیه و آله)، وادعت أنها كانت أحبهن اليه (صلی الله علیه و آله)، كما تحدثت بابتذال عن أمورها الشخصية مع النبي (صلی الله علیه و آله) !

ثم مدحت أمها بأن النبي (صلی الله علیه و آله) دعا المسلمين إلى أن يتفرجوا عليها، فقال:«من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين، فلينظر إلى أم رومان! الطبقات: 8/277.

وقال الحشوية إنها تقصد أن يتأملها بعين البصيرة لا البصر. فيض القدير: 6/197.

وقد رأت عائشة أن النبي (صلی الله علیه و آله) تولى دفن فاطمة بنت أسد ونزل في قبرها وقال إنها أمي! فقالت إن النبي (صلی الله علیه و آله) نزل في قبر أمها أم رومان! الإصابة:8/392.

ص: 74

حَكَمَتْ عائشة في دولة أبيها!

وصادرت قبرالنبي (صلی الله علیه و آله) وقالت إنه أعطاها المكان الذي دفن فيه، فهو غرفتها. وأخذت امتيازات مالية ومعنوية كثيرة، واستمرت على هذه الحالة في حكم عمر فكان يعطيها سنوياً مبلغاً كبيراً، ويهديها هدايا كثيرة، فصارت من أثرياء الصحابة واشترت بيتاً كبيراً في المدينة، ثم باعته إلى معاوية بمئة وثمانين ألف درهم وقيل بمئتي ألف، الطبقات: 8/165. راجع جواهر التاريخ: 3.

قطع عثمان مخصصاتهما فثارتا عليه

ولما قطع عثمان مخصصاتهما جاءتاه معترضتين فقال: «لا أجد لك موضعاً في الكتاب ولا في السنة، وإنما كان أبوك وعمر بن الخطاب يعطيانك بطيبة من أنفسهما، وأنا لا أفعل! قالت له: فأعطني ميراثي من رسول الله».أمالي المفيد/125.

«وكان متكئاً فجلس وقال: ستعلم فاطمة أي ابن عم لها أنا اليوم! ثم قال لهما: ألستما اللتين شهدتما عند أبويكما ولفقتما معكما أعرابياً يتطهر ببوله، مالك بن أوس بن الحدثان، فشهدتما معه أن النبي قال: لانورث». المسترشد/508.

وفي كتاب سُليم بن قيس/242:«لا والله ولا كرامة لكما ولا نَعِمْتُ عنه! ولكن أجيز شهادتكما على أنفسكما، فإنكما شهدتما عند أبويكما أنكما سمعتما من رسول الله يقول: النبي لايورث، ما ترك فهو صدقة! ثم لقنتما أعرابياً جلفاً يبول على عقبيه ويتطهر ببوله» مالك بن أوس بن الحدثان «فشهد معكما! ولم يكن في أصحاب رسول الله من المهاجرين ولا من الأنصار أحد شهد بذلك غيركما وغير أعرابي. «أما والله ما أشك أنه قد كذب على رسول الله وكذبتما عليه معه، ولكني أجيز شهادتكما على أنفسكما فاذهبا فلا حق لكما! فانصرفتا من عنده تلعنانه وتشتمانه»!

وفي رواية الجوهري في السقيفة: 82، وشرح النهج: 9/5، أنهما تكلمتا في المسجد تحركان الناس على عثمان فقال: «إن هاتين لفتانتان يحل لي سبهما، وأنا بأصلهما

ص: 75

عالم! فقال له سعد بن أبي وقاص: أتقول هذا لحبائب رسول الله؟ فقال: وفيم أنت وما هاهنا، ثم أقبل نحو سعد عامداً ليضربه، فانسل سعد من المسجد».

وأصرت عائشة وحفصة على ادعاء إرثهما من النبي (صلی الله علیه و آله) لتبرير دفن أبويهما في ملكه (صلی الله علیه و آله) ! فكان الشيعة يحتجون عليهما. ومن أمثلة احتجاجهم ما رواه في الفصول المختارة/74، أن الفضال بن الحسن بن فضال مرَّ على أبي حنيفة: «وهو في جمع كثير يملي عليهم شيئاً من فقهه وحديثه، فقال لصاحب كان معه: والله لا أبرح أو أخجل أبا حنيفة!فقال صاحبه: إن أبا حنيفة ممن قد علمت حاله ومنزلته وظهرت حجته، فقال: مه هل رأيت حجة كافر علت على مؤمن؟ثم دنا منه فسلم عليه فرد ورد القوم بأجمعهم السلام. فقال: يا أبا حنيفة رحمك الله إن لي أخاً يقول: إن خير الناس بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) علي بن أبي طالب وأنا أقول: إن أبابكر خير الناس بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبعده عمر، فما تقول أنت رحمك الله؟ فأطرق ملياً ثم رفع رأسه فقال: كفى بمكانهما من رسول الله كرماً وفخراً، أما علمت أنهما ضجيعاه في قبره، فأي حجة أوضح لك من هذه؟ فقال له فضال: إني قد قلت ذلك لأخي فقال: والله لئن كان الموضع لرسول الله دونهما، فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما فيه حق، وإن كان الموضع لهما فوهباه لرسول الله (صلی الله علیه و آله) لقد أساءا وما أحسنا إليه، إذ رجعا في هبتهما ونكثا عهدهما! فأطرق أبو حنيفة ساعة ثم قال قل له: لم يكن لهما ولا له خاصة، ولكنهما نظرا في حق عائشة وحفصة فاستحقا الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما. فقال له فضال: قد قلت له ذلك فقال: أنت تعلم أن النبي مات عن تسع حشايا، فنظرنا فإذا لكل واحدة منهن تسع، ثم نظرنا في تسع الثمن فإذا هو شبر في شبر، فكيف يستحق الرجلان أكثر من ذلك، وبعد فما بال عائشة وحفصة ترثان رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفاطمة ابنته تمنع الميراث؟ فقال أبو حنيفة: يا قوم نحوه عني فإنه والله رافضي خبيث»!

ص: 76

زعمت أن النبي (صلی الله علیه و آله) جعل الخلافة لأبيها وأولاده!

فقد وضعت حديثاً مقابل حديث: إيتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً.. فقالت: «قال لي رسول الله في مرضه: أدعي لي أبابكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى».مسلم:7/110وأحمد: 6/144.

ورواه بخاري:7/8 و 8/126بلفظ: «أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد، أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون».

وقال ابن حجر: 1/186 و 13/177: «أفرط المهلب فقال فيه دليل قاطع في خلافة أبي بكر، والعجب أنه قرر بعد ذلك أنه ثبت أن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يستخلف»!

أما عبدالرحمن بن أبي بكر فصرح أكثرمن أخته فقال: «قال رسول الله: إئتوني بكتاب وكتف أكتب لكم كتاباً لاتضلون بعده أبداً».مجمع الزوائد: 5/181.

أي ليكتب الخلافة لأبي بكر وبنيه! ولم يذكروا سبباً مقنعاً لعدم كتابة النبي (صلی الله علیه و آله) الخلافة لهم! ولم يذكروا هل قال أحدٌ إن نبيكم يهجر، لاتقربوا له شيئاً، حسبنا كتاب الله! ولم يذكروا أن الصحابة لغطوا واختلفوا، فطردهم النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: قوموا عني!

إن حديث عائشة في مسلم والبخاري يفسرلنا المقصود النبوي بالحديث المتواتر: إيتوني بدواة وقرطاس. ولا يدع مجالاً للشك بأن هذه الأحاديث وضعوها مقابله!

وقد عملت عائشة ليكون أخوها عبدالرحمن خليفة، فقتله معاوية، ثم عملت ليكون ابن عمها طلحة خليفة، فقتله مروان في معركة الجمل.

ثم كانت تمدح موسى بن طلحة، الذي ادعى أنه المهدي الموعود، وأنه سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ولكنه لم يصل إلى شئ، ولم يملأ شيئاً!

واشتهرت عائشة بجرأتها على النبي (صلی الله علیه و آله)

من ذلك قولها له (صلی الله علیه و آله): «ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك»! البخاري: 6/24.

وقالت له مرة في كلام غضبت عنده: أنت الذي تزعم أنك نبي الله!وقالت

ص: 77

له مرة: ما تشبع من أم سلمة! وكانت تتفقده وتعقبته ليلة لما ذهب إلى زيارة البقيع. وكان النبي (صلی الله علیه و آله) یصلي وهي نائمة معترضة بين يديه، أو مادة رجلها.

وزعمت أن النبي (صلی الله علیه و آله) سُحر فكان يتخيل أنه قاربها ولم يقاربها!

وقالت: مرض النبي (صلی الله علیه و آله) في بيتي فمرضته وقبض ولم يشهده غيري والملائكة!

وقالت: سلَّمَ جبرئيل عليَّ وبلغني سلام الله!

وقالت: إنها رأت جبرئيل (علیه السلام)، ولم تره امرأة غيرها.

وقالت: نزل الوحي على رسول الله وهي معه في لحاف واحد.

وقالت: صُوِّرت لرسول الله قبل أن أصور في رحم أمي!

وقالت: إن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يقاربها وهي حائض!

وقالت إن آية رضاع الكبير كانت تحت سريرها فأكلتها السخلة.

وكانت تكره علياً والعباس فقالت: قال النبي (صلی الله علیه و آله): من أراد أن ينظر إلى رجلين من أهل النار فلينظر اليهما!راجع المراجعات/325.

وكانت معجبة بطلحة التيمي وابنه موسى

كان طلحة يأتيها فيجلس معها فنهاه النبي (صلی الله علیه و آله) فأجابه طلحة بخشونة وجاهلية! ثم قال: لئن مات محمد لأتزوجن عائشة!«فقال النبي (صلی الله علیه و آله):لاتقومن هذا المقام بعد يومك هذا! فقال: يا رسول الله إنها ابنة عمي والله ما قلت لها منكراً ولا قالت لي! قال النبي: قد عرفت ذلك. إنه ليس أحد أغْيَرُ من الله وإنه ليس أحد أغْيَر مني! فمضى ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمي لأتزوجنها من بعده! فأنزل الله هذه الآية: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا».سنن البيهقي: 7/69، الدر المنثور: 5/214.

ثم عملت ليكون طلحة الخليفة بعد عثمان، فتفاجأت ببيعة المسلمين لعلي (علیه السلام) ! فقالت: وددتُ أن السماء انطبقت على الأرض إن تم هذا! وكانت في الطريق إلى المدينة فرجعت إلى مكة وضربت خيمتها في حجر إسماعيل، وأخذت تُخذِّلُ الناس

ص: 78

عن بيعة علي (علیه السلام)، وأعلنت أن عثمان قتل مظلوماً وأنها ستطلب بدمه! والتحق بها طلحة والزبير في مكة، وأرسلوها لأم سلمة لتخرج معهم على علي (علیه السلام) ! فنهتها أم سلمة وحذرتها وأقامت عليها الحجة فوعدتها أن لاتذهب، ثم ذهبت راكبةً على الجمل الأدبب كما أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) حتى وصلت إلى الحوأب فنبحتها كلابها كما أخبر (صلی الله علیه و آله) فقالت ردوني فشهدوا لها بأن المكان ليس الحوأب!

وروى الجميع تحذيرات النبي (صلی الله علیه و آله) للمسلمين من فتنتها، فقد روى البخاري أنه (صلی الله علیه و آله) أشار إلى بيتها وقال: هاهنا الفتنة! وقال لها عند ما شكت من وجع رأسها: ماضرك لو متِّ قبلي! وحذرها أن تكون التي تخرج فتنبحها كلاب الحوأب. وكان سعيد بن العاص معها فلما نبحتها كلاب الحوأب رجع.

أدارت عائشة معركة الجمل سبعة أيام

قال أميرالمؤمنين (علیه السلام): إن جند المرأة، والقاسطين، وأهل النهروان، ملعونون على لسان رسول الله (صلی الله علیه و آله). وأرسل ابن عباس وزيد بن صوحان إلى عائشة للمفاوضة، فقالت ليس بيني وبينه إلا السيف، مغترة بكثرة جيشها وقلة جيش علي (علیه السلام).وخرجت راكبة الجمل الأدبب تعبئ أصحابها! وانسحب الزبير وقتل طلحة قبل بدء المعركة، وبقيت وحدها، وأدارت المعركة سبعة أيام! وفي اليوم السابع نشر علي (علیه السلام) راية رسول الله (صلی الله علیه و آله) فهزمهم وسقط الجمل، فأرسل أخاها محمداً فحملها من ساحة المعركة، وأعلن العفو العام ومنع أن يُعتدى على أحد، وزارها في منزلها،ثم أعادها إلى المدينة يحرسها نساء ملثمات وهي تحسبهن رجالاً!

وقالوا إنها ندمت وتابت، ومدحت علياً (علیه السلام) لكن لما جاءها خبر قتله سجدت شكراً لله! فاستنكرت عليها زينب بنت أم سلمة فقالت: إذا نسيت فذكروني!

قتل معاوية أخويها وسَكَّتَها

لما جاءها خبر قتل معاوية لأخيها محمد بن أبي بكر في مصر وإحراق جثته، بكت عليه ولعنت معاوية وعمرو بن العاص! وزاد من غيظها أن ضرتها أم

ص: 79

حبيبة أخت معاوية أرسلت لها كبشاً مشوياً وقالت: هكذا فعلنا بأخيك محمد! فلم تأكل عائشة شواء كل عمرها!

لكن معاوية استرضاها بالمال فسكتت عن قتله لأخيها، ثم ساءت علاقتها به لما أراد أن يأخذ البيعة ليزيد، ودعا مروان في مسجد النبي (صلی الله علیه و آله) إلى بيعة يزيد فوقف عبدالرحمن بن أبي بكر في وجهه وتشاتما، فأمر مروان الشرطة بأخذه فهرب إلى غرفة عائشة، فخرجت إلى المسجد وشتمت مروان، وهرَّبت أخاها من المدينة، فقتلوه بالسم قرب مكة.

ثم أرضاها معاوية بالمال فسكتت عن قتله لأخيها الثاني، وفي مسند أحمد: 4/92: «عن سعيد بن المسيب أن معاوية دخل على عائشة فقالت له: أما خفت أن أُقعد لك رجلاً فيقتلك؟ فقال: كيف أنا في الذي بيني وبينك، حوائجك؟ قالت: صالح. قال: فدعينا وإياهم حتى نلقى ربنا عزوجل».

وتوفيت في عهد معاوية سنة57، وقيل قتلها بالسم، وقيل وقعت في بئر حفره لها في طريقها، وكانت تصيح وهي تحتضر: إني أحدثت بعد رسول الله فلا تدفنوني عنده! يا ليتني لم أخلق، لوددت أني كنت مدرة، ولم أكن شيئاً مذكوراً! ودفنت في البقيع، وصلى عليها أبو هريرة.

نقاط عن حفصة زوجة النبي (صلی الله علیه و آله)

كان أبو بكر وعمر يعملان للتقرب السياسي من النبي (صلی الله علیه و آله) أكثر من جميع أصحابه، ولكن الله عزوجل أمره أن لايصطدم بأصحابه، وأن يترك الأمور تجري بشكل طبيعي، لتجري مقادير الله وقوانينه في هداية الأمم وضلالها.

وقد رأى عمر أن زواج النبي (صلی الله علیه و آله) من عائشة امتيازٌ مهم لأبي بكر، ولم تكن عنده بنت ليعرضها على النبي (صلی الله علیه و آله) إلا حفصة وهي أرملة كبيرة السن غير جميلة! لذلك لم يعرضها عليه وعرضها على عثمان وأبي بكر فرفضا!

ففي مسند أحمد: 2/27:«عن ابن عمر قال: لما تأيَّمَتْ حفصة وكانت تحت خنيس

ص: 80

بن حذافة، ولقي عمر عثمان فعرضها عليه فقال عثمان: مالي في النساء حاجة وسأنظر! فلقي أبابكر فعرضها عليه فسكت! فوجد عمر في نفسه على أبي بكر، فإذا رسول الله قد خطبها، فلقي عمر أبابكر فقال: إني كنت عرضتها على عثمان فردني وإني عرضتها عليك فسكتَّ عني، فلأنا عليك كنت أشد غضباً مني على عثمان وقد ردني! فقال أبو بكر إنه قد كان ذكر من أمرها وكان سراً، فكرهت أن أفشي السر». وفي الإصابة: 8/85، أن عمر عرضها على أبي بكر أولاً!

وفي الطبقات: 8 /83 و189، أن عمر شكى أبابكر وعثمان للنبي (صلی الله علیه و آله) فخطبها منه ففرح فرحاً شديداً! ولهذا لما طلقها النبي (صلی الله علیه و آله) قال عمر: «يا ويح حفصة».

وفي البخاري: 3/103 وأحمد: 1/33: «قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا كائناً»!

وعندماتزوج النبي (صلی الله علیه و آله) بحفصة اكتفى بوليمة عادية كبقية زوجاته: «تزوج حفصة أو بعض أزواجه فأولم عليها بتمر وسويق».مكارم الأخلاق/212 والمنتقى/181.

أما عرس عائشة فكان بدون وليمة، ففي مسند أحمد: 6/438: «عن أسماء بنت يزيد قالت: كنت صاحبة عائشة التي هيأتها وأدخلتها على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعي نسوة قالت: فوالله ما وجدنا عنده قرى إلا قدحاً من لبن»! أما عرس الزهراء (علیها السلام) فأقام لها أوسع مراسم أقامها نبي في تزويج ابنته، كما بينا في محله!

وكان زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بحفصة: «في شعبان على رأس ثلاثين شهراً قبل أحد»«الطبقات: 8/83». أي قبل ولادة الحسن بشهر وأيام، لأنه ولد منتصف شهر رمضان سنة ثلاث. وأما مهرها فكان أربع مئة درهم.«ابن هشام: 4/1059».

وفي الطبقات: 8/86: «توفيت حفصة في شعبان سنة خمس وأربعين في خلافة معاوية بن أبي سفیان وهي يومئذ ابنة ستين سنة». وقد صغروا من عمرها لأنهم نصوا على أنها ولدت قبل البعثة بخمس سنين وأكثر.الحاكم: 4/15.

كانت حفصة أكبر أولاد أبيها، وقد اشتق كنيته من إسمها فتكنى بأبي حفص، وكانت معتمدته في أموره، فكان يضع نسخة القرآن التي يريد أن ينشرها عندها،

ص: 81

قال البخاري: 5/211،6/98 و 8/119: «وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر».

وعندما وحَّد عثمان نسخة القرآن حاول أن يأخذها منها فلم تعطها، لأن فيها اجتهادات عمر الكثيرة المخالفة للقرآن المعروف! فلما ماتت أخذها مروان وأحرقها! قال ابن شبة في تاريخ المدينة: 3/1003: «عن ابن شهاب قال: حدثني أنس قال: لما كان مروان أمير المدينة أرسل إلى حفصة يسألها عن المصاحف ليمزقها، وخشي أن يخالف الكتاب بعضه بعضاً فمنعتها إياه! قال الزهري: فحدثني سالم قال: لما توفيت حفصة أرسل مروان إلى ابن عمر بعزيمة ليرسلن بها، فساعة رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها ابن عمر فشققها ومزقها، مخافة أن يكون في شئ من ذلك خلاف لما نسخ عثمان»!

وكانت حفصة قوية الشخصية جداً، وجعلها عمر وصيته: «وقال أحمد بن حنبل: إن عمر أوصى إلى حفصة».«الأم للشافعي: 7/236». وخصها بالولاية على ما أوقفه على ذريته، وأهمها بساتين خيبر«ثمغ»التي أهداها له اليهود في زمن النبي (صلی الله علیه و آله) !

وكان لها مخصصات من الخليفة، فأوقفت ذهباً على نساء عشيرتها:«ابتاعت حفصة حلياً بعشرين ألفاً فحبسته على نساء آل الخطاب».المجموع: 15/325.

اعترف محبوها أنها كانت تؤذي النبي (صلی الله علیه و آله)

كانت حفصة تؤمن بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله) لكن ذلك لم يمنعها من مخالفته، وحتى مقاطعته وأذيته! قال عمر: «فدخلت على حفصة فقلت: أتغاضب إحداكن رسول الله اليوم حتى الليل؟ فقالت: نعم».صحيح بخاري: 3/103.

قال عمر: «وكان بيني وبين امرأتي كلام فأغلظت لي فقلت لما وإنك لهناك؟ قالت: تقول هذا لي وابنتك تؤذي النبي (صلی الله علیه و آله) !» صحيح بخاري: 7/47.

وكانت تعرف حرص عمر على استمرار زواجها من النبي (صلی الله علیه و آله) وأنه يغضب من سوء أخلاقها معه (صلی الله علیه و آله)، لكنها مع ذلك كانت تخالفه وتؤذيه!

ففي السيرة، الحلبي: 3/406: «شجر بين النبي (صلی الله علیه و آله) وبين حفصة أمر فقال لها: إجعلي

ص: 82

بني وبينك رجلاً. قالت: نعم. قال: فأبوك إذن، فأرسلت إلى عمر فجاء، فلما دخل عليها قال لها النبي (صلی الله علیه و آله) تكلمي. فقالت: بل أنت يا رسول الله تكلم ولا تقل إلا حقاً! فرفع عمر يده فوجأها في وجهها فقال له النبي: كف يا عمر، فقال عمر: يا عدوة الله النبي لايقول إلا الحق، والذي بعثه بالحق لولا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي!» وتفسير السمعاني: 4/276، مجمع البيان: 8/151، عن الواحدي، عن ابن عباس.

وفي الكافي: 6/138، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «أن زينب قالت لرسول الله (صلی الله علیه و آله): لاتعدل وأنت رسول الله! وقالت حفصة: إن طلقنا وجدنا أكفاءنا في قومنا! فاحتبس الوحي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) عشرين يوماً، قال: فأنف الله عزوجل لرسوله فأنزل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً..الى قوله: أَجْرًا عَظِيمًا. قال: فاخترن الله ورسوله ولو اخترن أنفسهن لبنَّ».

وقد طلق النبي (صلی الله علیه و آله) حفصة مرتين ورجع اليها، وكانت الثانية في السنة التاسعة قبيل غزوة تبوك، كما نص أبوها ورواه البخاري وغيره. أما الأولى فيبدو أنها في نفس سنة زواجه بها، كما في الطبقات: 8/84 والحاكم: 4/15: «عن قيس بن زيد أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) طلق حفصة بنت عمر، فأتاها خالاها عثمان وقدامة ابنا مظعون فبكت وقالت: والله ما طلقني رسول الله عن شبع، فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) فدخل عليها فتجلببت، فقال رسول الله: إن جبريل أتاني فقال لي أرجع حفصة فإنها صوامة قوامة».وتوفي خالها عثمان بن مظعون بعد رجوعه من بدر.الطبري: 2/177.

وفي الإصابة: 8/86:«طلق رسول الله حفصة بنت عمر فبلغ ذلك عمر، فحثا التراب على رأسه وقال: مايعبأ الله بعمر وابنته بعدها! فنزل جبريل من الغد على النبي (صلی الله علیه و آله) فقال إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر».

والصحيح أن الله تعالى أمر نبيه (صلی الله علیه و آله) بزواجها ثم بطلاقها ثم بإرجاعها، لمصالح لاتتعلق بأبيها ولا بإيمانها وعبادتها كما زعموا، فقد ضرب الله لها ولعائشة مثلاً بامرأتي نوح ولوط وهما كافرتان. بل لتحزبها مع عائشة وعملهما

ص: 83

ضد النبي (صلی الله علیه و آله) كما نصت سورة التحريم. قالت عائشة: «إن نساء رسول الله (صلی الله علیه و آله) كنَّ حزبين فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة. والحزب الآخر: أم سلمة وسائر نساء رسول الله».بخاري:3/132.

نزلت فيها وفي عائشة آية النهي عن السخرية

ولم تكن صفية من حزبهما، قال المجموع: 15/353: «بلغ صفية أن حفصة قالت بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي (صلی الله علیه و آله) وهي تبكي وقالت: قالت لي حفصة: أنت ابنة يهودي! فقال النبي (صلی الله علیه و آله):إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي وإنك لتحت نبي فبمَ تفتخر عليك؟ ثم قال: إتقي الله يا حفصة».

وروى الجميع أن آية: لايسخر قوم من قوم، نزلت في حفصة وعائشة! لسخريتهما من صفية بنت حیي، ففي تفسير القمي: 2/321:«نزلت في صفية بنت حیي بن أخطب وكانت زوجة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وذلك أن عائشة وحفصة كانتا تؤذيانها وتشتمانها وتقولان لها يا بنت اليهودية! فشكت ذلك إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال لها: ألا تجيبنهما؟ فقالت بماذا يا رسول الله؟ قال قولي: أبي هارون نبي الله، وعمي موسى كليم الله، وزوجي محمد رسول الله، فما تنكران مني؟ فقالت لهمافقالتا: هذا علمك رسول الله! فأنزل الله في ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الإسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمان وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. والحاكم:4/29، عمدة القاري /122، الأحوذي: 10/267، أوسط الطبراني: 8/236.

وفي أسباب النزول للواحدي/263، أن سبب نزول الآية أن حفصة وعائشة سخرتا من أم سلمة«وذلك أنها ربطت حقويها بسبنية وهي ثوب أبيض وسدلت طرفها خلفها فكانت تجره، فقالت عائشة لحفصة: أنظري ما تجر خلفها كأنه لسان كلب..»!

واتفقت حفصة مع عائشة على الكذب والحيلة! ففي الكافي: 5/568، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فدخلت عليه وهو في

ص: 84

منزل حفصة والمرأة متلبسة متمشطة، فدخلت على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالت: يا رسول الله إن المرأة لا تخطب الزوج وأنا امرأة أيِّم لا زوج لي منذ دهر ولا ولد، فهل لك من حاجة، فإن تك فقد وهبت نفسي لك إن قبلتني، فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): خيراً ودعا لها ثم قال: يا أخت الأنصار جزاكم الله عن رسول الله خيراً فقد نصرني رجالكم ورغبت فيَّ نساؤكم، فقالت لها حفصة: ما أقل حياءك وأجراك وأنهمك للرجال! فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): كفي عنها يا حفصة فإنها خير منك، رغبت في رسول الله فلمتها وعيبتها، ثم قال للمرأة: إنصرفي رحمك الله فقد أوجب الله لك الجنة لرغبتك فيَّ وتعرضك لمحبتي وسروري، وسيأتيك أمري إن شاء الله، فأنزل الله عزوجل: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.«الأحزاب: 50» قال: فأحل الله عزوجل هبة المرأة نفسها لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، و لا يحل ذلك لغيره».

وفي الخصال/419، أن اسمها: خولة بنت حكيم السلمي. وروي أنها أسدية.

وفي الحدائق: 23/98: «الظاهر أنه بعد نزول الآية على أثر هذه الواقعة، نكح النبي (صلی الله علیه و آله) المرأة ولا إيجاب هنا ولا قبول».

كانت حفصة عنيفة فقتلت امرأتين!

قتلت عائشة امرأة واحدة، زعمت أنها كتبت لها سحراً، أماحفصة فقتلت امرأتين زعمت أنهما كتبتا لها سحراً!«المحلى: 11/395». وروى في الطبقات: 3/356، أنها دفعت عبيدالله بن عمر لقتل الهرمزان وجفينة طفلة أبي لؤلؤة، على أثر قتل عمر! قال أخوها عبدالله:«يرحم الله حفصة فإنها ممن شجع عبيدالله على قتلهم»!

كانت حفصة وعائشة حليفتين

وكان تحالفهما كتحالف أبويهما، وكانت حفصة تقلد عائشة في كثير من الأمور، وقد أخذت برأيها في رضاع الكبير، فكانت ترسل الأجنبي إلى أختها لترضعه خمس رضعات ويدخل عليها!الأم للشافعي: 7/236.

ص: 85

«وأرسلت عائشة إلى حفصة وغيرها من أمهات المؤمنين كما نص عليه غير واحد من أثبات أهل الأخبار، تسألهن الخروج معها إلى البصرة، فما أجابها إلى ذلك منهن إلا حفصة، لكن أخاها عبدالله أتاها فعزم عليها بترك الخروج، فحطت رحلها بعد أن همت».النص والإجتهاد/432.

تهديد الله تعالى لعائشة وحفصة!

اتفق الجميع على أن نزول سورة التحريم كان بسبب أن النبي (صلی الله علیه و آله) ائتمن حفصة على سره فأذاعته، وتآمرت على النبي (صلی الله علیه و آله) هي وعائشة! فهددهما الله تعالى بأشد تهديد وضرب الله لهما مثلاً بكافرتين من زوجات الأنبياء: خانتا زوجيهما في أمر الرسالة، وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) أن يشدد على المنافقين والمنافقات، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحِينِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ.

قال المفيد في المسائل العكبرية/77: «جاء في حديث الشيعة عن جعفر بن محمد (علیه السلام) أن السر الذي كان من رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى بعض أزواجه إخباره عائشة أن الله أوحى إليه أن يستخلف أميرالمؤمنين (علیه السلام) وأنه قد ضاق ذرعاً بذلك، لعلمه بما في قلوب قريش له من البغضاء والحسد والشنآن، وأنه خائف منهم فتنة عاجلة تضر بالدين، وعاهدها أن تكتم ذلك ولا تبديه وتستره وتخفيه. فنقضت عهد الله سبحانه عليها في ذلك وأذاعت سره إلى حفصة، وأمرتها أن تعلم أباها ليعلمه صاحبه، فيأخذ القوم لأنفسهم ويحتالوا في بعض ما يثبته رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأميرالمؤمنين (علیه السلام) في حديث طويل له أسباب مذكورة. ففعلت ذلك حفصة واتفق القوم على عقد بينهم إن مات رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يورثوا أحداً من أهل بيته ولايؤتوهم مقامه، واجتهدوا في تأخيرهم والتقدم عليهم، فأوحى الله إلى نبيه (صلی الله علیه و آله) بذلك وأعلمه ماصنع القوم وتعاهدوا عليه، وأن الأمر يتم لهم محنة من الله تعالى للخلق بهم. فأوقف النبي (صلی الله علیه و آله) عائشة على ذلك وعرفها ما كان منها من إذاعة السر، وطوى عنها الخبر بما علمه من تمام الأمر لهم، لئلا تتعجل إلى

ص: 86

المسرة به وتلقيه إلى أبيها فيتأكد طمع القوم فيما عزموا عليه، وهو قوله تعالى: عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ، فالبعض الذي عرفه ما كان منها من إذاعة سره، والبعض الذي أعرض عنه ذكر تمام الأمر لهم».

وروى الطبراني في الكبير: 12/91، عن ابن عباس: «فقال لها رسول الله: لاتخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة، فإن أباك يلي من بعد أبي بكر إذا أنا مت، ويلي عمر من بعده، فذهبت حفصة فأخبرت عائشة!»

وقد بحثنا ذلك في اتهامهم لمارية القبطية رضی الله عنها، ونزول براءتها.

هذا، وقد انفردت حفصة بأحاديث لم يروها غيرها! مثل حديث أن أهل بدر كلهم في الجنة، وأهل بيعة الرضوان كلهم في الجنة، وحديث: «إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر». فهي متهمة بوضعها! راجع: الإفصاح للمفيد/219.

أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضی الله عنها

في مناقب آل أبي طالب: 1/138: «وميمونة بنت الحارث الهلالية خالة ابن عباس، وكانت عند عمير بن عمرو الثقفي، ثم عند أبي زيد بن عبدالعامري، خطبها للنبي (صلی الله علیه و آله) جعفر بن أبي طالب، وكان تزويجها وزفافها وموتها وقبرها بسَرَف، وهو على عشرة أميال من مكة.»تزوجها«في سنة سبع، وماتت في سنة ست وثلاثين. وأفضلهن خديجة، ثم أم سلمة، ثم ميمونة».

وفي الكافي: 5/368، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين تزوج ميمونة بنت الحارث أوْلَمَ عليها وأطعم الناس الحَيْس.» وهو التمر بالسمن.

وذكر في الإصابة: 8/328، أنها آخر من مات من أزواج النبي (صلی الله علیه و آله). لكن يظهر أن أم سلمة ماتت بعدها، فقد عاشت إلى خلافة يزيد ووقعة الحرة سنة 63.

وروى ابن عبدالبر في الإستيعاب: 4/1917، أن العباس اقترح على النبي (صلی الله علیه و آله) الزواج بها: «فقال له العباس: يا رسول الله تأيمت ميمونة بنت الحارث بن حزن بن أبي رهم بن عبدالعزى، هل لك في أن تزوجها؟ فتزوجها

ص: 87

رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو مُحرم. فلما أن قدم مكة أقام ثلاثاً فجاءه سهيل بن عمرو في نفر من أصحابه من أهل مكة فقال: يا محمد أُخرج عنا، اليوم آخر شرطك! فقال (صلی الله علیه و آله):دعوني أبتني بامرأتي وأصنع لكم طعاماً. فقال: لا حاجة لنا بك ولا بطعامك، أخرج عنا»! فأجابه سعد بن عبادة بشتيمة فهدأه النبي (صلی الله علیه و آله). وهذا يدل على فظاظة سهيل بن عمرو وعدائه للنبي (صلی الله علیه و آله) والإسلام! ولهذه الصفات اختارته قريش لقيادتها بعد فتح مكة وعزلت أبا سفيان واتهمته بأنه خضع لمطلب النبي (صلی الله علیه و آله) بخلع سلاحها! ويدل على أن النبي (صلی الله علیه و آله) أراد أن يتأخر في مكة ويدعو القرشيين إلى وليمة عرسه، ليخفف العداء ويهدئ الأجواء المتوترة بينهم، ولو قبلوا بذلك لكان خيراً لهم، لأن نجمهم كان في أفول ونجم النبي (صلی الله علیه و آله) في صعود.

وغطى ابن هشام:3/829 فظاظة سهيل بن عمرو مع النبي (صلی الله علیه و آله) وزعم أن الذي جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) حويطب بن عبدالعزى في نفر من قريش.

وفي الحدائق: 22/3 وقاموس الرجال: 12/345:«بلغ سعيد ابن المسيب أن عكرمة قال: تزوجها وهو محرم فقال: كذب عكرمة! قدم وهو محرم فلما حل تزوجها. فخرج وخلف أبا رافع وقال: إلحقني بميمونة، فحملها على قلوص، فجعل أهل مكة ينفرون بها ويقولون: لا بارك الله لك! فوافى النبي بسرف وهو على أميال من مكة، فبنى بها بسرف. ودفنت بسرف سنة 61».

أم المؤمنين ميمونة من أهل الجنة

وردت أحاديث في مدح ميمونة رضی الله عنها وفي بعضها شهادة لها بالجنة. واتفقت أحاديثنا على أنها كانت موالية لأميرالمؤمنين (علیه السلام).

ففي الأصول الستة عشر/62، عن جابر بن يزيد الجعفي قال: «قال أبوجعفر (علیه السلام): قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا ينجو من النار وشدة تغيظها وزفيرها وقرنها وحميمها من عادى علياً وترك ولايته وأحب من عاداه! فقالت ميمونة زوج النبي (صلی الله علیه و آله): والله ما أعرف من أصحابك يا رسول الله من يحب علياً إلا قليلاً منهم!فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): القليل

ص: 88

من المؤمنين كثير، ومن تعرفين منهم؟ قالت: أعرف أباذر والمقداد وسلمان، وقد تعلم أني أحب علياً بحبك إياه ونصيحته لك. قال فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): صدقت، إنك صديقة، امتحن الله قلبك للإيمان.»

وفي أمالي الطوسي/505، عن: «يزيد بن الأصم قال: قدم شقير بن شجرة العامري المدينة، فاستأذن على خالتي ميمونة بنت الحارث زوج النبي (صلی الله علیه و آله) وكنت عندها فقالت: إئذن للرجل، فدخل فقالت: من أين أقبل الرجل؟ قال: من الكوفة. قالت: فمن أي القبائل أنت؟ قال: من بني عامر. قالت: حُيِّيت، إزدد قرباً، فما أقدمك؟ قال: يا أم المؤمنين، رهبت أن تكبسني الفتنة لما رأيت من اختلاف الناس فخرجت. قالت: فهل كنت بايعت علياً؟ قال: نعم. قالت: فارجع فلا تزولن عن صفِّه، فوالله ما ضل ولا ضُلَّ به. قال: يا أماه فهل أنت محدثتي في علي بحديث سمعته من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟قالت: اللهم نعم، سمعت رسول الله يقول: علي آية الحق، وراية الهدى، علي سيف الله يسله على الكفار والمنافقين، فمن أحبه فبحبي أحبه، ومن أبغضه فببغضي أبغضه، ومن أبغضني أو أبغض علياً لقي الله عزوجل ولا حجة له»!

ورواه في شرح الأخبار/256، عن أبي قتادة بسنده عن أبي إسحاق، وفيه: «فأردت الخروج معه فوجدت في نفسي من ذلك وجئت أسألك. قالت: أخرج معه فإنه لن يضل ولن يُضل به. قال أبو إسحاق: وما شك في علي إلا فاسق».

وقد وبخت ميمونة عائشة لما أرادت الخروج وذكرتها بحديث النبي (صلی الله علیه و آله):

يا حميراء إنك لتقاتلين علياً وأنت ظالمة له! قالت نعم.الجمل لابن شدقم/106.

وفي الخصال/363، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «رحم الله الأخوات من

أهل الجنة فسماهن: أسماء بنت عميس الخثعمية وكانت تحت جعفر بن أبي طالب، وسلمى بنت عميس الخثعمية وكانت تحت حمزة. وخمس من بني هلال: ميمونة بنت الحارث كانت تحت النبي (صلی الله علیه و آله)، وأم الفضل عند العباس إسمها هند، والغميصاء أم خالد بن الوليد، وعزة كانت في ثقيف تحت الحجاج

ص: 89

بن علاط. وحميدة ولم يكن لها عقب».

وفي مقاتل الطالبيين/11، أن هنداً أم ميمونة قيل فيها: «الجرشية أكرم الناس أحماءً«أصهاراً»وجرش من اليمن، وابنتها أسماء بنت عميس تزوجها جعفر بن أبي طالب ثم أبو بكر، ثم أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب. وابنتها الأخرى ميمونة أم المؤمنين زوجة النبي (صلی الله علیه و آله). وابنتها الأخرى لبابة أم الفضل أخت ميمونة أم ولد العباس بن عبدالمطلب. وابنتها الأخرى سلمى بنت عميس أم ولد حمزة بن عبدالمطلب. وأحماء هذه الجرشية: رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، والحمزة، والعباس، وجعفر، وأبو بكر. ومن أحمائها أيضاً الوليد بن المغيرة المخزومي». فأم خالد بن الوليد أخت أسماء بنت عميس، ومن هنا كانت نجابة بعض أولاد خالد

كالمهاجر بن خالد (رحمة الله).

ص: 90

الفصل السادس والأربعون: غزوة أحد

1- استعداد قريش لحرب أحُد

تلقى زعماء قريش ضربة شديدة في بدر، فقد خسروا سبعين فارساً وسبعين أسيراً! وانهزمت بقيتهم إلى مكة في حالة من الذل والغيظ! وكانت قافلتهم التي نجت من النبي (صلی الله علیه و آله) محتبسة في دار الندوة فقالوا لأصحابها: يا معشر قريش إن محمداً قد وتَرَكم وقتل خياركم، فأعينوا بهذا المال على حربه فلعلنا ندرك منه ثأرنا! وكانوا يربحون بالدينار ديناراً فبلغ المال خمسين ألف دينار. وقيل نزل يومها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ.«نزلت في أبي سفیان، أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية، وكانت الأوقية اثنين وأربعين مثقالاً».عين العبرة /53.

«وكانت وقعة أحد في شوال، بعد بدر بسنة». تاريخ اليعقوبي: 2/47.

وبعثت قريش رسلها إلى قبائل كنانة وتهامة يستنصرونهم، وبرز أبوسفيان زعيماً لقريش بلا منازع، بعد أن قُتل منافساه عتبة بن ربيعة الأموي وأبوجهل المخزومي، فقام لإثبات زعامته بغارة على ضواحي المدينة في مئتي راكب، ليَبِرَّ يمينه! ووصل إلى ضواحي المدينة ليلاً، والتقى بأحد زعماء اليهود، وأغار على مزرعة للأنصار فقتل رجلين، وعندما قصده النبي (صلی الله علیه و آله) سارع بالهرب وتخفف أصحابه من مؤونتهم، فأخذها المسلمون وسميت غزوة ذات السويق!

ص: 91

وخلال سنة حشدت قريش ثلاثة آلاف مقاتل، فيهم سبع مائة دارع ومئتا فارس وتوجهوا إلى المدينة ومعهم فتيانٌ بالمعازف وغلمان بالخمور، وخمس عشرة امرأة من نساء شخصياتهم، فيهن هند زوجة أبي سفیان، يغنين ويضربن بالدفوف ليحمسنهم للثأر لقتلى بدر، ومعهم أبو عامر الفاسق الذي ترك المدينة كراهيةً لمحمد، وسكن مكة مع خمسين رجلاً من الأوس، وكان يحرض قريشاً ويقول لهم إنهم على الحق ومحمد على الباطل، ويزعم لهم أن أهل المدينة معه!

وفي مقابل هؤلاء كان المسلمون سبع مئة مقاتل، فيهم مائتا دارع، وفارسان. الصحيح من السيرة: 6/77، النص والإجتهاد/341 وابن هشام: 3/581.

ولما وصل القرشيون إلى الأبواء وفيها قبر أم النبي (صلی الله علیه و آله) اقترحت عليهم هند أن ينبشوه ويأخذوا رمتها رهينة، ليأخذوا فداءها من النبي (صلی الله علیه و آله) !قالت: «فلعمري ليفدين رمة أمه بمال كثير، إنه كان بها براً». الصحيح: 6/85.

فتشاوروا ثم أعرضوا عن ذلك، خوفاً من أن تنبش قبور موتاهم في مناطق المسلمين وحلفائهم! ووصلوا إلى ذي الحليفة قبل المدينة بقليل، فتركوا خيولهم وإبلهم ترعى زروع أهل المدينة، وأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) من يخمِّن عددهم وعُدتهم، ثم واصلوا مسيرهم حتى نزلوا في آخر وادي قُبا عند جبل أحد، قبالة المدينة.

2- رؤيا النبي (صلی الله علیه و آله) واستعداده للدفاع

عندما بلغ أهل المدينة تحرك قريش لحربهم قال قسم منهم نتحصن في المدينة ونرد هجوم قريش من مداخلها وسككها وأزقتها، وقال آخرون بل نخرج اليهم فنقاتلهم خارجها، لأنه ما غُزِيَ قومٌ في عقر دارهم إلا ذلوا!

قال ابن إسحاق: 3/303: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) للمسلمين: إني قد رأيت بقراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة وتأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا وتدعوهم حيث قد نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها. وكان رأي عبدالله بن أبي سلول مع رسول الله. فقال رجال من

ص: 92

المسلمين ممن كان فاتته بدر: يا رسول الله أخرج بنا إلى أعدائنا، لايرون أنا جبنا عنهم أو رضخنا». وابن هشام:3/583، تفسير الطبري: 4/94.

وقال علي بن إبراهيم في تفسيره: 1/110: «كان سبب غزوة أحد أن قريشاً لما رجعت من بدر إلى مكة وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر، لأنه قتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون، فلما رجعوا إلى مكة قال أبوسفيان: يا معشر قريش لاتدعوا النساء تبكي على قتلاكم، فإن البكاء والدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والحرقة والعداوة لمحمد!ويشمت بنا محمد وأصحابه! فلما غزوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم أحد أذنوا لنسائهم بعد ذلك في البكاء والنوح.

فلما أرادوا أن يغزوا رسول الله إلى أحُد ساروا في حلفائهم من كنانة وغيرها فجمعوا الجموع والسلاح. فلما بلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذلك جمع أصحابه وأخبرهم أن الله قد أخبره أن قريشاً قد تجمعت تريد المدينة، وحث أصحابه على الجهاد والخروج، فقال عبدالله بن أبي سلول وقومه: يا رسول الله لا تخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها، فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح، فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودورنا، وما خرجنا إلى أعدائنا قط إلا كان الظفر لهم. فقام سعد بن معاذ (رحمة الله) وغيره من الأوس فقالوا: يا رسول الله ما طمع فينا أحد من العرب ونحن مشركون نعبدالأصنام، فكيف يطمعون فينا وأنت فينا! لا، حتى نخرج إليهم فنقاتلهم، فمن قتل منا كان شهيداً، ومن نجا منا كان قد جاهد في سبيل الله، فقبل رسول الله قوله وخرج مع نفر من أصحابه يبتغون موضع القتال كما قال الله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

والظاهر أن رأي سعد بن معاذ كان سبب قبول النبي (صلی الله علیه و آله) بالخروج اليهم، لأن سعداً أكبر زعيم عند الأنصار.

ص: 93

3- النبي (صلی الله علیه و آله) يختار مكان معسكره

لم يكن للعدو طريق لمهاجمة المدينة إلا من وادي قباء وهي غربي المدينة وتمتد من الجنوب إلى الشمال. أما الجهات الأخرى فمرتفعات أو بساتين يصعب النفوذ منها، لذلك هاجمت قريش المدينة في أحُد من وادي قباء. وينتهي الوادي بجبل أحد الذي يعترضه ويمتد بعكسه من الشرق إلى الغرب، ويوجد قبله جبلٌ صغير إسمه: جبل عَيْنَيْن، وهو جبل الرماة، ويسمى يوم أحد يوم عَينين أيضاً.

ويظهر أن النبي (صلی الله علیه و آله) خرج صبح الجمعة أو قبله واختار مكاناً لمعسكره،كما قال الإمام الصادق (علیه السلام) في قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، أي خرجت غدوةً صباحاً، ثم تابع النبي (صلی الله علیه و آله) مشاورة أصحابه في الخروج أو البقاء في المدينة، واتخذ قراره بالخروج، وصلى بهم الجمعة وخرج بهم بعد الصلاة وباتوا في أحد، وكانت المعركة صبيحة السبت.

وعسكر المشركون في الوادي مقابل جبل عينين، فاختار النبي (صلی الله علیه و آله) غربي قبر حمزة ليكون ظهرهم محمياً بجبل أحد ووجههم إلى المشركين، فكان جبل عينين عن يسارهم. وكان المسلك الوحيد للإلتفاف عليهم من خلف جبل عَينين من جهة المدينة، وهو معبر ضيق تجري فيه عين المِهْراس التي تنبع من آخر الوادي من جهة أحد. لذلك أمر النبي (صلی الله علیه و آله) خمسين من الرماة أن يتخذوا مواقعهم في أصل جبل الرماة من جهة المدينة، وشدد عليهم أن لايتركوا مواقعهم!

وقد رأيت عين المهراس سنة1961 ميلادية، بين قبرحمزة والمسجد الذي في شرقيه، وهي نبع على عمق بضعة أمتار، ينزل اليه في درج واسع، لكن الوهابيين ردموها وأزالوها. ويسمى يوم أحُد يوم المِهْراس أيضاً، وسيأتي أن علياً (علیه السلام) كان يأتي بالماء من المهراس وفاطمة (علیها السلام) تغسل جراح النبي (صلی الله علیه و آله).أمالي الطوسي/551.

ص: 94

4- انتصار المسلمين الكاسح في الجولة الأولى

في صبيحة يوم السبت منتصف شوال سنة ثلاث للهجرة صفَّ النبي (صلی الله علیه و آله) المسلمين في أحُد، ووضع الرماة الخمسين شرقي جبل عينين.

ابن إسحاق: 3/301.

وفي تفسير القمي: 1/112: «وكانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدري فبرز ونادى: يا محمد تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ونجهزكم بأسيافنا إلى الجنة، فمن شاء أن يلحق بجنته فليبرز إليَّ! فبرز إليه أميرالمؤمنين (علیه السلام) يقول:

ياطلحُ إن كنت كما تقولُ *** لنا خيولٌ ولكم نَصول

فاثبت لننظر أينا المقتول *** وأينا أولى بما تقول

فقد أتاك الأسد الصؤول *** بصارم ليس به فلول

ينصره القاهر والرسول

فقال طلحة: من أنت يا غلام؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. قال: قد علمتُ يا قُضَيْم أنه لايَجسر عليَّ أحد غيرك! فشد عليه طلحة فضربه فاتقاه أميرالمؤمنين بالجحفة، ثم ضربه على فخذيه فقطعهما جميعاً فسقط على ظهره وسقطت الراية! فذهب علي (علیه السلام) ليجهز عليه فحلَّفه بالرحم فانصرف عنه، فقال المسلمون: ألا أجهزت عليه؟ قال: قد ضربته ضربة لا يعيش منها أبداً!

وأخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحه فقتله علي (علیه السلام) وسقطت الراية على الأرض. فأخذها مسافع بن أبي طلحة فقتله علي (علیه السلام)، فسقطت الراية إلى الأرض.

فأخذها عثمان بن أبي طلحة فقتله علي (علیه السلام)، فسقطت الراية إلى الأرض.

فأخذها الحارث بن أبي طلحة فقتله علي (علیه السلام)، فسقطت الراية إلى الأرض. وأخذها أبو عذير بن عثمان فقتله علي (علیه السلام)، وسقطت الراية إلى الأرض.

فأخذها عبدالله بن أبي جميلة بن زهير فقتله علي (علیه السلام) وسقطت الراية

إلى الأرض!

ص: 95

فقَتل أميرالمؤمنين (علیه السلام) التاسع من بني عبدالدار! وهو أرطأة بن شرحبيل مبارزةً وسقطت الراية إلى الأرض! فأخذها مولاهم صواب فضربه أميرالمؤمنين (علیه السلام) على يمينه فقطعها، وسقطت الراية إلى الأرض، فأخذها بشماله فضربه أميرالمؤمنين على شماله فقطعها وسقطت الراية إلى الأرض، فاحتضنها بيديه المقطوعتين، ثم قال: يا بني عبدالدار هل أعذرت فيما بيني وبينكم؟ فضربه أميرالمؤمنين (علیه السلام) على رأسه فقتله، وسقطت الراية إلى الأرض!

فأخذتها عمرة بنت علقمة الحارثية فقبضتها!

وحدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن هشام، عن أبي عبدالله (علیه السلام) أنه سئل عن معنى قول طلحة بن أبي طلحة لما بارزه علي: يا قُضَيْم؟ قال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان بمكة لم يجسر عليه أحد لموضع أبي طالب، وأغروا به الصبيان وكانوا إذا خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) يرمونه بالحجارة والتراب فشكى ذلك إلى علي (علیه السلام) فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إذا خرجت فأخرجني معك فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعه أميرالمؤمنين (علیه السلام) فتعرض الصبيان لرسول الله (صلی الله علیه و آله) كعادتهم فحمل عليهم أميرالمؤمنين وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم ويقولون قضمنا عليٌّ قضمنا عليٌّ! فسمي لذلك: القَضِيم»!

وقال ابن هشام: 3/593: «وأرسل رسول الله إلى علي بن أبي طالب: أن قدم الراية فتقدم عليٌّ فقال: أنا أبو القُضَم، فناداه أبو سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين: أن هل لك يا أبا القضم في البراز من حاجة؟ قال: نعم، فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين فضربه عليٌّ فصرعه ثم انصرف عنه ولم يجهز عليه، فقال له أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ فقال: إنه استقبلني بعورته فعطفتني عنه الرحم، وعرفت أن الله عزوجل قد قتله».

وفي الكافي: 8/111 أن خالد بن عبدالله القشيري أمير مكة سأل قتادة: «من الذي يقول: أوفي بميعادي وأحمي عن حسب؟! فقال: أصلح الله الأمير ليس هذا يومئذ، هذا يوم أحد خرج طلحة بن أبي طلحة وهو ينادي من يبارز؟ فلم يخرج إليه أحد

ص: 96

فقال: إنكم تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ونحن نجهزكم بأسيافنا إلى الجنة، فليبرزن إلي رجل يجهزني بسيفه إلى النار وأجهزه بسيفي إلى الجنة، فخرج إليه علي بن أبي طالب وهو يقول:

أنا ابن ذي الحوضين عبدالمطلب *** وهاشم المطعم في العام السغب

أوفي بميعادي وأحمي عن حسب

فقال خالد: كذب لعمري، والله أبو تراب ما كان كذلك! فقال الشيخ: أيها الأمير إئذن لي في الإنصراف، قال: فقام الشيخ يفرج الناس بيده وخرج وهو يقول: زنديق ورب الكعبة، زنديق ورب الكعبة»!

أقول: هذا يدل على حرص السلطة على إخفاء دور علي (علیه السلام). وقد ارتاعت قريش بقتل طلحة وأصحاب الألوية، وتزعزعت صفوفها، فلم يتقدم لحمل رايتهم بعدهم، إلا امرأة جمعتها عن الأرض ولم ترفعها! فأصدر النبي (صلی الله علیه و آله) أمره بالحملة فتقدم علي وحمزة وأبو دجانة وفرسان المسلمين وحملوا عليهم، فكانت هزيمة المشركين: «فانكشف الكفار حينئذ عن المسلمين هاربين على غير انتظام، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون ما تركوه من أسلحة وأمتعة وذخائر ومؤن. فلما نظر الرماة إلى المسلمين وقد أكبوا على الغنائم دفعهم الطمع في النهب إلى مفارقة محلهم الذي أمروا أن لا يفارقوه، فنهاهم أميرهم عبدالله بن جبير فلم ينتهوا وقالوا: ما مقامنا هاهنا وقد انهزم المشركون! فقال عبدالله: والله لا أجاوز أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! وثبت مكانه مع أقل من عشرة، فنظر خالد بن الوليد المخزومي إلى قلة من في الجبل من الرماة، فكرَّ بالخيل عليهم ومعه عكرمة بن أبي جهل فقتلوهم، ومثلوا بعبدالله بن جبير فأخرجوا حشوة بطنه! وهجموا على المسلمين وهم غافلون وتنادوا بشعارهم يا للعزى يا لهُبل، ووضعوا السيوف في المسلمين وهم آمنون فكان البلاء، وقتل حمزة سيد الشهداء وسبعون من صناديد المهاجرين والأنصار، وأصيب النبي بأبي هو وأمي بجروح يقرح

ص: 97

القلوب ذكرها ويهيج الأحزان بيانها، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته. وإنما كان هذا البلاء كله لمخالفة أوامره ونواهيه». الفصول المهمة/114.

5- هزيمة المسلمين بعد انتصارهم!

قال علي بن إبراهيم في تفسيره: 1/111: «أمَّرَ رسول الله على الرماة وهم خمسون رجلاً عبدالله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وهو يومئذ معلم بثياب بياض وقال: اِنضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا أثبت مكانك لا نؤتين من قبلك. إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تخرجوا من هذا المكان، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة، فلا تبرحوا والزموا مراكزكم. ووضع أبوسفيان خالد بن الوليد في مائتي فارس كميناً، وقال لهم إذا رأيتمونا قد اختلطنا بهم فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا من ورائهم. فحملت الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة، ووقع أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) في سوادهم...

فانهزم أصحاب رسول الله هزيمة قبيحة وأقبلوا يصعدون في الجبال وفي كل وجه، فلما رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الهزيمة كشف البيضة عن رأسه وقال: إني أنا رسول الله، إلى أين تفرون عن الله وعن رسوله»!

وفي تفسير فرات/94: «عن حذيفة قال: «رفع البيضة عن رأسه وجعل ينادي: أيها الناس أنا لم أمت ولم أقتل، وجعل الناس يركب بعضهم بعضاً لايلوون على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولايلتفتون إليه: فلم يزالوا كذلك حتى دخلوا المدينة، فلم يكتفوا بالهزيمة حتى قال أفضلهم رجلاً في أنفسهم: قتل رسول الله، فلما آيس رسول الله (صلی الله علیه و آله) من القوم رجع إلى موضعه الذي كان فيه فلم يزل علي بن أبي طالب وأبو دجانة الأنصاري، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا أبا دجانة ذهب الناس فالحق بقومك! فقال أبو دجانة: يا رسول الله ما على هذا بايعناك وبايعنا الله، ولا على هذا خرجنا يقول الله: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا أبا دجانة أنت في حل من بيعتك فارجع، فقال أبو دجانة: يا رسول الله لاتحدث نساء

ص: 98

الأنصار في الخدور أني أسلمتك ورغبت نفسي عن نفسك يا رسول الله، لا خير في العيش بعدك. قال: فلم يلبث أبو دجانة إلا يسيراً حتى أثخن جراحةً فتحامل حتى انتهى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فجلس إلى جنبه مثخناً لا حراك به. قال: وعلي لا يبارز فارساً ولا راجلاً إلا قتله الله على يديه حتى انقطع سيفه، فلما انقطع سيفه جاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله انقطع سيفي ولا سيف لي، فخلع رسول الله (صلی الله علیه و آله) سيفه ذا الفقار فقلد ه علياً، ومشى إلى جمع المشركين، فكان لايبرز إليه أحد إلا قتله، فلم يزل على ذلك حتى وهت دراعته، فنظر رسول الله إلى السماء وقال: اللهم إن محمداً عبدك ورسولك جعلت لكل نبي وزيراً من أهله لتشد به عضده وتشركه في أمره، وجعلت لي وزيراً من أهلي، علي بن أبي طالب أخي، فنعم الأخ ونعم الوزير، اللهم وعدتني أن تمدني بأربعة آلاف من الملائكة مردفين، اللهم وعدك وعدك، إنك لا تخلف الميعاد، وعدتني أن تظهر دينك على الدين كله ولو كره المشركون.

قال: فبينما رسول الله (صلی الله علیه و آله) يدعو ربه ويتضرع إليه، إذ سمع دوياً من السماء فرفع رأسه فإذا جبرئيل (علیه السلام) على كرسي من ذهب ومعه أربعة آلاف من الملائكة مردفين وهو يقول: لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار، فهبط جبرئيل على الصخرة وحفت الملائكة برسول الله فسلموا عليه، فقال جبرئيل: يا رسول الله والذي أكرمك بالهدى لقد عجبت الملائكة المقربون لمواساة هذا الرجل لك بنفسه. فقال: يا جبرئيل ما يمنعه يواسيني بنفسه وهو مني وأنا منه. فقال جبرئيل: وأنا منكما، حتى قالها ثلاثاً. ثم حمل علي، وحمل جبرئيل والملائكة، ثم إن الله تعالى هزم جمع المشركين وتشتت أمرهم».

وفي إمتاع الأسماع: 1/144: «انكشف المشركون منهزمين لايلوون، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف والفرح، ولكن المسلمين أُتُوا من قبل الرماة. وبينما المسلمون قد شغلوا بالنهب والغنائم، إذ دخلت الخيول تنادي فرسانها بشعارهم: يا للعزى يا لهبل!ووضعوا في المسلمين السيوف وهم آمنون وكل

ص: 99

منهم في يده أو حضنه شئ قد أخذه، فقتلوا فيهم قتلاً ذريعاً، وتفرق المسلمون في كل وجه! وتركوا ما انتهبوا وخلوا من أسروا.

ونادى إبليس عند جبل عينين وقد تصور في صورة جعال بن سراقة: إن محمداً قد قتل: ثلاث صرخات، فما كانت دولة أسرع من دولة المشركين! واختلط المسلمون وصاروا يقتلون ويضرب بعضهم بعضاً ما يشعرون من العجلة والدهش، وجرح أسيد بن حضير جرحين ضربه أحدهما أبو برده بن نيار وما يدري! وضرب أبو زعنة أبا بردة ضربتين وما يشعر!والتقت أسياف المسلمين على اليمان حسيل بن جابر وهم لايعرفونه حين اختلطواوحذيفة يقول: أبي أبي»!

وفي تفسير الطبري: 4/194، عن السدي قال: «لما انهزموا يومئذ تفرق عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصحابه فدخل بعضهم المدينة وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها. عن ابن إسحاق قال: فرَّ عثمان بن عفان وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان حتى بلغوا الجلعب، جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص، فأقاموا به ثلاثاً ثم رجعوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال لهم: لقد ذهبتم فيها عريضة»!

قال ابن إسحاق: 3/306: «قال الزبير: لقد رأيتني أنظر إلى خدم «خلاخيل» هند ابنة عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير! إذ مالت الرماة عن العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل فأُتينا من أدبارنا، وصرخ صارخ ألا إن محمداً قد قتل! فانكفأنا وانكفؤوا علينا بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم!فانكشف المسلمون فأصاب منهم العدو فكان يوم بلاء وتمحيص، أكرم الله فيه من أكرم بالشهادة».

6- ثبت مع النبي (صلی الله علیه و آله) أول الأمر بضعة أشخاص

روى المفيد في الإرشاد: 1/80، عن زيد بن وهب قال: «وجدنا من عبدالله بن مسعود يوماً طِيبَ نفس فقلنا له: لو حدثتنا عن يوم أحُد وكيف كان؟ فقال: أجل ثم ساق الحديث حتى انتهى إلى ذكر الحرب فقال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أخرجوا إليهم على اسم الله فخرجنا، فصفَّنا لهم صفاً طويلاً، وأقام على الشعب خمسين رجلاً من الأنصار

ص: 100

وأمَّر عليهم رجلاً منهم وقال: لاتبرحوا عن مكانكم هذا وإن قتلنا عن آخرنا، فإنما نؤتى من موضعكم هذا! إلى أن قال: وثبت أميرالمؤمنين (علیه السلام)، وأبو دجانة الأنصاري، وسهل بن حنيف يدفعون عن النبي (صلی الله علیه و آله) وكثر عليهم المشركون، ففتح رسول الله (صلی الله علیه و آله) عينيه فنظر إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) وقد كان أغمي عليه مما ناله فقال: يا علي ما فعل الناس؟ قال: نقضوا العهد وولوا الدبر، فقال له: فاكفني هؤلاء الذين قد قصدوا قصدي، فحمل عليهم أميرالمؤمنين (علیه السلام) فكشفهم، ثم عاد إليه وقد حملوا عليه من ناحية أخرى فكر عليهم فكشفهم، وأبو دجانة وسهل بن حنيف قائمان على رأسه (صلی الله علیه و آله) بيد كل واحد منهما سيفه ليذب عنه. قال زيد بن وهب: قلت لابن مسعود: انهزم الناس عن رسول الله حتى لم يبق معه إلا علي بن أبي طالب وأبو دجانة وسهل بن حنيف؟! قال: انهزم الناس إلا علي بن أبي طالب وحده، وثاب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) نفر، وكان أولهم عاصم بن ثابت، وأبو دجانة، وسهل بن حنيف، ولحقهم طلحة بن عبيدالله.

فقلت له: فأين كان أبو بكر وعمر؟ قال: كانا ممن تنحى. قال قلت. فأين كان عثمان؟ قال: جاء بعد ثلاثة من الوقعة، قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): لقد ذهبت فيها عريضة! قال فقلت له: فأين كنت أنت؟ قال: كنت فيمن تنحى! قال فقلت له: فمن حدثك بهذا؟ قال: عاصم وسهل بن حنيف. قال قلت له: إن ثبوت علي في ذلك المقام لعجب! فقال: إن تعجبت من ذلك لقد تعجبت منه الملائكة، أما علمت أن جبرئيل قال في ذلك اليوم وهو يعرج إلى السماء: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي! فقلت له: فمن أين علم ذلك من جبرئيل؟ فقال: سمع الناس صائحاً يصيح في السماء بذلك، فسألوا النبي (صلی الله علیه و آله) عنه فقال: ذاك جبرئيل.

وفي حديث عمران بن حصين قال: لما تفرق الناس عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في يوم أحد، جاء علي متقلداً سيفه حتى قام بين يديه، فرفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) رأسه إليه فقال له: ما لك لم تفر مع الناس؟ فقال: يا رسول الله أأرجع كافراً بعد إسلامي! فأشار له إلى قوم انحدروا من الجبل فحمل عليهم فهزمهم، ثم أشار له إلى قوم آخرين

ص: 101

فحمل عليهم فهزمهم، ثم أشار إلى قوم فحمل عليهم فهزمهم! فجاء جبرئيل (علیه السلام) فقال: يا رسول الله، لقد عجبت الملائكة من حسن مواساة علي لك بنفسه، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): وما يمنعه من هذا، وهو مني وأنا منه! فقال جبرئيل (علیه السلام): وأنا منكما».

وزعموا أن أبابكر ثبت في أحد ولم يهرب فقال ابن سعد: 2/42: «وثبت معه عصابة من أصحابه أربعة عشر رجلاً، سبعة من المهاجرين فيهم أبو بكرالصديق وسبعة من الأنصار» لكنهم كذَّبوا أنفسهم فقالوا كان في أوائل من رجع من الهزيمة! قال ابن سعد: 3 / 155: «عن عائشة قالت: حدثني أبو بكر قال: كنت في أول من فاء إلى رسول الله يوم أحد».

7- بقي النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) وحدهما

اشارة

فبعد جرح أبي دجانة ونسيبة، لم يبق مع النبي (صلی الله علیه و آله) إلا علي (علیه السلام) ! قال الإمام الصادق (علیه السلام) كما في الكافي: 8/110: «انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فغضب غضباً شديداً قال: وكان إذا غضب انحدر عن جبينيه مثل اللؤلؤ من العرق، قال: فنظر فإذا علي (علیه السلام) إلى جنبه فقال له: إلحق ببني أبيك مع من انهزم عن رسول الله! فقال: يا رسول الله لي بك أسوة! قال: فاكفني هؤلاء، فحمل فضرب أول من لقي منهم. فنظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى جبرئيل على كرسي من ذهب بين السماء والأرض وهو يقول: لاسيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي».

وفي الإرشاد: 1/89: «فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): أبشر يا علي، فإن الله منجز وعده، ولن ينالوا منا مثلها أبداً». وفي تفسير القمي: 1/115: «ولم يبق مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلا أبو دجانة الأنصاري سماك بن خرشة وأميرالمؤمنين (علیه السلام)، فكلما حملت طائفة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) استقبلهم فيدفعهم عن رسول الله ويقتلهم، حتى انقطع سيفه. وبقيت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) نسيبة بنت كعب وكانت تخرج مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غزواته تداوي الجرحى، وكان ابنها معها فأراد أن ينهزم ويتراجع، فحملت عليه فقالت: يا بني إلى أين تفر عن الله وعن رسوله؟! فردته فحمل عليه رجل فقتله، فأخذت سيف ابنها فحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): بارك الله عليك

ص: 102

يا نسيبة، وكانت تقي رسول الله (صلی الله علیه و آله) بصدرها وثدييها ويديها، حتى أصابتها جراحات كثيرة!

وحمل ابن قميئة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: أروني محمداً لانجوتُ إن نجا! فضربه على حبل عاتقه، ونادى قتلت محمداً واللات والعزى!

ونظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى رجل من المهاجرين قد ألقى ترسه خلف ظهره وهو في الهزيمة فناداه: يا صاحب الترس ألق ترسك، ومُرَّ إلى النار! فرمى بترسه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا نسيبة خذي الترس فأخذت الترس، وكانت تقاتل المشركين فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لَمَقَامُ نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان!

ولم يكن يحمل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) أحد إلا يستقبله أميرالمؤمنين (علیه السلام)، فإذا رأوه رجعوا! فانحاز رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى ناحية أحُد فوقف. فلم يزل أميرالمؤمنين (علیه السلام) يقاتلهم حتى أصابه في وجهه ورأسه وصدره وبطنه ويديه ورجليه تسعون جراحة فتحاموه! وسمعوا منادياً ينادي من السماء: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. وتراجعت الناس فصارت قريش على الجبل، فقال أبوسفيان وهو على الجبل: أعلُ هبل! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأميرالمؤمنين قل له: الله أعلى وأجل. فقال: يا علي إنه قد أنعم علينا! فقال علي (علیه السلام): بل الله أنعم علينا.

ثم قال أبوسفيان: يا علي أسألك باللات والعزى هل قتل محمد؟فقال له أميرالمؤمنين (علیه السلام): لعنك الله ولعن الله اللات والعزى معك! والله ما قتل محمد (صلی الله علیه و آله) وهو يسمع كلامك! فقال: أنت أصدق، لعن الله ابن قميئه زعم أنه قتل محمداً».

أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى!

في كشف اليقين/59: «خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوماً فرحاً مسروراً وقال: أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى! أما أنه الفتى فلأنه سيد العرب. وأما ابن الفتى فلأنه ابن إبراهيم خليل الرحمن (علیه السلام) الذي نزل في حقه: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ. وأما أنه أخو الفتى، فلأنه أخو علي (علیه السلام) الذي قال جبريل عنه أنه: إنه لا فتى إلا علي».

ص: 103

8- نزل جبرئيل (علیه السلام) وبقي مع النبي (صلی الله علیه و آله) حتى انسحب المشركون

يفهم من حديث دعائم الإسلام: 1/374، عن الإمام الباقر (علیه السلام) أن جبرئيل (علیه السلام) بقي مع النبي (صلی الله علیه و آله) حتى انسحب المشركون، قال: «لما كان يوم أحد وافترق الناس عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وثبت معه علي (علیه السلام) وكان من أمر الناس ما كان، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): إذهب يا علي، فقال: كيف أذهب يا رسول الله وأدعك! بل نفسي دون نفسك ودمي دون دمك، فأثنى عليه خيراً. ثم نظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى كتيبة قد أقبلت فقال: إحمل عليها يا علي، فحمل عليها ففرقها وقتل هشام بن أمية المخزومي، ثم جاءت كتيبة أخرى فقال: إحمل عليها يا علي، فحمل عليها ففرقها وقتل عمر بن عبدالله الجمحي، ثم أقبلت كتيبة أخرى قال: إحمل عليها يا علي. فحمل عليها ففرقها وقتل شيبة بن مالك أخا بني عامر بن لؤي، وجبرئيل مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال جبرئيل: يا محمد إن هذه للمواساة! فقال: يا جبرئيل، إنه مني وأنا منه، فقال جبرئيل: وأنا منكما يا محمد».

9- ركز المشركون على قتل النبي (صلی الله علیه و آله) في أحُد فأصابته جراحات

«لما اشتد البلاء وعظم الخطب بفرار المسلمين، أرهف المشركون لقتل رسول الله غِرار عزمهم، وأرصدوا لذلك جميع أهبهم، فتعاقد خمسة من شياطينهم على ذلك، كانوا كالفدائية في هذا السبيل وهم: عبدالله بن شهاب الزهر»والد الزهري المعروف وهو يهودي حداد حليف بني زهرة«وعتبة بن أبي وقاص، وابن قميئة الليثي أبيُّ بن خلف، وعبدالله بن حميد الأسدي القرشي، لعنهم الله وأخزاهم، فأما ابن شهاب فأصاب جبهته الميمونة، وأما عتبة فرماه - تبَّت يداه- بأربعة أحجار فكسر رباعيته وشق شفته، وأما ابن قميئة قاتله الله فكمَّ وجنته ودخل من خلف المغفر فيها وعلاه بالسيف - شُلَّت يداه - فلم يطق أن يقطع فسقط (صلی الله علیه و آله) إلى الأرض. وأما أبيُّ بن خلف فشد عليه بحربته فأخذها رسول الله منه وقتله بها، وأما عبدالله بن حميد فقتله أبو دجانة الأنصاري شكر الله سعيه وأعلى في الجنان مقامه، فإنه ممن أبلى يومئذ بلاء حسناً. ثم حمل ابن قميئة على مصعب

ص: 104

بن عمير وهو يظنه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقتله، ورجع إلى قريش يبشرهم بقتل محمد، فجعل الناس يقولون: قتل محمد قتل محمد! فانخلعت قلوب المسلمين جزعاً وكادت نفوسهم أن تزهق هلعاً، وأوغلوا في الهرب مدلهين مدهوشين، لايرتابون في قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد أسقط في أيديهم». الفصول المهمة للسيد شرف الدين/118.

وفي المناقب: 1/166: «فرماه ابن قمئة بقذافة فأصاب كفه، ورماه عبدالله بن شهاب بقلاعة فأصاب مرفقه، وضربه عتبة بن أبي وقاص أخو سعد على وجهه، فشج رأسه فنزل عن فرسه، ونهبه ابن قمئة، وقد ضربه على جنبه»!

وروى ابن هشام: 3/597، نحوه وذكر أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فكسر رباعيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلى، وأن عبدالله بن شهاب الزهري شجه في جبهته، وأن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لايعلمون، فأخذ علي بن أبي طالب بيده!

وفي تفسير فرات/93: «إنتهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلىٰ صخرة فاستتر بها، ليتقي بها من السهام سهام المشركين».

«فلما انتهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى فم الشعب خرج علي (علیه السلام) حتى ملأ درقته من المهراس فجاء به إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليشرب منه فوجد له ريحاً فعافه فلم يشرب منه وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه». والمناقب: 1/96،102 والخرائج /62.

وقد كسر خوذته عبدالله بن شهاب جد الزهري فجُرح في رأسه، وأَدمى وجهه فوق حاجبه عبدالله أو عمرو بن قمئة وجرحه في وجنته، وكسر رباعيته عتبة بن أبي وقاص، وجرح شفته السفلى من داخل فمه الشريف. «مقدمة فتح الباري/287». وفي فتح الباري: 7/286: (شُجَّ وجهه وكسرت رباعيته، وجرحت وجنته وشفته السفلى من باطنها، ووهی منكبه من ضربة ابن قمئة وجحشت ركبته).

وفي صحيح البخاري: 7/19: (عن سهل بن سعد الساعدي قال: لما كسرت على رأس رسول الله (صلی الله علیه و آله) البيضة وأدمي وجهه وكسرت رباعيته وكان علي يختلف بالماء

ص: 105

في المجن، وجاءت فاطمة تغسل عن وجهه الدم، فلما رأت فاطمة (علیها السلام) الدم يزيد على الماء كثرة عمدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرح رسول الله (صلی الله علیه و آله) فرقأ الدم).

وفي مصنف ابن أبي شيبة: 4/586: (شُجَّ النبي (صلی الله علیه و آله) وكسرت رباعيته، وذلق من العطش حتى جعل يقع على ركبتيه وتركه أصحابه، فجاء أبي بن خلف يطلب بدم أخيه أمية بن خلف فقال: أين هذا الذي يزعم أنه نبي فليبرز لي فإن كان نبياً قتلني! فأخذ (صلی الله علیه و آله) الحربة ثم مشى إليه فطعنه فصرعه عن دابته، وحمله أصحابه فاستفردوه فقالوا: ما نرى بك بأساً! فقال: إنه قد استسقى الله دمى، إني لأجد لها ما لو كان على مضر وربيعة لوسعتهم).

وفي الدرر لابن عبدالبر/148: (فقاتل دونه مصعب بن عمير حتى قتل. وجُرح رسول الله (صلی الله علیه و آله) في وجهه، وكُسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر، وهشمت البيضة على رأسه.. وكان الذي تولى ذلك من النبي عمرو بن قمئة الليثي وعتبة بن أبي وقاص، وقد قيل إن عبدالله بن شهاب جد الفقيه محمد بن مسلم بن شهاب هو الذي شج رسول الله في جبهته، وأكبت الحجارة على رسول الله حتى سقط في حفرة كان أبو عامر الراهب قد حفرها مكيدة للمسلمين فخر على جنبه فأخذ علي بيده ).

وفي شرح الأخبار: 1/94: (عن عمر بن علاء، قال: لما كان يوم أحد وتفرق الناس عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ضُرب رسول الله ستين ضربة بالسيف، وعليه يومئذ درعان قد تظاهر بينهما، وكسرت رباعيته وشج في وجهه وتفرق الناس عنه، وبقي معه علي بن أبي طالب (علیه السلام) فقال له رسول الله: إرجع يا علي، فقال: إلى أين أرجع عنك يا رسول الله؟ أرجع كافراً بعد أن أسلمت! وأقبل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) كردوس من المشركين. فقال لعلي: فاحمل إذن على هؤلاء، فحمل عليهم ففرجهم وأصاب منهم. فقال جبرائيل لرسول الله (صلی الله علیه و آله): يا محمد إن هذه للمواساة. فقال: يا جبرائيل: إنه مني وأنا منه. فقال جبرائيل: وأنا منكما ).

وفي النص والإجتهاد/343: (وقاتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يومئذ قتالاً شديداً، فرمى بالنبل حتى فني نبله، وانكسرت سية قوسه وانقطع وتره، وأصيب بجرح في وجنته، وآخر

ص: 106

في جبهته، وكسرت رباعيته السفلى، وشقت بأبي هو وأمي شفته وعلاه ابن قمئة بالسيف. وقاتل دونه علي ومعه خمسة من الأنصار استشهدوا في الدفاع عنه رضی الله عنهم وأرضاهم، وترس أبو دجانة رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنفسه، فكان يقع النبل بظهره وهو منحن عليه، وقاتل مصعب بن عمير فاستشهد، قتله ابن قمئة الليثي وهو يظنه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فرجع إلى قريش يقول لهم: قتلت محمداً، فجعل الناس يقولون: قتل محمد، قتل محمد! فأوغل المسلمون في الهرب على غير رشد، وكان أول من عرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) كعب بن مالك، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله حي لم يقتل، فأشار إليه (صلی الله علیه و آله) أن أنصت). لئلا يعرفوا مكانه.

وروينا عن الإمام الصادق (علیه السلام) «إعلام الورى: 1/179»: (فلما دنت فاطمة (علیها السلام) من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ورأته قد شُج في وجهه وأدميَ فوه إدماءً، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول: اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله! وكان رسول الله يتناول في يده ما يسيل من الدم فيرميه في الهواء، فلا يتراجع منه شئ! قال الصادق (علیه السلام): والله لو سقط منه شئ على الأرض لنزل العذاب.

قال أبان بن عثمان: حدثني بذلك عنه الصباح بن سيابة قال قلت: كسرت رباعيته كما يقوله هؤلاء؟ قال: لاوالله ما قبضه الله إلا سليماً، ولكنه شُجَّ في وجهه. قلتُ: فالغار في أحُد الذي يزعمون أن رسول الله (علیهما السلام) صار إليه؟قال: والله ما برح مكانه، وقيل له: ألا تدعو عليهم؟ قال: اللهم اهد قومي)!

10- أشد الأيام على النبي (صلی الله علیه و آله)

«رويَ عن علي بن الحسين (علیه السلام): أنه نظر يوماً إلى عبيدالله بن العباس بن علي فاستعبر ثم قال: ما من يوم أشد على رسول الله (صلی الله علیه و آله) من يوم أحُد، قتل فيه عمه حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب. ولا يوم كيوم الحسين (علیه السلام): ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل

ص: 107

يزعمون أنهم من هذه الأمة،كل يتقرب إلى الله عزوجل بدمه!وهو يذكرهم بالله فلا يتعظون، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً»! مقتل الحسين (علیه السلام) مخنف/ 176.

11- أصعب اللحظات في حياة علي (علیه السلام)

وصف علي أصعب اللحظات في أحُد،كما في الإرشاد: 1/86 والمناقب: 2/315، قال: «لما انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لحقني من الجزع عليه ما لم أملك نفسي، وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه فرجعت أطلبه فلم أره، فقلت: ما كان رسول الله ليفر وما رأيته في القتلى، وأظنه رفع من بيننا إلى السماء، فكسرت جفن سيفي وقلت في نفسي: لأقاتلن به عنه حتى أقتل، وحملت

على القوم فأفرجوا فإذا أنا برسول الله (صلی الله علیه و آله) قد وقع على الأرض مغشياً عليه، فقمت على رأسه فنظر إليَّ وقال: ما صنع الناس يا علي؟ فقلت: كفروا يا رسول الله وولوا الدبر وأسلموك! فنظر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى كتيبة قد أقبلت إليه فقال لي: رد عني يا علي هذه الكتيبة فحملت عليها بسيفي أضربها يميناً وشمالاً حتى ولوا الأدبار.

فقال لي النبي (صلی الله علیه و آله): أما تسمع يا علي مديحك في السماء، إن ملكاً يقال له رضوان ينادي: لاسيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. فبكيت سروراً وحمدت الله سبحانه على نعمته».

وتقدم من الإرشاد: 1/80، قوله: «وقد كان أغمي عليه (صلی الله علیه و آله) مما ناله»! لما جرح ووقع في الحفرة وتكاثر عليه المشركون، وجاء علي وجبرئيل فأخذاه إلى الصخرة.

وفي المناقب لابن سُلَيْمان: 1/466، عن ابن أبي ليلى قال: «لم يمر على الناس يوم مثل يوم أحد أشد منه! جرح النبي (صلی الله علیه و آله) وقتل حمزة، وانكشف الناس عن النبي (صلی الله علیه و آله) فتركوه وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب..الخ.».

12- قميص النبي (صلی الله علیه و آله) الذي أصيب به في أحد

في الكافي: 1/236، «عن الإمام الصادق (علیه السلام) من حديث، أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما حضرته الوفاة عرض على عمه العباس أن يأخذ تراثه ويقضي دينه ومواعيده، فاعتذر بأنه

ص: 108

لايطيق، فعرض ذلك على علي (علیه السلام) فقبله فأعطاه تراثه، وفيه: والقميص الذي أسري به فيه، والقميص الذي جرح فيه يوم أحد».

وروى ابن عقدة في فضائل أميرالمؤمنين (علیه السلام) /88، أن المهدي (علیه السلام) عندما يظهر: «يكون عليه قميص رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي كان عليه يوم أحد».

13- لماذا انسحبت قريش ولم تهاجم المدينة؟!

كان القرشيون يقولون: نقتل محمداً ونردف الكواعب من المدينة، أي نأتي بالسبايا من الأنصار! «ندموا على انصرافهم عن المسلمين، وتلاوموا فقالوا: لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم»! مجمع البيان:2/446.

وفي مناقب آل أبي طالب: 1/109: «لما ارتحل أبوسفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة قالوا: ما صنعنا! قتلناهم حتى لم يبق منهم إلا الشريد وتركناهم إذ هم! وقالوا: إرجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا».

لكن الذي حدث أن قائدهم أبا سفيان أصابه الذعر من علي (علیه السلام) وكان يرى جبرئيل (علیه السلام) معه راكباً فرساً أشقر، فقرر العودة إلى مكة!

فاعجب من أن النبي (صلی الله علیه و آله) أرسل علياً (علیه السلام) وحده خلفهم وهم ثلاثة آلاف، فذهب غير هيَّاب، ولما فاجأهم من أمامهم قالوا هذا الذي فعل فينا الأفاعيل! وصاح أبوسفيان بأنا منسحبون فلماذا تتبعنا!

قال الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 8/318»: «لما رأى النبي (صلی الله علیه و آله) اختلاج ساقيه من كثرة القتال، رفع رأسه إلى السماء وهو يبكي وقال: يا رب وعدتني أن تظهر دينك وإن شئت لم يُعْيك. فأقبل علي (علیه السلام) إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله أسمع دوياً شديداً وأسمع أقدم حيزوم، وما أهمُّ أضرب أحداً إلا سقط ميتاً قبل أن أضربه! فقال هذا جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في الملائكة.. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي إمض بسيفك حتى تعارضهم، فإن رأيتهم قد ركبوا القلاص «الإبل»وجنبوا

ص: 109

الخيل فإنهم يريدون مكة، وإن رأيتهم قد ركبوا الخيل وهم يجنبون القلاص فإنهم يريدون المدينة، فأتاهم علي (علیه السلام) فكانوا على القلاص فقال أبوسفيان لعلي: يا علي ما تريد! هو ذا نحن ذاهبون إلى مكة فانصرف إلى صاحبك! فأتبعهم جبرئيل فكلما سمعوا وقع حافر فرسه جدوا في السير! وكان يتلوهم، فإذا ارتحلوا قالوا: هو ذا عسكر محمد قد أقبل! فدخل أبوسفيان مكة فأخبرهم الخبر، وجاء الرعاة والحطابون فدخلوا مكة فقالوا: رأينا عسكر محمد كلما رحل أبوسفيان نزلوا يقدمهم فارس على فرس أشقر يطلب آثارهم»!

14- علي (علیه السلام) بطل أحُد وصاحب انتصاراتها

قال ابن هشام: 3/655: «أنشدني أبو عبيدة للحجاج بن علاط السلمي، يمدح علي بن أبي طالب، ويذكر قتله طلحة بن أبي طلحة بن عبدالعزى بن عثمان بن عبدالدار، صاحب لواء المشركين يوم أحد:

لله أي مذبَّبٍ عن حرمة *** أعني ابن فاطمةَ المُعِمَّ المُخْولا

سبقت يداك له بعاجل طعنة *** تركتْ طليحة للجبين مجدَّلا

وشددت شدةَ باسلٍ فكشفتهم *** بالسفح إذ يَهْوُون أخولَ أخولا

وعللتسيفك بالدماءولم يكن *** لتردَّه ظمآنَ حتى ينهلا»

والإرشاد: 1/90، رسائل المرتضى: 4/125 والنهاية: 7/372.

وقال المفيد في الإرشاد: 1/90: «ذكر أهل السير قتلى أحُد من المشركين، فكان جمهورهم قتلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) فروى عبدالملك بن هشام قال..كان صاحب لواء قريش يوم أحُد طلحة بن أبي طلحة بن عبدالعزى بن عثمان بن عبدالدار، قتله علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وقتل ابنه أبا سعيد بن طلحة، وقتل أخاه كلدة بن أبي طلحة، وقتل عبدالله بن حميد بن زهرة بن الحارث بن أسد بن عبدالعزى، وقتل أبا الحكم بن الأخنس بن شريق الثقفي، وقتل الوليد بن أبي حذيفة بن المغيرة، وقتل أخاه أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة، وقتل أرطاة بن شرحبيل، وقتل هشام بن أمية، وعمرو بن

ص: 110

عبدالله الجمحي، وبشر بن مالك، وقتل صواباً مولى بني عبدالدار، فكان الفتح له ورجوع الناس من هزيمتهم إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بمقامه يذب عنه دونهم! وتوجه العتاب من الله تعالى إلى كافتهم لهزيمتهم يومئذ سواه ومن ثبت معه من رجال الأنصار، وكانوا ثمانية نفر وقيل: أربعة أو خمسة».

وقال العلامة في كشف اليقين/131: «وكان جمهور قتلى أحُد مقتولين بسيف أميرالمؤمنين (علیه السلام) وكان الفتح ورجوع الناس إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بثبات أميرالمؤمنين (علیه السلام)».

وفي الثاقب في المناقب/63، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قَتَل علي بن أبي طالب (علیه السلام) يوم أحد أربعة عشر رجلاً، وقتل سائر الناس سبعة، وأصابه يومئذ ثمانون جراحة، فمسحها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلم ينفح منها شئ».

وفي المناقب: 1/385 و 2/78: «عن أبان بن عثمان، أنه أصاب علياً يوم أحد ستون جراحة، وأصاب علياً يوم أحد ستة عشر ضربة، وهو بين يدي رسول الله يذب عنه في كل ضربة يسقط إلى الأرض، فإذا سقط رفعه جبرئيل..

أصابني يوم أحد ست عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهن فأتاني رجل حسن الوجه حسن اللمة طيب الريح فأخذ بضبعي فأقامني، ثم قال: أقبل عليهم فإنك في طاعة الله وطاعة رسول الله وهما عنك راضيان، قال علي (علیه السلام): فأتيت النبي (صلی الله علیه و آله) فأخبرته فقال: ياعلي أقر الله عينك، ذاك جبرئيل».

وفي المناقب: 3/85، عن زيد بن علي قال: «كسرت زند علي يوم أحد وفي يده لواء رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسقط اللواء من يده، فتحاماه المسلمون أن يأخذوه، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): فضعوه في يده الشمال فإنه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة. وفي رواية غيره: فرفعه المقداد وأعطاه علياً». ورواه السرخسي في المبسوط: 1/73.

وفي تحفة الفقهاء للسمرقندي: 1/90، أنه كسر زنداه يومئذ! ولم يذكر متى، ولعله في الجولة الأولى بعد قتله أصحاب الألوية، وقد واصل جهاده وكأنه لم يصبه شئ فقد مسح النبي (صلی الله علیه و آله) جراحه!

ص: 111

وفي المناقب: 1/341: «المعروفون بالجهاد: علي، وحمزة، وجعفر، وعبيدة بن الحارث، والزبير، وطلحة، وأبو دجانة، وسعد بن أبي وقاص، والبراء بن عازب وسعد بن معاذ، ومحمد بن مسلمة. وقد أجمعت الأمة على أن هؤلاء لا يقاسون بعلي (علیه السلام) في شوكته وكثرة جهاده. فأما أبو بكر وعمر فقد تصفحنا كتب المغازي فما وجدنا لهما فيه أثراً البتة. وقد أجمعت الأمة على أن علياً (علیه السلام) كان المجاهد في سبيل الله والكاشف الكروب عن وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، المقدم في ساير الغزوات إذا لم يحضر النبي (صلی الله علیه و آله) وإذا حضر فهو تاليه وصاحب الراية واللواء معاً، وما كان قط تحت لواء أحد، ولا فر من زحف! وإنهما فرَّا في غير موضع، وكانا تحت لواء جماعة».

فأعطى النبي (صلی الله علیه و آله) ذا الفقار يومها إلى علي (علیه السلام) وكان نزل في بدر فأعطاه علياً (علیه السلام) في بدر وقاتل به، أما يوم أحد فأعطاه إياه عندما تقطع سيفه فصار له، ونادى جبرئيل في أحُد بندائه يوم بدر.

أقول: مع كل هذا ترى رواة السلطة ينتقصون علياً (علیه السلام) ويذمونه، فقد قالوا إنه أعطى سيفه لفاطمة (علیها السلام) لتغسله وافتخر فقال: «خذيه فلقد أحسنت به القتال»! فوبخه النبي (صلی الله علیه و آله) وقال له: «إن كنت قد أحسنت القتال اليوم، فلقد أحسن سهل بن حنيف وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة وأبو دجانة».«الحاكم 3/409 والحلبية2/547».وهذا من الحقد القرشي على علي (علیه السلام) !

15- حب علي (علیه السلام) فريضة لا رخصة فيها

في الجواهر السنية/301، عن سلمان الفارسي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «هبط جبرائيل (علیه السلام) يوم أحد وقد انهزم المسلمون ولم يبق غير علي (علیه السلام)، وقد قتل الله على يده يومئذ من المشركين من قتل فقال جبرئيل: يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك: أخبر علياً أني عنه راض، وأني آليت على نفسي أن لا يحبه عبد إلا أحببته، ومن أحببته لم أعذبه بناري، ولا يبغضه عبد إلا أبغضته، ومن أبغضته ما له في الجنة من نصيب! قال: وهبط عليَّ جبرئيل (علیه السلام) يوم الأحزاب لما قتل علي بن أبي طالب عمرواً فارسهم فقال: يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك: إني افترضت الصلاة

ص: 112

على عبادي فوضعتها عن العليل الذي لايستطيعها، وافترضت الزكاة فوضعتها عن المقل، وافترضت الصيام فوضعته عن المسافر، وافترضت الحج فوضعته عن المعدم ومن لا يجد السبيل إليه، وافترضت حب علي بن أبي طالب ومودته على أهل السماوات وأهل الأرض، فلم أعذر فيه أحداً! فمر أمتك بحبه فمن أحبه فبحبي وحبك أحبه، ومن أبغضه فببغضي وبغضك أبغضه»!

16- جاءت فاطمة الزهراء (علیها السلام) منقضة كالصقر إلى قلب المعركة!

في إعلام الورى: 1/177: «ذهبت صيحة إبليس حتى دخلت بيوت المدينة فصاحت فاطمة (علیها السلام)، ولم تبق هاشمية ولا قرشية إلا وضعت يدها على رأسها، وخرجت فاطمة (علیها السلام) تصرخ! قال الإمام الصادق (علیه السلام): فلما دنت فاطمة من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ورأته قد شج في وجهه وأدمي فوهُ إدماءً، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول: اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله! وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتناول في يده ما يسيل من الدم فيرميه في الهواء فلا يتراجع منه شئ!

قال الصادق (علیه السلام): والله لو سقط منه شئ على الأرض لنزل العذاب!

قال أبان بن عثمان: حدثني بذلك عنه الصباح بن سيابة قال قلت: كسرت رباعيته كما يقوله هؤلاء؟ قال (علیه السلام): لا والله ما قبضه الله إلا سَليماً ولكنه شُجَّ في وجهه. قلت: فالغار في أحد الذي يزعمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) صار إليه؟ قال: والله ما برح مكانه، وقيل له (صلی الله علیه و آله): ألا تدعو عليهم؟ قال: اللهم اهد قومي».

وفي المناقب: 1/166: «وصاح إبليس من جبل أحد: ألا إن محمداً قد قتل! فصاحت فاطمة (علیها السلام) ووضعت يدها على رأسها، وخرجت تصرخ»!

وفي تفسير القمي: 1/124: «خرجت فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) تعدو على قدميها حتى وافت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقعدت بين يديه، فكان إذا بكى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكت لبكائه، وإذا انتحب انتحبت»! وكان بكاؤه (صلی الله علیه و آله) حباً وشكراً لفاطمة (علیها السلام)، وبكاؤها تأثراً لوحدته وجراحه!

ص: 113

ومعنى ذلك أنها حضرت عندما جاء علي وجبرئيل (علیهما السلام) بالنبي (صلی الله علیه و آله) إلى ظل الصخرة، بعد أن جرح ووقع في حفرة، فجاء بها الله تعالى لتغسل جراحه وتكون إلى جنبه! فجاءت ركضاً تمشي في سفوح وادي قُبا الشرقية، لأن الوادي كانت بيد جيش قريش، ولو رأوها لأخذوها أسيرة، وكان ذلك نصراً عظيماً لهم!

ويظهر أنها جاءت وحدها، فلم تذكر المصادر أحداً معها!

كما أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما أرسل علياً (علیه السلام) خلف جيش قريش، بقيت فاطمة معه وحدهما، وهذا خطر آخر تعرض له النبي (صلی الله علیه و آله) والزهراء (علیها السلام) !

وقد طمس رواة السلطة دورها (علیها السلام) في أحُد، ولم يشيدوا بمجيئها إلى المعركة والناس فارُّون! وغاية مارووه أنها وعلياً (علیهما السلام) غسلا جرح النبي (صلی الله علیه و آله) !

قال بخاري في صحيحه: 3/227: «لما كسرت بيضة النبي (صلی الله علیه و آله) على رأسه وأدميَ وجهه وكسرت رباعيته، كان عليٌّ يختلف بالماء في المجن وكانت فاطمة (علیها السلام) تغسله، فلما رأت الدم يزيد على الماء كثرة عمدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرحه يعني رمادها، فرقأ الدم».

17- الصحابة الهاربون على جبل أحد

في سيرة ابن إسحاق: 3/309، وغيره، أن أنس بن النضر: «انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيدالله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم «انهاروا» فقال: ما يجلسكم؟! قالوا: قتل رسول الله! قال: فما تظنون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله! ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل (رحمة الله)».

وفي الطبري: 2/201: «فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولاً إلى عبدالله بن أبيّ فيأخذ لنا أَمَنَةً من أبي سفیان! يا قوم إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم! قال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد! اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء! ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل».

ص: 114

وهذا يدل على أن همهم كان تدبير سلامتهم، وأخذ الأمان من أبي سفیان، ويدل قولهم فارجعوا إلى قومكم أو إلى دين قومكم، على أنهم قرشيون!

18- نادى النبي (صلی الله علیه و آله) الفارين بأسمائهم

في شرح النهج: 15/24، عن محمد بن مسلمة قال: «سمعت أذناي وأبصرت عيناي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول يوم أحد وقد انكشف الناس إلى الجبل وهو يدعوهم وهم لايلوون عليه، سمعته يقول: إليَّ يا فلان، إليَّ يا فلان، أنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فما عرج عليه واحد منهما ومضيا، فأشار ابن معد إليَّ أي إسمع، فقلت: وما في هذا؟ قال: هذه كناية عنهما. فقلت: ويجوز أن لايكون عنهما لعله عن غيرهما.

قال: ليس في الصحابة من يحتشم من ذكره بالفرار وما شابهه من العيب فيضطر القائل إلى الكناية إلا هما. قلت له: هذا ممنوع. فقال:«دعنا من جدلك ومنعك، ثم حلف أنه ما عنى الواقدي غيرهما، وأنه لو كان غيرهما لذكرهما صريحاً».

وروى الطبري في تفسيره: 4/193: «خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران قال: لما كان يوم أحد ففررت حتى صعدت الجبل، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروى، والناس يقولون: قتل محمد»! والأروى: العنزة الجبلية التي تجيد تسلق الصخور!

ونص الرواة على أن طلحة كان مع الفارين في الجبل عند الصخرة. وذكر ابن مسعود أنه كان من أول الراجعين، لكن بعد انتهاء المعركة!

وقد كثرت مكذوبات رواة السلطة في ادعاء حضور فلان وفلان بعد فرارهم، وكذا الحوار الذي اخترعوه بين أبي سفیان وعمر وأبي بكر!مع أنهم كانوا على الصخرة فوق جبل أحُد يريدون إرسال أحد إلى أبي سفیان ليأخذوا منه الأمان، فلو كان يسمع صوتهم لما احتاجوا إلى إرسال أحد اليه!راجع الصحيح من السيرة: 6/203.

19- ولحقهم علي (علیه السلام) في أول فرارهم ووبخهم!

في تفسير القمي: 1/114: «وروي عن أبي واثلة شقيق بن سلمة قال: كنت أماشي فلاناً «عمر» إذ سمعت منه همهمة فقلت له مه، ماذا يا فلان؟ قال ويحك

ص: 115

أما ترى الهزير القضم ابن القضم. فالتفتُّ فإذا هو علي بن أبي طالب، فقلت له: يا هذا هو علي بن أبي طالب! فقال: أدن مني أحدثك عن شجاعته وبطولته، بايعنا النبي يوم أحد على أن لا نفر ومن فر منا فهو ضال، ومن قتل منا فهو شهيد والنبي زعيمه، إذ حمل علينا مائة صنديد تحت كل صنديد مائة رجل أو يزيدون فأزعجونا عن طحونتنا، فرأيت علياً كالليث يتقي الدر، وإذ قد حمل كفاً من حصى فرمى به في وجوهنا ثم قال: شاهت الوجوه وقطَّت وبطَّت ولطَّت، إلى أين تفرون، إلى النار؟! فلم نرجع، ثم كر علينا الثانية وبيده صفيحة يقطر منها الموت فقال: بايعتم ثم نكثتم؟ فوالله لأنتم أولى بالقتل ممن أقتل! فنظرت إلى عينيه كأنهما سليطان يتوقدان ناراً، أو كالقدحين المملوين دماً، فما ظننت إلا ويأتي علينا كلنا، فبادرت أنا إليه من بين أصحابي فقلت: يا أبا الحسن الله الله، فإن العرب تكر وتفر وإن الكرة تنفي الفرة، فكأنه استحيا فولى بوجهه عني، فما زلت أسكن روعة فؤادي! فوالله ما خرج ذلك الرعب من قلبي حتى الساعة»!

20- بعض الصحابة الهاربين كفروا وشبعوا كفراً!

قال أحد الهاربين يوم أحد: «والذي نفسي بيده لئن كان قتل النبي لنعطينهم بأيدينا! إنهم لعشائرنا وإخواننا! وقالوا: لو أن محمداً كان نبياً لم يهزم ولكنه قد قتل! فترخصوا في الفرار حينئذ»! الدر المنثور: 2 / 80.

وقال مرضى القلوب منهم: «قال أهل المرض والارتياب والنفاق حين فرَّ الناس عن النبي: قد قتل محمد، فالحقوا بدينكم الأول»! تفسير الطبري: 4 / 151.

قال السيوطي في الدر المنثور: 2/80: «وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب محمد: ألا إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول.. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي، عن ابن عباس أن رسول الله اعتزل هو وعصابة معه يومئذ على أكمة والناس يفرون ورجل قائم على الطريق يسألهم: ما فعل رسول الله؟وجعل كلما مروا عليه يسألهم فيقولون: والله ما ندري ما فعل! فقال: والذي نفسي بيده لئن كان قتل النبي لنعطينهم بأيدينا إنهم لعشائرنا وإخواننا وقالوا: لو أن محمداً كان نبياً لم يهزم ولكنه قد قتل! فترخصوا في الفرار».

ص: 116

21- قالوا كل التقصير من النبي (صلی الله علیه و آله) !

قال عمر: «فلما كان عام أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون، وفرَّ أصحاب رسول الله عن النبي، فكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه وأنزل الله: وَلَمّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ بأخذكم الفداء»!«مجمع الزوائد: 6 /115». وصححه ابن حجر في العجاب:2/780.

وهو معنى قوله تعالى: يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئٍْ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لايُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا..

22- شهادة حمزة عم النبي (صلی الله علیه و آله)

في تفسير القمي: 1/117: «وكانت هند بنت عتبة في وسط العسكر، فكلما انهزم رجل من قريش رفعت إليه ميلاً ومكحلة وقالت: إنما أنت امرأة فاكتحل بهذا، وكان حمزة بن عبدالمطلب يحمل على القوم، فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له واحد. وكانت هند بنت عتبة قد أعطت وحشياً عهداً لئن قتلت محمداً أو علياً أو حمزة لأعطيتك رضاك. وكان وحشي عبداً لجبير بن مطعم، حبشياً، فقال وحشي: أما محمد فلا أقدر عليه وأما علي فرأيته رجلاً حذراً كثير الإلتفات فلم أطمع فيه.

قال: فكمنت لحمزة فرأيته يهدُّ الناس هدّاً فمر بي فوطأ على جرف نهر فسقط، فأخذت حربتي فهززتها ورميته فوقعت في خاصرته وخرجت من مثانته مغمسة بالدم، فسقط، فأتيته فشققت بطنه وأخذت كبده وأتيت بها إلى هند فقلت لها: هذه كبد حمزة! فأخذتها في فيها فلاكتها فجعلها الله في فيها مثل الداغصة فلفظتها ورمت بها! فبعث الله ملكاً فحملها وردها إلى موضعها!

فقال أبو عبدالله (علیه السلام): يأبى الله أن يدخل شيئاً من بدن حمزة النار، فجاءت إليه هند فقطعت مذاكيره، وقطعت أذنيه، وجعلتهما خرصين وشدتهما في عنقها، وقطعت يديه ورجليه»! ونحوه الإرشاد:1/83.

ص: 117

وفي المناقب: 1/166: «قال الصادق (علیه السلام): فزرقه وحشي فوق الثدي فسقط، وشدوا عليه فقتلوه، فأخذ وحشي الكبد فشد بها إلى هند، فأخذتها فطرحتها في فيها فصارت مثل الداغصة فلفظتها! ورأى الحليس بن علقمة أباسفيان وهو يشد الرمح في شدق حمزة فقال: أنظروا إلى من يزعم أنه سيد قريش ما يصنع بعمه الذي صار لحماً؟! وأبوسفيان يقول: ذق يا عقق. وأتت هند وجدعت أنفه وأذنه، وجعلت في مخنقتها بالذريرة مدة».

وفي رسائل المرتضى: 4/125، أن هنداً نذرت يوم بدر أن تأكل كبد حمزة (علیه السلام).

وفي شرح الأخبار: 1/268: «قال وحشي: رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس بسفيه هداً ما يقوم له أحد، فاستترت بشجرة أو قال بحجر منه ليدنو إلي فأرميه بالحربة من حيث لا يراني، إذ لم أكن أقدر على مواجهته، فإني على ذلك إذ بسباع بن عبدالعزى قد سبقني إليه يريد نزاله.. ثم حمل عليه حمزة حملة أسد فضربه بالسيف، فكأنما أخطى رأسه ووقف عليه وقد خر ميتاً وهو لا يراني، وأرسلت الحربة إليه، فأصبته في مقتل فسقط ميتاً! يخبر وحشي بذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد جاء مسلماً وسأله عن ذلك، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا وحشي غيب عني وجهك، فلا أراك»!

وفي تفسير القمي: 1/123: «فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى وقف عليه فلما رأى ما فعل به بكى ثم قال: والله ما وقفت موقفاً قط أغْيَظَ عليَّ من هذا المكان! لئن أمكنني الله من قريش لأمثلن بسبعين رجلاً منهم! فنزل عليه جبرئيل فقال: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): بل أصبر.. فألقى رسول الله (صلی الله علیه و آله) على حمزة بُردة كانت عليه فكانت إذا مدها على رأسه بدت رجلاه وإذا مدها على رجليه بدا رأسه، فمدها على رأسه وألقى على رجليه الحشيش وقال: لولا أني أحذر نساء بني عبدالمطلب لتركته للعادية والسباع حتى يحشر يوم القيامة من بطون السباع والطير! وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالقتلى فجمعوا فصلى عليهم ودفنهم في مضاجعهم، وكبر على حمزة سبعين تكبيرة».

وفي تاريخ اليعقوبي: 2/49: «فجزع عليه رسول الله جزعاً شديداً وقال: لن أصاب بمثلك وكبَّر عليه خمساً وسبعين تكبيرة».

ص: 118

وقال ابن هشام: 3/607: «أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بحمزة فسجّي ببردة، ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى فيوضعون إلى حمزة فصلى عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة. قال ابن إسحاق: وقد أقبلت فيما بلغني صفية بنت عبدالمطلب لتنظر إليه وكان أخاها لأبيها وأمها فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لابنها الزبير بن العوام: إلقها فأرجعها لا ترى ما بأخيها فقال لها: يا أمه، إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟وقد بلغني أن قد مُثِّل بأخي وذلك في الله فما أرضانا بما كان من ذلك! لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله.

فلما جاء الزبير إلى رسول الله فأخبره بذلك، قال: خل سبيلها، فأتته فنظرت إليه فصلت عليه واسترجعت واستغفرت له، ثم أمر به رسول الله (صلی الله علیه و آله) فدفن».

«عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد قتل من الأنصار أربعة وستون رجلاً ومن المهاجرين ستة». «مسند أحمد: 5/135». وروي أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «أشهد أنكم أحياء عند الله، فزوروهم وسلموا عليهم فوالذي نفس محمد بيده لايسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة».مجمع الزوائد: 3/60.

وفي كشف الغمة: 1/189، أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) سئل على منبر الكوفة عن قوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ.. فقال: اللهم غفراً، هذه الآية نزلت فيَّ وفي عمى حمزة وفي ابن عمي عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب، فأما عبيدة فقضى نحبه شهيداً يوم بدر، وأما عمي حمزة فإنه قضى نحبه شهيداً يوم أحد، وأما أنا فأنتظر أشقاها يخضب هذه من هذه، وأومى بيده إلى لحيته ورأسه، عهدٌ عهده إليّ حبيبي أبو القاسم (صلی الله علیه و آله)»!

وفي شرح الأخبار: 1/282: «ثم انصرف (صلی الله علیه و آله) راجعاً إلى المدينة وانصرف الناس معه، فلما دخل المدينة مر على دور الأنصار وهم يبكون قتلاهم، فذرفت عيناه (صلی الله علیه و آله) فبكى ثم قال: لكن حمزة لا بواكي له! فأمر الأنصار نساءهم أن يبكين عليه ففعلن، فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهن يبكين حمزة على باب المسجد فقال: إرجعن رحمكن الله، فقد آسيتن بأنفسكن، ونهاهن عن النوح وقال: كل نادبة

ص: 119

كاذبة إلا نادبة حمزة». وقد روته مصادرهم، كمسند أحمد: 1/463 وفتح الباري: 7/272.

وفي الطرائف/503: «قيل لعبدالله بن يحيى: هل تصلي مع معاوية؟ قال: لا والله لا أجد فرقاً بين الصلاة خلفه وبين الصلاة خلف امرأة يهودية حائض، ولذا لو صليت خلفه تقية أعدتها! وسئل شريك عن فضائل معاوية فقال: إن أباه قاتلَ النبي (صلی الله علیه و آله)، وهو قاتلَ وصي النبي (صلی الله علیه و آله)، وأمه أكلت كبد حمزة عم النبي (صلی الله علیه و آله)، وابنه قتل سبط النبي (صلی الله علیه و آله). وهو ابن زنا! فهل تريد له منقبة بعد ذلك»!

23- شهادة الحاخام مخيريق أفضل بني إسرائيل

في المناقب: 1/146: «أسلم وقاتل مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأوصى بماله لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو سبع حوائط وهي: المينب، والصايفه، والحسنى، ويرقد، والعواف، والكلاء، ومشربة أم إبراهيم». وقد ذكرناه في اليهود بعد بدر.

وفي سيرة ابن هشام: 2/362: «وكان من حديث مخيريق وكان حبراً عالماً، وكان رجلاً غنياً كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) بصفته وما يجد في علمه، وغلب عليه إلف دينه فلم يزل على ذلك، حتى إذا كان يوم أحُد وكان يوم أحُد يوم السبت قال: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون إن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأحد، وعهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد يصنع فيها ما أراه الله، فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل، فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيما بلغني يقول: مخيريق خير يهود. وقبض رسول الله أمواله فعامة صدقات رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالمدينة منها».

24- جهاد أبي دجانة الأنصاري (رحمة الله)

في شرح الأخبار: 1/273: «أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) سيفاً بيده فهزه وقال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقال الزبير بن العوام: أنا يا رسول الله، فأعرض عنه رسول الله وقال: من يأخذ بحقه؟ فقام إليه أبو دجانة الأنصاري وكان من أبطال الأنصار فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: ألا يقف به في الكبول يعني أواخر الصفوف وأن يضرب به

ص: 120

في العدو حتى ينحني. فقال: أنا آخذه يا رسول الله فدفعه إليه، فأخذه أبو دجانة وهو مالك بن حرشة أخو بني سعدة من الأنصار، ثم أخرج عصابة معه حمراء فتعصب بها فقالت الأنصار: تعصب أبو دجانة عصابته قد نزل الموت، وكان ذلك من فعله. ثم خرج يتبختر بين الصفين ويقول:

إني امرؤٌ عاهدني خليلي *** ونحن بالسفح لذي النخيل

ألا أقوم الدهر في الكبول *** أضرب بسيف الله والرسول

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنها مشية يبغضها الله عزوجل إلا في مثل هذا المقام. قال الزبير: فقلت: منعني رسول الله السيف وأعطاه أبا دجانة، والله لأتبعنه حتى لأنظر ما يصنع، فاتبعته حتى هجم في المشركين فجعل لا يلقى منهم أحداً إلا قتله، فقلت: الله ورسوله أعلم! قال: وكان في المشركين رجل قد أبلى ولم يدع منا جريحاً إلا دق عليه أي قتله فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما، فالتقيا واختلفا بضربتين فضرب المشرك أبا دجانة ضربة بسيفه فاتقاها أبو دجانة بدرقته فعضب السيف، وضربه أبو دجانة فرمى برأسه!

ثم رأيته حمل السيف على مفرق رأس هند ابنة عتبة ثم عدله عنها! فقيل: لأبي دجانة في ذلك! فقال: رأيت إنساناً يخمِّش الناس خمشاً شديداً يعني يحركهم القتال فصدرت إليه يعني قصدته فلما حملت السيف على رأسه لأضربه وَلْوَلَ، فإذا به امرأة فأكرمت سيف رسول الله من أن أضرب به امرأة»! ومسلم: 7/151.

وفي علل الشرائع: 1/7، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما كان يوم أحد انهزم أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى لم يبق معه إلا علي بن أبي طالب (علیه السلام) وأبو دجانة سماك بن خرشة، فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): يا أبا دجانة أما ترى قومك؟ قال: بلى. قال: إلحق بقومك قال: ما على هذا بايعت الله ورسوله! قال: أنت في حل. قال: والله لا تتحدث قريش بأني خذلتك وفررت حتى أذوق ما تذوق! فجزَّاه النبي خيراً، وكان علي كلما حملت طائفة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) استقبلهم وردهم حتى أكثر فيهم القتل والجراحات حتى انكسر سيفه، فجاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا

ص: 121

رسول الله إن الرجل يقاتل بسلاحه وقد انكسر سيفي، فأعطاه (علیه السلام) سيفه ذا الفقار، فما زال يدفع به عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى أثَّر وانكسر، فنزل عليه جبرئيل وقال: يا محمد، إن هذه لهي المواساة من عليٍّ لك، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إنه مني وأنا منه، فقال جبرئيل: وأنا منكما».

قال: مصنف هذا الكتاب (رحمة الله): قول جبرئيل (علیه السلام): وأنا منكما تمنٍّ منه لأن يكون منهما، فلو كان أفضل منهما لم يقل ذلك ولم يتمن أن ينحط عن درجته إلى أن يكون ممن دونه، وإنما قال: وأنا منكما، ليصير ممن هو أفضل منه فيزداد محلاً إلى محله وفضلاً إلى فضله».

ورواه فرات في تفسيره/93، عن حذيفة وفيه: «فلما سمع رسول الله كلامه ورغبته في الجهاد إنتهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى صخرة فاستتر بها ليتقي بها من السهام سهام المشركين، فلم يلبث أبو دجانة إلا يسيراً حتى أثخن جراحة فتحامل حتى انتهى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فجلس إلى جنبه مثخناً لاحراك به».

وفي الإرشاد: 2/386، عن المفضل عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «يُخرج القائم (علیه السلام) من ظهر الكوفة سبعة وعشرين رجلاً، خمسة عشر من قوم موسى (علیه السلام) الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون، وسبعة من أهل الكهف، ويوشع بن نون، وسلمان، وأبا دجانة الأنصاري، والمقداد، ومالكاً الأشتر، فيكونون بين يديه أنصاراً وحكاماً». ومعجم أحاديث الإمام المهدي (علیه السلام): 5/122.

25- جهاد نسيبة أم عمارة بنت کعب المازنية

في تفسير القمي: 1/115: «وبقيت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) نسيبة بنت كعب المازنية، وكانت تخرج مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غزواته تداوي الجرحى، وكان ابنها معها فأراد أن ينهزم ويتراجع فحملت عليه فقالت: يا بني إلى أين تفر عن الله وعن رسوله؟! فردته فحمل عليه رجل فقتله،فأخذت سيف ابنها فحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): بارك الله عليك يا نسيبة. وكانت تقي رسول الله (صلی الله علیه و آله) بصدرها ويديها حتى أصابتها جراحات كثيرة!

ص: 122

وحمل ابن قميئة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: أروني محمداً لا نجوت إن نجا، فضربه على حبل عاتقه، ونادى قتلت محمداً واللات والعزى.

ونظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى رجل من المهاجرين قد ألقى ترسه خلف ظهره وهو في الهزيمة فناداه: يا صاحب الترس ألق ترسك ومُرَّ إلى النار! فرمى بترسه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا نسيبة خذي الترس فأخذت الترس وكانت تقاتل المشركين، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لمقام نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان».

وقال ابن هشام: 3/599: «وقاتلت أم عمارة، نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد. فذكر سعيد بن أبي زيد الأنصاري: أن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول: دخلت على أم عمارة، فقلت لها: يا خالة أخبريني خبرك، فقالت: خرجت أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إليَّ، قالت: فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور، فقلت: من أصابك بهذا؟ قالت: ابن قمئة أقمأه الله! لما ولى الناس عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أقبل يقول: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله فضربني هذه الضربة فلقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كان عليه درعان».

وفي قاموس الرجال: 12/347: «شهدت نسيبة العقبة مع زوجها، وشهدت أحداً وشهدت اليمامة. قاتلت حين كر المشركون فضربها ابن قميئة ضربة بالسيف على عاتقها، وقاتلت نسيبة يوم اليمامة فقطعت يدها وهي تريد مسيلمة لتقتله».

ص: 123

26- دخل الجنة ولم يصلِّ ركعة

كان عمرو بن قيس قد تأخر إسلامه، فلما بلغه أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الحرب أخذ سيفه وترسه وأقبل كالليث العادي يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم خالط القوم فاستشهد، فمر به رجل من الأنصار فرآه صريعاً بين القتلى فقال: «يا عمرو أنت على دينك الأول؟ فقال معاذ الله، والله إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم مات! فقال رجل من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا رسول الله إن عمرو بن قيس قد أسلم فهو شهيد؟ فقال: إي والله إنه شهيد، ما رجل لم يصل لله ركعة دخل الجنة غيره».

27- شهادة حنظلة غسيل الملائكة (رحمة الله)

في شرح الأخبار: 1/269: «وبارز يومئذ أبوسفيان حنظلة بن أبي عامر الغسيل من الأنصار، فصرع حنظلة أبا سفيان وعلاه ليقتله، فرآه شداد بن الأسود فجاءه من خلفه فضربه فقتله، وقام أبوسفيان من تحته، وقال: حنظلة بحنظلة! يعني ابنه حنظلة المقتول ببدر، الذي ذكر أن علياً (علیه السلام) قتله يومئذ.

ولما انهزم المشركون عن أحد وقف رسول الله (صلی الله علیه و آله) على قتلى المسلمين، وأمر بدفنهم في مصارعهم، ورد من حمل منهم فدفن هناك، وأمر بدفنهم في ثيابهم وبدمائهم من غير أن يغسلوا كما يفعل بالشهداء، فرأى الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر الأنصاري. فلما قدم المدينة قال: سلوا عنه امرأته. فقالت: فلما سمع بخروج رسول الله (صلی الله علیه و آله) خرج مبادراً وهو جنب من قبل أن يغتسل. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): فلذلك ما رأيت من غسل الملائكة إياه». ونحوه ابن هشام: 3/592.

وفي تفسير القمي: 1/112: «وكان حنظلة بن أبي عامر رجل من الخزرج، قد تزوج في تلك الليلة التي كان في صبيحتها حرب أحد، بنت عبدالله بن أبي سلول ودخل بها في تلك الليلة..فأصبح وخرج وهو جنب، فحضر القتال فبعثت امرأته إلى أربعة نفر من الأنصار لما أراد حنظلة أن يخرج من عندها وأشهدت عليه أنه قد واقعها، فقيل

ص: 124

لها: لم فعلت ذلك؟ قالت رأيت في هذه الليلة في نومي كأن السماء قد انفرجت فوقع فيها حنظلة ثم انضمت، فعلمت أنها الشهادة، فكرهت أن لا أشهد عليه فحملت منه. فلما حضر القتال نظر حنظلة إلى أبي سفیان على فرس يجول بين العسكرين فحمل عليه فضرب عرقوب فرسه فاكتسعت الفرص وسقط أبوسفيان إلى الأرض وصاح: يا معشر قريش أنا أبوسفيان، وهذا حنظلة يريد قتلي، وعدا أبوسفيان ومر حنظلة في طلبه، فعرض له رجل من المشركين فطعنه، فمشى المشرك في طعنته فضربه فقتله، وسقط حنظلة إلى الأرض بين حمزة وعمرو بن الجموح وعبدالله بن حزام وجماعة من الأنصار، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): رأيت الملائكة يغسلون حنظلة بين السماء والأرض بماء المزن في صحائف من ذهب، فكان يسمى غسيل الملائكة».

28- جهاد رُشَيْد الهَجَري في أحُد

واسمه عبدالرحمن بن عقبة، قال:«شهدت مع نبي الله يوم أحد فضربت رجلاً من المشركين فقلت: خذها مني وأنا الغلام الفارسي، فبلغت النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: هلا قلت: خذها مني وأنا الغلام الأنصاري».أحمد: 5/295، راجع: جواهر التاريخ:2/406.

29- أبو عزة الذي أراد اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله)

في الخرائج: 1/149: «كان أبو عزة الشاعر، حضر مع قريش يوم بدر يحرض قريشاً بشعره على القتال، فأسر في السبعين الذين أسروا. فلما وقع الفداء على القوم قال أبو عزة: يا أبا القاسم تعلم أني رجل فقير فامنن على بناتي، فقال (صلی الله علیه و آله): إن أطلقتك بغير فداء أتكثر علينا بعدها؟ قال: لا والله. فعاهده أن لا يعود، فلما كانت حرب أحد دعته قريش إلى الخروج معها ليحرض الناس بشعره على القتال، فقال: إني عاهدت محمداً ألا أكثر عليه بعدما من علي. قالوا: ليس هذا من ذاك، إن محمداً لا يسلم منا في هذه الدفعة، فقلبوه عن رأيه فلم يؤسر يوم أحد من قريش غيره، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ألم تعاهدني؟ قال: إنما غلبوني

ص: 125

على رأيي فامنن على بناتي. قال: لا، تمشي بمكة وتحرك كتفيك فتقول: سخرت من محمد مرتين! المؤمن لايلسع من جحر مرتين! يا علي إضرب عنقه». والخلاف: 4/193 وابن إسحاق: 3/302.

30- النبي (صلی الله علیه و آله) يُشفي عين قتادة من أجل عروسه

في كشف الغمة: 1/187: «أصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، قال: فجئت إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقلت: يا رسول الله إن تحتي امرأة شابة جميلة أحبها وتحبني، وأنا أخشى أن تقذر مكان عيني! فأخذها رسول الله (صلی الله علیه و آله) فردها فأبصرت وعادت كما كانت لم تؤلمه ساعة من ليل أو نهار، فكان يقول: بعد أن أسن هي أقوى عينيَّ، وكانت أحسنهما».ونحوه الإحتجاج: 1/332 والثاقب في المناقب/64.

31- عندما اضطرب المسلمون قتلوا والد حذيفة خطأ!

«اختلفت سيوف المسلمين على اليمان أبي حذيفة يوم أحد ولا يعرفونه، فقتلوه، فأراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يَدِيَه فتصدق حذيفة بديته على المسلمين».أحمد: 5/429.

32- لعن النبي (صلی الله علیه و آله) أبا سفيان يوم أحُد

روى في الخصال/397، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، قال: «إن رسول لله (صلی الله علیه و آله) لعن أبا سفيان في سبعة مواطن في كلهن لا يستطيع إلا أن يلعنه، أولهن: يوم لعنه الله ورسوله وهو خارج من مكة إلى المدينة مهاجراً وأبوسفيان جائي من الشام، فوقع فيه أبوسفيان يسبه ويوعده وهمَّ أن يبطش به فصرفه الله عن رسوله.

والثانية: يوم العير إذا طردها ليحرزها عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلعنه الله و رسوله.

والثالثة: يوم أحد قال أبوسفيان: أُعل هبل، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الله أعلى وأجل فقال أبوسفيان: لنا عزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الله مولانا ولا مولى لكم.

والرابعة: يوم الخندق يوم جاء أبوسفيان في جميع قريش فرد هم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً، وأنزل الله عزوجل في القرآن آيتين في سورة الأحزاب فسمى أبا سفيان وأصحابه كفاراً، ومعاوية مشرك عدو لله ولرسوله.

ص: 126

والخامسة: يوم الحديبية والهدي معكوفاً أن يبلغ محله، وصد مشركوا قريش رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن المسجد الحرام وصدوا بُدْنَهُ أن تبلغ المنحر، فرجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يطف بالكعبة ولم يقض نسكه، فلعنه الله ورسوله.

والسادسة: يوم الأحزاب يوم جاء أبوسفيان بجمع قريش وعامر بن الطفيل بجمع هوازن وعيينة بن حصن بغطفان، وواعد لهم قريظة والنضير أن يأتوهم فلعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) القادة والأتباع وقال: أما الأتباع فلا تصيب اللعنة مؤمناً، وأما القادة فليس فيهم مؤمن ولا نجيب ولا ناج.

والسابعة: «يوم حملوا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) في العقبة وهم اثنا عشر رجلاً من بني أمية وخمسة من سائر الناس فلعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) من على العقبة غير النبي (صلی الله علیه و آله) وناقته وسائقه وقائده. قال مصنف هذا الكتاب رضی الله عنه: جاء هذا الخبر هكذا. والصحيح أن أصحاب العقبة كانوا أربعة عشر». والإحتجاج: 1/408 وشرح الأخبار: 2/165.

33- لماذا قرر المشركون أن يبقوا عمر بن الخطاب ولا يقتلوه؟

قال ابن هشام: 2/282: «وكان ضرار لحق عمر بن الخطاب يوم أحد، فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول: أنج يا ابن الخطاب. لا أقتلك! فكان عمر يعرفها له بعد إسلامه»! وقد عقد في الصحيح من السيرة: 6/235 فصلاً، لمعرفة سبب قول ضرار بن الخطاب لعمر بن الخطاب: «والله ما كنت لأقتلك»! وكان ضرار بن الخطاب مقرباً من أبي سفیان، وهو من فرسان قريش وشعرائها، وشعره في هجاء النبي (صلی الله علیه و آله) مشهور!

وكذا جرى لعمر في غزوة الخندق وتعمد المشركين تركه وعدم المساس به!

34- فداءً لك يا رسول الله!

«عن أنس قال: «لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة فقالوا: قتل محمد! حتى كثرت الصوارخ في نواحي المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار متحزنة فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها، لا أدري أيهم استقبلت أولاً، فلما

ص: 127

مرت على آخرهم قالت: من هذا؟ قالوا: أخوك وأبوك وزوجك وابنك! قالت: ما فعل النبي؟ قالوا: أمامك، فمشت حتى جاءت إليه فأخذت بناحية ثوبه وجعلت تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لاأبالي إذا سلمت من عطب»مسكن الفؤاد/72.

35- بركة النبي (صلی الله علیه و آله) على تمر جابر الأنصاري

في الخرائج: 1/154، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: «استشهد والدي بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم أحد وهو ابن مائتي سنة، وكان عليه دين، فلقيني رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوماً فقال: ما فعل دين أبيك؟ قلت: على حاله. فقال: لمن هو؟ قلت: لفلان اليهودي. قال: متى حينه؟ قلت: وقت جفاف التمر. قال: إذا جففت التمر فلا تحدث فيه حتى تعلمني واجعل كل صنف من التمر على حدة. ففعلت ذلك وأخبرته (صلی الله علیه و آله)، فصار معي إلى التمر وأخذ من كل صنف قبضة بيده وردها فيه، ثم قال: هات اليهودي. فدعوته فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): إختر من هذا التمر أي صنف شئت فخذ دينك منه. فقال اليهودي: وأي مقدار لهذا التمر كله حتى آخذ صنفاً منه؟ ولعل كله لا يفي بديني! فقال: إختر أي صنف شئت فابتدئ به، فأومى إلى صنف الصيحاني فقال: أبتدئ به؟ فقال: إفعل باسم الله، فلم يزل يكيل منه حتى استوفى منه دينه كله، والصنف على حاله ما نقص منه شئ! ثم قال (صلی الله علیه و آله): يا جابر هل بقي لأحد عليك شئ من دينه؟ قلت: لا. قال: فاحمل تمرك بارك الله لك فيه، فحملته إلى منزلي وكفانا السنة كلها، فكنا نبيع لنفقتنا ومؤونتنا ونأكل منه، ونهب منه ونهدي، إلى وقت التمر الحديث، والتمر على حاله إلى أن جاءنا الجديد».

36- قزمان مثلٌ لسيئ التوفيق

في سيرة بن هشام: 2/368 و605: «قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: كان فينا رجل أتى لا يدرى ممن هو يقال له قزمان، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول إذا ذكر له: إنه لمن أهل النار! قال: فلما كان يوم أحد قاتل قتالاً شديداً فقتل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين وكان ذا بأس، فأثبتته الجراحة فاحتمل إلى دار بني

ص: 128

ظفر. قال: فجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر. قال: بماذا أبشر؟ فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي ولولا ذلك ما قاتلت. قال: فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهماً من كنانته فقتل به نفسه»!

37- عثمان يؤوي عمه المشرك القاتل!

كان معاوية بن المغيرة بن العاص الأموي ابن عم عثمان بن عفان، شديد العداء للنبي (صلی الله علیه و آله) حتى هدر دمه، وهو جدُّ عبدالملك بن مروان لأمه.

وكان مع أبي سفیان في جيش أحد، ولما انهزم القرشيون أمام المسلمين في الجولة الأولى هرب ابن المغيرة فدخل المدينة وآوى إلى بيت ابن عمه عثمان، فتشفع فيه عثمان وألح على النبي (صلی الله علیه و آله) فأمهله ثلاثاً على أن لايراه في المدينة ولا حولها، ولعن من أعانه وجهزه فجهزه عثمان، وتأخر في المدينة ليأخذ أخبار النبي (صلی الله علیه و آله) لقريش! فنزل جبرئيل وأخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بمكانه أيام حمراء الأسد، فأرسل علياً وعماراً فقتلاه! وحكى الإمام الصادق (علیه السلام) قصته كما في الكافي: 3/251 قال: «إن الفاسق آوى عمه المغيرة بن أبي العاص وكان ممن هدر رسول الله (صلی الله علیه و آله) دمه، فقال لابنة رسول الله: لا تخبري أباك بمكانه كأنه لا يوقن أن الوحي يأتي محمداً! فقالت: ما كنت لأكتم رسول الله عدوه! فجعله بين مشجب له ولحفه بقطيفة، فأتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الوحي فأخبره بمكانه فبعث إليه علياً (علیه السلام) وقال: إشتمل على سيفك وائت بيت ابنة ابن عمك، فإن ظفرت بمعاوية بن المغيرة فاقتله!

فأتى البيت فجال فيه فلم يظفر به فرجع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره فقال: يا رسول الله لم أره، فقال: إن الوحي قد أتاني فأخبرني أنه في المشجب! ودخل عثمان بعد خروج علي فأخذ بيد عمه فأتى به النبي (صلی الله علیه و آله) فلما رآه أكب عليه ولم يلتفت إليه! وكان نبي الله (صلی الله علیه و آله) حيياً كريماً فقال: يا رسول الله هذا عمي، هذا المغيرة بن أبي العاص وقد والذي بعثك بالحق آمنته. قال أبو عبدالله (علیه السلام): وكذب، والذي بعثه بالحق ما آمنه! فأعادها ثلاثاً أني آمنته، وأعادها أبو عبدالله (علیه السلام) ثلاثاً، إلا أنه يأتيه

ص: 129

عن يمينه ثم يأتيه عن يساره، فلما كان في الرابعة رفع رأسه إليه فقال له: قد جعلته لك ثلاثاً فإن قدرتُ عليه بعد ثالثة قتلته، فلما أدبر قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): اللهم العن المغيرة بن أبي العاص، والعن من يؤويه، والعن من يحمله، والعن من يطعمه، والعن من يسقيه، والعن من يجهزه، والعن من يعطيه سقاء أو حذاء أو رشاء أو وعاء، وهو يعدهن بيمينه!

وانطلق به عثمان فآواه وأطعمه وسقاه وحمله وجهزه، حتى فعل جميع ما لعن عليه النبي (صلی الله علیه و آله) من يفعله به! ثم أخرجه في اليوم الرابع يسوقه فلم يخرج من أبيات المدينة حتى أعطب الله راحلته ونقب حذاه وورمت قدماه، فاستعان بيديه وركبتيه وأثقله جهازه حتى وجس به، فأتى شجرة فاستظل بها، لو أتاها بعضكم ما أبهره ذلك! فأتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الوحي فأخبره بذلك فدعا علياً (علیه السلام) فقال: خذ سيفك وانطلق أنت وعمار وثالث لهم فأت المغيرة بن أبي العاص تحت شجرة كذا وكذا، فأتاه علي فقتله.

فضرب عثمان بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: أنت أخبرت أباك بمكانه! فبعثت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) تشكو ما لقيت، فأرسل إليها رسول الله (صلی الله علیه و آله) إقني حياءك، ما أقبح بالمرأة ذات حسب ودين في كل يوم تشكو زوجها! فأرسلت إليه مرات كل ذلك يقول لها ذلك، فلما كان في الرابعة دعا علياً (علیه السلام) وقال: خذ سيفك واشتمل عليه ثم ائت بيت ابنة ابن عمك فخذ بيدها، فإن حال بينك وبينها أحد فاحطمه بالسيف، وأقبل بها إلى رسول الله! فلما نظرت إليه رفعت صوتها بالبكاء واستعبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبكى، ثم أدخلها منزله وكشفت عن ظهرها، فلما أن رأى ما بظهرها قال: ثلاث مرات: ماله قتلك قتله الله! وكان ذلك يوم الأحد، وبات عثمان ملتحفاً بجاريتها فمكث الإثنين والثلاثاء وماتت في اليوم الرابع، فلما حضر أن يخرج بها أمر رسول الله (علیه السلام) فاطمة (علیها السلام) فخرجت ونساء المؤمنين معها، وخرج عثمان يشيع جنازتها، فلما نظر إليه النبي (صلی الله علیه و آله) قال: من أطاف البارحة بأهله أو بفتاته فلا يتبعن جنازتها! قال ذلك ثلاثاً، فلم ينصرف فلما كان في الرابعة قال: لينصرفن أولأسمين باسمه، فأقبل عثمان متوكئاً على مولى له ممسك ببطنه فقال: يا رسول الله إني أشتكى بطني،

فإن رأيت أن تأذن لي أنصرف، قال: إنصرف. وخرجت فاطمة (علیها السلام) ونساء المؤمنين

ص: 130

والمهاجرين فصلين على الجنازة». راجع الصحيح من السيرة: 6/206، الخرائج: 1/94، الدرر/158 وابن هشام: 3/617.

38- أسماء شهداء أحُد وقتلى المشركين فيها

في سيرة ابن هشام: 3/635:» قال ابن إسحاق: واستشهد من المسلمين يوم أحد مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من المهاجرين من قريش، ثم من بني هاشم بن عبدمناف: حمزة بن عبدالمطلب بن هشام رضی الله عنه، قتله وحشي، غلام جبير بن مطعم. ومن بني أمية بن عبد شمس: عبدالله بن جحش، حليف لهم، من بني أسد بن خزيمة. ومن بني عبدالدار بن قصي: مصعب بن عمير قتله ابن قمئة الليثي. ومن بني مخزوم بن يقظة: شماس بن عثمان. أربعة نفر. ومن الأنصار، ثم من بني عبدالأشهل: عمرو بن معاذ بن النعمان، والحارث بن أنس بن رافع، وعمارة بن زياد بن السكن. قال ابن هشام: السكن: ابن رافع بن امرئ القيس، ويقال: السكن. قال ابن إسحاق: وسلمة بن ثابت بن وقش، وعمرو بن ثابت بن وقش. رجلان.

قال ابن إسحاق: وقد زعم لي عاصم بن عمر بن قتادة: أن أباهما ثابتاً قتل يومئذ. ورفاعة بن وقش، وحسيل بن جابر، أبو حذيفة وهو اليمان، أصابه المسلمون في المعركة ولا يدرون، فتصدق حذيفة بديته على من أصابه.

وصيفي بن قيظي، وحباب بن قيظي، وعباد بن سهل، والحارث بن أوس بن معاذ. اثنا عشر رجلاً. ومن أهل راتج: إياس بن أوس بن عتيك بن عمرو بن عبدالأعلم بن زعوراء بن جشم بن عبدالأشهل، وعبيد بن التيهان.

قال ابن هشام: ويقال: عتيك بن التيهان وحبيب بن يزيد بن تيم. ثلاثة نفر. ومن بني ظفر: يزيد بن حاطب بن أمية بن رافع. رجل ومن بني عمرو بن عوف، ثم من بني ضبيعة بن زيد: أبوسفيان بن الحارث ابن قيس بن زيد، وحنظلة بن أبي عامر بن صيفي بن نعمان بن مالك بن أمة، وهو غسيل الملائكة، قتله

شداد بن الأسود بن شعوب الليثي. رجلان.

ص: 131

قال ابن هشام: قيس: ابن زيد بن ضبيعة، ومالك: ابن أمة بن ضبيعة.

قال ابن إسحاق: ومن بني عبيد بن زيد: أنيس بن قتادة. رجل. ومن بني ثعلبة بن عمرو بن عوف: أبو حية، وهو أخو سعد بن خثيمة لأمه. قال ابن هشام: أبو حية: ابن عمرو بن ثابت. قال ابن إسحاق: وعبدالله بن جبير النعمان وهو أمير الرماة. رجلان. ومن بني السلم بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس: خيثمة أبو سعد بن خيثمة. رجل. ومن حلفائهم من بني العجلان: عبدالله بن سلمة رجل. ومن بني معاوية بن مالك: سبيع بن حاطب بن الحارث بن قيس بن هيشة. رجل.

قال ابن هشام: ويقال. سويبق بن الحارث بن حاطب بن هيشة.

قال ابن إسحاق: ومن بني النجار، ثم من بني سواد بن مالك بن غنم: عمرو بن قيس، وابنه قيس بن عمرو. قال ابن هشام: عمرو بن قيس: ابن زيد بن سواد.

قال ابن إسحاق: وثابت بن عمرو بن زيد، وعامر بن مخلد. أربعة نفر. ومن

بني مبذول: أبو هبيرة بن الحارث بن علقمة بن عمرو بن ثقف بن مالك بن مبذول، وعمرو بن مطرف بن علقمة بن عمرو. رجلان. ومن بني عمرو بن مالك: أوس بن

ثابت بن المنذر. رجل.

قال ابن هشام: أوس بن ثابت، أخو حسان بن ثابت. قال ابن إسحاق: ومن بني عدي بن النجار: أنس بن النضر بن ضمضم ابن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار. رجل، قال ابن هشام: أنس بن النضر، عم أنس بن مالك: خادم رسول الله (صلی الله علیه و آله). ومن بني مازن بن النجار: قيس بن مخلد، وكيسان، عبد لهم. رجلان. ومن بني دينار بن النجار: سليم بن الحارث، ونعمان بن عبد عمرو. رجلان. ومن بني الحارث بن الخزرج: خارجة بن زيد بن أبي زهير، وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير، دفنا في قبر واحد، وأوس بن الأرقم بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن ثعلبة بن كعب. ثلاثة نفر. ومن بني الأبجر، وهم بنو خدرة: مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر، وهو أبو أبي سعيد الخدري. قال ابن هشام: اسم أبي سعيد الخدري: سنان، ويقال: سعد. قال ابن إسحاق: وسعيد بن سويد بن قيس بن عامر بن عباد بن

ص: 132

الأبجر، وعتبة بن ربيع بن رافع بن معاوية بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر. ثلاثة نفر. ومن بني ساعدة بن كعب بن الخزرج: ثعلبة بن سعد بن مالك بن خالد ابن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة، وثقف بن فروة بن البدي. رجلان. ومن بني طريف، رهط سعد بن عبادة: عبدالله بن عمرو بن وهب ابن ثعلبة بن وقش بن ثعلبة بن طريف، وضمرة، حليف لهم من بني جهينة. رجلان. ومن بني عوف بن الخزرج، ثم من بني سالم، ثم من بني مالك بن العجلان ابن زيد بن غنم بن سالم: نوفل بن عبدالله، وعباس بن عبادة بن نضلة بن مالك ابن العجلان، ونعمان بن مالك بن ثعلبة بن فهر بن غنم بن سالم، والمجذر بن زياد، حليف لهم من بلى، وعبادة بن الحسحاس. دفن النعمان بن مالك، والمجذر، وعبادة، في قبر واحد. خمسة نفر. ومن بني الحبلى: رفاعة بن عمرو. رجل، ومن بني سلمة، ثم من بني حرام: عبدالله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام، وعمرو بن الجموح بن زيد بن حرام، دفنا في قبر واحد، وخلاد بن عمرو بن الجموح، وأبو أيمن، مولى عمرو بن الجموح. أربعة نفر. ومن بني سواد بن غنم: سليم بن عمرو بن حديدة، ومولاه عنترة، وسهل ابن قيس بن أبي كعب بن القين. ثلاثة نفر. ومن بني زريق بن عامر: ذكوان بن عبد قيس وعبيد بن المعلى بن لوذان. رجلان. قال ابن إسحاق: فجميع من استشهد من المسلمين مع رسول الله من المهاجرين والأنصار خمسة وستون رجلاً.

قال ابن هشام: وممن لم يذكر ابن إسحاق من السبعين الشهداء الذين ذكرنا، من الأوس، ثم من بني معاوية بن مالك: بن تميلة، حليف لهم من مزينة. ومن بني خطمة - واسم خطمة: عبدالله بن جشم بن مالك بن الأوس - الحارث بن عدي بن خرشة بن أمية بن عامر بن خطمة. ومن بني الخزرج، ثم من بني سواد بن مالك: مالك بن إياس. ومن بني عمرو بن مالك بن النجار: إياس بن عدي. ومن بني سالم بن عوف: عمرو بن إياس.

ص: 133

الفصل السابع والأربعون: آيات معركة أحد كشفت أكثرية الصحابة!

ستون آية في معركة أحد

نزلت في معركة أحد أكثر من ستين آية، فيها حقائق مهمة عملَ رواة الحكومة القرشية على إخفائها أو تحريفها، لمدح بعض الصحابة أو التغطية عليهم، وسلب مناقب آخرين! ونورد فيما يلي نص الآيات، وفهرساً لأهم موضوعاتها:

قال الله تعالى في سورة آل عمران: «وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَّكْفِيَكُمْ أَن يُّمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ. بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ. لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ. وَللهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ. وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا

ص: 134

عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرض فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ.

ولاتَهِنُوا وَلاتَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِن يَّمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لايُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ.

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ.

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ.

وبعدها آية الإنقلاب والكفر الذي حصل في الصحابة لخبر قتل النبي (صلی الله علیه و آله) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ!

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الأَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ.

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ. بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَخَيْرُ النَّاصِرِينَ.

سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ. وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الأَخِرَةَ ثُمَّ

ص: 135

صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاتَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْ لا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئٍْ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لايُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِي اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لآخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرض أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِى وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللهِ تُحْشَرُونَ.

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لايُظْلَمُونَ.

أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ. لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ.

أَوَلَمّآ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ. وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَالَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ. الَّذِينَ قَالُوا لآخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.

وَلاتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ

ص: 136

وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لايُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَلايَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الأَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإيمان لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَلايَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ. مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ.

وَلايَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأرض وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.

لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقَ. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ. الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ.

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ. لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور. وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاتَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ.

لاتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ

ص: 137

وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَللهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرض وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوِاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ. رَبَّنأَ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ. رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاتُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاتُخْلِفُ الْمِيعَادَ. فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاأُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ.آل عمران: 121-195.

أهم موضوعات آيات أحد

1. ذكرت الآية الأولى ذهاب النبي (صلی الله علیه و آله) صباحاً ليختار مكاناً لمعسكر المسلمين في أحُد، ثم ذكَّرهم الله تعالى بحركة النبي (صلی الله علیه و آله) بعد صلاة الجمعة إلى أحد، وكيف تخلف عنه المنافقون وهم ثلث الجيش بقيادة رئيسهم ابن سلول، فهمت طائفتان من غيرهم أن تتخلفا، وهم بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، لكن الله عصمهم.البحار: 20/17.

2. وجاءت الآيات السبع بعدها تذكيراً ببدر: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ. إلى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ. فذكرهم بنصره إياهم وقد كانوا قلة ضعفاء، وأخبرهم أنه عزوجل هو الذي يدير الصراع مع المشركين، وفق المصلحة التي تهدف إلى نصرة نبيه وتثبيت دينه، والمغفرة لمن يشاء من عباده وتعذيب بعض من يستحق.

3. وجاءت الآيات التسع بعدها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً.. إلى قوله: وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، توجيهات إقتصادية واجتماعية وتربوية للمسلمين.

4. والآيات الثلاث بعدها: ولاتَهِنُوا وَلاتَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ.. إلى قوله: يَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، توجيه للمسلمين أن لايضعفوا لما أصابهم في معركة أحد من قتل وجراح وهزيمة، وأخبرهم بأن الله تعالى أذن بذلك ليحقق أربعة أهداف: تمييز المؤمنين، واتخاذ الشهداء منهم، وتمحيص المؤمنين، ومحق الكافرين.

ص: 138

5. ثم نبهت الآية بعدها: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ.. المسلمين أن لا يتصوروا أنهم يمكنهم أن يدخلوا الجنة بدون أن يثبتوا عملياً جهادهم وصبرهم!

6. ثم وبختهم الآية: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ.. بأنهم كانوا قبل أحُد يتمنون الموت في سبيل الله، لكنهم عندما رأوا الموت والشهادة هرب أكثرهم!

7. وبعدها آية الإنقلاب: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ..تحدثت عن انقلاب الصحابة عندما شاع خبر قتل النبي (صلی الله علیه و آله) ! وقال بعضهم: لوكان نبياً ما قتل! وقال بعضهم: إرجعوا إلى دينكم الأول! وقال بعضهم: من يذهب ويأخذ لنا أماناً من أبي سفیان!

8. وقررت الآية بعدها: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ.. أن تعريض الإنسان نفسه للشهادة لايُقصِّر عمره، لأن الموت حتى لو تمت شروطه الظاهرة لايتحقق إلا بإذن خاص من الله تعالى! وهو إذن يتبع قانون الثواب والعقاب، وهو قانونٌ يتبع إرادة الإنسان ونيته!

9. ثم مدح الله عزوجل في الآيات الثلاث التي بعدها من سماهم الرِّبِّيين: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ. وهم الذين ثبتوا في المعركة ولم يضعفوا ولم يستكينوا، فهو نص بمدح علي وأبي دجانة ونسيبة، ومن ثبت من الصحابة واستشهد في الجولة الثانية، وأولهم حمزة.

10. ثم كشف عزوجل في الآيتين بعدها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا.. عن تأثير الكفار على بعض الصحابة لأنهم يتولونهم! وحذرهم من أن موالاتهم تجرهم إلى الإنقلاب على أعقابهم، وأن عليهم أن يتولوا بدلهم الله تعالى ومن أمرهم بموالاته: بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَخَيْرُ النَّاصِرِينَ!

11. وفي الخمس آيات التي تلتها: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ.. إلى قوله: إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ، تحدث عزوجل عن معركة أحد وانتصارهم فيها أولاً، ثم انهيارهم وفرارهم المعيب، وتركهم النبي (صلی الله علیه و آله) لهجوم المشركين وسيوفهم،

ص: 139

وهروبهم إلى جبل أحُد وغيره، والنبي (صلی الله علیه و آله) يناديهم فلا يرجعون!

ومع ذلك فقد وعدهم بأنه سيلقي الرعب في قلوب الكفار في المعركة القادمة وذكرهم بأنه صدقهم وعده في أحُد، ولكنهم لما رأوا النصر والغنائم نسوا ربهم وأرادوا الدنيا فابتلاهم بالهزيمة، وقلَّ منهم الربيون الذين ثبتوا وأرادوا الآخرة.

12. وفي الآيات الثلاث التي تلتها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا.. إلى قوله: لإلَى اللهِ تُحْشَرُونَ، صحح الله عزوجل نظرتهم إلى الموت، ونهاهم عن نظرة الكفار التي ابتلاهم الله بها لتكون حسرة في قلوبهم. بينما النظرة الإسلامية للموت بأنه مجرد انتقال إلى الأحسن، وحشرٌ إلى الله تعالى.

13. وفي الآيات الثلاث التي تلتها: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ.. إلى قوله: وَهُمْ لايُظْلَمُونَ، أخبر نبيه (صلی الله علیه و آله) بأن لينه مع المسلمين كان من أسباب نجاحه وإلا لنفروا منه وعنه، وأوصاه أن يواصل هذا اللين ويطيب خاطرهم ويعفو عن أخطائهم ويستغفر الله لهم، ويشاورهم فيما يناسب من الأمور، فإذا عزم حسب أمر ربه، فليتوكل عليه ولا يهتم بمن خالفه.

ثم وبَّخ الذين اتهموه (صلی الله علیه و آله) بأنه غلَّ قطيفة من الغنائم، وأوضح لهم أن الغل لا وجود له عند الأنبياء (علیه السلام) لأنهم يريدون الآخرة، أما الذين يريدون الدنيا ويخونون المال العام، فهم غير الأنبياء والأوصياء: وخيار المؤمنين!

14. وفي الأربع التي تلتها: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ إلى قوله: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ نبه المسلمين إلى عدم الخلط في المقاييس ونوعيات الناس، وأن لايجعلوا الذين اتبعوا رضوان الله كمن خانوا الله ورسوله والمسلمين، فغلوا أو نقضوا بيعتهم وفروا من المعركة! ونبههم إلى أن درجات هؤلاء متفاوتة عند الله تعالى.

15. وفي الآيات السبع التي تلتها: وَلاتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا إلى قوله: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أخبر عزوجل عن حياة الشهداء عند ربهم ونعيمهم، وأنهم يستبشرون بمن بقي منهم حياً من الربيين: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ.. وخرجوا

ص: 140

في اليوم التالي لتعقب المشركين وإبلاغهم رسالة قوة. الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ..

16. وفي الآيات الأربع: وَلايَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ...الى قوله: فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ، عزَّى الله تعالى نبيه (صلی الله علیه و آله) عن خسارة الذين كانوا «مسلمين» فسارعوا بالكفر واشتروه بالإيمان وكفروا بالكامل، فهددهم بالعذاب الأليم، وأخبرهم بأنه يملي لهم ويمهلهم إلى مدة، فلا يغتروا بذلك!

ثم بيَّن عزوجل أن «المؤمنين» من الصحابة وغيرهم فيهم الخبيث والطيب، وأن القانون الإلهي يعمل فيهم لفرزهم: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وأن هذا القانون وانطباقاته من غيب الله تعالى الذي لايطلع عليه المؤمنين!

17. ثم تحدث عزوجل في الآيات الخمس التي تلتها: وَلايَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ.. إلى قوله: وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ، عن بخل بعض الأغنياء عن الإنفاق في سبيل الله، وأشار إلى منطق البخل عند جيرانهم اليهود الذين قالوا إن الله فقير يطلب منا الإنفاق، وقالوا إن محمداً (صلی الله علیه و آله) لم يأتنا بالآية المكتوبة عندنا.

18. ثم بين تعالى في خمس آيات أن الدنيا كلها موقتة وعمر الإنسان فيها محدود: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ.. والجزاء على العمل يوم القيامة.

ونبه المسلمين على أن ابتلاءات وخسارات في الأنفس والأموال تنتظرهم، وأذى من أهل الكتاب والمشركين. فلا يكونوا كأهل الكتاب الذين نبذوا الكتاب وحرفوه لأغراض دنيوية. ثم حذر الذين يفرحون بقدراتهم ويحبون أن تنسب اليهم مناقب كاذبة، بأنهم سيصيبهم العذاب!

19. وختم عزوجل آياته عن معركة أحد بلوحة من خمس آيات: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوِاتِ وَالأرض.. رسمت المؤمنين الرِّبيين، المهاجرين منهم خاصة، في مستواهم الفكري الرفيع ومعرفتهم بالله تعالى ومفاهيمهم عنه، وعبادتهم له وتضرعهم اليه بأن يختم لهم مع الأبرار. فاستجاب لهم بأنه سيجزيهم رجالاً ونساءً ثواباً

ص: 141

حسناً، لإيمانهم، وهجرتهم، وإخراجهم من ديارهم، وتحملهم الأذى، وقتالهم وشهادتهم في سبيله! وهذا لاينطبق إلا على قلة قليلة من المهاجرين، وعمدتهم عترة النبي (صلی الله علیه و آله) وأبرار بني هاشم.

حقائق مهمة في آيات أحُد

في هذه الآيات أبحاث مهمة نشير إلى أكثرها مساساً بأحُد وسيرة النبي (صلی الله علیه و آله).

أ. قلنا إن النبي (صلی الله علیه و آله) ذهب صباح الجمعة أو الخميس سراً واستطلع معسكر قريش واختار مكان معسكره، بدليل قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ.. وكتم ذلك كما كتمه الله تعالى وأشار له بخفاء. وهذا من الحكمة النبوية واللين بالمسلمين.

ب. نزلت آيات بدر ضمن آيات أحُد لتذكير المسلمين بنصر الله لهم، وأن قانونه في ذلك لم يتغير وإنما تغير المسلمون بحبهم للغنيمة ثم تركوها وانهزموا! وقال لهم في سورة الأنفال وهي سورة بدر: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. «الأنفال: 53». فالتغيير إلى الأسوأ بسلب النعمة الموجودة مشروط بتغيرالمسلمين إلى الأسوأ. أما التغيير إلى الأحسن وإعطاء النعمة، فلا يتوقف على تغيير الناس إلى الأحسن!

ج. الأهداف المذكورة في قوله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لايُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ. إنما تتحقق بقانون مداولة الأيام بين خيار الناس وشرارهم، وقوانين صراع الهدى الإلهي والضلال البشري، والتدخلات الإلهية لمصلحة المؤمنين تحصل أحياناً بقوانين، وستتحقق غلبة الخير على يد المهدي الموعود (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وتقوم دولة العدل وتنتهي دولة الشر إلى يوم القيامة، وهي بقانون أيضاً.

د. يبدو من قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ.. أن من شروط دخول المسلم الجنة الجهاد والصبر وعدم الفرار من المعركة، أو الوصول إلى هذا المستوى الإيماني، وهو أمر صعب، والمؤكد أنه شرط في أصحاب

ص: 142

النبي (صلی الله علیه و آله) الذين عاصروه.

ه. دلت آية الإنقلاب على أن الإرتداد حصل من عدد من الصحابة يوم أحُد! فقد قال بعضهم قتل محمد (صلی الله علیه و آله) ولو كان نبياً ما قتل، إرجعوا إلى دينكم الأول، وبحثوا عمن يذهب إلى ابن سلول ليأخذ لهم أماناً من أبي سفیان.الخ.

و. من المسائل المهمة في أحُد وغيرها حكم الفارين بعد بيعتهم النبي (صلی الله علیه و آله) على عدم الفرار، وبعد نداء النبي (صلی الله علیه و آله) فيهم بالرجوع وإمعانهم في الصعود على جبل أحُد، كما وصفهم الله تعالى!وقد نص القرآن على أن مأواهم جهنم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَاْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. الأنفال: 16.

وفي علل الشرائع: 1/203، أن عبدالله بن يزيد الأباضي قال لهشام بن الحكم: «من أين زعمت يا هشام أنه لابد أن يكون «الإمام» أعلم الخلق؟ قال إن لم يكن عالماً لم يؤمن أن يقلب شرايعه وأحكامه فيقطع من يجب عليه الحد ويحد من يجب عليه القطع! وتصديق ذلك قول الله عزوجل: أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدّيِ إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ...قال له: فمن أين زعمت أنه لا بد أن يكون أشجع الخلق؟ قال لأنه قيمهم الذي يرجعون إليه في الحرب، فإن هرب فقد باء بغضب من الله، ولا يجوز أن يبوء الإمام بغضب من الله، وذلك قوله عزوجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ..الآية». وعليه، فكل من فرَّ فقد استحق غضب الله وجهنم، إلا إذا ثبتت توبته. وقد يقال: إن الله تعالى عفا عنهم فقال: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ. وقال: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ. فهذا العفو يعني غفران الله لذنبهم مهما كان عظيماً، ومن عفا الله عن ذنبه فلا ذنب له.

والجواب: أن عثمان أجاب بذلك عبدالرحمن بن عوف عندما عيره بفراره يوم أحد فقال له: «وأما قولك فررت يوم أحد.. وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ.. فلم تعيرني بذنب

ص: 143

قد عفا الله عنه!». مجمع الزوائد: 9/ 85 وحسنه.

لكن الصحابة قالوا إن العفو في آيات أحُد خاص بالرماة، أو بالذين رجعوا من هربهم! ففي الحاكم: 2/296و الطبراني الكبير: 10/301: «وإنما عنى بهذا الرماة».

بل فسره عدد من أئمتهم بأنه ليس عفواً عن ذنب بل عفوٌ تكويني بأنه لم يسمح باستئصالهم. ففي عمدة القاري: 17/141: «قال ابن جريج: ولقد عفا عنكم بأن لم يستأصلكم، وكذا قال محمد بن إسحاق، رواه ابن جرير».

وفي تفسير الطبري: 4/175، أن الحسن البصري كان يستنكر تفسيرهم هذا العفو بالعفو عن ذنبهم: «قال الحسن وصفق بيديه: وكيف عفا عنهم وقد قتل منهم سبعون، وقتل عم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكسرت رباعيته وشج في وجهه؟! قال الله عزوجل: قد عفوت عنكم إذ عصيتموني أن لا أكون استأصلتكم».

فالعفو في آيات أحد خاص بمن رجع من هروبه، وهم قلة، أو بالرماة وهم أقل، أو هو عفو تكويني وليس عفواً عن الفرار وترك الرسول (صلی الله علیه و آله).

ولو سلمنا أنه عفو عن ذنب مضى، فقد كان بعده ذنب مثله، وهو الفرار في غزوة الخندق وخيبر وحنين!

وقد يقال: إن الله تعالى رضي عن الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة بقوله: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيباً. «الفتح: 18».وهو يعني غفران ذنوبهم قبل بيعة الشجرة.

والجواب: أنه تعالى قال: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ، ولم يقل: رضي عن الذين يبايعونك! فقيَّد الرضا بظرفٍ وبالإيمان، ولو سلمنا إطلاقه فقد كان ذلك في الحديبية في السنة السابعة، وقد بايعوا النبي (صلی الله علیه و آله) على أن لايفروا في معركة، ثم فروا بعدها بسنة في حنين فنقضوا بيعتهم! فلا يشملهم العفو السابق.

ز. لم يقتصر أمر هؤلاء الصحابة على الفرار، بل ارتدوا وصاحوا داعين إلى الردة والإستسلام! ووقف أحدهم على تل يدعو المنهزمين للتَّسْليم إلى أبي سفیان! وروى أتباع السلطة كل ذلك لكنهم أخفوا أبطال القصة فقالوا: نادى مناد: ألا إن محمداً قد

ص: 144

قتل فارجعوا إلى دينكم الأول! وقال أناس: لو كان نبياً ما قتل!

قال السيوطي في الدر المنثور: 2/80: «وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب محمد: ألا إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول». إلى آخر ما تقدم.

وقال الفخر الرازي: 9/22: «وذلك أن المنافقين قالوا لضعفة المسلمين: إن كان محمد قتل فالحقوا بدينكم، فقال بعض الأنصار: إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل». وهو أنس بن النضر. «ابن هشام: 3/600» وكان حواره مع عمر وطلحة وأصحاب الصخرة! ولم يرو أحدٌ أنهم جددوا إسلامهم!

ح. تدل آيات أحُد أن الصحابة كانوا أنواعاً: فمنهم المجاهدون الثابتون المحسنون، وهم الربيون الذين لايهنون ولا يحزنون. ومنهم المنافقون. ومنهم: المؤمنون أصحاب الذنوب، الذين استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا فهربوا! وهؤلاء طائفتان: فمنهم: مؤمنون ضعفوا وفروا فأصابهم الغم والندم

وأنزل الله عليهم النعاس: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ. ومنهم من لم ينزل عليه النعاس، وبقيت عيونهم تبحلق!

ففي تفسير القمي: 1/120: «وتراجع أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) المجروحون وغيرهم فأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأحب الله أن يعرِّف رسوله الصادق منهم والكاذب، فأنزل الله عليهم النعاس في تلك الحالة حتى كانوا يسقطون إلى الأرض وكان المنافقون الذين يكذبون لايستقرون، قد طارت عقولهم وهم يتكلمون بكلام لا يفهم».

والأسوأ من الجميع: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ولم يهمهم الرسول ولا المسلمون ولم ينزل الله عليهم النعاس! وهؤلاء هم مرضى القلوب وأصحاب آية الإنقلاب! وقد ذكر الله تعالى لهم خمس صفات خطيرة:

1-أنهم طائفة مقابل المؤمنين، وإن اشتركوا مع الفارين منهم.

2- أن ظنهم بالله جاهلي فهم كاليهود يتعاملون مع الله تعالى بميزان مادي كما

ص: 145

يتعامل المشركون مع أصنامهم! ولايعتقدون بحكمته تعالى وإدارة رسوله (صلی الله علیه و آله) بل يرون أن قيادتهم أفضل، ويحملون النبي (صلی الله علیه و آله) مسؤولية الهزيمة: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌْ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا!

3- أنهم يظهرون للنبي (صلی الله علیه و آله) أنهم مؤمنون به وهم كاذبون، لأنهم يريدون الشراكة في القيادة مع النبي (صلی الله علیه و آله) أو بدونه! يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لايُبْدُونَ لَكَ، من رفضهم لقيادتك! وهم يتكلمون باسم المسلمين لأن غرضهم قيادتهم بدل النبي (صلی الله علیه و آله) ! ويحاولون بهذا الكلام الخبيث تحريك المسلمين ضد النبي (صلی الله علیه و آله)، فهم كابن سلول بل أشد خطراً منه.

4- مشكلتهم ومرضهم عبادة ذواتهم بدل الله تعالى، وإطاعة هواهم بدل النبي (صلی الله علیه و آله) ولذا كانت هذه الصفة أول صفاتهم: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، أما أمر الإسلام كدين وأمر المسلمين كأمة، فلا يهمهم إلا كأداة لهدفهم!

ط- وبهذا تعرف مشكلة النبي (صلی الله علیه و آله) مع هذه الطائفة من منافقي صحابته فهم في كمين له ينتظرون فرصة ليطرحوا أنفسهم بديلاً عنه (صلی الله علیه و آله) لقيادة المسلمين! فطمأنه الله مما يفعلونه وقال له: وَلايَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الأَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.

ي- سمى القرآن هذه الطائفة في مكة وفي بدر وفي الأحزاب«مرضى القلوب» وذكرهم في اثنتي عشرة آية، ووصفهم في أحُد بأشد أوصافهم ولم يسمهم باسمهم الرسمي، وكأن سبب ذلك أن مرض قلوبهم خرج إلى العلن، وصار كفراً وتحميلاً للنبي (صلی الله علیه و آله) مسؤولية الهزيمة وطرحوا أنفسهم بديلاً له لقيادة المسلمين!

وقد فسر الإمام الصادق (علیه السلام) مرض قلوبهم بأنه عداوة أهل البیت (علیهم السلام) فقال: (علیه السلام): «والمرض والله عداوتنا». لأن هدفهم دولة النبي (صلی الله علیه و آله) والعقبة أمامهم هم العترة!غيبة النعماني/267.

ص: 146

الفصل الثامن والأربعون: مختارات من شعر أحد

أكثرَ القرشيون والمسلمون من الشعر في أحد

وهو كثيرٌ، نكتفي بمختارات نقلها ابن هشام: 3/639. منها لعبدالله بن الزِّبَعْرَى في يوم أحد:

يا غرابَ البين أسمعتَ فقل *** إنما تنطق شيئاً قد فعل

أبلغن حسان عني آية *** فقريض الشعر يشفي ذا العلل

كم ترى بالجر من جمجمة *** وأكف قد أترَّت ورجل

كم قتلنا من كريم سيد *** ماجد الجدين مقداماً بطل

فسل المهراس من ساكنه *** بين أقحاف وهام كالحجل

ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل

حين حكت بقباء بركها *** واستحر القتل في عبدالأشل

تم خفوا عند ذاكم رُقَّصاً *** رقَصَ الحفَّان يعلو في الجبل

فقتلنا الضعف من أشرافهم *** وعدلنا مَيْلَ بدر فاعتدل

فأجابه حسان بن ثابت:

ذهبَتْ يا ابن الزِّبَعْرى وقعةٌ *** كان منا الفضل فيها لو عدل

ولقد نلتم ونلنا منكم *** وكذاك الحرب أحياناً دول

ص: 147

نضع الأسياف في أكتافكم *** حيث تهوي عللاً بعد نهل

إذ تولون على أعقابكم *** هرباً في الشعب أشباه الرَّسَل

إذ شددنا شدة صادقة *** فأجأناكم إلى سفح الجبل

برجال لستم أمثالهم *** أيدوا جبريل نصراً فنزل

وعلونا يوم بدر بالتقى *** طاعة الله وتصديق الرسل

وقتلنا كل رأس منهم *** وقتلنا كل جحجاجٍ رفل

وتركنا في قريش عورة *** يوم بدر وأحاديثَ المثل

ورسول الله حقاً شاهد *** يوم بدر والتنابيل الهبل

نحن لا أمثالكم ولد استها *** نحضر البأس إذا البأس نزل

وقال كعب بن مالك يبكي حمزة وقتلى المسلمين:

نشجتَ وهل لك من منشجِ *** وكنتَ متى تدكرْ تلجَجِ

تذكر قوماً أتاني لهم *** أحاديث في الزمن الأعوج

وقتلاهم في جنان النعيم *** كرام المداخل والمخرج

بما صبروا تحت ظل اللواء *** لواء الرسول بذي الأضوج

غداة أجابت بأسيافها *** جميعاً بنو الأوس والخزرج

وأشياع أحمد إذ شايعوا *** على الحق ذي النور والمنهج

فما برحوا يضربون الكماة *** ويمضون في القسطل المرهج

كذلك حتى دعاهم مليك *** إلى جنة دوحة المولج

فكلهم مات حر البلاء *** على ملة الله لم يُحرج

كحمزة لما وفى صادقاً *** بذي هبة صارم سلجج...

أولئك لا من ثوى منكم *** من النار في الدرك المرتج

ص: 148

فأجابه ضرار بن الخطاب الفهري فقال:

أيجزع كعب لأشياعه *** ويبكي من الزمن الأعوج

فقولا لكعب يثني البكا *** وللنئ من لحمه ينضج

فياليت عمراً وأشياعه *** وعتبة في جمعنا السورج

فيشفوا النفوس بأوتارها *** بقتلى أصيب من الخزرج

ومقتل حمزة تحت اللواء *** بمطرد مارن مخلج

وحيث انثنى مصعب ثاوياً *** بضربة ذي هبة سلجج

بأحد وأسيافنا فيهم *** تلهب كاللهب الموهج

وقالت صفية بنت عبدالمطلب تبكي أخاها حمزة:

أسائلة أصحاب أحد مخافة *** بنات أبي من أعجم وخبير

فقال الخبير إن حمزة قد ثوى *** وزير رسول الله خير وزير

دعاه إله الحق ذو العرش دعوة *** إلى جنة يحيا بها وسرور

فذلك ما كنا نرجي ونرتجي *** لحمزة يوم الحشر خير مصير

فوالله لا أنساك ما هبت الصبا *** بكاء وحزناً محضري ومسيري

على أسد الله الذي كان مدرهاج *** يذود عن الإسلام كل كفور

فياليت شلوي عند ذاك وأعظمي *** لدى أضبع تعتادني ونسور

أقول وقد أعلى النعي عشيرتي *** جزى الله خيراً من أخ ونصير

وقال عبدالله بن رواحة يبكي حمزة:

بكت عيني وحق لها بكاها *** وما يغني البكاء ولا العويل

على أسد الإله غداة قالوا *** أحمزة ذاكم الرجل القتيل

أصيب المسلمون به جميعاً *** هناك وقد أصيب به الرسول

ص: 149

أبا يعلى لك الأركان هدت *** وأنت الماجد البر الوصول

عليك سلام ربك في جنان *** مخالطها نعيم لا يزول

ألا يا هاشم الأخيار صبراً *** فكل فعالكم حسن جميل

رسول الله مصطبر كريم *** بأمر الله ينطق إذ يقول

ألا من مبلغ عني لؤياً *** فبعد اليوم دائلة تدول

وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا *** وقائعنا بها يشفى الغليل

نسيتم ضربنا بقليب بدر *** غداة أتاكم الموت العجيل

غداة ثوى أبوجهل صريعاً *** عليه الطير حائمة تجول

وعتبة وابنه خرا جميعاً *** وشيبة عضه السيف الصقيل

ومتركنا أمية مجلعباً *** وفي حيزومه لدن نبيل

وهام بني ربيعة سائلوها *** ففي أسيافنا منها فلول

ألا يا هند فابكي لا تملي *** فأنت الواله العبرى الهبول

ألا يا هند لا تبدي شماتاً *** بحمزة إن عزكم ذليل

وقال حسان بن ثابت يبكي حمزة:

أتعرف الدار عفا رسمها *** بعدك صوب المسبل الهاطل

ساءلتها عن ذاك فاستعجمت *** لم تدر ما مرجوعة السائل؟

دع عنك دارا قد عفا رسمها *** وابك على حمزة ذي النائل

المالئ الشيزى إذا أعصفت *** غبراء في ذي الشبَم الماحل

والتارك القرن لدی لبدة *** يعثر في ذي الخرص الذابل

واللابس الخيل إذ أجحمت *** كالليث في غابته الباسل

أبيض في الذروة من هاشم *** لم يمر دون الحق بالباطل

ص: 150

مال شهيداً بين أسيافكم *** شلت يدا وحشي من قاتل

أظلمت الأرض لفقدانه *** واسود نور القمر الناصل

صلى عليه الله في جنة *** عالية مكرمة الداخل

كنا نرى حمزة حرزاً لنا *** في كل أمر نابنا نازل

وكان في الإسلام ذا تدرأ *** يكفيك فقد القاعد الخاذل

لا تفرحي يا هند واستحلبي *** دمعاً واذري عبرة الثاكل

وابكي على عتبة إذ قطه *** بالسيف تحت الرهج الجائل

إذ خرَّ في مشيخة منكم *** مِن كل عات قبله جاهل

أرداهم حمزة في أسرة *** يمشون تحت الحلق الفاضل

غداة جبريل وزير له *** نعم وزير الفارس الحامل

وقال حسان بن ثابت يبكي حمزة:

يا ميُّ قومي فاندبنْ *** بسحيرة شجو النوائح

كالحاملات الوقر بالثقل *** الملحات الدوالح

المعولات الخامشات *** وجوه حرات صحائح

وكأن سيل دموعها الأنصاب *** تخضب بالذبائح

ينقضن أشعاراً لهن *** هناك بادية المسائح

وكأنها أذناب خيل *** بالضحى شمس روامح

ولقد أصاب قلوبها *** مجل له جلب قوارح

إذ أقصد الحدثان من *** كنا نرجِّي إذ نشايح

أصحاب أحْد غالهم *** دهر ألمَّ له جوارح

من كان فارسنا *** وحامينا إذا بعث المسالح

ص: 151

يا حمزُ لا والله لا *** أنساك ما صر اللقائح

ذكرتني أسْد الرسول *** وذاك مدرهنا المنافح

يعلو القماقم جهرة *** سبط اليدين أغر واضح

لا طائش رعش ولا *** ذو علة بالحمل آنح

بحر فليس يغب جاراً *** منه سيب أو منادح

لهفي لشبان رزئناهم *** كأنهم المصابح

شم بطارقة غطارفة *** خضارمة مسامح

المشترون الحمد بالأموال *** إن الحمد رابح

والجامزون بلجمهم *** يوما إذا ما صاح صائح

يا حمز قد أوحدتني *** كالعود شذبه الكوافح

أشكو إليك وفوقك الترب *** المكور والصفائح

وقال حسان يذكر قتل علي (علیه السلام) أصحاب اللواء يوم أحد:

منع النوم بالعشاء الهموم *** وخيال إذا تغور النجوم..

من حبيب أضاف قلبك منه *** سقم فهو داخل مكتوم

يا لقومي هل يقتل المرء مثلي *** واهن البطش والعظام سؤوم

وأنا الصقرعند باب ابن سلمى *** يوم نعمان في الكبول سقیم

تلك أفعالنا وفعل الزبعرى *** خامل في صديقه مذموم

رب حلم أضاعه عدم المال *** وجهل غطى عليه النعيم

ما أبالي أنب بالحزن تيس *** أم لحاني بظهر غيب لئيم

ولي البأس منكم إذ رحلتم *** أسرة من بني قصي صميم

تسعة تحمل اللواء وطارت *** في رعاع من القنا مخزوم

وأقاموا حتى أبيحوا جميعاً *** في مقام وكلهم مذموم

ص: 152

وقريش تفر منا لواذا *** أن يقيموا وخف منها الحلوم

لم تطق حمله العواتق منهم *** إنما يحمل اللواء النجوم

واعتبرها ابن هشام أحسن ما قيل مع أنها ليست كذلك! وقال: «قال حسان هذه القصيدة منع النوم بالعشاء الهموم، ليلاً، فدعا قومه فقال لهم: خشيت أن يدركني أجلي قبل أن أصبح فلا ترووها عني». ولعلها كانت أطول من ذلك فحذفوا منها مدحه لعلي (علیه السلام) ! فقد روى ابن هشام: 3/655 مدح الحجاج السلمي لعليً (علیه السلام) لقتله أصحاب الألوية، قال:

لله أي مذبِّبٍ عن حرمة *** أعني ابن فاطمة المعمَّ المُخولا

سبقت يداك له بعاجل طعنة *** تركت طليحة للجبين مجدلا

وشددت شدة باسل فكشفتهم *** بالجر إذ يهوون أخول أخولا

وقال عائذ بن عمران بن مخزوم:

ما بال همٍّ عميدٍ بات يطرقني *** بالود من هند إذ تعدو عواديها

باتت تعاتبني هند وتعذلني *** والحرب قد شغلت عني مواليها

سقناكنانة من أطراف ذي يمن *** عرضالبلاد على ما كان يزجيها

قالت كنانة أنى تذهبون بنا؟ *** قلنا: النخيل فأموها ومن فيها

نحنالفوارسيوم الجر من أحد *** هابت معد فقلنا نحن نأتيها

فأجابه حسان بن ثابت:

سقتم كنانة جهلاً من سفاهتكم *** إلى الرسول فجند الله مخزيها

أوردتموهاحياضالموتضاحية *** فالنار موعدها والقتل لاقيها

جمعتموها أحابيشاً بلا حسب *** أئمة الكفر غرتكم طواغيها

ألا اعتبرتم بخيل الله إذ قتلت *** أهل القليب ومن ألقينه فيها

كم من أسير فككناه بلا ثمن *** وجز ناصية كنا مواليها

ص: 153

وقال عبدالله بن الزبعرى يبكي قتلى المشركين:

ألا ذرفت من مقلتيك دموع *** وقد بان من حبل الشباب قطوع

وشطبمنتهوى المزار وفرقت *** نوى الحي دار بالحبيب فجوع

فذر ذا، ولكنهل أتى أم مالك *** أحاديث قومي والحديث يشيع

عشية سرنا في لهام يقودنا *** ضرور الأعادي للصديق نفوع

فلما رأونا خالطتهم مهابة *** وعاينهم أمر هناك فظيع

وودوا لو ان الأرض ينشق ظهرها *** بهم وصبور القوم ثم جزوع

بأيماننا نعلو بها كل هامة *** ومنها سمام للعدو ذريع

فغادرن قتلى الأوس عاصبة بهم *** ضباع وطير يعتفين وقوع

وجمع بني النجار في كل تلعة *** بأبدانهم من وقعهن نجيع

ولولا علو الشعب غادرن أحمداً *** ولكن علا والسمهري شروع

فأجابه حسان بن ثابت فقال:

أشاقك من أم الوليد ربوع *** بلاقع ما من أهلهن جميع

عفاهن صيفيُّ الرياح وواكف *** من الدلو رجَّافالسحاب هموع

فلم يبق إلا موقد النار حوله *** رواكد أمثال الحمام كنوع

فقد صابرت فيه بنو الأوس كلهم *** وكان لهم ذكر هناك رفيع

وحامى بنو النجار فيه وصابروا *** وما كان منهم في اللقاء جزوع

أمام رسول الله لا يخذلونه *** لهم ناصر من ربهم وشفيع

وفوا إذ كفرتم يا سخين بربكم *** ولا يستوي عبد وفى ومضيع

بأيديهم بيض إذا حمش الوغى *** فلا بد أن يردى لهن صريع

أولئك قوم سادة من فروعكم *** وفى كل قوم سادة وفروع

بهن نعز الله حتى يعزنا *** وإن كان أمر ياسخين فظيع

ص: 154

فلا تذكروا قتلى وحمزة فيهم *** قتيل ثوى لله وهو مطيع

فإن جنان الخلد منزلة له *** وأمر الذي يقضى الأمور سريع

وقتلاكم في النار أفضل رزقهم *** حميم معاً في جوفها وضريع

وقال عمرو بن العاص في يوم أحد:

خرجنا من الفيفا عليهم كأننا *** مع الصبح من رضوى الحبيك المنطق

تمنت بنو النجار جهلاً لقاءنا *** لدى جنب سلع والأماني تصدق

فما راعهم بالشر إلا فجاءة *** كراديس خيل في الأزقة تمرق

أرادوا لكيما يستبيحوا قبابنا *** ودون القباب اليوم ضرب محرق

كأن رؤوس الخزرجيين غدوة *** وأيمانهم بالمشرفية بروق

فأجابه كعب بن مالك:

ألا أبلغا فهراً على نأي دارها *** وعندهم من علمنا اليوم مصدق

بأنا غداة السفح من بطن يثرب *** صبرنا ورايات المنية تخفق

صبرنا لهم والصبر منا سجية *** إذا طارت الأبرام نسمو ونرتق

لنا حومةٌ لا تستطاع يقودها *** نبي أتى بالحق عفٌّ مصدق

ألا هل أتى أفناء فهر بن مالك *** مقطع أطراف وهام مفلق

وقال ضرار بن الخطاب:

لما أتت من بني كعب مزينة *** والخزرجية فيها البيض تأتلق

وجردوا مشرفيات مهندة *** وراية كجناح النسر تختفق

فقلت يوم بأيام ومعركة *** تنبي لماخلفها ماهزهز الورق...الخ.

ص: 155

وقال عمرو بن العاص:

لما رأيت الحرب ينزو *** شرها بالرضف نزوا

وتناولت شهباء تلحو *** الناس بالضراء لحوا...الخ.

فأجابهما كعب بن مالك:

أبلغ قريشاً وخير القول أصدقه *** والصدق عنه ذوي الألباب مقبول

أن قد قتلنا بقتلانا سراتكم *** أهل اللواء ففيما يكثر القيل

ويوم بدر لقيناكم لنا مدد *** فيه مع النصر ميكال وجبريل

إن تقتلونا فدين الحق فطرتنا *** والقتل في الحق عند الله تفضيل

وإن تروا أمرنا في رأيكم سفهاً *** فرأى من خالف الإسلام تضليل..الخ

وقال كعب أيضاً يبكي حمزة:

صفية قومي ولا تعجزي *** وبكِّي النساء على حمزة

ولا تسأمي أن تطيلي البكا *** على أسد الله في الهزة

فقد كان عزاً لأيتامنا *** وليث الملاحم في البزة

يريد بذاك رضا أحمد *** ورضوان ذي العرش والعزة

وقد رووا لكعب بن مالك قصائد في رثاء حمزة وشهداء أحُد، فیها:

رقت همومك فالرقاد مسهد *** وجزعت أن سلخ الشباب الأغيد

ولقد هددت لفقد حمزة هدة *** ظلت بنات الجوف منها ترعد

قرم تمكن في ذؤابة هاشم *** حيث النبوة والندى والسودد

والعاقر الكوم الجلاد إذ غدت *** ريح يكاد الماء منها يجمد

والتارك القرن الكمي مجدلاً *** يوم الكريهة والقنا يتقصد

وتراه يرفل في الحديد كأنه *** ذو لبدة شثن البراثن أربد

ص: 156

عم النبي محمد وصفيه *** ورد الحمام فطاب ذاك المورد

وأتى المنية معلماً في أسرة *** نصروا النبي ومنهم المستشهد

شتان من هو في جهنم ثاوياً *** أبداً ومن هو في الجنان مخلد

ومن مقطوعاته:

فإن تسألي ثم لاتُكذبي *** يخبرك من قد سألت اليقينا

بأنا ليالي ذات العظام *** كنا ثمالاً لمن يعترينا

تلوذ النجود بأذرائنا *** من الضر في أزمات السنينا

ويوم له رهج دائم *** شديد التهاول حامى الارينا

شهدنا فكنا أولي بأسه *** وتحت العماية والمعلمينا

وعلمنا الضرب آباؤنا *** وسوف نعلم أيضا بنينا

سألت بك ابن الزبعرى فلم *** أنبئك في القوم إلا هجينا

خبيثاً تطيف بك المنديات *** مقيماً على اللؤم حينا فحينا

تبجست تهجو رسول المليك *** قاتلك الله جلفا لعينا

تقول الخنا ثم ترمي به *** نقي الثياب تقيا أمينا

ومنها:

سائل قريشاً غداة السفح من أحد *** ماذا لقينا وما لاقَوْا من الهرب

فكم تركنا بها من سيد بطل *** حامي الذمار كريم الجد والحسب

فينا الرسول شهابٌ ثم يتبعه *** نور مضيݘٌ له فضل على الشهب

الحق منطقه والعدل سيرته *** فمن يجبه إليه ينجُ من تبب

يمضي ويذمرنا عن غير معصية *** كأنه البدر لم يطبع على الكذب

بدا لنا فاتبعناه نصدقه *** وكذبوه فكنا أسعد العرب

جالوا وجلنا فما فاءوا وما رجعوا *** ونحن نثفنهم لم نأل في الطلب

ليس سواء وشتى بين أمرهما *** حزب الإله وأهل الشرك والنصب

ص: 157

ومنها:

ألا هل أتى غسان عنا ودونهم *** من الأرض خرق سيره متنعنع

صحار وأعلام كأن قتامها *** من البعد نقع هامد متقطع

مجالدنا عن ديننا كل فخمة *** مذربة فيها القوانس تلمع

ولما ابتنوا بالعرض قال سراتنا *** علامَ إذا لم نمنع العرض نزرع

وفينا رسول الله نتبع أمره *** إذا قال فينا القول لا نتطلع

تدلى عليه الروح من عند ربه *** ينزل من جو السماء ويرفع

نشاوره فيما نريد وقصرنا *** إذا ما اشتهى أنا نطيع ونسمع

وقال رسول الله لما بدوا لنا *** ذروا عنكم هول المنيات واطمعوا

وكونوا كمن يشرى الحياة تقرباً *** إلى ملك يحيا لديه ويرجع

ولكن خذوا أسيافكم وتوكلوا *** على الله إن الأمر لله أجمع

فسرنا إليهم جهرة في رحالهم *** ضحياً علينا البيض لا نتخشع

فجئنا إلى موج من البحر وسطه *** أحابيش منهم حاسر ومقنع

ثلاثة آلاف ونحن نصية *** ثلاث مئين إن كثرنا وأربع

فلما تلاقينا ودارت بنا الرحى *** وليس لأمر حمسه الله مدفع

ضربناهم حتى تركنا سراتهم *** كأنهم بالقاع خشب مصرع

وراحوا سراعاً موجفين كأنهم *** جهام هراقت ماءه الريح مقلع

فنلنا ونال القوم منا، وربما *** فعلنا، ولكن ما لدى الله أوسع

ونحن أناس لا نرى القتل سبة *** على كل من يحمي الذمار ويمنع

بنو الحرب إن نظفر فلسنا بفحش *** ولا نحن من إظفارها نتوجع

ص: 158

الفصل التاسع والأربعون: غزوة حمراء الأسد خاصة بجرحى أُحد!

التدخل الإلهي في انسحاب قريش

لا نجد سبباً مادياً لسحب قريش جيشها من أحُد قبل أن تحقق هدفها في قتل النبي (صلی الله علیه و آله) واحتلال المدينة، إلا التدخل الإلهي! فقد بعث الله الملائكة فقاتلوا مع علي (علیه السلام) حتى انسحب المشركون، ثم بعث علياً (علیه السلام) لاعتراضهم ليتأكد من أن وجهتهم مكة وليست المدينة!

غزوة حمراء الأسد خاصة بالمجروحين في أحُد

قال القمي في تفسيره: 1/124: «فلما دخل رسول الله المدينة نزل عليه جبرئيل فقال: يا محمد إن الله يأمرك أن تخرج في أثر القوم، ولايخرج معك إلا من به جراحة! فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) منادياً ينادي يا معشر المهاجرين والأنصار من كانت به جراحة فليخرج، ومن لم يكن به جراحة فليقم، فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداوونها! فأنزل الله على نبيه: وَلاتَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَألَمُونَ كَمَا تَالَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لايَرْجُونَ.. فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح، فلما بلغ رسول الله بحمراء الأسد وقريش قد نزلت الروحاء، قال عكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، وعمرو بن عاص، وخالد بن الوليد: نرجع فنغير على المدينة فقد قتلنا سراتهم وكبشهم يعني حمزة، فوافاهم رجل خرج من المدينة فسألوه الخبر فقال: تركت محمداً وأصحابه بحمراء الأسد يطلبونكم جد الطلب فقال أبوسفيان: هذا النكد والبغي قد ظفرنا بالقوم وبغينا! والله ما أفلح قوم قط بغوا». أي إرجعوا يكفينا انتصارنا.

ص: 159

وفي شرح الأخبار: 1/282: «وخرجوا معه (صلی الله علیه و آله) من غد يوم الإثنين حتى انتهى إلى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها الإثنين والثلاثاء والأربعاء، ومر به معبد بن أبي معبدالخزاعي، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عَيْبَة نصحٍ لرسول الله (صلی الله علیه و آله) بتهامة لايخفون عنه شيئاً بها، ومعبد يؤمئذ مشرك، فقال: يا محمد والله لقد عزَّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله عزوجل عافاك فيهم، ثم مضى يريد مكة ورسول الله (صلی الله علیه و آله) بحمراء الأسد، فلقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد اجتمعوا للرجوع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه وذلك أنهم اجتمعوا هنالك وقالوا: والله ما صنعنا شيئاً، أصبنا جل القوم وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم! فلما رأى أبوسفيان معبداً قال له: ما وراءك يا معبد؟قال: محمد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقاً، وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ذلك وندموا على ما صنعوا، وبهم من الحنق عليكم شئ لم أر مثله قط!

قال: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترحل حتى نرى نواصي الخيل! قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم حتى نستأصل بقيتهم. قال: فإني أنهاك عن ذلك، فوالله لقد حملني ما رأيت أن قلت أبياتاً أردت أن أبعث بها إليك، ثم جئت بنفسي. قال: وما قلت؟ قال:

كادت تهد من الأصوات راحلتي *** إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

تردي بأسد كرام لا تنابلةٍ *** عند اللقاء ولا ميلٍ معازيل

فظلت عدواً أظن الأرض مائلة *** لما سموا برئيس غير مخذول

وقلت ويلُ ابن حرب من لقائكم *** إذا تغطمت البطحاء بالجيل

إني نذير لأهل الحزم ضاحية *** لكل ذي إربة منهم ومعقول

من جيش أحمد لا أحصي قنابله *** وليس يوصف ما أنذرت بالقيل

فساء ذلك أبا سفيان ومن معه! وقال لهم صفوان بن أمية بن خلف: إن القوم قد

ص: 160

حزبوا أي غضبوا، وقد خشيت إن عاودتموهم أن يكون لهم قتال غير الذي كان، وقد أصبتم ما أصبتم فارجعوا! فرجعوا.

ولقي أبوسفيان ركباً من عبدالقيس يريدون المدينة يمتارون منها، فقال: هل تبلغون عني محمداً رسالة، وأنا أحمل لكم جمالكم إذا انصرفتم زبيباً بعكاظ؟

قالوا: نعم. قال: تخبروه أنا أزمعنا الرجوع إليه وإلى أصحابه لنستأصل شأفتهم، فمروا برسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو بحمراء الأسد فقالوا ذلك، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا كالأمس الذاهب وانصرف إلى المدينة». ونحوه البحار: 20/110، عن تفسير النعماني.

أقول: أخذ النبي (صلی الله علیه و آله) معه دليلاً وأرسل أمامه ثلاثة رجال لاستطلاع العدو، فأمسك المشركون اثنين وقتلوهم فدفنهم النبي (صلی الله علیه و آله) لما وصل اليهم ونجا الثالث.

كما استعمل النبي (صلی الله علیه و آله) إيقاد النيران المتعددة العالية لنشر خبر مسيره وتخويف المشركين، وروي أنهم أشعلوا خمس مئة نار، مع أنهم كانوا نحو سبعين! وهذا يكشف عدد الثابتين مع النبي (صلی الله علیه و آله) وبضمنهم الذين رجعوا من الفرار وشاركوا في دفن شهداء أحُد، وهم عشر السبع مئة الذين ذهبوا إلى أحُد.

هذا، وقد ذكر رواة السلطة أسماء صحابة في حمراء الأسد، وجعلوا فيهم فارين ولم يكونوا جرحى! راجع: الصحيح: 6/302، المناقب: 1/167والطبقات: 2/49وعيون الأثر: 2/7.

وفي هذه الغزوة نزل قوله تعالى: «الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ». آل عمران: 172-175.

ص: 161

الفصل الخمسون: أهم الأحداث بين غزوة أحد وغزوة الأحزاب

1- سرية جبل قَطَن

جبل قطن في نجد في ديار بني أسد وعبس«معجم البلدان: 4/375». ويقع: «غرب القصيم على بعد170 كم من مدينة بريدة». موقع: http: //www.harb-tribe.net/showtopic.asp?id=79

قال في الصحيح من السيرة: 7/143، ملخصاً: «كان بين أحد والخندق عدد من السرايا والغزوات وكان لها نتائج إيجابیة على الصعيد السياسي والإجتماعي والعسكري. وكثير منها يحتاج إلى بحث وتمحيص، وهي حسب الترتيب الزمني: سرية أبي سلمة إلى قطن في أول محرم بعد أحُد وكانت أحُد في شوال، وكان مع أبي سلمة مئة وخمسون رجلاً من الأنصار والمهاجرين، منهم أبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وأسيد بن خضير، وسالم مولى أبي حذيفة، وغيرهم.

وسببها أن رجلاً من طئ قدم المدينة فأخبر صهره أن طليحة وسلمة ابني خويلد سارا في قومهما ومن أطاعهما وقالوا: نسير إلى محمد في عقر داره ونصيب من أطرافه، ونخرج على متون الخيل والنجائب المخبورة، فإن أصبنا نهباً لم ندرك وإن لاقينا جمعهم كنا قد أخذنا للحرب عدتها، معنا خيل ولاخيل معهم، والقوم منكوبون قد أوقعت بهم قريش.

فقال رجل منهم اسمه قيس بن الحارث: يا قوم، إن دارنا لبعيدة من يثرب، وقد مكثت قريش دهراً تسيِّر في العرب تستنصرها ولهم وتر يطلبونه، وكانوا ثلاثة آلاف مقاتل سوى

ص: 162

أتباعهم وإنما جهدكم أن تخرجوا في ثلاث مئة رجل، فلا آمن أن تكون الدائرة عليكم. فقال النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي سلمة: سر حتى تنزل أرض بني أسد فأغر عليهم قبل أن تلاقى عليك جموعهم. فخرج وكان الطائي دليلاً خريتاً أي ماهراً، فأغذ السير فسار بهم أربعاً إلى قطن، وسلك بهم غير الطريق وسار بهم ليلاً ونهاراً، فأغار أبو سلمة على سرحهم ودوابهم وأصابوا ثلاثة أعبد كانوا رعاة، وهرب الباقون، وأخبروا بمجئ أبي سلمة فخافوا وهربوا عن منازلهم في كل وجه، فجمعوا ما قدروا عليه من الأموال ورجعوا إلى المدينة».

2- سرية يوم الرجيع

الرجيع وبئر معونة: إسمان لمكانين بين مكة والمدينة، وبئر معونة أقرب إلى المدينة. البكري:2/641 و4/1246وعمدة القاري: 17/163.

وروت مصادر السيرة أنه وقعت فيهما غزوتان، وفي روايتهم تعارض وتهافت، ولم يصلنا فيهما شئ يذكر عن أهل البیت (علیهم السلام)، والمرجح أنهما حادثتان صغيرتان ضخموهما لمدح شخص أو جماعة.

قال ابن هشام: 3/667: «يوم الرجيع في سنة ثلاث» وسماه ابن سعد في الطبقات: 2/55: «سرية مرثد بن أبي مرثد». وخلاصة ماذكراه: أنه قدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعد أحد رهط من قبيلتي عضل والقارة وقالوا له: يا رسول الله إن فينا إسلاماً، فابعث نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين، فبعث نفراً ستة هم: مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبدالمطلب، وخالد بن البكير الليثي، حليف بني عدي بن كعب، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، أخو بني عمرو بن عوف من الأوس، وخبيب بن عدي من الأوس أيضاً، وزيد بن الدثنة من بني بياضة من الخزرج، وعبدالله بن طارق حليف الأوس، وأميرهم مرثد، حتى إذا كانوا على الرجيع ماء لهذيل بناحية الحجاز غدرت بهم هذيل وقالوا لهم ما نريد قتلكم ولكن نبيعكم إلى قريش! فقاتلهم خمسة فقتلوا وهم

ص: 163

عاصم ومرثد وخالد ومعتب وعبدالله بن طارق، واستأسر زيد وخبيب فأخذوهم وباعوهما إلى أهل مكة فقتلوهما، وأرادوا أن يأخذوا رأس عاصم ليبيعوه من سلافة بنت سعد زوجة طلحة بن أبي طلحة وكانت معه في أحد، وقالوا إن عاصماً قتل زوجها وأبناءها، فنذرت أن تشرب برأسه خمراً! ولما أرادوا قطع رأسه جاءت الزنابير وحمته منهم، وجاء سيل في الليل فأخذ جثته.واستقرب صاحب الصحيح من السيرة: 7/167، أن يكون النبي (صلی الله علیه و آله) أرسل هؤلاء أو بعضهم عيوناً على قريش، فأمسكوا منهم زيداً وخبيباً وقتلوهما.

قال: «وما عدا ذلك فهو مشكوك فيه، إن لم نقل إن فيه الكثير مما نقطع بأنه مكذوب وموضوع أو محرف عن عمد، أو عن غير عمد».

3- سرية بئر معونة

وهي تشبه غزوة الرجيع وغزوة بني لحيان، وسماها ابن هشام: 3/677: حديث بئر معونة في صفر سنة أربع. ونقل عن ابن إسحاق أن الزعيم النجدي أبا براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وطلب منه أن يبعث رجالاً من أصحابه إلى أهل نجد يدعونهم إلى الإسلام، فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): إني أخشى عليهم أهل نجد، قال أبو براء: أنا لهم جار، فبعث أربعين رجلاً، وأمَّر عليهم المنذر بن عمرو من بني ساعدة، ومنهم الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، في رجال من خيار المسلمين، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة، فبعثوا حرام بن ملحان بكتاب النبي (صلی الله علیه و آله) إلى عامر بن الطفيل، فقتله عامر واستعان بقبائل من بني سُلَيْم هم: عصية ورعل وذكوان، فقصدوهم وقتلوهم عن آخرهم!

وقالوا إن عمرو بن أمية الضمري أراد الثأر لهم، فقتل رجلين من قوم متحالفين مع النبي (صلی الله علیه و آله) فالتزم (صلی الله علیه و آله) بإعطاء ديتهما. وأكثروا من مناقب شهداء بئر معونة خاصة عامر بن فهيرة غلام أبي بكر وزعموا أنه رفع إلى السماء، وأنه نزل فيهم قرآن ونسخ! فقد

ص: 164

روى بخاري في صحيحه: 3/204/208، 4/35 و 5/42، روايات في أنه نزلت آية: ألا بلغوا قومنا بأنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا! في شهداء بئر معونة الذين غدر بهم أهل نجد من قبائل رعل وذكوان وعصية من بني لحيان، وأن المسلمين قرؤوا هذه الآية!و مسلم: 2/135 وأحمد بروايات: 3/109، 210، 215، 255 و289 والبيهقي: 2/199.

وذكروا في أكثرها أنها نسخت بعد ذلك، أو رفعت! وكله غير صحيح!

وقال ابن سعد في الطبقات: 2/53: «وجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) خبر أهل بئر معونة وجاءه تلك الليلة أيضاً مصاب خبيب بن عدي، ومرثد بن أبي مرثد، وبعث محمد بن مسلمة فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهاً.

ودعا رسول الله على قتلتهم بعد الركعة من الصبح فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم سنين كسني يوسف.اللهم عليك ببني لحيان، وعضل، والقارة وزغب، ورعل، وذكوان، وعصية، فإنهم عصوا الله ورسوله.

وأقبل عمرو بن أمية سار أربعاً على رجليه، فلما كان بصدور قناة لقي رجلين من بني كلاب قد كان لهما من رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمان فقتلهما وهو لا يعلم ذلك، ثم قدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره بمقتل أصحاب بئر معونة، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبْتَ من بينهم. وأخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بقتل العامريين فقال: بئس ما صنعت، قد كان لهما مني أمان وجوار، لأدينهما، فبعث بديتهما إلى قومهما». «وإعلام الورى 1/186 والمناقب1/168». راجع أيضاً غزوة بني لحيان: 1/188 و 1/170، فيبدو أنهما متحدتان.

4- غزوة بدر الموعد

وتسمى بدر الصغرى، وبدر الصفراء، وبدر الثانية، وبدر الآخرة، وكانت في شوال بعد أحد بسنة، لأن أبا سفيان قال في أحُد: موعدنا معكم العام القادم في بدر الصفراء، فقبل النبي (صلی الله علیه و آله)، وبدر الصفراء قرية قرب ينبع بين مكة والمدينة، وفيها سوق سنوي للعرب. سبل الهدى: 4/282.

ص: 165

قال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه القيم: المواجهة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) /241: «عممت قريش موعد اللقاء وأخذت تستعدي على النبي (صلی الله علیه و آله) وتجمع الأموال استعداداً للخروج، وفرضت ضريبة على سكان مكة ولأول مرة في تاريخها، ولم يترك أحد إلا وينبغي أن يدفع مالاً لايقل عن «أوقية» مساهمة بالمجهود الحربي، فجمعوا الأموال العظيمة ورصدوها لحرب محمد وآله ومن والاهم.

ومع اقتراب الموعد كره أبوسفيان قائد تحالف البطون هذا الخروج، وندم على قوله وتحديده الموعد، وتعرض لملامة الكثير من قومه، وتمنى عدم خروج الرسول للموعد لأن العام جدب: «والأرض مثل ظهر الترس ليس فيها لبعير شئ» ولكن البطون كرهت أن يخرج محمد ولايخرجون، فيجترئ عليها فأحبت أن يكون الخلف من قبله. وفي غمرة حيرتها قدم نعيم بن مسعود الأشجعي مكة فاتفقوا معه على أن يعطوه عشرين ناقة، مقابل أن يُخَذِّل أصحاب محمد!

ورجع الرجل وأخذ يشيع بأن أبا سفيان قد جمع الجموع وأجلب العرب وجاء محمد وأصحابه بما لا قبل لهم به! وأشار على أهل المدينة أن يبقوا في المدينة ولايخرجوا، لأنهم إن خرجوا فلن يفلت منهم أحد هذه المرة!

ونجح الرجل بغرس كراهية الخروج في قلوب الكثير من أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) ! وفرح المنافقون واليهود وتصوروا أن محمداً لن يفلت من هذه الجموع التي يصفها نعيم بن مسعود! ونجح نعيم بتثبيط بعض الصحابة وإلقاء الرعب في قلوبهم! قال عثمان بن عفان يصف حالته وأمثاله ممن أصغوا لنعيم: لقد رأيتنا وقد قذف الرعب في قلوبنا فما أرى أحداً له نية في الخروج».مغازي الواقدي: 1/387.

كان الرسول (صلی الله علیه و آله) يرصد آثار دعاية نعيم فجمع الناس وحثهم على الخروج، ثم قال: والذي نفسي بيده لأخرجن وإن لم يخرج معي أحد! عندئذ تشجع من وَهَنَ من المسلمين وخرج مع النبي1500 مقاتل ومعهم عشرة أفراس، فأعطى النبي (صلی الله علیه و آله) رايته لعلي بن أبي طالب (علیه السلام). وغاية المسلمين من الخروج كانت ملاقاة البطون على الموعد، ومع هذا تزودوا ببضائع، وأقاموا في بدر الصفراء ثمانية أيام ورجعوا بخير وفضل

ص: 166

من الله، وربح الدينار ديناراً.

أما أبوسفيان فقد أطلع قريش على الخطة التي رسمها لنعيم، وبيَّن لهم أن العام عام جدب، واقترح عليهم أن يسيروا يومين فيرجعوا، فخرجت البطون وهم ألفان، ومعهم خمسون فرساً، وانتهوا إلى مجنة فشربوا السويق وعادوا، بعد أن بلغهم خروج النبي (صلی الله علیه و آله). وقال صفوان بن أمية لأبي سفیان: قد والله نهيتك يومئذ أن تعد القوم، وقد اجترؤوا علينا ورأوا أنا قد أخلفناهم وإنما خلفنا الضعف عنهم! وأخذوا يعدون العدة لغزو النبي (صلی الله علیه و آله) فيما بعد».الواقدي: 1/384.

أقول: كان نعيم بن مسعود يسكن في المدينة، ولا بد أن يكون تثبيطه للصحابة استغرق أياماً فعمل النبي (صلی الله علیه و آله) لإحباطه، حيث ورد في نصوصه: «وصار يطوف فيهم حتى قذف الرعب في قلوب المسلمين ولم يبق لهم نية في الخروج واستبشر المنافقون واليهود». الصحيح من السيرة: 8/372.

لكن رواة السلطة لا يذكرون ذلك، لأنه يكشف الصحابة الذين جَبَّنوا المسلمين! وذكروا طرفاً منه في تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ.. راجع: الصحيح من السيرة: 8/362، ابن هشام: 3/697، الطبقات: 2/59، اليعقوبي:2/67، تفسير الطبري: 2/230، تفسير مقاتل: 1/204، الثعلبي: 3/209 والعجاب لابن حجر:2/793.

وروى ابن هشام: 3/698، قصيدة لحسان، وقصيدة لكعب بن مالك، وفيها:

وعدنا أبا سفيان بدراً، فلم نجد *** لميعاده صدقاً، وما كان وافيا

فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا *** لأبت ذميماً وافتقدت المواليا

تركنا به أوصال عتبة وابنه *** وعمراً أباجهل تركناه ثاويا

عصيتم رسول الله، أفٍّ لدينكم *** وأمركم الشيݘ الذي كان غاويا

فإني وإن عنفتموني لقائل *** فدى لرسول الله أهلي وماليا

أطعناه لم نعدله فينا بغيره *** شهاباً لنا في ظلمة الليل هاديا».

ص: 167

5- غزوة دومة الجندل

دُومة الجندل بضم الدال وبفتحه، هي مدينة الجوف، والآن محافظة في شمال المملكة السعودية. قال ابن هشام:3/699: «ثم غزا رسول الله (صلی الله علیه و آله) دومة الجندل في شهر ربيع الأول.. قال ابن إسحاق: ثم رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل أن يصل إليها، ولم يلق كيداً فأقام بالمدينة بقية سنته».

وهذا اختصار مخل لأنه رويَ أن الأكيدر ملك دومة الجندل وحاكمها من قبل هرقل الروم كان يجمع الجيش لغزو المدينة وكان يظلم «الضافطة» أي التجار جالبي البضائع، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) باغتهم فكان يسير بجيشه ليلاً ويكمن نهاراً ووصل إلى دومة الجندل، فهرب الأكيدر ومن جمعهم ولم يقابلوه، وغنم من مواشيهم وأموالهم، ورجع سالماً.

وأهم أهداف غزوة دومة الجندل: ردع الذين يتصورون أن قريشاً هزمت المسلمين في أحُد فصار بإمكانهم غزوهم. وردع الروم عن التفكير بحشد جيش لحاكم دومة الجندل ليغزو المدينة. وتقوية قلوب المسلمين وإفهامهم أن هزيمتهم في أحُد كانت نشازاً،وأن وعد الله تعالى لهم بالنصر والتمكين مازال قائماً، وسيأخذون بلاد كسرى وقيصر لامحالة! وسيأتي ذكرها في غزوة تبوك.

6- غزوة ذات الرقاع

في الصحيح من السيرة: 8/265، ملخصاً: «بلغ النبي (صلی الله علیه و آله) أن أنماراً وثعلبة وغطفاناً قد جمعوا جموعاً بقصد غزو المسلمين، فخرج ليلة السبت لعشر خلون من المحرم في أربع مئة وقيل في سبع مئة، حتى أتى وادي الشقرة من أرض غطفان من نجد فأقام بها يوماً، وبث السرايا فرجعوا إليه مع الليل وأخبروه أنهم لم يروا أحداً، فسار حتى أتى محالهم فلما عاينوهم هربوا إلى الجبال والأودية ولم يكن قتال. ورجع (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة فوصل إلى صرار يوم الأحد لخمس ليال بقين من المحرم. وهو بئر جاهلية على ثلاثة أميال من المدينة في طريق العراق. وكانت غيبته (صلی الله علیه و آله) خمس عشرة ليلة، وتسمى هذه

ص: 168

الغزوة أيضاً بغزوة الأعاجيب لما وقع فيها من أمور عجيبة، وتسمى أيضاً بغزوة محارب، وغزوة بني ثعلبة وغزوة بني أنمار. وقيل إنها في السنة الرابعة في شهر ربيع الآخر بعد غزوة بني النضير بشهرين وعشرين يوماً، وقيل في محرم، وقيل كانت في سنة خمس».

وفي إعلام الورى: 1/188 والمناقب: 1/170: «لقي بها جمعاً من غطفان ولم يكن بينهما حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضاً حتى صلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) صلاة الخوف ثم انصرف بالناس..وقيل إنما سميت بذلك لأن أقدامهم نقبت فيها، فكانوا يلفون على أرجلهم الخرق».

وفي الكافي: 8/127، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «نزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة على شفير واد، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه، فرآه رجل من المشركين والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل فقال رجل من المشركين لقومه: أنا أقتل محمداً! فجاء وشد على رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالسيف ثم قال: من ينجيك مني يا محمد؟ فقال: ربي وربك! فنسفه جبرئيل (علیه السلام) عن فرسه فسقط على ظهره! فقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخذ السيف وجلس على صدره، وقال: من ينجيك مني يا غورث؟ فقال جودك وكرمك يا محمد! فتركه فقام وهو يقول: والله لأنت خير مني وأكرم».

وفي الكافي: 3/456، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «صلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأصحابه في غزوة ذات الرقاع صلاة الخوف ففرق أصحابه فرقتين، أقام فرقة بإزاء العدو وفرقة خلفه فكبر وكبروا، فقرأ وأنصتوا وركع فركعوا وسجد فسجدوا، ثم استتم رسول الله قائماً وصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض، ثم خرجوا إلى أصحابهم فقاموا بإزاء العدو. وجاء أصحابهم فقاموا خلف رسول الله (صلی الله علیه و آله) فصلى بهم ركعة ثم تشهد وسلم عليهم فقاموا فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض».

وفي بصائر الدرجات/370: «عن جابر بن عبدالله قال: لما أقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) من

ص: 169

غزوة ذات الرقاع وهي غزوة بني ثعلبة غطفان، حتى إذا كان قريباً من المدينة إذا بعير حل يرقل حتى انتهى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فوضع جرانه على الأرض ثم خرخر فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): هل تدرون ما يقول هذا البعير؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إنه أخبرني أن صاحب عمل عليه حتى إذا أكبره وأدبره وأهزله أراد أن ينحره ويبيع لحمه! ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا جابر إذهب به إلى صاحبه فأتني به. فقلت: لا أعرف صاحبه. قال: هو يدلك. قال: فخرجت معه حتى انتهيت إلى بني واقف فدخل في زقاق فإذا بمجلس فقالوا: يا جابر كيف تركت رسول الله وكيف تركت المسلمين؟ قلت صالحون، ولكن أيكم صاحب هذا البعير؟ قال بعضهم: أنا، فقلت أجب رسول الله. قال: مالي؟ قلت: استعدى عليك بعيرك! قال: فجئت أنا وهو والبعير إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: إن بعيرك أخبرني أنك عملت عليه حتى إذا أكبرته وأدبرته وأهزلته أردت نحره وبيع لحمه. قال الرجل: قد كان ذلك يا رسول الله. قال: بعه مني. قال: بل هو لك يا رسول الله. قال: بل بعه مني، فاشتراه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم ضرب على صفحته فتركه يرعى في ضواحي المدينة، فكان الرجل منا إذا أراد الروحة والغدوة منحه رسول الله (صلی الله علیه و آله). فقال جابر: رأيته وقد ذهب عنه دبره وصلح»!

وروى ابن هشام: 3/692 هذه الغزوة بنحو ما تقدم، وروى ابن إسحاق قصة الجمل، قال جابر: «خرجت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف، فلما قفل رسول الله قال: جعلت الرفاق تمضي وجعلت أتخلف حتى أدركني رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: مالك يا جابر؟ قال قلت: يا رسول الله، أبطأ بي جملي هذا، قال: أنخه، قال: فأنخته، وأناخ رسول الله ثم قال: أعطني هذه العصا من يدك أو اقطع لي عصاً من شجرة، قال: ففعلت.قال: فأخذها رسول الله فنخسه بها نخسات، ثم قال: إركب، فركبت، فخرج والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة. قال: وتحدثت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال لي: أتبيعني جملك هذا يا جابر؟ قال قلت: يا رسول الله بل أهبه لك، قال: لا، ولكن بعنيه. قال قلت: فسُمنيه قال: قد أخذته بدرهم، قال قلت: لا، إذن تغبنني يا رسول الله، قال: فبدرهمين، قال قلت: لا، قال: فلم يزل يرفع لي

ص: 170

رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى بلغ الأوقية قال فقلت: أفقد رضيت يا رسول الله؟ قال: نعم، قلت: فهو لك، قال: قد أخذته، قال ثم قال: يا جابر تزوجت بعد؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله، قال: أثيباً أم بكراً؟ قال: قلت: لا بل ثيباً قال: أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك! قال قلت: يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعاً، فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن وتقوم عليهن، قال: أصبت إن شاء الله، أما إنا لو قد جئنا صراراً أمرنا بجزور فنحرت وأقمنا عليها يومنا ذاك، وسمعتْ بنا فنفضت نمارقها. قال: قلت: والله يا رسول الله مالنا من نمارق، قال: إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملاً كيساً، قال: فلما جئنا صراراً أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بجزور فنحرت وأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى رسول الله دخل ودخلنا، قال: فحدثت المرأة الحديث، وما قال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) قالت: فدونك فسمع وطاعة.

قال: فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله قال: ثم جلست في المسجد قريباً منه، قال وخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) فرأى الجمل فقال: ما هذا؟ قالوا: يا رسول الله، هذا جمل جاء به جابر، قال: فأين جابر؟ قال: فدعيت له، قال: فقال: يا بن أخي خذ برأس جملك، فهو لك، ودعا بلالاً فقال له: إذهب بجابر فأعطه أوقية.

قال: فذهبت معه فأعطاني أوقية وزادني شيئاً يسيراً.قال فوالله ما زال ينمى عندي ويرى مكانه من بيتنا، حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا، يعني يوم الحرة».

ص: 171

الفصل الحادي والخمسون: غزوة الأحزاب أو الخندق

1- تحالف أحزاب العرب واليهود ضد النبي (صلی الله علیه و آله)

سماها الله تعالى حرب الأحزاب،لأن أحزاب العرب واليهود تحالفوا فيها على غزو المدينة، لقتل النبي (صلی الله علیه و آله)، واستئصال بني عبدالمطلب!

كان ذلك في شهر شوال من السنة الرابعة، كما اختاره عدد من المؤرخين ومنهم صاحب الصحيح، وهو الأقرب، والمشهور أنها في السنة الخامسة. ويظهر أنها كانت في أواخر شوال، لأن محاصرة بني قريظة التي كان بعدها مباشرة لمدة أسبوعين، كانت في أواخر ذي القعدة وأوائل ذي الحجة.

وكانوا يحفرون الخندق من شهر رمضان فقد كان خوات بن جبير صائماً وأغمي عليه وهو يعمل في الخندق، فنزلت فيه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ.. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ. الكافي: 4/98.

وكان عدد جيش الأحزاب عشرة آلاف على أقل تقدير، وروي بضعاً وعشرين ألفاً، وكانوا عدة فرق: جيش قريش، وجيش هوازن، وبني سُلَيْم، وبني مرة، وبني أشجع، وبني أسد، ثم يهود قريظة في شرقي المدينة.

وكان عدد المسلمين المدافعين عن المدينة تسع مئة، إلى ألف مقاتل.

واستمر الحصار نحو شهر، حتى استطاع بعض فرسان المشركين بقيادة عمرو بن ود

ص: 172

العامري أن يعبروا الخندق، فبرز اليه علي (علیه السلام) وقتله وقتل بعض من عبر معه، وهرب الباقون.ثم أرسل الله عليهم ريحاً فاضطرب عسكرهم وانهزموا!

واتفقت المصادر على أن تجميع الأحزاب ضد النبي (صلی الله علیه و آله) فكرة يهودية، فبعد معركة بدر وأحُد، وإجلاء النبي (صلی الله علیه و آله) بني النضير لنقضهم ميثاق التعايش، ذهب حاخامات اليهود وزعماؤهم وفداً إلى مكة برئاسة الحاخام كعب بن أسد، وكان هو الذي وقع عهدهم مع النبي (صلی الله علیه و آله). «فطافوا على وجوه قريش ودعوهم إلى حرب النبي... فقالوا لقريش: نحن معكم حتى نستأصل محمداً..قال أبوسفيان: هذا الذي أقدمكم ونازعكم؟قالوا: نعم جئنا لنحالفكم على عداوة محمد وقتاله. قال أبوسفيان: مرحباً وأهلاً، أحبُّ الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد.

زاد في نص آخر قوله: ولكن لا نأمنكم إلا إن سجدتم لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا! قال النفر: فأخرج خمسين رجلاً من بطون قريش كلها أنت فيهم، وندخل نحن وأنت بين أستار الكعبة حتى نلصق أكبادنا بها، ثم نحلف بالله جميعاً: لايخذل بعضنا بعضاً، ولتكونن كلمتنا واحدة على هذا الرجل، ما بقي منا رجل! ففعلوا، فتحالفوا على ذلك وتعاقدوا، فاتعدوا لوقت وقَّتوه.

فقال أبوسفيان: يا معشر اليهود أنتم أهل الكتاب الأول والعلم، أخبرونا عما أصبحنا فيه نحن ومحمد، ديننا خير أم دين محمد؟ فنحن عُمار البيت وننحر الكوم «الناقة السمينة» ونسقي الحجيج ونعبدالأصنام؟

قالوا: اللهم أنتم أولى بالحق، إنكم لتعظمون هذا البيت،وتقومون على السقاية وتنحرون البدن، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم، فأنتم أولى بالحق منه. فأنزل الله في ذلك: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً. النساء: 51.

فلما قالوا ذلك لقريش نشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله. فخرجت اليهود حتى أتت غطفان، وقيس عيلان، وأخذت قريش في الجهاز، وسيرت في

ص: 173

العرب تدعوهم إلى نصرها، وألَّبوا أحابيشهم ومن تبعهم.

ثم خرجت اليهود حتى جاؤوا بني سُلَيْم، فوعدوهم يخرجون معهم إذا سارت قريش. ثم ساروا في غطفان فجعلوا لهم تمر خيبر سنة وينصرونهم ويسيرون مع قريش إلى محمد إذا ساروا، فأنعمت بذلك غطفان.

ولم يكن أحد أسرع إلى ذلك من عيينة بن حصن..وذكر البعض أن كنانة بن أبي الحقيق جعل نصف تمر خيبر لغطفان في كل عام»! الصحيح من السيرة:9/25.

وفي سيرة ابن هشام: 2/402: «قال ابن إسحاق: وكان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة: حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق أبو عمار، ووحوح بن عامر، وهوذة بن قيس».

أقول: لاحظ أن جولتهم شملت قبائل تهامة ونجد، وأنهم أعطوا للنجديين موسم ثمار خيبر أجرة على حربهم،كما تعهدوا أن يشاركوهم في المعركة.

وعندما وصل أبوسفيان بجيش الأحزاب إلى المدينة وحاصرها، تحرك اليهود في حصونهم، فقام كعب بنقض عهده مع النبي (صلی الله علیه و آله) ومزق صحيفته، وجمع رؤساء قومه وهم: الزبير بن باطا، وشاس بن قيس، وعزال بن ميمون، وعقبة بن زيد، وأعلمهم بما صنع من نقض العهد! «الصحيح من السيرة: 8/41» لكنهم جبنوا عن الخروج، فتصور أبوسفيان أنهم غدروا به، فساعد ذلك على هزيمته!

2- كانت قريش تجمع الأحزاب والنبي (صلی الله علیه و آله) يحفر الخندق

رُوِيَ أن سلمان الفارسي (رحمة الله) اقترح على النبي (صلی الله علیه و آله) أن يحفروا خندقاً حول المدينة لمنع الأحزاب من دخولها، فنزل جبرئيل (علیه السلام) وأمر النبي (صلی الله علیه و آله) بذلك فخطَّ مكان الخندق وأمر المسلمين بحفره. ففي رسائل المرتضى: 4/117: «أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بحفر الخندق وكان قد أشار بحفره سلمان الفارسي، فلما رأته العرب قالوا: هذه مكيدة فارسية. واسم الموضع الذي حفر فيه الخندق المذاد».

ورجح صاحب الصحيح من السيرة: 9/79 قول الواقدي بأن النبي (صلی الله علیه و آله) هو الذي

ص: 174

أشار بحفر الخندق، فاختلف فيه المسلمون، فتكلم سلمان عن الحكمة فيه، وأن الفرس يخندقون على مدنهم لصد هجوم العدو، فاقتنعوا بحفر الخندق.

ومن مصادرنا شرح الأخبار: 2/287 عن علي (علیه السلام) أن جبرئيل أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بحفره.

3- خطَّ النبي (صلی الله علیه و آله) مكان الخندق وقسَّم العمل فيه

قال في الصحيح من السيرة: 9/88، ملخصاً: إن النبي (صلی الله علیه و آله) ركب فرساً وخطَّ لهم موضع الخندق، ما بين جبل بني عبيد خَرْبَى إلى راتج، حسب قول الواقدي، وعند القمي: الخندق طولاً من أعلى وادي بطحان غربي الوادي مع الحرة إلى غربي مصلى العيد، ثم إلى مسجد الفتح، ثم إلى الجبلين الصغيرين اللذين في غربي الوادي. وكان طوله نحواً من خمسة آلاف ذراع وعرضه تسعة أذرع، وعمقه سبعة أذرع. وجعل له رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثمانية أبواب، على كل باب رجلاً من المهاجرين ورجلاً من الأنصار مع جماعة، يحفظونه من تسلل العدو.

وكان الخندق من الجهة الغربية الشمالية للمدينة، أما بقية الجهات فكان فيها حواجز طبيعية، تضاريس أو بيوت، يسهل منع العدو من النفوذ منها.

وجعل النبي (صلی الله علیه و آله) معسكره مقابل الخندق في سفح جبل سلع، فكان الجبل إلى يساره وخلفه، وعن يساره حرة الوبرة الوعرة، وعن يمينه حرة واقم الوعرة.

وتفاوتت الرواية في مدة الحفر ويبدو أنها نحو شهر، وقد عمل فيه المسلمون بسرعة ليتم قبل قدوم الأحزاب، وفرغوا منه قبل وصولهم بثلاثة أيام.

وقسَّم النبي (صلی الله علیه و آله) العمل فكان المهاجرون يحفرون من جانب راتج إلى ذباب، والأنصار يحفرون من ذباب إلى جبل بني عبيد، وجعل لكل قبيلة حداً، وجعل كل أربعين ذراعاً بين عشرة، وبدأ (صلی الله علیه و آله) بنفسه في حفر الخندق فأخذ معولاً فحفر في موضع المهاجرين وعلي (علیه السلام) ينقل التراب، حتى عرق النبي (صلی الله علیه و آله) وهو يقول: لا عيشَ إلا عيش الآخرة. اللهم اغفر للأنصار والمهاجرين.

ص: 175

فلما نظر الناس إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحفر، اجتهدوا في الحفر ونقلوا التراب، فلما كان في اليوم الثاني بكَّروا إلى الحفر، وكان (صلی الله علیه و آله) يحمل التراب على ظهره أو على عاتقه، ثم يجلس حتى يستريح، وجعل أصحابه يقولون: يا رسول الله نحن نكفيك فيقول: أريد مشاركتكم في الأجر. قال أبو واقد: ولقد رأيته يوماً بلغ منه فجلس، ثم اتكأ على حجر على شقه الأيسر.

وكان المسلمون في فقر شديد أيام حفر الخندق، حتى كان النبي (صلی الله علیه و آله) يشد على بطنه حجراً من الجوع.

وفي عيون أخبار الرضا: 1/43، عن علي (علیه السلام) قال: «كنا مع النبي (صلی الله علیه و آله) في حفر الخندق إذ جاءته فاطمة (علیها السلام) ومعها كسرة خبز، فدفعتها إلى النبي فقال النبي (صلی الله علیه و آله): ما هذه الكسرة؟ قالت: قرصاً خبزتها للحسن والحسين، جئتك منه بهذه الكسرة، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث»!

4- محاصرة الأحزاب للمدينة

أ. قال الله تعالى يصف جيش الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا. إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِي الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا. سورة الأحزاب 9-11.

في المناقب: 1/170: «إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ: أي من قبل المشرق. وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ: أي من المغرب.. فخرج إليه أبوسفيان بقريش، والحارث بن عوف في بني مرة، ووبرة بن طريف ومسعود بن جبلة في أشجع، وطليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد، وعيينة بن حصن الفزاري في غطفان وبني فزارة، وقيس بن غيلان وأبو الأعور السلمي في بني سُلَيْم. ومن اليهود حیي بن أخطب، وكنانة بن الربيع، وسلام بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس الوالي في رجالهم، فكانوا ثمانية عشر ألف رجل، والمسلمون في ثلاثة آلاف. وكان الكفار على الخمر والغناء والمدد والشوكة، والمسلمون كأن على رؤسهم

ص: 176

الطير لمكان عمرو! والنبي جاثٍ على ركبتيه باسط يديه، باكية عيناه، ينادي بأشجى صوت: يا صريخ المكروبين يا مجيب دعوة المضطرين، إكشف همي وكربي، فقد ترى حالي».

وفي الصحيح من السيرة: 9/178ملخصاً: «ذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرساً. وقال ابن إسحاق كان المسلمون سبع مئة،وقال البخاري كانوا ألفاً أو نحوها، ونرجح قول ابن إسحاق للأمور التالية:

1 - قصة إطعام جابر لأهل الخندق جميعاً وكانوا سبع مئة رجل أو ثمان مئة، أو ألف رجل.

2 - روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنهم تسع مئة رجل، وقد تكون تسع تصحيفاً لسبع.

3- روي أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: أكتبوا لي من تلفظ بالإسلام فكتب حذيفة ألفاً وخمس مئة رجل، وكان هذا عام الحديبية. وما جرى في الخندق يوضح أن عدد سكان المدينة لايصل إلى الخمسة آلاف نسمة. ووافى المشركون المدينة وأحاطوا بها واختلفت الأقوال في عددهم، فقال المسعودي: سارت إليه قريش وغطفان وسُلَيْم وأسد وأشجع وقريظة ونضير، وغيرهم من اليهود، فكان عدة الجميع أربعة وعشرين ألفاً، منها قريش وأتباعها أربعة آلاف. وقال ابن شهرآشوب: كانوا ثمانية عشر ألف رجل.. وقال المسعودي إنه كان معهم ثلاث مئة فرس وألف وأربع مئة بعير، وقائدهم أبوسفيان صخر بن حرب».

ب. قال في شرح الأخبار: 1/292: «ونظر المشركون إلى الخندق فتهيبوا القدوم عليه ولم يكونوا قبل ذلك رأوا مثله، وقالوا إن هذه لمكيدة ماكانت العرب تعرفها! فجعلوا يدورون حوله بعساكرهم وخيلهم ورجلهم ويدعون المسلمين: ألا هلم للقتال والمبارزة، فلا يجيبهم أحد إلى ذلك ولا يرد عليهم فيه شيئاً. ولزموا مواضعهم كما أمرهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد عسكروا في الخندق، وأظهروا العدة ولبسوا السلاح ووقفوا في مواقفهم، وتهيب المشركون أن يلجوا الخندق عليهم».

ص: 177

وجعلوا معسكراتهم بعيدة عن الخندق نسبياً حتى لايكونوا في مرمى المسلمين.

«أقبلت قريش حتى نزلت بين الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد». البحار:20/199.

«وكان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبوسفيان بن حرب في أصحابه يوماً، ويغدو خالد بن الوليد يوماً، ويغدو عمرو بن العاص يوماً، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يوماً، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوماً، ويغدو ضرار بن الخطاب الفهري يوماً، فلا يزالون يجيلون خيلهم، ويتفرقون مرة ويجتمعون مرة أخرى، ويناوشون المسلمين ويقدمون رماتهم فيرمون، وإذْ أبوسفيان في خيل يطيفون بمضيق من الخندق يطلب مضيقاً من الخندق، فرماهم المسلمون حتى رجعوا.. وكان أسيد بن حضير يحرس في جماعة، فإذا عمرو بن العاص في نحو المائة يريدون العبور من الخندق فرماهم حتى ولوا، وكان المسلمون يتناوبون الحراسة وكانوا في قَرٍّ شديد وجوع. وكان عمرو بن العاص وخالد كثيراً ما يطلبان غرة ومضيقاً من الخندق يقتحمانه، فكانت للمسلمين معهما وقائع في تلك الليالي..

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يشارك في دفع المشركين عندما يقصدون الخندق، ويوجه المسلمين إلى رميهم بالسهام أو الحجارة فيرجعون. وكان رماة المسلمين على أبواب الخندق وفي نقاط مناسبة، وعمدة سلاحهم الحجارة، وقد جمعوها أيام حفر الخندق: «ويخرج المهاجرون والأنصار في نقل التراب وعلى رؤوسهم المكاتل، ويرجعون بها بعد إلقاء التراب منها، وقد ملأوها حجارة من جبل سلع، وهي أعظم سلاحهم، يرمون بها». إمتاع الأسماع: 1/225.

«ومضى على الفريقين قريب من شهر، لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة، حتى أنزل الله النصر». سعد السعود لابن طاووس/138.

ج. وقع حدثان في أيام الحصار أثَّرا على معنويات المسلمين: الأول: نقض بني قريظة عهدهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) وانضمامهم عملياً إلى قريش. والثاني: إصابة سعد بن معاذ

ص: 178

بسهم من المشركين إصابة شديدة! فقد كانت قريش ومن معها من الأحزاب يحاصرون المدينة من غربيها، وكانت مساكن بني قريظة شرقي المدينة «حَرَّة بني قريظة» فكانوا مع الأحزاب طوقاً شبه كامل عليها، وكان خطر بني قريظة يعادل خطر بقية الأحزاب! قالت أم سلمة رضی الله عنها: «شهدت معه مشاهد فيها قتال وخوف: المريسيع، وخيبر، وكنا بالحديبية، وفي الفتح، وحنين، ولم يكن من ذلك أتعب لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا أخوف عندنا من الخندق! وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة «الطوق» وأن قريظة لا نأمنها على الذراري، فالمدينة تحرس حتى الصباح، نسمع تكبير المسلمين فيها حتى يصبحوا».إمتاع الأسماع: 1/235.

لذلك أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بتجميع النساء والأطفال في«الآطام» أي المباني المحصنة المرتفعة، قال في الصحيح: 9/269: «وكانت حراستهم تتركز على الأمور الرئيسية وهي: 1- مركز قيادة النبي (صلی الله علیه و آله). 2 – العسكر. 3- الخندق. 4 – المدينة.5- الرصد لتحركات العدو. 6- النساء والذراري وتعاهدهم في الآطام. 7 - أبواب الخندق.

قال النويري وغيره: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يبعث سلمة بن أسلم في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاث مئة يحرسون المدينة ويظهرون التكبير، وذلك أنه كان يخاف على الذراري من بني قريظة. وكان عباد بن بشر على حرس قبة رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع غيره من الأنصار يحرسونه كل ليلة. وكانت المدينة تحرس حتى الصباح يسمع فيها التكبير حتى يصبحوا».والطبقات: 2/67.

وكان مسؤول الحراسة والعسكر كله علي (علیه السلام)، ففي تفسير القمي: 2/186: «وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمر أصحابه أن يحرسوا المدينة بالليل، وكان أميرالمؤمنين (علیه السلام) على العسكر كله، بالليل يحرسهم، فإن تحرك أحد من قريش نابذهم».

وعندما نقض بنو قريظة عهدهم ومزقوا نسخته وأعلنوا الحرب على المسلمين: «كان الخوف على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشد من الخوف من قريش وغطفان.. وهمت بنو قريظة أن يغيروا على المدينة ليلاً، وبعث حيي بن أخطب إلى قريش أن يأتيه منهم ألف رجل ومن غطفان ألف، فيغيروا بهم فجاء الخبر

ص: 179

بذلك إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فعظم البلاء».«الإمتاع: 1/233». فأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) اليهم «سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وخوات بن جبير، وعبدالله بن رواحة يستخبرون الأمر، فوجدوهم مكاشفين بالغدر والنيل من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فشاتمهم سعد بن معاذ وكانوا أحلافه وانصرفوا، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمرهم إن وجدوا الغدر حقاً أن يخبروه تعريضاً لئلا يَفُتُّوا في أعضاد الناس».الصحيح: 9/197.

ورفض ثلاثة أشخاص من بني قريظة نقض العهد وخرجوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأسلموا وكانوا معه، وهم «بنو سَعْنة»: أسد وأسيد وثعلبة.

الصحيح: 8/138.

«وأرسلت قريظة إلى أبي سفیان ومن معه من الأحزاب يوم الخندق، أن أثبتوا فإنا سنغير على بيضة المسلمين من ورائهم». اللمع للسيوطي/93.

وفي الإمتاع: 1/241، أن أبا سفيان ذهب إلى بني قريظة يحثهم على مهاجمة المدينة، فأبوا أن يقاتلوا حتى يأخذوا سبعين رجلاً من قريش وغطفان رهاناً!

وأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) زيد بن حارثة في ثلاث مئة، وأسلم بن حريش في مئتين تتقدمهم خيل المسلمين وأمرهم أن يظهروا التكبير، وشدد على حراسة المدينة من جهة قريظة، وكان يرسل مجموعات الإستطلاع والكمائن، فخافت قريظة!

ورووا قصة صفية عمة النبي (صلی الله علیه و آله) عندما كانت النساء والذراري في الآطام، قالت: «فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله والمسلمون في نحور عدوهم لايستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آتٍ، قالت فقلت: يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله وأصحابه فانزل إليه فاقتله، قال: يغفر الله لك يا ابنة عبدالمطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا! قالت: فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئاً احتجزت ثم أخذت عموداً ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته. قالت: فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان إنزل

ص: 180

إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل. قال: مالي بسلبه من حاجة».ابن هشام: 3/711 وأمالي الطوسي/261.

د. كان الوقت يعمل لصالح المسلمين بسبب فقدان الأحزاب مصدر تموين جيشهم وعلف خيلهم وإبلهم، وبسبب تعدد قياداتهم واختلاف أمزجتهم، فالوقت آخر الصيف وقد أمر النبي (صلی الله علیه و آله) أن يجمعوا غلالهم ولا يتركوا شيئاً خارج المدينة.

قال في إمتاع الأسماع: 1/223: «خرجت قريش ومن تبعها من أحابيشها في أربعة آلاف وعقدوا اللواء في دار الندوة، وحمله عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وقادوا معهم ثلاث مائة فرس وكان معهم ألف بعير وخمس مائة بعير.

ولاقتهم سُلَيْم بمر الظهران في سبع مائة يقودهم سفيان بن عبد شمس وهو أبو أبي الأعور السلمي، الذي كان مع معاوية بن أبي سفیان بصفين، وخرجت بنو أسد وقائدها طليحة بن خويلد الأسدي، وخرجت بنو فزارة في ألف يقودهم عيينة بن حصن، وخرجت أشجع في أربع مائة يقودهم مسعود بن رحيلة.. وخرجت بنو مرة في أربع مائة يقودهم الحارث بن عوف...

وأقبلت قريش في أحابيشها ومن تبعها من بني كنانة حتى نزلت وادي العقيق، ونزلت غطفان بجانب أحد ومعها ثلاث مائة فرس، فسرحت قريش ركابها في عضاة وادي العقيق، ولم تجد لخيلها هناك شيئاً إلا ما حملت من علفها وهو الذرة. وسرحت غطفان إبلها إلى الغابة في أثلها وطرفائها. وكان الناس قد حصدوا زرعهم قبل ذلك بشهر، وأدخلوا حصادهم وأتبانهم. وكادت خيل غطفان وإبلها تهلك من الهزل، وكانت المدينة إذ ذاك جديبة».

ه. قويت معنويات الأحزاب بنقض بني قريظة عهدهم وإصابة سعد، فكانوا ينتظرون حملة بني قريظة من الشرق، ويطمعون بعبور الخندق من الغرب، فيطبقوا على المسلمين ويستأصلوا النبي (صلی الله علیه و آله) كما زعموا! وقد أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) نصف جيشه أو أكثر لحراسة المدينة من بني قريظة، وبقي في من

ص: 181

معه يحرسون الخندق الذي يبلغ طوله نحو ثلاث كيلو مترات، ويصدون محاولات الأحزاب لعبوره. وكان بعضهم ضعافاً وبعضهم ينامون ولذا كان النبي (صلی الله علیه و آله) يشارك بنفسه في حراسة الخندق.«الصحيح: 9/15». وفي ليلة رد محاولة للمشركين ثم رجع ونام: «وإذا بضرار بن الخطاب وعيينة بن حصن في عدة، فركب (صلی الله علیه و آله) بسلاحه ثانياً فرماهم المسلمون حتى ولوا وفيهم جراحات». الإمتاع: 1/233.

5- فرَّ أكثر المسلمين في حرب الخندق!

ووبَّخَهم الله في آيات الأحزاب لخوفهم ونقص إيمانهم ويقينهم، وهدد الذين فروا منهم ونقضوا عهدهم بأن لايفروا. وسخرت الآيات من مرضى القلوب «المنافقين السياسيين» لأنهم قالوا: مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا! ومدح المؤمنين الصادقين الذين لم ترتجف قلوبهم، لأنهم على يقين بالنصر: قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ.

لقد تجمعت عوامل على المسلمين: منها كثرة جيش الأحزاب، ومحاولاتهم المستمرة للنفوذ من الخندق. وانضمام بني قريظة لهم، وتهديدهم بالهجوم على المدينة. والأزمة الإقتصادية الشديدة عليهم. وإصابة سعد بن معاذ (رحمة الله). وفعالية قريش واليهود داخل مجتمع المسلمين.

لكن أكثر ما أضعفهم أن بعضهم أخذ يستأذن النبي (صلی الله علیه و آله) ليتفقد بيته بحجة أنه قريب من قريظة فيذهب ولايعود! وبعضهم هرب بدون استئذان!

هذه هي الصورة الصحيحة للصحابة في غزوة الأحزاب، لكن رواة قريش أخفوا مرضى القلوب، والكاذبين في الإستئذان، والمتخلفين عن العودة. وفرار هؤلاء مخفي لكنه فرار كامل الشروط، فضحه الله بقوله: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً، فسماه فراراً بأشد أسمائه!

وفي حديث ابن عمر، قال: «بعثني خالي عثمان بن مظعون لآتيه بلحاف فأتيت النبي فاستأذنته وهو بالخندق فأذن لي وقال: من لقيت فقل لهم إن رسول الله يأمركم أن ترجعوا، وكان ذلك في برد شديد، فخرجت ولقيت الناس فقلت لهم إن رسول الله

ص: 182

يأمركم أن ترجعوا. قال: فلا والله ما عطف عليَّ منهم اثنان أو واحد». رواه الطبراني في الأوسط: 5/275 وصححه في مجمع الزوائد: 6/135.

وفي حديث حذيفة، ورواه الحاكم: 3/31 وصححه، ووثقه مجمع الزوائد: 6/136: «إن الناس تفرقوا عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليلة الأحزاب فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً، فأتاني رسول الله وأنا جاثم من البرد، وقال: يا ابن اليمان قم فانطلق إلى عسكر الأحزاب فانظر إلى حالهم. قلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما قمت إليك إلاحياء منك من البرد».

وفي حديث عائشة، الذي رواه أحمد: 6/141 والزوائد: 6/138 وحسَّنه، وصفت اختباء جماعة من الصحابة في حديقة، منهم عمر وطلحة، وذكرت أن عمر كان يتخوف من الهزيمة والفرار العام! قالت: «خرجت يوم الخندق أقفو آثار الناس، قالت فسمعت وئيد الأرض ورائي يعني حس الأرض، قالت فالتفت فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحرث بن أوس يحمل مجنه، قالت فجلست إلى الأرض فمر سعدٌ وعليه درع من حديد قد خرجت منها أطرافه فأنا أتخوف على أطراف سعد، قالت وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم، قالت: فمر وهو يرتجز ويقول: ليت قليلاً يدرك الهيجا حمل ما أحسن الموت إذا حان الأجل!

قالت:«فقمت فاقتحمت حديقة فإذا فيها نفر من المسلمين، وإذا فيهم عمر بن الخطاب، وفيهم رجل عليه سبغة له يعني مغفراً فقال عمر: ما جاء بك، لعمري والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء «هزيمة» أو يكون تَحَوُّز «فرار عام»!

قالت: فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت لي ساعتئذ فدخلت فيها. قالت فرفع الرجل السبغة عن وجهه فإذا طلحة بن عبيدالله فقال: يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم، وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله عزوجل»!

فحديث ابن عمر يقول إنهم عصوا أمر النبي (صلی الله علیه و آله) وظلوا في المدينة إلا من ندر! وحديث حذيفة يقول إنهم تفرقوا عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولم يبق معه إلا

ص: 183

اثنا عشر! وحديث عائشة يقول إنها خرجت من الحصن الذي كان فيه النساء وهو حصن بني حارثة في المدينة، «ابن هشام: 3/710»وهو في جهة العوالي وليس في جهة الخندق «الحاكم: 4/50»فمشت باتجاه الخندق فرأت سعداً ذاهباً مع جماعته، فحادت عن الطريق ودخلت في بستان هناك، فوجدت جماعة فيهم عمر وطلحة مختبئين! وكان عمر يتحدث عن احتمال الهزيمة العامة وفرار المسلمين! فيجيبه طلحة: أكثرت الكلام عن الفرار، ونحن لسنا هاربين، بل متحيزون إلى الله!

وينبغي التذكير بأن آية المتسللين: قدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.نزلت في الفارين من حفر الخندق أو المرابطة عنده، وهي شاملة لهم.

يضاف إلى ما تقدم، شهادة البيهقي في سننه: 9/31:«فلما اشتد البلاء على النبي وأصحابه نافق ناس كثير وتكلموا بكلام قبيح، فلما رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما فيه الناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم ويقول: والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة والبلاء، فإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمناً وأن يدفع الله عزوجل مفاتح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصرولتنفقن كنوزهما في سبيل الله! فقال رجل ممن معه لأصحابه: ألاتعجبون من محمد يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق وأن يغنيهم كنوز فارس والروم، ونحن ههنا لا يأمن أحدنا أن يذهب إلى الغائط، والله لما يعدنا إلا غرواً! وقال آخرون ممن معه: إئذن لنا فإن بيوتنا عورة وقال آخرون: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا. وسمى ابن إسحاق القائل الأول: معتب بن قشير، والقائل الثاني: أوس بن قيظي»! وهي تسمية سياسية للتغطية على القائل الحقيقي!

ويضاف إلى ما تقدم شهادة القمي في تفسيره: 2/186، قال: «فلما طال على أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) الأمر واشتد عليهم الحصار وكانوا في وقت برد شديد وأصابتهم مجاعة، وخافوا من اليهود خوفاً شديداً، تكلم المنافقون بما حكى الله عنهم. ولم يبق أحد من أصحاب رسول الله إلا نافق إلا القليل! وقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخبر أصحابه أن العرب تتحزب ويجيئون من فوق وتغدر اليهود ونخافهم من أسفل، وأنه

ص: 184

ليصيبهم جهد شديد ولكن تكون العاقبة لي عليهم، فلما جاءت قريش وغدرت اليهود قال المنافقون: مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا، وكان قوم لهم دور في أطراف المدينة فقالوا يا رسول الله تأذن لنا أن نرجع إلى دورنا، فإنها في أطراف المدينة، وهي عورة ونخاف اليهود أن يغيروا عليها.

وقال قوم: هلموا فنهرب ونصير في البادية ونستجير بالأعراب، فإن الذي كان يعدنا محمد كان باطلاً كله».

6- مرضى القلوب يتآمرون على النبي (صلی الله علیه و آله) مع الأحزاب

كان مرضى القلوب الذين حمَّلوا النبي (صلی الله علیه و آله) هزيمة أحُد لأنه لم يشركهم في القيادة: لوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا! كانوا يأتمرون لحل القضية بزعمهم:

1- فأشاعوا فكرة المصالحة مع النجديين بإعطائهم ثلث ثمار المدينة سنوياً لينصرفوا، وقد أحبطها النبي (صلی الله علیه و آله) باستشارة الزعيمين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وهو يعرف أنهما يرفضانها، فرفضاها وانتهت.

وذكر بعضهم أن زعيمي النجديين عيينة والحارث جاءا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وطلبا منه ذلك، «ابن شيبة: 8/501» وكذب بعضهم على النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه هو الذي بعث لهما!«الطبري: 2/238». وأنه كتب عهداً بذلك لعيينة بن حصن رئيس هوازن، ثم تراجع عنه! الصحيح من السيرة 9/242.

2- طرح بعضهم تسليم النبي (صلی الله علیه و آله) لقريش فقال: «والله إن ندفع محمداً إليهم برمته نسلم من ذلك»! «كتاب سُلَيْم/249» لكن ذلك لم يكن ممكناً لهم!

3- كان مرضى القلوب على صلة بأبي سفیان، وطلب منهم أن يأخذوا نقطة ضعيفة من الخندق ويسهلوا عبورهم منها، فإذا عبروا استغلوا الإضطراب في جيش النبي (صلی الله علیه و آله) وردموا الثغرة ليعبر جيش الأحزاب، ويقضوا على النبي (صلی الله علیه و آله) !

ومن المؤشرات على ذلك أن عمرو بن ود وجماعته، أمروا جنودهم أن يتهيؤوا للقتال غداً قبل محاولتهم عبور الخندق، لأنهم كانوا واثقين من نجاح عبورهم!

ص: 185

«مروا بمنازل بني كنانة فقالوا: تهيؤوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم». الإرشاد: 19/7 وابن هشام: 3/705.

ويدل عليه أنه بمجرد أن عبر فرسانهم ركز النبي (صلی الله علیه و آله) اهتمامه على الثغرة! فأمر علياً (علیه السلام) أن يبادر بسرعة فيأخذها، فإن اعترض أحد من «المسلمين» فليقتله!

قال القاضي النعمان في شرح الأخبار: 1/294: «وتسلل عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أكثر أهل المدينة فدخلوا بيوتهم كالملقين بأيديهم، فاقتحم عمرو بن عبد ود وأصحابه الخندق على المسلمين وهم على هذه الحال، فلما نظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى ذلك وأن خيلهم جالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وقربوا من مناخ رسول الله، تخوف أن يمدهم سائر المشركين فيقتحموا الخندق فدعى علياً (علیه السلام) فقال: يا علي إمض بمن خفَّ معك من المسلمين فخذ عليهم الثغرة التي اقتحموا منها، فمن قاتلكم عليها فاقتلوه! فمضى علي (علیه السلام) في نفر جمعوا معه يريدون الثغرة، وقد كان المشركون هموا أن يلجوها، فلما رأوهم وهم أقل من الذين اقتحموها منهم توقفوا لينظروا ما يكون من أمر أصحابهم معهم، وعطف عليهم عمرو بن عبد ود بمن كان معه تعنق بهم خيلهم، حتى قربوا منهم».

كان مسؤول المنطقة التي فيها الثغرة أسيد بن حضير الذي صار فيما بعد من أبطال السقيفة، فقد روى الواقدي أن الأحزاب حاولوا العبور منها وأن سلمان نظر اليها وقال لأسيد: «إن هذا مكان من الخندق متقارب، ونحن نخاف أن تطفره خيلهم، وكان الناس عجلوا في حفره، وبادروا فباتوا يوسعونه حتى صار كهيئة الخندق». الصحيح: 9/279.

كان عرض الخندق تسعة أذرع وعمقه سبعة أذرع، والذراع يساوي نصف متر أو أكثر،«الأوزان والمقادير/56» فيكون عرضه نحو خمسة أمتار وعمقه ثلاثة أمتار ونصفاً. ومن الصعب أن يقفز الفرس هذه المسافة، فيحتمل أن يكون أحدٌ ردم جانب الخندق، ولا يكون ذلك إلا بغياب الحراسة، أو تواطؤ الحراس! وهذا يرجح وجود مؤامرة لعبور الأحزاب فبادر النبي (صلی الله علیه و آله)، وأمر علياً بقتل من يعترض عمله فيها! ويؤيد ذلك أن العبور كان بعد إصابة سعد بن معاذ (رحمة الله).

ص: 186

7- يقين النبي (صلی الله علیه و آله) بالنصر في غزوة الأحزاب وغيرها

فعندما ضرب النبي (صلی الله علیه و آله) الصخرة في الخندق وخرج منها ثلاث برقات، قال: «لقد فتح الله عليَّ في ضربتي هذه كنوز كسرى وقيصر! فقال أحدهما لصاحبه: يعدنا بكنوز كسرى وقيصر، وما يقدر أحدنا أن يخرج يتخلى». الكافي: 8/216.

وعندما بلغه أن قريظة نقضوا العهد وأعلنوا الحرب قال: «الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين، أو قال: أبشروا بنصر الله وعونه». الصحيح من السيرة: 9/199.

وورد في تفسير قوله تعالى: وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ.أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان أخبرهم أنه سيتظاهر عليهم الأحزاب ووعدهم الظفر بهم، فلما رأوهم تبين لهم مصداق قوله، وكان ذلك من معجزاته (صلی الله علیه و آله).البحار:20/195.

وفي الكافي: 2/561 2، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «كان دعاء النبي (صلی الله علیه و آله) ليلة الأحزاب: يا صريخ المكروبين، ويا مجيب دعوة المضطرين، ويا كاشف غمي اكشف عني غمي وهمي وكربي، فإنك تعلم حالي وحال أصحابي، واكفني هول عدوي، فإنه لايكشف ذلك غيرك». ورويت له (صلی الله علیه و آله) أدعية أخرى.

وفي مستدرك الوسائل: 5/281: «دعا النبي (صلی الله علیه و آله) على الأحزاب يوم الإثنين ويوم الثلاثاء، واستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر والعصر، فعرف السرور في وجهه قال جابر: فما نزل بي أمر غائض وتوجهت تلك الساعة إلا عرفت الإجابة».

8- من معجزات النبي (صلی الله علیه و آله) في غزوة الأحزاب

أ- منها: أن سلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن وجماعة، كانوا يعملون في أربعين ذراعاً، فخرجت عليهم صخرة كسَّرت معاولهم: «فصعد سلمان إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وكان في قبة تركية، فأخبره فهبط معه وبطنه معصوب بحجر من الجوع، ورأى شدة المكان فأخذ المعول وضربها ضربة فصدعها، وبرق منها برق أضاء بين لابتي المدينة، فكبَّر تكبيرة وكبر المسلمون، ثم ضربها ثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك، فصدعها. فأخذ بيد سلمان ورقى، فسألوه فقال: إنه بالبرقة

ص: 187

الأولى أضاءت له قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبره جبرئيل بأن أمته ظاهرة عليها، وفي الثانية أضاءت له القصور الحمر من أرض الروم، وأخبره جبرئيل بأن أمته ظاهرة عليها، وفي الثالثة أضاءت له قصور صنعاء وأخبره جبرئيل بأن أمته ظاهرة عليها! فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صدق!

فقال المنافقون: ألا تعجبون من محمد يمنيكم ويعدكم الباطل وأنتم تحفرون الخندق من الفَرَق لاتستطيعون أن تبرزوا!

وفي الخصال/390: «ثم ضرب الثالثة ففلق بقية الحجر وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا!».

ب- ومنها: قال جابر بن عبدالله: اتفقت مع زوجتي سهيلة بنت مسعود الأنصارية، أن تصلح ما عندهما وهو مد من شعير وشاة غير سمينة ثم ندعو النبي (صلی الله علیه و آله) إلى الطعام، فسأله النبي (صلی الله علیه و آله) عما عنده فأخبره. فقال (صلی الله علیه و آله) كثير طيب، ثم دعا أهل الخندق جميعاً وقال لهم: إن جابراً قد صنع لهم سوراً فأقبلوا معه! قال جابر: فقلت والله إنها الفضيحة! فأتيت المرأة فقلت لها قد جاءك رسول الله وأصحابه أجمعون! فقالت: أنت دعوتهم أو هو دعاهم؟ فقلت: بل هو دعاهم قالت: دعهم هو أعلم!فأكل الجميع حتى شبعوا وقال (صلی الله علیه و آله): كلوا واهدوا فإن الناس أصابتهم مجاعة شديدة، فأكلنا وأهدينا فلما خرج رسول الله ذهب ذلك». الصحيح: 9/148.

ج- ومنها: قال جابر: «اشتد علينا في حفر الخندق كدانة «صخرة» فشكونا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو، ثم نضح الماء على تلك الكدانة فعادت كالكندر«لينة»». المناقب: 1/103.

د- ومنها: أن ابنة بشير بن سعد جاءت بحفنة تمر إلى أبيها وخالها عبدالله بن رواحة، فرآها النبي (صلی الله علیه و آله) وهي تلتمس أباها وخالها، فأخذها منها في كفه فما ملأتها، ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب، ثم أمر فاجتمعوا فجعلوا يأكلون منها حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب!

البحار: 20/247.

ص: 188

ه- ومنها: أن أم متعب الأنصارية أرسلت إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بقعبة فيها حيْس، وهو في قبته مع أم سلمة فأكلت حاجتها، ثم خرج بالقعبة فنادى مناديه: هلمَّ إلى عشائه، فأكل أهل الخندق حتى نهلوا، وهي كما هي! الصحيح: 9/151.

و- ومنها: «لما نزلت الأحزاب على المدينة عبأ أبوسفيان سبعة آلاف رامٍ كوكبة واحدة، ثم قال: إرموهم رشقاً واحداً، فوقع في أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) سهام كثيرة فشكوا ذلك إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فلوح إلى السهام بكمه، ودعا بدعوات فهبت ريح عاصفة فردت السهام إلى القوم، فكل من رمى سهماً عاد السهم إليه، فوقع فيه وجرحه». البحار: 18/64.

ز. ومنها: قال جابر: «خرج النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المسلمين وقال: جدوا في الحفر، فجدوا واجتهدوا ولم يزالوا يحفرون حتى فرغ الحفر، والتراب حول الخندق تل عال فأخبرته بذلك فقال: لا تفزع يا جابر فسوف ترى عجباً، قال وأقبل الليل ووجدت عند التراب جلبة وضجة عظيمة..فلما أصبحت لم أجد من التراب كفاً واحداً». المناقب: 1/115.

9- جهاد علي (علیه السلام) في غزوة الأحزاب

جاء في خطبة الزهراء (علیها السلام) بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) تخاطب الصحابة: «حتى استنقذكم الله برسوله بعد اللتيا والتي، وبعد أن مُنِيَ ببُهْم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها،فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويطفئ عادية لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، وأنتم في رفاهية فكهون آمنون وادعون، حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه أطلع الشيطان رأسه فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين»! الطرائف/264.

فقد كان علي (علیه السلام) عضد النبي (صلی الله علیه و آله) في الشدائد، حتى إذا جاء الرخاء وجدته مشغولاً في مهام النبي (صلی الله علیه و آله)، ومعه نفر قليل من الصحابة، أما غيرهم فكان هانئاً في ثمار جهودهم وجهادهم! وفي غزوة الأحزاب كان حامل راية النبي (صلی الله علیه و آله) أي

ص: 189

المسؤول عن كل جيشه، فكان ينفذ خطته في حفر الخندق، ويجمع أدوات الحفر من المدينة، ويستعير عدداً منها من يهود قريظة!«الصحيح: 9/103». وكان يُسَرِّعَهم في الحفر ليكتمل الخندق قبل وصول جيوش الأحزاب، ولا بد أنه (علیه السلام) كان يعمل في الحفر بقدر عشرة عمال أقوياء وأكثر، لأنهم رووا أن سلمان (رحمة الله) كان يعمل بقدر عشرة أشخاص، فأصابوه بالعين!

وعند وصول جيوش الأحزاب، باشر علي (علیه السلام) مهمته في حراسة الأبواب الثمانية للخندق، وتفقد نقاط الضعف التي يمكن أن يطمع العدو بالعبور منها، وأعد رماة السهام والأحجار لمواجهة أي مجموعة من العدو تقترب من الخندق، وكان يشارك في رد محاولاتهم عندما يكون في جبهة الخندق.

وفي نفس الوقت كان يدير الجبهة الشرقية على المدينة، جبهة بني قريظة، بعد أن نقضوا عهدهم وهددوا المدينة!ولا بد أنه عاش مس الجوع في تلك الأيام وكتمه كما عاشه النبي (صلی الله علیه و آله) وكتمه ثلاثة أيام حتى شد على بطنه حجر المجاعة! ولا بد أن علياً (علیه السلام) فرح ودمعت عيناه عندما عرف أن فاطمة (علیها السلام) جاءت للنبي (صلی الله علیه و آله) بنصف قرص شعير، «عيون أخبار الرضا: 1/43».ولا نعلم هل أكل علي (علیه السلام) منها عندما عرض عليه النبي (صلی الله علیه و آله) أم بقي طاوياً؟! لكن المؤكد أن الله يعينه على جوعه وجهده!

10- شهادة سعد بن معاذ بسهم من المشركين

كان سعد بن معاذ رئيس الأوس بل رئيس الأنصار، وهو مسلم قوي فدائي لرسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي أجابه عندما استشارهم في المضي إلى معركة بدر، فقال: «بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنا قد آمنا بك وصدقناك، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك»! تفسير القمي: 1/259.

وكان سعد (رحمة الله) طويلاً جميلاً، وعاش سبعاً وثلاثين سنة فقط.الطبقات: 3/433. وصلى عليه النبي (صلی الله علیه و آله) وقال: «لقد وافى من الملائكة سبعون ألفاً وفيهم جبرئيل يصلون عليه، فقلت له: يا جبرئيل بما يستحق صلاتكم عليه؟ فقال: بقراءته قل هو الله أحد قائماً

ص: 190

وقاعداً، وراكباً وماشياً، وذاهباً وجائياً»! الكافي: 2/622.

وكان سعد محباً للنبي (صلی الله علیه و آله) وعترته:، بصيراً بخطط قريش ضدهم، ولذا قال فيه النبي (صلی الله علیه و آله): «يرحمك الله يا سعد فلقد كنت شجى في حلوق الكافرين! لو بقيت لكففت العجل الذي يراد نصبه في بيضة المسلمين كعجل قوم موسى! قالوا: يا رسول الله أو عجلٌ يراد أن يتخذ في مدينتك هذه! قال: بلى والله يراد! ولو كان سعد فيهم حياً لما استمر تدبيرهم، ويستمرون ببعض تدبيرهم،

ثم الله تعالى يبطله. قالوا: أخبرنا كيف يكون ذلك؟ قال: دعوا ذلك لما يريد الله أن يدبره».«تفسير الإمام العسكري/48». وبسبب هذه المكانة الخاصة لسعد (رحمة الله)،

لا نستبعد أن يكونوا رموه بسهم عبر الخندق بمساعدة منافقين عملاء لهم!

وفي تفسير القمي: 2/187: «كان ابن فرقد الكناني رمى سعد بن معاذ (رحمة الله) بسهم في الخندق فقطع أكحله، فنزفه الدم فقبض سعد على أكحله بيده ثم قال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها فلا أجد أحب إلي محاربتهم من قوم حادوا الله ورسوله، وإن كانت الحرب قد وضعت أوزارها بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين قريش فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، فأمسك الدم وتورمت يده، وضرب رسول الله (صلی الله علیه و آله) له في المسجد خيمة، وكان يتعاهده بنفسه».

هذا وقد رووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «اهتز العرش لموت سعد بن معاذ». «صحيح بخاري:4/227». وروينا أن الإمام الصادق (علیه السلام) سئل عما يقوله الناس، فقال: «إنما هو السرير الذي كان عليه سعد». «معاني الأخبار/288 ومعجم السيد الخوئي: 9/94». أي اهتز سريره كر امة له وليس عرش الله تعالى.

11- عبور فرسان الأحزاب من ثغرة في الخندق

نرجح أن المشركين اتفقوا مع منافقين على تسهيل عبورهم، فتفاجأ المسلمون ببضعة فرسان عبروا الخندق، وهم: عمرو بن عبد ود العامري، وابنه حسيل،

ص: 191

وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، ونوفل بن عبدالله بن المغيرة وثلاثتهم من بني مخزوم، وضرار بن الخطاب، ومرداس، وهما فهريان.

وكان ابن عبد ود فارس العرب يعد بألف فارس، ويسمى فارس يَلْيَل لأنه أقبل في ركب فعرضت لهم بنو بكر في عدد في واد قريب من بدر،فقال لأصحابه: إمضوا، فقام وحده في وجههم ومنعهم من أن يصلوا إليه!

عَبَرَ ابن عبد ودّ ورفقاؤه وأخذوا يجولون ويستعرضون قوتهم، في السبخة التي تحت جبل سلع، مقابل مركز قيادة النبي (صلی الله علیه و آله) وهي الآن مسجد الفتح، وأخلى المسلمون الذين أمامهم المكان! فلم يهتم النبي (صلی الله علیه و آله) للعابرين بقدر ما اهتم لسد الثغرة التي عبروا منها، فنادى علياً (علیه السلام) فأسرع بمن معه لسد الثغرة، وقد يكون مرَّ قريباً من ابن وُد وهو يطلب المبارزة وخلفه جماعته، فقال له إصبر حتى أستأذن النبي في مبارزتك، أو يختار لك من يبارزك، وعاد إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فوجده يحث المسلمين على مبارزة عمرو ويضمن لمن بارزه الجنة، وهم سكوت كأنما على رؤوسهم الطير! فقال علي (علیه السلام): أنا له يارسول الله، فأمره بالجلوس، وواصل النبي (صلی الله علیه و آله) دعوته المسلمين ليتم الحجة عليهم فلم يجبه منهم أحد! فقام علي (علیه السلام) ثانيةً وقال: أنا له يارسول الله، فقال له: أجلس.وحسب رواية ابن إسحاق: يا علي إنه عمرو، فأجابه: وأنا علي يارسول الله! فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): أدن مني، فدنا منه فألبسه عمامته وأعطاه سيفه، ودعا له، وأطلق كلماته الرسولية بحقه.

وتقدم علي (علیه السلام) مهرولاً نحو عمرو وهو يرتجز، وذهب معه جابر الأنصاري وحذيفة وعمر والزبير، وعبدالرحمن بن عوف، ليروا النتيجة. وكان ابن ود يستعرض قوته مرةً بسيفه ومرة برمحه، أو يركزه في الأرض ويدور بفرسه حوله، ويقول: أبرز اليًّ يا محمد، ثم يقول: إنكم تزعمون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار؟ألا يحب أحدكم أن يُقْدِم على الجنة، أو يبعث عدواً له إلى النار؟!

ولقد بححت من الندا *** ء بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن الشجا *** ع موقف الخصم المناجز

ص: 192

إني كذلك لم أزل *** متسرعاً نحو الهزاهز

إن الشجاعة في الفتى *** والجود من كرم الغرائز

وكان عمرو بن عبد ود راكباً، ومشى علي (علیه السلام) نحوه راجلاً، وهو يقول:

لاتعجلنَّ فقد أتاك *** مجيب صوتك غيرُ عاجز

ذو نيةٍ وبصيرةٍ *** والصدق مُنجي كلِّ فائز

إني لأرجو أن تقو *** م عليك نائحةُ الجنائز

من طعنة نجلاء يبقى *** ذكرها بين الهزاهز

وجرى بينهما كلام طويل، حتى غضب عمرو ونزل عن فرسه وأهوى بسيفه إلى علي (علیه السلام) بضربة قوية، فتلقاها علي (علیه السلام) بترسه، فشقت الترس والخوذة والعمامة، ووصلت إلى رأسه (علیه السلام) فجرحته في قرنه، فانفجر الدم يجري على رأسه وكتفه، ولم يتأخر علي (علیه السلام) فضربه ضربة حيدرية على ترقوته، كما قال البيهقي وابن إسحاق، فهوى عمرو صريعاً وكبَّر علي (علیه السلام) بصوته الجهوري فكبر النبي والمسلمون،وتقدم ليحز رأسه فتفل عمرو في وجهه وشتم أمه، فصبر ورجع خطوات، قال: خشيت أن أضربه لحظ نفسي، فتركته حتى سكن ما بي!

وجاء علي (علیه السلام) برأس عمرو إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فمسح النبي (صلی الله علیه و آله) الدم والغبار عن عينيه، ومسح مكان الضربة في رأسه، ورجع علي (علیه السلام) إلى الثغرة ليقطع الطريق على جماعة عمرو، فطلب منه حسل بن عمرو المبارزة فبرز اليه وقتله ولم يمهله! وهرب عكرمة بن أبي جهل، وضرار الخطاب، ونوفل بن عبدالله المخزومي فلحقهم علي (علیه السلام)، فأفلت عكرمة بعد أن ألقى درعه، وأفلت ضرار، وعلق نوفل في الخندق فلم تستطع فرسه الصعود من الطرف الآخر، فأخذ المسلمون يرمونه بالحجارة فصاح بهم: قتلةٌ أجمل من هذه! ينزل إليَّ بعضكم أقاتله! فنزل إليه علي (علیه السلام)، فضربه وقتله.

وفي الطرائف/60، عن أبي هلال العسكري، قال: «أول من قال: جُعلت فداك،

ص: 193

عليٌّ، لما دعا عمرو بن عبد ود إلى البراز يوم الخندق ولم يجبه أحد، قال علي: جعلت فداك يا رسول الله أتأذن لي؟ قال: إنه عمرو بن عبد ود. قال: وأنا علي بن أبي طالب، فخرج إليه فقتله».

وفي كنز الفوائد/ 137: «فتقدم إليه ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: برز الإيمان كله إلى الشرك كله. فلما هم أن يذبحه وهو يكبر الله ويحمده، قال له عمرو: يا علي قد جلست مني مجلساً عظيماً فإذا قتلتني فلا تسلبني حلتي! فقال له أميرالمؤمنين: هي أهون عليَّ من ذلك! وذبحه وأتى برأسه وهو يتبختر في مشيته فقال عمر: ألا ترى يا رسول الله إلى علي كيف يتيه في مشيته؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنها مشية لايمقتها الله في هذا المقام. ثم نهض رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) فتلقاه ومسح الغبار عن عينيه». وانتشر خبر قتل عمرو في المسلمين كالبرق، ففرحوا واستبشروا، ووقع على الأحزاب كالصاعقة وكان ذلك قبل ظهر يوم الأربعاء.

وواصل النبي (صلی الله علیه و آله) دعاءه بعد صلاة الظهر، فتغير الجو وجاءت الريح وعصفت بجيش الأحزاب فاضطربوا، وأخذوا يفكرون بالإنسحاب، وباتوا في ليلة ليلاء، فأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) اليهم حذيفة متنكراً في الظلام، فوصل إلى خيمة أبي سفیان واستطلع خبرهم، وفي اليوم التالي بادروا إلى الرحيل: وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، بعلي (علیه السلام)، والملائكة، والرياح.

وكان ابن مسعود يقرأ الآية: وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، بعلي، وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا. الإرشاد: 1/106، القمي: 2/182، الحاكم: 3/32 وابن هشام:3/708.

ورجع النبي (صلی الله علیه و آله) صبيحتها إلى المدينة، وما إن صلى الظهر ووضع لباس حربه حتى جاءه جبرئيل وأمره بغزو بني قريظة، فأرسل علياً (علیه السلام) أمامه ثم التحق بهم!

12- علي (علیه السلام) يصف غزوة الأحزاب ومبارزته لعمرو

قال علي (علیه السلام) في جوابه لسؤال أحد أحبار اليهود كما في الخصال للصدوق/369: «وأما الخامسة يا أخا اليهود، فإن قريشاً والعرب تجمعت وعقدت بينها عقداً

ص: 194

وميثاقاً لا ترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتقتلنا معه معاشر بني عبدالمطلب، ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى أناخت علينا بالمدينة، واثقة بأنفسها فيما توجهت له، فهبط جبرئيل (علیه السلام) على النبي (صلی الله علیه و آله)، فأنبأه بذلك فخندق على نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار. فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف، ترعد وتبرق! ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يدعوها إلى الله عزوجل ويناشدها بالقرابة والرحم فتأبى، ولا يزيدها ذلك إلا عتواً! وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود، يهدر كالبعير المغتلم، يدعو إلى البراز ويرتجز ويخطر برمحه مرة وبسيفه مرة، لا يقدم عليه مقدم، ولا يطمع فيه طامع، ولا حمية تهيجه ولا بصيرة تشجعه، فأنهضني إليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعممني بيده وأعطاني سيفه هذا، وضرب بيده إلى ذي الفقار، فخرجت إليه ونساء أهل المدينة بواك إشفاقاً عليَّ من ابن عبد ود! فقتله الله عزوجل بيدي، والعرب لا تَعُدُّ لها فارساً غيره، وضربني هذه الضربة، وأومأ بيده إلى هامته، فهزم الله قريشاً والعرب بذلك، وبما كان مني فيهم من النكاية».

13- حذيفة (رحمة الله) يصف مبارزة علي (علیه السلام) لعمرو بن ود

في مناقب علي (علیه السلام): 1/222، قال ربيعة: «أتيت حذيفة بن اليمان فقلت: يا أبا عبدالله إنا نتحدث في علي وفي مناقبه فيقول لنا أهل البصرة: إنكم لتفرطون في علي وفي مناقبه، فهل أنت تحدثني في علي بحديث؟فقال حذيفة: يا ربيعة إنك لتسألني عن رجل والذي نفسي بيده لو وضع عمل جميع أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) في كفة الميزان من يوم بعث الله محمداً إلى يوم الناس هذا، ووضع عمل علي يوماً واحداً في الكفة الأخرى لرجح عمله على جميع أعمالهم! فقال ربيعة: هذا الذي لا يقام له ولا يقعد! فقال حذيفة: وكيف لا يُحتمل هذا يا ملكعان «أحمق»! أين كان أبو بكر وعمر وحذيفة ثكلتك أمك، وجميع أصحاب محمد يوم عمرو بن عبد ود ينادي للمبارزة، فأحجم الناس كلهم ما خلا علياً فقتله الله على يديه؟! والذي

ص: 195

نفسي بيده لعمله ذلك اليوم أعظم عند الله من جميع أعمال أمة محمد إلى يوم القيامة».

وفي تفسير مجمع البيان: 8/131: «عن حذيفة قال: فألبسه رسول الله (صلی الله علیه و آله) درعه ذات الفضول، وأعطاه سيفه ذا الفقار، وعممه عمامته السحاب، على رأسه تسعة أكوار، ثم قال له: تقدم، فقال لما ولى: اللهم احفظه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوق رأسه، ومن تحت قدميه.

قال ابن إسحاق: فمشى إليه وهو يقول: لاتعجلن فقد أتاك..مجيب صوتك غير عاجز.. إلى آخر الأبيات.. قال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي.فقال: غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك، فإني أكره أن أهرق دمك! فقال علي (علیه السلام): لكني والله ما أكره أن أهرق دمك! فغضب ونزل وسل سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو علي مغضباً، فاستقبله علي بدرقته، فضربه عمرو بالدرقة فقدها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه! وضربه علي على حبل العاتق، فسقط».

وفي شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: 2/10، بسنده عن حذيفة، قال: «فجاء حتى وقف على عمرو فقال: من أنت؟ فقال عمرو: ما ظننت أني أقف موقفا أُجهل فيه، أنا عمرو بن عبد ود؟ فمن أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، فقال: الغلام الذي كنت أراك في حجر أبي طالب؟ قال: نعم. قال: إن أباك كان لي صديقاً وأنا أكره أن أقتلك! فقال له علي: لكني لا أكره أن أقتلك، بلغني أنك تعلقت بأستار الكعبة وعاهدت الله عزوجل أن لا يخيرك رجل بين ثلاث خلال إلا اخترت منها خلة؟ قال: صدقوا. قال: إما أن ترجع من حيث جئت. قال: لا تحدث بها قريش. قال: أو تدخل في ديننا فيكون لك ما لنا وعليك ما علينا. قال: ولا هذه. فقال له علي: فأنت فارس وأنا راجل! فنزل عن فرسه وقال: ما لقيت من أحد ما لقيت من هذا الغلام! ثم ضرب وجه فرسه فأدبرت ثم أقبل إلى علي وكان رجلاً طويلاً يداوي دبر البعيرة، وهو قائم، وكان علي (علیه السلام) في تراب دق لا يثبت قدماه عليه، فجعل علي ينكص إلى ورائه يطلب جلداً من الأرض يثبت قدميه، ويعلوه عمرو بالسيف وكان في درع عمرو قصر فلما تشاك بالضربة تلقاها علي بالترس فلحق ذباب السيف في رأس علي (علیه السلام) حتى قطعت تسعة

ص: 196

أكوار حتى خط السيف في رأس علي. وتسيَّف عليٌّ رجليه بالسيف من أسفل فوقع على قفاه، فثارت بينهما عجاجة فسمع علي (علیه السلام) يكبر،فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قتله والذي نفسي بيده!

فكان أول من ابتدر العجاج عمر بن الخطاب، فإذا علي يمسح سيفه بدرع عمرو فكبر عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله قتله! فحز عليٌّ رأسه ثم أقبل يخطر في مشيته، فقال له رسول الله: يا علي إن هذه مشية يكرهها الله عزوجل إلا في هذا الموضع. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي: ما منعك من سلبه فقد كان ذا سلب؟ فقال: يا رسول الله: إنه تلقاني بعورته. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أبشر يا علي فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة محمد لرجح عملك بعملهم، وذلك إنه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلا وقد دخله وهن بقتل عمرو، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلا وقد دخله عز بقتل عمرو». والصحيح من السيرة: 9/333 وبعضه المناقب: 2/324.

14- رواية تفسير القمي لمبارزة علي لعمرو

قال علي بن إبراهيم القمي (رحمة الله) في تفسيره: 2/182: «فمر أميرالمؤمنين (علیه السلام) يهرول في مشيه وهو يقول: لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز...الأبيات..فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وختنه. فقال: والله إن أباك كان لي صديقاً قديماً وإني أكره أن أقتلك! ما أمن ابن عمك حين بعثك إليَّ أن أختطفك برمحي هذا، فأتركك شائلاً بين السماء والأرض لا حيٌّ ولا ميت؟!

فقال له أميرالمؤمنين (علیه السلام): قد علم ابن عمي أنك إن قتلتني دخلت الجنة، وأنت في النار، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنة! فقال عمرو: وكلتاهما لك يا علي؟ تلك إذا قسمة ضيزى!

قال علي (علیه السلام): دع هذا يا عمرو، وإني سمعت عنك وأنت متعلق بأستار الكعبة تقول لايعرضن علي أحد في الحرب ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة منها،

ص: 197

وأنا أعرض عليك ثلاث خصال، فأجبني إلى واحدة! قال: هات يا علي! قال: أحدها تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. قال: نحِّ عني هذه، فاسأل الثانية، فقال: أن ترجع وترد هذا الجيش عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإن يك صادقاً فأنتم أعلى به عيناً، وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره. فقال: إذاً تتحدث نساء قريش بذلك، وتنشد الشعراء في أشعارها أني جبنت ورجعت على عقبي من الحرب، وخذلت قوماً رأَّسُوني عليهم!

فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): فالثالثة أن تنزل إليَّ فإنك راكب وأنا راجل حتى أنابذك. فوثب عن فرسه وعرقبه وقال: هذه خصلة ما ظننت أن أحداً من العرب يسومني عليها، ثم بدأ فضرب أميرالمؤمنين (علیه السلام) بالسيف على رأسه، فاتقاه أميرالمؤمنين بدرقته فقطعها، وثبت السيف على رأسه.

فقال له علي (علیه السلام): يا عمرو أما كفاك أني بارزتك وأنت فارس العرب، حتى استعنت عليَّ بظهير؟! فالتفت عمرو إلى خلفه فضربه أميرالمؤمنين (علیه السلام) مسرعاً على ساقيه قطعهما جميعاً، وارتفعت بينهما عجاجة فقال المنافقون قُتل علي بن أبي طالب، ثم انكشف العجاجة فنظروا فإذا أميرالمؤمنين على صدره قد أخذ بلحيته يريد أن يذبحه، فذبحه ثم أخذ رأسه وأقبل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) والدماء تسيل على رأسه من ضربة عمرو، وسيفه يقطر منه الدم، وهو يقول والرأس بيده:

أنا عليُّ وابن عبدالمطلبْ *** الموت خيرٌ للفتى من الهربْ

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا عليُّ ماكرتَهُ؟ قال: نعم يا رسول الله، الحرب خُدعة.

وبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) الزبير إلى هبيرة بن وهب فضربه على رأسه ضربة فلق هامته. وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) عمر بن الخطاب أن يبارز ضرار بن الخطاب، فلما برز إليه ضرار انتزع له عمر سهماً فقال ضرار: ويحك يا ابن صهاك أترميني في مبارزة! والله لئن رميتني لا تركتُ عدوياً بمكة إلا قتلته! فانهزم عنه عمر ومرَّ نحوه ضرار وضربه على رأسه بالقناة ثم قال: إحفظها يا عمر.. فكان عمر يحفظ له ذلك بعدما وليَ فولاه»!

وروي أنهم وجدوا جمجمة عمرو بن ود، فكيلت بها كيلجة فاستوعبتها!«مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا/69» والكيلجة صاع إلا يسيراً المحلى:5245.

ص: 198

وأراد المشركون شراء جثة عمرو بعشرة آلاف، فقال النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: هو لكم، لانأكل ثمن الموتى! المناقب: 1/171.

15- أخ عمرو بن ود يواجه علياً (علیه السلام) في مكة!

أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) أبابكر ليبلغ سورة براءة إلى المشركين، فنزل جبرئيل بأمر الله تعالى: لايؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك! أحمد: 1/151والخصال/369.

فأمر بإرجاعه من الطريق وأرسل بها علياً (علیه السلام)، فدخل عليٌّ مكة ووقف في الموسم يقرأ عليهم سورة براءة. قال الإمام الباقر (علیه السلام): «لما قرأ قوله تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَسِيحُوا فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.. قام خداش وسعيد أخوا عمرو بن ود فقال: وما يسرُّنا على أربعة أشهر، بل برئنا منك ومن ابن عمك فليس بيننا وبين ابن عمك إلا السيف والرمح، وإن شئت بدأنا بك!

فقال علي (علیه السلام): أجل أجل، إن شئت، هلموا! ثم واصل (علیه السلام) تلاوته: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ». المناقب 1/392.

16- شبَّه الإمام الصادق (علیه السلام) يوم الأحزاب بيوم القيامة!

في الكافي: 8 /278،عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) على التل الذي عليه مسجد الفتح في غزوة الأحزاب في ليلة ظلماء قَرَّة «باردة» فقال: من يذهب فيأتينا بخبرهم وله الجنة فلم يقم أحد، ثم أعادها فلم يقم أحد! فقال أبو عبدالله بيده: وما أراد القوم، أرادوا أفضل من الجنة؟! ثم قال: من هذا؟ فقال: حذيفة. فقال: أما تسمع كلامي منذ الليلة ولا تَكَلَّم، أقُبِرت؟ فقام حذيفة و هو يقول: القَرُّ والضُّرُّ جعلني الله فداك منعني أن أجيبك.فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنطلق حتى تسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم! فلما ذهب قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى ترده،وقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله) يا حذيفة لا تحدث شيئاً حتى تأتيني، فأخذ سيفه وقوسه وحجفته.

قال حذيفة: فخرجت وما بي من ضر ولا قر، فمررت على باب الخندق،

ص: 199

وقد اعتراه المؤمنون والكفار. فلما توجه حذيفة قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونادى: يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، إكشف همي وغمي وكربي، قد ترى حالي وحال أصحابي. فنزل عليه جبرئيل (علیه السلام) فقال: يا رسول الله، إن الله عز ذكره قد سمع مقالتك ودعاءك، وقد أجابك وكفاك هول عدوك، فجثى رسول الله (صلی الله علیه و آله) على ركبتيه وبسط يديه وأرسل عينيه، ثم قال: شكراً شكراً، كما رحمتني ورحمت أصحابي. ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قد بعث الله عزوجل عليهم ريحاً من السماء الدنيا فيها حصى، وريحاً من السماء الرابعة فيها جندل.

قال حذيفة: فخرجت فإذا أنا بنيران القوم، وأقبل جند الله الأول ريح فيها حصى، فما تركت لهم ناراً إلا أذرتها، ولا خباءً إلا طرحته، ولا رمحاً إلا ألقته! حتى جعلوا يتترسون من الحصى! فجعلنا نسمع وقع الحصى في الأترسة، فجلس حذيفة بين رجلين من المشركين، فقام إبليس في صورة رجل مطاع في المشركين فقال: أيها الناس إنكم قد نزلتم بساحة هذا الساحر الكذاب، ألا وإنه لن يفوتكم من أمره شئ، فإنه ليس سنة مقام، قد هلك الخف والحافر، فارجعوا ولينظر كل رجل منكم من جليسه! قال حذيفة: فنظرت عن يميني فضربت بيدي فقلت: من أنت؟ فقال: معاوية، فقلت للذي عن يساري: من أنت؟ فقال سهيل بن عمرو! قال حذيفة: وأقبل جند الله الأعظم، فقام أبوسفيان إلى راحلته، ثم صاح في قريش: النجاء النجاء! وقال طلحة الأزدي: لقد زادكم محمد بشر، ثم قام إلى راحلته وصاح في بني أشجع: النجاء النجاء! وفعل عيينة بن حصن مثلها، ثم فعل الحرث بن عوف المزني مثلها! ثم فعل الأقرع بن حابس مثلها! وذهب الأحزاب، ورجع حذيفة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره الخبر! وقال أبو عبدالله (علیه السلام): إنه كان ليشبه يوم القيامة»!

17- ضربة علي (علیه السلام) غيَّرت ميزان القوى!

فرح النبي (صلی الله علیه و آله) بقتل علي عمرو بن ود وأخبرهم بأن ميزان القوى قد تغير! قال جابر بن عبدالله الأنصاري: «فما شبهت قتل علي عمراً إلا بما قال الله تعالى من

ص: 200

قصة داود وجالوت، حيث يقول: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ. وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعد قتله: الآن نغزوهم ولايغزوننا». إعلام الورى: 1/382 والإرشاد: 1/102، كنز الفوائد/138والحاكم:3/34، سبل الهدى: 4/379 والخوارزمي/171.

وأدرك رؤساء القبائل أن موجة الإسلام قادمة لامحالة، فأخذوا يفكرون بالتقرب إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وإعلان إسلامهم، ليتجنبوا الخسارة أو يكسبوا موقعاً في دولته الجديدة المتوثبة، فقال عمرو بن العاص لخالد بن الوليد: «والله إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكراً»! «تاريخ الطبري: 2/313». ووافقه خالد على ذلك، وبعد مدة قليلة جاءا مسلمين بعد الحديبية.

18- رسالة أبي سفیان قبل هروبه بجيش الأحزاب!

عندما قرر الأحزاب الإنسحاب كتب أبوسفيان إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بكبرياء: «لقد سرت إليك في جمعنا وإنا نريد ألا نعود إليك أبداً حتى نستأصلك! فرأيتك قد كرهت لقاءنا وجعلت مضايق وخنادق، فليت شعري من علمك هذا؟ فإن نرجع عنكم فلكم منا يوم كيوم أحد تبقر فيه النساء»!

وبعث بها مع أبي أسامة الجشمي، فقرأها له أبيُّ بن كعب، فكتب إليه (صلی الله علیه و آله): «أما بعد فقديماً غرك بالله الغرور، أما ما ذكرت أنك سرت إلينا في جمعكم، وأنك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر الله يحول بينك وبينه، ويجعل لنا العاقبة حتى لاتذكر اللات والعزى! وأما قولك: من علمك الذي صنعنا من الخندق فإن الله تعالى ألهمني ذلك، لما أراد من غيظك به وغيظ أصحابك. وليأتين عليك يوم تدافعني بالراح! وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وأساف ونائلة، وهبل حتى أذكرك ذلك». الصحيح ة: 9/440 والإمتاع: 1/242.

19- إشادات النبي (صلی الله علیه و آله) بعلي (علیه السلام) يوم الأحزاب

روى المسلمون أحاديث النبي (صلی الله علیه و آله) في الإشادة بعلي (علیه السلام) وشهاداته بحقه: فمنها: أنه ألبسه درعه وأعطاه ذا الفقار وعممه بعمامته. ولما برز ومشى دعا له:

ص: 201

اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه.

ومنها: أنه رفع عمامته ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إنك أخذت مني عبيدة بن الحرث يوم بدر، وحمزة بن عبدالمطلب يوم أحد، وهذا أخي علي بن أبي طالب، رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين.

ومنها: أنه علمه دعاء هو: اللهم بك أصول، وبك أجول، وبك أدرأ في نحره.

ومنها: عندما برز اليه قال (صلی الله علیه و آله): برز الإيمان كله إلى الشرك كله.

ومنها: قال (صلی الله علیه و آله): ضربة علي يوم الخندق تعدل عمل أمتي إلى يوم القيامة. ضربة علي تعدل عند الله عمل الثقلين. ضربة علي أفضل عند الله من عمل الثقلين!

وأشهرها الحديثان الأخيران، ولا يتسع الكتاب لبحثهما. راجع: الصحيح: 9/333 و340.

20- معنى قول النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): وإنك لذو قرنيها

روي أن ذا القرنين: «بعثه الله إلى قومه فضُرب على قرنه الأيمن، فأماته الله خمس مائة عام، ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر، فأماته الله خمس مائة عام، ثم بعثه الله إليهم بعد ذلك فملكه مشارق الأرض ومغاربها من حيث تطلع الشمس إلى حيث تغرب». وقال رسول الله عن علي (علیه السلام): وإن فيكم مثله». الإيقاظ/145، الدر المنثور: 4/241

وفتح القدير: 3/309.

وفسره في القاموس: 4/258، بأنه (علیه السلام): «ذو شجتين في قرني رأسه، إحداهما من عمرو بن ود، والثانية من ابن ملجم».

وهذا يؤكد أن ضربة عمرو كانت على قرن رأسه (علیه السلام). وفي رواية أن ضربة ابن ملجم وقعت على ضربة عمرو. المناقب: 2/327.

وقد فسر بعضهم بذلك قول النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): «يا علي، لك كنز في الجنة وأنت ذو قرنيها، وشيعتك تعرف بحزب الله عزوجل». أمالي الصدوق/656.

قال الراغب في المفردات/401: «وذو القرنين معروف، وقوله عليه الصلاة والسلام

ص: 202

لعلي رضی الله عنه: إن لك بيتاً في الجنة وإنك لذو قرنيها: يعني ذو قرني الأمة، أي أنت فيهم كذي القرنين».

لكن ذكر الصدوق (رحمة الله) في معاني الأخبار/206، أن معناه أنه والد الحسنين (علیهما السلام) لأنهما قرنا الجنة بمعنی قرطيها وزينتها. وفسره بوجه آخر: إنك صاحب الحجة على شرق الدنيا وغربها، وآخذ بقرنيها. وهو مشكل. كما تردد الشريف الرضي في المجازات النبوية/87، في تفسيره بين معان، فذكر قرني الجنة بطرفيها، لأنه يبلغ غايات المثابين فيها، أو بمعنى قرني الأمة بمعنى طرفيها فأنت في أولها والمهدي في آخرها، أو بمعنى صاحب العلم الظاهر والباطن، أو بمعنى أنك رأس الأمة لأن الرأس فيه القرنان، أو المضروب مثله على قرنيه. وكلها لا تخلو من إشكال، وإن كان الأخير أقلها إشكالاً.

وفسره السيد ابن طاووس في سعد السعود/65، والحر العاملي في الإيقاظ/145، بأنه يقصد رجعة أميرالمؤمنين (علیه السلام) بعد موته كما رجع ذو القرنين بعد موته. وهو مشكل، لأنه (علیه السلام) بعد الرجعة لايضرب على قرنه الآخر.

21- النبي (صلی الله علیه و آله) يكشف علاقة عمر بقادة الأحزاب

لم أجد ذكراً لأبي بكر في غزوة الخندق، لكن ورد ذكر عمر في أربع قضايا:

أولها: حديث عائشة المتقدم وأنه هرب من الخندق مع طلحة واختبآ في بستان وكان عمر يتخوف هزيمة الباقين وطلحة يقول لسنا هاربين بل متحيزون إلى الله!

وثانيها: عندما عبر الخندق عمرو بن عبد ود وجماعته، فأمر النبي (صلی الله علیه و آله) عمر أن يبرز لضرار بن الخطاب الفهري، وكان أحد الذين عبروا مع ابن ود. ومن الغريب أن كُتَّاب السيرة حاولوا تغطية مبارزته لضرار بن الخطاب وعفو ضرار عنه، مع أن ذلك حدث مرتين في أحُد ثم في الخندق! وقد روته مصادرنا ورواه الواقدي وابن هشام وابن عساكر وغيرهم! بل رووا أن خالد بن الوليد عفا عن عمر في أحد ولم يقتله! قال ابن هشام: 2/282: «وكان ضرار لحق عمر بن

ص: 203

الخطاب يوم أحد فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول: أنج يا بن الخطاب، لا أقتلك، فكان عمر يعرفها له بعد إسلامه».

وفي تاريخ دمشق: 24/392 و396: «فكان «ضرار» يقاتل أشد القتال ويحرض المشركين بشعره، وهو قاتل عمرو بن معاذ أخا سعد بن معاذ يوم أحد، وقال حين قتله: لاتُعْدَمَنَّ رجلاً زوَّجك من الحور العين! وكان يقول زوجت عشرة من أصحاب محمد! وأدرك عمر بن الخطاب فضربه بالقناة ثم رفعها عنه فقال: يا ابن الخطاب إنها نعمة مشكورة، والله ما كنت لأقتلك».

فما هو السبب في إخفاء أتباعه لذلك؟ وما هو السبب في حب قادة قريش لابن الخطاب، وهم الذين استماتوا لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) وعترته، وشخصيات أصحابه!

ثم لماذا أمر النبي (صلی الله علیه و آله) عمر بن الخطاب العدوي أن يبرز إلى ضرار بن الخطاب الفهري، وهو يعلم أن ضراراً يحب عمر، فقد ظفر به في أحُد وعمر هارب فضربه على ظهره بعرض رمحه وقال له: والله لا أقتلك!

بحث هذا الموضوع في الصحيح من السيرة: 6/235 وذكر فيه قول ضرار حسب رواية الواقدي: «يا ابن الخطاب إنها نعمة مشكورة، والله ما كنت لأقتلك». ثم تساءل: لماذا ما كان ليقتله؟ أليس هو الذي أذل قريشاً كما يدعون وعز به الإسلام كما يزعمون؟ كما كان خالد بن الوليد يحدث وهو بالشام فيقول: لقد رأيتُني ورأيت عمر بن الخطاب حين جالوا وانهزموا يوم أحد وما معه أحد، وإني لفي كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحد غيري، فنكبت عنه وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له، فنظرت إليه متوجهاً إلى الشعب! فلماذا هذه المراعاة من خالد لعمر؟ ولماذا يهنئ أبوسفيان عمر بالنصر الذي أحرزوه على المسلمين،ويقول له: أنعمت عيناً قتلى بقتلى بدر! فأجابه عمر بقوله: إنها!

والقضية الثالثة: التي ذكر فيها عمر في الخندق، أنه أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بنقض بني قريظة عهدهم، فمن أين عرف ذلك؟ راجع: الصحيح من السيرة:9/270.

والقضية الرابعة: عندما غاب بعد قتل عمرو بن ود، وكان الوقت ظهراً، فغاب حتى

ص: 204

المغرب، وجاء من جهة الخندق وقال إنه كان يسب قريشاً إلى المغرب وكادت تفوته الصلاة! وروى البخاري ذلك بروايات، وزعمو أن النبي (صلی الله علیه و آله) فاتته الصلاة كعمر!

والجواب على التساؤلات: أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يعلم بعلاقة عمر مع زعماء الأحزاب والمحبة بينهم، ولكنه أراد أن يفهم المسلمون ذلك!

ومن الغريب أن عمر كان قبل يومٍ فاراً مع طلحة في الحديقة التي آوت اليها عائشة وفيها نساء وأطفال، وأن سعداً مر في ذلك اليوم، ولما وصل إلى الخندق أصيب. وفي اليوم التالي لإصابة سعد كان عمر عند الخندق عندما عبره ابن ود وجماعته، ولعله رجع من الحديقة التي رأته فيها عائشة وبقي طلحة هناك.

وقد ورد أن عمر كان يحب ضراراً فولاه في العراق والشام، وشكاه أبو عبيدة بأنه يشرب الخمر فلم يعزله! وكان عمر يحب شعره ويأمر المغني في طريق الحج أن يغنيه به، فقال ابن عوف لرباح المغني: «غننا، فقال له عمر: إن كنت آخذاً فعليك بشعر ضرار بن الخطاب»! الإصابة: 3/392.

قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) كما في كتاب سُلَيْم بن قيس/247: «وقد علموا يقيناً أني أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه وأفقههم وأقرأهم لكتاب الله، وأقضاهم بحكم الله، وأنه ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا عناء معه في جميع مشاهده، فلا رمى بسهم ولا طعن برمح ولا ضرب بسيف، جبناً ولؤماً، ورغبة في البقاء.

وقد علموا أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قاتل بنفسه فقتل أبي بن خلف، وقتل مسجع بن عوف وكان من أشجع الناس وأشدهم لقاء وأحقهم بذلك.

وقد علموا يقيناً أنه لم يكن فيهم أحد يقوم مقامي، ولا يبارز الأبطال، ولا يفتح الحصون غيري، ولا نزلت برسول الله (صلی الله علیه و آله) شديدة قط ولا كربهُ أمرٌ ولا ضيق ومستصعب من الأمر إلا قال: أين أخي علي، أين سيفي، أين رمحي، أين المفرج غمي عن وجهي، فيقدمني فأتقدم فأفديه بنفسي، ويكشف الله بيدي الكرب عن وجهه. ولله عزوجل ولرسوله بذلك المن والطول، حيث خصني

ص: 205

بذلك ووفقني له. وإن بعض من سميت ما كان ذا بلاء ولا سابقة ولا مبارزة قرن، ولا فتح ولا نصر، غير مرة واحدة، ثم فر ومنح عدوه دبره، ورجع يجبن أصحابه ويجبنونه، وقد فر مراراً، فإذا كان عند الرخاء والغنيمة تكلم وتغير، وأمر ونهى.

ولقد نادى ابن عبد ود يوم الخندق باسمه، فحاد عنه ولاذ بأصحابه حتى تبسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) مما رآى به من الرعب وقال (صلی الله علیه و آله): أين حبيبي علي؟ تقدم يا حبيبي يا علي..والله يحكم بيننا وبين من ظلمنا حقنا، وحمل الناس على رقابنا».

أقول: ذكر (علیه السلام) أن النبي (صلی الله علیه و آله) قتل شخصين بيده هما أبي بن خلف، وهوابن قميئة حمل عليه في أحُد ليقتله فطعنه النبي (صلی الله علیه و آله) بحربة في عنقه فمات منها في مكة. أما مسجع بن عوف فلم أجده فيما لديَّ من مصادر.

22- طعنوا بالنبي (صلی الله علیه و آله) بأنه فاتته أربع صلوات!

زعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) انشغل عن الصلاة في معركة الأحزاب حتى ذهب وقتها! فقد روى البخاري: 1/147: «أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش! قال: يا رسول الله ماكدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب؟ قال النبي (صلی الله علیه و آله): والله ما صليتها، فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب»! ومعناه أن الحادثة كانت في يوم قتل علي لعمرو بن ود وهبوب الريح عليهم وكانت يوم أربعاء! وأن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يصل ذلك اليوم العصر، أو فاتته أربع صلوات كما زعمت بعض رواياتهم! وأن عمر ذهب إلى الخندق قبل صلاة العصر، وكان مقابله قرشيون فكان يسبهم ويسبهم ويسبهم إلى قريب المغرب، ولم يضرب أحد منهم الآخر بسهم كما ضربوا سعد بن معاذ، ولا بحجر كما هو دأبهم ودأب المسلمين الذين يواجهونهم! ثم رجع عمر سالماً غانماً وأدرك صلاة العصر على حافة الوقت، فحكى ذلك للنبي (صلی الله علیه و آله) فقال له أنت خير مني لأني لم أصلها أبداً! فرجعوا إلى المدينة مساء ذلك اليوم والمسافة من الخندق إلى المدينة نحو ساعة فوصلوا إلى بطحان وهو واد

ص: 206

متصل بالمدينة، «فتح الباري: 2/347» فانتظروا النبي (صلی الله علیه و آله) حتى صلى العصر التي فاتته وصلوا المغرب معه!

وهذه المنقبة التي رواها عمر لنفسه لاتصح، لأن رجوعهم إلى المدينة كان في الصباح ووصلوا قبل الظهر أو معه، فنزل جبرئيل وأمرهم بحرب بني قريظة، فقال النبي (صلی الله علیه و آله) لاتصلوا الظهر إلا في بني قريظة.

ولا تصح أيضاً، لأن النبي (صلی الله علیه و آله) كان في خيمته بعد قتل عمرو، وواصل دعاءه حتى هبت الريح على الأحزاب، وفي تلك الليلة بعث حذيفة واستطلع خبرهم.

ولا تصح أيضاً، لأنها تنافي العصمة، وعبودية النبي (صلی الله علیه و آله) الكاملة لربه.

ولأن النبي (صلی الله علیه و آله) لو انشغل عن صلاته لانشغل الذين كانوا معه، فكيف فاتته من دونهم،كما فاتت عمر دونهم، لأنه ذهب إلى نقطة من الخندق!

والذي يصح أن عمر ذهب بعد قتل عمرو والتقى ببعض المشركين وتحدث معهم، وما سبهم ولا سبوه، ففاتته الصلاة، وأراد أن يخفف عن نفسه أو يبرر ذلك لمن لامه، فقال إن النبي (صلی الله علیه و آله) فاتته الصلاة مثله! وأنه هو صلاها قرب مغيب الشمس، بينما لم يصلها النبي (صلی الله علیه و آله) حتى غابت!

قال المحقق البحراني (رحمة الله) في الحدائق الناضرة: 7/373: «الرواية عن النبي (صلی الله علیه و آله) وأنه شغل عن أربع صلوات يوم الخندق، إنما هي من طرق المخالفين وليس في أخبارنا لها أثر ولا توافق أصولنا». راجع: ألف سؤال وإشكال: 1/171.

23- من شعر الأحزاب ومبارزة علي (علیه السلام) لابن ود

اشارة

روى ابن إسحاق وابن هشام: 3/733 شعر حرب الخندق، ومبارزة علي (علیه السلام) لابن ود، وأورد بعضها في الصحيح: 9/382. قال ضرار بن الخطاب الفهري:

ومشفقة تظن بنا الظنونا *** وقد قدنا عرندسة طحونا

كأن زهاءها أحد إذا ما *** بدت أركانه للناظرينا

ترى الأبدان فيها مسبغات *** على الأبطال واليلب الحصينا

ص: 207

وجرداً كالقداح مسوماتٍ *** نؤم بها الغواة الخاطئينا

كأنهم إذا صالوا وصلنا *** بباب الخندقين مصافحونا

أناس لا نرى فيهم رشيداً *** وقد قالوا: ألسنا راشدينا

فأحجرناهم شهراً كريتاً *** وكنا فوقهم كالقاهرينا

نراوحهم ونغدو كل يوم *** عليهم في السلاح مدججينا

بأيدينا صوارم مرهفات *** نقد بها المفارق والشئونا

كأن وميضهن معريات *** إذا لاحت بأيدي مصلتينا

وميضُ عقيقة لمعت بليلٍ *** ترى فيها العقائق مستبينا

فلولا خندق كانوا لديه *** لدمرنا عليهم أجمعينا

ولكن حال دونهم وكانوا *** به من خوفنا متعوذينا

فإن نرحل فإنا قد تركنا *** لدى أبياتكم سعداً رهينا

إذا جن الظلام سمعت نوحى *** على سعد يرجعن الحنينا

وسوف نزوركم عما قريب *** كما زرناكمُ متوازرينا

بجمع من كنانة غير عزل *** كأسد الغاب قد حمت العرينا

فأجابه كعب بن مالك الأنصاري:

وسائلة تسائل ما لقينا *** ولو شهدت رأتنا صابرينا

صبرنا لا نرى لله عدلاً *** على ما نابنا متوكلينا

وكان لنا النبي وزير صدق *** به نعلو البرية أجمعينا

نقاتل معشراً ظلموا وعقوا *** وكانوا بالعداوة مرصدينا

ترانا في فضافض سابغات *** كغدران الملا متسربلينا

وفى أيماننا بيض خفاف *** بها نشفي مراح الشاغبينا

ص: 208

بباب الخندقين كأن أسداً *** شوابكهن يحمين العرينا

فوارسنا إذا بكروا وراحوا *** على الأعداء شوساً معلمينا

لننصر أحمداً والله حتى *** نكون عباد صدق مخلصينا

ويعلم أهل مكة حين ساروا *** وأحزاب أتوا متحزبينا

بأن الله ليس له شريك *** وأن الله مولى المؤمنينا

فإما تقتلوا سعداً سفاهاً *** فإن الله خير القادرينا

سيدخله جناناً طيبات *** تكون مقامة للصالحينا

كما قد ردكم فلا شريداً *** بغيظكم خزايا خائبينا

وقال مسافع الجمحي يبكي عمرو بن عبد ود:

عمرو بن عبد كان أول فارسٍ *** جزع المذاد وكان فارس يليلِ

سمحُ الخلائق ماجدٌ ذو مرة *** يبغي القتال بشكة لم ينكل

ولقد علمتم حين ولوا عنكم *** أن ابن عبد فيهم لم يعجل

حتى تكنفه الكماة وكلهم *** يبغي مقاتله وليس بمؤتلي

ولقد تكنفت الأسنة فارساً *** بجنوب سلع غير نكس أميل

تسل النزال عليُّ فارس غالب *** بجنوب سلع ليته لم ينزل

فاذهب عليُّ فما ظفرت بمثله *** فخراً ولا لاقيت مثل المعضل

نفسي الفداء لفارس من غالب *** لاقى حمام الموت لم يتحلحل

وقال الشيخ كاظم الأزري (رحمة الله) من قصيدته الأزرية/124:

ظهرت منه في الوغى سطواتٌ *** ما أتى القوم كلهم ما أتاها

يوم غصت بجيش عمرو بن ود *** لهوات الفلا وضاق فضاها

وتخطى إلى المدينة فرداً *** بسرايا عزائمٍ ساراها

ص: 209

فدعاهم وهو ألوفٌ ولكن *** ينظرون الذي يشبُّ لظاها

أين أنتم عن قسورٍ عامريٍّ *** تتقي الأسد بأسه في شراها

فابتدى المصطفى يحدث عما *** تؤجر الصابرون في أخراها

قائلاً إن للجليل جناناً *** ليس غير المجاهدين يراها

أين من نفسه تتوق إلى *** الجنات أو يورد الجحيم عداها

من لعمرو وقد ضمنت على *** الله له من جنانه أعلاها

فالتووا عن جوابه كسوام *** لا تراها مجيبة من دعاها

وإذا هم بفارس قرشي *** ترجف الأرض خيفةً إذ يطاها

قائلاً مالها سواي كفيل *** هذه ذمة علي وفاها

ومشى يطلب الصفوف كما تم- *** -شي خماص الحشا إلى مرعاها

فانتضى مشرفيه فتلقى *** ساق عمرو بضربة فبراها

والى الحشر رنة السيف منه *** يملأ الخافقين رجع صداها

يا لها ضربة حوت مكرمات *** لم يزن ثقل أجرها ثقلاها

هذه من علاه إحدى المعالي *** وعلى هذه فقس ما سواها».

ثمان مسائل من قتل عمرو بن عبد ود

المسألة الأولى: نص العلامة في تذكرة الفقهاء: 9/83:على أن خدعة علي (علیه السلام) لعمرو في الحرب رواية عامية، قال: (روى العامة أن عمرو بن عبد ود بارز علياً (علیه السلام) ثم قال: فقال علي (علیه السلام):ما برزت لأقاتل اثنين! فالتفت عمرو فوثب علي (علیه السلام) فضربه، فقال عمرو: خدعتني! فقال علي (علیه السلام): الحرب خدعة ).

لكن يظهر أن علي بن إبراهيم قبلها، حيث قال في تفسيره: 2/182: (فقال له علي:ياعمرو أما كفاك أني بارزتك وأنت فارس العرب حتى استعنت علي بظهير؟ فالتفت عمرو إلى خلفه فضربه أميرالمؤمنين (علیه السلام) مسرعاً على ساقيه قطعهما جميعاً..

ص: 210

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا عليُّ ماكرتَهُ ؟ قال: نعم يا رسول الله، الحرب خُدعة ).

كما أفتى بها آقا ضياء العراقي في شرح التبصرة: 4/408، فقال: «نعم تجوز الخدعة في الحرب لفعل علي (علیه السلام) بعمرو بن عبد ود، وقال (علیه السلام): الحرب خدعة».

لكن صاحب الجواهر: 21 /79 وهو أفقه من آقا ضياء، اكتفى بإيرادها، واستدل هو والسيد الخوئي، منهاج الصالحين: 1/373 على جواز الخدعة، برواية إسحاق بن عمار المعتبرة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال يوم الخندق: الحرب خدعة.

والنتيجة: أن الخدعة في الحرب جائزة، لكن بعض فقهائنا توقف في أن علياً (علیه السلام) استعملها مع عمرو، وبعضهم ثبت عنده ذلك لوجود قرائن على صحة رواية العامة. ولا شك أن التوقف أحوط وأكثر انسجاماً مع صفات علي (علیه السلام) وأخلاقه.

المسألة الثانية: ذكرت الروايات أنه لما برز علي (علیه السلام) لعمرو، ذهب معه متفرجون من المسلمين وهم خمسة كما في رواية ابن إسحاق، قال: وتقدم علي (علیه السلام) مهرولاً نحو عمرو وهو يرتجز، وذهب معه جابرالأنصاري، وحذيفة، وعمر، والزبير، وعبدالرحمن بن عوف، ليتفرجوا.

وقال القاضي المغربي في شرح الأخبار: 1/294: (ووقف المشركون من وراء الخندق ينظرون ما يكون منهما. ورفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) يده إلى السماء يدعو الله عزوجل لعلي بالظفر).ومعناه أن المتفرجين كانوا من الطرفين، فالمشركون من وراء الخندق، والمسلمون أمام خيمة النبي (صلی الله علیه و آله) في منحدر جبل سلع، عند أول السبخة التي كانت ميدان المبارزة.

المسألة الثالثة: لم يأذن النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي من أول الأمر، رغم سكوت المسلمين وإلحاح عمرو بالنداء، ويبدو أن ذلك لإتمام الحجة عليهم، لكن ذكرت الرواية أنه كان يريد أن يبرز له غير علي (علیه السلام) لأن فاطمة 3كانت تخاف عليه!

(في كل ذلك يقوم علي ليبارزه فيأمره النبي (صلی الله علیه و آله) بالجلوس لمكان بكاء فاطمة (علیها السلام) عليه من جراحاته في يوم أحد، وقولها ما أسرع أن يوتم الحسن

ص: 211

والحسين باقتحامه الهلكات. فنزل جبرئيل عن الله تعالى أن يأمر علياً (علیه السلام) بمبارزته، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): يا علي أدن مني وعممه بعمامته وأعطاه سيفه، وقال إمض لشأنك.

ثم قال: اللهم أعنه. فلما توجه إليه قال النبي (صلی الله علیه و آله): خرج الإيمان سائره إلى الكفر سائره ). مناقب آل أبي طالب: 2/325.

المسألة الرابعة: نهى النبي (صلی الله علیه و آله) عن المثلة بالمقتول حتى لو كان كلباً عقوراً، وكانت المثلة بالأعداء من ثقافة الجاهلية وما زالت، من قطع رؤوسهم وحملها إلى قادتهم والدوران بها في المدن والقرى! وأشهر من حملت رؤوسهم من بلد إلى بلد الإمام الحسين (علیه السلام) وأصحابه رضوان الله عليهم.

ورووا عن غير طريق أهل البیت (علیهم السلام) أنهم جاؤوا للنبي (صلی الله علیه و آله) برؤوس أعدائه، ولا يصح عندنا، ولا تصح روايتهم أن علياً (علیه السلام) جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) برأس عمرو بن ود، وأنه في خيبر جاء له برأس مرحب.الكامل لابن عدي:6/50.

والمرجح عندنا أن معنى قولهم إن أميرالمؤمنين (علیه السلام) ذبحه أو قطع رأسه، أنه أجهز عليه، وليس فيه دلالة على أنه فصل رأسه أو حمله.

ويؤيده أنهم ضعفوا رواية مجيئه برأس عمرو إلى النبي (صلی الله علیه و آله) مجمع الزوائد:6/152.

كما رووا أن ابن مسعود جاء برأس أبي جهل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فحمد الله، الإستيعاب:3/1410 وأن أبا بردة بن نيارقال: (جئت يوم بدر بثلاثة أرؤس فوضعتها بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ) نهاية ابن كثير:3/343 وأن جابرالأنصاري قال إن محمد بن مسلمة جاء برأس كعب بن الأشرف إلى النبي (صلی الله علیه و آله). الثقات لابن حبان: 1/215.

لكن هذا لو صح فهو تصرف منهم، ولا بد أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمرهم بدفنها.

فموقف النبي (صلی الله علیه و آله) الترفع عن التمثيل بالجثامين، والتنزه عن اتخاذها وسيلة للتجارة أو الضغط على العدو. ويؤيد ذلك أن المشركين أرسلوا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ليشتروا جثة عمرو بن عبد ود بعشرة آلاف درهم، فقال (صلی الله علیه و آله): هو لكم، لانأكل ثمن الموتى! المناقب: 1/171. ويؤيده ما رووه عن الزهري: (لم يحمل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) رأس إلا يوم بدر ). سير السرخسي: 1/111.

ص: 212

المسألة الخامسة: يناسب أن نذكر بعض من قتلهم الحكام وطافوا برؤوسهم ونصبوها في البلاد ليخوفوا من خالفهم، ومعناه أن ثقافة الجاهلية استمرت في الأمة، وأن ما نراه في عصرنا من وحشية وتمثيل في الجثث، إرث متصل بالجاهلية، ولا صلة له بالإسلام.

قال المؤرخ ابن حبيب في كتابه المحبر/490: (ونصب معاوية رأس عمرو بن الحمق الخزاعي، وكان شيعياً، ودير به في السوق. ونصب يزيد بن معاوية رأس الحسين رضی الله عنه وقتل معه العباس وجعفر وعثمان وعبدالله ومحمد وأبابكر بني علي بن أبى طالب رضی الله عنهم، وأبو بكر بن الحسن والقاسم وعبدالله ابنا الحسن وعلي وعبدالله بن الحسين وعبدالله وجعفروعبدالرحمن بنو عقيل بن أبي طالب ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل، ومسلم بن عقيل ومحمد وعون ابنا عبدالله بن جعفر رضی الله عنهم، فحملت رؤوسهم إلى يزيد بن معاوية، فنصبها بالشام وبعث برأس الحسين رضی الله عنه فنصب بالمدينة!

ونصب المختار بن عبيد رأس عبيدالله بن مرجانة ورأس الحصين بن نمير السكسكي ورأس شرحبيل بن ذي الكلاع الحميري، وكان إبراهيم بن الأشتر قتلهم يوم الحازر وبعث إليه برؤوسهم فبعث برؤوسهم إلى ابن الحنفية، فنصبت رؤوسهم على باب المسجد الحرام، فخرج ابن الحنفية من الطواف فرآها منصوبة فحمد الله وأثنى عليه.

فلما قتل مصعب بن الزبير المختار بعث برأسه إلى عبدالله بن الزبير فنصبه على باب المسجد الحرام وسمر في يد المختار مسماراً من حديد إلى جنب المسجد، مسجد الكوفة فلم تزل مسمورة حتى قدم الحجاج فرآها فسأل عنها فأخبر بها فأمر بنزعها. ونصب مصعب بن الزبير رأس إبراهيم بن الحر الجعفي بالكوفة.

ونصب عبدالملك رأس إبراهيم بن الأشتر النخعي، ورأس يحيى بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي.

ونصب عبدالملك رأس مصعب بمصر ثم رده فنصبه بدمشق فأخذته عاتكة

ص: 213

بنت يزيد بن معاوية فغسلته وحنطته ودفنته.

ونصب عبدالملك بن مروان رأس عمير بن الحباب السلمي بدمشق.

ونصب الوليد بن يزيد رأس يحيى بن زيد بن علي رضی الله عنه وكان نصر بن سيار أنفذه إليه من خراسان.

ونصب يزيد بن عبدالملك رأس عبدالله بن موسى بن نصير وكان بعث بها إليه بشر بن صفوان الكلبي من إفريقية اتهمه بقتل يزيد بن أبي مسلم.

ونصب يزيد الناقص رأس الوليد بن يزيد في مسجد دمشق ما يلي باب الفراديس، ونصب أيضاً رأس يوسف بن عمر الثقفي بدمشق.

ونصب أبو العباس أميرالمؤمنين رأس مروان بن محمد بن مروان بالكوفة. ونصب الهادي رأس دحية بن المعصب بن الأسبغ بن عبدالعزيز بن مروان، وكان قتل بمصر فنصب رأسه ببغداد.

وقتل موسى بن عيسى بن موسى الحسين بن علي بن حسن بن حسن بن علي بفخ في الموسم فنصب الهادي رأسه ببغداد على الجسر، ثم بعث به إلى خراسان وأمه زينب بنت عبدالله بن الحسن. ونصب طاهر بن الحسين بن مصعب رأس محمد بن هارون الأمين ببغداد على باب بستان مؤنسة ثم وجه به إلى المأمون بخراسان فنصبه هناك.

وبعث المأمون إلى الحسن بن سهل وهو بفم الصلح من خراسان برأس علي بن أبي سعيد ورأس عبدالعزيز بن عمران الطائي ورأس خلف المصري ورأس مؤنس التاجر، واتهمهم بدم الفضل بن سهل فنصبها الحسن بن سهل هناك. ونصب المأمون رأس أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي ببغداد.

ونصب المتوكل رأس إسحاق بن إسماعيل التفليسي ببغداد على باب العامة، وكان بغا الكبير أنفذه من أرمينية ).

المسألة السادسة: روى في مناقب آل أبي طالب: 1/381: (لما أدرك علي (علیه السلام) عمرو بن عبد ود لم يضربه، فوقعوا في علي (علیه السلام) فرد عنه حذيفة، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): مه يا حذيفة فإن علياً سيذكر سبب وقفته، ثم إنه ضربه، فلما جاء سأله النبي (صلی الله علیه و آله)

ص: 214

عن ذلك فقال: قد كان شتم أمي وتفل في وجهي، فخشيت أن أضربه لحظ نفسي، فتركته حتى سكن ما بي، ثم قتلته في الله).

وقد يشكل على ذلك بأن علياً (علیه السلام) ليس عنده ثنائية في الغضب والرضا، فغضبه ورضاه دائماً لله تعالى حتى لو كان لشتم أمه (علیها السلام).

لكن يجاب عنه بأن حالات المعصوم (علیه السلام) في التقرب إلى الله تعالى قد تكون متفاوتة، فأراد أن يقتله وهو في أعلاها مستوى، كما أن عمرواً قد يكون تكلم بكلام كثير، فتركه الإمام (علیه السلام) يتم كلامه ويسجل ذلك في صحيفة عمله.

المسألة السابعة: من نبل أميرالمؤمنين (علیه السلام) أنه ترفع عن سلب عمرو، بل لم أجد أنه سلب أحداً ممن قتلهم! قال في مناقب آل أبي طالب: 1/384:

(لما أردى (علیه السلام) عمرواً قال عمرو: يا ابن عم إن لي إليك حاجة، لا تكشف سوأة ابن عمك ولا تسلبه سلبه، فقال:ذاك أهون علي، وفيه يقول (علیه السلام):

وعففتُ عن أثوابه ولوَ انني

كنتُ المقطر بَزَّني أثوابي

محمد بن إسحاق: قال له عمر: هلا سلبت درعه فإنها تساوي ثلاثة آلاف، وليس للعرب مثلها ؟ قال: إني استحييت أن أكشف ابن عمي.

وروي أن أخت عمرو جاءت ورأته في سلبه، فلم تحزن، وقالت: إنما

قتله كريم.

وقال (علیه السلام): يا قنبر لاتُعْرِ فرايسي، أراد لا تسلب قتلاي من البغاة.

إن الأسود أسود الغاب همتها

يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

وفي تاريخ الخميس للديار بكري: 1/488: (ورويَ أن علياً لما قتل عمراً لم يسلبه فجاءت أخت عمرو حتى قامت عليه، فلما رأته غير مسلوب سلبه قالت: ما قتله إلا كفؤ كريم، ثم سألت عن قاتله قالوا: علي بن أبي طالب، فأنشأت هذين البيتين..)

فنلاحظ أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) وفى لعمرو بوعده فلم يسلبه حتى درعه، بينما ظل عمر يلومه على ذلك، ولعل علياً (علیه السلام) منع عمر من سلبها، ويظهر أن أخت عمرو

ص: 215

جاءت لتأخذ جثته فوجدته بكامل ثيابه ودرعه، فشهدت بنبل علي (علیه السلام).

فسبب عدم سلبه لعمرو أنه وعده كما وعد فارس قريش طلحة بن أبي طلحة في أحُد ؟ والأسباب الأخرى التي ذكرتها روايات إن صحت، فهي أعذار مكملة.

المسألة الثامنة: عمرو بن عبد ود قرشي من بني عامر بن لؤي، وهم أقل درجة من بني كعب بن لؤي، ابن هشام:2/489.

وعدوه ثالث شجعان قريش، أي بعد بني عبدالدار وعتبة بن ربيعة، وقد شهد مع المشركين معركة بدر وقتل اثنين من المسلمين: سعد بن خيثمة الأنصاري وهو من النقباء الحاكم:3/189 وعمير بن أبي وقاص: الإستيعاب:3/1221.

قال الحاكم: 3/32: (قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، ولم يشهد أحداً، فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مشهده ).

ص: 216

الفصل الثاني والخمسون: غزوة بني قريظة

1- بنو قريظة آخر من أجلاهم النبي (صلی الله علیه و آله) من يهود المدينة

كان بنو قينقاع أول اليهود الذين نقضوا عهدهم مع النبي (صلی الله علیه و آله)، فأجلاهم عن المدينة، وكانوا صاغة ولهم سوق ذهب قرب المدينة. وكان بنو قريظة ملاصقين للمدينة شرقي قباء «حرة قريظة» وبساتينهم في وادي مهزور، وبساتين النضير في وادي بطحان، وهما أخصب أودية المدينة. معجم البلدان: 1/446.

وكانت قريظة والنضير أبناء عم لأنهم من ذرية هارون (علیه السلام) لذا أخذ الحاخام حیي بن أخطب رئيس بني النضير يلح عليهم أن ينقضوا عهدهم مع النبي حتى نقضوه وأعلنوا تحالفهم مع الأحزاب الذين كانوا يحاصرون المدينة.

وكانت الخطة أن تهاجم قريظة المدينة من شرقها، والأحزاب من غربها فيحتلوها! لكن قريظة طلبت من الأحزاب رهائن، حتى لاينسحبوا ويتركوهم وحدهم في مواجهة النبي (صلی الله علیه و آله) فلم يعطوهم، حتى كانت هزيمة الأحزاب!

وما إن رجع النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة، حتى نزل جبرئيل وأمره بغزو بني قريظة.

2- بعث النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) أمامه فحاصر بني قريظة

روي أن النبي (صلی الله علیه و آله) خرج لغزوة قريظة يوم السبت لأيام مضت من ذي القعدة وحاصرهم خمساً وعشرين يوماً. المحبر/113 و البلاذري: 1/374.

ص: 217

وروى في قرب الإسناد/157، عن الإمام الباقر (علیه السلام): «أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعث علياً يوم بني قريظة بالراية وكانت سوداء تدعى العقاب، وكان لواؤه أبيض».

وفي بصائر الدرجات/342، عن ابن أبي يعفور قال قلت لأبي عبدالله (علیه السلام): «إنا نقول إن علياً (علیه السلام) كان ينكت في قلبه أو صدره أو في أذنه. فقال: إن علياً (علیه السلام) كان محدَّثاً. قلت: فيكم مثله؟ قال: إن علياً (علیه السلام) كان محدثاً، فلما أن كررت عليه قال: إن علياً يوم بني قريظة والنضيركان جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره يحدثانه»!

وقال في إعلام الورى: 1/194: «وأصبح رسول الله (صلی الله علیه و آله) «بعد الخندق» بالمسلمين حتى دخل المدينة، فضربت ابنته فاطمة (علیها السلام) غسولاً حتى تغسل رأسه، إذ أتاه جبرئيل على بغلة معتجراً بعمامة بيضاء عليه قطيفة من استبرق، معلق عليها الدر والياقوت عليه الغبار، فقام رسول (صلی الله علیه و آله) فمسح الغبار عن وجهه، فقال له جبرئيل: رحمك ربك وضعت السلاح ولم يضعه أهل السماء!ما زلت أتبعهم حتى بلغتُ الروحاء! ثم قال جبرئيل: إنهض إلى إخوانهم من أهل الكتاب، فوالله لأدقنهم دق البيضة على الصخرة!

فدعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) فقال: قدم راية المهاجرين إلى بني قريظة وقال: عزمت عليكم أن لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة. فأقبل علي (علیه السلام) ومعه المهاجرون وبنو عبدالأشهل وبنو النجار كلها لم يتخلف عنه منهم أحد، وجعل النبي (صلی الله علیه و آله) يُسَرِّب إليه الرجال، فما صلى بعضهم العصر إلا بعد العشاء، فأشرفوا عليه وسبُّوه وقالوا: فعل الله بك وبابن عمك، وهو واقف لايجيبهم، فلما أقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) والمسلمون حوله تلقاه أميرالمؤمنين (علیه السلام) وقال: لا تأتهم يا رسول الله جعلني الله فداك فإن الله سيجزيهم، فعرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنهم قد شتموه، فقال: أما إنهم لو رأوني ما قالوا شيئاً مما سمعت! وأقبل ثم قال: يا إخوة القردة، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين! ياعباد الطاغوت إخسؤوا أخساكم الله! فصاحوا يميناً وشمالاً: يا أبا القاسم ما كنت «سباباً» فما بدا لك؟

قال الصادق (علیه السلام): فسقطت العنزة من يده، وسقط رداءه من خلفه، ورجع يمشي

ص: 218

إلى ورائه حياءً مما قال لهم! فحاصرهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) خمساً وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ».

وفي الإرشاد: 1/109: «قال علي (علیه السلام): فاجتمع الناس إلي وسرت حتى دنوت من سورهم، فأشرفوا علي فحين رأوني صاح صائح منهم: قد جاءكم قاتل عمرو.. وسمعت راجزاً يرجز:

قتل عليٌّ عمراً صاد علي صقرًا.. قصم علي ظهراً.. أبرم علي أمراً.. هتك علي ستراً!

فقلت: الحمد لله الذي أظهر الإسلام وقمع الشرك. وكان النبي (صلی الله علیه و آله) قال لي حين توجهت إلى بني قريظة: سر على بركة الله، فإن الله قد وعدك أرضهم وديارهم. فسرت مستيقناً لنصر الله عزوجل، حتى ركزت الراية في أصل الحصن. وأقام النبي (صلی الله علیه و آله) محاصراً لبني قريظة خمساً وعشرين ليلة حتى سألوه النزول على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم سعد بقتل الرجال وسبي الذراري والنساء، وقسمة الأموال. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): يا سعد لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة». أي حكم بقتل المقاتلين والمحرضين على النبي (صلی الله علیه و آله) فقط.

وفي الصحيح من السيرة: 11/71، ما حاصله: «أن النبي (صلی الله علیه و آله) نزل على بئر من آبارهم في أول أرض بني قريظة عند بئر يقال لها: «أنا» وربط دابته بالسدرة التي في أرض مريم ابنة عثمان وضرب قبته هناك، وشرب من البئر، وصلى في المسجد الذي هناك،وتلاحق به الناس وحصلت لرسول الله (صلی الله علیه و آله) كرامة حيث لم يكن للمسلمين معسكر ينزلون فيه فقال: ما لكم لا تنزلون! فقالوا: ما لنا مكان ننزل به من اشتباك النخل، فوقف في طريق بين النخل فأشار بيده يمنة ثم يسرة، فانضم النخل بعضه إلى بعض، واتسع لهم الموضع فنزلوا».

3- بطولة علي (علیه السلام) في قريظة، ونزول جبرئیل بإمرة المؤمنین له

في الصحيح من السيرة: 11/90، ملخصاً: «نجد الزبير بن بكار يذكر لنا في كتاب المفاخرات نصاً يفيد أن النبي (صلی الله علیه و آله) قد بعث إلى بني قريظة أكابر أصحابه

ص: 219

فهزموا، فبعث علياً (علیه السلام) فكان الفتح على يديه، تماماً كالذي جرى في خيبر! فقد روى الزبير بن بكار مناظرة بين الإمام الحسن (علیه السلام) وبين عمرو بن العاص والوليد بن عقبة، وعتبة بن أبي سفیان، والمغيرة بن شعبة، عند معاوية، فكان مما قاله لهم الإمام الحسن (علیه السلام): وأنشدكم الله أيها الرهط أتعلمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعث أكابر أصحابه إلى بني قريظة فنزلوا من حصنهم فهزموا، فبعث علياً (علیه السلام) بالراية فاستنزلهم على

حكم الله وحكم رسوله (صلی الله علیه و آله). وفعل في خيبر مثلها؟!

في الإحتجاج: 1/97: احتجاج خالد بن سعيد بن العاص على أبي بكر أيام السقيفة: «قال: إتق الله يا أبابكر، فقد علمت أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال ونحن محتوشوه يوم

بني قريظة حين فتح الله له باب النصر،وقد قتل علي بن أبي طالب (علیه السلام) يومئذ عدة من صناديد رجالهم وأولي البأس والنجدة منهم: يا معاشر المهاجرين والأنصار إني موصيكم بوصية فاحفظوها ومودعكم أمراً فاحفظوه: ألا إن علي بن أبي طالب أميركم بعدي وخليفتي فيكم بذلك أوصاني ربي.

ألا وإنكم إن لم تحفظوا فيه وصيتي وتوازروه وتنصروه، اختلفتم في أحكامكم واضطرب عليكم أمر دينكم ووليكم شراركم! ألا وإن أهل بيتي هم الوارثون لأمري والعالمون لأمر أمتي من بعدي. اللهم من أطاعهم من أمتي وحفظ فيهم وصيتي فاحشرهم في زمرتي، واجعل لهم نصيباً من مرافقتي، يدركون به نور الآخرة. اللهم ومن أساء خلافتي في أهل بيتي، فاحرمه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض».

أقول: لاحظ أن نخبة فرسان قريظة خرجوا من حصنهم بعد اليوم الثالث وبارزوا، فبرز اليهم علي (علیه السلام) وقتلهم! ولكن رواة السلطة لم يذكروا ذلك، وما رواه أتباع أهل البیت (علیهم السلام) من ذلك أبادته السلطة فيما أبادت ولم يصل الينا!

4- قبول قريظة بالنزول على حكم حليفهم سعد بن معاذ

قال ابن هشام: 3/720: «إن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة: يا كتيبة الإيمان! وتقدم هو والزبير بن العوام وقال: والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن

ص: 220

حصنهم، فقالوا: يامحمد ننزل على حكم سعد».

«فقال كعب بن أسد: يا معشر بني قريظة: والله إنكم لتعلمون أن محمداً

نبي الله، وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب، حيث لم يكن نبياً من بني إسرائيل، فهو حيث جعله الله! ولقد كنت كارهاً لنقض العهد والعقد، ولكن البلاء وشؤم هذا الجالس يعني حیي بن أخطب علينا وعلى قومه، وقومه كانوا أسوأ منا! لايستبقي محمد رجلاً واحداً إلا من تبعه، أتذكرون ما قال لكم ابن حواس حين قدم عليكم فقال: تركت الخمر والخمير والتأمير، وجئت إلى السقاء والتمر والشعير؟! قالوا: وما ذلك؟ قال: يخرج من هذه القرية نبي، فإن خرج وأنا حي اتبعته ونصرته، وإن خرج بعدي فإياكم أن تخدعوا عنه فاتبعوه وكونوا أنصاره وأولياءه، وقد آمنتم بالكتابين كليهما الأول والآخر. قال كعب: فتعالوا فلنتابعه ولنصدقه ولنؤمن به فنأمن على دمائنا ونسائنا وأموالنا، فنكون بمنزلة من معه. قالوا: لا نكون تبعاً لغيرنا، نحن أهل الكتاب والنبوة،ونكون تبعاً لغيرنا». الواقدي: 2/501.

وفي المناقب: 1/172: «فحاصرهم النبي خمساً وعشرين ليلة فقال كعب بن أسد: يا معشر اليهود نبايع هذا الرجل وقد تبين أنه نبي مرسل، قالوا: لا، قال: فنقتل أبناءنا ونساءنا ونخرج إليه مُصْلِتين، قالوا: لا، قال: فنثب عليه وهو يأمن علينا لأنها ليلة السبت، قالوا: لا. فاتفقوا على أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ.. فقتل منهم أربع مائة وخمسين رجلاً، وقسم الأموال واسترق الذراري».

وفي الصحيح من السيرة: 11/10: «وجاؤوا بالأسرى إلى المدينة وجعلوهم في دار أسامة بن زيد ودار بنت الحارث..وكان عدد السبي من الذراري والنساء سبع مئة وخمسين، وقيل كانوا تسع مئة.ويظهر من النصوص أن بني قريظة لم يقتلوا كلهم، بل قتل منهم خصوص من حزَّبَ على النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمين. ثم جمعت أمتعتهم وأخرج الخمس منها، ثم قسمت للفارس سهمان وللرجل سهم واحد، وكانت خيل المسلمين ستة وثلاثين فرساً، أو ثمانية وثلاثين. أما السبي فبيع

ص: 221

في من يزيد، ثم قسم ثمنه في المسلمين المشاركين في هذه الغزوة، وبعث (صلی الله علیه و آله) ببعض السبي إلى نجد أو الشام فبيع هناك واشتري سلاح وخيل».

أقول: روى ابن هشام: 3/725 والبيهقي: 9/139 «أن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث بسبايا بني قريظة إلى نجد، فابتاع لهم بهن خيلاً وسلاحاً»! فكأن الله أراد أن يجعل النجديين أبناء يهوديات، فيبتلي بهم المسلمين!

وقال اليعقوبي: 2/52: «فانصرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) واصطفى منهم ست عشرة جارية فقسمها على فقراء بني هاشم، وأخذ لنفسه منهن واحدة يقال لها ريحانة. وقسمت أموال بني قريظة ونساؤهم، فكان الفارس يأخذ سهمين والراجل سهماً، وكان أول مغنم أعلم فيه سهم الفارس،وكانت الخيل ثمانية وثلاثين فرساً».

5- المسلمون الأربعة من بني قريظة

نزل أربعة أشخاص من حصون بني قريظة والتحقوا بالنبي (صلی الله علیه و آله) وأسلموا، وهم ثلاثة إخوة: أسيد وأسد وثعلبة، أبناء سعية، وعمهم أسد بن عبيد. وقالوا لقريظة في أيام حصار النبي (صلی الله علیه و آله) لهم: «يا معشر بني قريظة، والله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وإن صفته عندنا حدثنا بها علماؤنا وعلماء بني النضير، هذا أولهم يعني حیي بن أخطب مع جبير بن الهيبان، أصدق الناس عندنا، هو خبَّرنا بصفته عند موته. قالوا: لا نفارق التوراة. فلما رأی هؤلاء النفر إباءهم، نزلوا في الليلة التي نزلت قريظة فأسلموا، فأمنوا على أنفسهم، وأهلهم، وأموالهم.. و لم يكونوا من بني قريظة ولا النضير بل كانوا فوق ذلك. وهم نفر من هدل من بني عم قريظة، وليس من هذيل كما في بعض المصادر.. وكان سبب إسلامهم أن ابن الهيبان من يهود الشام قدم على بني قريظة فأقام عندهم، وكان يستسقي لهم أيام القحط فيسقون فحضرته الوفاة، فأخبرهم أن سبب خروجه إلى يثرب هو أنه يتوقع خروج نبي قد أظل زمانه، مهاجره المدينة ليتبعه، ثم أوصاهم باتباعه». وقد شكك في الصحيح: 11/101 في خبرهم ولم ينفه، والظاهر أنه صحيح، فقد ذكره ابن إسحاق: 2/64، ابن هشام: 1/138 و 3/719، الطبري: 2/248، الدرر/179،وغيرهم.

ص: 222

6- أبو لبابة يخون النبي (صلی الله علیه و آله) ثم يتوب

أبو لبابة بن عبدالمنذر، أنصاري أوسي، كان طرف التحالف مع بني قريظة، وكان بيته قربهم وكانوا يحبونه، فلما حاصرهم النبي (صلی الله علیه و آله) وأخذ يفاوضهم طلبوا أن يرسله اليهم ليستشيروه، فأرسله فحذرهم من القبول بحكم سعد!

وروى المفسرون أن قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ... وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.. خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكّيِهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. «الأنفال: 27و102-103». «نزلت في أبي لبابة بن عبدالمنذر، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما حاصر بني قريظة قالوا له إبعث الينا أبا لبابة نستشيره في أمرنا، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا أبا لبابة إئت حلفاءك ومواليك فأتاهم فقالوا له: يا أبا لبابة ما ترى تنزل على حكم محمد؟ فقال إنزلوا واعلموا أن حكمه فيكم هو الذبح وأشار إلى حلقه، ثم ندم على ذلك فقال خنت الله ورسوله! ونزل من حصنهم ولم يرجع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومر إلى المسجد وشد في عنقه حبلاً ثم شده إلى الأسطوانة التي تسمى أسطوانة التوبة، وقال لا أحله حتى أموت أو يتوب الله عليَّ، فبلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: أما لو أتانا لاستغفرنا الله له، فأما إذا قصد إلى ربه فالله أولى به.وكان أبو لبابة يصوم النهار ويأكل بالليل ما يمسك به رمقه، فكانت ابنته تأتيه بعشائه وتحله عند قضاء الحاجة، فلما كان بعد ذلك ورسول الله في بيت أم سلمة نزلت توبته فقال يا أم سلمة، قد تاب الله على أبي لبابة، فقالت يا رسول الله أفأوذنه بذلك؟ فقال لتفعلن، فأخرجت رأسها من الحجرة فقالت: يا أبا لبابة أبشر لقد تاب الله عليك، فقال الحمد لله فوثب المسلمون ليحلوه فقال: لا والله حتى يحلني رسول الله! فجاء رسول الله فقال يا أبا لبابة قد تاب الله عليك توبة لو ولدت من أمك يومك هذا لكفاك، فقال يا رسول الله أفأتصدق بمالي كله؟ قال: لا، قال: فبثلثيه؟ قال: لا، قال فبنصفه؟ قال: لا، قال: فبثلثه؟ قال نعم. فأنزل الله: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ». تفسير القمي: 1/303 وابن هشام: 3/718.

ص: 223

وفي من لايحضره الفقيه: 2/570: «إن كان لك بالمدينة مقام ثلاثة أيام، صمت يوم الأربعاء وصليت ليلة الأربعاء عند أسطوانة التوبة، وهي أسطوانة أبي لبابة التي ربط نفسه إليها، وتقعد عندها يوم الأربعاء ثم تأتي ليلة الخميس الأسطوانة التي تليها مما يلي مقام النبي فتقعد عندها ليلتك ويومك وتصوم يوم الخميس، ثم تأتي الأسطوانة التي تلي مقام النبي (صلی الله علیه و آله) ومصلاه ليلة الجمعة فتصلي عندها ليلتك ويومك وتصوم يوم الجمعة. وإن استطعت أن لا تتكلم بشئ هذه الأيام إلا بما لابد منه، ولا تخرج من المسجد إلا لحاجة، ولاتنام في ليل ولانهار إلا القليل، فافعل».ونحوه كامل الزيارات/66.

وفي تفسير أبي حمزة الثمالي/192: «بلغنا أنهم ثلاثة نفر من الأنصار: أبو لبابة بن عبدالمنذر، وثعلبة بن وديعة، وأوس بن حزام، تخلفوا عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند مخرجه إلى تبوك فلما بلغهم ما أنزل الله فيمن تخلف عن نبيه، أيقنوا بالهلاك وأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد، فلم يزالوا كذلك حتى قدم رسول الله فسأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلون أنفسهم حتى يكون رسول الله يحلهم، وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): وأنا أقسم لا أكون أول من حلهم إلا أن أؤمر فيهم بأمر، فلما نزل: عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، عمد رسول الله إليهم فحلهم فانطلقوا فجاءوا بأموالهم إلى رسول الله فقالوا: هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فخذها وتصدق بها عنا قال (صلی الله علیه و آله): ماأمرت فيها فنزل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكّيِهِمْ بِهَا..الآيات».

وفي تفسير العياشي: 2/116، عن الإمام الصادق (علیه السلام)، أن أبا لبابة كان أحد الثلاثة الذين خلفوا. وفي تفسير الثعالبي: 3/210: «وقالت فرقة عظيمة: بل نزلت هذه الآية في شأن المخلفين عن غزوة تبوك».

وقد توقف في الصحيح من السيرة: 11/10، في قصة أبي لبابة.ويبدو أن القصة حدثت مرة لأبي لبابة وحده، ثم كررها مع من تخلفوا معه عن غزوة تبوك، وكانوا حسب الآية ثلاثة، وفي راوية أنهم كانوا بضعة عشر شخصاً غير أبي لبابة.

ص: 224

7- قصة أبي لبابة دليل على أفضلية التوسل

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما بلغه أن أبا لبابة ربط نفسه بأسطوانة المسجد تائباً: «أما لو أتانا لاستغفرنا الله له، فأما إذا قصد إلى ربه فالله أولى به». وهو يدل على وجود طريقين لدعاء الله تعالى: مباشر، وبالتوسل بالنبي (صلی الله علیه و آله) وأن طريق التوسل أسرع.

قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا. النساء:64.

وهوكقوله تعالى لإبراهيم (علیه السلام): وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ. يشمل المجئ إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) في حياته، والمجئ إلى قبره الشريف بعد وفاته. كما يشمل المجيئ إلى إبراهيم (علیه السلام) بالحج والعمرة.

ففي الكافي: 4/550: «ثم تأتي قبر النبي (صلی الله علیه و آله) ثم تقوم فتسلم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم تقوم عند الأسطوانة المقدمة من جانب القبر الأيمن عند رأس القبر عند زاوية القبر وأنت مستقبل القبلة ومنكبك الأيسر إلى جانب القبر ومنكبك الأيمن مما يلي المنبر، فإنه موضع رأس رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتقول..اللهم إنك قلت: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ..وإني أتيت نبيك مستغفراً تائباً من ذنوبي وإني أتوجه بك إلى الله ربي وربك ليغفرلي ذنوبي».

وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ. «المائدة: 35»، وهي أمر بالتوسل تشمل التوسل بالأعمال الصالحة، وبالأنبياء والأوصياء والأولياء: ففي تفسير القمي: 1/168: «اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة َ. فقال: تقربوا إليه بالإمام».

وروى الطرفان عن عائشة في علي (علیه السلام) والخوارج«شرح الأخبار: 1/141»: قالت سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «هم شر الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربهم إلى الله وسيلة».

الى آخر ما ورد في التوسل من الآيات والأحاديث، وهي تدل على أن التوسل أفضل من الطلب بدونه، فالقول بأنه ينافي التوحيد جهالة، ورفض الوهابية التوسل مخالف لعقائد الإسلام، كفرض المشركين التوسل بأصنامهم.

ص: 225

8- حاول اليهود أن يجعلوا من قتلى قريظة ظلامة يهودية

حاول اليهود ومن تبعهم من الغربيين أن يجعلوا من بني قريظة ظلامةً لليهود، وتناسوا أنهم كانوا معاهدين للنبي (صلی الله علیه و آله) فنقضوا عهدهم ومزقوه، وانضموا إلى الأحزاب، بعد نشاطهم وتجوال حاخاماتهم على قبائل العرب يجمعونهم لقتال النبي (صلی الله علیه و آله) ويعطونهم المال، وكان أبرز الناشطين الحاخام حیي بن أخطب.

ففي تفسير القمي: 2/191والواقدي: 1/514: «ثم قدم حیي بن أخطب فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا فاسق كيف رأيت صنع الله بك؟فقال: والله يا محمد! ما ألوم نفسي في عداوتك، ولقد قلقلت كل مقلقل وجهدت كل الجهد، ولكن من يخذل الله يخذل! ثم قال حين قدم للقتل:

لعمرك ما لامَ ابن أخطب نفسه *** ولكنه من يخذل الله يُخذلِ

فقدم فضرب عنقه».

وفي الإمتاع: 4/206: «فإنهم نقضوا العهد، وحزبوا الأحزاب، وجمعوا وحشدوا، وأظهروا له العداوة، بعد ما هموا بإلقاء الرحی عليه، لما أتاهم يستعين بهم في دية بعض أصحابه».

وإنما قتل النبي (صلی الله علیه و آله) منهم من عمل في نقض العهد وساعد الأحزاب لما حاصروا المدينة.

9- دراسة عمر عند بني قريظة وعلاقته الوطيدة معهم

كان بيت عمر بعيداً عن مسجد النبي (صلی الله علیه و آله) فقد سكن في العوالي قرب بني قريظة ولبعد المسافة كان يذهب بين يوم وآخر! قال عمركما في البخاري: 1/31: «كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم..».

وكان يحضر دروس بني قريظة في كنيسهم، قال«إني كنت أغشى اليهود يوم دراستهم، فقالوا: ما من أصحابك أحد أكرم علينا منك، لأنك تأتينا»! الدر المنثور: 1/90، عن مسند ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسنده وابن جرير وابن أبي حاتم.

ص: 226

وطمع اليهود بعمر فعرَّبوا بعض التوراة وأخذها إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ليعترف بها! قال عمر: «يا رسول الله إني مررت بأخ لي من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟قال فتغير وجه رسول الله..الحديث، وفيه: والذي نفس محمد بيده لو أصبح موسى فيكم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم».«فتح الباري: 13/438». لكن عمر أصر وجاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ثانيةً فقال: «يا رسول الله جوامع من التوراة أخذتها من أخ لي من بني زريق!فتغير وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال عبدالله بن زيد الذي أري الأذان: أمَسَخَ الله عقلك؟ ألاترى الذي بوجه رسول الله! فقال عمر: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالقرآن إماماً»! مجمع الزوائد: 1/174.

ثم جاءه ثالثة فقال: «انطلقت في حياة النبي (صلی الله علیه و آله) حتى أتيت خيبر فوجدت يهودياً يقول قولاً فأعجبني فقلت: هل أنت مكتبي بما تقول؟ قال: نعم، فأتيته بأديم فأخذ يملي علي فلما رجعت قلت: يا رسول الله إني لقيت يهودياً يقول قولاً لم أسمع مثله بعدك! فقال: لعلك كتبت منه؟ قلت: نعم قال: إئتني به، فانطلقت فلما أتيته قال: أجلس إقراه فقرأت ساعة ونظرت إلى وجهه فإذا هو يتلون فصرت من الفرق لا أجيز حرفاً منه، ثم رفعته اليه ثم جعل يتبعه رسماً رسماً يمحوه بريقه وهو يقول: لاتتبعوا هؤلاء فإنهم قد تهوكوا حتى محا آخر حرف» كنز العمال: 1/370.

وجاءه مرة رابعة: «أتى النبي بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي فغضب وقال أمتهوكون فيها يابن الخطاب! والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية! لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به!والذي نفسي بيده لو أن موسى كان فيكم حياً ما وسعه إلا أن يتبعني».مجمع الزوائد: 1/174.

وجاءه مرة خامسة: «مر برجل يقرأ كتاباً فاستمعه ساعة فاستحسنه فقال للرجل أكتب لي من هذا الكتاب قال نعم فاشترى أديماً فهيأه ثم جاء به إليه

ص: 227

فنسخ له في ظهره وبطنه ثم أتى النبي».الدارمي: 1/115 والدر المنثور: 2/48 و 5/148.

وجاء مرة سادسة ليجيزه النبي (صلی الله علیه و آله) أن يدرس التوراة عند اليهود فقال له: «لاتتعلمها وآمن بها وتعلموا ما أنزل اليكم وآمنوابه». الدر المنثور 5/148.

وجاءه مرة سابعة قال عمر: «يا رسول الله إن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا وقد هممنا أن نكتبها! فقال: يا ابن الخطاب أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى! أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولكني أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الحديث اختصاراً»! الدر المنثور: 5/ 148.

وفي مرة ثامنة ساعدت حفصة أباها: «جاءت إلى النبي بكتاب من قصص يوسف في كتف فجعلت تقرؤه عليه والنبي يتلون وجهه فقال: والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم»عبدالرزاق: 11/110.

 

ومع ذلك استمر عمر مع مجموعته بالحضور عند اليهود، حتى رآه النبي (صلی الله علیه و آله) يوماً يحمل كتاباً فقال له: «ما هذا في يدك يا عمر؟! فقلت: يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علماً إلى علمنا! فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى احمرت وجنتاه ثم نودي بالصلاة جامعة، فقالت الأنصار: أغضب نبيكم، السلاح السلاح! فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتمه، واختصر لي اختصاراً، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا، ولا يغرنكم المتهوكون! قال عمر: فقمت فقلت رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبك رسولاً». الزوائد: 1/ 173. راجع تدوين القرآن للمؤلف/416.

واتفق النبي (صلی الله علیه و آله) مع عروة بن مسعود أن يحرك قريظة لطلب رهائن من قريش كشرط لهجومهم فقال عمر: «يا رسول الله، أمر بني قريظة أهون من أن يؤثر عنك شئ من أجل صنيعهم!فقال: الحرب خدعة يا عمر»! السير الكبير: 1/121.

وعندما اتفق معهم النبي (صلی الله علیه و آله) على أن ينزلوا على حكم سعد، كان عمر حاضراً وكان يسمع تحرق سعد للإنتقام منهم، فأرسل لهم إشارة أن لايقبلوا بحكم سعد لكنهم لم

ص: 228

يفهموا إشارته لأنه كانوا مرعوبين! قال أحمد بن حنبل في مسنده:6/142: «وبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى سعد بن معاذ فأتيَ به على حمار عليه أكاف من ليف، قد حُمل عليه وحَف به قومه.. فلما طلع على رسول الله قال: قوموا إلى سيدكم فأنزلوه، فقال عمر: سيدنا الله عزوجل». وصحيح ابن حبان: 15/500 والطبقات: 3/423.

وفي أخبار الدولة العباسية/214: «قوموا إلى سيدكم، فقال عمر بن الخطاب: الله سيدنا ورسوله، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): وسعد سيدك يا عمر»!

أقول: في قوله (صلی الله علیه و آله) إن سعد سيدك أنت أيضاً يا عمر، إشارة إلى أن عمر معهم!

ص: 229

الفصل الثالث والخمسون: غزوة بني المصطلق أو الُمريسيع

1- خلاصة الغزوة

بنو المُصْطَلِق بن سعد: بطن من خزاعة أقرب إلى الحضريين، وكانت خزاعة تغلبت على مكة، حتى أخرجهم قصي جد النبي (صلی الله علیه و آله). «الكافي: 4/219». والمُرَيْسِيع: ماء لهم قرب الفرع بناحية بدر وقديد من ساحل البحر. معجم البلدان: 5/118ومعجم قبائل العرب:1/5 و338.

وكانت خزاعة حليفة لعبدالمطلب وبني هاشم، وكان بنو المصطلق وبنو الهون من خزاعة حلفاء بني أمية. «معجم البلدان: 6/278». وقد شاركوا في حرب الأحزاب بقيادة يزيد بن الحليس. «تفسير مقاتل: 3/41». ولا يبعد أن يكون أبوسفيان حرَّكهم لغزو المدينة فبلغ ذلك النبي (صلی الله علیه و آله) فغزاهم قبل أن يكملوا استعدادهم لحربه!

ففي إعلام الورى: 1/196: «ثم كانت غزوة بني المصطلق من خزاعة، ورأسهم الحارث بن أبي الضرار، وقد تهيؤوا للمسير إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وهي غزوة المريسيع وهو ماء، وقعت في شعبان سنة خمس».

«وكان سيدهم الحارث بن أبي ضرار، دعا قومه ومن قدر عليه من العرب، إلى حرب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأجابوه وتجمعوا، وابتاعوا خيلاً وسلاحاً، وتهيؤوا للحرب والمسير معه، فبلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأرسل بريدة بن الحصيب الأسلمي ليتحقق ذلك، فأتاهم ولقي الحارث وكلمه مظهراً أنه منهم، وقد سمع بجمعهم ويريد الإنضمام بقومه ومن أطاعه

ص: 230

إليهم، وعرف منهم صدق ما بلغهم عنهم، فرجع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره بأنهم يريدون الحرب. فلما أخبر بريدة النبي (صلی الله علیه و آله) بصحة ما بلغه دعا الناس فأسرعوا الخروج، فخرج معه سبع مئة، ومعهم ثلاثون فرساً، منها عشرة للمهاجرين وعشرون للأنصار».

«وكان شعار المسلمين يومئذ: يا منصور أمت أمت، فتراموا بالنبل ساعة ثم أمر النبي (صلی الله علیه و آله) أصحابه فحملوا على الكفار حملة واحدة فقتل منهم عشرة، وأسر الباقون، ولم يفلت منهم أحد، وسبوا الرجال والنساء والذراري، وأخذوا الشاء والنعم، وكانت الإبل ألفي بعير والشاء خمسة آلاف، والسبي مائتي أهل بيت.

قال الحلبي: واستعمل على الغنائم شقران، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد. وبعث (صلی الله علیه و آله) أبا نضلة أو أبا ثعلبة أو أبا نملة الطائي، بشيراً إلى المدينة بفتح المريسيع. ولما رجع المسلمون بالسبي قدم أهاليهم فافتدوهم».

«وكانت غيبته (صلی الله علیه و آله) في هذه الغزوة ثمانية وعشرين يوماً. وقدم المدينة لهلال شهر رمضان المبارك. وكانت هذه الغزوة ضربة موفقة لقريش، أسفرت عن نتائج حاسمة. في منطقة كانت إلى الأمس القريب تقع في نطاق النفوذ المكي». الصحيح من السيرة:11/284، 287، 290 و291.

وروى في المناقب: 1/92: «كان يتفجر الماء من بين أصابعه (صلی الله علیه و آله) لما وضع يده فيها حتى شرب الماء الجيش العظيم، وسقوا وتزودوا في غزوة بني المصطلق. وفي رواية علقمة بن عبدالله أنه وضع يده في الإناء فجعل الماء يفور من بين أصابعه فقال: حي على الوضوء والبركة من الله، فتوضأ القوم كلهم.

وفي حديث أبي ليلى: شكونا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) من العطش، فأمر بحفرة فحفرت فوضع عليها نطعاً ووضع يده على النطع، وقال: هل من ماء؟ فقال لصاحب الإداوة: صب الماء على كفي واذكر اسم الله ففعل، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى رويَ القوم وسقوا ركابهم».

ص: 231

2- علي (علیه السلام) صاحب الراية في المريسيع وبطل الفتح

قال المفيد في الإرشاد: 1/118: «ثم كان من بلائه (علیه السلام) ببني المصطلق ما اشتهر عند العلماء، وكان الفتح له (علیه السلام) في هذه الغزاة، بعد أن أصيب يومئذ ناس من بني عبدالمصطلق، فقتل أميرالمؤمنين (علیه السلام) رجلين من القوم وهما مالك وابنه وأصاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) منهم سبياً كثيراً فقسمه في المسلمين. وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، وكان الذي سبا جويرية أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) فجاء بها إلى النبي فاصطفاها، فجاء أبوها إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بعد إسلام بقية القوم فقال: يا رسول الله إن ابنتي لاتسبى، إنها امرأة كريمة. قال: إذهب فخيرها، قال: أحسنت وأجملت، وجاء إليها أبوها فقال: يا بنية لاتفضحي قومك! فقالت له: قد اخترت الله ورسوله. فقال لها أبوها: فعل الله بك وفعل، فأعتقها رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجعلها في جملة أزواجه».

«فلما سمع القوم ذلك، أرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق، فما علم امرأة أعظم بركة على قومها منها». المناقب: 1/173.

«قال ابن إسحاق: وأصيب من بني المصطلق يومئذ ناس كثير، وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين مالكاً وابنه، وقتل عبدالرحمن بن عوف رجلاً من فرسانهم يقال له أحمر أو أحيمر. وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد أصاب منهم سبياً كثيراً فقسمه في المسلمين». ابن هشام: 3/761 والطبري: 2/263.

وفي دعائم الإسلام: 1/370، عن علي (علیه السلام) أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «لايغزى قوم حتى يُدْعَوْا، وإن أكدت الحجة عليهم بالدعاء فحسن، وإن قوتلوا قبل أن يُدْعَوْا إذا كانت الدعوة قد بلغتهم فلا حرج. وقد أغار رسول الله (صلی الله علیه و آله) على بني المصطلق وهم غارُّون، يعني غافلون، فقتل مقاتلتهم وسبا ذراريهم ولم يدعهم في الوقت. قال علي صلوات الله عليه: قد علم الناس اليوم ما يُدْعَوْنَ إليه».

ص: 232

3- أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) لقتال الجن

في منهاج الكرامة/171: «مارواه الجمهور من أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما خرج إلى بني المصطلق جَنَبَ عن الطريق وأدركه الليل، فنزل بقرب واد وعر، فهبط جبرئيل آخر الليل وأخبره أن طائفة من كفار الجن قد استبطنوا الوادي يريدون كيده وإيقاع الشر بأصحابه، فدعا بعلي (علیه السلام) وعوذه، وأمره بنزول الوادي فقتلهم (علیه السلام)».

وفي الإرشاد: 1/339: «فدعا أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب وقال له: إذهب إلى هذا الوادي، فسيعرض لك من أعداء الله الجن من يريدك، فادفعه بالقوة التي أعطاك الله عزوجل، وتحصن منه بأسماء الله التي خصك بعلمها. وأنفذ معه مائة رجل من أخلاط الناس وقال لهم: كونوا معه وامتثلوا أمره. فتوجه أميرالمؤمنين (علیه السلام) إلى الوادي فلما قارب شفيره أمر المائة الذين صحبوه أن يقفوا بقرب الشفير، ولا يحدثوا شيئاً حتى يأذن لهم.

ثم تقدم فوقف على شفير الوادي، وتعوذ بالله من أعدائه، وسمى الله عزوجل وأومأ إلى القوم الذين تبعوه أن يقربوا منه فقربوا، فكان بينهم وبينه فرجة مسافتها غلوة، ثم رام الهبوط إلى الوادي فاعترضته ريح عاصف كاد أن يقع القوم على وجوههم لشدتها، ولم تثبت أقدامهم على الأرض من هول ما لحقهم! فصاح أميرالمؤمنين: أنا علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب وصيُّ رسول الله وابن عمه، أثبتوا إن شئتم! فظهر للقوم أشخاص على صورة الزط تخيل في أيديهم شعل النار قد اطمأنوا بجنبات الوادي، فتوغل أميرالمؤمنين (علیه السلام) بطن الوادي وهو يتلو القرآن ويومئ بسيفه يميناً وشمالاً، فما لبثت الأشخاص حتى صارت كالدخان الأسود، وكبَّر أميرالمؤمنين (علیه السلام) ثم صعد من حيث انهبط، فقام مع القوم الذين اتبعوه حتى أسفر الموضع عما اعتراه.فقال له أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما لقيت يا أبا الحسن؟ فلقد كدنا أن نهلك خوفاً وإشفاقاً عليك أكثر مما لحقنا. فقال لهم: إنه لما تراءى لي العدو جهرت فيهم بأسماء الله عزوجل فتضاءلوا، وعلمت ما حل بهم من الجزع فتوغلت الوادي غير خائف منهم، ولو بقوا على هيئاتهم لأتيت على آخرهم وقد

ص: 233

كفى الله كيدهم، وكفى المسلمين شرهم، وسبقني بقيتهم إلى النبي (صلی الله علیه و آله) يؤمنون به.

وانصرف أميرالمؤمنين بمن تبعه إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره الخبر، فسري عنه ودعا له بخير، وقال له: قد سبقك يا علي إلي من أخافه الله، فأسلم وقبلت إسلامه. ثم ارتحل بجماعة المسلمين حتى قطعوا الوادي آمنين غير خائفين!

ثم قال المفيد: «وهذا الحديث قد روته العامة كما روته الخاصة ولم يتناكروا شيئاً منه.. ولا أزال أجد الجاهل من الناصبة والمعاند يظهر العجب من الخبر بملاقاة أميرالمؤمنين (علیه السلام) الجن وكفه شرهم عن النبي (صلی الله علیه و آله) وأصحابه، ويتضاحك لذلك وينسب الرواية له إلى الخرافات الباطلة، ويصنع مثل ذلك في الأخبار الواردة بسوى ذلك من معجزاته (علیه السلام) ويقول: إنها من موضوعات الشيعة، وتخرص من افتراه منهم للتكسب بذلك أو التعصب. وهذا بعينه مقال الزنادقة وكافة أعداء الإسلام فيما نطق به القرآن من خبر الجن وإسلامهم...

فلينظر القوم ما جنوه على الإسلام بعداوتهم أميرالمؤمنين (علیه السلام) واعتمادهم في دفع فضائله ومناقبه وآياته على ما ضاهوا به أصناف الزنادقة والكفار، مما يخرج عن طريق الحجاج إلى أبواب الشغب والمسافهات».

ورواه في الخرائج: 1/102و203 وفيه: أنه بعث علياً (علیه السلام) فحارب الجن الذين كانوا يمنعونهم من الإستقاء من البئر واستقى المسلمون. وإعلام الورى: 1/352 والمناقب: 1/358.

4- زواج النبي (صلی الله علیه و آله) من جويرية بنت الحارث

قال العلامة الحلي في كشف اليقين/136: «وفي غزاة بني المصطلق: كان الفتح له. وقتل أميرالمؤمنين (علیه السلام) مالكاً وابنه، وسبى جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار فاصطفاها النبي (صلی الله علیه و آله) لنفسه. فجاء أبوها بعد ذلك وقال: يا رسول الله إن ابنتي لا تسبى، إنها امرأة كريمة. قال: إذهب وخيِّرها. قال: لقد أحسنت وأجملت. فاختارت الله

ورسوله فأعتقها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وجعلها في جملة أزواجه».

وفي إعلام الورى: 1/196: «قالت جويرية بنت الحارث زوجة رسول الله (صلی الله علیه و آله): أتانا

ص: 234

رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونحن على المريسيع، فأسمع أبي وهو يقول: أتانا ما لا قبل لنا به! قالت: وكنت أرى من الناس والخيل والسلاح ما لا أصف من الكثرة، فلما أن أسلمت وتزوجني رسول الله (صلی الله علیه و آله) ورجعنا جعلت أظهر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى، فعرفت أنه رعب من الله عزوجل يلقيه في قلوب المشركين. قالت: ورأيت قبل قدوم النبي (صلی الله علیه و آله) بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبر بها أحداً من الناس، فلما سبينا رجوت الرؤيا، فأعتقني رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتزوجني».

وفي سيرة ابن إسحاق: 5/245: «فلما دخلت عليه قالت: يا رسول الله أنا جويرية ابنة الحارث سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، وقد كاتبت على نفسي فأعني على كتابتي. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أو خير من ذلك أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك؟ فقالت: نعم، ففعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فبلغ الناس أن رسول الله تزوجها، فقالوا أصهار رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق، فلقد أعتق بها مائة أهل بيت من بني المصطلق فما أعلم امرأة أعظم بركة على أهل بيت منها...كانت جويرية من ملك يمين رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأعتقها واستنكحها وجعل مهرها عتق كل مملوك من بني المصطلق».

5- تنظيم الخمس لبني هاشم، والصدقات والفئ للمسلمين

في الصحيح من السيرة: 11/289، عن الواقدي والبلاذري: «أخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) الخمس من جميع المغنم، وجعل عليه محمية بن جزء الزبيدي وكان يجمع الأخماس وكانت الصدقات على حدتها، أهل الفئ بمعزل عن الصدقة، وأهل الصدقة بمعزل عن الفئ. وكان يعطي الصدقة اليتيم والمسكين والضعيف، فإذا احتلم اليتيم نقل إلى الفئ، وأخرج من الصدقة ووجب عليه الجهاد، فإن كره الجهاد وأباه لم يعط من الصدقة شيئاً، وخلوا بينه وبين أن يكتسب لنفسه...

وقسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) الغنائم وأخذ صفيه قبل القسم، ثم جزأ الغنائم خمسة أجزاء،

ص: 235

ثم أقرع عليها، ولم يتخير، فأخرج الخمس وأخذ سهمه مع المسلمين لنفسه وفرسه، وكان له (صلی الله علیه و آله) صفيٌّ من المغنم حضر أو غاب قبل الخمس: عبدٌ، أو أمةٌ، أو سيفٌ، أو درع».

6- ابن سلول وسورة المنافقين!

في تفسير القمي: 2/368: «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ.. نزلت في غزوة المريسع وهي غزوة بني المصطلق في سنة خمس من الهجرة، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) خرج إليها فلما رجع منها نزل على بئر وكان الماء قليلاً فيها، وكان أنس بن سيار حليف الأنصار، وكان جهجاه بن سعيد الغفاري أجيراً لعمر بن الخطاب، فاجتمعوا على البئر فتعلق دلو ابن سيار بدلو جهجاه، فقال سيار دلوي وقال جهجاه دلوي، فضرب جهجاه يده على وجه ابن سيار فسال منه الدم، فنادى سيار بالخزرج ونادى جهجاه بقريش، وأخذ الناس السلاح وكاد أن تقع الفتنة، فسمع عبدالله بن أبيّ النداء فقال: ما هذا؟ فأخبروه بالخبر فغضب غضباً شديداً ثم قال: قد كنت كارهاً لهذا المسير، إني لأذلُّ العرب، ما ظننت أني أبقى إلى أن أسمع مثل هذا فلا يكون عندي تغيير! ثم أقبل على أصحابه فقال: هذا عملكم أنزلتموهم منازلكم وواسيتموهم بأموالكم، ووقيتموهم بأنفسكم وأبرزتم نحوركم للقتل فأرمل نساءكم وأيتم صبيانكم، ولو أخرجتموهم لكانوا عيالاً على غيركم!

ثم قال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ. وكان في القوم زيد بن أرقم وكان غلاماً قد راهق وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ظل شجرة في وقت الهاجرة وعنده قوم من أصحابه من المهاجرين والأنصار، فجاء زيد فأخبره بما قال عبدالله ابن أبيّ، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لعلك وهمت يا غلام؟ فقال: لا، والله ما وهمت! فقال: لعلك غضبت عليه؟ قال: لا ما غضبت عليه! قال: فلعله سفه عليك؟ فقال: لا والله! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لشقران مولاه: أخرج، فأخرج أحدج راحلته وركب، وتسامع الناس بذلك فقالوا: ما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليرحل في مثل هذا الوقت! فرحل الناس ولحقه سعد بن عبادة فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته! فقال: وعليك

ص: 236

السلام! فقال: ما كنت لترحل في هذا الوقت؟ فقال: أوما سمعت قولاً قاله صاحبكم؟ قالوا: وأي صاحب لنا غيرك يا رسول الله؟ قال عبدالله بن أبي زعم أنه إن رجع إلى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ! فقال: يا رسول الله، فأنت وأصحابك الأعز وهو وأصحابه الأذل، فسار رسول الله (صلی الله علیه و آله) يومه كله لا يكلمه أحد، فأقبلت الخزرج على عبدالله بن أبيّ يعذلونه فحلف عبدالله أنه لم يقل شيئاً من ذلك، فقالوا: فقم بنا إلى رسول الله حتى نعتذر إليه، فلوى عنقه! فلما جن الليل سار رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليله كله والنهار، فلم ينزلوا إلا للصلاة، فلما كان من الغد نزل رسول الله ونزل أصحابه وقد أمهدهم الأرض من السهر الذي أصابهم.

فجاء عبدالله بن أبي إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فحلف عبدالله أنه لم يقل ذلك، وأنه ليشهد أنه لا إله إلا الله وأنك لرسول الله، وأن زيداً قد كذب عليَّ! فقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) منه، وأقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يشتمونه ويقولون له كذبت على عبدالله سيدنا! فلما رحل رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان زيد معه يقول: اللهم إنك لتعلم أني لم أكذب على عبدالله بن أبي، فما سار إلا قليلاً حتى أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما كان يأخذه من البرحاء عند نزول الوحي عليه، فثقل حتى كادت ناقته أن تبرك من ثقل الوحي، فسريَ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يسكب العرق عن جبهته، ثم أخذ بأذن زيد بن أرقم فرفعه من الرحل ثم قال: يا غلام صدق قولك ووعى قلبك وأنزل الله فيما قلت قرآناً! فلما نزل جمع أصحابه وقرأ عليهم سورة المنافقين: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ..الى قوله: وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لايَعْلَمُون َ. ففضح الله عبدالله بن أبيّ... قال: وإن ولد عبدالله بن أبي أتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال يا رسول الله إن كنت عزمت على قتله فمرني أكون أنا الذي أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الأوس والخزرج أني أبرهم ولداً بوالديَّ، فإني أخاف أن تأمر غيري فيقتله فلاتطيب نفسي أن أنظر إلى قاتل عبدالله، فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): بل نحسن صحبته ما دام معنا!

ص: 237

وفي مجمع البيان: 10/23: «وكان عبدالله بن أبيّ بقرب المدينة، فلما أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبدالله بن عبدالله بن أبيّ حتى أناخ على مجامع طرق المدينة، فقال: مالك ويلك! قال: والله لا تدخلها إلا بإذن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ولتعلمن اليوم من الأعز من الأذل! فشكا عبدالله ابنه إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأرسل إليه أن خلِّ عنه يدخل. فقال: أما إذا جاء أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فنعم. فدخل فلم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات! فلما نزلت هذه الآيات وبان كذب عبدالله قيل له: نزل فيك آي شداد، فاذهب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يستغفر لك، فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أؤمن فقد آمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد! فنزل: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا.. إلى قوله: وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لايَعْلَمُونَ». وأسباب النزول/288. وشبيه به تفسير القمي: 2/371.

ومن كرم أخلاق النبي (صلی الله علیه و آله) أنهم طلبوا منه قميصه ليكفنوا فيه عبدالله بن أبي المنافق فأعطاهم، وقيل لأنه كان أعطى قميصه للعباس لما كان أسيراً.

وطلبوا من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يصلي عليه فصلى عليه، فاعترض عليه عمر بخشونة فزجره النبي (صلی الله علیه و آله). وقد عقد البخاري في صحيحه أبواباً روى فيها فضيلة اعتراض عمر على النبي (صلی الله علیه و آله) وزعم أن الوحي نزل موافقاً لعمرمخطئاً للنبي (صلی الله علیه و آله) ! وقد اعترف أن عمر وثب اليه ووقف أمامه وجذبه من ثوبه، ليمنعه من الصلاة على الجنازة وقال له: أليس نهاك الله عن هذا! فغضب النبي (صلی الله علیه و آله) وقال: أخِّر عني يا عمر! فقال البخاري إن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يغضب منه بل ارتاح وتبسم له!

قال البخاري: 2/76: «جاء ابنه إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه، وصلِّ عليه واستغفر له، فأعطاه النبي (صلی الله علیه و آله) قميصه فقال: آذنِّي أصلي عليه فآذنه فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر فقال: أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين! فقال أنا بين خيرتين، قال الله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ».

وقال عمر كما في البخاري: 2/100: «وثبت إليه فقلت يا رسول الله أتصلي على ابن أبيّ، وقد قال يوم كذا وكذا، كذا وكذا، أعدِّد عليه قوله، فتبسم رسول الله وقال: أخِّر عني يا عمر، فلما أكثرت عليه قال: إني خُيِّرتُ فاخترتُ، لو أعلم أني إن زدت على السبعين

ص: 238

فغفر له لزدت عليها! قال: فصلى عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت: وَلا تُصَلِّ عَلَى أحد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً».

وفي مصادرنا: «ألم ينهك الله أن تقوم على قبره؟ فقال له: ويلك مايريد ربك ما قلت! وما يدريك ما قلت إني قلت: اللهم املأ قبره ناراً! قال الإمام الصادق (علیه السلام): فأبدى [عمر] من رسول الله ما كان يكره».الكافي: 2/188 والدعوات للراوندي/357.

7- هبت ريح عند موت يهودي

وصل النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمون في رجوعهم من غزوة المصطلق إلى وادي النقيع وهو أرض معشبة على أربعة فراسخ من المدينة، «البكري: 4/1322»، وقد حماه النبي لخيل المسلمين، «الكافي: 5/277». هناك هاجت ريحٌ قوية آذت المسلمين فخافوا منها،وسألوا النبي (صلی الله علیه و آله) عنها فقال: لاتخافوها، فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار! فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت، وهو من يهود بني قينقاع، قد مات ذلك يوم هبت الريح. وكان كهفاً أي مرجعاً للمنافقين!

وقال ابن هشام: 2/370 مات معه رجلان من اليهود هما: «سلسلة بن برهام، وكنانة بن صورياء».

وفي الخرائج: 1/102: «فقدمنا المدينة فوجدنا رفاعة بن زيد مات في ذلك اليوم، وكان عظيم النفاق وكان أصله من اليهود».

أقول: تفسيره (صلی الله علیه و آله) تلك الريح بموت أحد كبار الكفار، لاينافي رده لتفسير الناس لخسوف الشمس بموت ولده إبراهيم (علیه السلام)، حيث قال: «يا أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يجريان بأمره، مطيعان لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإن انكسفتا أو واحدة منهما فصلوا». الكافي: 3/208.

8- ضاعت ناقة النبي (صلی الله علیه و آله) فأرجف المنافقون

في تاريخ الطبري: 2/262، أنه في عودة النبي (صلی الله علیه و آله) من غزوة المصطلق هبت الريح في أول النهار وسكنت في آخره، فجمع الناس ظهرهم وفقدت راحلة

ص: 239

رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فسعى الرجال لها يلتمسونها فقال رجل من المنافقين هو زيد بن اللصيت أحد بني قينقاع:«كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته، ألايخبره الذي يأتيه بالوحي؟! فأراد الذين سمعوا منه ذلك أن يقتلوه فهرب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) متعوذاً به، فأتى النبي (صلی الله علیه و آله) جبرئيل فأخبره بقول المنافق ومكان ناقته، وأخبر بذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصحابه وذلك الرجل يسمع، وقال: ما أزعم أني أعلم الغيب وما أعلمه، ولكن الله أخبرني بقول المنافق ومكان ناقتي، هي في الشعب قد تعلق زمامها بشجرة. فخرجوا يسعون قِبَلَ الشعب، فإذا هي كما قال فجاؤوا بها! وآمن ذلك المنافق». و الخرائج: 1/102ونحوه قصص الأنبياء للراوندي/307.

9- شبَّه النبي (صلی الله علیه و آله) علياً بعيسى بن مريم (علیهما السلام)

في شرح الأخبار: 2/466: «عن سلمان الفارسي أنه قال: لما انصرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) من غزوة بني المصطلق تقدم في مقدمة الناس، وأمر علياً (علیه السلام) أن يكون في ساقتهم يحفظهم، فلما وصل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة أتى إلى باب المسجد جلس ينتظر علياً (علیه السلام) لم يدخل منزله، فرأيته يمسح العرق من وجهه،ثم قال: يأتيكم الساعة من هذه الشعبة، وأشار بيده إلى بعض الشعاب رجل أشبه الناس بالمسيح، وهو أفضل الناس بعدي يوم القيامة، وأول من يدخل الجنة!

فجعلنا ننظر إلى الشعب فكان أول من طلع منه علي بن أبي طالب (علیه السلام) ! فلما انتهى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) قام إليه فاعتنقه وقبل بين عينيه ودخلا فقال قوم من المنافقين: يشبِّه ابن عمه بالمسيح ويمثله به، أفآلهتنا التي كنا نعبدها خير أم علي؟ فأنزل الله عزوجل فيهم: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقَالُوا ءَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ». الزخرف: 57-58.

أقول: روت هذا الحديث مصادرنا مستفيضاً، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) قاله في أكثر من مناسبة «الكافي: 8/57» وروته بعض مصادرهم. ولا بد أن يكون نزول هذه الآيات ثانية بعد نزولها في مكة، وبعض الآيات نزلت مرات. وفي بعضها أن جبرئيل قال للنبي (صلی الله علیه و آله): يا محمد إقرأ قول الله تعالى كذا..لآيةٍ نزلت سابقاً.

ص: 240

10- الوليد بن عقبة الفاسق بشهادة القرآن!

بعد معركة النبي (صلی الله علیه و آله) مع بني المصطلق دخلوا في الإسلام. وعند موسم زكاتهم أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) الوليد بن عقبة بن أبي معيط ليقبضها، فخرجوا لاستقباله فخاف ورجع إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وقال له: رفضوا أداء زكاتهم!

وفي سيرة ابن هشام: 3/763: «فأخبره أن القوم قد هموا بقتله... فبينما هم على ذلك قدم وفدهم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا يا رسول الله، سمعنا برسولك حين بعثته إلينا فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فانشمر راجعاً! فبلغنا أنه زعم لرسول الله أنا خرجنا إليه لنقتله ووالله ما جئنا لذلك. فأنزل الله تعالى فيه وفيهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ». وتفسير الطبري: 26/160، نحوه شرح الأخبار: 2/120، البيهقي: 9/55، الإستيعاب: 4/1553، والسقيفة للجوهري/128، أسباب النزول/261، اليعقوبي: 2/53.

11- أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) خالداً فأفسد، فأرسل علياً (علیه السلام) فأصلح

في أمالي الصدوق/237، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) خالد بن الوليد إلى حي يقال لهم بنو المصطلق من بني جذيمة، وكان بينهم وبين بني مخزوم إحنة في الجاهلية، فلما ورد عليهم كانوا قد أطاعوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخذوا منه كتاباً، فلما ورد عليهم خالد أمر منادياً فنادی بالصلاة فصلى وصلوا، فلما كانت صلاة الفجر أمر مناديه فنادى فصلى وصلوا، ثم أمر الخيل فشنوا فيهم الغارة فقتل وأصاب فطلبوا كتابهم فوجدوه، فأتوا به النبي (صلی الله علیه و آله) وحدثوه بما صنع خالد بن الوليد، فاستقبل القبلة ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد! قال: ثم قدم على رسول الله تِبْرٌ ومتاع فقال لعلي (علیه السلام): يا علي، أئت بني جذيمة من بني المصطلق، فأرضهم مما صنع خالد. ثم رفع (صلی الله علیه و آله) قدمه فقال: يا علي، إجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك. فأتاهم علي (علیه السلام) فلما انتهى إليهم حكم فيهم بحكم الله، فلما رجع إلى النبي (صلی الله علیه و آله) قال: يا علي، أخبرني بما صنعت. فقال: يا رسول الله،

ص: 241

عمدت فأعطيت لكل دم دية ولكل جنين غرة، ولكل مال مالاً، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم وحبلة رعاتهم، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لما يعلمون ولما لايعلمون، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله. فقال (صلی الله علیه و آله): يا علي، أعطيتهم ليرضوا عني رضی الله عنك يا علي، إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي». وعلل الشرائع: 2/473، رواه في أمال الطوسي: 498 وفيه: «أرضيتني رضی الله عنك، يا علي أنت هادي أمتي، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبك وأخذ بطريقتك، ألا إن الشقي كل الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلى يوم القيامة».

أقول: كان ذلك بعد مدة من غزوة بني المصطلق، ولا بد أن هؤلاء ماطلوا في أداء زكاتهم، لأن إسلام خالد بن الوليد كان بعد غزوة بني المصطلق والحديبية.

12-كان بنو المصطلق يماطلون في دفع زكاتهم!

في نوادر الراوندي/152: «أهل الصفة وكانوا ضيفان رسول الله (صلی الله علیه و آله) كانوا هاجروا من أهاليهم وأموالهم إلى المدينة، فأسكنهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) صُفَّة المسجد وهم أربع مائة رجل، كان يسلم عليهم بالغدوة والعشي، فأتاهم ذات يوم فمنهم من يخصف نعله، ومنهم من يرقع ثوبه ومنهم من يتفلى، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يرزقهم مداً مداً من تمر في كل يوم، فقام رجل منهم فقال: يا رسول الله! التمر الذي ترزقنا قد أحرق بطوننا. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أما إني لو استطعت أن أطعمكم الدنيا لأطعمتكم، ولكن من عاش منكم من بعدي فسيغدى عليه بالجفان ويراح عليه بالجفان، ويغدو أحدكم في قميصة ويروح في أخرى، وتنجدون بيوتكم كما تنجد الكعبة. فقام رجل فقال: يا رسول الله! إنا على ذلك الزمان بالأشواق فمتى هو؟ قال (صلی الله علیه و آله): زمانكم هذا خير من ذلك الزمان، إنكم إن ملأتم بطونكم من الحلال توشكون أن تملأوها من الحرام! فقام سعد بن الأشج فقال: يا رسول الله! ما يفعل بنا بعد الموت؟ قال (صلی الله علیه و آله): الحساب والقبر، ثم ضيقه بعد ذلك أو سعته. فقال: يا رسول الله، هل تخاف أنت ذلك؟ فقال: لا ولكن أستحي من النعم المتظاهرة التي لا أجازيها ولا جزءً من سبعة.

ص: 242

فقال سعد بن الأشج: إني أشهد الله وأشهد رسوله ومن حضرني أن نوم الليل عليَّ حرام، والأكل بالنهار علي حرام، ولباس الليل علي حرام، ومخالطة الناس علي حرام، وإتيان النساء علي حرام. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا سعد لم تصنع شيئاً كيف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر إذا لم تخالط الناس؟ وسكون البرية بعد الحضر كفر للنعمة! نم بالليل وكل بالنهار، والبس ما لم يكن ذهباً أو حريراً أو معصفراً، وائت النساء.

يا سعد! إذهب إلى بني المصطلق فإنهم قد ردوا رسولي، فذهب إليهم فجاء بصدقة، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): كيف رأيتهم؟ فقال: خير قوم، ما رأيت قوماً قط أحسن أخلاقاً فيما بينهم من قوم بعثتني إليهم. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنه لاينبغي لأولياء الله تعالى من أهل دار الخلود، الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم، أن يكونوا أولياء الشيطان من أهل دار الغرور، الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم.

ثم قال: بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر. بئس القوم قوم يقذفون الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. بئس القوم قوم لا يقومون لله تعالى بالقسط، بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط في الناس. بئس القوم قوم يكون الطلاق عندهم أوثق من عهد الله تعالى. بئس القوم قوم جعلوا طاعة أيمانهم دون طاعة الله. بئس القوم قوم يختارون الدنيا على الدين. بئس القوم قوم يستحلون المحارم والشهوات والشبهات.

قيل: يا رسول الله وأي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم له استعداداً، أولئك هم الأكياس».

13- قصة تأخر عائشة عن النبي (صلی الله علیه و آله) في غزوة بني المصطلق

خلاصة قصة الإفك كما رواها ابن هشام عن عائشة: 3/764: أنها كانت مع النبي (صلی الله علیه و آله) في غزوة بني المصطلق، وفي رجوعهم نزل النبي (صلی الله علیه و آله) منزلاً: «فبات به بعض الليل، ثم أذن في الناس بالرحيل فارتحل الناس، وخرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقد لي فيه جزع ظفار، فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدري

ص: 243

فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده وقد أخذ الناس في الرحيل فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته، وجاء القوم خلافي الذين كانوا يرحلون لي البعير، وقد فرغوا من رحلته، فأخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه كما كنت أصنع، فاحتملوه فشدوه على البعير ولم يشكوا أني فيه، ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به، فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب، قد انطلق الناس. قالت: فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني، وعرفت أن لو قد افتقدت لرجع إلي. قالت: فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي، وقد كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته فلم يبت مع الناس، فرأى سوادي فأقبل حتى وقف عليَّ وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب، فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ وأنا متلففة في ثيابي: قال: ما خلفك يرحمك الله؟ قالت فما كلمته ثم قرب البعير فقال: اركبي واستأخر عني. قالت فركبت وأخذ برأس البعير فانطلق سريعاً يطلب الناس، فوالله ما أدركنا الناس، وما افتقدت حتى أصبحت ونزل الناس، فلما اطمأنوا طلع الرجل يقودني، فقال أهل الإفك ما قالوا، فارتجع العسكر! ووالله ما أعلم بشئ من ذلك، ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة، ولا يبلغني من ذلك شئ».

ثم ذكرت عائشة أنها تعالجت عند أمها، ولم تعرف باتهامها حتى أخبرتها أم مسطح، وقالت إنه حدثت في مرضها أحداث بسبب اتهامها، وكاد الأوس والخزرج يقتتلون لأن المتهم كان ابن سلول الأوسي، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) خطب وقال: «أيها الناس، ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت منهم إلا خيراً، ويقولون ذلك لرجل، والله ما علمت منه إلا خيراً وما يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي».

وذكرت عائشة أن النبي (صلی الله علیه و آله) استشار أشخاصاً في أمرها منهم علي (علیه السلام) فقال: «يا رسول الله إن النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف، وسل الجارية، فإنها ستصدقك. فدعا رسول الله بريرة ليسألها، قالت: فقام إليها علي بن أبي طالب فضربها ضرباً شديداً وهو يقول: أصدقي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فتقول: والله ما أعلم إلا خيراً،

ص: 244

ودخل عليها النبي (صلی الله علیه و آله) وقال: «يا عائشة إنه قد كان ما قد بلغك من قول الناس، فاتقي الله، وإن كنت قد قارفت سوءا مما يقول الناس فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده! قالت عائشة: فبكيت ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً، والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس، والله يعلم أني منه بريئة لأقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقونني! قالت: ثم التمست إسم يعقوب فما أذكره فقلت: ولكن سأقول كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ. قالت: فوالله ما برح رسول الله مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه. فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك، قالت: قلت: بحمد الله، ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن في ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة، فضربوا حدهم».

أقول: هذه رواية عائشة وفيها مناقشات، لأنه لا يصح قولها إن آية البراءة

نزلت يومها، بل نزلت بعد سنين!

14- نزلت آية البراءة في مارية فجعلتها عائشة لها!

وقعت قصة عائشة في غزوة بني المصطلق في شعبان سنة خمس «إعلام الورى: 1/196»وفي سنة ثمان نزلت آيات الإفك في سورة النور! وقد اتفقوا على أن سورة النور نزلت دفعة واحدة، بعد حادثة عائشة بثلاث سنين!

فالصحيح أن آية البراءة نزلت في مارية، فقد اتهموها في السنة الثامنة وقت نزول الآيات! ومما يدل على أنها في مارية أنها وصفت المتَّهمة بالغافلة، وهو ينطبق على مارية لسذاجتها ولاينطبق على عائشة! لاحظ آياتها: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالآفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَخَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الآثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ. لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ.

ص: 245

وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَعِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَليَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَالْحَقُّ الْمُبِينُ. الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. النور: 11- 26.

وصفة الغافلة تنطبق على مارية التي كان فيها بساطة وسذاجة، أما عائشة فلم يقل أحد إنها كانت ساذجة غافلة، بل كانت ذكية متحركة، وقد قادت معركة الجمل وحدها لسبعة أيام!

وقد تنبهت عائشة إلى أن صفة «الغافلة» لاتنطبق عليها فقالت: «رميتُ بما رميت به وأنا غافلة فبلغني بعد ذلك».«لباب النقول/157». ففسرت الغافلة بالغافلة عن التهمة وهو تفسير ضعيف يكاد ينطبق على كل متهمة، وهوتخصيص بدون قرينة، لأن الغفلة في الآية مطلقة تقابل الفطنة والذكاء: والمغفل: الذي لا فطنة له. والغفول من الإبل: البلهاء». «لسان العرب: 11/498». «ورجل غفل: لم يجرب الأمور». الصحاح: 5/1783.

وقد حاول بعضهم أن يجعل الغفلة بمعنى التي لاتخطر الفاحشة ببالها، «الشوكاني: 4/17 وعمدة القاري: 17/212»، ولايصح لأن المتبادر منها بدون قرينة: الساذجة.

وسيأتي ما يثبت أن المبرأة مارية لا عائشة.

ص: 246

الفصل الرابع والخمسون: من غزوة بني المصطلق إلى عمرة الحديبية

1- ثلاث غزوات، وأكثر من عشر سرايا، وعدد من الأحداث!

يتعجب الإنسان من تتابع فعاليات النبي (صلی الله علیه و آله) وتنوعها، ويتساءل: كيف اتسعت أيامه وأسبوعه وشهره وسنته (صلی الله علیه و آله) لكل هذه النشاطات؟!

ومن أمثلتها السنة الخامسة، فقد كان فيها غزوة بني المصطلق أو المريسيع، وحادثة ابن سلول رئيس المنافقين المدنيين، وتخلف عائشة عن القافلة التي جعلتها حديث الإفك، وضياع ناقة النبي (صلی الله علیه و آله)، وطلاق زيد لزينب بنت جحش وزواج النبي (صلی الله علیه و آله) بها، ورسائله إلى بعض الحكام والملوك، وغزوتان ذهب فيهما بنفسه: غزوة بني لحيان، وغزوة الغابة. وقصة العرنيين الذين سرقوا إبل الصدقة، وأكثر من عشر سرايا، لرد لصوص أو غزاة للمدينة.

وكان منها السرية التي قبضت على ثمامة بن أثال سيد اليمامة، ثم التهيؤ لأداء العمرة التي سميت غزوة الحديبية.

وخلال ذلك نزول سور من القرآن وآيات، وأحداث صغيرة وكبيرة!

لكن لاعجب من رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي وهب وجوده لربه فباركه، وكان يأتيه جبرئيل (علیه السلام) ويوجهه ويخبره بما يكون، ويأمره بما يجب، ويساعده عندما يلزم!

ص: 247

2- تشجيع النبي (صلی الله علیه و آله) سباق الخيل والإبل

«أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالسبق بين ما ضُمِّرَ من الخيل وما لم يُضَمَّر..فأرسلها من الحَفْيَا إلى ثنية الوداع، وهو خمسة أميال أو ستة أو سبعة. وأجرى ما لم يضمَّر فأرسلها من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق وهو ميلٌ أو نحوه.. وسابق أبو سعيد الساعدي على فرس النبي (صلی الله علیه و آله) الذي يقال له: «الظَّرْب» فسبقت غيرها من الخيل، وكساه النبي (صلی الله علیه و آله) برداً يمانياً، بقيت بقية عند أحفاده إلى زمان الواقدي. وسبق أيضاً أبو أسيد الساعدي على فرس النبي (صلی الله علیه و آله) اسمه لزَّاز فأعطاه النبي حُلة يمانية. وسابق (صلی الله علیه و آله) بين الخيل مرة وجلس على سلع، فسبقت له ثلاثة أفراس: لزَّاز، ثم الظَّرب، ثم السَّكْب» الصحيح من السيرة: 14/12.

«وقد سابق رسول الله (صلی الله علیه و آله) أسامة وأجرى الخيل، فروي أن ناقة النبي (صلی الله علیه و آله) سُبقت فقال: إنها بغت وقالت فَوْقِي رسول الله! وحقٌّ على الله عزوجل أن لايبغي شئ على شئ الا أذله الله، ولو أن جبلاً بغى على جبل لهدَّ الله الباغي منهما». الفقيه: 3/48 و 4/59.

أقول: تقدم أن المسلمين لم يكن عندهم في معركة بدر في السنة الثانية للهجرة إلا فرس واحدة، ثم كان عندهم في السنة الثالثة في أحُد بضعة أفراس، فشجعهم النبي (صلی الله علیه و آله) على اقتناء الخيل واشترى هو فكان عندهم في السنة الرابعة عدد منها، وفي السنة الخامسة كانت خيلهم بالعشرات، وشجع النبي (صلی الله علیه و آله) اقتناءها وأجرى السباق بينها، وكذا بين الإبل. فاتسع اهتمام المسلمين بالخيل. ولا علاقة لهذا السباق الذي أجراه النبي (صلی الله علیه و آله) في السنة الرابعة والخامسة للهجرة وبين سقوطه عن فرسه ذات مرة، فقد كان ذلك في السنة التاسعة.

فقد روى في الفقيه: 1/250و381 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان النبي (صلی الله علیه و آله) وقع عن فرس فشج شقه الأيمن، فصلى بهم جالساً في غرفة أم إبراهيم».

وفي رواية: فسحج شقه الأيمن أي خدش جلده. ونحوه عمدة القاري: 4/105.

3- لم تقع في المدينة زلزلة في عهد النبي (صلی الله علیه و آله)

قال في الصحيح: 14/24: «وزعموا: أنه في سنة خمس من الهجرة زلزلت المدينة فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الله عزوجل يستعتبكم فأعتبوه. ونقول: إن الله تعالى يقول: وَمَا

ص: 248

كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ..».

أقول: لا أثر في أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) لوقوع زلزلة في عهد النبي (صلی الله علیه و آله).

قال المقريزي في إمتاع الأسماع: 12/390: «لم يأت عن النبي (صلی الله علیه و آله) من وجه صحيح أن الزلزلة كانت في عصره ولا صحت عنه فيها سنة.وأول زلزلة كانت في الإسلام في عهد عمر فأنكرهاثم قال: ما أسرع ما أحدثتم! والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم».

وزعموا أنه ضرب الأرض بسوطه فسكنت!«الغدير: 8/82». وهو من المكذوبات.

وزعموا أنه أخذ تميماً الداري فطارد نار بركان في المدينة بيديه حتى هربت! «الدارمي: 1/132». وهو من المكذوبات أيضاً!

4- قصة زواج النبي (صلی الله علیه و آله) من زينب بنت حجش

قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً. وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً. مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَّقْدُوراً. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللهَ وَكَفَى بِالله حَسِيباً. مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَئ عَلِيماً». سورة الأحزاب: 36-40.

في تفسير القمي: 2/172 بسند صحيح عن الإمام الصادق (علیه السلام)، قال: «كان سبب نزول ذلك: وَإِذْ تَقُولُ للذِى أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ. أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما تزوج بخديجة بنت خويلد خرج إلى سوق عكاظ في تجارة لها، ورأي زيداً يباع ورآه غلاماً كيِّساً حصيفاً فاشتراه، فلما نبئ رسول الله (صلی الله علیه و آله) دعاه إلى الإسلام فأسلم وكان يدعى زيد مولى محمد (صلی الله علیه و آله) فلما بلغ حارثة بن شراحبيل الكلبي خبر ولده زيد، قدم مكة وكان رجلاً جليلاً، فأتى أباطالب فقال: يا أباطالب إن ابني وقع عليه السبي،

ص: 249

وبلغني أنه صار إلى ابن أخيك، فسله إما أن يبيعه وإما أن يفاديه وإما أن يعتقه.

فكلم أبوطالب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): هو حرٌّ فليذهب كيف يشاء، فقام حارثة فأخذ بيد زيد فقال له: يابني إلحق بشرفك وحسبك، فقال زيد: لست أفارق رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبداً! فقال له أبوه: فتدع حسبك ونسبك وتكون عبداً لقريش؟ فقال زيد: لست أفارق رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما دمت حياً، فغضب أبوه فقال: يا معشر قريش إشهدوا أني قد برئت منه، وليس هو ابني! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إشهدوا أن زيداً ابني أرثه ويرثني، فكان يدعى زيد بن محمد، فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحبه وسماه زيد الحِبّ، فلما هاجر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة زوجه زينب بنت جحش، وأبطأ عنه يوماً فأتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) منزله يسأل عنه فإذا زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيباً بفهر، فنظر إليها وكانت جميلة حسنة، فقال: سبحان الله خالق النور، وتبارك الله أحسن الخالقين.

ثم رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى منزله ووقعت زينب في قلبه موقعاً عجيباً، وجاء زيد إلى منزله فأخبرته زينب بما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال لها زيد: هل لك أن أطلقك حتى يتزوجك رسول الله، فلعلك قد وقعت في قلبه؟ فقالت: أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني رسول الله! فجاء زيد إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أخبرتني زينب بكذا وكذا، فهل لك أن أطلقها حتى تتزوجها؟ فقال رسول الله: لا، إذهب فاتق الله وأمسك عليك زوجك، ثم حكى الله فقال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَجْنَاكَهَا لِكَيْْ لايَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً. فزوجه الله من فوق عرشه فقال المنافقون: يحرِّم علينا نسائنا ويتزوج امرأة ابنه زيد! فأنزل الله في هذا: مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَيَهْدِي السَّبِيلَ. ثم قال: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَأَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ..».

وفي عيون أخبار الرضا (صلی الله علیه و آله): 2/172، أنه (علیه السلام) قال لابن الجهم: «وقول الله عزوجل: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ، فإن الله عزوجل عرف

ص: 250

نبيه (صلی الله علیه و آله) أسماء أزواجه في دار الدنيا، وأسماء أزواجه في دار الآخرة وأنهن أمهات المؤمنين، وإحدى من سمى له زينب بنت جحش، وهي يومئذ تحت زيد بن حارثه، فأخفى اسمها في نفسه ولم يبده، لكيلا يقول أحد من المنافقين إنه قال في امرأة في بيت رجل إنها إحدى أزواجه، وخشي قول المنافقين فقال الله عزوجل: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ، يعني في نفسك! وإن الله عزوجل ما تولى تزويج أحد من خلقه إلا تزويج حوا من آدم (صلی الله علیه و آله) وزينب من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقوله: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَجْنَاكَهَا.وفاطمة من علي (علیه السلام).

قال: فبكى علي بن محمد بن الجهم وقال: يا ابن رسول الله أنا تائب إلى الله عزوجل من أن أنطق في أنبياء الله: بعد يومي إلا بما ذكرته».

وفي تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى/155: «فإن قيل...فما تأويل قوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ..أوليس هذا عتاباً له (صلی الله علیه و آله) من حيث أضمر ما كان ينبغي أن يظهره، وراقب من لا يجب أن يراقبه، فما الوجه في ذلك؟

قلنا: وجه هذه الآية معروف وهو أن الله تعالى لما أراد نسخ ما كان عليه الجاهلية من تحريم نكاح زوجة الدعي، والدعي هو الذي كان أحدهم يجتبيه ويربيه ويضيفه إلى نفسه على طريق البنوة، وكان من عادتهم أن يحرموا على أنفسهم نكاح أزواج أدعيائهم كما يحرمون نكاح أزواج أبنائهم، فأوحى الله تعالى إلى نبيه أن زيد بن حارثة وهو دعي رسول الله (صلی الله علیه و آله) سيأتيه مطلقاً زوجته، وأمره أن يتزوجها بعد فراق زيد لها، ليكون ذلك ناسخاً لسنة الجاهلية التي تقدم ذكرها، فلما حضر زيد مخاصماً زوجته عازماً على طلاقها، أشفق الرسول من أن يمسك عن وعظه وتذكيره، لا سيما وقد كان يتصرف على أمره وتدبيره، فرجف المنافقون به إذا تزوج المرأة يقذفونه بما قد نزهه الله تعالى عنه».

وفي الصحيح من السيرة: 14/51: «وذكر البلاذري: أن زينب لما بشرت بتزويج الله نبيه (صلی الله علیه و آله) إياها ونزول الآية في ذلك جعلت على نفسها صوم شهرين شكراً

ص: 251

لله، وأعطت من بشَّرها حلياً كان عليها... قالت عائشة: فأخذني ما قرب وما بعد لما يبلغني من جمالها، وأخرى هي أعظم الأمور وأشرفها ما صنع الله لها زوَّجها الله من السماء! وقلت: هي تفتخر علينا بهذا.وكانت زينب تفتخر على أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله عزوجل من فوق سبع سموات. قالوا: وما أوْلَمَ على امرأة من نسائه أكثر وأفضل مما أولم على زينب، أولمَ عليها بتمر وسويق وشاةٍ ذبحها، وأطعم الناس الخبز واللحم، فترادف الناس أفواجاً يأكل فوج فيخرج ثم يدخل فوج، حتى امتد النهار، أطعمهم خبزاً ولحماً حتى تركوه».

لكن عائشة استطاعت أن تجر زینب اليها وتجعلها من حزبها حسب تعبيرها. قال في الصحيح: 14/175: «سرعان ما انقلبت الأمور، وأصبحت زينب في موقع الحظوة لدى عائشة وصارت تمدحها بقولها: ما رأيت امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثاً وأوصل للرحم، وأعظم أمانة وصدقة»!

ثم ذكر أنها كانت من نوع عائشة في الجرأة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فكانت النصير والمساعد لها على تمرير بعض مشاريعها في إثارة أجواء تخدم مصالحها المستقبلية والآنية على حد سواء.

روي عن الإمام الصادق (علیه السلام): أن زينب قالت لرسول الله (صلی الله علیه و آله): لا تعدل وأنت رسول الله؟! وقالت حفصة: إن طلقنا وجدنا أكفاءنا من قومنا! فاحتبس الوحي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) عشرين يوماً، فأنف الله عزوجل لرسوله (صلی الله علیه و آله) فأنزل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ..إلى قوله: أجْرَاً عَظيماً..

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال:«إن زينب بنت جحش قالت لرسول الله (صلی الله علیه و آله): لا تعدل وأنت نبي؟! فقال لها: تربت يداك إذا لم أعدل فمن يعدل؟! قالت: دعوت الله يا رسول الله ليقطع يدي؟ فقال: لا، ولكن لتتربان. فقالت: إنك إن طلقتنا وجدنا في قومنا أكفاءنا»!

ومن طريف ما في سيرة أخبارها أن النبي (صلی الله علیه و آله) سمى أباها جحشاً! «قال القرطبي في تفسيره: 14/165»: «وكان اسم جحش بن رئاب بُرَّة بضم الباء، فقالت زينب لرسول الله: يا رسول الله غَيِّرْ إسم أبي فإن البُرة صغيرة! «البُرَّة: حلقة توضع في أنف البعير ويربط بها الحبل

ص: 252

أو الخيط-لسان العرب: 11/174»فقيل إن رسول الله قال لها: لو كان أبوك مسلماً لسميته باسم من أسمائنا أهل البیت، ولكني قد سميته جحشاً والجحش أكبر من البرة». ورواه القرطبي في أحكام القرآن/3534، المعافري في الروض الأنف: 2/292 والحلبي في السيرة:2/483، تاريخ الخميس: 1/501، تاج العروس: 9/68 وحياة الحيوان/305.

5- تشديد الحجاب على نساء النبي (صلی الله علیه و آله)

قال في الصحيح من السيرة: 14/129: «روى الرواة عن زينب بنت جحش أنها قالت: فيَّ نزلت آية الحجاب، وذكروا أن ذلك كان في مناسبة تزويجها برسول الله (صلی الله علیه و آله)، وذكروا أن السبب في ذلك هو عمر بن الخطاب، وجعلوا ذلك من فضائله حتى لقد رووا عن ابن مسعود أنه قال عن عمر: إنه فُضِّل على الناس بأربع، وذكر منها أنه بذكره الحجاب أُمِرَ نساء النبي (صلی الله علیه و آله) أن يحتجبن!

وروي أن عمر مرَّ على نساء النبي (صلی الله علیه و آله) وهن مع النساء في المسجد فقال: إحتجبن فإن لكن على النساء فضلاً، كما أن لزوجكن على الرجال الفضل. فقالت له زينب: وإنك لتغار علينا يا ابن الخطاب والوحي ينزل في بيوتنا! فأنزل الله: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ.

وقد صرحوا أيضاً: بأن آية الحجاب التي نزلت في زينب بنت جحش هي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ..الآية. وكان وقت نزولها صبيحة عرس النبي (صلی الله علیه و آله) بزينب بنت جحش في ذي القعدة سنة خمس. وعن أنس: ما بقي أحد أعلم بالحجاب مني، ولقد سألني أبي بن كعب فقلت نزل في زينب. وفي رواية أنه في قضية زينب بنت جحش أراد أن يدخل مع النبي (صلی الله علیه و آله) فألقى الستر بينه وبينه ونزل الحجاب».

ثم ناقش صاحب الصحيح في فرض الحجاب كما صوروه لأنه موجود من الأصل، وأورد رواياته في أحد عشر وجهاً فيها تناقض!

وقد كتبنا بحثاً في كتاب «ألف سؤال وإشكال: 2/300»في اتهام البخاري وغيره للنبي (صلی الله علیه و آله) بأنه لم يكن يحجب نساءه، حتى أمره عمر بذلك، ونزل القرآن موافقاً

ص: 253

لقول عمر! وزعموا،«البخاري: 1/46» أن عمر كان يقول للنبي (صلی الله علیه و آله): أحجب نساءك فلم يفعل النبي (صلی الله علیه و آله) فنزل الوحي موافقاً لرأي عمر، وأمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يحجب نساءه! ويتخيل القارئ من كثرة رواياتهم أن نساء النبي (صلی الله علیه و آله) كنَّ غير محجبات وأنه قصَّرَ أو تسامح في حجابهن! مع أنهن كنَّ محجبات كغيرهن وكانت سورة النور قد نزلت وفيها آيات الحجاب وآداب الأسرة والإختلاط. أما آية الحجاب في سورة الأحزاب ففرضت عليهنَّ أن لايكلمن الرجال الأجانب إلا من وراء ستر. وهذه آيات الحجاب في سورة النور:

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الأرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلايَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِين مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جميعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. النور: 30 -31.

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَئْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَوةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَوةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيات وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

وإذا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَئْذِنُوا كَمَا اسْتَئْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. النور: 58 - 60.

وهذه آيات تشديد الحجاب على نساء النبي (صلی الله علیه و آله) في سورة الأحزاب:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فإن اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا.

يَا نِسَاءَ النبي مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا. وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا.

ص: 254

يَا نِسَاءَ النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قولاً مَعْرُوفًا. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاتَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَوةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إنما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً. وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لطيفاً خَبِيرًا. سورة الأحزاب: 28 - 34.

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبي إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فإذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتأنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبي فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وإذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عظيماً.

إِنْ تُبْدُوا شيئاً أَوْ تُخْفُوهُ فإن اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمًا. لاجُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلاأَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلاأَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلانِسَائِهِنَّ وَلامَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَئٍْ شَهِيدًا.

إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسُلَيْما. إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا.

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قليلاً. مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً. سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً. سورة الأحزاب: 53 - 62.

وتدل الآيات على أن الله تعالى أراد منهن أن يتحلَّيْنَ بمتانة الشخصية ورصانة الكلام: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، ولايكثرن الرواح والمجئ ولايتصدَّيْنَ للأمور السياسية: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ، وأن يكنَّ في مستوى مسؤولية كونهن زوجات النبي (صلی الله علیه و آله) ومستوى مقام أمهات المؤمنين الذي أعطاه الله لهن، وإلا..فليتنحَّيْنَ من حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! ومن الواضح أن الظروف التي كانت

ص: 255

تحيط بالنبي (صلی الله علیه و آله) كانت مؤذية له في نبوته وشخصه وأهل بيته ونسائه.

أما آية الحجاب التي طعنوا بسببها بالنبي (صلی الله علیه و آله) فهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبي إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ... وإذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عظيماً.

فهي آية واحدة فيها ثلاثة أحكام: أدب الدخول إلى بيت النبي (صلی الله علیه و آله) وحرمة تكليمهن إلا من وراء حجابٍ وسترٍ، ولذا سميت آية الحجاب.وحرمة الزواج بهنَّ بعده لأنهن أمهات المؤمنين. لكنهم صوروا أن نساء النبي (صلی الله علیه و آله) لم يكنَّ قبلها محجبات! وأكثروا الكذب عن سبب نزولها، وتناقضت رواياتهم في مدح هذا وذاك! وكلها أحاديث صحيحة السند عندهم! مثل أن عمر أمر النبي (صلی الله علیه و آله) فلم يفعل، فنزلت الآية موافقة لعمر! وقول عائشة إنها كانت تأكل مع النبي (صلی الله علیه و آله) حيساً «تمر بالسمن والطحين» فمر عمر فأكل معهم بأصابعه، فمست إصبعه إصبع عائشة، فنزلت الآية! ثم قالت إن إصبع شخص آخر أصابت إصبعها، فنزلت الآية!

ورووا أن عمر تشاجر مع زينب بنت جحش، فنزلت الآية! وأن سودة بنت زمعة خرجت ليلاً لتقضي حاجتها في جهة البقيع، فناداها عمر عرفناك ياسودة! فنزلت الآية!ورووا أن شباباً كانوا يجلسون بطريق نساء النبي (صلی الله علیه و آله) فيؤذونهن، فنزلت الآية! ورووا: أنه (صلی الله علیه و آله) رأى رجالاً يتحدثون مع نسائه، فصعد المنبر غاضباً وتلا الآية!

ورووا أن طلحة كان يؤذي النبي (صلی الله علیه و آله) في أمر نسائه، وكان يتحدث مع عائشة، فنهاه النبي (صلی الله علیه و آله) فرفض وأساء الأدب بحجة أنها ابنة عمه من بني تَيْم!

ففي الدر المنثور: 5/214، أنها: «نزلت في طلحة بن عبيدالله، لأنه قال: إذا توفي رسول الله تزوجْتُ عائشة! وأخرج ابن أبي حاتم، عن السدِّي قال: بلغنا أن طلحة بن عبيدالله قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا من بعدنا! لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده! فنزلت هذه الآية!

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أن رجلاً أتى بعض أزواج النبي فكلمها وهو ابن عمها، فقال النبي: لا تقومَنَّ هذا المقام بعد يومك هذا! فقال: يا رسول الله إنها ابنة

ص: 256

عمي، والله ما قلت لها منكراً ولا قالت لي! قال النبي: قد عرفت ذلك، إنه ليس أحد أغْيَرُ من الله، وإنه ليس أحد أغيرُ مني! فمضى ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمي! لأتزوجنها من بعده! فأنزل الله هذه الآية»!

ورووا: وهو ما نرجحه أن النبي (صلی الله علیه و آله) عندما تزوج بزينب بنت جحش، أطعم الناس في حجرته التي هي«صالة بيته» وخرجوا وبقي رجال ثقلاء فذهب النبي (صلی الله علیه و آله) يتمشى حتى وصل إلى غرفة عائشة البعيدة نسبياً عن حجرته، وعاد فوجد الثقيلين جالسين ولم يراعيا الأدب، «البخاري: 6/24» فنزلت الآية، وفيها: وَلا مُسْتأنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبي فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لايَسْتَحْيي مِنَ الْحَقِّ.

قال البخاري: 6/25، عن أنس: «فقلت: يا نبي الله ما أجد أحداً أدعوه. قال: إرفعوا طعامكم، وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت..وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام، وقعد ثلاثة نفر.. رأى رجلين جرى بهما الحديث، فلما رآهما رجع عن بيته..وأنزلت آية الحجاب».

وفي فتح الباري: 8/407: «فتهيأ للقيام ليفطنوا لمراده فيقوموا بقيامه..فخرجوا بخروجه إلا الثلاثة الذين لم يفطنوا لذلك لشدة شغل بالهم بما كانوا فيه من الحديث، وفي غضون ذلك كان النبي (صلی الله علیه و آله) يريد أن يقوموا من غير مواجهتهم بالأمر بالخروج لشدة حيائه، فيطيل الغيبة عنهم بالتشاغل بالسلام».

وقال القرطبي: 14/224: «قال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبي: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم»! وأقول: حسبك من الثقلاء أنهم محترمون جداً عند السلطة القرشية، لأنهم رؤساؤها، فقد أمرت رواتها بالتغطية عليهم وكتم أسمائهم!

وحسبك من كذب الرواة في سبب نزول آية الحجاب، أنها كثيرة متناقضة!

6- غزوة بني لِحْيان

بعد بني قريظة، غزا النبي (صلی الله علیه و آله) بني لِحْيَان وهم بطن من قبيلة هذيل، فربما كانوا يتهيؤون لمهاجمته، وكانوا غدروا ببعض المسلمين وقتلوهم، أو باعوهم

ص: 257

إلى قريش! فكان النبي (صلی الله علیه و آله) يدعو على قريش وعليهم ويلعنهم.

ففي الكافي: 8/70: «الإيمان يماني والحكمة يمانية، ولولا الهجرة لكنت امرءً من أهل اليمن. الجفا والقسوة في الفدَّادين أصحاب الوبر ربيعة ومضر، من حيث يطلع قرن الشمس..لعن الله رعلاً وذكوان وعضلاً ولحيان والمجذمين من أسد وغطفان، وأبا سفيان بن حرب، وشهبلاً ذا الأسنان، وابني مليكة بن جذيم، ومروان، وهوذة، وهونة».

وروى مسلم: 2/134، وغيره،أنهم قتلوا قراء بعثهم النبي (صلی الله علیه و آله) إلى نجد فدعا عليهم «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، اللهم العن لحيان ورعلاً وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله».

وكانت غزوة مختصرة، قال في المناقب: 1/170: «في جمادى الأولى وكان بينهما الرمي بالحجارة وصلى فيها صلاة الخوف بعسفان، ويقال في ذات الرقاع».

وقال ابن هشام في روايته عن ابن إسحاق: 3/750 إنها: «على رأس ستة أشهر من فتح قريظة، إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع: خبيب بن عدي وأصحابه وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة.. فسلك على غراب جبل بناحية المدينة على طريقه إلى الشام، ثم على مخيض، ثم على البتراء، ثم صفق ذات اليسار، فخرج على بين، ثم على صخيرات اليمام، ثم استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة، فأغذ السير سريعاً حتى نزل على غران، وهي منازل بني لحيان وغران واد بين أمج وعسفان، إلى بلد يقال له: ساية، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال..فخرج في مئتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان.. ثم كر وراح رسول الله (صلی الله علیه و آله) قافلاً، فكان جابر بن عبدالله يقول: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول حين وجه راجعاً: آيبون تائبون إن شاء الله، لربنا حامدون، أعوذ بالله من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال».

ونقد في الصحيح من السيرة: 14/235 رواياتهم في مدة سفر النبي (صلی الله علیه و آله) وعمله في هذه الغزوة، وبحث أهم ما فيها وهو زيارة النبي (صلی الله علیه و آله) لقبر والدته آمنه (علیها السلام) كما تقدم.

ص: 258

7- غزوة الغابة أو ذي قِرَد

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «أتى أبوذر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله إني قد اجتويت المدينة «تأذيت من هوائها» أفتأذن لي أن أخرج أنا وابن أخي إلى مزينة فنكون بها؟ فقال: إني أخشى أن يغير عليك خيل من العرب فيقتل ابن أخيك فتأتيني شعثاً فتقوم بين يدي متكئاً على عصاك فتقول: قتل ابن أخي وأخذ السرح! فقال: يا رسول الله، بل لا يكون إلا خير إن شاء الله.

فأذن له فخرج هو وابن أخيه وامرأته فلم يلبث هناك إلا يسيراً حتى غارت خيل لبني فزارة فيها عيينة بن حصن، فأخذت السرح وقتل ابن أخيه وأخذت امرأته من بني غفار، وأقبل أبوذر يشتد حتى وقف بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبه طعنة جائفة، فاعتمد على عصاه وقال: صدق الله ورسوله، أخذ السرح وقتل ابن أخي وقمت بين يديك على عصاي!فصاح رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المسلمين فخرجوا في الطلب فردوا السرح وقتلوا نفراً من المشركين». الكافي: 8/126.

وقال في الصحيح من السيرة: 14/223، ملخصاً: «كانت غزوة الغابة، وتعرف بذي قِرَد، وهو ماء على بريد من المدينة من جهة الشام، في يوم الأربعاء في شهر ربيع الأول من سنة ست، قبل الحديبية. فلما قدم النبي (صلی الله علیه و آله) من غزوة بني لحيان لم يُقم (صلی الله علیه و آله) سوى أيام قلائل حتى أغار بنو فزارة بقيادة عيينة بن حصن في أربعين فارساً على لقاح النبي (صلی الله علیه و آله) التي كانت في الغابة فاستاقوها، ونجا أبوذر وبه طعنة جائفة، وقتلوا ابنه وسبوا امرأته! فأمر النبي (صلی الله علیه و آله) أن ينادى في المدينة: الفزع الفزع،أو يا خيل الله اركبي،وكان أول ما نودي بها، وركب رسول الله (صلی الله علیه و آله) في خمس مائة. وكان أول من انتهى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الفرسان المقداد وجماعة فقال له: أخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالناس، فخرج الفرسان في طلب القوم حتى تلاحقوا، وكان أول فارس لحق بهم محرز بن نضلة فحمل عليه رجل منهم فقتله، ولما تلاحقت الخيل قتل أبو قتادة حبيب بن عيينة بن حصن.

وأقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المسلمين، وقَتل عكاشة بن محصن أبانَ بن عمرو،

ص: 259

وأدرك أوباراً وابنه عمرواً وهما على بعير واحد، فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعاً واستنقذوا بعض اللقاح، قيل: عشرة منها وأفلت القوم بما بقي وهو عشر، وهربوا إلى نجد. وسار رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى نزل بالجبل من ذي قرد، وأقام عليه يوماً وليلة، ورجع إلى المدينة، وقد غاب عنها خمس ليال.

وأفلتت امرأة أبيذر على ناقة من إبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى قدمت المدينة فقالت للنبي (صلی الله علیه و آله) إنها نذرت أن تنحر الناقة التي نجت عليهاوتأكل من سنامها وكبدها! فتبسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: بئسما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها! إنه لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا تملكين، إنما هي ناقة من إبلي. إرجعي إلى أهلك على بركة الله».

8- سرية علي (علیه السلام) لملاحقة اللصوص العرنيين

قال الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 7/245»: «قدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوم من بني ضبة مرضى فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): أقيموا عندي فإذا برئتم بعثتكم في سرية، فقالوا: أخرجنا من المدينة، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها ويأكلون من ألبانها، فلما برئوا واشتدوا قتلوا ثلاثة ممن كانوا في الإبل، فبلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) فبعث إليهم علياً (علیه السلام) فهم في واد قد تحيروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريباً من أرض اليمن، فأسرهم وجاء بهم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فنزلت هذه الآية عليه: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض.فاختار رسول الله (صلی الله علیه و آله) القطع فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف».

أقول: غيبت رواية الحكومة إسم علي (علیه السلام) من هذه السرية وصار إسمها: سرية كرز بن جابر إلى العرنيين! وحرفت روايتها للطعن بالنبي (صلی الله علیه و آله) وإثبات قسوته، فزعمت أنه (صلی الله علیه و آله) قتل العرنيين وسمل عيونهم وتركهم عطاشى حتى ماتوا ثم أحرقهم!ليبرروا للحكام ما يرتكبونه، بل ليجعلوهم أرحم من النبي (صلی الله علیه و آله) !

وكذب روايتهم الإمام الباقر (علیه السلام) فقال:«علل الشرائع: 2/541»: «إن أول ما استحل

ص: 260

الأمراء العذاب لكذبة كذبها أنس بن مالك على رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه سمَّر يد رجل إلى الحائط، ومن ثَمَّ استحل الأمراء العذاب»!

وروى عن الإمام زين العابدين (علیه السلام): «لا والله، ما سمل رسول الله (صلی الله علیه و آله) عيناً، ولا زاد أهل اللقاح على قطع أيديهم وأرجلهم».مسند الشافعي/351.

وقد كتبنا بحثاً في كتاب: ألف سؤال وإشكال: 2/435، المسألة: 164، استوفينا فيه رواياتهم وأقوال علمائهم وناقشناها. قال البخاري في صحيحه: 1/64: «فلما صحُّوا قتلوا راعي النبي (صلی الله علیه و آله) واستاقوا النعم فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جئ بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون». وقال في: 8/19: «فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها، وقطع أيديهم وأرجلهم، وما حسمهم ثم ألقوا في الحرة».

وقال في عون المعبود: 5/70: «قال قتادة: بلغنا أن النبي (صلی الله علیه و آله) بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة». أي تاب عن المثلة بعد ذلك، وكان ينهى المسلمين عنها!

9- اتهام عائشة للنبي (صلی الله علیه و آله) بأنه قسي القلب

زعموا أنه (صلی الله علیه و آله) لم يكن يبكي رحمة بأحد، فقد بكى أبو بكر وعمر على سعد بن معاذ، أما النبي (صلی الله علیه و آله) فلم يكن يبكي، بل يشد بشعر لحيته كأنه ينتفه!

فقد روى أحمد: 6/141: «قالت عائشة: فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله عزوجل رحماء بينهم قال علقمة: قلت أي أمه، فكيف كان رسول الله يصنع؟ قالت: كانت عينه لاتدمع على أحد! ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته»! ووثقه في الزوائد:6/13.

10- ثمامة سيد اليمامة هدية من الله إلى رسوله (صلی الله علیه و آله)

كان ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة الذين يسيطرون على اليمامة، واليمامة هي سافلة نجد مما يلي البحرين، وتبلغ ثلث ما يعرف اليوم بنجد:

https://ar.wikipedia.org/wiki/اليمامة (إقليم)

ص: 261

في اللباب لابن الأثير: 1/396: «الحنفي.. هذه النسبة إلى حنيفة وهم قبيلة كثيرة من ربيعة بن نزار نزلوا اليمامة، وهم حنيفة بن لجيم بن صعب... بن ربيعة بن نزار، ينسب إليه خلق كثير، منهم ثمامة بن أثال الحنفي له صحبة، وخولة أم محمد بن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب».

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يحب أن يحاصر قريشاً ويمنع عنها التموين من جهة نجد والعراق، كما منعه من جهة المدينة والشام، لعلها تفكر وتخضع لربها وتسمع لرسوله (صلی الله علیه و آله)، وقد يكون جبرئيل (علیه السلام) علمه أن يدعو الله تعالى أن يوقع ثمامة سيد اليمامة في قبضته ويهدي قلبه، فكان ذلك في السنة الخامسة للهجرة.

ففي الكافي: 8/299، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «إن ثمامة بن أثال أسرته خيل النبي (صلی الله علیه و آله)، وقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: اللهم أمكني من ثمامة، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): إني مخيرك واحدة من ثلاث: أقتلك، قال: إذاً تقتل عظيماً! أو أفاديك، قال: إذاً تجدني غالياً! أو أمنُّ عليك، قال: إذاً تجدني شاكراً! قال: فإني قد مننت عليك. قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله، وقد والله علمت أنك رسول الله حيث رأيتك، وما كنت لأشهد بها وأنا في الوثاق»!

وفي الإستيعاب: 1/214: «ثم أمر به فأطلق، فذهب ثمامة إلى المصانع فغسل ثيابه واغتسل، ثم جاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأسلم وشهد شهادة الحق، وقال: يا رسول الله إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فمر من يسيرني إلى الطريق، فأمر من يسيره فخرج حتى إذا قدم مكة، فلما سمع به المشركون جاؤوه فقالوا: يا ثمامة صبوت وتركت دين آبائك؟ قال: لا أدري ما تقولون إلا أني أقسمت برب هذه البُنَيَّة لا يصل إليكم من اليمامة شئ مما تنتفعون به حتى تتبعوا محمداً عن آخركم! قال: وكانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة!

ثم خرج فحبس عنهم ما كان يأتيهم منها من ميرتهم ومنافعهم، فلما أضرَّ بهم كتبوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحض عليها، وإن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلي بيننا وبين ميرتنا فافعل!

ص: 262

فكتب إليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن خلِّ بين قومي وبين ميرتهم!

وكان ثمامة حين أسلم قال: يا رسول الله، والله لقد قدمت عليك وما على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، ولا دين أبغض إلى من دينك، ولا بلد أبغض إلى من بلدك، وما أصبح على الأرض وجه أحب إليّ من وجهك، ولا دين أحب إليّ من دينك، ولا بلد أحب إليّ من بلدك!

11- السنوات العجاف على قريش

قال الواحدي في أسباب النزول/211: «قال ابن عباس: لما أتى ثمامة بن أثال الحنفي إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأسلم وهو أسير فخلى سبيله، فلحق باليمامة فحال بين أهل مكة وبين الميرة من يمامة وأخذ الله تعالى قريشاً بسني الجدب حتى أكلوا العلهز»الوبر بالدم«فجاء أبوسفيان إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: أنشدكم الله والرحم، إنك تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين، قال: بلى، فقال: قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فأنزل الله تعالى هذه الآية: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ».

وسبق إسلام ثمامة دعاء النبي (صلی الله علیه و آله) على قريش بعد غزوة الأحزاب: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، وابعث عليهم سنين كسني يوسف، فتتابعت عليهم الجدوبة والقحط سبع سنين حتى أكلوا القد والعظام والعلهز».مختلف ابن قتيبة/233.

ثم جاءهم قرار ثمامة بمنع وصول أي مادة غذائية لهم فاشتد الأمر عليهم، لكنهم لم يخضعوا لربهم ولا دعوه، ولا طلبوا من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يدعو لهم، بل كتبوا له إنك تأمر بصلة الرحم وإن ثمامة منع عنا الميرة فكتب إلى ثمامة»! الوافي: 11/14،أسباب النزول للواحدي/211، الحاكم: 2 /394، ابن حبان: 3 /247.

والسبب في عدم خضوعهم ودعائهم تكبرهم الذي فاقوا به اليهود! فقد قرروا أن لا يؤمنوا بالنبي (صلی الله علیه و آله) مهما رأوا من آياته!

وفي الكافي: 2/480، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «الإستكانة هو الخضوع

ص: 263

والتضرع هو رفع اليدين والتضرع بهما». راجع في ثمامة: تفسير الثعلبي: 5/ 12، الرازي:23/113، الإصابة:1/525 و 3/471،ابن هشام: 4/1026 و1053و تاريخ المدينة: 2/435.

12- أبعد أبو بكر ثمامة فاضطهده مسيلمة!

قال محمد بن إسحاق كما في الإستيعاب: 1/214: «ارتد أهل اليمامة عن الإسلام غير ثمامة بن أثال ومن اتبعه من قومه، فكان مقيماً باليمامة ينهاهم عن اتباع مسيلمة وتصديقه، ويقول إياكم وأمراً مظلماً لا نور فيه، وإنه لشقاء كتبه الله عزوجل على من أخذ به منكم، وبلاءٌ على من لم يأخذ به منكم، يا بني حنيفة! فلما عصوه ورأى أنهم قد أصفقوا على اتباع مسيلمة عزم على مفارقتهم.

ومر العلاء بن الحضرمي ومن معه على جانب اليمامة «في البحرين» فلما بلغه ذلك قال لأصحابه من المسلمين: إني والله ما أرى أن أقيم مع هؤلاء مع ما قد أحدثوا، وإن الله تعالى لضاربهم ببلية لايقومون بها ولا يقعدون، وما نرى أنت نتخلف عن هؤلاء وهم مسلمون، وقد عرفنا الذي يريدون، وقد مروا قريباً ولا أرى إلا الخروج إليهم، فمن أراد الخروج منكم فليخرج، فخرج ممداً للعلاء بن الحضرمي ومعه أصحابه من المسلمين، فكان ذلك قد فتَّ في أعضاد عدوهم حين بلغهم مدد بني حنيفة! وقال ثمامة بن أثال في ذلك:

دعانا إلى ترك الديانة والهدى *** مسيلمة الكذاب إذ جاء يسجعُ

فيا عجباً من معشر قد تتابعوا *** له في سبيل الغي والغيُّ أشنعُ...».

وقد فصلنا الموضوع في كتاب: قراءة جديدة في حروب الردة.

ص: 264

الفصل الخامس والخمسون: غزوة الحديبية والهدنة بين النبي و قريش

1- هدف الحديبية فرض الأمر الواقع على قريش

بعد هزيمة الأحزاب وفشل حملتهم على المدينة، غزا النبي (صلی الله علیه و آله) حلفاءهم بني قريظة وأجلاهم عن المدينة، وغزا بني المصطلق الذين كانوا يجمعون للغارة عليه وكانوا قريبين من مكة، وفرض سيطرته على شعاع واسع من المدينة حتى وصل نفوذه إلى نجد. ثم أسلم ثمامة بن أثال وفرض الحصار على المواد التموينية لقريش، ورافق ذلك الجدب وعدم المطر والضائقة الإقتصادية الشديدة عليهم، لكنهم ظلوا على عنادهم وكبريائهم!

في ذلك الظرف أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يفرض على قريش أن تعترف بالإسلام كأمر واقع، فقصد مكة معلناً أنه يريد العمرة، ولا يريد حرب قريش!

2- توجه النبي (صلی الله علیه و آله) بالمسلمين إلى العمرة

في الكافي: 8/322، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غزوة الحديبية خرج في ذي القعدة، فلما انتهى إلى المكان الذي أحرم فيه، أحرموا ولبسوا السلاح، فلما بلغه أن المشركين قد أرسلوا إليه خالد بن الوليد ليرده قال: إِبغوني رجلاً يأخذني على غير هذا الطريق، فأتيَ برجل من مزينة أو من جهينة، فسأله فلم يوافقه فقال: أبغوني رجلاً غيره، فأتيَ برجل آخر، قال: فذكر له فأخذه معه حتى انتهى إلى العقبة فقال: من يصعدها حط الله عنه كما حط الله عن بني إسرائيل، فقال لهم: أدخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطاياكم.

ص: 265

قال فابتدرها خيل الأنصار الأوس والخزرج، قال: وكانوا ألفاً وثمان مائة [وأربع مائة] فلما هبطوا إلى الحديبية إذ امرأة معها ابنها على القليب فسعى ابنها هارباً، فلما أثبتت أنه رسول الله صرخت به: هؤلاء الصابئون، ليس عليك منهم بأس، فأتاها رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأمرها فاستقت دلواً من ماء فأخذه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فشرب وغسل وجهه فأخذت فضلته فأعادته في البئر فلم تبرح حتى الساعة.«أي مملوءة»!

وخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأرسل إليه المشركون أبان بن سعيد في الخيل فكان بإزائه ثم أرسلوا الحليس فرأى البدن وهي تأكل بعضها أوبار بعض» أي هدي للكعبة«فرجع ولم يأت رسولَ الله (صلی الله علیه و آله)، وقال لأبي سفیان: يا أبا سفيان أما والله ما على هذا حالفناكم على أن تردوا الهدي عن محله! فقال: أسكت فإنما أنت أعرابي! فقال: أما والله لتخلين عن محمد وما أراد، أو لأنفردن في الأحابيش! فقال: أسكت حتى نأخذ من محمد وَلْثاً «عهداً» فأرسلوا إليه عروة بن مسعود وقد كان جاء إلى قريش في القوم الذين أصابهم المغيرة بن شعبة، وكان خرج معهم من الطائف وكانوا تجاراً، فقتلهم وجاء بأموالهم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأبى رسول الله أن يقبلها وقال: هذا غَدر ولا حاجة لنا فيه!

فأرسلوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: يا رسول الله هذا عروة بن مسعود، قد أتاكم وهو يعظم البدن، قال: فأقيموها فأقاموها. فقال: يا محمد مجئ من جئت؟ قال: جئت أطوف بالبيت وأسعى بين الصفا والمروة وأنحر هذه الإبل، وأخلي عنكم عن لحمانها. قال: لا واللات والعزى فما رأيت مثلك رُدَّ عما جئت له، إن قومك يذكرونك الله والرحم أن تدخل عليهم بلادهم بغير إذنهم، وأن تقطع أرحامهم، وأن تُجَرِّئ عليهم عدوهم. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما أنا بفاعل حتى أدخلها. قال وكان عروة بن مسعود حين كلم رسول الله (صلی الله علیه و آله) تناول لحيته، والمغيرة قائم على رأسه فضرب بيده فقال: من هذا يا محمد؟فقال: هذا ابن أخيك المغيرة.فقال: يا غُدَر والله ما جئت إلا في غسل سلحتك، «إعطاء الديات لمن غدر بهم».

قال:«فرجع إليهم فقال لأبي سفیان وأصحابه: لا والله ما رأيت مثل محمد رد عما جاء له، فأرسلوا إليه سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبدالعزى، فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأثيرت

ص: 266

في وجوههم البدن، فقالا: مجئ من جئت؟ قال: جئت لأطوف بالبيت وأسعى بين الصفا والمروة وأنحر البدن وأخلي بينكم وبين لحمانها. فقالا: إن قومك يناشدونك الله والرحم أن تدخل عليهم بلادهم بغير إذنهم وتقطع أرحامهم وتُجَرِّي عليهم عدوهم. قال: فأبى عليهما رسول الله إلا أن يدخلها».

3- استنفرت قريش وبعثت طليعةً لصد النبي (صلی الله علیه و آله)

في تفسير القمي: 1/150: «خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الحديبية يريد مكة، فلما وقع الخبر إلى قريش بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كميناً، ليستقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) على الجبال، فلما كان في بعض الطريق وحضرت صلاة الظهر فأذن بلال فصلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالناس، فقال خالد بن الوليد لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة لأصبناهم فإنهم لايقطعون صلاتهم! ولكن يجئ لهم الآن صلاة أخرى هي أحب إليهم من ضياء أبصارهم، فإذا دخلوا فيها حملنا عليهم! فنزل جبرئيل بصلاة الخوف بهذه الآية: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَاتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَاخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً. ففرق رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصحابه فرقتين، فوقف بعضهم تجاه العدو وقد أخذوا سلاحهم، وفرقة صلوا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) قياماً، ومروا فوقفوا مواقف أصحابهم، وجاء أولئك الذين لم يصلوا فصلى بهم رسول الله الركعة الثانية ولهم الأولى، وقعد وتشهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقام أصحابه وصلوا هم الركعة الثانية، وسلم عليهم».

وفي سيرة ابن هشام: 3/775، أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة! فما تظن قريش! فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة. ثم قال: مَنْ رجلٌ يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها».

ص: 267

4- عسكرت قريش في بَلْدَح وعسكر النبي (صلی الله علیه و آله) في الحديبية

عسكرت قريش في بلدح وهو واد قرب مكة عند التنعيم وفخ، «معجم البكري:1/273» وفيه ماء كثير وأصنام. طبقات ابن سعد: 2/95 والمناقب: 1/91. وكانوا يرسلون دورياتهم إلى مداخل مكة والمناطق القريبة من الحديبية، وكان قادة الخيل أبان بن سعيد، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب.

وفي المناقب: 1/174: «قال الزهري: فلما صار بذي الحليفة قَلَّدَ النبي (صلی الله علیه و آله) الهدي وأشعره «جعل له علامة» وأحرم بالعمرة، فلما بلغ غدير الأشطاط عند عسفان أتاه عتبة الخزاعي فقال: إن كعب بن لؤي وعامر بن لؤي جمعوا لك الجموع، وهم مقاتلوك وصادُّوك عن البيت، فقال (صلی الله علیه و آله): روحوا فراحوا حتى إذا كان ببعض الطريق قال (صلی الله علیه و آله): إن خالد بن الوليد بالغميم طليعة فخذوا ذات اليمين وسار حتى إذا كان بالثنية بركت ناقته فقال: ما خلأت القصواء ولكن حبسها حابس الفيل! ثم قال: والله لايسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها! قال فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد القَصَّة «25كم عن مكة من جهة جدة» فأتاهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، وكان عَيْبَة نصح رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال كما قال الغير فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، في كلام له بين الصلح والحرب.

فقال بديل: سأبلغهم ما تقول، فأتى قريشاً وقال: إن هذا الرجل يقول كذا وكذا فقال عروة بن مسعود الثقفي: إنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقالوا: إئته، فأتى النبي (صلی الله علیه و آله) وسمع منه مثل مقالته لبديل ورأى تعظيم الصحابة له (صلی الله علیه و آله)، فلما رجع قال: أيْ قوم والله لقد وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً! يقتتلون على وضوئه، ويتبادرون لأمره، ويخفضون أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها! فقال رجل من بني كنانة: إئته، فلما أشرف عليهم قال النبي (صلی الله علیه و آله): هذا فلان وهو من قوم يعظمون البُدْن فابعثوها فبعثت له واستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت الحرام.

ص: 268

ثم جاء مكرز بن حفص فجعل يكلم النبي إذ جاء سهيل بن عمرو فقال (صلی الله علیه و آله): قد سهل عليكم أمركم، فجلس وضرع إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في الصلح، ونزل عليه الوحي بالإجابة إلى ذلك».

وفي روضة الواعظين/62: «ولقد كنا معه بالحديبية وإذا بقليب «بئر» جافة فأخرج سهماً من كنانته فناوله البراء بن عازب وقال له: إذهب بهذا السهم إلى تلك القليب الجافة فاغرسه، ففعل ذلك فتفجرت اثنتا عشرة عيناً من تحت السهم»!

وفي المناقب: 1/91: «فجاءت قريش ومعهم سهيل بن عمرو فأشرفوا على القليب والعيون تنبع تحت السهم فقالت: ما رأينا كاليوم قط وهذا من سحر محمد قليل! فلما أمر الناس بالرحيل قال: خذوا حاجتكم من الماء، ثم قال للبراء: إذهب فرد السهم، فلما فرغوا وارتحلوا أخذ السهم فجف الماء، كأنه لم يكن هناك ماء»!

«قال البراء: كنا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالحديبية أربع عشرة مائة والحديبية بئر فقدمناها وعليها خمسون شاة ما ترويها..فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء.. حتى جرت نهراً.. فارت بالماء حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شفيرها. فقال سالم بن أبي الجعد: فقلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا! كنا خمس عشرة مائة». «وعلى الماء يومئذٍ نفر من المنافقين منهم عبدالله بن أُبيّ، فقال أوس بن خولى: ويحك يا أبا الحباب! أما آن لك أن تبصر ما أنت عليه، أبعد هذا شئ؟! فقال: إني قد رأيت مثل هذا! فقال أوس: قبحك الله وقبح رأيك! فأقبل ابن أُبيّ يريد رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا أبا الحُبَاب: إني رأيت مثلما رأيت اليوم!فقال: ما رأيت مثله قط! قال: فلم قلته؟ فقال ابن أُبي: يا رسول الله استغفر لي، فقال ابنه عبدالله بن عبدالله: يا رسول الله استغفر له، فاستغفر له. فقال عمر: ألم ينهك الله يارسول الله أن تصلي عليهم أو تستغفر لهم! فأعرض عنه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأعاد عليه فقال له: ويلك إني خيِّرت فاخترت، إن الله يقول: إسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ». الصحيح: 15/225.

ص: 269

5- هدايا خزاعة إلى النبي (صلی الله علیه و آله)

في الصحيح من السيرة: 15/356: «وأهدى عمرو بن سالم وبسر بن سفيان الخزاعيان بالحديبية لرسول الله (صلی الله علیه و آله) غنماً وجزوراً، وأهدى عمرو بن سالم لسعد بن عبادة جُزُراً وكان صديقاً له، فجاء سعد بالجزر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأخبره أن عَمْراً أهداها له، فقال: وعمرو قد أهدى لنا ما ترى فبارك الله في عمرو. ثم أمر بالجزر أن تنحر وتقسم في أصحابه، وفرق الغنم فيهم عن آخرها وشرك فيها فدخل على أم سلمة من لحم الجزور كنحو ما دخل على رجل من القوم..وأمر (صلی الله علیه و آله) للذي جاء بالهدية بكسوة».

6- ابتلى الله المسلمين بالصيد وهم محرمون

عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال في قول الله عزوجل: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَئٍْ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ: «حشرت لرسول الله في عمرة الحديبية الوحوش حتى نالتها أيديهم ورماحهم. ليبلوهم الله به.. نزلت في غزاة الحديبية قد جمع الله عليهم الصيد فدخل بين رحائلهم، ليبلوهم الله أي يختبرهم».الكافي: 4/396، تفسير القمي: 1/182، تفسير العياشي: 1/243 والنوادر للأشعري/137.

7- أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) خراش بن أمية الخزاعي إلى قريش

خراش بن أمية هو الذي حلق للنبي (صلی الله علیه و آله) في عمرة الحديبية، «الفقيه: 2/239»فهو قريب من النبي (صلی الله علیه و آله) وكان أول من أرسله برسالته إلى قريش أني جئت معتمراً لا مقاتلاً، فاعترضه معسكرهم وعقر بعيره عكرمة بن أبي جهل وأراد قتله على خلاف ما اتفقت عليه أصول العرب وكافة الناس من عدم قتل الرسول فأنقذته منهم قبيلة الأحابيش، وعاد إلى النبي (صلی الله علیه و آله) !الطبري: 2/278 وابن هشام: 3/779.

8- حاول مسلمون الذهاب إلى مكة فأسرهم المشركون

«وكان رجال من المسلمين قد دخلوا مكة بإذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهم: كرز بن جابر الفهري، وعبدالله بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس، وعبدالله بن حذافة

ص: 270

السهمي،وأبو الروم بن عمير العبدري، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس،وعمير بن وهب الجمحي، وحاطب بن أبي بلتعة،وعبدالله بن أبي أمية.فعُلم بهم فأُخذوا».سبل الهدى 5/48.

أقول: هؤلاء مكيون كانوا مقطوعين عن أسرهم وأقاربهم، ويبدو أن عملهم فردي، وقد يكون بعضهم استأذن النبي (صلی الله علیه و آله) فقال لهم إن استطعتم فادخلوا وقيل إنهم دخلوا بأمان عثمان بن عفان، ولا يصح، لأنه هو دخل بأمان من ابن عمه أبان بن سعيد، مع أنه كان مبعوث النبي (صلی الله علیه و آله) إلى قريش.

9- أمر النبي (صلی الله علیه و آله) عمر بالذهاب فخاف فأرسل عثمان

«أراد أن يبعث عمر فقال: يا رسول الله إن عشيرتي قليل وإني فيهم على ما تعلم ولكني أدلك على عثمان بن عفان، فأرسل إليه رسول الله فقال: إنطلق إلى قومك من المؤمنين فبشرهم بما وعدني ربي من فتح مكة، فلما انطلق عثمان لقي أبان بن سعيد فتأخر عن السرج فحمل عثمان بين يديه ودخل عثمان فأعلمهم، وكانت المناوشة، فجلس سهيل بن عمرو عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجلس عثمان في عسكر المشركين وبايع رسول الله (صلی الله علیه و آله) المسلمين وضرب بإحدى يديه على الأخرى لعثمان. وقال المسلمون: طوبى لعثمان قد طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحل، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ماكان ليفعل فلما جاء عثمان قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): أطفت بالبيت؟ فقال: ما كنت لأطوف بالبيت ورسول الله لم يطف به. ثم ذكر القضية وماكان فيها».الكافي: 8/326.

أقول: كان أبان بن سعيد بن العاص قائد خيل المشركين مع خالد وعكرمة وضرار، وكان مكلفاً أن يكونوا بإزاء جيش النبي (صلی الله علیه و آله)، وهو أخو خالد بن سعيد المؤمن المهاجر إلى الحبشة والموجود مع النبي (صلی الله علیه و آله)، وأبوهما أبو أحيحة الأموي الثري المشهور وله مكانة في قريش، فأعطى الأمان لعثمان، فلم يكن أي خطر عليه، بل أركبه فرسه ودخل معه إلى مكة، فبلغ رسالة النبي (صلی الله علیه و آله).

ص: 271

وفي الصحيح من السيرة: 15/297، ملخصاً: «ليت شعري لو أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان قد أمر عمر بن الخطاب بالمبيت في مكانه ليلة الهجرة فهل كان سيمتثل أمره؟!أم كان سيعتذر بأن قريشاً سوف تقتله وليس هناك من يدفع عنه من بني عدي، أو من غيرهم؟! وفي الحديبية لم يطلب منه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما يصل إلى حد ما طلبه من أميرالمؤمنين (علیه السلام) ليلة الهجرة من حيث درجة الخطورة على حياته.. بل طلب منه أن يكون رسولاًيتمتع بحصانة الرسل الذين يعتبر الإعتداء عليهم عاراً وعيباً عند العرب وعند سائر الأمم، وكان أرسل غيره في هذه المهمة وعاد سالماً، ومنع المشركون سفهاءهم من الإعتداء عليه، لأن الرسل لا تقتل!

ولكن عمر بن الخطاب يرفض طلب رسول الله (صلی الله علیه و آله) هذا، ويعتذر بأمر شخصي بحت ليس له منشأ يقبله العقلاء الذين يعيشون أجواء التضحية في سبيل مبادئهم، بل لا يقبله حتى عقلاء أهل الشرك والكفر! فكيف يدَّعون أن الإسلام عزّ بإسلام عمر، وأنه قد كانت له بطولات عظيمة ومواجهات مع المشركين قبل الهجرة كسرت شوكتهم»!

10- مبعوثو قريش إلى النبي (صلی الله علیه و آله)

جاء بديل بن وقاء الخزاعي رئيس خزاعة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فأرسله إلى قريش وكلمهم بحضور عروة بن مسعود الثقفي رئيس ثقيف، فأيد كلامه وطلب منهم عروة أن يرسلوه فأرسلوه، فجاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ورجع إلى قريش فحثهم على السماح له بأداء العمرة فلم يقبلوا! القمي: 2/310، الطبري: 2/275 وابن شيبة: 8/514.

ثم أرسلوا الحليس رئيس قبيلة الأحابيش كما تقدم من الكافي، ويبدو أنه هو رغب بذلك، فرجع وكلمهم أن يتركوا النبي (صلی الله علیه و آله) ليؤدي عمرته، فلم يقبلوا.

ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبدالعزى، ومكرز بن حفص، فلما جاء سهيل ورآه النبي (صلی الله علیه و آله) قال لأصحابه: سهل أمركم. وكانت مفاوضات النبي (صلی الله علیه و آله) معه صعبة ومثمرة، وقد احتاج فيها سهيل أن يرجع إلى قريش لأخذ موافقتهم على بند حرية المسلمين في مكة، فوافقوا.

ص: 272

11- بيعة الرضوان بحضور مفاوض قريش

استمرت مفاوضات النبي (صلی الله علیه و آله) مع سهيل بن عمرو يومين، وكانت في بعض مراحلها متوترة وفيها تهديد! قال الطبري: 2/280: «فلما انتهى سهيل إلى رسول الله تكلم فأطال الكلام، وتراجعا».

وفي فتح الباري: 5/253: «فلما لانَ بعضهم لبعض في الصلح، وهم على ذلك إذ رمى رجل من الفريقين رجلاً من الفريق الآخر فتصايح الفريقان، وارتهن كل من الفريقين من عندهم، فارتهن المشركون عثمان ومن أتاهم من المسلمين وارتهن المسلمون سهيل بن عمرو ومن معه، ودعا رسول الله إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة على أن لا يفروا، وبلغ ذلك المشركين فأرعبهم الله، فأرسلوا من كان مرتهناً، ودعوا إلى الموادعة».

وفي اليوم الثاني بقي النبي (صلی الله علیه و آله) مصراً على شرط حرية المسلمين في مكة، فرجع سهيل إلى مكة للتشاور مع زعماء قريش بشأنه، ثم عاد إلى النبي (صلی الله علیه و آله). وقد أخذ النبي (صلی الله علیه و آله) بحضور سهيل بيعة الرضوان من أصحابه على القتال وعدم الفرار، وعلى أن لاينازعوا الأمر أهله. فبيعة الرضوان لإرهاب قريش وإثبات جدية النبي (صلی الله علیه و آله) في فرض الأمر الواقع عليها.

وقال الواقدي: 2/602 قال لهم: «إن الله تعالى أمرني بالبيعة، فتداك الناس يبايعونه، بايعهم على أن لايفروا».

وفي شرح مسلم: 13/2: «في حديث ابن عمر وعبادة: بايعنا على السمع والطاعة وأن لا ننازع الأمر أهله». وفي مسند أحمد: 5/321، عن عبادة: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك، ولا تنازع الأمر أهله». ومعناه: أن لا ننازع الوصي على

خلافة النبي (صلی الله علیه و آله).

ص: 273

12- الإشتباكات مع قريش ودور علي (علیه السلام) فيها

1- نقرأ في سورة الفتح وصف مواجهة المسلمين لقريش في الحديبية، في قوله تعالى: وَهُو الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا. هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا. الفتح: 24-25.

فنرى في الحديبية ظفراً عسكرياً للمسلمين حتى عدَّ الفقهاء مكة مفتوحة عنوة: قال في الخلاف: 5/528، عن الآية: «وهذا صريح في الفتح».

لكن رواة السلطة القرشية أخفوا الظفر العسكري لأن بطله علي (علیه السلام)، أو نسبوه إلى محمد بن مسلمة، أو ابن الأكوع، وحتى إلى خالد بن الوليد، الذي كان يومها قائداً في جيش المشركين! وغرضهم أن يخفوا مقاومة قريش للنبي (صلی الله علیه و آله) وصده عن العمرة، ويخفوا بطولة علي (علیه السلام) في مواجهة قريش! ويمدحوا أشخاصاً آخرين يحبونهم!

قال المفيد (رحمة الله) في الإرشاد: 1/119: «ثم تلا بني المصطلق الحديبية، وكان اللواء يومئذ إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) كما كان إليه في المشاهد قبلها، وكان من بلائه في ذلك اليوم عند صف القوم في الحرب للقتال ما ظهر خبره واستفاض ذكره».

أقول: رحم الله المفيد ليته بينه، فقد ظهر ذلك واستفاض ذكره إلى عصره في القرن الرابع،ثم طُمس وأخفي ولم يصلنا إلا محرفاً مبتوراً!

قال رواة السلطة كالطبري: 2/278: «إن قريشاً بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين رجلاً، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله ليصيبوا لهم من أصحابه، فأخذوا أخذاً، فأتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالحجارة والنبل». وفي رواية ابن عبدالبر أنهم كانوا ثمانين.

فمن الذي قاد هذه العملية النظيفة، وهاجم هؤلاء الفرسان، وأسرهم جميعاً بدون سفك دم؟لقد نسبوه إلى محمد بن مسلمة، وكأن علياً (علیه السلام) كان نائماً وهو قائد الجيش، الذي يُعَيِّن الحراسات ويسير الدوريات ويسهر على سير الأمور! لكنهم يحبون ابن مسلمة،

ص: 274

لأنه شارك في تأسيس النظام القرشي، وكان من المهاجمين لبيت فاطمة وعلي (علیهما السلام)!

2- ثم رووا أن سهيل بن عمرو قال في مفاوضته للنبي (صلی الله علیه و آله): «يا محمد! إن هذا الذي كان من حبس أصحابك، وما كان من قتال من قاتلك، لم يكن من رأي ذوي رأينا بل كنا له كارهين حين بلغنا، ولم نعلم به وكان من سفهائنا، فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أول مرة، والذين أسرت آخر مرة!

قال: إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي. قال: أنصفتنا. فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بالشتيم بن عبدمناف التيمي فبعثوا بمن كان عندهم، وهم: عثمان وعشرة من المهاجرين وأرسل رسول الله أصحابهم الذين أسروا».الإمتاع: 1/289.

فقد أسَرَ النبي (صلی الله علیه و آله) إذن مجموعة من المشركين وأطلقهم، ثم أسر مجموعتين واحتفظ بهم! فمن قام بذلك غير علي (علیه السلام) قائد الجيش؟!

ثم رووا أن خيل النبي (صلی الله علیه و آله) وكانوا مئتي فارس، قاتلوا فرسان قريش وهم خيل عكرمة بن أبي جهل، وهزموهم حتى أدخلوهم حيطان مكة!

قال الزمخشري في الكشاف: 3/547، في تفسير قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ: «لما روي أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمس مائة، فبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) من هزمه وأدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثانية حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة فأنزل الله: وهُوَ الَّذي كفَّ أيديهم»

فمن الذي بعثه النبي (صلی الله علیه و آله) وقاد هذه العملية النظيفة داخل الحرم، وهزم قوة المشركين الضاربة بدون سفك دم، ولماذا بخلوا بتسمية علي (علیه السلام) ؟!

3- ويأخذك العجب من وقاحة رواة قريش ونسبتهم ذلك إلى خالد بن الوليد مع أنه كان قائد خيل المشركين، واعترض النبي (صلی الله علیه و آله) في الطريق وأراد أن يهاجم المسلمين وهم في صلاتهم، لكن النبي (صلی الله علیه و آله) تحاشى القتال!

لاحظ ما رواه الطبري في تفسيره: 26/123 والسيوطي في الدر المنثور: 6/78، عن عدة مصادر في تفسير قوله تعالى: وَهُو الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ، قال: «لما خرج النبي (صلی الله علیه و آله) بالهدي وانتهى إلى ذي

ص: 275

الحليفة قال له عمر: يا نبي الله تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح ولا كراع! قال فبعث إلى المدينة فلم يدع بها كراعاً ولا سلاحاً إلا حمله، فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل، فسار حتى أتى منى فنزل بمنى، فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج علينا في خمس مائة فقال لخالد بن الوليد: يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل، فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله فيومئذ سمي سيف الله، يا رسول الله إرم بي حيث شئت، فبعثه على خيل فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثالثة حتى أدخله حيطان مكة! فأنزل الله: وَهُو الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ.. إلى قوله: عذاباً أليماً». فهي رواية مكذوبة لمدح عمر بأنه أفقه من النبي (صلی الله علیه و آله) فنبهه إلى لزوم السلاح في سفره! ولمدح خالد وجعله سيف الله!لكن اضطر ابن كثير للإعتراف بكذب الرواية!قال في تفسيره: 4/20: «لأن خالداً لم يكن أسلم، بل كان حينئذ طليعة للمشركين كما ورد في الصحيح»!

4- واجه القرشيون النبي (صلی الله علیه و آله) بشراسة وبغضاء، مع أنه جاء معتمراً غير مقاتل! وأرسلوا خيلهم بقيادة خالد لإرجاعه أو قتاله، فتجنبها ونزل في الحديبية، فأرسلوا خيلهم بقيادة أبان بن سعيد إلى قربه، واستفردوا رجلاً مسلماً فقتلوه! وأرسل اليهم النبي (صلی الله علیه و آله) رسولاً فعقروا بعيره وأهانوه! ثم قاموا بأسر مسلمين عُزَّل ذهبوا إلى مكة. ثم أرسل اليهم النبي (صلی الله علیه و آله) عثمان بأمان أبان، فحبسوه!

مقابل ذلك قام النبي (صلی الله علیه و آله) بأسرمجموعة من اثني عشر فارساً، رداً على قتلهم المسلم: «يقال له رهم: اطلع الثنية من الحديبية فرماه المشركون بسهم فقتلوه، فبعث رسول الله خيلاً فأتوه باثني عشر فارساً من الكفار فقال لهم نبي الله: هل لكم علي عهد هل لكم علي ذمة، قالوا: لا. فأرسلهم».تفسير الطبري: 26/122.

ثم أسر النبي (صلی الله علیه و آله) مجموعة جاؤوا ليلاً للغارة على معسكره، ولم يطلقهم.

ثم أسر أربعين أو خمسين فارساً، وروي سبعين أو ثمانين، «الدرر لابن عبدالبر/194».

ثم رد هجوم خيلهم بقيادة عكرمة، وهزمهم حتى أوصلهم إلى حيطان مكة.

وكان الذي يقوم بالعمليات علي (علیه السلام)، ولذا جاءت نظيفة بدون سفك دم رجل

ص: 276

واحد في الحرم! لكنهم نسبوها إلى أحبائهم وفيهم من قادة المشركين!

وقد أنتجت هذه العمليات والبيعة التي أخذها النبي (صلی الله علیه و آله) أنهم رأوا أن، ميزان القوة مع النبي (صلی الله علیه و آله) فقبلوا بالمعاهدة، خاصة بند حرية المسلمين في مكة!

قال السيد شرف الدين في النص والإجتهاد/166: «صده المشركون عن مكة صداً شكساً شرساً لئيماً، فما استخفه بذلك غضب ولا روع حلمه رائع، كان يأخذ الأمور مع أولئك الجفاة بالملاينة والإغماض، وله في شأنهم كلمات متواضعة، على أن فيها من الرفعة والعلاء ما يريهم إياه فوق الثرىا ويريهم أنفسهم تحت الثرى! وفيها من النصح لهم والإشفاق عليهم ما لم يكن فيه ريب لأحد منهم، ومن الحكمة الإلهية ما يأخذ بمجامع قلوبهم على قسوتها وغلظتها، ومن الوعيد والتهديد باستئصال جذرتهم وبذرتهم ما يقطع نياط قلوبهم».

5- أخفى رواة السلطة مناقب علي (علیه السلام) في الحديبة، لكن أفلتت منهم أحاديث:

الأول: رواه الحافظ في ثلاثة مواضع من تاريخه: 2/377، 3/181 و 4/441«عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: «سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو آخذ بضبع علي يوم الحديبية وهو يقول: هذا أمير البررة، قاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله. مد بها صوته».

فما هي المناسبة لهذه الإشادة من النبي (صلی الله علیه و آله) ليأخذ بعضد علي (علیه السلام)، ويمد صوته في مدحه؟ وهل كان إلا بعد تحقيقه انتصاراً بأسر مجموعة من المشركين، أو رد هجوم فرسانهم وفرارهم أمامه مسافة طويلة، حتى أدخلهم حيطان مكة؟ أو بعد تفاقم حسد الحاسدين وكلامهم على علي (علیه السلام) ؟

وقد تضمنت بعض روايات الحافظ قول النبي (صلی الله علیه و آله): «أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد البيت فليأت الباب»!«وتاريخ دمشق: 42/226و282، وفتح الملك العلي لابن الصديق المغربي/57 والحاكم: 3/129»، لكن الأخير لم يذكر أن مناسبته في الحديبية.

وقال الخطيب التبريزي في الإكمال/111: «هذا حديث حسن صحيح فقد حسنه ابن حجر والعلائي وجماعة، وصححه ابن معين وابن جرير والحاكم

ص: 277

والسيوطي والعلامة الهندي وجماعة من السلف. وله شاهد من حديث ابن عباس عنه الطبري والطبراني والحاكم والخطيب، ومن حديث أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عنه الترمذي وابن جرير، وقد تكلم فيه جماعة من المتعنتين والمتعصبين في الجرح، فلا يلتفت إليهم»! ومن مصادرنا: الطوسي في الأمالي/483، الطبري الشيعي في المسترشد/622، عن محمد بن المنكدر وفيه أنه يوم الحديبية.

والحديث الثاني: في المناقب: 2/244، عن الترمذي أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال يوم الحديبية لسهيل بن عمرو وقد سأله رد جماعة: «يا معشر قريش لتنتهوا أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم على الدين امتحن الله قلبه بالإيمان! قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: هو خاصف النعل، وكان أعطى علياً نعله يخصفها».

وقد أوردنا مصادره في آيات الغدير/144، وأثبتنا أنه صدر أيضاً عن النبي (صلی الله علیه و آله) في المدينة بعد فتح مكة، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) أخبرهم بأنهم لن ينتهوا عن معاداة الإسلام حتى يقاتلهم علي (علیه السلام) ! ويظهر أن سهيل بن عمرو طمع عندما قبل النبي (صلی الله علیه و آله) شرطهم بإرجاع من يأتيه منهم، فطالب بمن أتاه قبل الحديبية!

والحديث الثالث رواه الجميع: لما رفض سهيل أن يكتبوا كلمة «رسول الله».

ففي إعلام الورى: 1/371: «فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل بن عمرو: هذا كتاب بيننا وبينك يا محمد، فافتتحه بما نعرفه واكتب باسمك اللهم. فقال: أكتب باسمك اللهم وامح ما كتبت. فقال (علیه السلام): لولا طاعتك يا رسول الله لما محوت. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو. فقال سهيل: لو أجبتك في الكتاب إلى هذا لأقررت لك بالنبوة، فامح هذا الإسم واكتب: محمد بن عبدالله. فقال له علي (علیه السلام): إنه والله لرسول الله على رغم أنفك. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أمحها يا علي. فقال له: يا رسول الله إن يدي لا تنطلق تمحو اسمك من النبوة! قال: فضع يدي عليها فمحاها رسول الله بيده، وقال لعلي: ستدعى إلى مثلها فتجيب، وأنت على مضض».

وفي تفسير القمي: 2/313: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي إنك أبيت أن تمحو إسمي من النبوة، فوالذي بعثني بالحق نبياً لتجيبن أبناءهم إلى مثلها وأنت مضيض مضطهد!

ص: 278

فلما كان يوم صفين ورضوا بالحكمين كتب: هذا ما اصطلح عليه أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفیان، فقال عمرو بن العاص: لو علمنا أنك أميرالمؤمنين ما حاربناك، ولكن أكتب: هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفیان، فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): صدق الله وصدق رسوله (صلی الله علیه و آله)، أخبرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) بذلك»!

وفي الكافي: 8/326، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «فقال لعلي (علیه السلام): أكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: ما أدري ما الرحمن الرحيم، إلا أني أظن هذا الذي باليمامة! ولكن أكتب كما نكتب: بسمك اللهم. قال: واكتبْ: هذا ما قاضى رسول الله سهيل بن عمرو. فقال: سهيل: فعلى مَ نقاتلك يا محمد؟!فقال: أنا رسول الله وأنا محمد بن عبدالله. فقال الناس: أنت رسول الله.قال: أكتب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله. فقال الناس: أنت رسول الله.

وكان في القضية أن من كان منا أتى إليكم رددتموه إلينا ورسول الله غير مستكره عن دينه، ومن جاء إلينا منكم لم نرده إليكم. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لاحاجة لنا فيهم. وعلى أن يعبدالله فيكم علانية غير سر. وإن كانوا ليتهادون السيور من المدينة إلى مكة. وما كانت قضية أعظم بركة منها، لقد كاد أن يستولي على أهل مكة الإسلام».أي يتهادون الهدايا. والسيور: ما تربط به الهدية.

وفي النص والإجتهاد/174: «فضج المسلمون وقالوا: والله لا يكتب إلا ما أمر به رسول الله... وأبوا إلا أن يكتب رسول الله كل الإباء، وكادت الفتنة أن تقع لولا أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: أنا محمد رسول الله وإن كذبتموني، وأنا محمد بن عبدالله فاكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله سهيل بن عمرو».

وهذا الحديث دليل من عشرات الأدلة على شرعية خلافة أميرالمؤمنين (علیه السلام).

والحديث الرابع: روته مصادرنا، قال العلامة في كشف اليقين/136: «وله في هذه الغزاة فضيلتان، إحداهما: إنه لما خرج النبي (صلی الله علیه و آله) إلى غزاة الحديبية نزل الجحفة فلم يجد بها ماء فبعث سعد بن مالك بالروايا فغاب قريباً وعاد، وقال: لم أقدر

ص: 279

على المضي خوفاً من القوم! فبعث آخر ففعل كذلك، فبعث علياً (علیه السلام) بالروايا فورد واستسقى وجاء بها إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فدعا له بخير.

والثانية، وذكر حديث تهديد النبي (صلی الله علیه و آله) لقريش بعلي (علیه السلام) وفيه: «وأومأ إلى علي فإنه يقاتل على التأويل إذا تركت سنتي ونبذت وحرف كتاب الله، وتكلم في الدين من ليس له ذلك، فيقاتلهم على إحياء دين الله». ونحوه الإرشاد: 1/121.

13- بنود معاهدة الحديبية

1- الهدنة لمدة عشر سنين، إلا إذا اعتدى أحد الطرفين أو أعان معتدياً.

2 - حرية العرب في أن يختاروا من يتحالفون معه: النبي (صلی الله علیه و آله) أو قريش.

3- حرية المسلمين في مكة، فلا يؤذون ولا يمنعون من أداء شعائر الإسلام.

4- يلتزم النبي (صلی الله علیه و آله) بإعادة من يأتيه مسلماً من قريش، ولا تلتزم قريش بذلك.

5- تُخْلي قريش مكة للنبي (صلی الله علیه و آله) في العام القادم ثلاثة أيام، فيؤدي العمرة.

قال القمي في تفسيره: 2/310: «ورجع حفص بن الأحنف، وسهيل بن عمرو إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقالا: يا محمد قد أجابت قريش إلى ما اشترطت عليهم من إظهار الإسلام وأن لا يكره أحدٌ على دينه. فدعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالكتب ودعا أميرالمؤمنين وقال له: أكتب...ثم كتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبدالله والملأ من قريش وسهيل بن عمرو، واصطلحوا على وضع الحرب بينهم عشر سنين، على أن يكف بعض عن بعض، وعلى أنه لا إسلال، ولا إغلال، وأن بيننا وبينهم عيبة مكفوفة، وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل، وأن من أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل، وأنه من أتى من قريش إلى أصحاب محمد بغير إذن وليه يرده إليه، وأنه من أتى قريشاً من أصحاب محمد لم يرده إليه، وأن يكون الإسلام ظاهراً بمكة لا يكره أحد على دينه ولايؤذى ولا يعيَّر، وأن محمداً يرجع عنهم عامه هذا وأصحابه، ثم يدخل علينا في العام القابل مكة فيقيم فيها ثلاثة أيام، ولايدخل عليها بسلاح إلا سلاح المسافر السيوف في القراب. وكتب علي بن أبي طالب، وشهد على الكتاب المهاجرون والأنصار..

ص: 280

قال: فلما كتبوا الكتاب قامت خزاعة فقالت: نحن في عهد محمد رسول الله وعقده، وقامت بنو بكر فقالت: نحن في عهد قريش وعقدها. وكتبوا نسختين نسخة عند رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ونسخة عند سهيل بن عمرو، ورجع سهيل بن عمرو وحفص بن الأحنف إلى قريش فأخبراهم.

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأصحابه: أنحروا بدنكم واحلقوا رؤوسكم، فامتنعوا وقالوا: كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت ولم نسع بين الصفا والمروة؟! فاغتم رسول الله (صلی الله علیه و آله) من ذلك، وشكى ذلك إلى أم سلمة فقالت: يا رسول الله إنحر أنت واحلق، فنحر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحلق ونحر القوم على حيث يقين وشك وارتياب، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) تعظيماً للبدن: رحم الله المحلقين، وقال قوم لم يسوقوا البدن: يا رسول الله والمقصرين؟ لأن من لم يسق هدياً لم يجب عليه الحلق فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثانياً: رحم الله المحلقين الذين لم يسوقوا الهدي، فقالوا يا رسول الله والمقصرين؟ فقال رحم الله المقصرين».

وفي المناقب: 1/174: «فقال النبي (صلی الله علیه و آله): من جاءهم منا فأبعده الله، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم، فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجاً.

إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أفاوضك عليه أن ترده! فقال (صلی الله علیه و آله): إنا لم نقض بالكتاب بعد، قال: والله لا أصالحك على شئ أبداً.فقال النبي (صلی الله علیه و آله): فأجره لي، قال: ما أنا بمجيره لك.

قال مكرز: بلى أجرناه فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إنه ليس عليه بأس إنما يرجع إلى أبيه وأمه فإني أريد أن أتم لقريش شرطها»!.

14- غضبَ عمر وانشق على النبي (صلی الله علیه و آله) !

في المسترشد للطبري الشيعي/536: «فغضب الثاني وقال لصاحبه: يزعم أنه نبي وهو يرد الناس إلى المشركين! ثم أتى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: ألست برسول الله حقاً؟ قال: بلى قال: ونحن المسلمون حقاً؟ قال: بلى، قال: وهم الكافرون؟ قال: بلى،

ص: 281

قال: فعلى مَ نعطي الدنية في ديننا؟! فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): إنما أعمل بما يأمرني به الله ربي، إنه من خرج منها إليهم راغباً فلا خير لنا في مقامه بين أظهرنا ومن رغب فينا منهم، فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً. فقال: والله ما شككت في الإسلام إلا حين سمعت رسول الله يقول ذلك! وقام من عند النبي (صلی الله علیه و آله) متسخطاً لأمر الله وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) غير راض بذلك، ثم أقبل يمشي في الناس ويؤلب على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويعرض به ويقول: وعدنا برؤياه التي زعم أنه رآها يدخل مكة، وقد صددنا عنها ومنعنا منها ثم ننصرف الآن، وقد أعطينا الدنية في ديننا! والله لو أن معي أعواناً ما أعطيت الدنية أبداً!

ثم روى عن الواقدي: إني لأنظر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يومئذ جالساً متربعاً وإن عباد بن بشر، وسلمة بن أسلم بن حريش، مقنعان في الحديد قائمان على رأس رسول الله، إذ رفع سهيل بن عمرو صوته فقالا له: إخفض من صوتك عند رسول الله، وسهيل بارك على ركبتيه كأني أنظر إلى علم في شفته، إذ وثب الثاني إلى رسول الله فقال: يا رسول الله ألسنا بالمسلمين؟ فقال رسول الله: أنا عبدالله ورسوله لا أخالف أمره ولن يضيعني! فقال له: أعذرك الله؟ وجعل يردد الكلام على النبي فقال له أبو عبيدة بن الجراح: ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول الله يقول ما يقول! تعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم واتهم رأيك!

وقال ابن عباس: قال لي في خلافته وذكر القضية: إرتبت ارتياباً لم أرتبه منذ أسلمت إلى يومئذ، ولو وجدت شيعة أخرج معهم رغبة عن القضية لخرجت»!

وفي كتاب سُليم/239: «قال: أنعطي الدنية في ديننا؟ ثم جعل يطوف في عسكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) يشككهم ويحضضهم ويقول: أنعطي الدنية في ديننا؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أفرجوا عني أتريدون أن أغدر بذمتي، ولاأفي لهم بما كتبت لهم، خذ يا سهيل بيد أبي جندل! فأخذه فشده وثاقاً في الحديد، ثم جعل الله عاقبة أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الخير والرشد والهدى والعزة والفضل».

وفي رواية: «أخرجوه عني! أتريد أن أخفر ذمتي ولا أفي لهم».البحار: 30/314.

وقال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه: أين سنة الرسول وماذا فعلوا بها/273:

ص: 282

«صلح الحديبية من أعظم الإنجازات الإسلامية على الإطلاق بل هو الثمرة المباركة لكافة المعارك التي خاضها رسول الله، وقد وصف تعالى في كتاب العزيز هذا الصلح بالفتح المبين والنصر العزيز، لأن هذا الصلح قد حسم الموقف نهائياً لصالح الإسلام دون إراقة قطرة دم واحدة! ولو تغاضينا عن هذه النتائج الباهرة فإن كل ما فعله الرسول كان بأمر ربه. لقد أعلن الرسول (صلی الله علیه و آله) أن روح القدس قد نزل عليه وأمره بالبيعة، وقد فهم الجميع أن الصلح قد تم بتوجيه إلهي فقد قال الرسول للجميع: إني رسول الله ولست أعصيه. وقال أبو بكر مخاطباً عمر: أيها الرجل إنه لرسول الله، وليس يعصي ربه وهو ناصره!

وبالرغم من كل ذلك، فإن عمر بن الخطاب اعتبر الصلح الذي رضي به الله ورسوله«دنية في الدين»وأن ما فعله الرسول كان خاطئاً وغير صحيح!

وحاول عمر أن يقنع الحاضرين بأن الصلح الذي ارتضاه الله ورسوله دنيةٌ

في الدين، ليفرضوا على الرسول إلغاء الصلح والرجوع عنه! ولما يئس من إقناعهم قال: لو وجدت أعواناً ما أعطيت الدنية في ديني!

والمثير أنهم رغم ذلك سجلوه شاهداً على صك صلح الحديبية! وكما تعلم فإن سنة الرسول تعني: قول الرسول وفعله وتقريره».

وقال المحامي يعقوب في كتاب المواجهة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) /369: «لقد اعتبر عمر هذه المعاهدة«دنية»وقال للرسول أمام المسلمين: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا! وظهر الرجل بمظهر من يزاود على الرسول (صلی الله علیه و آله) بالدين، الذي علمه الرسول إياه! وقبل يوم واحد فقط طلب رسول الله من عمر أن يذهب إلى بطون قريش ليقول لها: بأن رسول الله لم يأت لقتال أحد إنما جئنا زواراً لهذا البيت معظمين لحرمته، معنا الهدي ننحره وننصرف، فرفض وقال: يا رسول الله إني أخاف قريش على نفسي وليس بها من بني عدي من يمنعني!«راجع المغازي للواقدي: 2/600.»

وهو نفس عمر الذي اشترك في معركة بدر! والذي لم يثبت أنه قتل مشركاً أو جرحه! وهو نفسه الذي هرب من المعركة يوم أحد! وقد ذكَّره الرسول بذلك

ص: 283

يوم أقبل عليه فقال له: أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم!«راجع المغازي للواقدي: 2/609»وهو نفس الرجل الذي لم يكن له أي دورمميز في أي معركة من معارك الإسلام التي سبقت صلح الحديبية! ومع ذلك يزاود على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويصف المعاهدة التي وقعها النبي ورضي عنها بأنها دنية في ديننا! وأعلن عمر أنه لو وجد أعواناً ما أعطى الدنية»!

15- بقي عمر غاضباً ولم يبايع بيعة الرضوان

روى الجميع أن عمر لم يقتنع بجواب النبي (صلی الله علیه و آله) بل واصل شكه في نبوته! وبقي يتكلم ويعمل لعله يجد أنصاراً لينقض المعاهدة بالقوة!

قال ابن عباس كما في مغازي الواقدي: 2/607: «قال لي عمر في خلافته: ارتبت ارتياباً ما ارتبته منذ أسلمت إلا يومئذ، ولو وجدت ذلك اليوم شيعة تخرج عنهم رغبة من القضية، لخرجت. وعن أبي سعيد الخدري: قال عمر: والله لقد دخلني يومئذ من الشك حتى قلت في نفسي: لو كنا مائة رجلٍ على مثل رأيي ما دخلنا فيه أبداً»! واعتزل عمرتحت شجرة وواصل عملياته، فأرسل ابنه ليأتيه بفرس كانت له عند أحد الأنصار ليقاتل عليها! ومع ذلك زعموا أنه سمع بخبر بيعة الرضوان، فذهب ابنه عبدالله وبايع وجعلوه إلى جنب النبي (صلی الله علیه و آله) !

قال البخاري: 5/69:«عن نافع قال إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر، وليس كذلك ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبدالله إلى فرس له عند رجل من الأنصار يأتي به ليقاتل عليه، ورسول الله يبايع عند الشجرة وعمر لايدري بذلك، فبايعه عبدالله ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر وعمر يستلئم للقتال، فأخبره أن رسول الله يبايع تحت الشجرة، قال فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله».

أقول: لا نقبل قولهم إنه بايع لأنه اعترف بأن النبي (صلی الله علیه و آله) بقي غاضباً عليه لايكلمه ولا يجيبه على كلامه، حتى رجعوا ووصلوا بعد يومين إلى كراع الغميم فنزلت سورة الفتح فأرسل عليه وقرأ له السورة! ومعناه أنه كان مغاضباً له لا يكلمه، وأراد أن يتم

ص: 284

عليه الحجة فأرسل اليه ليسمع السورة مع المسلمين فتساءل عمر: هل هذا فتح، وفي رواية أنه قال: والله ما هذا بفتح؟!

قال البخاري: 5/66، عن ابن عمر: «فسأله عمر بن الخطاب عن شئ فلم يجبه رسول الله ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه! وقال عمر بن الخطاب: ثكلتك أمك يا عمر نزرت رسول الله ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك! قال عمر: فحركت بعيري ثم تقدمت أمام المسلمين وخشيت أن ينزل فيَّ قرآن فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي. قال فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل فيَّ قرآن، وجئت رسول الله فسلمت فقال لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس،ثم قرأ: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً».راجع: النص والإجتهاد/171.

16- عقدة عمر من شجرة بيعة الرضوان!

قال السيد شرف الدين في النص والإجتهاد/368 «المورد: 65: شجرة الحديبية هذه بويع رسول الله (صلی الله علیه و آله) بيعة الرضوان تحتها، فكان من عواقب تلك البيعة أن فتح الله لعبده ورسوله فتحا مبيناً ونصره نصراً عزيزاً، وكان بعض المسلمين يصلون تحتها تبركاً بها وشكراً لله تعالى على ما بلَّغهم من أمانيهم في تلك البيعة المباركة. فبلغ عمر ما كان من صلاتهم تحتها، فأمر بقطعها وقال: ألا لا أوتي منذ اليوم بأحد عاد إلى الصلاة عندها إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد!

«سبحان الله وبحمده والله أكبر! يأمره بالأمس رسول الله بقتل ذي الخويصرة وهو رأس المارقة فيمتنع عن قتله احتراماً لصلاته، ثم يستل اليوم سيفه لقتل من يصلي من أهل الإيمان تحت الشجرة شجرة الرضوان؟!

وي، وي ما الذي أرخص له دماء المصلين من المخلصين لله تعالى في صلاتهم؟ إن هذه لبذرة أجذرت وآتت أكلها في نجد حيث يطلع قرن الشيطان! وكم لفاروق الأمة من أمثال هذه البذرة كقوله للحجر الأسود: إنك لحجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك. ولقد كانت هذه الكلمة

ص: 285

منه كأصل من الأصول العملية بنیٰ عليها بعض الجاهلين تحريم التقبيل للقرآن الحكيم، والتعظيم لضريح النبي الكريم ولسائر الضرائح المقدسة، ففاتهم العمل بكثير من مصاديق قوله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَخَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ.. وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ».

وفي الدر المنثور: 6/73: «أخرج البخاري وابن مردويه عن طارق بن عبدالرحمن قال: انطلقت حاجاً فمررت بقوم يصلون فقلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله بيعة الرضوان. وأخرج ابن أبي شيبة عن نافع قال: بلغ عمر بن الخطاب أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت».

أقول: هذه واحدة من محاولات عمر انتقاص مقام النبي (صلی الله علیه و آله) وإزالة آثاره، وهي تدل على عقدة في نفسه وذكرى سيئة لشجرة الرضوان وبيعة الرضوان!

كما تكونت عند عمر عقدة من التيمم، لأنه تيمم مرة فتمرغ بالتراب! فتبسم النبي (صلی الله علیه و آله) فحرم التيمم وأسقط آيته، وأفتى للمسلمين بدله بترك الصلاة!

17- رؤيا النبي (صلی الله علیه و آله) كانت في الحديبية وليس في المدينة

قال المفسرون إن رؤيا النبي (صلی الله علیه و آله) بدخول المسجد الحرام كانت في المدينة قبل الحديبية، ونقلوا عليه الإجماع، وغرضهم من ذلك التخفيف من اعتراض عمر وأنه كان على حق نوعاً ما لأن النبي (صلی الله علیه و آله) وعدهم بدخول المسجد!

قال ابن الجوزي في زاد المسير: 7/172: «قال المفسرون: سبب نزولها أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان أريَ في المنام قبل خروجه إلى الحديبية قائلاً يقول له: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاتَخَافُونَ.ورأى كأنه هو وأصحابه يدخلون مكة وقد حلقوا وقصروا، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، فلما خرجوا إلى الحديبية حسبوا أنهم يدخلون مكة في عامهم ذلك، فلما رجعوا ولم يدخلوا قال المنافقون: أين رؤياه التي رأى؟ فنزلت هذه الآية».

لكن المرجح أنه (صلی الله علیه و آله) رآها في الحديبية بعد اعتراض عمر عليه، وعدم اقتناعه بكلامه.

ففي الكافي: 6/486: «عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله (علیه السلام): الفَرْقُ من السنة

ص: 286

تطويل الشعر وفرقه؟ قال: لا، قلت: فهل فرق رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ قال: نعم. قلت: كيف فرق رسول الله (صلی الله علیه و آله) وليس من السنة؟ قال: من أصابه ما أصاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) يفرق كما فرق رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقد أصاب سنة رسول الله وإلا فلا. قلت له: كيف ذلك؟ قال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين صُدَّ عن البيت وقد كان ساق الهدي وأحرم أراه الله الرؤيا التي أخبره الله بها في كتابه إذ يقول: لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاتَخَافُونَ.. فعلم رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن الله سيفي له بما أراه فمن ثَمَّ وفَّرَ ذلك الشعر الذي كان على رأسه حين أحرم انتظاراً لحلقه في الحرم حيث وعده الله عزوجل، فلما حلقه لم يعد في توفير الشعر ولا كان ذلك من قبله».

وفي تفسير الطبري: 26/138عن مجاهد، قال: «أري بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد»؟!

18- أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بالإحلال من الإحرام ونحر الضحايا

قال الصدوق في من لايحضره الفقيه: 2/450: «اعتمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثلاث عُمَر متفرقات كلها في ذي القعدة. عمرة أهلَّ فيها من عسفان وهي عمرة الحديبية، وعمرة القضاء أحرم فيها من الجحفة، وعمرة أهل فيها من الجعرانة وهي بعد أن رجع من الطائف من غزوة حنين».

وفي الفقيه: 2/239، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «الذي كان على بدن النبي (صلی الله علیه و آله) ناجية بن الخزاعي الأسلمي، والذي حلق رأسه (صلی الله علیه و آله) يوم الحديبية خراش بن أمية الخزاعي والذي حلق رأسه في حجته معمر بن عبدالله بن حارث بن نصر بن عوف بن عويج بن عدي بن كعب، فقيل له وهو يحلقه: يا معمر أذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في يدك! قال: والله إني لأعده فضلاً علي من الله عظيماً. وكان معمر بن عبدالله يرجل شعره (صلی الله علیه و آله) وكان ثوبا رسول الله (صلی الله علیه و آله) اللذان أحرم فيهما يمانيين عبري وظفاري. وقطع التلبية حين زاغت الشمس يوم عرفة».

ص: 287

لكن في الكافي: 4/368، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين صد بالحديبية قصروأحل ونحر، ثم انصرف منها، ولم يجب عليه الحلق حتى يقضي النسك، فأما المحصور فإنما يكون عليه التقصير».

19- نزلت سورة الفتح في عودة النبي (صلی الله علیه و آله) من الحديبية

في النص والإجتهاد/181: «كانت إقامته في الحديبية تسعة عشر يوماً، قفل بعدها إلى المدينة، فلما كان بكراع الغميم موضع بين الحرمين نزلت عليه سورة الفتح، وعمر لايزال حينئذ آسفاً من صد المشركين إياهم عن مكة، ورجوعهم وهم على خلاف ما كانوا يأملون من الفتح»! وكان نزولها في مكان يدعى كراع الغميم، بعد يومين من مسير النبي (صلی الله علیه و آله) من الحديبية في عودته إلى المدينة، فدعا النبي (صلی الله علیه و آله) المسلمين إلى الإجتماع ليتلوها عليهم، ودعا عمر خاصة لعله يخرج من شكه وارتيابه وعمله لنقض المعاهدة! ولكن عمر بقي مصراً وقال: «والله ما هذا بفتح أو والله ما هذا بفتح! لقد صددنا عن البيت وصد هدينا. ورُدَّ رجلان من المؤمنين كانا خرجا إلينا! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا، وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين، فهو أعظم الفتوح! أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا». النص والإجتهاد/182.

وفي سيرة ابن هشام: 3/786: «فما فتح في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضاً والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. قال ابن هشام: والدليل على قول الزهري أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مئة، في قول جابر بن عبدالله، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف».

ص: 288

20- أهم موضوعات سورة الفتح

الآيات الثلاث الأولى: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا1 لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا 2 وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا 3.

بشارة للنبي (صلی الله علیه و آله) بأن معاهدة الحديبية كانت إنجازاً مهماً وفتحاً مبيناً، وأن ليونته مع قريش وتنازله لهم، قد طامن من بغضهم له وحقدهم عليه، وغفر ذنبه بنظرهم، بل أعطاه الحجة إذا عاملهم بحزم وشدة فيما بعد.

والآيات من: 4-7، بينت أن الله تعالى ثبَّت المؤمنين على طاعة النبي (صلی الله علیه و آله)، لإنجاز الفتح الذي تم، فقد أنزل الله عليهم السكينة فازدادوا إيماناً، ورضوا بعمل النبي (صلی الله علیه و آله). وأن المنافقين الظانين بالله ظن السوء، سوف يعاقبهم ويعذبهم.

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَللهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرض وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا4لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا 5 وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَّدَ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا6وَللهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرض وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا 7.

والآيتان 8 و9، بينت مهمات الرسول (صلی الله علیه و آله) التي وضعها الله له: شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وبينت واجب المؤمنين في الإيمان به وطاعته وتجليله.

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا8 لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ

بُكْرَةً وَأَصِيلاً 9.

ثم أكد عزوجل في الآية 10، مسؤولية المبايعين للنبي (صلی الله علیه و آله) وحذرهم بالعقوبة إن نكثوا بيعتهم،ووعدهم بالأجر العظيم إن وفوا بها. إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا10.

وفي الآيات 11- 17، عالج قضية المتخلفين عن النبي (صلی الله علیه و آله) من أهل المدينة وقبائل العرب، الذين دعاهم إلى السفر معه إلى الحديبية، فرفضوا.

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا

ص: 289

لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا 11 بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا 12وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا 13 وَللهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرض يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا 14 سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلاً 15 قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا 16 لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاعَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا17.

والآيات من 18-21، بدأت برضا الله تعالى عن الصحابة المؤمنين الذين بايعوا النبي (صلی الله علیه و آله) تحت شجرة الحديبية، وأكد أن ما تم لهم كان فتحاً قريباً، ووعدهم الله بمغانم كثيرة مادية وسياسية، لم تكن لتتحقق لولا صلح الحديبية.

لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا 18 وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا 19 وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا20 وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرًا21.

والآيات 22- 26، وصفت مشركي قريش بأنهم كفروا وصدوا عن المسجد الحرام، وأنهم لو قاتلوا المسلمين في غزوة الحديبية لانهزموا، لكن الله تعالى كف أيدي الطرفين عن بعضهم لمصالح يعلمها، منها وجود مؤمنين في مكة في أصلاب هؤلاء المشركين، ولو قتلهم يومئذ لظلم لهؤلاء الأولاد في أصلابهم: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ».

وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا 22 سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً 23 وَهُو الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا 24 هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ

ص: 290

مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا 25 إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمًا 26.

والآية27، في رؤيا النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه سيدخل المسجد الحرام مع المسلمين، وأنها حق وسوف تتحقق في وقتها، وأن الله تعالى بعلمه جعل قبلها فتحاً قريباً.

لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا27.

والآية28و29، تأكيد للوعد الرباني الحتمي بأن سيظهر دينه على الدين كله في العالم، وأن هذا هو الهدف من إرسال رسوله محمد (صلی الله علیه و آله) والذين معه من عترته، وأنهم غصون شجرته الموعودين في التوراة والإنجيل: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ. فالنبي (صلی الله علیه و آله) هو الشجرة والكلمة الطيبة، والشطأ هو أولاد الشجرة. وأعداؤهم الكلمة الخبيثة والشجرة الملعونة في القرآن. ولايصح تفسير الشطأ بالصحابة لأنه بإجماع اللغويين أولاد الشجرة والزرع.

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا. 28 مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الآنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا29.

21- الصحابة في سورة الفتح وبيعة الرضوان

رفعت السلطة القرشية آية: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. شعاراً في مدح الصحابة مقابل أهل البیت (علیهم السلام)، ورووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لأهل الحديبية: أنتم خير أهل الأرض. قال في فتح الباري: 7/341: «هذا صريح في فضل أصحاب الشجرة.وعند مسلم من حديث جابر مرفوعاً:

ص: 291

لا يدخل النار من شهد بدراً والحديبية. وروى مسلم أيضاً من حديث أم مبشر أنها سمعت النبي (صلی الله علیه و آله) يقول: لا يدخل النار أحد من أصحاب الشجرة».

وهو قولٌ لايصح، لأنهم بايعوا النبي (صلی الله علیه و آله) في الحديبية على عدم الفرار في الحرب ثم نكثوا بيعتهم بعد شهر في خيبر وفروا، ثم نكثوها بعد سنة في حنين وفروا. ولا يصح، لأن من أهل بيعة الرضوان أبا الغادية قاتل عمار بن ياسر (رحمة الله)، الذي شهد النبي (صلی الله علیه و آله) أنه من أهل النار. ومنهم عبدالرحمن بن عديس البلوي الذي قاد حصار عثمان وقتله، وقالوا إنه من أهل النار! ولأن رئيس المنافقين المدنيين ابن سلول كان معهم وبايع!

قال في النص والإجتهاد/168: «إن قريشاً بعثت إلى ابن سلول وهو مع رسول الله في الحديبية: إن أحببت أن تدخل مكة تطوف بالبيت فافعل. فقال له ابنه عبدالله: يا أبت أذكرك الله أن لا تفضحنا في كل موطن فتطوف ولم يطف رسول الله؟! فأبى الرجل حينئذ وقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله».

ولايصح ثالثاً، لأن الرضا عن المبايعين في الآية محدود بظرف، ومشروط بالإيمان، فقد قال عزوجل: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.. أي رضي عن المؤمنين منهم في ظرف البيعة، ولوكان الرضا أوسع من ظرف البيعة لما استعمل «إذ»، ولو شملهم جميعاً لجعله عنهم وليس عن المؤمنين منهم!

ولايصح رابعاً، لأنه بايعهم على أن لا ينزعوا الأمر أهله، وقد نازعوهم وعزلوهم واضطهدوهم وقتلوهم!

لكن مع قوة هذه الإشكالات، ما زال أتباع السلطة يتمسكون بها لمدح أبي بكر وعمر ويقولون إن عمر بايع وإنه مشمول بالسكينة التي أنزلها الله على أهل بيعة الرضوان!

22- ما جرى لأبي جندل وأبي بصير والمستضعفين بمكة

قال السيد شرف الدين في النص والإجتهاد/176: «فبينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) هو وسهيل بن عمرو يكتبان الكتاب بالشروط المذكورة، إذ جاء أبو جندل واسمه العاص بن

ص: 292

سهيل بن عمرو إلى المسلمين يرسف في قيوده، وكان أسلم بمكة قبل ذلك فمنعه أبوه من الهجرة وحبسه موثوقاً! وحين سمع أن النبي (صلی الله علیه و آله) وأصحابه في الحديبية احتال حتى خرج من السجن، وتنكب الطريق في الجبال حتى هبط على المسلمين ففرحوا به وتلقوه، لكن أخذه أبوه بتلابيبه يضرب وجهه ضرباً شديداً وهو يقول: يا محمد هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده إليَّ!

قال (صلی الله علیه و آله) لأبي جندل: إصبر واحتسب، فقد تم الصلح قبل أن تأتي، ونحن لا نغدر وقد تلطفنا بأبيك فأبى، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً. وهنا وثب عمر بن الخطاب إلى أبي جندل يغريه بقتل أبيه، ويدني إليه السيف! قال عمر كما في السيرة الدحلانية وغيرها: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، وجعل يقول له: إن الرجل يقتل أباه والله لو أدركنا آباءنا لقتلناهم! لكن أبا جندل لم يجبه إلى قتل أبيه خشية الفتنة وعمل بما أمره به رسول الله من الصبر والإحتساب، وقال لعمر: مالك لا تقتل أنت أباك؟ قال عمر: نهانا رسول الله. فقال أبو جندل: ما أنت أحق بطاعة رسول الله مني!

ورجع مع أبيه إلى مكة في جوار مكرز وحويطب، فأدخلاه مكاناً وكفا عنه أباه وغيره وفاء بالجوار. وجعل الله بعد ذلك له ولسائر المستضعفين من المؤمنين فرجاً ومخرجاً... وكان في المستضعفين المعذبين في مكة رجل من أبطال المسلمين يدعى أبا بصير، احتال حتى خرج من السجن ففر هارباً إلى رسول الله وهو في المدينة بعد رجوعه من الحديبية، فكتبت قريش في رده كتاباً بعثت به رجلاً من بني عامر يقال له خنيس ومعه مولى يهديه الطريق، فقدما على رسول الله بالكتاب فإذا فيه: قد عرفت ما شارطناك عليه من رد من قدم عليك من أبنائنا فابعث إلينا أبا بصير. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصح الغدر منا، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، فانطلق راشداً. قال: يا رسول الله إنهم يفتنوني عن ديني.

قال (صلی الله علیه و آله): يا أبا بصير إنطلق فإن الله سيجعل لك ولمن حولك من المستضعفين

ص: 293

فرجاً ومخرجاً! فودع الرجل رسول الله وانطلق معهما، حتى إذا كانوا بذي الحليفة جلس إلى جدار ومعه صاحباه، فقال لأحدهما: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ قال: نعم. قال أبو بصير: أرنيه، فناوله إياه فاستله أبو بصير ثم علاه فإذا هو يتشحط بدمه، ثم هم بالثاني فهرب منه، حتى أتى رسول الله، فلما رآه النبي (صلی الله علیه و آله) والحصى يطير من تحت قدميه من شدة عدوه، وأبو بصير في أثره. قال (صلی الله علیه و آله): قد رأى هذا ذعراً، فلما انتهى إلى النبي قال له (صلی الله علیه و آله): ويحك مالك؟ قال: إن صاحبك قتل صاحبي وأفلت منه ولم أكد، وإني لمقتول فأغثني يا محمد فأمَّنه رسول الله،وإذا بأبي بصير يدخل متوشحاً سيفه يقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله وفيت ذمتك أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت منهم بديني أن أفتن فيه أو يفتن بي. فقال له: إذهب حيث شئت، فقال: يا رسول الله هذا سلب العامري الذي قتلته، رحله وسيفه فخمسه. فقال له (صلی الله علیه و آله): إذا خمسته رأوني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك.

وعند ذلك هب أبو بصير إلى محل من طريق تمر به عيرات قريش، واجتمع إليه جمع من المسلمين المستضعفين الذين كانوا قد احتبسوا بمكة إذ بلغهم خبره وأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال في حقه: إنه مسعر حرب لو كان معه رجال، فتسللوا حينئذ إليه، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو، وخرج من مكة في سبعين فارساً أسلموا فلحقوا بأبي بصير، وكرهوا أن يقدموا على رسول الله في تلك المدة مدة المهادنة، وانضم إليهم ناس من غفار وجهينة وأسلم وطوائف أخر من العرب حتى بلغوا ثلاث مائة مقاتل، فقطعوا مارة قريش لا يظفرون بأحد منها إلا قتلوه، ولا مر بهم عير إلا أخذوها، ومنعوا الدخول إلى مكة والخروج منها! فاضطرت قريش أن تكتب لرسول الله تسأله بالأرحام التي بينه وبينها إلا آواهم وأرسلت أبا سفيان بن حرب في ذلك، فأبلغه أبوسفيان: إنا أسقطنا هذا الشرط من شروط الهدنة، فمن جاءك منهم فأمسكه من غير حرج!

وحينئذ كتب رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى أبي جندل وأبي بصير أن يقدما عليه، وأن يلحق من معهما من المسلمين بأهليهم، ولا يتعرضوا لأحد مر بهم من قريش ولا لعيراتهم، فقدم

ص: 294

كتاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) عليهما وأبو بصير يموت، فمات والكتاب في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجداً.وقدم أبو جندل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع ناس من أصحابه، ورجع باقيهم إلى أهليهم، وأمنت قريش على عيراتهم! وحينئذ عرف الصحابة الذين عظم عليهم رد أبي جندل إلى قريش مع أبيه أن طاعة رسول الله (صلی الله علیه و آله) خير مما أحبوه، وعلموا أن الحكمة كانت في الحديبية توجب الصلح فرضاً على التعيين، وأنه (صلی الله علیه و آله) لاينطق عن الهوى، وندموا كل الندم على ما بدر منهم من هناة معترفين بالخطأ، وقدرت قريش موقفه يومئذ معها في حقن دمائها».

راجع: الكافي:8/326 ومناقب آل أبي طالب: 1/175.

23- النتائج الكبرى لمعاهدة الحديبية

يكفي في وصف نتائجها قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا. وأول الفتح اعتراف قريش بدولة الإسلام، وقد فتح ذلك أبواب الجزيرة العربية وصار بإمكان أي قبيلة أن تعلن إسلامها أو تحالفها مع النبي (صلی الله علیه و آله) دون حرج أو خوف، بل فتحت أبواب مكة للإسلام وصار القرشي يعلن إسلامه ويؤدي شعائره دون خوف من ظلم قريش وطغيانها.

في الإحتجاج: 2/222، من حديث الإمام الرضا (علیه السلام) مع المأمون في تفسير قوله تعالى: «قال الرضا (علیه السلام): لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنباً من رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاث مائة وستين صنماً، فلما جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَئٌ عُجَابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَئٌ يُرَادُ. مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ. فلما فتح الله عزوجل على نبيه مكة قال له: يا محمد: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. عند مشركي أهل مكة بدعائك إياهم إلى توحيد الله فيما تقدم وما تأخر، لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لا يقدر على إنكار

ص: 295

التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم مغفوراً بظهوره عليهم. فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن»!فذنبه (صلی الله علیه و آله) سياسي لا حقيقي كما تخيلوا! راجع تنزيه الأنبياء (علیهم السلام) للشريف المرتضى/164 والإنتصار للمؤلف: 4/39.

24- لم تشارك قبائل العرب في غزوة الحديبية

استعظمت قبائل العرب حركة النبي (صلی الله علیه و آله) إلى مكة، واعتبرها بعضهم مغامرة لأنهم لم يدركوا وضع قريش والتحولات التي حصلت في ميزان القوة.

في تفسير القمي: 2/310: «وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يستنفر بالأعراب في طريقه، فلم يتبعه أحد ويقولون: أيطمع محمد وأصحابه أن يدخلوا الحرم، وقد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم! إنه لا يرجع محمد وأصحابه إلى المدينة أبداً»!

وقد وصف الله مواقف بعض القبائل فقال: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاتُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَاسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَاسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً.

و في تفسير القمي: 1/145:«فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ. فإنها نزلت في أشجع وبني ضمرة وهما قبيلتان، وكان من خبرهما أنه لما خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى غزاة الحديبية مر قريباً من بلادهم وقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) هادن بني ضمرة ووادعهم قبل ذلك فقال أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا رسول الله هذه بنو ضمرة قريباً منا ونخاف أن يخالفونا إلى المدينة أو يعينوا علينا قريشاً، فلو بدأنا بهم؟فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): كلا إنهم أبرُّ العرب بالوالدين وأوصلهم للرحم وأوفاهم بالعهد..الخ.».

وفي الكافي: 8/227، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ.قال: نزلت في بني مدلج لأنهم جاؤوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: إنا قد حصرت صدورنا أن نشهد إنك رسول الله، فلسنا معك ولا مع قومنا عليك، قال: قلت: كيف صنع بهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ قال: واعدهم إلى أن يفرغ من العرب، ثم يدعوهم فإن أجابوا وإلا قاتلهم».

ص: 296

الفصل السادس والخمسون: بعد الحديبية راسل النبي (صلی الله علیه و آله) ملوك العالم

«وفي سنة ست أو في سنة سبع كان إرسال النبي (صلی الله علیه و آله) الرسل إلى ستة من الملوك الذين يتحكمون في شعوب الأرض، فقد أرسل في ذي الحجة الحرام أو في أواخره أو في المحرم ستة نفر في يوم واحد، فخرجوا مصطحبين.

وقد كتب إليهم وإلى غيرهم من الملوك والرؤساء في داخل بلاد الإسلام وخارجها. وكانت اللغة التي كتب إليهم بها هي العربية والتي هي لغة القرآن والإسلام. والملوك الستة الذين كتب النبي (صلی الله علیه و آله) إليهم هم:

1 - النجاشي، ملك الحبشة.

2 - قيصر، ويقال: هرقل، عظيم الروم.

3 - كسرى، حاكم فارس والمدائن.

4 - المقوقس، صاحب الإسكندرية «مصر».

5 - الحارث، والي تخوم الشام ودمشق.

6 - ثمامة بن أثال، وهوذة بن علي الحنفيان، ملكا اليمامة، وقائداها.

أما الذين حملوا الكتب إلى هؤلاء فهم:

1 - عمرو بن أمية الضمري، إلى النجاشي.

2 - دحية بن خليفة الكلبي، إلى قيصر.

3 - عبدالله بن حذافة السهمي، إلى كسرى.

ص: 297

4 - حاطب بن أبي بلتعة اللخمي، إلى المقوقس.

5 - الشجاع بن وهب الأسدي، إلى الحارث بن أبي شمر الغسَّاني.

6 - وسليط بن عمرو العامري، إلى ثمامة وهوذة.

والظاهر أنه قد كان ثمة رهبة شديدة وخوف عظيم لدى بعض المسلمين من هذا الأمر، حتى إن الرسل أنفسهم أظهروا تثاقلاً عن تنفيذ أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) !

وقد يكون من أسباب ذلك خوفهم من بطش أولئك الملوك بهم، وذلك في سورة غضب شديد توقَّعوها منهم حين تسليم الرسائل إليهم، فقد قالوا: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) خرج على أصحابه ذات يوم بعد عمرته التي صد عنها يوم الحديبية، فقال: يا أيها الناس إن الله بعثني رحمة وكافة، فأدوا عني يرحمكم الله ولا تختلفوا عليَّ كما اختلف الحواريون على عيسى!وقال: إنطلقوا ولا تصنعوا كما صنع رسل عيسى بن مريم. فقال أصحابه: وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟! فقال: دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثاً قريباً فرضي وسلَّم، وأما من بعثه مبعثاً بعيداً، فكره وجهه وتثاقل فشكى ذلك عيسى إلى الله تعالى، فأصبح المتثاقلون كل واحد منهم يتكلم بلسان الأمة التي بعث إليها.

وقد اعتبر الواقدي: أن من معجزات رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه حين بعث النفر الستة إلى الملوك: أصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثهم إليهم. وقالوا: كان ذلك معجزة لرسول الله (صلی الله علیه و آله)».الصحيح من السيرة: 16/200.

وقال الأحمدي في مكاتيب الرسول (صلی الله علیه و آله): 1/181: «لما تم صلح الحديبية في شهر ذي القعدة سنة ست من الهجرة، رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة.فعندئذ كتب إلى الملوك من العرب والعجم ورؤساء القبائل والأساقفة والمرازبة والعمال وغيرهم يدعوهم إلى الله تعالى وإلى الإسلام، فبدأ بإمبراطوري الروم وفارس وملكي الحبشة والقبط ثم بغيرهم، فكتب في يوم واحد ستة كتب وأرسلها مع ستة رسل. قيل: يا رسول الله إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا إذا كان مختوماً، فاتخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) خاتماً من فضة، نقشه ثلاثة أسطر: محمد رسول الله. وقيل:

ص: 298

إن الأسطر الثلاثة تقرأ من أسفل فيبدأ به محمد، ثم رسول، ثم الله، فختم به الكتب. وفي مسند عبد بن حميد عن أنس قال: كتب رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى ملك الروم فلم يجبه، فقيل له: إنه لا يقرأ إلا أن يختم، قال: فاتخذ رسول الله خاتماً من فضة وكتب فيه: محمد رسول الله... وهذه الكتب بأجمعها تتضمن معنى واحداً وتروم قصداً فارداً، وإن كان اللفظ مختلفاً إذ كلها كتب لمرمى واحد، وهو الدعوة إلى التوحيد والإسلام..

قال قيصر لأخيه حين أمره برمي الكتاب: أترى أرمي كتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر. وقال لأبي سفیان بعد أن ساءله وتكلم معه في النبي (صلی الله علیه و آله) كما يأتي: إن كان ما تقول حقاً فإنه نبي ليبلغن ملكه ما تحت قدمي.

وخرج ضغاطر الأسقف أسقف الروم بعد قراءة الكتاب إلى الكنيسة والناس حشد فيها، وقال: يا معشر الروم إنه قد جاءنا كتاب أحمد، يدعونا إلى الله، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد رسول الله.

وقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكذاب. وكتب فروة عامل قيصر على عمَّان إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بإسلامه، فلما بلغ ذلك ملك الروم أخذه واعتقله واستتابه فأبى، ثم قتله فقال حين يقتل:

بلغ سراة المسلمين بأنني *** سلَّمت ربي أعظمي وبناني

وكتب اليه هوذة بن علي ملك اليمامة: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله.

وأجابه جيفر وعبد ابنا جلندي ملكا عُمَان بالإسلام وخلوا بينه وبين الصدقة.

وأجابه المنذر بن ساوى ملك البحرين وحسن إسلامه. وأجابه ملوك حمير ووفدوا. وأجابه أساقفة نجران وأعطوا الجزية، ولباه عمال ملك فارس بالبحرين واليمن، ولباه أقيال حضرموت، ولباه ملك أيلة ويهود مقنا وغيرهم، إما بالإسلام أو الجزية. وكتب إليه النجاشي بإسلامه وإيمانه..

وقد زادت«كتبه»على الخمسين كتاباً، ولكنها في الحقيقة أكثر من ذلك بكثير»

ص: 299

الفصل السابع والخمسون: بعد الحديبية افتروا على النبي (صلی الله علیه و آله) أنه سحر

قصة افترائهم أن النبي (صلی الله علیه و آله) مسحور

كتبنا في ألف سؤال وإشكال: 2/211: «قال الله تعالى: وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إلا رجلاً مَسْحُوراً. وقالت عائشة لقد سُحِر النبي (صلی الله علیه و آله) وأثَّر عليه السحر، فكان يتخيل أنه فعل الشئ ولم يفعله! وزعمت أن يهودياً سَحَره فأخذ مشطه وبعض شَعره وجعل فيه سحراً ودفنه في بئر! وأنه (صلی الله علیه و آله) فقد حواسه وذاكرته وبقي على تلك الحالة ستة أشهر مسحوراً! حتى دلَّهُ رجلٌ أو ملَك على الشخص الذي سحره والبئر التي أودع فيها المشط والمشاطة من شعره! فذهب إلى البئر، ولكنه لم يستخرج المشط منها أو استخرجه، وفكَّ عقد خيط الجلد الذي لُفَّ به، وأمر بدفن البئر، ولم يقتل الذي سحره، لأنه لم يُرِدْ أن يثير فتنة!

روى البخاري هذه الخرافة في صحيحه عن عائشة في خمسة مواضع! منها في: 4/91: «عن عائشة قالت: سُحِرَ النبي (صلی الله علیه و آله) ! وقال الليث كتب إلى هشام أنه سمعه ووعاه عن أبيه، عن عائشة قالت: سُحر النبي (صلی الله علیه و آله) حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشئ وما يفعله، حتى كان ذات يوم دعا ودعا، ثم قال: اُشْعِرتُ أن الله أفتاني فيما فيه شفائي. أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي فقال أحدهما للآخر: ما وجعُ الرجل؟ قال: مَطْبُوب! قال: ومن طَبَّهُ؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في ماذا؟ قال: في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر! قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذِروان! فخرج إليها النبي (صلی الله علیه و آله) ثم رجع فقال لعائشة حين رجع: نخلها كأنها رؤوس الشياطين! فقلت: استخرجتهُ؟ فقال: لا، أما أنا فقد شفاني الله، وخشيتُ أن

ص: 300

يثير ذلك على الناس شراً، ثم دُفِنَتْ البئر»!

وفي: 4/68: «سُحر حتى كان يُخَيَّلُ إليه أنه صنع شيئاً ولم يصنعه»!

وفي: 7/88: «مكث النبي كذا وكذا، يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتي»!

وفي: 7/29: «كان رسول الله سُحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن! قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا»!

وكرر بخاري ذلك بروايات متعددة: 7/28 و164. وروته عامة مصادرهم!

وقال ابن حجر في مدة بقاء النبي (صلی الله علیه و آله) مسحوراً مجنوناً معاذ الله!

«ووقع في رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي: فأقام أربعين ليلة، وفي رواية وهيب عن هشام عند أحمد: ستة أشهر ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه، والأربعين يوماً من استحكامه! وقال السهيلي: لم أقف في شئ من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث النبي فيها في السحر حتى ظفرت به في جامع معمر عن الزهري أنه لبث ستة أشهر! كذا قال. وقد وجدناه موصولاً بإسناد الصحيح فهو المعتمد».فتح الباري: 10/192.

أقول: يقصد السهيلي ما في مسند أحمد: 6/63: «عن عائشة قالت: لبث رسول الله ستة أشهر يرى أنه يأتي نساءه، ولا يأتي»!

ثم تقرأ تفاصيلهم العامية عن فريتهم في سحر النبي (صلی الله علیه و آله)، وأن صبياً يهودياً سرق مشط النبي (صلی الله علیه و آله) وشيئاً من شعره وأعطاها إلى اليهودي لبيد الأعصم، فجعل معها خيطاً من جلد وعقده اثنتي عشرة عقدة، أو أحد عشرة عقدة، ثم قرأ عليها السحر ولفَّ الجميع في قماشة، ثم دفنها تحت صخرة بئر ذروان الذي يقع خارج المدينة، وكان ماؤها بسبب السحر أحمر كالحنَّاء، وكان النخل الذي يسقى منها طلعه كأنه رؤوس الشياطين!

ثم بعد ستة أشهر قضاها سيد الأنبياء والمرسلين (صلی الله علیه و آله) مريضاً مسحوراً نصف مجنون! دلَّه الملك على البئر فذهب اليها، أو أرسل علياً والزبير، فاستخرجوا المشط وفكوا عقد الخيط، فشفي النبي (صلی الله علیه و آله) من السحر! راجع المجموع: 12/243.

ص: 301

ثم اقرأ تأكيد ابن حجر على تأثير السحر على حواس النبي (صلی الله علیه و آله) وبعض عقله! قال: «قوله: حتى كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يخيَّل إليه أنه كان يفعل الشئ وما فعله. قال المازري: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع، إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثمَّ، وأنه يوحى إليه بشئ ولم يوح إليه بشئ!

قال المازري: وهذا كله مردود، لأن الدليل قد قام على صدق النبي (صلی الله علیه و آله) فيما يبلغه عن الله تعالى، وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها... فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لاحقيقة له، مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين!

قلت: وهذا قد ورد صريحاً في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا ولفظه: حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، وفي رواية الحميدي أنه يأتي أهله ولا يأتيهم... وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخيل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الإقتدار على الوطأ، فإذا دنا من المرأة فَتَرَ عن ذلك، كما هو شأن المعقود، ويكون قوله في الرواية الأخرى: حتى كاد ينكر بصره، أي صار كالذي أنكر بصره، بحيث أنه إذا رأى الشئ يخيل أنه على غير صفته فإذا تأمله عرف حقيقته. ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه في خبر من الأخبار أنه قال قولاً فكان بخلاف ما أخبر به». انتهى.

وقال المقريزي في إمتاع الأسماع: 1/306:«وفي محرم سنة سبع سحر لبيد بن الأعصم رسول الله (صلی الله علیه و آله) على مال جعله له من بقي بالمدينة من اليهود والمنافقين».

وقال في الإمتاع: 8/43: «وفي جامع معمر بن راشد عن الزهري قال: سحر رسول الله (صلی الله علیه و آله) سنة يخيل إليه أنه يفعل الفعل وهو (صلی الله علیه و آله) لا يفعله..

ص: 302

وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني أبو مروان، عن إسحاق ابن عبدالله، عن عمر بن الحكم قال: لما رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الحديبية في ذي الحجة ودخل الحرم، جاءت رؤساء يهود الذين بقوا بالمدينة، ممن يظهر الإسلام، وهو منافق، إلى لبيد بن الأعصم اليهودي، وكان حليفاً في بني زريق، وكان ساحراً، قد علمت ذلك يهود أنه أعلمهم بالسحر وبالسموم، فقالوا له: يا أبا الأعصم، أنت أسحر منا، وقد سحرنا محمداً فسحره منا الرجال والنساء، فلم نصنع شيئاً وأنت ترى أثره فينا وخلافه ديننا ومن قتل منا وأجلى، ونحن نجعل لك على ذلك جعلاً على أن تسحره لنا سحراً ينكره، فجعلوا له ثلاثة دنانير على أن يسحر رسول الله (صلی الله علیه و آله). فعمد إلى مشط وما يمشط من الرأس من الشعر، فعقد فيه عقداً، أو تفل فيه تفلاً، وجعله في جب طلعة ذكر، ثم انتهى به حتى جعله تحت أرعوفة البئر، فوجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمراً أنكره، حتى يخيل إليه أنه يفعل الشئ ولا يفعله، وأنكر بصره حتى دله الله عليه، فدعا جبير بن إياس الزرقي، وقد شهد بدراً، فدله على موضع في بئر ذروان، تحت أرعوفة البئر، فخرج جبير حتى استخرجه ثم أرسل إلى لبيد بن الأعصم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقد دلني الله على سحرك وأخبرني ما صنعت، قال: حب الدنانير يا أبا القاسم.

قال إسحاق بن عبدالله: فأخبرت عبدالرحمن بن كعب بن مالك بهذا الحديث فقال: إنما سحره بنات أعصم أخوات لبيد وكن أسحر من لبيد وأخبث، وكان لبيد هو الذي ذهب به، فأدخله تحت أرعوفة البئر، فلما عقدوا تلك العقد أنكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) تلك الساعة بصره، ودس بنات أعصم إحداهن، فدخلت على عائشة رضی الله عنها فخبرتها عائشة، أو سمعت عائشة تذكر ما أنكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) من بصره، ثم خرجت إلى أخواتها وإلى لبيد فأخبرتهم، فقالت إحداهن: إن يكن نبياً فسيخبر، وإن يكن غير ذلك فسوف يدله هذا السحر حتى يذهب عقله، فيكون بما نال من قومنا وأهل ديننا، فدله الله عليه.

قال الحارث بن قيس: يا رسول الله ألا نهور البئر؟ فأعرض عنه

ص: 303

رسول الله (صلی الله علیه و آله) فهورها الحارث بن قيس وأصحابه وكان يستعذب منها. قال: وحفروا بئرا أخرى فأعانهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حفرها حين هوروا الأخرى التي سحر فيها، حتى أنبطوا ماءها ثم تهورت بعد. ويقال: إن الذي استخرج السحر بأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) قيس بن محصن».

رد علمائنا لهذه الفرية

أقول: هذا بعض كلامهم الطويل العليل الذي يريدون به أن يقنعوك به بأن نبيك (صلی الله علیه و آله) كان لمدة ستة أشهر مسحوراً، وأنه مرض من ذلك وانتثر شعر رأسه، وصار أقرع أو كالأقرع، وصار يذوب ولا يدري ما عراه! وكان يتصور أنه يرى شيئاً وهو لايراه، ويتصور أنه أكل ولم يأكل، وأنه نام مع زوجته ولم يفعل!

ثم يريدون أن يطمئنوك بأن النبي (صلی الله علیه و آله) بخير وعافية، فالسحر قد تسلط على جسده وظواهر جوارحه، أي على قسم من عقله وليس على جميعه!

ويقولون لك نعم إن نبيك (صلی الله علیه و آله) معصوم لاينطق عن الهوى، لكن عصمته إنما هي في تبليغه الرسالة فقط! أما في غير التبليغ فقد يصاب بالسحر وبالجنون، فيفقد التمييز في الأمور الدنيوية التي لم يبعث من أجلها! ومنها استخلاف من يقود المسلمين بعده! وكل دليلهم على ذلك أن عائشة قالته، ولو خالف القرآن!

لقد فاقت القرشيات بافترائها على النبي (صلی الله علیه و آله) كل ما افترته الإسرائيليات على أنبيائهم:! ولذا قال (صلی الله علیه و آله): «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»!

وقد رد هذه الفرية علماء الشيعة، وتجرأ على ردها معهم بعض علماء السنة!

قال الطوسي في تفسير التبيان: 1/384: «ما روي من أن النبي (صلی الله علیه و آله) سُحِر وكان يرى أنه يفعل ما لم يفعله، فأخبار آحادٍ لايلتفت إليها، وحاشا النبي (صلی الله علیه و آله) من كل صفة نقصٍ، إذ تنفر من قبول قوله لأنه حجة الله على خلقه وصفيه من عباده، اختاره الله على علم منه، فكيف يجوز ذلك مع ما جنبَّه الله من الفظاظة والغلظة وغير ذلك من الأخلاق الدنيئة والخلق المشينة؟!

ولا يجوِّز ذلك على الأنبياء: إلا من لم يعرف مقدارهم ولايعرفهم حقيقة

ص: 304

معرفتهم، وقد قال الله تعالى: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، وقد أكذب الله من قال: إِنْ تَتَّبِعُونَ إلا رجلاً مَسْحُوراً. فنعوذ بالله من الخذلان».

وقال ابن إدريس في السرائر: 3/534: «والرسول (صلی الله علیه و آله) ما سُحِر عندنا بلا خلاف لقوله تعالى: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، وعند بعض المخالفين أنه سُحر»!

قال في الصحيح من السيرة: 16/225: «وزعموا: أنه في شهر محرم من السنة السابعة وقيل سنة ست: سحر رسول الله. فعن عائشة قالت: سُحر رسول الله حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن. قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان! وعن عبدالرحمن بن كعب بن مالك قال: إنما سحره بنات أعصم أخوات لبيد، وكان لبيد هو الذي ذهب به فأدخله تحت راعوفة البئر. ودس بنات أعصم إحداهن فدخلت على عائشة،فسمعت عائشة تذكر ما أنكر رسول الله من بصره! ثم خرجت إلى أخواتها بذلك فقالت إحداهن: إن يكن نبياً فسيخبَّر، وإن كان غير ذلك فسوف يُدْلِهُهُ هذا السحر، فيذهب عقله، فدله الله عليه! وقد مرض من سحرهن له حتى إنه لم يقدر على قربان أهله ستةأشهر،وذكر الستة والأربعين يوماً في الوفاء! وعن الزهري: أنه لبث سنة! وفي بعض الروايات: أن سِحْرَ يهود بني زريق حبس النبي عن خصوص عائشة: سنة!

بل في بعضها: فأقام رسول الله لايسمع ولا يبصر، ولا يفهم، ولا يتكلم، ولا يأكل ولا يشرب..! فهل يمكن أن يكون هذا حال من وصفه الله تعالى بأنه: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى؟!

وقد ذكرت الروايات المتقدمة: أن شعر رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد انتثر بواسطة السحر.. وهذا أمر عجيب وغريب لم نعهده في سحر الساحرين، ولا قرأناه في تاريخ هذا النبي الأمين (صلی الله علیه و آله)،فلو كان ذلك قد حصل فعلاً لاعتبره المؤرخون مفصلاً تاريخياً في حياته (صلی الله علیه و آله) ! إننا لا نشك في كذب هذه الروايات، ونعتقد أنها من مجعولات أعداء هذا الدين».

أقول: أصل المشكلة عندهم أنهم يقبلون كلام عمر وعائشة والبخاري حتى

ص: 305

لو خالف القرآن والقطعي من السنة، ولايسمحون لأنفسهم ولا لأحد أن ينتقده ويرده! وقد أوقعهم ذلك في مشكلات عديدة في العقائد والفقه! تورطوا فيها وما زالوا دون أن يجرأ أحد منهم على القول: معاذ الله، إنها تهمة الكفار لنبينا (صلی الله علیه و آله) وقد برَّأه الله منها، فإن صحت عن عائشة فهي من خيالاتها!

وقد استنكر الله تعالى تهمة الكفار، فقال: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُورًا. اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً. الإسراء: 46-48.

فما الفرق بين قول هؤلاء وقول عائشة: «حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشئ وما يفعله»؟ أليس هذا الجنون بعينه! وإن قبلوه في النبي (صلی الله علیه و آله) فمن يضمن أن يكون الله تعالى أنزل عليه وحياً وأوامر فتصور أنه بلغ ذلك ولم يبلغه!

ثم متى كانت هذه الحادثة؟في السنة السادسة أو السابعة؟وكل حياة النبي (صلی الله علیه و آله) وسنواتها وأيامها مشهودة منظورة، وكيف لم يعرف ذلك إلا عائشة؟!

فبعد رجوعه (صلی الله علیه و آله) من الحديبية في ذي الحجة راسل ملوك العالم، ودخلت السنة السابعة فغزا خيبر، ثم اعتمر عمرة القضاء، ثم كانت غزوة مؤتة. فمتى كانت حادثة السحر المزعومة!

ثم كيف يعتقدون بالقدرات الخارقة للسحر وتأثيره على الناس والمؤمنين والأنبياء:! وإذا صح ذلك، فلماذا لم يَصِر السَّحَرَة حكام الأرض؟!

هذا، ولا نطيل في تحليل كلام عائشة ففيه دلالات ليست في مصلحتها!

رد بعض علماء السنيين لهذه الفرية

وممن تجرأ ومال إلى موافقتنا في ردها: النووي في المجموع: 19/242، قال: «وأكتفي بهذا القدر من أحاديث سحر الرسول (صلی الله علیه و آله)..تنبيه: قال الشهاب بعد نقل التأويلات عن أبي بكر الأصم أنه قال: إن حديث سحره (صلی الله علیه و آله) المروي هنا متروكٌ لما يلزمه من صدق قول الكفرة أنه مسحور، وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه. ونقل

ص: 306

الرازي عن القاضي أنه قال: هذه الرواية باطلةٌ، وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، وقال: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى. ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة، ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى ضرر جميع الأنبياء: والصالحين، ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم! وكل ذلك باطل.

وكان الكفار يعيرونه بأنه مسحور، فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوى، ولحصل فيه (علیه السلام) ذلك العيب، ومعلوم أن ذلك غير جائز»!

ص: 307

الفصل الثامن والخمسون: غزوة خيبر

1- محافظة خيبر

خيبر الآن محافظة مركزها مدينة خيبر، وتقع شمال شرق المدينة المنورة، وتبعد عنها 179كيلومتراً، وتشمل 189 قرية، ومساحتها 260 كيلومتراً.

http: //www.oman0.net/forum/showthread.php?t=17962

وفي معجم البلدان: 2/409: «خيبر: الموضع المذكور في غزاة النبي (صلی الله علیه و آله) وهي ناحية على ثمانية بُرُد من المدينة لمن يريد الشام. يطلق هذا الإسم على الولاية وتشتمل هذه الولاية على سبعة حصون ومزارع ونخل كثير، وأسماء حصونها: حصن ناعم وعنده قتل مسعود بن مسلمة ألقيت عليه رحى، والقموص حصن أبي الحقيق، وحصن الشق، وحصن النطاة، وحصن السلالم، وحصن الوطيح، وحصن الكتيبة. وأما لفظ خيبر فهو بلسان اليهود: الحصن، ولكون هذه البقعة تشتمل على هذه الحصون سميت خيابر».

أقول: هاجر اليهود بعد المسيح (علیه السلام) إلى الجزيرة ينتظرون النبي الموعود (صلی الله علیه و آله)، ونزلوا في مواضع منها تيماء ووادي القرى وخيبر وحول المدينة، وكان في خيبر أودية فيها بعض العيون، وبقربها قبيلة عبس وبعض قبائل غطفان النجدية، لكنهم كانوا أهل إبل وشاء ولم يكونوا أهل زراعة، فسكن فيها اليهود وزرعوها ونجحت فيها زراعة النخيل واشتهر تمرها بعد هجر. ولعل كلمة خيبر التي سموها بها نفس كلمة كيبوتس، بمعنى مستوطنة أو قرية.

ص: 308

وكان يهود خيبر عندما بعث النبي (صلی الله علیه و آله) نحو عشرة آلاف نسمة، ومقاتلوهم نحو ثلاثة آلاف، وقد انضم اليهم عدد أجلاهم النبي (صلی الله علیه و آله) من جور المدينة من يهود قينقاع والنضير وقريظة، وفيهم حاخامات وزعماء كبار رأَّسَهم أهل خيبر عليهم، مثل حي بن أخطب الذي كان يتجول ويحث قريشاً وقبائل العرب على حرب النبي (صلی الله علیه و آله) ويعد قبائل نجد بموسم تمر خيبر!

2- بعد عودته من الحديبية بعشرين يوماً توجه (صلی الله علیه و آله) إلى خيبر

بعد عودته من الحديبية بنحو عشرين يوماً، توجه النبي (صلی الله علیه و آله) إلى خيبر بجيشه البالغ نحو ألف وخمس مئة، وكان ذلك في شهر صفر أواخر السنة السابعة للهجرة. وجاءه المتخلفون عن الحديبية فقال (صلی الله علیه و آله): لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، فأما الغنيمة فلا. ثم أمر منادياً ينادي بذلك. الصحيح من السيرة: 17/72.

وفي سيرة ابن هشام: 3/791: «ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر. ودفع الراية إلى علي بن أبي طالب وكانت بيضاء». ثم روى ابن هشام أن الأكوع كان يرتجز بهم:

والله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا *** وثبِّت الأقدامَ إن لاقينا

إنا إذا قوم بغوا علينا *** وإن أرادوا فتنة أبينا

وهو شعر عبدالله بن رواحة، وكان (صلی الله علیه و آله) يردده في حفر الخندق».الغدير: 2/6.

ثم نقل عن ابن إسحاق: «أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) خرج إلى خيبر فسلك على عَصْر بفتح العين وإسكان الصاد المهملة، وفي بعض النسخ عَصَر بفتح الصاد. قال: فبني له فيها مسجد قال: ثم سلك على الصهباء، ثم أقبل حتى نزل بواد يقال له الرجيع، فنزل بين أهل خيبر وبين غطفان، ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر، وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله (صلی الله علیه و آله). فكان أول حصن افتتحه رسول الله (صلی الله علیه و آله) حصن ناعم». «فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لحُسَيْل: يا حُسَيْل: إمض أمامنا حتى تأخذ بنا صدور الأودية، حتى تأتي خيبر من بينها وبين الشام،

ص: 309

فأحول بينهم وبين الشام، وبين حلفائهم من غطفان. فقال حُسَيْل: أنا أسلك بك، فانتهى به إلى موضع له طُرق فقال: يا رسول الله، إن لها طرقاً تؤتى منها كلها، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): سمها لي. وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحب الفأل الحسن والإسم الحسن ويكره الطيرة والإسم القبيح، فقال: لها طريق يقال لها: حزن وطريق يقال لها: شاش وطريق يقال لها: حاطب، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا تسلكها. قال: لم يبق إلا طريق واحد يقال له: مرحب، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أسلكها».الصحيح من السيرة: 17/89.

3- سبب حرب النبي (صلی الله علیه و آله) يهودَ خيبر

قال في المواجهة مع رسول الله/283: «كانت خيبر من أعظم وأكبر التجمعات اليهودية في الجزيرة، حتى أنها أصبحت قلعة حقيقية ففيها المال وفيها الرجال، وقد تابع يهود خيبر بقلق بالغ أنباء مواجهات الرسول مع يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وتأثروا بما أصابهم، وتعاطفوا معهم حتى صارت خيبر ملجأ للكثير من اليهود، واستقطبت بخيراتها وأموالها عواطف الكثير من أبناء القبائل العربية المحتاجة الطامعة بأي شئ، مما حوَّلها مع الأيام إلى قاعدة لمن يتربصون الدوائر بالنبي وآله ومن والاه، وصارت أعظم خطر يهدد الإسلام.

وقد أدرك يهود خيبر ومن لجأ إليهم وتحالف معهم، أن المواجهة مع محمد ومن والاه قدر محتوم لا مفر منه، وقد أرعبتهم مواجهات محمد السابقة مع خصومه، لذلك فهم يخشون فكرة شن هجوم عليه، مما فرض عليهم فرضاً أن يبقوا بحالة ترقب وقلق حتى يأتي محمد ومن والاه لحربهم، فيحاربونه حرباً دفاعية وهم في حصونهم.

واستعداداً لتلك المواجهة الحاسمة رمموا حصونهم وأصلحوها، واستوردوا السلاح وصنعوه، ووسعوا دائرة تحالفاتهم مع القبائل، خاصة مع قبيلة غطفان وزعيمها عيينة بن حصن، ويقال إنهم جندوا عشرة آلاف مقاتل يتم استعراضهم يومياً، وقدروا أنهم بهذه العدة والعدد سيكونون أول من يلحق هزيمة ساحقة بمحمد وآله ومن والاه، ومن هنا فقد أيقنوا بأن محمداً قادم إليهم لا محالة، وترقبوا كل يوم قدومه ليواجهوه بما لا قبل له به!

ص: 310

وبعد أن فتح الله على نبيه في صلح الحديبية ذلك الفتح المبين، وحقق انتصاره السياسي، وخلَّت بطون قريش بينه وبين العرب، واعترفت به وهي عدوته اللدودة، واعترفت بحقه باستقطاب العرب حوله. عندئذ قدر النبي (صلی الله علیه و آله) أن الفرصة ملائمة لمواجهة أخطر وأقوى ما تبقى من خصومه وهم يهود خيبر... وبعد إتمام الاستعدادات وفي شهر صفر من السنة السابعة للهجرة، زحف النبي نحو خيبر ودخلها عن طريق مرحب، وفي الطريق علم أن قبائل غطفان الكبيرة قد تحالفت مع اليهود على حرب محمد مقابل تمر خيبر لسنة. ولما استقر الرسول في معسكره قرب خيبر، أمر أتباعه أن لا يقاتلوا حتى يأذن لهم بالقتال».

4- وصول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى خيبر

في خيبر سمع النبي (صلی الله علیه و آله) أصحابه يرفعون أصواتهم بالتكبير، فأمرهم أن يلتزموا الهدوء والسكينة والتواضع، وقال لهم: إربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم.. وقال لهم: قفوا فوقفوا، فقال: «اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنَّا نسألك من خير هذه القرية وخير أهلها، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها. أقدموا باسم الله».المناقب: 1/176 والصحيح من السيرة: 17/101.

وكان أهل خيبر يتوقعون وصول النبي (صلی الله علیه و آله)، لكنه فاجأهم من جهة لا يتوقعون مجيئه منها، فرآه بعض المزارعين فقالوا: محمد والخميس وأدبروا هرباً! فقال (صلی الله علیه و آله) ورفع يديه: الله أكبر، خربت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. كما قالها عند محاصرة بني قريظة.الإرشاد: 1/110 وتفسير القمي: 2/189.

وعسكر (صلی الله علیه و آله) بأصحابه قرب حصن ناعم، وكان فيه قوات غطفان النجدية، بزعامة شيخ فزارة عيينة بن حصن، جاؤوا لنصرة اليهود قبل قدوم النبي (صلی الله علیه و آله) بثلاثة أيام، وروي أنهم كانوا أربعة آلاف، ونزلوا في حصن ناعم في

ص: 311

النطاة، فأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) سعد بن عبادة لينصح عيينة بالإنسحاب بقبيلته: «فلما انتهى سعد إلى الحصن ناداهم: إني أريد أكلِّم عيينة بن حصن، فأراد عيينة أن يدخله الحصن فقال مرحب: لاتُدخله فيرى خلل حصننا ويعرف نواحيه التي يؤتى منها، ولكن تخرج إليه. فقال عيينة: لقد أحببت أن يدخل فيرى حصانته ويرى عدداً كثيراً، فأبى مرحب أن يدخله فخرج عيينة إلى باب الحصن، فقال سعد: إن رسول الله أرسلني إليك يقول: إن الله قد وعدني خيبر فارجعوا وكفوا، فإن ظهرنا عليها فلكم تمر خيبر سنة. فقال عيينة: إنَّا والله ما كنا لنسلم حلفاءنا لشئ وإنَّا لنعلم ما لك وما معك مما هاهنا طاقة، هؤلاء قوم أهل حصون منيعة، ورجال عددهم كثير وسلاح! إن أقمت هلكت ومن معك، وإن أردت القتال عجلوا عليك بالرجال والسلاح. ولا والله ما هؤلاء كقريش وقومٍ ساروا إليك إن أصابوا غِرَّة منك فذاك الذي أرادوا، وإلا انصرفوا، وهؤلاء يماكرونك الحرب ويطاولونك حتى تملهم. فقال سعد بن عبادة: أشهد ليحصرنك في حصنك هذا حتى تطلب الذي كنا عرضنا عليك فلا نعطيك إلا السيف! وقد رأيت يا عيينة من قد حللنا بساحته من يهود يثرب،

كيف مُزقوا كل ممزق!

فرجع سعد إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره بما قال. وقال سعد: يا رسول الله، لئن أخذه السيف ليسلمنهم وليهربن إلى بلاده كما فعل ذلك قبل اليوم في الخندق. فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصحابه أن يتوجهوا إلى حصنهم الذي في غطفان وذلك عشيةً وهم في حصن ناعم، فنادى منادي رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن أصبحوا على راياتكم عند حصن ناعم، الذي فيه غطفان. قال: فرعبوا من ذلك يومهم وليلتهم، فلما كان بعد هذه من تلك الليلة سمعوا صائحاً يصيح لايدرون من السماء أو الأرض: يا معشر غطفان أهلكم أهلكم! الغوث الغوث بحيفاء، صِيح ثلاثة، لا تربة ولا مال! قال: فخرجت غطفان على الصعب والذلول، وكان أمراً صنعه الله لنبيه (صلی الله علیه و آله). فلما أصبحوا أُخبر كِنانة بن أبي الحُقيق وهو في الكتيبة منطقة من خيبر بانصرافهم فسقط في يديه».

الصحيح من السيرة: 17/110.

ص: 312

5- نداء النبي (صلی الله علیه و آله) بالأمان لأهل خيبر

روت مصادرهم: «عن الضحاك الأنصاري قال: لما سار النبي (صلی الله علیه و آله) إلى خيبر جعل علياً على مقدمته فقال (صلی الله علیه و آله): من دخل النخل فهو آمن، فلما تكلم النبي (صلی الله علیه و آله) نادى بها علي فنظر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى جبرائيل يضحك فقال: مايضحكك؟! قال:

إني أحبه! فقال النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): إن جبرائيل يقول إنه يحبك! قال (علیه السلام): بَلَغْتُ أن يحبني جبرائيل؟قال (صلی الله علیه و آله): نعم ومن هو خير من جبرائيل: الله عزَّ وجل».

الطبراني الكبير: 8/301،مجمع الزوائد: 9/126 وأسد الغابة: 3/34.

6- فتح علي (علیه السلام) كل حصون خيبر؟

كانت خيبر ثلاث مناطق: النَّطَاهْ بفتح النون المشددة وسكون الهاء، وفيها ثلاثة حصون: حصن ناعم، وحصن الصعب، وحصن قلة. وتتصل بها منطقة الشق وفيها حصن أبيّ، وحصن البرئ.

وعلى بعد كيلو مترات منها منطقة الكتيبة، وفيها واد فيه أربعون ألف نخلة وعلى جبلها ثلاثة حصون: حصن القموص، والسلالم، والوطيح.

وقد استغرق فتح خيبر كلها وترتيب أمرها نحو شهرين. وبدأ النبي (صلی الله علیه و آله) بحصن ناعم في النطاة، ففتحه بعد بضعة أيام. ثم حاصر حصن الصعب أياماً، ثم فتح بقية الحصون في مدة قليلة.

ثم ترك علياً (علیه السلام) في منطقة النطاة والشق يرتب أمرها، واتجه إلى الكتيبة فحاصر حصنها الأكبر «القموص»، وطالت محاصرته له بضعة وعشرين يوماً!

وكان يرسل جيشه كل يوم بقيادة صحابي، فيصلون إلى خندق الحصن فيرميهم اليهود من أبراجه بالسهام والأحجار، فيرمونهم هم، ويرجعون!

ثم تجرأ مرحب وفرسانه فأخذوا يخرجون من الحصن ويطلبوا من المسلمين أن يعبروا اليهم فلا يجرؤون،بل يرجعون منهزمين حتى أحضر النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) !

وروت مصادرنا أن فتح حصون خيبركلها كان بيد علي (علیه السلام)، وروى نحو ذلك

ص: 313

في السيرة الحلبية: 2/737، عون المعبود: 8/172، قال: «وقصة فتح هذه الحصون: أن النبي (صلی الله علیه و آله) ألبس علياً رضی الله عنه درعه الحديد وأعطاه الراية، ووجهه إلى الحصن، فلما انتهى علي رضی الله عنه إلى باب الحصن، اجتذب أحد أبوابه فألقاه بالأرض، ففتح الله ذلك الحصن الذي هو حصن ناعم، وهو أول حصن فتح من حصون النطاة على يده رضی الله عنه.

وكان من سلم من يهود حصن ناعم انتقل إلى حصن الصعب من حصون النطاة ففتح الله حصن الصعب قبلما غابت الشمس من ذلك اليوم. ولما فتح ذلك الحصن تحول من سلم من أهله إلى حصن قلة، وهو حصن بقلة جبل، ويعبر عن هذا بقلعة الزبير، وهو الذي صار في سهم الزبير بعد ذلك، وهو آخر حصون النطاة. فحصون النطاة ثلاثة، حصن ناعم، وحصن الصعب، وحصن قلة. ثم صار المسلمون إلى حصار حصون الشق، فكان أول حصن بدأ به من حصني الشق حصن أبيّ، فقاتل أهله قتالاً شديداً وهرب من كان فيه، ولحق بحصن يقال له حصن البرئ، وهو الحصن الثاني من حصني الشق.

ثم إن المسلمين لما أخذوا حصون النطاة وحصون الشق، انهزم من سلم من يهود تلك الحصون إلى حصون الكتيبة، وهي ثلاثة حصون القموص والوطيح وسلالم، وكان أعظمها القموص، وانتهى المسلمون إلى حصار الوطيح وحصن سلالم ويقال له السلاليم، وهو حصن بني الحقيق آخر حصون خيبر، ومكثوا على حصارهما أربعة عشر يوماً، فلم يخرج أحد منهما، وسألوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) الصلح على حقن دماء المقاتلة وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، فصالحهم على ذلك».

أقول: ستعرف أن محاصرة القموص طالت بضعاً وعشرين يوماً، وذلك قبل محاصرة حصن السلالم والوطيح، التي ذكر العيني أنها كانت أربعة عشر يوماً.

كما تدل روايته على أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قلع باب حصن ناعم، ولم يذكر حجم ذلك الباب، وسيأتي قلعه (علیه السلام) لباب حصن القموص، وهو أكبر حصون خيبر.

ص: 314

7- طريقة القتال في فتح النبي (صلی الله علیه و آله) حصون خيبر

«صفَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصحابه ووعظهم، ونهاهم عن القتال حتى يأذن لهم، فعمد رجل من قبيلة أشجع فحمل على يهودي فقتله اليهودي، فقال الناس: استشهد فلان. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أبعدَ ما نهيتُ عن القتال؟ قالوا: نعم. فأمر رسول الله منادياً فنادى في الناس: لاتحل الجنة لعاص..وقالوا إن مرحباً هو الذي قتل ذلك الرجل الأشجعي..وأذن رسول الله في القتال وحثهم على الصبر، وأول حصن حاصره حصن ناعم.. وقاتل (صلی الله علیه و آله) يومه ذاك أشد القتال، وقاتله أهل النطاة أشد القتال، وترَّس جماعة من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) عليه يومئذٍ، وعليه كما قال محمد بن عمر درعان وبيضة ومغفر، وهو على فرس يقال له الظرب، وفي يده قناة وترس».الصحيح من السيرة: 17/152.

أقول: كان اليهود مستميتين في الدفاع عن خيبر، ومن الطبيعي أنهم كانوا يخططون لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) ! فقد روى الواقدي: 2/670 والصحيح من السيرة:17 /219 «أن كنانة ابن أبي الحقيق كان رامياً يرمي بثلاثة أسهم في ثلاث مائة ذراع، فيُدخلها في هدف شبراً في شبر! فما هو إلا أن قيل له: هذا رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد أقبل من الشق في أصحابه، وقد تهيأ أهل القموص، وقاموا على باب الحصن بالنبل.. فنهض كنانة إلى قوسه فلم يستطع أن يوترها لشدة الرعدة التي انتابته»!

والوضع الطبيعي أن يتحصن اليهود في قلاعهم، ويردوا هجمات المسلمين بواسطة الرماة من أبراج القلعة وسطوحها. لكن أحاديث خيبر ذكرت أن فرسان اليهود خرجوا من بعض حصونهم واشتبكوا مع المسلمين أمام مداخلها، وفتحوا أبواب الحصن للتواصل مع مقاتليهم، فلم يمكنهم رمي المسلمين القريبين بالسهام. فكان على المسلمين أن يكتسحوا المقاتلين أمام باب الحصن، ثم يدخلوه قبل أن يسدوا بابه، ويقاوموا المقاتلين داخله. وكان اليهود عند سقوط الحصن ينسحبون إلى غيره، وينقلون معهم ما أمكنهم من سلاح ومؤن أو يتلفونها، فقد ورد ذكر بطلهم مرحب في معركة حصن ناعم وهو أول

ص: 315

حصن فتحه النبي (صلی الله علیه و آله)، ثم كان بطل حصن القموص، وهو آخر حصونهم وأهمها.

وهذه بعض نصوص القتال في فتح الحصون قبل حصن القموص من كتاب: الصحيح من السيرة: 17/171: «لم يكن بخيبر حصن أكثر طعاماً وودكاً وماشية ومتاعاً من حصن الصعب بن معاذ، ووجدوا فيه ما لم يكونوا يظنون، من الشعير والتمر والسمن والعسل والزيت والودك، وكان فيه خمس مائة مقاتل، وكان المسلمون قد أقاموا أياماً يقاتلون ليس عندهم طعام إلا العلف!

وروى ابن إسحاق عن بعض قبيلة أسلم ومحمد بن عمر، عن معتب الأسلمي واللفظ له قال: أصابتنا معشر أسلم مجاعة حين قدمنا خيبر، وأقمنا عشرة أيام على حصن النطاة لا نفتح شيئاً فيه طعام، فأجمعت أسلم أن أرسلوا أسماء بن حارثة فقالوا: إئت رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقل له: إن أسلم يقرؤونك السلام ويقولون: إنَّا قد جُهدنا من الجوع والضعف.. وحسب نص الحلبي: إن اليهود حملت حملة منكرة فانكشف المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو واقف قد نزل عن فرسه..ثم إن المسلمين اقتحموا الحصن يقتلون ويأسرون، فوجدوا في ذلك الحصن من الشعير... ونادى منادي رسول الله (صلی الله علیه و آله): كلوا واعلفوا ولا تحملوا أي لا تخرجوا به إلى بلادكم.

وحسب نص الواقدي: وقد أقمنا عليه يومين نقاتلهم أشد القتال، فلما كان اليوم الثالث بكَّر رسول الله (صلی الله علیه و آله) عليهم، فخرج رجل من اليهود كأنه الدقل في حربة له وخرج وعاديته معه، فرموا بالنبل ساعة سراعاً وترِّسنا عن رسول الله وأمطروا علينا بالنبل فكان نبلهم مثل الجراد، حتى ظننت ألا يقلعوا، ثم حملوا علينا حملة رجل واحد فانكشف المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو واقف قد نزل عن فرسه، ومِدْعَم يمسك فرسه...

وندب رسول الله (صلی الله علیه و آله) المسلمين وحضهم على الجهاد ورغبهم فيه، وأخبرهم أن الله قد وعده خيبر يغنمه إياها. قال فأقبل الناس جميعاً حتى عادوا إلى صاحب رايتهم، ثم زحف بهم الحباب فلم يزل يدنو قليلاً قليلاً وترجع اليهود على أدبارها حتى لحمها الشر، فانكشفوا سراعاً ودخلوا الحصن وغلَّقوا عليهم، ووافوا على جدره وله جدر

ص: 316

دون جدر، فجعلوا يرموننا بالجندل رمياً كثيراً، ونحَّوْنا عن حصنهم بوقع الحجارة، حتى رجعنا إلى موضع الحباب الأول.

ثم إن اليهود تلاومت بينها وقالت: ما نستبقي لأنفسنا؟ قد قتل أهل الجد والجلد في حصن ناعم! فخرجوا مستميتين ورجعنا إليهم فاقتتلنا على باب الحصن أشد القتال، وقتل يومئذٍ على الباب ثلاثة من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله): أبو صياح، وقد شهد بدراً، ضربه رجل منهم بالسيف فأطن قحف رأسه، وعدي بن مرة بن سراقة طعنه أحدهم بالحربة بين ثدييه فمات، والثالث الحارث بن حاطب وقد شهد بدراً، رماه رجل من فوق الحصن فدمغه.

وقد قتلنا منهم على الحصن عدة كلما قتلنا منهم رجلاً حملوه حتى يدخلوه الحصن، ثم حمل صاحب رايتنا وحملنا معه، وأدخلنا اليهود الحصن وتبعناهم في جوفه، فلما دخلنا عليهم الحصن فكأنهم غنم! فقتلنا من أشرف لنا وأسرنا منهم وهربوا في كل وجه يركبون الحرة، يريدون حصن قلعة الزبير، وجعلنا ندعهم يهربون. وصعد المسلمون على جدره فكبروا عليه تكبيراً كثيراً..ووجدوا فيه من البز والآنية، ووجدوا خوابي السّكَر فأمروا فكسروها، فكانوا يكسرونها حتى سال السكر في الحصن، والخوابي كبار لا يطاق حملها.. وأخرجنا منه غنماً كثيراً وبقراً وحمراً، وأخرجنا منه آلة كثيرة للحرب ومنجنيقاً ودبابات وعُدَّة، فنعلم أنهم قد كانوا يظنون أن الحصار يكون دهراً، فعجل الله خزيهم...

أخرج من أطم من حصن الصعب ابن معاذ من البز عشرون عكماً «ربطة» محزومة من غليظ متاع اليمن، وألف وخمس مائة قطيفة، ويقال: قدم كل رجل بقطيفة على أهله».

وفي سبل الهدى: 5/125: «ذكر قتل علي رضی الله عنه الحارث وأخاه مرحباً وعامراً وياسراً، فرسان يهود وسبعانها. روى محمد بن عمر عن جابر قال: أول من خرج من حصون خيبر مبارزاً الحارث أخو مرحب في عاديته فقتله علي، ورجع أصحاب الحارث إلى الحصن وبرز عامر، وكان رجلاً جسيماً طويلاً،

ص: 317

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين برز وطلع عامر أترونه خمسة أذرع وهو يدعو إلى البراز؟ فخرج إليه علي بن أبي طالب رضی الله عنه فضربه ضربات، كل ذلك لا يصنع شيئاً، حتى ضرب ساقيه فبرك، ثم ذفف عليه وأخذ سلاحه».

أقول: كان قتل هؤلاء في حصن ناعم وليس في حصن القموص مع مرحب كما رووا. وقد كان مرحب معهم، لكنه لم يبرز إلا في حصن القموص. ويؤيده أن منزل ياسر أخ مرحب في النطاة لا في القموص.«معجم البكري: 2/523»، وأن الحارث كان يحوس الناس بحربته، أما في مبارزة علي (علیه السلام) لمرحب فلم يكن مع علي أحد ليحو

سهم الحارث.

8- طالت محاصرة حصن خيبر وظهرت هزيمة المسلمين!

«يقع حصن القموص في الجهة المقابلة للمسجد الفعلي الذي كان مركز قيادة النبي (صلی الله علیه و آله)، ويقع على مسافة قليلة إلى يمينه حصن السلالم وحصن الوطيح، ويفصل هذه الحصون عن مركز قيادة النبي (صلی الله علیه و آله) تلالٌ ووادٍ، وقد رأيته قبل خمس وثلاثين سنة، وادياً صغيراً فيه بعض نخيل وعين ماء جارية، بقربها محراب ومكان للصلاة، وقد سألت البدو عنها فقالوا هذه عين سيدنا علي.

وبعد الوادي جبل على قمته الحصون،وخلفه وادي الكتيبة المشهورة بالنخيل.

وعندما فتح النبي (صلی الله علیه و آله) حصون النطاة والشق: «انهزم من سلم من يهود تلك الحصون إلى حصون الكتيبة، وهي ثلاثة حصون: القموص والوطيح وسلالم، وكان أعظم حصون خيبر القموص».عون المعبود: 8/172.

«فتحصنوا معهم في القموص أشد التحصين، مغلقين عليهم لايبرزون، حتى همَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يرميهم بالمنجنيق».الواقدي: 2/670.

وحاصرهم بضعاً وعشرين يوماً«تاريخ خليفة/49» وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يصلي بالمسلمين كل يوم صلاة الفجر، ثم يصطفُّون ثم يذهبون لمهاجمة الحصن، فيقطعون التلال حتى يصلوا إلى قرب الخندق في مواجهة الحصن.

ص: 318

وكان اليهود يتخذون مواقعهم في أبراج الحصن وعلى سطوحه، ويرمون المسلمين بالسهام والأحجار، فيحمي المسلمون أنفسهم منها، أو يرمونهم بالسهام، ويحاولون أن يتقدموا فلا يستطيعون، فيرجعون بدون نتيجة!

ومع الأيام ضعفت معنويات المسلمين وقويت معنويات اليهود، فصار بطلهم مرحب وفرسانه يخرجون من الحصن، ويتحدون المسلمين أن يعبروا اليهم! فينهزم المسلمون عنهم، ويرجع اليهود منتصرين!

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) أبقى علياً (علیه السلام) في المنطقة التي فتحها«النطاة والشق»أو بعثه في مهمة، وكان يعطي الراية لوجهاء أصحابه، فيوماً لسعد بن عبادة، ويوماً للزبير، ويوماً لطلحة، ويوماً لسعد بن أبي وقاص، ويوماً لأبي بكر، ويوماً لعمر بن الخطاب.. وقد جرب بعضهم قيادة المسلمين لأكثر من يوم كما روي في عمر، وكان الجميع يرجعون منهزمين! ولم يجرؤوا على العبور إلى مرحب لمبارزته! ولذا قال النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): «ياعلي إكفني مرحباً».أمالي الطوسي/4 والخرائج: 1/217.

وقد ورد أن سعد بن عبادة رجع مجروحاً، «الواقدي 2/653» وفي رواية رجع محمولاً«الإحتجاج: 1/406». وروى أن عمر بن الخطاب رجع مجروحاً في رجله، وهو يجبن المسلمين وهم يجبنونه! رسائل المرتضى: 4/103.

وفي رواية مجمع الزوائد: 6/151، أن هزيمة عمر كانت سريعة عندما أصابه حجر في رجله قال: «بعث عمر ومعه الناس، فلم يلبثوا أن هزموا عمر وأصحابه»!

ويرد هنا سؤالان مهمان:

الأول: لماذا لم يذهب النبي (صلی الله علیه و آله) في الحملات على القموص؟ فقد شارك في القتال في حصن ناعم وحصن الصعب ورمى بسهام، وترَّسه المسلمون من سهام اليهود، لكنه لم يشارك في الحملات اليومية على حصن القموص!

والجواب: أن النبي (صلی الله علیه و آله) كما قال الله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، فهو لا يفعل عن الهوى بل بالوحي. والحكمة من فعله (صلی الله علیه و آله) أن يعرف الصحابة أنهم بدونه (صلی الله علیه و آله) وبدون علي (علیه السلام) لايستطيعون تحقيق النصر، فعليهم أن يعرفوا حدودهم!

ص: 319

أما مرضه (صلی الله علیه و آله) فلم يكن مانعاً من مشاركته، لأنه كان ليومين في أواخر حصاره للحصن، فكان بإمكانه قيادة الحملة قبله أو بعده.

والسؤال الثاني: لماذا أبقى (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) في المنطقة المفتوحة، أو بعثه بمهمة؟

وجوابه: أن الحكمة من ذلك أن يثبت للمسلمين أن علياً (علیه السلام) صاحب الفتح، وأنهم بدونه لايستطيعون تحقيق النصر ولا مواجهة مرحب وفرسانه!

والحكمة لمستقبل الأمة: أن اليهود لايكسر غطرستهم إلا علي، وشيعة علي (علیه السلام).

9- مَرِضَ علي (علیه السلام) بالرَّمَد والنبي (صلی الله علیه و آله) بالصداع!

يظهر أن علياً (علیه السلام) أصابه الرمد عندما ذهب النبي (صلی الله علیه و آله) من منطقة النطاة والشق إلى الكتيبة، وأبقاه هناك، لأن أحاديث خيبر نصت على أن النبي (صلی الله علیه و آله) أرسل في إحضاره فجاء راكباً على بعير له، وكان معصوب العينين بشق برد قطري، ولما سأله عن حاله قال له: «رمدت بعدك» أي بعد فراقي لك!

كما ذكرت الرواية أن سبب وجع عينيه دخان أصابه من الحصون التي فتحها ففي مجمع الزوائد: 9/123: «عن جميع بن عمير قال: قلت لعبدالله بن عمر حدثني عن علي؟ قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول يوم خيبر: لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فكأني أنظر إليها مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يحتضنها وكان علي بن أبي طالب أرمد من دخان الحصن فدفعها إليه، فلا والله ما تتامت الخيل حتى فتحها الله عليه»!

وعن علي (علیه السلام) قال: «كنت أرمد من دخان الحصن».كنز العمال: 10/92.

وقد يكون اليهود استعملوا ذلك الدخان سلاحاً ليمنعوا تقدم علي (علیه السلام)، فاضطر إلى الدخول فيه لتعقب فرسانهم!

كما يظهر أن مرض النبي (صلی الله علیه و آله) بالصداع كان في آخر محاصرة حصن القموص لأنهم رووا عن بريدة وغيره، «الطبري: 2/300» قال: «كان رسول الله ربما أخذته الشقيقة فيلبث اليوم واليومين لايخرج، فلما نزل رسول الله خيبر أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى

ص: 320

الناس، وإن أبابكر أخذ راية رسول الله ثم نهض فقاتل قتالاً شديداً ثم رجع، فأخذها عمر فقاتل قتالاً شديداً هو أشد من القتال الأول ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: أما والله لأعطينها غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يأخذها عنوة. قال وليس ثَمَّ علي، فتطاولت لها قريش ورجا كل واحد منهم أن يكون صاحب ذلك، فأصبح فجاء علي على بعير له حتى أناخ قريباً من خباء رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو أرمد، وقد عصب عينيه بشقة برد قطري، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):مالك؟ قال: رمدت بعدك! فقال رسول الله: أدن مني...».

فيفهم منه أنهم دخلوا على النبي (صلی الله علیه و آله) في مرضه وأخبروه بهزيمة عمر، فوعد الناس بالفتح في اليوم التالي واستدعى علياً (علیه السلام). ويدل ذلك على أن عمر قاد الحملة على الحصن يومين، ومعنى قتاله في المرة الثانية بأشد من الأولى أنه لم ينهزم بسرعة من سهام اليهود، بل تأخر قليلاً حتى انهزم!

10- غَضِبَ النبي (صلی الله علیه و آله) من فرار الصحابة وبشرهم بالفتح غداً!

غضب النبي (صلی الله علیه و آله) لما رأى هزيمة المسلمين شبه يومية، ورأى أن غطرسة مرحب وفرسانه زادت، ولم يجرؤ أحد من المسلمين على اقتحام الخندق فضلاً عن الحصن، فطلب بعض المسلمين أن يرسل لإحضار علي (علیه السلام) !

وفي رسائل المرتضى: 4/103: «روى أبو سعيد الخدري (رحمة الله) أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أرسل عمر إلى خيبر فانهزم هو ومن معه، حتى جاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يجبن أصحابه ويجبنونه، فبلغ ذلك من رسول الله (صلی الله علیه و آله) كل مبلغ، فبات ليلته مهموماً فلما أصبح خرج إلى الناس ومعه الراية فقال: لأعطين الراية اليوم رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار! فتعرض لها المهاجرون والأنصار، ثم قال: أين علي؟ فقالوا: يا رسول الله هو أرمد، فبعث إليه سلمان وأباذر، فجاءا به وهو يقاد لايقدر على فتح عينيه، فقال (صلی الله علیه و آله): اللهم أذهب عنه الرمد والحر والبرد وانصره على عدوه، فإنه عبدك يحبك ويحب رسولك، ثم دفع إليه الراية، فقال

ص: 321

حسان بن ثابت: يا رسول الله أتأذن لي أن أقول فيه شعراً؟ فأذن له فقال:

وكان علي أرمد العين يبتغي *** دواء فلما لم يحس مداويا

شفاه رسول الله منه بتفلة *** فبورك مرقيا وبورك راقيا

وقال سأعطي الراية اليوم ماضيا *** كميا محبا للرسول مواليا

يحب إلهي والرسول يحبه *** به يفتح الله الحصون الأوابيا

فأصفى بها دون البرية كلها *** علياً وسماه الوزير المؤاخيا

فقال: إن علياً لم يجد بعد ذلك أذى في عينيه، ولا أذى حر ولا برد».

وفي سيرة ابن هشام: 3/797: «بعث أبابكر الصديق برايته وكانت بيضاء فيما قال ابن هشام إلى بعض حصون خيبر، فقاتل فرجع ولم يك فتح، وقد جَهِد! ثم بعث الغد عمر بن الخطاب، فقاتل ثم رجع ولم يك فتح، وقد جَهِد! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه ليس بفرار! قال: يقول سلمة: فدعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً رضوان الله عليه وهو أرمد فتفل في عينه ثم قال: خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك.

قال: يقول سلمة: فخرج والله بها يأنج، يهرول هرولة، وإنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن، فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن فقال: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. قال: يقول اليهودي: علوتم وما أنزل على موسى! أو كما قال. قال: فما رجع حتى فتح الله على يديه».

11- قال النبي (صلی الله علیه و آله) لأصحابه الفارين: أميطوا عني!

في اليوم التالي لوعد النبي (صلی الله علیه و آله) بالفتح، تطاولت أعناق الصحابة لأخذ الراية، لاعتقادهم بأن الذي يعطيه الراية سيفتح حصن القموص المستعصي،حتى لو كان منهزماً! فردهم النبي (صلی الله علیه و آله) ! فقد روى أحمد، الزوائد: 6/151 و 9/124 ووثقه«عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله أخذ الراية فهزها ثم قال: من يأخذها بحقها؟ فجاء فلان فقال: أمِطْ «إذهب عني!» ثم جاء رجل آخر فقال: أمط! ثم قال النبي (صلی الله علیه و آله): والذي كرم وجه محمد

ص: 322

لأعطينها رجلاً لا يفر، هاك يا علي! فانطلق حتى فتح الله عليه». وشرح الأخبار: 1/321 والعمدة/139، وأبو يعلى: 2/499، أحمد: 3/16، تاريخ دمشق: 1/194 ونهاية ابن الأثير:4/381.

وفي تاريخ دمشق: 42/104 وغيره: «قال من يأخذها بحقها؟ فجاء الزبير فقال: أنا. فقال: أمط! ثم قام آخر...». وهو يدل على فرار الزبير أيضاً.

وفي الروضة لشاذان بن جبرئيل/139: «انهزم جيش أبي بكر وعمر، فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: ما بال أقوام يلقون المشركين ثم يفرون؟! لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحب الله ويحب رسوله ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار، يفتح الله على يديه بالنصر، فلما كان من الغد قال (صلی الله علیه و آله): أين ابن عمي علي؟فجاءه وهو أرمد».

12- أعطى النبي (صلی الله علیه و آله) الراية لعلي (علیه السلام) ودعا له

في إعلام الورى: 1/207: «حاصرهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بضعاً وعشرين ليلة، وبخيبر أربعة عشر ألف يهودي في حصونهم... فقال: لأعطين الراية غداً رجلاً كراراً غير فرار، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح الله على يده. فغدت قريش يقول بعضهم لبعض: أما علي فقد كفيتموه فإنه أرمد لا يبصر موضع قدمه... قال سعد: جلست نصب عينيه، ثم جثوت على ركبتي، ثم قمت على رجلي قائماً، رجاء أن يدعوني، فقال: أدعو لي علياً، فصاح الناس من كل جانب: إنه أرمد رمداً لا يبصر موضع قدمه! فقال: أرسلوا إليه وادعوه. فأتي به يقاد فوضع رأسه على فخذه ثم تفل في عينيه فقام وكأن عينيه جزعتان «عقيقتان» ثم أعطاه الراية ودعا له، فخرج يهرول هرولة، فوالله ما بلغت أخراهم حتى دخل الحصن. قال جابر: فأعجلنا أن نلبس أسلحتنا، وصاح سعد: يا أبا الحسن إربع يلحق بك الناس، فأقبل حتى ركزها قريباً من الحصن، فخرج إليه مرحب في عادية اليهود..».

وفي الكافي: 5/47، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «شعارنا: يا محمد يامحمد وشعارنا يوم بدر: يانصر الله اقترب اقترب.. ويوم خيبر يوم القموص: يا عليُّ آتهم من عل».

ص: 323

وفي الخصال/554، أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) احتجَّ على أهل الشورى بوصية النبي (صلی الله علیه و آله) وبجهاده بين يديه، ومما قال لهم: «استخلف الناس أبابكر وأنا والله أحق بالأمر وأولى به منه، واستخلف أبو بكر عمر وأنا والله أحق بالأمر وأولى به منه، إلا أن عمر جعلني مع خمسة نفر أنا سادسهم، لا يعرف لهم عليَّ فضل!... نشدتكم بالله أيها النفر هل فيكم أحد وحَّدَ الله قبلي؟ قالوا: اللهم لا... قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين رجع عمر يجبن أصحابه ويجبنونه قد رد راية رسول الله (صلی الله علیه و آله) منهزماً، فقال له رسول الله: لأعطين الراية غداً رجلاً ليس بفرار، يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، لايرجع حتى يفتح الله عليه، فلما أصبح قال: أدعوا لي علياً فقالوا: يا رسول الله هو رمدٌ ما يطرف! فقال: جيئوني به، فلما قمت بين يديه تفل في عيني وقال: اللهم أذهب عنه الحر والبرد، فأذهب الله عني الحر والبرد إلى ساعتي هذه، وأخذت الراية فهزم الله المشركين وأظفرني بهم، غيري؟ قالوا: اللهم لا».

وفي الصحيح من السيرة: 17/243: «فقال (صلی الله علیه و آله): أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم. ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى وحق رسوله. فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم. وقال أبو هريرة: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لعلي: إذهب فقاتلهم حتى يفتح الله عليك ولاتلتفت.. فخرج بها والله يأنج، يهرول هرولة، وإنَّا لخلفه نتبع أثره حتى ركزها تحت الحصن. فاطلع يهودي من رأس الحصن فقال: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. فقال اليهودي: علوتم والذي أنزل التوراة على موسى. فما رجع حتى فتح الله تعالى على يديه! وشرح الأخبار: 1/302.

وعن حذيفة: لما تهيأ علي (علیه السلام) للحملة قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي، والذي نفسي بيده إن معك من لايخذلك، هذا جبريل (علیه السلام) عن يمينك، بيده سيف لو ضرب الجبال لقطعها، فاستبشر بالرضوان والجنة. يا علي: إنك سيد العرب وأنا سيد ولد آدم»! وفي رواية: أنه (صلی الله علیه و آله) ألبسه درعه الحديد وشد ذا الفقار في وسطه وأعطاه الراية ووجّهه إلى الحصن، فقال علي (علیه السلام): يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ الخ.. فخرج علي بها وهو يهرول.

ص: 324

وفي نص آخر: أركبه رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم خيبر وعممه بيده وألبسه ثيابه، وأركبه بغلته ثم قال له: إمض يا علي وجبرئيل عن يمينك، وميكائيل عن يسارك، وعزرائيل أمامك، وإسرافيل وراءك، ونصر الله فوقك، ودعائي خلفك»!

وفي صحيح مسلم: 7/121: «قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ! قال فتساورت لها رجاء أن أدعى لها! قال: فدعا رسول الله علي بن أبي طالب فأعطاه إياها، فقال: إمش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك! قال: فسار عليٌّ شيئاً ثم وقف ولم يلتفت فصرخ، قال: يا رسول الله على ماذا أقاتل؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله».

13- وصل علي (علیه السلام) إلى الحصن قبل الجيش!

في مناقب آل أبي طالب: 2/320: «الواقدي: فوالله ما بلغ عسكر النبي أُخَيْرَاه حتى دخل عليٌّ حصون اليهود كلها، وهي قموص، وناعم، وسلالم، ووطيح، وحصن المصعب بن معاد، وغنم. وكانت الغنيمة نصفها لعلي ونصفها

لسائر الصحابة.

شعبة وقتادة والحسن وابن عباس: أنه نزل جبرئيل على النبي (صلی الله علیه و آله) فقال له: إن الله تبارك وتعالى يأمرك يا محمد ويقول لك: إني بعثت جبرئيل إلى علي لينصره، وعزتي وجلالي ما رمى علي حجراً إلى أهل خيبر إلا رمى جبرئيل حجراً، فادفع يا محمد إلى علي سهمين من غنائم خيبر، سهماً له وسهم جبرئيل معه».

14- اليهود يعرفون أن نهايتهم على يد حيدرة

روى في الإحتجاج: 1/307، أن راهباً جاء إلى المدينة بعد النبي (صلی الله علیه و آله) فجرى بينه وبين أبي بكر كلام فدخل علي (علیه السلام) فقال له أبو بكر: «أيها الراهب سله فإنه صاحبك وبغيتك، فأقبل الراهب بوجهه إلى علي (علیه السلام) ثم قال: يا فتى ما اسمك؟ قال: إسمي عند اليهود إليا،وعند النصارى إيليا، وعند والديَّ علي، وعند

ص: 325

أمي حيدرة، قال: ما محلك من نبيكم؟ قال: أخي وصهري وابن عمي لِحّاً. قال: الراهب: أنت صاحبي ورب عيسى».

وفي مدينة المعاجز: 1/173: «إن اليهود من خيبر يجدون في كتابهم أن الذي يدمرهم إليا» وروى في الإرشاد: 1/126، أن النبي (صلی الله علیه و آله) أعطى الراية لعلي (علیه السلام) وقال له: «خذ الراية وامض بها، فجبرئيل معك، والنصر أمامك، والرعب مبثوث في صدور القوم، واعلم يا علي أنهم يجدون في كتابهم أن الذي يدمر عليهم إسمه إيليا. فإذا لقيتهم فقل أنا علي، فإنهم يخذلون إن شاء الله».

15- عَبَر الخندق وقصد مرحباً وفرسانه!

في الخرائج: 1/217: «روى مكحول أن مرحباً اليهودي قدمته اليهود لشجاعته ويساره، وكان طويل القامة عظيم الهامة، وما وافقه قرن لعظم خلقه! وكانت له ظئر «مرضعة» قرأت الكتب وكانت تقول له: قاتل كل من قاتلك إلا من يسمى بحيدرة، فإنك إن وقفت له هلكت! فلما كثرت مناوشته «غطرسته» وبَعُلَ الناس بمكانه «تحيرهم فيه» شكوا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وسألوه أن يخرج إليه علياً (علیه السلام) وكان أرمد، فتفل النبي (صلی الله علیه و آله) في عينه فصحت، ثم قال له: يا علي إكفني مرحباً! فخرج إليه فلما بصر به مرحب أسرع إليه فلم يره يعبأ به فتحير، ثم قال: أنا الذي سمتني أمي مرحبا. فقال علي: أنا الذي سمتني أمي حيدرة. فلما سمعها هرب ولم يقف مما حذرته ظئره، فتمثل له إبليس وقال: إلى أين؟ قال: حذرت ممن اسمه حيدرة. قال: أولم يكن حيدرة إلا هذا؟ حيدرة في الدنيا كثير، فارجع فلعلك تقتله، فإن قتلته سدت قومك وأنا في ظهرك. فما كان إلا كفواق ناقة حتى قتله أميرالمؤمنين (علیه السلام)»!

وفي مسند أحمد: 4/52:«فخرج مرحب يخطر بسيفه فقال:

قد علمت خيبر أني مرحبُ *** شاكي السلاح بطلٌ مجربُ

إذا الحروب أقبلت تلهَّب

فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:

ص: 326

أنا الذي سمتني أمي حيدره *** كليث غابات كريه المنظره

أوفيهمُ بالصاع كَيْلَ السنَّدرة

ففلق رأس مرحب بالسيف وكان الفتح على يديه».

«فضربه علي على هامته حتى عض السيف منها بأضراسه!وسمع أهل العسكر صوت ضربته! فما تتام آخر الناس مع علي حتى فتح الله له ولهم».الطبري: 2/300.

وعن أم سلمة: «سمعت وقْع السيف في أسنان مرحب»!مجمع الزوائد: 6/152ووثقه.

وفي بعض المصادر: شق رأسه وجسده نصفين حتى بلغ السرج!

معارج النبوة/323.

16- بعد قتله مرحباً هاجم الحصن وقلع بابه!

تدل أحاديث خيبر على أن حملات المسلمين على حصن القموص كانت تتوقف عند الخندق الذي قبل الحصن، ولا تتجاوزه!

ولذلك كان مرحب يخرج من الحصن هو وعاديته أي نخبة فرسانه، ويتبختر أمام المسلمين ويتحداهم أن يعبروا، فلا يجرأ منهم أحد على العبور!

إلى أن كان يومٌ رأى مرحب وفرسانه شخصاً وصل بمفرده قبل جيش المسلمين وعبر الخندق، ووقف في مواجهتهم، فكان ذلك علياً (علیه السلام) !

وأجاب علي (علیه السلام) على شعر مرحب ثم كلمه ودعاه إلى الإسلام، فاستشاط غضباً وحمل عليه وضربه، فتلقى علي (علیه السلام) الضربة ووجه اليه ضربته التاريخية فقدَّت خوذته الصخرية، ومغفره، ورأسه، وقد تكون وصلت إلى فرسه!

وقال في تاريخ الخميس: 2/51: «وقتل علي يومئذٍ ثمانية من رؤسائهم، وفر الباقون إلى الحصن». ومن المؤكد أنه (علیه السلام) قتل أخ مرحب ويدعى ياسر، لكن ذلك كان في فتحه حصن ناعم، ولم أستطع التحقق من أنه (علیه السلام) قتل أحداً غير مرحب قبل دخول حصن القموص، فقد اندهشوا بمصرع مرحب، ففروا

ص: 327

إلى داخل الحصن وأغلقوا بابه فلحقهم علي (علیه السلام) ! وفي صعوده انهالت عليه سهام اليهود وأحجارهم من أبراج الحصن وسطوحه، وكان يتجنبها أو يردها بترسه حتى تكسر، فوجد باب حديد صغير ملقى فاتخذه ترساً، حتى وصل إلى باب الحصن فأمسك بحلقته وهزه ثم دحاه بقدرة الله تعالى واقتلعه من أساسه فانذعر اليهود! ودخل (علیه السلام) الحصن وحده، فواجهه بعض فرسانهم فقتله،ودوى صوته بالتكبير»!

في ذلك الوقت تمكن بعض المسلمين من عبور الخندق، وقد يكون وصل بعضهم إلى علي (علیه السلام) لكن أكثرهم ما زالوا وراء الخندق يحاولون العبور، فأخذ علي (علیه السلام) باب الحصن وجعله لهم جسراً حتى عبروا!

ثم دخل أمامهم إلى الحصن، وقد يكون وقع فيه قتال، لكن خوف اليهود كان شديداً من مصرع مرحب، فأعلنوا الإستسلام!

وقد عدَّ أميرالمؤمنين (علیه السلام) جهاده في خيبر أحد الإمتحانات السبع التي امتحنها الله بها في حياة النبي (صلی الله علیه و آله)، فقال في جواب أحد أحبار اليهود، كما في الخصال/369.

«وأما السادسة يا أخا اليهود، فإنا وردنا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) مدينة أصحابك خيبر على رجال من اليهود وفرسانها من قريش وغيرها، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح، وهم في أمنع دار وأكثر عدد، كل ينادي ويدعو ويبادر إلى القتال، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلا قتلوه حتى إذا احمرت الحدق، ودعيت إلى النزال وأهمت كل امرئ نفسه، والتفت بعض أصحابي إلى بعض وكل يقول: يا أبا الحسن إنهض، فأنهضني رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى دارهم فلم يبرز إلي منهم أحد إلا قتلته، ولا ثبت لي فارس إلا طحنته، ثم شددت عليهم شدة الليث على فريسته، حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدداً عليهم، فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي، أقتل من يظهر فيها من رجالها، وأسبي من أجد من نسائها، حتى افتتحتها وحدي، ولم يكن لي فيها معاون إلا الله وحده! ثم التفت (علیه السلام) إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا:

بلى يا أميرالمؤمنين»!

أقول: يدل على أن رجالاً من فرسان قريش كانوا في خيبر لنصرة اليهود، فلا بد أن

ص: 328

تكون قريش بعثت بهم سراً، أو يكونون أفراداً لهم علاقات مع اليهود.

قال المفيد في الإرشاد: 1/127: «ولما قتل أميرالمؤمنين (علیه السلام) مرحباً رجع من كان معه وأغلقوا باب الحصن عليهم دونه، فصار أميرالمؤمنين (علیه السلام) إليه فعالجه حتى فتحه وأكثر الناس من جانب الخندق لم يعبروا معه، فأخذ أميرالمؤمنين (علیه السلام) باب الحصن فجعله على الخندق جسراً لهم حتى عبروا وظفروا بالحصن ونالوا الغنائم فلما انصرفوا من الحصن أخذه أميرالمؤمنين (علیه السلام) بيمناه، فدحا به أذرعاً من الأرض، وكان الباب يغلقه عشرون رجلاً منهم»!

وأضاف العلامة في كشف اليقين/141: «وقال (علیه السلام): ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية ولكن بقوة ربانية».

وفي إعلام الورى: 1/207: «قال أبان: حدثني زرارة قال: قال الباقر (علیه السلام): انتهى إلى باب الحصن وقد أغلق في وجهه فاجتذبه اجتذاباً وتترس به، ثم حمله على ظهره واقتحم الحصن اقتحاماً. واقتحم المسلمون والباب على ظهره، قال: فوالله ما لقي علي (علیه السلام) من الناس تحت الباب أشد مما لقي من الباب ثم رمى بالباب رمياً».

وفي مناقب آل أبي طالب: 2/125: «روى أحمد بن حنبل عن مشيخته عن جابر الأنصاري أن النبي (صلی الله علیه و آله) دفع الراية إلى علي (علیه السلام) في يوم خيبر بعد أن دعا له فجعل يسرع السير وأصحابه يقولون له إرفق، حتى انتهى إلى الحصن فاجتذب بابه فألقاه على الأرض، ثم اجتمع منا سبعون رجلاً وكان جهدهم أن أعادوا الباب».

قال الحميري: وألقى باب حصنهم بعيداً ولم يك يستقل بأربعينا

وفي مجمع الزوائد: 6/151، عن علي (علیه السلام) قال: «فانطلقت حتى أتيتهم، فإذا فيهم مرحب يرتجز، حتى التقينا فهزمه الله وانهزم أصحابه وتحصنوا، وأغلقوا الباب فأتيت الباب فلم أزل أعالجه حتى فتحه الله».

وقد روت عامة المصادر حديث عبدالله بن عمر، كما في أمالي الصدوق/604، وروضة الواعظين/126، قال: «إن رسول الله دفع الراية يوم خيبر إلى رجل من

ص: 329

أصحابه فرجع منهزماً، فدفعها إلى آخر فرجع يجبن أصحابه ويجبنوه..فلما أصبح قال: أدعوا لي علياً... قال: لما دنا من القموص، أقبل أعداء الله من اليهود يرمونه بالنبل والحجارة، فحمل عليهم علي (علیه السلام) حتى دنا من الباب فثنى رجله، ثم نزل مغضباً إلى أصل عتبة الباب فاقتلعه ثم رمى به خلف ظهره أربعين ذراعاً.

قال ابن عمر: وما عجبنا من فتح الله خيبر على يدي علي، ولكنا عجبنا من قلعه الباب ورميه خلفه أربعين ذراعاً، ولقد تكلف حمله أربعون رجلاً فما أطاقوه، فأخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بذلك فقال: والذي نفسي بيده لقد أعانه عليه أربعون ملكاً!

وروي أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال في رسالته إلى سهل بن حنيف: والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدية، ولا بحركة غذائية، لكني أيدت بقوة ملكوتية، ونفس بنور ربها مضية، وأنا من أحمد كالضوء من الضوء! والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت، ولو أمكنتني الفرصة من رقابها لما بغيت».

وقال ابن حجر المتعصب، في الإصابة: 4/466: «ومن خصائص علي قوله (صلی الله علیه و آله) يوم خيبر: لأدفعن الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه، فلما أصبح رسول الله (صلی الله علیه و آله) غدوا كلهم يرجو أن يعطاها..

وروى في آخره قصة مرحب قال: «فضربه على هامته ضربة حتى عض السيف منه بيضة رأسه وسمع أهل العسكر صوت ضربته، فما قام آخر الناس حتى فتح الله

لهم. وفي المسند لعبدالله بن أحمد بن حنبل من حديث جابر: أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما دفع الراية لعلي يوم خيبر أسرع، فجعلوا يقولون له: إرفق! حتى انتهى إلى الحصن، فاجتذب بابه فألقاه على الأرض، ثم اجتمع عليه سبعون رجلاً حتى أعادوه..».

17- الباب الذي تترس به (علیه السلام) غير الباب الذي قلعه

قال المقريزي في الإمتاع: 1/310: «وزعم بعضهم أن حمل علي باب خيبر لا أصل له وإنما يروى عن رعاع الناس، وليس كذلك فقد أخرجه ابن إسحاق في سيرته عن أبي رافع، وأن سبعة لم يقلبوه، وأخرجه الحاكم من طرق منها عن أبي علي الحافظ، حدثنا

ص: 330

الهيثم بن خلف الدوري...عن جابر: أن علياً حمل الباب يوم خيبر وأنه جُرِّب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلاً»

وفي سيرة ابن هشام: 3/798: «عن أبي رافع، مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: خرجنا مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله برايته، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من يهود فطاح ترسه من يده، فتناول علي باباً كان عند الحصن فترَّس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتني في نفر سبعة معي أنا ثامنهم، نجهد على أن نقلب ذلك الباب، فما نقلبه»!وتاريخ الطبري: 2/301.

وفي أعيان الشيعة: 1/405: «وهذا الباب غير باب الحصن، بل هو باب أصغر منه كان ملقى عند الحصن، أخذه علي فتترس به».

وقال اليعقوبي: 2/56: «فقتل مرحباً اليهودي واقتلع باب الحصن، وكان حجارة طوله أربعة أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع، فرمى به علي بن أبي طالب خلفه ودخل الحصن ودخله المسلمون».

وقد تفرد اليعقوبي في أن باب خيبر كان من حجر، والمعروف أنه من حديد، ولعل باب حصن ناعم من حجر، فقد قلعه علي (علیه السلام) أيضاً!

18- وكان أميرالمؤمنين (علیه السلام) قلع باب حصن ناعم أيضاً!

روت بعض مصادر السنة كالسيرة الحلبية والعيني في عون المعبود: 8/172، أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قلع أيضاً باب حصن ناعم، وهو أول حصن فتحه (علیه السلام)، ولم تذكر الرواية حجم الباب، ولا بد أنه كان أصغر من باب حصن القموص، وتقدم أنه (علیه السلام) قتل هناك ياسر أخ مرحب، ويفهم منها أن فتح الحصون كلها كان على يده (علیه السلام)، ولكن رواة السلطة تفننوا في إخفاء مناقبه ونسبتها إلى آخرين!

ص: 331

19- وتلقاه النبي (صلی الله علیه و آله) وبشره بنزول الوحي فيه!

في إعلام الورى: 1/207: «وخرج البشير إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن علياً دخل الحصن، فأقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخرج علي (علیه السلام) يتلقاه، فقال (صلی الله علیه و آله): قد بلغني نبؤك المشكور وصنيعك المذكور، قد رضی الله عنك ورضيت أنا عنك. فبكى علي (علیه السلام) فقال له: ما يبكيك يا علي؟ فقال: فرحاً بأن الله ورسوله (صلی الله علیه و آله)

عني راضيان».

أقول: معناه أن النبي (صلی الله علیه و آله) جاء إلى حصن خيبر لأول مرة فخرج علي (علیه السلام) يتلقاه! وما إن أخبره برضا الله ورضاه عليه حتى بكى!

فاعجب لهذه الرقة الإنسانية والعبودية المرهفة لله تعالى، من شخص دوَّى صوت ضربته قبل ساعتين، وقدَّ خوذة بطل اليهود وهامته نصفين، ثم انقضَّ على الحصن كأنه كاسحة ألغام، فقلع بابه ورفعه وأردى أبطال اليهود وأخضع اليهود! وإذا به أمام رسول الله (صلی الله علیه و آله) يبكي بكاء الطفل، فرحاً برضا الله ورسوله عليه!هذا، ويبدو أن هذا المشهد تكرر من علي (علیه السلام) عندما نزل جبرئيل على النبي (صلی الله علیه و آله) في مرات عديدة برضا الله تبارك وتعالى عليه ومديحه.

ففي أحُد قال للنبي (صلی الله علیه و آله) «المناقب: 1/385»:«أصابني ست عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهن فأتاني رجل حسن الوجه حسن اللمة طيب الريح فأخذ بضبعي فأقامني، ثم قال: أقبل عليهم فإنك في طاعة الله وطاعة رسول الله وهما عنك راضيان، فقال: يا علي أقر الله عينك، ذاك جبرئيل».

وعندما أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) في مهمة إلى وادي الرمل «الإرشاد: 1/116» وكانت مجموعة من فاتكي العرب جاؤوا ليقتلوا النبي (صلی الله علیه و آله) فأجاد وأحسن، فنزلت سورة العاديات، فقال النبي (صلی الله علیه و آله) لأصحابه: «هذا جبرئيل يخبرني أن علياً قادم، ثم خرج إلى الناس فأمرهم أن يستقبلوا علياً (علیه السلام)، وقام المسلمون له صفين مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما بصر بالنبي ترجل عن فرسه وأهوى إلى قدميه يقبلهما، فقال له: إركب فإن الله تعالى ورسوله عنك راضيان. فبكى أميرالمؤمنين (علیه السلام) فرحاً».

ص: 332

20- ثم فتح النبي (صلی الله علیه و آله) حصني السلالم والوطيح

في معجم البلدان: 5/379: «سمي بالوطيح بن مازن رجل من ثمود، وكان الوطيح أعظمها، وآخر حصون خيبر فتحاً هو والسلالم، وفي كتاب الأموال لأبي عبيد الوطيحة بالهاء».

وفي الصحيح من السيرة: 18/170: «قال ابن إسحاق: وتدنَّى رسول الله الأموال يأخذها مالاً مالاً ويفتحها حصناً حصناً، حتى انتهوا إلى ذينك الحصنين، أعني الوطيح وسلالم الذي هو حصن بني الحقيق وهو آخر حصون خيبر، وجعلوا لا يطلعون من حصنهم حتى همَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن ينصب عليهم المنجنيق لما رأى من تغليقهم وأنه لا يبرز منهم أحد. فلما أيقنوا بالهلكة وقد حصرهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) أربعة عشر يوماً سألوا رسول الله الصلح، فأرسل كنانة بن أبي الحقيق إلى رسول الله رجلاً من اليهود يقال له شماخ، يقول: إِنزل فأكلمك؟فقال رسول الله: نعم، فنزل كنانة بن أبي الحقيق، فصالح رسول الله على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ويُخلون بين رسول الله وبين ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة، وعلى البز إلا ثوباً على ظهر إنسان.. ووجد في ذينك الحصنين مائة درع وأربع مائة سيف وألف رمح، وخمس مائة قوس عربية بجعابها. ووجدوا صحائف متعددة من التوراة فجاءت يهود تطلبها فأمر (صلی الله علیه و آله) بدفعها إليهم. وبذلك يكون الوطيح وسلالم فيئاً لرسول الله (صلی الله علیه و آله) إذ لم يحصل قتال في هذين الحصنين». ونحوه تاريخ الطبري: 2/302 وتاريخ خليفة/49.

21- أوسمة النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) في خيبر

أ. روى الجميع قول النبي (صلی الله علیه و آله): لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار، لايرجع حتى يفتح الله على يديه. وهو حديث متواتر، وفي رواية: «ليس بفرار». وفي رواية الحاكم: «لأبعثن رجلاً

ص: 333

لايخزيه الله أبداً». وفي رواية الخصال: «ويحبه الله ورسوله، في ثناء كثير». وفي رواية سُليم: «ليس بجبان ولا فرار». وفي رواية شرح الأخبار: «يفتح خيبر عنوة». وفي رواية الإرشاد: «أرونيه تروني رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يأخذها بحقها ليس بفرار». وفي رواية مجمع الزوائد: «يقاتلهم حتى يفتح الله له». وفي سنن النسائي: 5/112: «يقاتل جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله». وكررها النبي (صلی الله علیه و آله) في الغد وقال اليوم.

ب. تقدم عن حذيفة (رحمة الله) قال: «لما تهيأ علي (علیه السلام) للحملة قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي والذي نفسي بيده إن معك من لايخذلك، هذا جبريل عن يمينك، بيده سيف لو ضرب الجبال لقطعها، فاستبشر بالرضوان والجنة. يا علي، إنك سيد العرب، وأنا سيد ولد آدم»!السيرة الحلبية: 2/736.

وقال في الصحيح من السيرة: 18/ 36، ملخصاً: «ثم إنه (صلی الله علیه و آله) شرَّف علياً (علیه السلام) بوسام كان هو الأصعب على حاسديه ومناوئيه، الذين لم يكن يهمهم أن يقول فيه النبي (صلی الله علیه و آله) ما شاء مما يرتبط بالآخرة أو في عالم السماء والملائكة، بشرط أن لايؤثر على مشاريعهم الدنيوية التي يرون علياً (علیه السلام) هو المانع الأكبر من وصولهم إليها كهذا التصريح النبوي الذي يوجه المؤمنين أن لايرضوا بغيره قائداً وسيداً».

أقول: تعمد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يعلن هذا الوسام لعلي (علیه السلام) في خيبر، وقد أعلنه قبلها وبعدها،كما روته مصادر الطرفين، ففي أمالي الطوسي/608، قال النبي (صلی الله علیه و آله) لفاطمة (علیها السلام): «ثم إن الله تعالى اختارني من أهل بيتي، واختار علياً والحسن والحسين، واختارك. فأنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب، وأنت سيدة النساء، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، ومن ذريتكما المهدي يملأ الله به الأرض عدلاً كما ملئت من قبله جوراً».

ورواه الحاكم: 3/124، عن عائشة قالت: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أُدعوا لي سيد العرب، فقلت: يا رسول الله ألست سيد العرب؟ فقال: أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب».«وابن أبي شيبة: 7/474، بغية الباحث/283، أوسط الطبراني: 2/127، الرازي في تفسيره: 6/212، تاريخ بغداد: 11/90»وفيه: إذا سرك أن تنظري إلى سيد العرب فانظري إلى علي.

ص: 334

ج. في المناقب للخوارزمي/129، بسنده عن علي (علیه السلام) قال: «قال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم فتحت خيبر: لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت فيك اليوم مقالاً، لا تمرُّ على ملأ من المسلمين إلا أخذوا من تراب رجليك وفضل طهورك يستشفون به! ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك ترثني وأرثك، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، أنت تؤدي ديني وتقاتل على سنتي، وأنت في الآخرة أقرب الناس مني، وأنت غداً على الحوض خليفتي تذود عنه المنافقين، وأنت أول من يرد عليَّ الحوض، وأنت أول داخل الجنة من أمتي، وإن شيعتك على منابر من نور رواء مرويين، مبيضة وجوههم حولي، أشفع لهم فيكونون غداً في الجنة جيراني. وإن عدوك غداً ظماء مظمئين، مسودة وجوههم مقمحين. حربك حربي وسلمك سلمي، وسرك سري وعلانيتك علانيتي، وسريرة صدرك كسريرة صدري، وأنت باب علمي، وإن ولدك ولدي، ولحمك لحمي ودمك دمي، وإن الحق معك والحق على لسانك وفي قلبك وبين عينيك، والإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي، وأن الله عزوجل أمرني أن أبشرك أنك وعترتك في الجنة، وأن عدوك في النار. يا علي، لا يرد علي الحوض مبغض لك، ولا يغيب عنه محب لك، قال قال علي: فخررت له سبحانه وتعالى ساجداً وحمدته على ما أنعم به علي من الإسلام والقرآن، وحببني إلى خاتم النبيين وسيد المرسلين (صلی الله علیه و آله)». ومناقب محمد بن سليمان: 1/249، شرح الأخبار: 2/381، كنز الفوائد/281 وفي آخره في ثلاثتها: «فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي لولا أنت لم يعرف المؤمنون بعدي». والصحيح من السيرة:18/38. وروته مصادر السنة ولعله صحيح على مبانيهم، كالطبراني في الكبير: 1/320 والزوائد: 9/131.

22- أفٍّ وتُفّ لمن ينكر فضائل علي (علیه السلام) !

روينا وروى السنة هذا الموقف لابن عباس، كالنسائي في خصائص علي (علیه السلام) /62، عن عمرو بن ميمونة قال: «إني لجالس إلى ابن عباس إذ أتاه تسعة رهط فقالوا: يا

ص: 335

ابن عباس إما أن تقوم معنا وإما أن تخلو بنا بين هؤلاء. فقال ابن عباس: بل أنا أقوم معكم. قال: وهو يومئذ صحيح قبل أن يعمى، قال: فابتدؤوا فتحدثوا فلا ندري ما قالوا، قال: فجاء وهو ينفض ثوبه وهو يقول: أفٍّ وتُفّ، وقعوا في رجل له بضع عشر!وقعوا في رجل قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله):لأبعثن رجلاً يحب الله ورسوله لا يخزيه الله أبداً، قال: فاستشرف لها من استشرف فقال: أين ابن أبي طالب؟ قيل: هو في الرحى يطحن، قال: وما كان أحدكم ليطحن، قال: فجاء وهو أرمد لا يكاد يبصر فتفل في عينيه ثم هز الراية ثلاثاً فدفعها إليه..الخ. ثم ذكر ابن عباس عدة مناقب لعلي (علیه السلام) منها أن الله أمر نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر ويدفعها اليه، لأنه لا يبلغ عنه إلا هو أو رجل منه، وأن علياً أول من أسلم، ونزول آية التطهير فيه وفي زوجته وولديه (علیهم السلام)، ومبيته على فراش النبي (صلی الله علیه و آله) ليلة الهجرة،وقوله (صلی الله علیه و آله): أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعدي..الخ». ورواه النسائي في سننه: 5/113، أحمد: 1/330، الحاكم:3/132، السنة لابن أبي عاصم/588، تاريخ دمشق: 42/101، نهاية ابن كثير: 7/374، الخوارزمي/125، فرات/341، كشف اليقين/27، ينابيع المودة: 1/110، شرح الأخبار: 2/299، المراجعات/195

وقال صححه الذهبي.

23- قريش تفرح لساعات بخبر انتصار اليهود على النبي (صلی الله علیه و آله)

روى ذلك ابن إسحاق وتلقاه الحميع بالقبول، قال كما في سيرة ابن هشام: 3/806، عن الحجاج السلمي، وكان تاجراً ثرياً وهو والد نصر بن الحجاج المعروف بجماله، قال: «ولما فتحت خيبر كلم رسول الله (صلی الله علیه و آله) الحجاج بن علاط السلمي ثم البهزي فقال: يا رسول الله إن لي بمكة مالاً عند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة وكانت عنده، له منها معرض بن الحجاج ومال متفرق في تجار أهل مكة فأذنْ لي يا رسول الله فأذن له، قال: إنه لابد لي يا رسول الله من أن أقول! قال: قل. قال الحجاج: فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء رجالاً من قريش يتسمعون الأخبار، ويسألون عن أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد بلغهم أنه قد سار إلى خيبر، وقد عرفوا أنها قرية الحجاز ريفاً ومنعةً

ص: 336

ورجالاً، فهم يتحسسون الأخبار ويسألون الركبان فلما رأوني قالوا: الحجاج بن علاط - قال: ولم يكونوا علموا بإسلامي- عنده والله الخبر، أخبرنا فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر وهي بلد يهود وريف الحجاز، قال: قلت: قد بلغني ذلك وعندي من الخبر ما يسركم، قال: فالتبطوا بجنبي ناقتي يقولون: إيه يا حجاج! قال: قلت: هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، وقتل أصحابه قتلاً لم تسمعوا بمثله قط، وأسر محمد أسراً، وقالوا: لا نقتله حتى نبعث به إلى أهل مكة فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم! قال: فقاموا وصاحوا بمكة، وقالوا: قد جاءكم الخبر، وهذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم،

فيقتل بين أظهركم!

قال قلت: أعينوني على جمع مالي بمكة وعلى غرمائي، فإني أريد أن أقدم خيبر فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك...ثم ذكر أنه جمع ديونه، وهرب من مكة».

24- كنوز آل أبي الحقيق

قال في الصحيح من السيرة: 18/46، ملخصاً: «أخذ المسلمون في جملة غنائم خيبر حلي آل أبي الحقيق، وكانت أول الأمر في مسك حمل، فلما كثرت جعلوها في مسك ثور، ثم في مسك جمل عند الأكابر من آل أبي الحقيق، وكانوا يعيرونها العرب.السيرة الحلبية: 3/42. والمسك الجلد.

وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) صالحهم على أن يخرجوا بأنفسهم وأهليهم وللنبي (صلی الله علیه و آله) الصفراء والبيضاء والحلقة والسلاح، وشرطوا للنبي (صلی الله علیه و آله) أن لا يكتموه شيئاً فإن فعلوا فلا ذمة لهم.سنن البيهقي: 4/229.

وفي السيرة الحلبية: 3/42: أن جبرئيل (علیه السلام) أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بمكانه فأخذه.ووجدوا فيه أساور ودمالج وخلاخل وأقرطة وخواتيم الذهب وعقود الجواهر والزّمرّد، وعقود أظفار مجزع بالذهب.

ص: 337

25- زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بصفية بنت حُیَيّ بن أخطب

في إعلام الورى: 1/208: «وأخذ علي فيمن أخذ صفية بنت حيي، فدعا بلالاً فدفعها إليه وقال له: لاتضعها إلا في يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى يرى فيها رأيه، فأخرجها بلال ومر بها إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) على القتلى وقد كادت تذهب روحها! فقال لبلال: أنزعت منك الرحمة يا بلال! ثم اصطفاها ثم أعتقها وتزوجها».

وفي كتاب سُليم/409: «فأعتقها النبي (صلی الله علیه و آله) ثم تزوجها وجعل عتقها صداقها».

وفي سيرة ابن إسحاق: 5/246: «كانت صفية رأت قبل ذلك أن قمراً وقع في حجرها فذكرت ذلك لأبيها فضرب وجهها ضربة أثرت فيه، وقال: إنك لتمدين عنقك أن تكوني عند ملك العرب! فلم يزل الأثر في وجهها حتى أتي بها إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسألها عنه فأخبرته خبره..لما تزوج رسول الله صفية ابنة حيي، دعا الناس على مأدبتة وهي يومئذ بالحيس والتمر».

«قالوا: إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه. فلما ارتحل وطأ لها خلفه ومد الحجاب».صحيح بخاري: 5/77.

26- ما أدري بأيها أنا أسَرّ: بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟

أبقى النبي (صلی الله علیه و آله) جعفر بن أبي طالب رضی الله في الحبشة خمس عشرة سنة، من الخامسة للبعثة إلى السابعة للهجرة، حتى أمره بالعودة بمن بقي من المهاجرين وكان عددهم ستة عشر، «ابن هشام: 3/818» فوصلوا والنبي (صلی الله علیه و آله) في خيبرفقام النبي لجعفر ومشى اليه والتزمه وقبله بين عينيه، وقال كلمته المشهورة: «ما أدري بأيهما أنا أسر بقدوم جعفر أو بفتح خيبر»!الطبقات: 2/108، ابن هشام: 3/818،الخصال/77، مقاتل الطالبيين/6 والحدائق: 10/498.

وهي كلمة بليغة تعني أن ما أنجزه جعفر رضی الله عنه من إزالة عقبة المسيحية الرومية من طريق الإسلام نعمة عظيمة، يوازي إزالة عقبة اليهود من طريق الإسلام بفتح خيبر على يد أخيه علي (علیه السلام) !

ص: 338

ففي الخصال/484: «قام إليه واستقبله اثنتي عشرة خطوة وعانقه وقبَّل ما بين عينيه وبكى، وقال: لا أدري بأيهما أنا أشد سروراً: بقدومك يا جعفر، أم بفتح الله على أخيك خيبر؟! وبكى فرحاً برؤيته».

وفي تهذيب الأحكام: 3/186، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قال له: يا جعفر ألا أعطيك؟ ألا أمنحك؟ ألا أحبوك؟ قال فتشوف الناس ورأوا أنه يعطيه ذهباً أو فضة! قال: بلى يا رسول الله. قال: صل أربع ركعات متى ما صليتهن غفر لك ما بينهن، إن استطعت كل يوم وإلا فكل يومين أو كل جمعة أو كل شهر أو كل سنة، فإنه يغفر لك ما بينهما! قال: كيف أصليها؟ قال: تفتتح الصلاة، ثم تقرأ ثم تقول خمس عشرة مرة وأنت قائم: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله

والله أكبر. فإذا ركعت قلت ذلك عشراً، وإذا رفعت رأسك فعشراً، وإذا سجدت فعشراً، فإذا رفعت رأسك فعشراً، وإذا سجدت الثانية عشراً، وإذا رفعت رأسك عشراً. فذلك خمس وسبعون، تكون ثلاثمائة في أربع ركعات فهن ألف ومئتان. وتقرأ في كل ركعة بقل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون».

27- أسلم أبو موسى الأشعري أيام فتح خيبر

صادف وصول سفينة فيها أبو موسى الأشعري من اليمن، مع وصول سفينة جعفر والمهاجرين، فحشر نفسه معهم وجعل نفسه من المهاجرين! قال إنه كان: «في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً فوافقنا النبي (صلی الله علیه و آله) حين افتتح خيبر».صحيح بخاري: 5/79.

وأبو موسى الأشعري غير مرضي عند أهل البیت (علیهم السلام) فقد وصفوه بأنه: «سامري هذه الأمة»! «الخصال/457». وشهد عمار بن ياسر بأنه كان من الملثمين الذين أرادوا اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله) ليلة العقبة!

«عن أبي نجاء حكيم قال: كنت جالساً مع عمار فجاء أبو موسى فقال: ما لي ولك ألست أخاك؟ قال: ما أدري إلا أني سمعت رسول الله يلعنك ليلة

ص: 339

الجبل!قال: إنه قد استغفر لي! قال عمار: قد شهدت اللعن ولم أشهد الإستغفار»!

تاريخ دمشق: 32/93.

28- أسلم أبوهريرة أيام فتح خيبر

جاء أبو هريرة مع وفد من قبيلته دوس إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وكان في خيبر فقصدوه اليها وأسلموا، ويقال جعل لهم سهماً من الغنيمة. وكان أبو هريرة في الثلاثينات من عمره، وكان فقيراً معدماً، فسكن في الصفة وهي ملحق بمسجد النبي (صلی الله علیه و آله) يسكن فيه المساكين، ويتصدق عليهم المسلمون.

وهذه صورة لشخصية أبي هريرة من كتاب «شيخ المضيرة أبو هريرة الدوسي» للعالم الأزهري: محمود أبو ريَّة (رحمة الله):

أ. قال ابن سعد في طبقاته وهو يتكلم عن غزوة خيبر: وقدم الدوسيون فيهم أبو هريرة وقدم الطفيل بن عمرو، وقدم الأشعريون ورسول الله بخيبر، فلحقوه بها فكلم رسول الله أصحابه فيهم أن يشركوهم في الغنيمة من غير سهم المقاتلين ففعلوا. وكان عددهم أكثر من خمسين شخصاً.

ب. وبعد رجوعه من خيبر تنكب أبو هريرة طريق العمل للعيش الكريم، وسكن في صفة المسجد يتلقى ما تجود به نفوس المحسنين من صدقاتهم، شأن سكنة التكايا والخوانق، قال أبو هريرة كما رواه أحمد والشيخان: إني كنت امرأ مسكيناً أصحب رسول الله على ملء بطني!

لكنه زعم من ناحية أخرى أنه كان له مزود فيه بقية من تمر فمسها النبي (صلی الله علیه و آله) بيده الكريمة وقال له: كل من هذا المزود ما شئت في أي وقت، وكان المزود معلقاً في حقوه فظل يأكل منه حياة النبي وحياة أبي بكر وحياة عمر وحياة عثمان إلى أن أغارت جيوش الشام على المدينة بعد قتل عثمان فانتهبته. وقد حسب أبو هريرة ما أكله من مزوده في هذه الفترة فوجده مئتي وسق!

وقال أبو هريرة مرة لعائشة كما روى البخاري وابن سعد وابن كثير وغيرهم: شغلك

ص: 340

عن رسول الله المرآة والمكحلة! فقالت له: إنما أنت الذي شغلك بطنك، وألهاك نهمك عن رسول الله، حتى كنت تعدو وراء الناس في الطرقات تلتمس منهم أن يطعموك من جوعك، فينفرون منك ويهربون، ثم ينتهي بك الأمر إلى أن تصرع مغشياً عليك من الجوع أمام حجرتي، فيحسب الناس أنك مجنون فيطأون عنقك بأرجلهم.

ج. وكان أبو هريرة نهماً للطعام وجباناً، وقد جاءت الرواية الصحيحة أنه لما نشب القتال في صفين بين علي وبين معاوية، كان يأكل على مائدة معاوية الفاخرة، ويصلي وراء علي، وإذا احتدم القتال لزم الجبل! وكان يلقب «بشيخ المضيرة» وهو صنف من الطعام كان مشهوراً بين أطعمة معاوية الفاخرة. قال الزمخشري في ربيع الأبرار: وكان أبو هريرة يعجبه المضيرة فيأكلها مع معاوية، وإذا حضرت الصلاة صلى خلف علي، فإذا قيل له في ذلك قال: مضيرة معاوية أدسم، والصلاة خلف على أفضل، وكان يقال له: شيخ المضيرة.

وعقد بديع الزمان الهمذاني مقامة خاصة بين مقاماته سماها «المقامة المضيرية» غمز فيها أبا هريرة غمزة أليمة فقال: «وحضرنا معه دعوة بعض التجار، فقدمت إلينا مضيرة، تثنى على الحضارة، وتترجرج في الغضارة، وتؤذن بالسلامة، وتشهد لمعاوية بالإمامة»! والمضيرة تعرف في بلاد الشام باللبنية.

د. وقد عاش أبو هريرة في صُفَّة مسجد النبي (صلی الله علیه و آله) سنة وتسعة أشهر، ثم بعث النبي العلاء بن الحضرمي إلى البحرين وبعث معه نفراً منهم أبو هريرة، فبقي في البحرين، ثم ولى عمر على البحرين قدامة بن مظعون ثم عزله في سنة 20، وولى أبا هريرة مكانه، ثم بلغه عنه خيانة لأمانته فعزله وولى مكانه عثمان بن أبي العاص الثقفي وحاسبه فقال له: أسرقت مال الله؟ فقال لا. قال: فما جئت لنفسك؟ قال: عشرين ألفاً. قال: من أين أصبتها؟ قال كنت أتجر. قال: انظر رأس مالك ورزقك فخذه، ثم أمر عمر بأن يقبض منه عشرة آلاف، ثم قام اليه بالدرة فضربه حتى أدماه، وقال له: يا عدو الله وعدو المسلمين!

ص: 341

ه. وما كاد أبو هريرة يرجع إلى المدينة معزولاً عن ولايته بالبحرين حتى تلقفه الحبر الأكبر كعب الأحبار اليهودي، وأخذ يلقنه من إسرائيلياته، ويدس له من خرافاته، وكان المسلمون يرجعون إليه، فسال سيل روايتهما!

وقد أثبت علماء الحديث أمر أخذ أبي هريرة وغيره عن كعب الأحبار وذلك في باب «رواية الأكابر عن الأصاغر أو الصحابة عن التابعين».

ومما يدلك على أن هذا الكاهن الداهية، قد طوى أبا هريرة تحت جناحه حتى جعله يردد كلامه بالنص ويجعله حديثاً مرفوعاً إلى النبي (صلی الله علیه و آله) !

و. أبو هريرة يدلس: كانت طريقة أبي هريرة في روايته للحديث أن يرفع كل ما يرويه إلى النبي، سواء أكان قد سمعه منه مشافهة، أم أخذه من غيره من الصحابة، أو من التابعين عنعنة، وكان لا يميز بين هذا وذاك عند الرواية، ولا يذكر اسم من أخذ عنه من غير النبي، وهذا يعد عند المحدثين تدليساً، ويكون ما يرويه من هذا الباب في حكم «المرسل» وقد أثبت العلماء أن أبا هريرة كان مدلساً لأن أكثر ما رواه بل غالبه لم يأخذه «سماعاً» من النبي، بسبب تأخر إسلامه وإنما رواه عنعنة عن غيره من الصحابة أو التابعين.

قال يزيد بن إبراهيم: سمعت شعبة يقول: كان أبو هريرة يدلس. وعلق الذهبي على هذا الخبر بقوله: تدليس الصحابة كثير ولا عيب فيه! وقال الحاكم: قوم يدلسون الحديث.. وأبو هريرة ولا ريب من هذا الجنس، لأنه كان يروي عن غيره من الصحابة، دون أن يذكر اسم من روى عنه، ثم يرفعه إلى النبي!

ز. وقد ثبت أن عمر وعلياً وعثمان وعائشة وغيرهم من كبار الصحابة، قد كذبوه في وجهه، وبلغ من أمر عمر معه أن نهاه عن الرواية ثم ضربه عليها، وبعد ذلك أنذره إذا هو روى أن ينفيه إلى بلاده! وكان علي رضی الله عنه سئ الرأي فيه، فقد قال: ألا إن أكذب الناس أو قال: أكذب الأحياء على رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأبو هريرة الدوسي! وقال مرة: لا أحد أكذب من هذا الدوسي على رسول الله (صلی الله علیه و آله) !

ح. ويضرب المثل للكذب بكيس أبي هريرة أو جرابه! وقد جعل معاوية أبا هريرة والياً

ص: 342

على المدينة، وأمره أن يضع أحاديث على علي!

قال أبوجعفر الإسكافي: إن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي تقتضي الطعن فيه، والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه! منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير.. إلخ.

ط. توفي أبو هريرة سنة59، عن ثمانين سنة بقصره بالعقيق، وحمل إلى المدينة وصلى عليه أمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفیان.

وقال الشيخ محمود أبو رية (رحمة الله): «قد سقنا تاريخ أبي هريرة مكشوفاً بعد أن نزعنا عنه ثوب «الراوية» الملفق الذي يظهره في غير صورته وأظهرنا شخصيته على حقيقتها، من يوم أن كان يرعى الغنم في بلاده، ثم يخدم ابن عفان وابنة غزوان بطعامه، وكان يومئذ حافي القدمين لا يستر جسمه إلا إزار بال لا يبلغ نصف الساقين،كان يجمعه كراهية أن ترى عورته، إلى أن أصبح من ذوي الثراء العريض، يتأثل الأراضي الواسعة بالعقيق وبذي الحليفة، ويبتني قصراً منيفا بالعقيق، ويلبس الخز والكتان الممشق، والساج المزرور بالديباج، وغير ذلك مما لم يكن يحلم به أو يخطر بباله. ففي مرآته الصافية حقيقة مروياته الكثيرة المنبثة في كتب السنة كلها، والتي تحمل غرائب وأساطير وخرافات وأوهاما، وتعزى كلها وا أسفاً إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وتنشر بين المسلمين على أنها من حقائق الدين الإسلامي! تفتح أبواب الطعن على ديننا من أعدائه بأنه دين خرافات وأوهام يعادي العقل، ويصادم المنطق!

فالأحرى بنا أن ندرأ عن أنفسنا وديننا هذه التهم ولا يأخذنا في ذلك أي اعتبار!

على أن أبا هريرة قد دفن بالعقيق بالمدينة فإنك تجد له ضريحاً عالياً فيه قبة مكسوة بالجوخ، تعلوها عمامة كبيرة خضراء وهذه القبة داخل مسجد يسمى باسمه، ويقع هذا المسجد في شارع يشق مدينة الجيزة «بالديار المصرية» من شرقها إلى غربها يسمى «شارع سيدي أبي هريرة»!

وقد رأينا هذا الضريح في يوم السبت الموافق23يونيه سنة1962 وليس بعجيب

ص: 343

أن يكون لأبي هريرة قبر في الجيزة غير قبره الذي بالمدينة، فإن له من شيخه الكبير كعب الأحبار أسوة! فهذا اليهودي كما هو معلوم مدفون بمدينة حمص بالشام، ولكن له قبرا آخر فوقه قبة كبيرة تقع بأحد المساجد الكبيرة بحي الناصرية المشهور بالقاهرة. ويعمل لأبي هريرة مولد كل عام!

ومن العجيب أن وزارة الأوقاف بالجمهورية العربية المتحدة تنفق على قبري أبي هريرة وشيخه من مال المسلمين، على عين جميع رجال الدين»!

ص: 344

الفصل التاسع والخمسون: من غزوة خيبر إلى غزوة مؤتة

1- فدك خالصةً للنبي (صلی الله علیه و آله)

في إعلام الورى: 1/208: «فلما فرغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) من خيبر، عقد لواءً ثم قال: من يقوم إليه فيأخذه بحقه؟ وهو يريد أن يبعث به إلى حوائط فدك، فقام الزبير إليه فقال: أنا، فقال له: أمِطْ عنه«إبعد»! ثم قام إليه سعد فقال: أمِطْ عنه!

ثم قال: يا علي قم إليه فخذه، فأخذه فبعث به إلى فدك فصالحهم على أن تحقن دماءهم، فكانت حوائط فدك لرسول الله (صلی الله علیه و آله) خاصاً خالصاً، فنزل جبرئيل فقال: إن الله عزوجل يأمرك تؤتي ذا القربى حقه. فقال: يا جبرئيل ومن قرباي وما حقها؟ قال: فاطمة، فأعطها حوائط فدك، وما لله ولرسوله فيها. فدعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فاطمة (علیها السلام) وكتب لها كتاباً جاءت به بعد موت أبيها إلى أبي بكر وقالت: هذا كتاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) لي ولابنيَّ».

2- فدك رمزٌ لظلامة الإمامة

في الكافي: 1/543: «عن علي بن أسباط قال: لما ورد أبو الحسن موسى (علیه السلام) على المهدي رآه يرد المظالم فقال: يا أميرالمؤمنين ما بال مظلمتنا لاترد؟ فقال له: وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال: إن الله تبارك وتعالى لما فتح على نبيه (صلی الله علیه و آله) فدك وما والاها لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فأنزل الله على نبيه (صلی الله علیه و آله): وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ، فلم يدر رسول الله (صلی الله علیه و آله) من هم، فراجع في ذلك جبرئيل وراجع جبرئيل ربه فأوحى الله إليه: أن ادفع فدك إلى فاطمة، فدعاها

ص: 345

رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال لها: يا فاطمة إن الله أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما ولي أبو بكر أخرج عنها وكلاءها فأتته فسألته أن يردها عليها فقال لها: إئتيني بأسود أو أحمر يشهد لك بذلك، فجاءت بأميرالمؤمنين (علیه السلام) وأم أيمن فشهدا لها فكتب لها بترك التعرض، فخرجت والكتاب معها، فلقيها عمر فقال: ما هذا معك يا بنت محمد؟ قالت كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة، قال: أرينيه فأبت فانتزعه من يدها ونظر فيه ثم تفل فيه ومحاه وخرقه، فقال لها: هذا لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب؟ فضعي الحبال في رقابنا! فقال له المهدي: يا أبا الحسن حدها لي، فقال: حد منها جبل أحد، وحد منها عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحد منها دومة الجندل، فقال له كل هذا؟ قال: نعم يا أميرالمؤمنين هذا كله، إن هذا كله مما لم يوجف على أهله رسول الله بخيل ولا ركاب! فقال كثير وأنظر فيه».

أقول: يقصد الإمام (علیه السلام) الخلافة، وأن كل الدولة الإسلامية فدك!

وفي دعائم الإسلام: 1/385: «وروينا عن جعفر بن محمد صلوات الله عليه أنه قال: إن فدكاً كانت مما أفاء الله على رسوله بغير قتال، فلما أنزل الله: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ، أعطى رسول الله فاطمة فدكاً.فلما قبض أخذها منها أبو بكر، فلما ولي عثمان أقطعها مروان، فلما ولي مروان جعل الثلثين منها لابنه عبدالملك، والثلث لابنه سليمان، فلما وليَ عبدالملك جعل ثلثيه لعبدالعزيز وبقي الثلث لسليمان، فلما ولى سليمان جعل ثلثه لعمر بن عبدالعزيز، فلما ولي عمر بن عبدالعزيز ردها كلها على ولد فاطمة (علیها السلام)، فاجتمع إليه بنو أمية وقالوا: يرى الناس أنك أنكرت فعل أبي بكر وعمر وعثمان والخلفاء من آبائك، فردها، وكان يجمع غلتها في كل سنة ويزيد عليها مثلها ويقسمها في ولد فاطمة (علیها السلام) وكان الأمر فيها كما قال أبوعبدالله أيام عمر بن عبدالعزيز. ثم استأثر بها آل العباس من بعده، إلى أن ولي المتسمي بالمأمون فجمع فقهاء البلدان من العامة وغيرهم وتناظروا فيها، فثبت أمرهم بإجماع أنها لفاطمة صلوات الله عليها، وشهدوا بأجمعهم على ظلم من انتزعها منها، فردها في ولد فاطمة، وذلك من الأمر المشهور المعروف».

ص: 346

أقول: قام أبو بكر وعمر بمصادرة فدك، وأخرجوا منها وكيل فاطمة (علیها السلام) بعد أن كانت بيدها من فتح خيبر، فاحتجت عليهم وأرتهم كتاب النبي (صلی الله علیه و آله)، وأتت بالشهود وخطبت في المسجد، وأعلنت موقفها من السلطة. ومن ذلك اليوم صارت قضية فدك شعاراً للمطالبة بالخلافة، وقد استوفى علماؤنا بحثها وصنفوا فيها كتباً. راجع الإنتصار: 7 والصحيح من السيرة: 18/219.

3- غيروا إسم فدك وسموها «الحائط»!

كأنهم أرادوا بذلك إخفاء ظلامة الزهراء (علیها السلام) ! وجاء في موقعها الرسمي:

http: //www.alhaitcity.com/vb/showthread.php?t=4964

«تقع مدينة الحائط المعروفة بفدك قديماً، في الطرف الشرقي لحرة فدك الواقعه شرقي حرة خيبر، وهي قديماً تعتبر قرية حجازية، وتقع شمالي المدينة المنورة، وهي تتبع إدارياً لمنطقة حائل في الوقت الحاضر، وهي في الطرف الجنوبي الغربي منها وتبلغ المسافة بين حائل ومدينة الحائط «250 كم» وعن المدينة المنورة بحوالي «300 كم» تقريباً، وبذلك تتوسط المسافة بين حائل والمدينة المنورة. والحائط قاعدة القرى المجاورة لها منذ القدم، وتقع مدينة الحائط على خط طول 29/40 وعلى خط العرض00/26 وترتفع عن سطح البحر بما يقارب 1300 متراً.

ومدينة الحائط التي يشملها إسم فدك تبلغ مساحتها 65000 كيلو متر مربع وحدود الحائط التابعة لها للخدمات تبلغ نفس المساحة السابقة، وذلك من جبل الخطام وجبل الأبيض غرباً، إلى جبل العلم شرقاً، وشمالاً من جبل الفرس وجبل وَسْمه إلى حدود منطقة المدينة المنورة جنوباً. ويتبعها أكثر من120 قرية وهجرة ويبلغ عدد سكان مدينة الحائط «18000» نسمة تقريباً.

وفي معجم البلدان: 4/238: «فدك: قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان وقيل ثلاثة، أفاءها الله على رسوله (صلی الله علیه و آله) في سنة سبع صلحاً، وذلك أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلا ثلاث واشتد بهم الحصار، راسلوا

ص: 347

رسول الله (صلی الله علیه و آله) يسألونه أن ينزلهم على الجلاء وفعل، وبلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم فأجابهم إلى ذلك، فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت خالصة لرسول الله (صلی الله علیه و آله).

وفيها عين فوارة ونخيل كثيرة، وهي التي قالت فاطمة رضی الله عنها: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نحلنيها، فقال أبو بكر رضی الله عنه: أريد لذلك شهوداً.. ولها قصة. ثم أدى اجتهاد عمر بن الخطاب بعده لما ولي الخلافة وفتحت الفتوح واتسعت على المسلمين، أن يردها إلى ورثة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فكان علي بن أبي طالب رضی الله عنه، والعباس بن عبدالمطلب يتنازعان فيها، فكان علي يقول: إن النبي (صلی الله علیه و آله) جعلها في حياته لفاطمة، وكان العباس يأبى ذلك ويقول: هي ملك لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنا وارثه، فكانا يتخاصمان إلى عمر فيأبى أن يحكم بينهما ويقول: أنتما أعرف بشأنكما، أما أنا فقد سلمتها إليكما فاقتصدا، فما يؤتى واحد منكما من قلة معرفة، فلما ولي عمر بن عبدالعزيز الخلافة كتب إلى عامله بالمدينة يأمره برد فدك إلى ولد فاطمة رضی الله عنها فكانت في أيديهم في أيام عمر بن عبدالعزيز، فلما ولي يزيد بن عبدالملك قبضها فلم تزل في أيدي بني أمية حتى ولي أبو العباس السفاح الخلافة فدفعها إلى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فكان هو القيم عليها يفرقها في بني علي بن أبي طالب، فلما ولي المنصور وخرج عليه بنو الحسن قبضها عنهم، فلما ولي المهدي بن المنصور الخلافة أعادها عليهم، ثم قبضها موسى الهادي من بعده إلى أيام المأمون، فجاءه رسول بني علي بن أبي طالب فطالب بها فأمر أن يسجل لهم بها، فكتب السجل وقرئ على المأمون، فقام دعبل الشاعر وأنشد:

أصبح وجه الزمان قد ضحكا *** برد مأمونِ هاشمٍ فدكا

وفي فدك اختلاف كثير في أمرها بعد النبي (صلی الله علیه و آله) وأبي بكر وآل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومن رواة خبرها من رواه بحسب الأهواء وشدة المراء..».

ص: 348

4- فتح النبي (صلی الله علیه و آله) وادي القرى

قال في الصحيح من السيرة: 19/9، ملخصاً: بعد فتح خيبر انصرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى وادي القرى فأتى الصهباء وسلك على برمة، حتى انتهى إلى وادي القرى يريد اليهود وقد التحق بهم ناس من العرب. ونزلها مع مغرب الشمس ودعا أهلها إلى الإسلام فامتنعوا من ذلك واستقبلوا المسلمين بالرمي، وهم يصيحون في آطامهم فأصاب سهم منهم رجلاً إسمه مدعم فقتله، وعبأ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصحابه للقتال وصفَّهم، وقاتلوا ففتحها رسول الله (صلی الله علیه و آله) عنوة، وغنَّمه الله أموال أهلها فخمَّس ذلك، وترك الأرض والنخل في أيدي يهود، وعاملهم على نحو ما عامل عليه أهل خيبر، وقسَّم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى، وترك الأرض والنخيل بأيدي يهود وعاملهم عليها. وأقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) بوادي القرى أربعة أيام، قال البلاذري: وكان في وادي القرى بساتين لعلي (علیه السلام) أوقفها ففي وصيته (علیه السلام): «ما كان لي بوادي القرى كله من مال لبني فاطمة (علیها السلام) ورقيقها، صدقة».الكافي: 7/49.

قال الحموي في معجصم البلدان: 4/338: «وادي القرى: واد بين الشام والمدينة وهو بين تيماء وخيبر، فيه قرى كثيرة، وبها سمي وادي القرى، قال أبو المنذر: سمي وادي القرى لأن الوادي من أوله إلى آخره قرى منظومة، وكانت من أعمال البلاد، وآثار القرى إلى الآن بها ظاهرة، إلا أنها في وقتنا هذا كلها خراب ومياهها جارية تتدفق ضائعة لا ينتفع بها أحد. قال أبو عبيدالله السكوني: وادي القرى والحِجْر والجَنَاب، منازل قضاعة ثم جهينة وعذرة وبَلِي، وهي بين الشام والمدينة يمر بها حاج الشام، وهي كانت قديماً منازل ثمود وعاد، وبها أهلكهم الله وآثارها إلى الآن باقية. ونزلها بعدهم اليهود واستخرجوا كظائمها وأساحوا عيونها وغرسوا نخلها.. وروي أن معاوية بن أبي سفیان مر بوادي القرى فتلا قوله تعالى: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَا هُنَا آمِنِينَ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ.. الآيات، ثم قال: هذه الآية نزلت في أهل هذه البلدة وهي بلاد ثمود

ص: 349

فأين العيون؟فقال له رجل: صدق الله في قوله أتحب أن أستخرج العيون؟ قال: نعم، فاستخرج ثمانين عيناً، فقال معاوية: الله أصدق من معاوية»!

وقد غيروا إسمها اليوم وسموها«العلا»! ففي موقع شبكة عربيات:

http: //www.arabiyat.com/forums/showthread.php?t=61799

العلا: هي الإسم الحديث لوادي القرى الذي أوردته كتب التاريخ وتغنى به الشعراء، وهي من أقدم المدن. وهي بلد موسى بن نصير الذي أنشأ فيها قلعته المشهورة، وهي بلد جميل بثينة، وكانت تسمى قديماً بوادي القرى وديدان. ويسميها الباحثون عاصمة الآثار وبلد الحضارات. مر بها سيدنا محمد (صلی الله علیه و آله) في غزوة تبوك وعاش بها سيدنا صالح (علیه السلام)، ومن آثارها محلب ناقة سيدنا صالح، وفيها مدائن صالح أو قرى صالح أو الحجر، وهي تسميات تطلق على مكان قوم ثمود والأنباط، حيث مقابرهم المنحوتة في الجبال بطريقة غاية في الجمال والغرابة، والتي تعرف عند أهل المنطقة بالقصور لروعة النحت وجماله.

5- رواية أن النبي (صلی الله علیه و آله) نام عن صلاة الصبح

قال في الصحيح من السيرة: 19/15، ملخصاً: «روى مسلم وأبو داود أن النبي (صلی الله علیه و آله) في عودته من وادي القرى وخيبر، كان قريباً من المدينة فغلبته عينه فنام فلم يستيقظ ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس!وكان بلال يحرسهم فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): ما صنعت بنا يا بلال؟! قال: يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك! قال: صدقت، ثم اقتاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعيره غير كثير ثم أناخ وأناخ الناس فتوضؤوا وأمر بلالاً فأقام الصلاة، فلما فرغ قال: إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها، فإن الله عزوجل يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي».

ورد ذلك بوجوه: منها، أن من غير المقبول أن ينام ألف وخمس مئة شخص ويحرسهم شخص واحد هو بلال، ثم لايستيقظ منهم أحد!

ثم إن النبي (صلی الله علیه و آله) تنام عيناه ولا ينام قلبه، فكيف ينام عن صلاة الصبح؟!

ص: 350

هذا، وقد بحث العلماء قديماً وحديثاً إمكان إنامة الله تعالى لنبيه (صلی الله علیه و آله) أو إسهائه أو عدم قدرة الله على ذلك والعياذ بالله، ووقوع ذلك أو عدم وقوعه.

والذي نفاه الصدوق (رحمة الله) هو نفي بعضهم لقدرة الله على ذلك، وهو أجنبي عن وقوعه وعدمه، ولايتسع المجال للتفصيل.

6- نظر إلى أحُد وقال: هذا جبل يحبنا

في المجازات النبوية للشريف الرضي/15: «من ذلك قوله (صلی الله علیه و آله) وقد نظر إلى أحُد منصرفه من غزاة خيبر: هذا جبل يحبنا ونحبه. وهذا القول محمول على المجاز، لأن الجبل على الحقيقة لايصح أن يحب». وصحيح بخاري: 3/223.

وقال في لسان العرب: 1/290: «قال ابن الأثير: هذا محمول على المجاز، أراد أنه جبل يحبنا أهله ونحب أهله وهم الأنصار، ويجوز أن يكون من باب المجاز الصريح، أي إننا نحب الجبل بعينه، لأنه في أرض من نحب».

أقول: من يتأمل في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَئٍْ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاتَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا. «الإسراء: 44» يطمئن بأن لكل شئ حتى المادة حياة ونفساً وروحاً وشخصية بحسبه، وعليه يمكن حمل كلامه (صلی الله علیه و آله) على ظاهره، وأن من المادة محب ومبغض ومؤمن وكافر. ولا مجال للتفصيل.

7- قضى الله بزوال دولة فارس فَقَتَلَ ابنُ كسرى أباه!

عندما بُعث النبي (صلی الله علیه و آله) كان كسرى في أوج قوته، وقد انتصر على قيصر في سوريا لكن الله تعالى أخبر بأنه سينهزم أمام الروم بعد بضع سنين، فقال عزوجل: «الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأمر مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَالْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ. الروم: 1-7.

وفي السنة السادسة للهجرة بعث النبي (صلی الله علیه و آله) رسالة إلى كسرى، نصها: «بسم الله

ص: 351

الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس: سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين. أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس».

مكاتيب الرسول للأحمدي: 2/316.

«فلما وصل إليه الكتاب مزقه واستخف به وقال: من هذا الذي يدعوني إلى دينه ويبدأ باسمه قبل اسمي! وبعث إليه بتراب! فقال (صلی الله علیه و آله): مزق الله ملكه كما مزق كتابي، أما إنه ستمزقون ملكه! وبعث إلي بتراب أما إنكم ستملكون أرضه! فكان كما قال (صلی الله علیه و آله)..إن كسرى كتب في الوقت إلى عامله باليمن باذان ويكنى أبا مهران، أن احمل إليَّ هذا الذي يذكر أنه نبي، وبدأ بإسمه قبل إسمي ودعاني إلى غير ديني! فبعث إليه فيروز الديلمي في جماعة مع كتاب يذكر فيه ما كتب به كسرى، فأتاه فيروز بمن معه فقال له: إن كسرى أمرني أن أحملك إليه! فاستنظره ليلة فلما كان من الغد حضر فيروز مستحثاً فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أخبرني ربي أنه قتل ربك البارحة! سلط الله عليه ابنه شيرويه على سبع ساعات من الليل، فأمسكْ حتى يأتيك الخبر!فراع ذلك فيروز وهاله وعاد إلى باذان فأخبره فقال له باذان: كيف وجدت نفسك حين دخلت عليه؟ فقال: والله ما هبت أحداً كهيبة هذا الرجل!فوصل الخبر بقتله في تلك الليلة من تلك الساعة فأسلما جميعاً». المناقب: 1/70.

وفي مكاتيب الرسول للأحمدي: 2/329: «فبعث باذان بكتاب كسرى إلى النبي (صلی الله علیه و آله) مع قهرمانه، وبعث معه رجلاً آخر من الفرس، وكتب معهما إلى رسول الله يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، فلما قدما عليه المدينة قالا له: شاهنشاه «ملك الملوك» كسرى بعث إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتي بك، وقد بعثنا إليك لتنطلق معنا، فإن فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك بكتاب ينفعك ويكف عنك به! وإن أبيت فهو من قد علمت فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك! وكانا دخلا على رسول الله على زي الفرس، وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما فكره النظر إليهما وقال:

ص: 352

ويلكما من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا ربنا يعنيان كسرى! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لكن أمرني ربي بإعفاء لحيتي وقص شاربي، ثم قال لهما: إرجعا حتى تأتياني غداً. وأتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الخبر من السماء بأن الله قد سلط على كسرى ابنه فقتله في شهر كذا وكذا، لكذا وكذا في ليلة كذا، فلما أتاه الرسولان قال: إن ربي قد قتل ربكما ليلة كذا وكذا من شهر كذا وكذا بعد ما مضى من الليل سبع ساعات، سلط عليه شيرويه فقتله! وهي ليلة الثلاثاء لعشر ليان مضين من جمادى الأولى سنة سبع، كذا في الطبقات. وقال أبو نعيم: فلما قرأ النبي كتاب صاحبهم تركهم خمس عشرة ليلة لايكلمهم ولاينظر إليهم إلا إعراضاً، فلما مضت خمس عشرة ليلة تقدموا إليه، فقالا: هل تدري ما تقول، إنا قد نقمنا منك ما هو أيسر من هذا فنكتب بها عنك فنخبر الملك أي باذان؟قال: نعم أخبرا ذلك عني وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ إلى منتهى الخف والحافر وقولا له: إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملكتك على قومك. وأعطى رسول الله (صلی الله علیه و آله) خرخسرو منطقة فيها ذهب وفضة وكان أهداها له بعض الملوك، وكانت حمير تسمي خرخسرة صاحب المعجزة، والمعجزة المنطقة بلغة حمير.

فخرج الرسولان وقدما على باذان وأخبراه الخبر فقال: والله ما هذا كلام ملك وإني لأراه نبياً، ولننظرن فإن كان ما قال حقاً فإنه لنبي مرسل، وإن لم يكن فنرى فيه رأينا، فلم يلبث باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه يخبر بقتل كسرى: أما بعد فقد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا غضباً لفارس فإنه قتل أشرافهم فتفرق الناس، فإذا جاءك كتابي فخذ لي الطاعة ممن قبلك، وانظر الرجل الذي كان كسرى يكتب إليك فيه فلا تزعجه حتى يأتيك أمري فيه!

فلما أتاه كتاب شيرويه أسلم وأسلم معه أبناء فارس الذين كانوا باليمن، فبعث باذان بإسلامه وإسلامهم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)...

ولما سمعت قريش بأمر كسرى واستخفافه بكتاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكتابه إلى باذان ليبعثه إلى كسرى أو يقتله، فرحوا واستبشروا وقالوا فقد نصب له كسرى

ص: 353

ملك الملوك، كفيتم الرجل... ولكن لما سمعوا برجوع الرسولين وقتل كسرى، وإسلام باذان وأبناء فارس معه، صار رجاؤهم خيبة وقنوطاً»!

وروى في الخرائج: 1/78، رؤيا ملك بابل بختنصر التي سأل عنها نبي الله دانيال (علیه السلام) فأخبره وبتفسيرها وأن ملكه سيزول وبعده ملك الفرس، قال: «فتأويل الرؤيا مبعث محمد (صلی الله علیه و آله) تمزقت الجنود لنبوته، ولم تنتقض مملكة فارس لأحد قبله، وكان ملكها أعز ملوك الأرض وأشدها شوكة، وكان أول ما بدأ فيه انتقاص قتل شيرويه بن أبرويز أباه، ثم ظهر الطاعون في مملكته وهلك فيه، ثم هلك ابنه أردشير، ثم ملك رجل لم يكن من أهل بيت الملك فقتلته بوران بنت كسرى، ثم ملك بعده رجل يقال له كسرى بن قباد ولد بأرض الترك ثم ملكت بوران بنت كسرى، فبلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) تمليكها فقال: لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة، ثم ملكت ابنة أخرى لكسرى فسُمَّت وماتت، ثم ملك رجل ثم قتل!

فلما رأى أهل فارس ما هم فيه من الإنتشار أمر «كَبُرَ» ابن لكسرى يقال له: يزدجرد فملكوه عليهم فأقام بالمدائن على الإنتشار «تفرق المملكة» ثماني سنين، وبعث إلى الصين بأمواله، وخلف أخا بالمدائن لرستم فأتى لقتال المسلمين ونزل بالقادسية وقتل بها، فبلغ ذلك يزدجرد فهرب إلى سجستان، فقتل هناك»!

8- هدايا المقوقس ملك مصر إلى النبي (صلی الله علیه و آله)

قال الأحمدي في مكاتيب الرسول (صلی الله علیه و آله): 2/416: «كتابه (صلی الله علیه و آله) إلى المقوقس: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبدالله إلى المقوقس عظيم القبط: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط و: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ».

قال المقوقس: إني نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكذاب، ووجدت معه آلة

ص: 354

النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى، وسأنظر. ثم أخذ الكتاب وجعله في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى جاريته.

وأرسل المقوقس يوماً إلى حاطب فقال:«أسألك عن ثلاث. فقال: لاتسألني عن شئ إلا صدقتك، قال: إلى ما يدعو محمد؟ قلت: إلى أن نعبدالله وحده، ويأمر بالصلاة خمس صلوات في اليوم والليلة، ويأمر بصيام رمضان، وحج البيت، والوفاء بالعهد، وينهى عن أكل الميتة والدم.. إلى أن قال: فوصفته فأوجزت، قال: قد بقيت أشياء لم تذكرها: في عينيه حمرة قلما تفارقه، وبين كتفيه خاتم النبوة، يركب الحمار، ويلبس الشملة، ويجتزي بالتمرات والكسر، ولا يبالي من لاقى من عم أو ابن عم. ثم قال المقوقس: هذه صفته، وكنت أعلم أن نبياً قد بقي، وكنت أظن أن مخرجه بالشام وهناك تخرج الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج في أرض العرب في أرض جهد وبؤس، والقبط لاتطاوعني في اتِّباعه، وأنا أَضِنُّ بملكي أن أفارقه، وسيظهر على البلاد وينزل أصحابه من بعد بساحتنا هذه حتى يظهروا على ما هاهنا! وأنا لا أذكر للقبط من هذا حرفاً واحداً، ولا أحب أن تعلم بمحادثتي إياك! ثم دعا كاتبه الذي يكتب له بالعربية فكتب إلى النبي (صلی الله علیه و آله): بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبدالله من المقوقس عظيم القبط: سلام عليك أما بعد، فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقي وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم وبثياب، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك». ثم عدد الأحمدي هدية المقوقس للنبي (صلی الله علیه و آله) وهي: أربع جوارٍ: مارية أم إبراهيم بن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وسيرين أخت مارية، وقيسر أخت مارية أيضاً، وجارية أخرى سوداء اسمها بريرة. وغلاماً خصياً أسود إسمه مابور. وبغلة شهباء وهي دلدل، وحماراً أشهب يقال له يعفور. وقيل وألف دينار وعشرين ثوباً، وألف مثقال ذهباً. وفرساً وهو اللزاز، وأهدى إليه عسلاً من عسل نبها من قرى مصر، ومكحلة ومربعة توضع فيها، وقارورة

ص: 355

دهن، ومقصاً ومسواكاً ومشطاً ومرآة. وقيل عمائم وقباطي وطيباً وعوداً ومسكاً، مع ألف مثقال من ذهب، مع قدح من قوارير، وخفين ساذجين أسودين، وطبيباً يداوي مرضی المسلمين. «فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): إرجع إلى أهلك فإنا قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لانشبع. وقال حاطب: كان المقوقس لي مكرماً في الضيافة وقلة اللبث ببابه، وما أقمت عنده إلا خمسة أيام، ودفع له مائة دينار وخمسة أثواب... فلما قدم حاطب المدينة وعرض الهدايا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبلها، ونقل له كلام المقوقس وناوله الكتاب قال: ضن الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه. ومن ثم ذكر بعضهم أن هرقل لما علم ميل المقوقس إلى الإسلام عزله». راجع المناقب: 1/139، 146، 148، 2/65، ابن هشام: 1/ 3 و123، الشفا: 1/115 ومستدرك سفينة البحار: 1/380، 3/336 و 5/208.

أقول: قد يكون النبي (صلی الله علیه و آله) رد الطبيب لأنه شك فيه نفسه، وليس في المقوقس. وقد يكون الطبيب يهودياً.

9- وفاة النجاشي وصلاة النبي (صلی الله علیه و آله) عليه

في الكافي: 2/121، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «أرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فدخلوا عليه وهو في بيت له جالس على التراب وعليه خِلْقَان الثياب! قال: فقال جعفر: فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلما رأى ما بنا وتغير وجوهنا قال: الحمد لله الذي نصر محمداً وأقر عينه، ألا أبشركم؟ فقلت: بلى أيها الملك، فقال: إنه جاءني الساعة من نحو أرضكم عين من عيوني هناك فأخبرني أن الله عزوجل قد نصر نبيه محمداً (صلی الله علیه و آله) وأهلك عدوه، وأسر فلاناً وفلاناً وفلاناً، التقوا بواد يقال له: بدر كثير الأراك لكأني أنظر إليه، حيث كنت أرعى لسيدي هناك، وهو رجل من بني ضمرة!

فقال له جعفر: أيها الملك فمالي أراك جالساً على التراب وعليك هذه الخلقان؟ فقال له: يا جعفر إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى (علیه السلام) أن من حق الله على عباده أن يحدثوا له تواضعاً عندما يحدث لهم من نعمة! فلما أحدث الله عزوجل لي نعمة بمحمد (صلی الله علیه و آله) أحدثت لله هذا التواضع! فلما بلغ النبي (صلی الله علیه و آله) قال لأصحابه: إن الصدقة

ص: 356

تزيد صاحبها كثرة فتصدقوا يرحمكم الله، وإن التواضع يزيد صاحبه رفعه، فتواضعوا يرفعكم الله، وإن العفو يزيد صاحبه عزاً، فاعفوا يعزكم الله».

وفي مجمع البيان: 2/480، في تفسير قوله تعالى:«وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للهِ لايَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً: اختلفوا في نزولها فقيل نزلت في النجاشي ملك الحبشة، واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية، وذلك أنه لما مات نعاه جبرائيل لرسول الله في اليوم الذي مات فيه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم. قالوا: ومن؟قال: النجاشي. فخرج رسول الله إلى البقيع، وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه! فقال المنافقون: أنظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني حبشي لم يره قط، وليس على دينه».

وفي سيرة ابن هشام: 1/228: «فلما مات النجاشي، صلى عليه واستغفر له».

وفي الخصال/359، عن علي (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما أتاه جبرئيل بنعي النجاشي بكى بكاء حزينٍ عليه وقال: إن أخاكم أصحمة، وهواسم النجاشي مات. ثم خرج إلى الجبانة وصلى عليه وكبر سبعاً، فخفض الله له كل مرتفع حتى رأى جنازته وهو بالحبشة». وعيون أخبار الرضا (علیه السلام):2/252 وفي الخرائج 1/64، مختصراً.

وفي المعتبر: 2/352: «يمكن أن يكون دعاءً له لا كصلاة الجنازة.قال زرارة قلت: فالنجاشي لم يصل عليه النبي (صلی الله علیه و آله) ؟ فقال: لا، إنما دعا له. لو جازت الصلاة بعد دفنه لصلي على الأنبياء في قبورهم والصلحاء وإن تقادم العهد».

10- سرايا قبل سفر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى عمرة القضاء

أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) مجموعات صغيرة في عدة سرايا بعد عودته من خيبر وأم القرى قبل عمرة القضاء، وأكثرها سرايا عادية، وقد يكون بعضهما مكذوباً!

فمنها، سرية عمر إلى تربة، قالوا بعثه في ثلاثة نفر إلى موضع يسمى تربة، لقتال أناس من هوازن، فهربوا.

ومنها: سرية أبي بكر إلى نجد، لأناس من هوازن، ولم يذكروا موضعها ولا

ص: 357

أسماء من قتل فيها، وقالوا أسر أبو بكر امرأة ولم يذكروا إسمها!

وذكروا سريتين إلى فدك لبشير بن سعد وغالب الليثي، وقالوا إنهم قتلوا وغنموا أموالاً وأنعاماً وأباعركثيرة.

كما ذكروا بطولات لسلمة بن الأكوع وأنه قتل أهل سبعة أبيات ولم يسموهم!

وفي إعلام الورى: 1/211: «وبعث غالب بن عبدالله الكلبي إلى أرض بني مرة فقتل وأسر. وبعث عيينة بن حصن البدري إلى أرض بني العنبر فقَتل وأسر».

هذا، وذكر بعضهم أن غزوة الكدر كانت بعد خيبر وقبل عمرة القضاء، «راجع الصحيح: 19/89» «وذلك مستبعد، فقد ذكروا غزوة الكدر أو قرقرة الكدر في آخر السنة الثانية للهجرة، وتقدم أنها كانت سرية لزيد بن حارثة ولم يقع فيها حرب». الطبقات: 2/31،الطبري: 2/483 وأعيان الشيعة: 1/251.

11- هل شققت عن قلبه يا أسامة؟

وبعد فتح خيبر كانت السرية التي قتل فيها أسامة بن زيد رجلاً قال إني مؤمن، وقد وبخه النبي (صلی الله علیه و آله).راجع: الصحيح من السيرة: 19/43.

قال علي بن إبراهيم القمي: 1/148 في تفسير قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فإنها نزلت لما رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من غزوة خيبر وبعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام، وكان رجل من اليهود يقال له مرداس بن نهيك الفدكي في بعض القرى، فلما أحس بخيل رسول الله جمع أهله وماله وصار في ناحية الجبل، فأقبل يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فمر بأسامة بن زيد فطعنه فقتله! فلما رجع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخبره بذلك، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): قتلت رجلاً شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟! فقال: يا رسول الله إنما قال تعوذاً من القتل. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): فلا شققت الغطاء عن قبله، ولا ما قال بلسانه قبلت، ولا ما كان في نفسه علمت! فحلف بعد ذلك أنه لا يقتل أحداً شهد

ص: 358

أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله! فتخلف عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) في حروبه وأنزل الله في ذلك: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا.. الخ».

قال في جواهر الكلام: 41/636: «بل يؤيده «درء الحدود بالشبهات» أن جمعاً من الصحابة منهم أسامة بن زيد، وجدوا أعرابياً في غنيمات، فلما أرادوا قتله تشهد فقالوا: ما تشهد إلا خوفاً من أسيافنا، فقتلوه واستاقوا غنيماته فنزل: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.. فغضب النبي (صلی الله علیه و آله) وقال لأسامة: هلا شققت قلبه؟! ولكن لم يقتص منهم».

12- عيينة بن حصن يواصل الغارة على المسلمين

تقدم أن عيينة بن حصن جاء بجمع من قبيلته فزارة وغطفان لينصر اليهود في خيبر، فبعث اليه النبي (صلی الله علیه و آله) إن الله وعده خيبر وطلب منه أن ينسحب وله تمر خيبر سنة، فأبى عيينة! وفي اليوم التالي وقعت عليهم الصيحة أن المسلمين أغاروا على ديارهم! فانسحبوا من خيبر وتركوا اليهود! الصحيح: 17/110.

وبعد فتح خيبر جاء عيينة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) يطالب بتمر خيبر، ويدعي أنه انسحب من خيبر لمصلحة النبي (صلی الله علیه و آله) ! فلم يعطه النبي (صلی الله علیه و آله) شيئاً.

وقال الحارث بن عوف المري لعيينة وكان حليفه: «أما آن لك أن تبصر ما أنت عليه؟ إن محمداً قد وطأ البلاد وأنت توضع في غير شئ...أيها الرجل قد رأيت ورأينا معك أمراً بيِّناً في بني النضير ويوم الخندق وقريظة، وقبل ذلك قينقاع وفي خيبر، إنهم كانوا أعز يهود الحجاز كله يقرون لهم بالشجاعة والسخاء، وهم أهل حصون منيعة وأهل نخل. والله إن كانت العرب لتلجأ إليهم فيمتنعون بهم، لقد سارت حارثة بن الأوس حيث كان بينهم وبين قومهم ما كان فامتنعوا بهم من الناس. ثم قد رأيت حيث نزل بهم كيف ذهبت تلك النجدة وكيف أديل عليهم. والله إن الذي سمعت لمن السماء! والله ليظهرن محمد على من ناوأه، حتى لو ناوأته الجبال لأدرك منها ما أراد! فقال عيينة: هو

ص: 359

والله ذاك ولكن نفسي لاتقرُّني! فقال الحارث: فادخل مع محمد! قال: أصير تابعاً؟! قد سبق قوم إليهم فهم يُزْرُونَ بمن جاء بعدهم يقولون: شهدنا بدراً وغيرها»!

أقول: لم يسلم عيينة مع يقينه بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله) ! وواصل محاولاته الغارة على المسلمين، فأغار عليهم في جمع من غطفان فبعث اليهم النبي (صلی الله علیه و آله) بشير بن سعد في ثلاث مائة، فساروا حتى أتوا يمن وجُبار قرب خيبر، فهرب جماعة عيينة فغنموا من إبلهم ونعمهم، ثم لقوا جمع عيينة فناوشوهم فهرب عيينة وتبعهم المسلمون فأسروا منهم رجلين، وجاؤوا بهما إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فأسلما وأطلق سراحهما. راجع الصحيح: 19/76.

النبي (صلی الله علیه و آله) يتوجه إلى عمرة القضاء

1- أحرم النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمون واتخذوا الحيطة لاحتمال أن تمنعهم قريش من زيارة البيت فيحتاجون إلى قتالها، فقد أنزل الله عليهم: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاتَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ.البقرة: 190-191.

وفي زبدة البيان/306: «تجهز النبي (صلی الله علیه و آله) وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا يفي لهم المشركون وأن يصدوهم عن البيت الحرام ويقاتلوهم، وكره رسول الله قتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم فأنزل الله الآية، أي قاتلوا الذين يقاتلونكم دون الذين لم يقاتلوكم..».

2- في الكافي: 4/251، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «اعتمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثلاث عمر مفترقات: عمرةً في ذي القعدة أهَلَّ من عسفان وهي عمرة الحديبية، وعمرةً أهَلَّ من الجحفة وهي عمرة القضاء، وعمرةً أهَلَّ من الجعرانة، بعدما رجع من الطائف من غزوة حنين».

وفي إعلام الورى: 1/211: «اعتمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) والذين شهدوا معه الحديبية، ولما بلغ قريشاً ذلك خرجوا متبددين، فدخل مكة وطاف بالبيت على بعيره بيده محجن يستلم به الحجر، وعبدالله بن رواحة آخذ بخطامه وهو يقول:

ص: 360

خلوا بني الكفار عن سبيله *** خلوا فكل الخير في رسوله

قد أنزل الرحمن في تنزيله *** نضربكم ضرباً على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله *** ضرباً يزيل الهام عن مقيله

يا رب إني مؤمن بقيله

وأقام بمكة ثلاثة أيام، وتزوج بها ميمونة بنت الحارث الهلالية، ثم خرج فابتنى بها بسرف، ورجع إلى المدينة فأقام بها حتى دخلت سنة ثمان».

3- وروى الجميع أن شخصيات مكة خرجوا منها، بينما اصطف الناس سماطين ينظرون إلى دخول رسول الله (صلی الله علیه و آله) والمسلمين، وقد حرص النبي (صلی الله علیه و آله) على أن يري قريشاً قوة المسلمين، فدخل راكباً على ناقته وعبدالله بن رواحة ينشد بين يديه النشيد المتقدم الذي فيه تحدٍّ لقريش، فأثار ذلك خوف عمر أو غيرته أن يتحدى أنصاريٌّ قريشاً في عقر دارها! قال أبو يعلى: 6/121: «فقال عمر: يا ابن رواحة تقول الشعر بين يدي رسول الله وفي حرم الله؟! قال فقال النبي (صلی الله علیه و آله): مَهْ يا عمر، هذا أشد عليهم من وقع النبل»! والنسائي: 5/211، البيهقي في سننه: 10/228، الترمذي: 4/217، مبسوط السرخسي:10/39 وسير الذهبي: 1/235،

ورواه مجمع الزوائد: 6/146، وقال: «وتغيب رجال من أشراف المشركين كراهية أن ينظروا إلى رسول الله غيظاً وحنقاً ونفاسةً وحسداً، وخرجوا إلى نواحي مكة».

والعجيب أن عمر الذي كان مصراً قبل سنة في الحديبية على قتال قريش، استنكر بسبب خوفه أو تعصبه لقريش أن يتحداهم المسلمون في دارهم!ولا ننس أن عمر من قبيلة عدي الصغيرة، وقد نشأ على احترام زعماء قريش وإكبارهم! ولكن النبي (صلی الله علیه و آله) يرى أن هؤلاء الفراعنة لا يفهمون إلا لغة السيف، وأن عمل عبدالله بن رواحة صحيح وقيمته عالية لأنه أشد على أعداء الله من وقع النبل!

وفي الحدائق الناضرة: 16/129: «عن عبدالله بن يحيى الكاهلي قال: سمعت

أبا عبدالله (علیه السلام) يقول: طاف رسول الله (صلی الله علیه و آله) على ناقته العضباء وجعل يستلم الأركان

ص: 361

بمحجنه ويقبل المحجن». والمحجن: عصا معقوفة، فكان (صلی الله علیه و آله) يمس الركن بها ويقبلها.

4- وفي الكافي: 4/435، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام من الصفا والمروة، فتشاغل رجل وترك السعي حتى انقضت الأيام وأعيدت الأصنام فجاؤوا إليه فقالوا: يا رسول الله إن فلاناً لم يسع بين الصفا والمروة وقد أعيدت الأصنام. فأنزل الله عزوجل: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَفَ بِهِمَا، أي وعليهما الأصنام».

5- قال في الصحيح: 9/172 بعنوان: رعب قريش وحيرتها، ملخصاً: «قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) الخيل أمامه حتى بلغت مر الظهران، فرأى ناس من قريش خيلاً كثيرة وسلاحاً وفيراً، فطاروا بالخبر إلى قريش، ففزعت من ذلك وتحيرت هل جاء النبي (صلی الله علیه و آله) ليعتمر أم ليغزوها، وهو لم يعرف بالغدر صغيراً ولا كبيراً!

وخرج كبراؤها من مكة حتى لا يروا النبي (صلی الله علیه و آله) يطوف بالبيت هو وأصحابه، حسداً وعداوة!وكانت شائعاتهم تلاحق المسلمين.وكان وجود قرشيين مع النبي يزيد في حسرة قريش وإحراجها أمام الناس الذين لهم فيهم أقرباء، فقالوا: إن المهاجرين أوهنتهم حمى يثرب! لذلك أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بإظهار القوة ليبطل كيدهم وأطلق دعاءه فقال: رحم الله من أراهم من نفسه قوة» فأمرهم بالرمل في ثلاثة أشواط، وهو المشي السريع شبيه بالعرض العسكري فقالت قريش: «هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، أما إنهم لينفرون نفر الظبي!

كما أمرهم النبي (صلی الله علیه و آله) أن يكشفوا أعضادهم اليمنى التي تقبض السيوف والرماح وهو يطوف على ناقته وعبدالله بن رواحة آخذ بزمامها وهو ينشد التحدي لهم! وقد ورد عن أهل البیت (علیهم السلام) أن كشف الأعضاد مخصوص بذلك الوقت، وليس له صفة شرعية دائمة في الحج».

زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بميمونة بنت الحارث

في مجمع البيان: 9/211: «أقاموا بمكة ثلاثة أيام ثم رجعوا إلى المدينة..بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة بنت الحرث العامرية فخطبها

ص: 362

عليه، فجعلت أمرها إلى العباس بن عبدالمطلب، وكان تحته أختها أم الفضل بنت الحرث، فزوجها العباس رسول الله».

وقال صاحب الصحيح: 19/207 إنها آخر امرأة تزوجها النبي (صلی الله علیه و آله).

وفي سيرة ابن هشام: 3/828: «وأصدقها «أبو رافع» عن رسول الله أربع مئة درهم».

وقد تقدمت ترجمة ميمونة أم المؤمنين رضی الله عنها في الفصل الخامس والأربعين.

إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص!

كان خالد بن الوليد إلى السنة السابعة قائد خيل المشركين في الحديبية، ثم كان في أواسط الثامنة مع المسلمين في غزوة تبوك، وسيأتي دوره فيها، ومعناه أنه أسلم بين الحديبية ومؤتة. لكنه ادعى أنه أسلم قبل خيبر وأنه شارك فيها!

فقد كذب خالد فقال: «غزوت مع رسول الله غزوة خيبر، فأسرع الناس في حظائر يهود فقال: يا خالد ناد في الناس أن الصلاة جامعة». وتبنى كذبته أصحاب المسانيد، فرواها أحمد:4/89، وأبو داود والنسائي وابن ماجة، نصب الراية: 6/58 وشكك فيه ابن عبدالبر، الإستيعاب:2/427 وقال ابن حزم وقال إنه موضوع، عمدة القاري: 17/248.

وقال في مجمع الزوائد: 9/351: «وعن محمد بن إسحاق قال: كان إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة عند النجاشي فقدموا المدينة في صفر سنة ثمان من الهجرة. قلت: إسلامهم في يوم واحد معروف».وبه قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية/259، ابن تيمية في فتاويه: 4/397، ابن عربي في أحكام القرآن: 2/572، ابن حجر في تهذيب التهذيب: 3/107 وابن كثير في النهاية: 5/366 و 3/208.

وروت مصادرهم اعترافهما بأنهما رأيا ميزان القوة لمصلحة النبي (صلی الله علیه و آله) فأسلما! «مجمع الزوائد: 9/350»وستعرف أن أدوارهما في الإسلام مضخمة أو مكذوبة.

ص: 363

الفصل الستون: غزوة مؤتة وما بعدها إلى فتح مكة

1- موقع مؤتة والكرك والمزار

تقع مؤتة قرب مدينة الكرَك جنوبي عَمَّان عاصمة الأردن وتبعد عنها120 كم وتبعد عن القدس نحو70 كم، وعن المدينة المنورة أكثرمن1100كم. وتسمى المزار، لأن فيها قبر جعفر الطيار (رحمة الله) ورفاقه الشهداء.

في معجم البلدان: 5/220: «قرية من قرى البلقاء في حدود الشام، بها قبر جعفر بن أبي طالب، بعث النبي (صلی الله علیه و آله) إليها جيشاً في سنة ثمان، وأمَّر عليهم زيد بن حارثة مولاه وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب الأمير، وإن أصيب جعفر فعبدالله بن رواحة، فساروا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة فالتقى الناس عندها، فلقيتهم الروم في جمع عظيم فقاتل زيد حتى قتل، فأخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل، فأخذ الراية عبدالله بن رواحة فكانت تلك حاله، فاجتمع المسلمون إلى خالد بن الوليد فانحاز بهم حتى قدم المدينة، فجعل الصبيان يحثون عليهم التراب ويقولون: يا فُرَّار فررتم في سبيل الله!

فقال النبي (صلی الله علیه و آله): ليسوا بالفرار لكنهم الكُرَّار إن شاء الله». وقال حسان:

فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا *** بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وزيد وعبدالله هم خير عصبة *** تواصوا وأسباب المنية تنظر».

ص: 364

2- انحسر خطر الفُرس عن النبي (صلی الله علیه و آله) وتعاظم خطر الروم

في أواخر السنة السادسة للهجرة أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) كتبه إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، فأهان كسرى مبعوث النبي (صلی الله علیه و آله) ومزق كتابه، وطلب من حاكم اليمن أن يرسله اليه! فأرسل حاكم اليمن وزيره إلى المدينة وأبلغ النبي (صلی الله علیه و آله) أمر كسرى، فقال له غداً الجواب، وفي الغد أخبره أن الله تعالى قتل كسرى في ليلة13جمادى الأولى لسبع للهجرة، فدهش الوزير ورجع!

ومعناه أن الله تعالى تولى إزالة نظام كسرى، حيث دخل الفرس بقتله في صراع داخلي، أدى إلى تمزق الدولة، وانتهى بفتح المسلمين لكل فارس.

أما هرقل فكتب له النبي (صلی الله علیه و آله) في السنة السادسة: «بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن عبدالله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين، و : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.

مكاتيب الرسول للأحمدي: 2/290و397.

والأريسيون أهل الزراعة، مقابل البدو. «البكري: 1/21» فأجاب هرقل بدهائه على كتاب النبي (صلی الله علیه و آله) بجواب ليِّن، جاء فيه: «إلى أحمد رسول الله الذي بشر به عيسى، من قيصر ملك الروم: إنه جاءني كتابك مع رسولك، وإني أشهد أنك رسول الله نجدك عندنا في الإنجيل، بشرنا بك عيسى بن مريم، وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا ولو أطاعوني لكان خيراً لهم، ولوددت أني عندك فأخدمك وأغسل قدميك! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يبقى ملكهم ما بقي كتابي عندهم».اليعقوبي: 2/77.

أقول: هذه العبارة من إضافة الرواة، فلا علاقة لبقاء ملكهم بنسخة كتاب النبي (صلی الله علیه و آله)، فقد فقدت نسخته وبقي ملكهم، بل بقي ملكهم لأن الله تعالى سمح بذلك، لحكمٍ وأسباب يعلمها، ومنها لينهم ولوكان عن دهاء!

ص: 365

أما الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام فأجاب جواباً سيئاً فيه شبهٌ من جواب كسرى، فقد حجب رسول النبي (صلی الله علیه و آله) شجاع بن وهب مدة ثم أمر بإدخاله عليه وقد لبس تاجه، فدفع اليه الكتاب فقرأه ثم رمى به وقال: من ينزع مني ملكي! أنا سائر إليه ولوكان في باليمن جئته، عليَّ بالناس! فلم يزل جالساً يُعرض عليه حتى الليل، وأمر بالخيل أن تُنعل ثم قال لي: أخبر صاحبك بما ترى! وكتب الحارث إلى قيصر يخبره الخبر، فكتب إليه أن لا تسر إليه، واشتغل بايلياء أي هيئ الطريق لاستقبالي، لأن هرقل نذر أن يمشي من حمص إلى بيت المقدس شكراً لله تعالى لنصره على فارس، ففرشوا له بسطاً ونثروا الرياحين، وهو يمشي عليها حتى بلغ بيت المقدس!

قال شجاع: فدعاني الحارث وقال: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ قلت: غداً، فأمر لي بمائة مثقال ذهباً و وصلني حاجبه بنفقة وكسوة، فقدمتُ على النبي (صلی الله علیه و آله) فأخبرته بما كان من الحارث فقال: بادَ ملكه.السيرة الحلبية: 3/304.

أما فروة بن عمرو الجذامي حاكم الأردن من قبل هرقل، فأسلم بدون أن يرسل اليه النبي (صلی الله علیه و آله) كتاباً وكتب اليه: «لمحمد رسول الله، إني مقرٌّ بالإسلام مصدق به، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أنت الذي بشر بك عيسى بن مريم. والسلام».مكاتيب الرسول: 2/465.

فأجابه النبي (صلی الله علیه و آله): «من محمد رسول الله إلى فروة بن عمرو، أما بعد، فقد قدم علينا رسولك وبلغ ما أرسلت به وخبَّر عما قِبلكم وأتانا بإسلامك، وإن الله هداك بهداه. إن أصلحت وأطعت الله ورسوله وأقمت الصلاة وآتيت الزكاة». فلما سمع قيصر بذلك أمر الحارث بن أبي شمر فسجنه، فقال:

طرقتُ سليمي موهناً أصحابي *** والروم بين الباب والقروان

فلئن هلكت لتفقُدنَّ أخاكم *** ولئن بقيتُ لتعرفنَّ مكاني

ولقد جمعت أجلَّ ما جمع الفتى *** من جودة وشجاعة وبيان

ثم أحضره وقال له: إرجع من دين محمد ونحن نعيدك إلى ملكك. قال: لا أفارق

ص: 366

دين محمد، فإنك تعلم أن عيسى بشر به، ولكنك تظن بملكك!

فلما يئسوا منه وعلموا أنه لايرجع إلى النصرانية أجمعوا على قتله، فقتله وصلبه على ماء لهم يقال له عِفرَا بفلسطين، فقال:

ألا هل أتى سلمى بأن حليلها *** على ماء عفرى فوق إحدى الرواحل

على ناقة لم يضرب الفحل أمها *** مشذبة أطرافها بالمناجل

فلما قدموه ليقتلوه قال:

بلغ سراة المسلمين بأنني *** سلمٌ لربي أعظمي وبناني

فضربوا عنقه ثم صلبوه (رحمة الله) ! مكاتيب الرسول: 2/467.

أقول: أمر هرقل حاكم الشام باللين بسبب دهائه، لأنه ساذج لايقدر قوة النبي (صلی الله علیه و آله) ولا يعرف أن حربه تحتاج إلى خطة شبيهة بخطة القضاء على كسرى في السنة الماضية! وكانت خطة هرقل ضد النبي (صلی الله علیه و آله) تقوم على إنتخاب كتائب خاصة من جيش الروم، وإعداد جيش من بلاد الشام بزعامة الحارث، وجيش من القبائل بزعامة الأكيدر ملك دومة الجندل ورئيس قبائل كندة، ومساندة مجموعة أبي عامر الراهب أصحاب مسجد الضرار، ثم بمساندة مجموعات اليهود ومنافقي قريش..الخ.!

3- غزوة مؤتة رسالة من النبي (صلی الله علیه و آله) إلى هرقل

كانت غزوة مؤتة لإفهام هرقل أن ميزان القوة ليس كما يتخيل، وأنهم قادرون على تحدي الجيش الرومي المحترف عند أبواب القدس، على بعد أكثر من ألف كيلو متر عن المدينة! فقد كانت غزوة مؤتة عملية استشهادية لإثبات القوة النوعية للمسلمين، ليتراجع هرقل عن خطته، ولذا كانت تحتاج إلى قائد نوعي خبير بالروم هو جعفر بن أبي طالب (رحمة الله). وكان هرقل يعرف جعفر جيداً، فقد عمل في مقاومة الروم في الحبشة قاعدة الروم في إفريقيا، وثبَّت عرش النجاشي ودولته! ونشط سنين مع علماء الروم وقساوستهم،

ص: 367

وجاء بوفود منهم من الحبشة ونجران والشام إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في مكة فأسلموا، ثم أبقاه النبي (صلی الله علیه و آله) في الحبشة يتابع مهمته حتى أحضره، فوصل في أيام فتح خيبر.

وبعد عودة النبي (صلی الله علیه و آله) من عمرة القضاء، حان الوقت لأن يرسل إلى هرقل الرسالة القوية، وهرقل جادٌّ في التحضير لغزو المدينة، فأرسل جعفراً (رحمة الله) إلى مؤتة.وكانت حمص أو الشام أو عمان أقرب وأولى بالمهاجمة بالنظرة الأولى فهي مهمة وفيها قوات رومية وعربية، لكن النبي (صلی الله علیه و آله) أراد أن يقصد معسكر هرقل في مؤتة ولو كان أبعد، لأنه معسكر رومي صرف، وأقرب إلى بيت المقدس!

وذكر المسعودي في التنبيه والإشراف/230، أن سبب غزوة مؤتة كان قتل شرحبيل بن عمرو الغساني الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى صاحب بصرى، ولم يقتل للنبي رسول غيره. لكن لو كان الهدف الإقتصاص لقتل رسول النبي (صلی الله علیه و آله) من حاكم بصرى، لأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) بضعة أشخاص إلى بصرى الشام ليقتلوا حاكمها قصاصاً، ولم يحتج إلى إرسال ثلاثة آلاف إلى منطقة فيها معسكر لهرقل، أبعد من بصرى بكثير!

4- جعفر بن أبي طالب (علیه السلام) قائد جيش مؤتة

ذكرت مصادر السلطة أن النبي (صلی الله علیه و آله) أعطى قيادة جيش مؤتة إلى زيد، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبدالله بن رواحة. فجعلوا زيداً القائد الأول، مع أنهم يعترفون بأن بني عبدالمطلب لانظير لهم في الشجاعة وصفات القيادة، فكيف يؤمر النبي (صلی الله علیه و آله) عليهم غيرهم، وقد أرسل حمزة وعلياً وجعفراً مراراً فكانوا هم الأمراء. لكن رواة السلطة يتنقصون من جعفر لبغضهم أخاه علياً (علیه السلام) !

كتب في الصحيح من السيرة: 19/309 ملخصاً: «إن الأمير الأول كان جعفر بن أبي طالب كما ذهب إليه الشيعة، قال ابن أبي الحديد: اتفق المحدثون على أن زيد بن حارثة كان هو الأمير الأول، وأنكرت الشيعة ذلك وقالوا: كان جعفر بن أبي طالب هو الأمير الأول، فإن قتل فزيد بن حارثة، فإن قتل فعبدالله بن رواحة، ورووا في

ص: 368

ذلك روايات، وقد وجدت في الأشعار التي ذكرها محمد بن إسحاق في كتاب المغازي ما يشهد لقولهم. ويدل على ذلك عدة أمور:

1 - من روايات أهل البیت (علیهم السلام) عن الصادق (علیه السلام) قال: إنه استعمل عليهم جعفراً، فإن قتل فزيد، فإن قتل فابن رواحة، المناقب: 1/205 وإعلام الورى/110.

2- احتج الإمام الحسن (علیه السلام) على معاوية فقال: وقد بعث رسول الله جيشاً يوم مؤتة فقال: عليكم جعفر، فإن هلك فزيد، فإن هلك فعبدالله بن رواحة.

3 - روى ابن سعد: 2/129 عن أبي عامر، قال: بعثني النبي إلى الشام فلما رجعت مررت على أصحابي وهم يقاتلون المشركين بمؤتة. قلت: والله لا أبرح اليوم حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمرهم.فأخذ اللواء جعفر بن أبي طالب ولبس السلاح وكان رأس القوم ثم حمل جعفر، حتى إذا همَّ أن يخالط العدو رجع فوحَّش «خفف» بالسلاح، ثم حمل على العدو، فطاعن حتى قتل. ثم أخذ اللواء زيد بن حارثة، فطاعن حتى قتل. ثم أخذ اللواء عبدالله بن رواحة، فطاعن حتى قتل. ثم انهزم المسلمون أسوأ هزيمة».

5- وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لجيش مؤتة

في البحار: 21/60، عن الواقدي: «خرج النبي (صلی الله علیه و آله) مشيعاً لأهل مؤتة حتى بلغ ثنية الوداع فوقف ووقفوا حوله فقال: أغزوا بسم الله، فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام، وستجدون فيها رجالاً في الصوامع معتزلين الناس فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين للشيطان في رؤوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف، ولا تقتلن امرأة ولا صغيراً ضرعاً ولا كبيراً فانياً، ولا تقطعن نخلاً ولا شجراً، ولا تهدمن بناء.

وقال عبدالله بن رواحة لرسول الله (صلی الله علیه و آله): مرني بشئ أحفظه عنك، قال: إنك قادم غداً بلداً السجود فيه قليل فأكثروا السجود. فقال عبدالله: زدني يا رسول الله، قال: أذكر الله، فإنه عون لك على ما تطلب».

أقول: يدل ذلك على أن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يكن يقطع الأشجار، ويردُّ زعمهم أنه

ص: 369

قطع نخيل بني النضير، وأن أبابكر أول من أوصى الغزاة بهذه الوصايا!

كما يدل على أن للسجود لله تعالى تأثيراً على الأرض وما عليها، وأنه ينبغي لمن سافر إلى أرض لايسجد فيها لله تعالى أن يكثر من السجود والذكر.

6- واجهتهم سرية رومية في وادي القرى

روى ابن عساكر في تاريخه: 2/13عن الواقدي قال: «سمع العدو بمسيرهم فجمعوا الجموع، وقام فيهم رجل من الأزد يقال له شرحبيل بالناس وقدم الطلائع أمامه، وقد نزل المسلمون وادي القرى وأقاموا أياماً، وبعث أخاه سدوس بن عمرو في خمسين من المشركين، فالتقوا وانكشف أصحابه وقتل سدوس، وخاف شرحبيل بن عمرو فتحصن وبعث أخاً له يقال له وبر بن عمرو. فسار المسلمون حتى نزلوا معان من أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل«مآب» من أرض البلقاء في بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام في مائة ألف، عليهم رجل من بلي يقال له مالك فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا ليلتين لينظروا في أمرهم، وقالوا نكتب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فنخبره الخبر، فإما يردنا وإما يزيدنا رجالاً! فبينا الناس على ذلك من أمرهم جاءهم ابن رواحة فشجعهم ثم قال: والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد ولا بكثرة سلاح ولا بكثرة خيول، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. إنطلقوا، والله لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلا فرسان ويوم أحد فرس واحدة، فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور عليهم فذلك ما وعدنا الله ووعد نبينا وليس لوعده خلف، وإما الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان. فتشجع الناس على قول ابن رواحة».

أقول: تدل الرواية على أن سرية سدوس بن عمرو كانت من سرايا حراسة الروم للحدود الشامية. وكان أخوه شرحبيل القائد العام لجيش هرقل في بلاد الشام، وهو الذي قتل رسول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى ملك بصرى الشام. لكن المسلمين لم يشتبكوا مع السرية ولم يثأروا لقتل ابن عمير رسول النبي (صلی الله علیه و آله)، لأن هدف الغزوة ومقصدها جيش الروم، وليس الجيش العربي، أو حراس الحدود!

راجع أيضاً: مكاتيب الرسول: 1/204، الطبقات: 2/128 والتنبيه والإشراف/230.

ص: 370

7- ثم فاجأهم الروم فانحازوا إلى مؤتة

تفاجأ المسلمون بأول كتائب الروم في قرية مشارف، فلم يشتبكوا معهم وانسحبوا إلى قرية مؤتة، فلحقت بهم قوات الروم وكانت المعركة.

قال ابن هشام: 3/832: «حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها فتعبأ لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له عباية بن مالك..والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها، ثم قاتل حتى قتل وهو يقول:

يا حبذا الجنة واقترابها *** طيبة وبارداً شرابها

والروم روم قد دنا عذابها *** كافرة بعيدة أنسابها

عليَّ إذ لاقيتها ضرابها

وحدثني من أثق به من أهل العلم أن جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء».

وقد وصف أبو هريرة خوف المسلمين من جيش الروم بقوله: «شهدت مؤتة فلما رأينا المشركين رأينا ما لا قبل لنا به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فبرق بصري فقال لي ثابت بن أرقم: ما لك يا أبا هريرة، كأنك ترى جموعاً كثيرة! قلت: نعم»! تاريخ دمشق: 2/13.

أي خافوا من الروم فانهزموا، وثبت القادة الثلاثة وقليل معهم.

8- سبب تحريف السلطة معركة مؤتة

تعمد رواة السلطة تحريف معركة مؤتة ليخفوا دور جعفر بن أبي طالب في قيادتها، وليغطوا هزيمة المسلمين فيها، خاصة هزيمة خالد بن الوليد!

ص: 371

لذلك عندما تقرأ نصوصها يغيب عنك دور جعفر عندما تحير المسلمون في وادي القرى أو في معان هل يواصلون السير أم يكتبون إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ليمدهم برجال أو يأمرهم بالرجوع؟ وأين كان عبدالله بن رواحة حتى وصل اليهم في معان متأخراً، وشجعهم على السير؟ولماذا انسحبوا عندما واجهوا الروم في قرية مشارف قبل مؤتة؟ وكيف برز القادة الثلاثة وحدهم ولم يبرز أحد من المسلمين؟ ولم يستشهد من المسلمين إلا خمسة أو ثمانية؟ وهم كما رواه ابن هشام: 3/840: مسعود بن الأسود، ووهب بن سعد، وعباد بن قيس، والحارث بن النعمان، وسراقة بن عمرو بن عطية، ويقال استشهد آخرون!

وهل برز هؤلاء أم قتلوا في حملة؟وأين كان خالد فلم يبرز ولم يأخذ الراية بعد شهادة القادة الثلاثة، بل أخذها شخص ثم أخذها ثابت بن أقرم، ثم أخذها منه خالد؟ومتى كانت معركة السبعة أيام المزعومة، وما هي أخبارها؟

وأين الروايات عن قتال خالد والثلاثة آلاف مقاتل، حتى كسر خالد تسعة سيوف كما زعم! وكيف حول الهزيمة إلى نصر فسماه النبي (صلی الله علیه و آله) سيف الله!

ولماذا لا نجد وصفاً لقتال خالد ولاغيره، مع أي رومي قائد أو جندي، اللهم إلا قتل رجل يمني مددي لجندي رومي غيلةً والمسلمون منسحبون، فغنم منه شيئاً، فناصفه فيه خالد!

وزعموا أن المسلمين انتصروا بقيادة خالد فأين الغنائم، ولماذا لم يأخذوا حصن الكرك قرب مؤتة، وهو مركز قيادة مهم للروم؟

وإذا كانوا انتصروا، فلماذا استقبلهم أهل المدينة يحثون في وجوههم التراب ويصيحون عليهم يا فرارين! حتى استتر المعروفون منهم في بيوتهم فلم يخرجوا مدة خوفاً من توبيخ المسلمين! حتى رفع عنهم النبي (صلی الله علیه و آله) غضب المسلمين وقال إنهم كرارون إن شاء الله، فتجرؤوا على الخروج!

فالصورة الصحيحة لمعركة مؤتة: أنها كان فيها هزيمة، لكنها مع ذلك كانت رسالة قوية إلى هرقل وهو يحضر لغزو النبي (صلی الله علیه و آله) ويستعد للسفر ماشياً إلى بيت المقدس،

ص: 372

فكانت منطقة الشام والأردن وفلسطين في حالة استنفار.

كان جيش المسلمين إلى مؤتة خليطاً من مسلمين قدامى وجدد، ومنهم خالد الذي أسلم قبل شهرين، لكن قادته الثلاثة الذين عينهم النبي (صلی الله علیه و آله) كانوا شجعاناً وقد أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يري هرقل هذه النماذج المميزة، فأراه إياها!

أما الباقون فلم يكونوا بمستواهم ولذلك ترددوا عندما وصلوا إلى أم القرى على بعد380 كلم من المدينة، أي أقل من نصف الطريق إلى مركز جيش هرقل في الكرك! وطلبوا من قائدهم أن يراسل النبي (صلی الله علیه و آله) ليأمرهم بالرجوع إلى المدينة أو يمدهم بجيش آخر، لأنه لاطاقة لهم بجيش هرقل! فشجعهم جعفر وزيد وابن رواحة، فواصلوا السير إلى معان واستراحوا فيها يومين ليعرفوا الجو، فسمعوا بأخبار جيش الروم، وأعادوا الكلام مع قائدهم ليراسل النبي فشجعهم على السير فساروا، حتى تفاجؤوا بمهاجمة الروم لهم قرب مؤتة، فانحازوا إلى مؤتة القريبة فتبعهم الروم، فثبت القادة الثلاثة وقاتلوا قتال الأبطال حتى الشهادة، وفتكوا بجيش الروم فتكاً لم يعرفوه من قبل، وإن لم يذكر التاريخ عدد قتلاهم من الروم.

وقتل من المسلمين خمسة كانوا حول القادة، أو لحق بهم الروم وقتلوهم، وفر الباقون بقيادة خالد حتى قال أحدهم إنه لم يَرَ في عمره أسوأ من تلك الهزيمة!

كما بالغ الرواة في عدد جيش الروم الذي واجه المسلمين فجعلوه مئة ألف من الروم ومئة ألف من عرب الشام، مع أن جيشه الذي غزا به عاصمة الفرس قبل سنة،

كان سبعين ألفاً!

9- القتال سبعة أيام في مؤتة كذبة من أجل خالد!

تؤكد مصادر الحديث الصحيح عند الدولة على كذبة مفضوحة بأن المعركة استمرت سبعة أيام، مع أنها كانت يوماً واحداً، وكان أبطالها بضعة عشر نفراً هم جعفر (علیه السلام) وزملاؤه القادة ونخبة معهم! وبعد استشهادهم انهزم المسلمون فأخذ الراية قطبة بن عامر وحاول أن يواصل المعركة فلم يطيعوه، وأطاعوا

ص: 373

خالد بن الوليد الذي انهزم بهم! «وانهزم المسلمون أسوأ هزيمة، وأتبعهم المشركون فجعل قطبة بن عامر يصيح: يا قوم يقتل الرجل مقبلاً أحسن من أن يقتل مدبراً فما يثوب إليه أحد». الإمتاع: 1/340.

«قال أبو عامر: أسوأ هزيمة رأيتها قط حتى لم أر اثنين جميعاً»!سبل الهدى: 6/150.

ومع ذلك رووا بعين يابسة، سبل الهدى: 6/150: «عن برذع بن زيد قال: اقتتل المسلمون مع المشركين سبعة أيام. وروى الحاكم عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، وأبو عامر والزهري، وعروة، وابن عقبة، وعطاف بن خالد، وابن عائذ وغيرهم، وهو ظاهر قوله (صلی الله علیه و آله) في حديث أنس: ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه»!«وفي حديث أبي قتادة مرفوعاً: ثم أخذ خالد بن الوليد اللواء ولم يكن من الأمراء، هو أمَّرَ نفسه، ثم رفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إصبعه ثم قال: اللهم إنه سيف من سيوفك فانصره. فمن يومئذ سمي خالد بن الوليد سيف الله! رواه الإمام أحمد برجال ثقات. ويشهد له بالصحة ما رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والبرقاني»!

كذبٌ ما بعده كذب! جعلوا بطولات خالد فيها على لسان النبي (صلی الله علیه و آله)، وكانت كل غنائمها غنيمة اليمني المددي من جندي رومي قتله غيلةً، وقد أخذ خالد نصف سلبه، لأنه استكثره على المددي!

إن أصل كذبة القتال من خالد! فقد قال كما رواه بخاري: 5/87: «لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية»!

10- وصفَ النبي (صلی الله علیه و آله) المعركة للمسلمين وصفاً حياً

كشف الله تعالى لنبيه (صلی الله علیه و آله) مؤتة وهو في المدينة فوصفها لأصحابه وصفاً حياً:

روى في الخرائج: 1/166: «قال جابر: فلما كان اليوم الذي وقعت فيه حربهم صلى النبي (صلی الله علیه و آله) بنا الغداة، ثم صعد المنبر فقال: قد التقى إخوانكم مع المشركين للمحاربة، فأقبل يحدثنا بكرات بعضهم على بعض، إلى أن قال: أخذها جعفر بن أبي طالب وتقدم للحرب بها. ثم قال: قد قطعت يده، وقد أخذ الراية بيده الأخرى، ثم قال: وقطعت

ص: 374

يده الأخرى وقد احتضن الراية في صدره.ثم قال: قتل جعفر وسقطت الراية، ثم أخذها عبدالله بن رواحة، وقد قتل من المشركين كذا، وقتل من المسلمين فلانٌ وفلانٌ، إلى أن ذكر جميع من قتل من المسلمين بأسمائهم. ثم قال: قتل عبدالله بن رواحة، وأخذ الراية خالد بن الوليد وانصرف المسلمون.

ثم نزل عن المنبر وصار إلى دار جعفر، فدعا عبدالله بن جعفر فأقعده في حجره وجعل يمسح على رأسه. فقالت والدته أسماء بنت عميس: يا رسول الله إنك لتمسح على رأسه كأنه يتيم. قال: قد استشهد جعفر في هذا اليوم! ودمعت عينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: قطعت يداه قبل أن يستشهد، وقد أبدله الله من يديه جناحين من زمرد أخضر، فهو الآن يطير بهما في الجنة مع الملائكة كيف يشاء». ونحوه في الثاقب في المناقب/101، وفيه: «ثم ورد عليه ابن مُنْيَة فقال (صلی الله علیه و آله): إن شئت أخبرتك وإن شئت أخبرني. فقال: بل أخبرني يا رسول الله فأخبره خبره كله قال: وإنك والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفاً لم تذكره. فقال (صلی الله علیه و آله): إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معركتهم».

وفي الكافي: 8/376، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «بينما رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المسجد إذ خفض له كل رفيع ورفع له كل خفيض، حتى نظر إلى جعفر يقاتل الكفار قال: فقتل، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قتل جعفر! وأخذه المغص في بطنه».

فلم يمدح النبي (صلی الله علیه و آله) إلا جعفراً وزيداً وابن رواحة، لكنهم زادوا ذكر خالد! وسرقوا له من علي (علیه السلام) لقب سيف الله! والحقيقة أنه انهزم بالمسلمين!

وروى الواقدي: 2/763 وابن عساكر: 49/337: «لما أخذ خالد اللواء انكشف بالناس فكانت الهزيمة، وقتل المسلمون واتبعهم المشركون، فجعل قطبة بن عامر يصيح: يا قوم، يقتل الرجل مقبلاً أحسن من أن يقتل مدبراً، يصيح بأصحابه فما يثوب إليه أحد، ويتبعون صاحب الراية منهزماً».

ص: 375

11- توبيخ المسلمين لخالد وجيش مؤتة

وصف الواقدي: 2/760 وغيره، رجوع جيش مؤتة إلى المدينة، وفيه قول أبي هريرة:«شهدت مؤتة فلما رأينا المشركين رأينا ما لا قبل لنا به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فبرق بصري!

عن عاصم بن عمر قال: وجد في بدن جعفر أكثر من ستين جرحاً ووجد به طعنةٌ قد أنفذته. لما قتل ابن رواحة انهزم المسلمون أسوأ هزيمةٍ رأيتها قط في كل وجهٍ. ثم إن المسلمين تراجعوا. فأقبل رجلٌ من الأنصار يقال له ثابت بن أرقم فأخذ اللواء وجعل يصيح بالأنصار فجعل الناس يثوبون إليه من كل وجهٍ وهم قليل وهو يقول: إلي أيها الناس! فاجتمعوا إليه، قال: فنظر ثابت إلى خالد بن الوليد فقال: خذ اللواء يا أبا سليمان! فقال: لا آخذه أنت أحق به. أنت رجلٌ لك سنٌّ وقد شهدت بدراً. ولما أخذ اللواء انكشف بالناس فكانت الهزيمة، فجعل قطبة بن عامر يصيح: يا قوم، يقتل الرجل مقبلاً أحسن أن يقتل مدبراً! يصيح بأصحابه فما يثوب إليه أحد هي الهزيمة! ويتبعون صاحب الراية منهزماً»!

سمعت ثعلبة بن أبي مالك يقول: انكشف خالد بن الوليد يومئذٍ حتى عيروا بالفرار وتشاءم الناس به. لقيهم أهل المدينة بالشر حتى إن الرجل لينصرف إلى بيته وأهله، فيدق عليهم الباب فيأبون أن يفتحوا له يقولون: ألا تقدمت مع أصحابك! وكان في ذلك البعث سلمة بن هشام بن المغيرة فدخلت امرأته على أم سلمة زوج النبي (صلی الله علیه و آله) فقالت أم سلمة: ما لي لا أرى سلمة بن هشام آشتكى شيئاً قالت امرأته: لا والله ولكنه لا يستطيع الخروج إذا خرج صاحوا به وبأصحابه يا فرار أفررتم في سبيل الله، حتى قعد في البيت، فذكرت ذلك أم سلمة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: بل هم الكرار في سبيل الله فليخرج! فخرج.

عن أبي هريرة قال: كنا نخرج ونسمع ما نكره من الناس لقد كان بيني وبين ابن عمٍّ لي كلام فقال: إلا فرارك يوم مؤتة! فما دريت أي شيء أقول له.

«لقيهم الصبيان يشتدون.وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فُرَّار،

ص: 376

فررتم في سبيل الله! وقال عبدالله بن عمر: فحاص الناس وكنت فيمن حاص.فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة قُتلنا، فقدمنا المدينة في نفر ليلاً فاختفينا، ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله فاعتذرنا إليه، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: من القوم؟قلنا: نحن الفَرارون. قال: بل أنتم الكرارون وأنا فئتكم. فقبلنا يده».

وقد أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يرفع معنوياتهم لأن المهم وصول رسالته إلى هرقل بالمقاتلين النوعيين جعفر ورفقائه.

«عن الزهري: أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما أخبر الناس بقتل القادة الثلاثة بكى أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهم حوله فقال لهم: وما يبكيكم؟فقالوا: وما لنا لا نبكي، وقد ذهب خيارنا وأشرافنا وأهل الفضل منا؟! فقال لهم (صلی الله علیه و آله): لا تبكوا فإنما مثل أمتي مثل حديقة قام عليها صاحبها فأصلح رواكبها وبنى مساكنها وحلق سعفها، فأطعمت عاماً فوجاً ثم عاماً فوجاً ثم عاماً فوجاً. فلعل آخرها طعماً أن يكون أجودها قنواناً، وأقومها شمراخاً! والذي بعثني بالحق نبياً، ليجدن عيسى بن مريم في أمتي خلفاً من حواريیه».أمالي الطوسي/88.

12- رغم الهزيمة وصلت رسالة النبي (صلی الله علیه و آله) إلى هرقل!

فهمَ هرقل غزوة مؤتة على أنها غارة نوعية من النبي (صلی الله علیه و آله)، ومع أن المسلمين انهزموا ولم يثبت إلا قادتهم، لكنه أخذ بحسابه نوعيات المقاتلين المسلمين وهو يواصل الإعداد لحملته على المدينة. وبينما كان هرقل يواصل إعداده للحملة، فتح الله تعالى على نبيه (صلی الله علیه و آله) مكة، ومات الحارث بن أبي شمر الذي هو ركن في حملة هرقل، ولم يجدوا شخصاً بكفاءته يحكم الشام، فنصب هرقل الأيهم شيخ غسان ملكاً وكان كبير السن، ثم ملك ابنه جبلة، «اليعقوبي: 1/207»ولم يكن لهما شجاعة الحارث ولا رغبته في غزو المدينة، لذلك ركز هرقل على الأكيدر ملك دومة الجندل وشيخ قبائل كندة، وواصل العمل.

وكانت دعاية هرقل قوية في المدينة، فعندما تحدث عمر بن الخطاب عن

ص: 377

غضب النبي (صلی الله علیه و آله) على نسائه واعتزاله لهن، قال إن ذلك كان أيام توقع وصول حملة الروم على المدينة! قال عمر كما في البخاري: 3/104: «وكنا تحدثنا أن غسان تنعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته فرجع عشاء فضرب بابي ضرباً شديداً وقال: أنائم هو؟ ففزعت فخرجت إليه وقال: حدث أمر عظيم! قلت: ما هو أجاءت غسان؟ قال: لا بل أعظم منه وأطول طلق رسول الله (صلی الله علیه و آله) نساءه! قال: قد خابت حفصة وخسرت، كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون»!

وغزو غسان للمدينة أي غزو هرقل، وأشاعوا أنه أعد مئة ألف من مقاتلي عرب الشام ومن أطاع الأكيدر من كندة، مقدمة للجيش الرومي المحترف بقيادة هرقل، كما فعل في غزو فارس.

وقال الإمام الكاظم (علیه السلام): «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان تأتيه الأخبار عن صاحب دومة الجندل، وكانت تلك النواحي مملكة عظيمة مما يلي الشام، وكان يهدد رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأن يقصده ويقتل أصحابه ويبيد خضراءهم! وكان أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) خائفين وجلين من قِبَله حتى كانوا يتناوبون على رسول الله كل يوم عشرون منهم، كلما صاح صائح ظنوا أن قد طلع أوائل رجاله!

وأكثرَ المنافقون الأراجيف والأكاذيب وجعلوا يتخللون أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) ويقولون: إن أكيدر قد أعد لكم من الرجال كذا ومن الكراع كذا ومن المال كذا، وقد نادى فيما يليه من ولايته: ألا قد أبحتكم النهب والغارة في المدينة! ثم يوسوسون إلى ضعفاء المسلمين يقولون لهم: وأين يقع أصحاب محمد من أصحاب أكيدر؟يوشك أن يقصد المدينة فيقتل رجالها ويسبي ذراريها! حتى آذى ذلك قلوب المؤمنين فشكوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما هم عليه من الجزع.

ثم إن المنافقين اتفقوا وبايعوا لأبي عامر الراهب الذي سماه رسول الله (صلی الله علیه و آله) الفاسق وجعلوه أميراً عليهم وبخعوا له بالطاعة». تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /481.

وستأتي غزوة تبوك التي قادها النبي (صلی الله علیه و آله) بنفسه في السنة التالية، ومراسلته لهرقل!

ص: 378

13- من مناقب جعفربن أبي طالب (علیه السلام)

1. يدلنا على مقام جعفر بن أبي طالب سلام الله عليه: جناحاه اللذان خصه الله بهما دون أهل الجنة. واحترام النبي (صلی الله علیه و آله) له وشهاداته بحقه. ونشأته الملائكية التي أوحى الله إلى نبيه (صلی الله علیه و آله) أنه يشكرها له!

ففي علل الشرائع: 2/558 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «أوحى الله تعالى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إني شكرت لجعفر بن أبي طالب أربع خصال، فدعاه النبي (صلی الله علیه و آله) فأخبره فقال: لولا أن الله تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتك: ما شربت خمراً قط لأني علمت أني إن شربتها زال عقلي.وماكذبت قط لأن الكذب ينقص المروءة. وما زنيت قط لأني خفت أني إذا عملت عُمل بي. وما عبدت صنماً قط لأني علمت أنه لايضر ولاينفع! قال: فضرب النبي (صلی الله علیه و آله) على عاتقه وقال: حقَّ لله تعالى أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنة»!

2. وفي الكافي: 1/49 عن الإمام الباقر (علیه السلام): «لما كان يوم مؤتة كان جعفر على فرسه فلما التقوا نزل عن فرسه فعرقبها بالسيف، وكان أول من عرقب في الإسلام».

3. في المناقب: 1/176: «سنة ثمان في جمادى الأولى وقعة مؤتة وهم ثلاثة آلاف.

في كتاب أبان قال الصادق (صلی الله علیه و آله): إنه استعمل عليهم جعفراً فإن قتل فزيد، فإن قتل فابن رواحة، ثم خرجوا حتى نزلوا معان، فبلغهم أن هرقل قد نزل بمأرب في مائة الف من الروم ومائة ألف من المستعربة، فانحازوا إلى أرض يقال لها المشارف، ونسبت السيوف المشرفية إليها لأنها طبعت لسليمان بن داود (علیهما السلام)، فاختلفوا في القتال أو في إخبار النبي (صلی الله علیه و آله) بكثرتهم فقال ابن رواحة: ما نقاتل الناس بكثرة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين! فلقوا جموعهم بقرى البلقاء، ثم انحازوا إلى مؤتة.

وفي البخاري: نعى النبي جعفراً وزيداً وابن رواحة قبل أن يجئ خبرهم وعيناه تذرفان. زيد بن أرقم: حارب جعفر على أشقره حتى عقر، وهو أول من عقر

ص: 379

فرسه في الإسلام، فحارب راجلاً حتى قتل.

فضيل بن يسار عن الباقر (علیه السلام) قال: أصيب يومئذ جعفر وبه خمسون جراحة، خمس وعشرون منها في وجهه».

في المنمق لابن حبيب/417: «لما قدم جعفر بن أبي طالب على النجاشي أعطاه سيفاً يقال له الغمام فقاتل به يوم مؤتة وهو يقول:

قد علمت فهر وفهر حاكمه *** أنيَ منها في الذرى والغلصمه

كم قط من شاكلة وجمجمه».

وفي التنبيه والإشراف/230، أن هرقل: «يومئذ مقيم بأنطاكية وعلى الروم تيادوقس البطريق، وعلى متنصرة العرب من غسان وقضاعة وغيرهم شرحبيل بن عمرو الغساني، فقتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب بعد أن عرقب فرسه، وهو أول فرس عرقبت في الإسلام، وجرح نيفاً وتسعين جراحة كلها في مقادمه وقتل عبدالله بن رواحة، ورجع خالد بن الوليد بالناس».

4. وفي الكافي: 1/450، عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: «ألا وإن أفضل الخلق بعد الأوصياء الشهداء، ألا وإن أفضل الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، وجعفر بن أبي طالب له جناحان خضيبان يطير بهما في الجنة، لم يُنْحَل أحد من هذه الأمة جناحان غيره شئ كرم الله به محمداً (صلی الله علیه و آله) وشرفه.والسبطان الحسن والحسين والمهدي يجعله الله من شاء منا أهل البیت، ثم تلا هذه الآية: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيما».

وفي أمالي الطوسي/723، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): رقدت بالأبطح على ساعدي، وعلي عن يميني، وجعفر عن يساري، وحمزة عند رجليَّ، قال: فنزل جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ففزعت لخفق أجنحتهم. قال: فرفعت رأسي فإذا إسرافيل يقول لجبرئيل: إلى أي الأربعة بعثت وبعثنا معك؟ قال: فركض برجله فقال: إلى هذا وهو محمد سيد النبيين، ثم قال: من هذا الآخر؟ قال: هذا أخوه ووصيه وابن عمه وهو سيد الوصيين. ثم قال: فمن الآخر؟ قال: جعفر بن أبي طالب، له جناحان

ص: 380

خضيبان يطير بهما في الجنة. قال: ثم قال: فمن الآخر؟ قال: عمه حمزة، وهو سيد الشهداء يوم القيامة».

5. وفي المحاسن: 2/420، عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «سألت أبي (علیه السلام) عن المأتم فقال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) انتهى إليه قتل جعفر بن أبي طالب دخل على أسماء بنت عميس امرأة جعفر فقال: أين بنيَّ؟فدعت بهم وهم ثلاثة: عبدالله وعون ومحمد، فمسح رسول الله رؤوسهم فقالت: إنك تمسح رؤوسهم كأنهم أيتام؟ فتعجب رسول الله (صلی الله علیه و آله) من عقلها فقال: يا أسماء ألم تعلمي أن جعفراً استشهد فبكت، فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا تبكي فإن جبرئيل (علیه السلام) أخبرني أن له جناحين في الجنة من ياقوت أحمر، فقالت: يا رسول الله لو جمعت الناس وأخبرتهم بفضل جعفر، لا ينسى فضله. فعجب رسول الله (صلی الله علیه و آله) من عقلها، ثم قال (صلی الله علیه و آله): إبعثوا إلى أهل جعفر طعاماً، فجرت السنة».

وفي الفقيه: 1/177، أنه (صلی الله علیه و آله) قال في جعفر وزيد: «كثر بكاؤه عليهما جداً وقال: كانا يحدثاني ويؤانساني فذهبا جميعاً».

6. قال السيد شرف الدين (رحمة الله) في النص والإجتهاد/279، ملخصاً: «حزن الإنسان عند موت أحبته وبكاؤه عليهم من لوازم العاطفة البشرية، وهما من مقتضيات الرحمة، ما لم يصحبهما شئ من منكرات الأقوال أو الأفعال. وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حديث عنه صحيح: مهما يكن من القلب والعين فمن الله والرحمة ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان! والسيرة القطعية بين المسلمين وغيرهم مستمرة على ذلك من غير نكير وأصالة الإباحة تقتضيه.

على أن النبي (صلی الله علیه و آله) نفسه بكى في مقامات عديدة وأقر غيره على البكاء في موارد واستحسنه في موارد أخر، وربما دعا إليه: بكى على عمه الحمزة أسد الله وأسد رسوله.. لما رأى حمزة قتيلاً بكى.كان يومئذ إذا بكت صفية يبكي وإذا نشجت ينشج! وجعلت فاطمة تبكي فلما بكت بكى رسول الله (صلی الله علیه و آله). ولما رجع من أحُد

ص: 381

جعلت نساء الأنصار يبكين على من قتل من أزواجهن فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ولكن حمزة لا بواكي له! قال: ثم نام فانتبه وهن يبكين، قال فهن اليوم إذا يبكين يندبن حمزة. وبكى على جعفر وزيد وقال: أخواي ومؤنساي ومحدثاي. ولما جاءه نعي جعفر، أتى امرأته أسماء بنت عميس فعزاها قال: ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول: واعماه! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): على مثل جعفر فلتبكِ البواكي».

7.قال البلاذري في أنساب الأشراف: 2/42: «أتى النبي (صلی الله علیه و آله) مع أخيه علي (علیه السلام) وقد كان يسمع علياً يذم عبادة الأوثان فوقع في نفسه ذمها، فلما دعاه رسول الله قبل دعاءه وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن المبعث حق. وهاجر إلى الحبشة ومعه امرأته أسماء ابنة عميس الخثعمية، وهي أخت أم الفضل لبابة بنت الحرث بن حزن الهلالية، لأمها هند بنت عوف الحميرية، فلم يزل مقيماً بالحبشة في جماعة تخلفوا معه من المسلمين.ثم قدم على رسول الله في سنة سبع من الهجرة بعد فتح خيبر فاعتنقه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: لست أدري أي الأمرين أسرّ إلي أفتح خيبر أم قدوم جعفر. وقدم معه المدينة ثم وجهه في جيش إلى مؤتة من بلاد الشام فاستشهد وقطعت يداه في الحرب فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لقد أبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الجنة، فسمي ذا الجناحين وسمي الطيار في الجنة. ودخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين أتاه نعي جعفر على أسماء بنت عميس فعزاها به، ودخلت فاطمة (علیها السلام) تبكي وهي تقول: وا عماه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): على مثل جعفر فلتبك البواكي ثم انصرف إلى أهله وقال: إتخذوا لآل جعفر طعاماً فقد شغلوا عن أنفسهم، وضم عبدالله بن جعفر إليه ومسح رأسه وعيناه تدمعان وقال: اللهم أخلف جعفراً في ذريته بأحسن ما خلفت به أحداً من عبادك الصالحين. واستشهد جعفر، وهو ابن نحو من أربعين سنة، وذلك في سنة ثمان من الهجرة. وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أشبهني جعفر في خلقي وخلقي». وفي رواية ابن هشام:3/832: ثلاثاً وثلاثين سنة.

8. وتدلنا قصائد شاعري النبي (صلی الله علیه و آله) حسان بن ثابت وكعب بن مالك، على أن جعفراً، كان قائد مؤتة وبطلها، وأن الحكومات انتقصته بغضاً بأخيه (علیهما السلام) !وهذا مختار

ص: 382

من شعرحسان من رواية ابن هشام:3/837.

ولقد بكيت وعز مهلك جعفرٍ *** حِبُّ النبي على البرية كلها

ولقد جزعت وقلت حين نعيت لي *** من للجلاد لدى العقاب وظلها

بالبيض حين تسل من أغمادها *** ضرباً وإنهال الرماح وعلها

بعد ابن فاطمة المبارك جعفر *** خير البرية كلها وأجلها

رزءاً وأكرمها جميعاً محتداً *** وأعزها متظلماً وأذلها

للحق حين ينوب غير تنحل *** كذباً وأنداها يداً وأقلها

فحشا وأكثرها إذا ما يجتدي *** فضلاً وأبذلها ندى وأبلها

بالعرف، غير محمد لا مثله *** حي من احياء البرية كلها

وقال حسان:

تأوبني ليل بيثرب أعسرُ *** وَهَمٌّ إذا ما نوم الناس مسهر

لذكرى حبيب هيجت لي عبرة *** سفوحاً وأسباب البكاء التذكر

بلى إن فقدان الحبيب بلية *** وكم من كريم يبتلى ثم يصبر

رأيت خيار المؤمنين تواردوا *** شعوباً وخلفاً بعدهم يتأخر

فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا *** بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وزيد وعبدالله حين تتابعوا *** جميعاً وأسباب المنية تخطر

غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم *** إلى الموت ميمون النقيبة أزهر

أغر كضوء البدر من آل هاشم *** أبيٌّ إذا سيم الظلامة مجسر

فطاعن حتى مال غير موسد *** لمعترك فيه قنا متكسر

فصار مع المستشهدين ثوابه *** جنان وملتف الحدائق أخضر

وكنا نرى في جعفر من محمد *** وفاء وأمراً حازماً حين يأمر

فما زال في الاسلام من آل هاشم *** دعائم عز لا يزلن ومفخر

ص: 383

هم جبل الإسلام والناس حولهم *** رضامٌ إلى طود يروق ويقهر

بها ليل منهم جعفر وابن أمه *** عليٌّ ومنهم أحمد المتخير

همو أولياء الله أنزل حكمه *** عليهم وفيهم ذو الكتاب المطهر

وقال كعب بن مالك:

وكأنما بين الجوانح والحشى *** مما تأوبني شهاب مدخل

وجدا على النفر الذين تتابعوا *** يوماً بمؤتة أسندوا لم ينقلوا

صلى الاله عليهم من فتية *** وسقى عظامهم الغمام المسبل

صبروا بمؤتة للإله نفوسهم *** حذر الردى ومخافة أن ينكلوا

فمضوا أمام المسلمين كأنهم *** فنق عليهن الحديد المرفل

إذ يهتدون بجعفر ولوائه *** قدام أولهم فنعم الأول

حتى تفرجت الصفوف وجعفر *** حيث التقى وعث الصفوف مجدل

فتغير القمر المنير لفقده *** والشمس قد كسفت وكادت تأفل

قرم علا بنيانه من هاشم *** فرعاً أشم وسؤدداً ما ينقل

قوم بهم عصم الإله عباده *** وعليهم نزل الكتاب المنزل

فضلوا المعاشر عزة وتكرماً *** وتغمدت أحلامهم من يجهل

لا يطلقون إلى السفاه حباهم *** ويرى خطيبهم بحق يفصل

بيض الوجوه ترى بطون أكفهم *** تندى إذا اعتذر الزمان الممحل

وبهديهم رَضِيَ الإله لخلقه *** وبجدهم نصر النبي المرسل

14- حول جناحي جعفر الطيار (علیه السلام)

1. أجمع المسلمون على قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) إن الله تعالى أعطى جعفر بن أبي طالب (علیه السلام) جناحين يطير بهما في الجنة.وروي أن ذلك ثواب قطع يديه في سبيل الله، «الخصال/68 وفيض القدير: 4/12». وروي أنه تكريمٌ من الله لرسوله (صلی الله علیه و آله) «الوافي: 3/713»، ولا منافاة بينهما.

ص: 384

2. يصعب علينا فهم فائدة الجناحين في الجنة، وقد ورد أنه يطير بهما في الجنة حيث يشاء، ويطير بهما مع الملائكة. لكن يظهر من بعض أحاديثه أنه بذلك صار بإمكانه تحويل طبيعته البشرية إلى طبيعة ملائكية، وأنه يسمح له بالنزول مع الملائكة إلى الأرض. وهو أمر عجيب.

في سمط النجوم: 2/245: قال (صلی الله علیه و آله): «رأيت جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة.. وفي رواية وصححها، قال: مر بي جعفر الليلة في ملأ من الملائكة».

وفي عمدة القاري: 17/270: قال (صلی الله علیه و آله): «رأيت جعفراً يطير في الجنة مع الملائكة»

وفي مجمع الزوائد: 9/271 من رواية الطبراني وحسنه: «بينما رسول الله (صلی الله علیه و آله) جالس وأسماء بنت عميس قريبة منه، قال: يا أسماء هذا جعفر بن أبي طالب مع جبريل وميكائيل صلى الله عليهما مروا فسلموا علينا فرددت عليهم السلام وأخبرني أنه لَقِيَ المشركين يوم كذا وكذا فأصبت في جسدي من مقاديمي ثلاثاً وسبعين طعنة وضربة، ثم أخذت اللواء بيدي اليمنى فقطعت، ثم أخذته باليسار فقطعت، فعوضني الله من يدي جناحين أطير بهما مع جبريل وميكائيل في الجنة، أنزل بهما حيث شئت، وآكل من ثمارها ما شئت! فقالت أسماء: هنيئاً لجعفر ما رزقه الله من الخير، ولكني أخاف أن لا يصدقني الناس فاصعد المنبر فأخبر الناس يا رسول الله.

فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن جعفر بن أبي طالب مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله من يديه يطير بهما في الجنة حيث شاء، فسلم عليَّ فأخبر كيف كان أمرهم حين لَقِيَ المشركين».

3. وروى الترمذي والحاكم وغيرهما أن جناحي جعفر مخضبان بدمه، وفي رواية الخرائج: جناحين من زمرد أخضر، وفي رواية عقد الدرر: جناحان أخضران، وفي رواية البيهقي في الدلائل وابن مندة أنهما من ياقوت. وفي رواية ربيع الأبرار: جناحين أبيضين قادمتاهما مضرجان بالدم مكللتان باللؤلؤ والجوهر، وفي رواية كنز العمال موشيان بالجوهر.

ص: 385

فإن أمكن الجمع بين هذ ه الروايات، فبه، وإلا فالمرجح رواية المحاسن الصحيحة السند: 2/419: «وجعل له جناحين من ياقوت».

4. ورد أن جناحين جعفر (علیه السلام) في الجنة كرامة خاصة بجعفر (علیه السلام):«لم يُنحل أحد من هذه الأمة جناحان غيره، شئ كرم الله به محمداً (صلی الله علیه و آله) وشرفه» «الكافي: 1/450». لكن روينا أن الله تعالى أعطى العباس بن علي (علیه السلام) جناحين يطير بهما في الجنة لنصرته الحسين (علیه السلام) ولأن يداه قطعتا مثل عمه جعفر (علیهما السلام).

ففي الصحيح في الأمالي، الصدوق/547:«نظر سيد العابدين علي بن الحسين إلى عبيدالله بن العباس بن علي بن أبي طالب: فاستعبر، ثم قال: ما من يوم أشد على رسول الله (صلی الله علیه و آله) من يوم أحد، قتل فيه عمه حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب.

ثم قال (علیه السلام): ولا يوم كيوم الحسين (علیه السلام) ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل، يزعمون أنهم من هذه الأمة، كل يتقرب إلى الله عزوجل بدمه، وهو بالله يذكرهم فلا يتعظون، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً. ثم قال (علیه السلام): رحم الله العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه، فأبدله الله عزوجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإن للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة».

ولا منافاة بين الروايتين، لأن الله لم ينحل أحداً من الأمة من قبل جعفر (علیه السلام)، ثم نحل بعده العباس (علیهما السلام)، وذلك كقوله تعالى عن يحيى (علیه السلام): إسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًاً، أي لم نجعل قبله، وجعلنا من بعده الحسين (علیه السلام) وكان مثله في الحيوية وفي الشهادة الفجيعة، وفي إهداء رأسه على طبق من ذهب إلى عدوه! والمعنى هنا: لم ينحل أحد قبل جعفر جناحين، ونُحل بعده العباس (علیهما السلام).

5. روى الصدوق، الأمالي/629:«ومن صام من رجب عشرة أيام جعل الله عزوجل له جناحين أخضرين منظومين بالدر والياقوت، يطير بهما على الصراط كالبرق

ص: 386

الخاطف إلى الجنان». وهذان جناحان لطيرانٍ خاص عن الصراط فقط.

لكن غير المعقول منامات غلاة الحنابلة كخزيمة الإسكندراني، قال:«نمت فرأيت أحمد بن حنبل عليه أثواب خضر، وعلى رأسه تاج من ذهب، وفي رجليه نعلان وهو يمشي مشية يختال فيها. فإذا سفيان الثوري له جناحان أخضران، وهو يطير بهما من نخلة إلى نخلة».تاريخ دمشق: 5/335

15- حنين الجذع الذي كان يتكئ عليه النبي (صلی الله علیه و آله) ويخطب

في الكافي لأبي الصلاح الحلبي/76: «وأما دلالة المعجزات الخارجة عن القرآن على نبوته (صلی الله علیه و آله) فهي انشقاق القمر، ورجوع الشمس، ونبوع الماء من أصابعه، وحنين الجذع، وتسبيح الحصى...فطريق العلم بها المشاهدة لمن حضره، والنقل المتواتر لمن نأى عن داره، وتأخر وجوده عن وجوده».

ونحوه الإقتصاد للشيخ الطوسي/181، وفيه: «وليس يمكن أن يقال: هذه الأخبار آحاد لايُعَوَّل على مثلها، لأن المسلمين تواتروها وأجمعوا على صحتها... وحنين الجذع لا يمكن أن يدعى أنه كان لتجويف فيه دخله الريح، لأن مثل ذلك لا يخفى، وكان لا يستكن بمجئ النبي إليه ويحن إذا فارقه».

وفي النكت الإعتقادية للمفيد/36: «أما ظهور المعجز على يده (صلی الله علیه و آله) فأكثر من أن يحصى حتى ضبط المسلمون له ألف معجزة من جملتها: القرآن، وانشقاق القمر وحنين الجذع، ونبوع الماء من بين أصابعه..».

وفي المسلك في أصول الدين للمحقق الحلي/304: «ومن معجزاته (صلی الله علیه و آله) ما اشتهر نقله واستفاض مثل حنين الجذع، وانشقاق القمر، وكلام الذراع، وإنباع الماء من أنامله، وإطعام الخلق الكثير من الزاد القليل، وغير ذلك من المعجزات، التي يقوم من مجموعها الجزم بظهور المعجز».

وفي إعلام الورى: 1/76: «كان في مسجده بالمدينة يستند إلى جذع فيخطب الناس فلما كثر الناس اتخذوا له منبراً، فلما صعده حن الجذع حنين الناقة فقدت

ص: 387

ولدها، فنزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فضمه إليه فكان يئن أنين الصبي الذي يُسَكَّت».

وفي مستدرك سفينة البحار: 2/42: «حنين الجذع لفراق رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفيه قوله (صلی الله علیه و آله): أسكن، أسكن، إن تشأ غرستك في الجنة فيأكل منك الصالحون، وإن تشأ أعيدك كما كنت رطباً، فاختار الآخرة على الدنيا. وذكر أن بني أمية قلعوه حين جددوا بناء المسجد، فأخذه أبي بن كعب وكان عنده حتى بَلِيَ فأكلته الأرضة وعاد رفاتاً».

وفي بحار الأنوار: 17/326: «فلما استوى عليه حنَّ ذلك الجذع حنين الثكلى، فارتفع بكاء الناس وحنينهم وأنينهم، وارتفع حنين الجذع وأنينه في حنين الناس وأنينهم ارتفاعاً بيناً، فلما رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذلك نزل عن المنبر وأتى الجذع فاحتضنه ومسح عليه يده وقال: أُسكن فما تجاوزك رسول الله تهاوناً بك ولا استخفافاً بحرمتك».

وفي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /188، حديث مفصل عن حنين الجذع والمؤمنين للنبي وأهل بيته الطاهرين (صلی الله علیه و آله)، وقسوة قلوب الظالمين.وقد روت أصله مصادر غيرنا وذكرت أن ذلك كان في السنة الثامنة مثل: أسد الغابة:1/23، الإمتاع:5/51، الشفا: 1/303، صحيح ابن حبان: 14/436 وكنز العمال: 11/371.

ص: 388

الفصل الحادي والستون: غزوة ذات السلاسل التي حذفوها من السيرة!

1- غزوة ذات السلاسل برواية أهل البیت (علیهم السلام)

ذات السلاسل: إسم لمنطقة في الحجاز على بعد خمس مراحل من المدينة من جهة مكة ويعرف المكان باسم وادي الرمل، وباسم السلسلة، وقيل سميت الغزوة بذات السلاسل، لأنهم جاؤوا بالأسرى مربوطين ببعضهم كسلسلة.

وسببها أن الله أخبر نبيه (صلی الله علیه و آله) أن جمعاً من قبائل سليم يستعدون لغزو المدينة، فأرسل سرية من بضع مئات بقيادة أبي بكر، فرجع منهزماً، ثم أرسل عمر فرجع منهزماً، ثم أرسل عمرو بن العاص فرجع منهزماً. فأرسل علياً (علیه السلام) ومعه أبو بكر وعمر وخالد وابن العاص فسلك طريقاً ضلل جواسيس سليم، وأغار صباحاً مبكراً على مركز تجمعهم فنزلت سورة: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا. وهزمهم وأسر منهم وجاء بهم مقرنين في الحبال كأنهم سلسلة.

ففي أمالي الطوسي/407: «عن الحلبي قال: سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ؟ قال: وجَّه رسول الله عمر بن الخطاب في سرية فرجع منهزماً يجبن أصحابه ويجبنه أصحابه، فلما انتهى إلى النبي (صلی الله علیه و آله) قال لعلي: أنت صاحب القوم فتهيأ أنت ومن تريده من فرسان المهاجرين والأنصار. فوجهه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال له: أكمن النهار، وسِر الليل ولا تفارقك العين. قال فانتهى علي إلى ما أمره به رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسار إليهم فلما كان عند وجه الصبح أغار عليهم فأنزل الله على نبيه: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا.. إلى آخرها».

ص: 389

وفي الإرشاد: 1/162: «ثم كانت غزاة السلسلة وذلك أن أعرابياً جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فجثا بين يديه وقال له جئتك لأنصح لك، قال: وما نصيحتك؟ قال: قوم من العرب قد اجتمعوا بوادي الرمل وعملوا على أن يبيتوك بالمدينة..».

وفي مناقب آل أبي طالب: 2/328: «أبو القاسم بن شبل الوكيل، وأبو الفتح الحفار بإسنادهما عن الصادق (علیه السلام)، ومقاتل والزجاج ووكيع والثوري والسدي وأبو صالح وابن عباس: أنه أنفذ النبي (صلی الله علیه و آله) أبابكر في سبع مائة رجل، فلما صار إلى الوادي وأراد الإنحدار فخرجوا إليه فهزموه وقتلوا من المسلمين جمعاً كثيراً، فلما قدموا على النبي (صلی الله علیه و آله) بعث عمر فرجع منهزماً، فقال عمرو بن العاص: إبعثني يا رسول الله فإن الحرب خدعة ولعلي أخدعهم. فبعثه فرجع منهزماً، وفي رواية أنه أنفذ خالداً فعاد كذلك، فساء النبي (صلی الله علیه و آله) ذلك، فدعا علياً (علیه السلام) وقال: أرسلته كراراً غير فرار، فشيعه إلى مسجد الأحزاب، فسار بالقوم متنكباً عن الطريق يسير بالليل ويكمن بالنهار، ثم أخذ على محجة غامضة فسار بهم حتى استقبل الوادي من فمه، ثم أمرهم أن يعكموا الخيل وأوقفهم في مكان وقال لاتبرحوا، وانتبذ أمامهم وأقام ناحية منهم، فقال خالد وفي رواية قال عمر: أنزلنا هذا الغلام في واد كثير الحيَّات والهوام والسباع، إما سبع يأكلنا أو يأكل دوابنا، وإما حية تعقرنا وتعقر دوابنا، وإما يعلم بنا عدونا فيأتينا ويقتلنا! فكلموه نعلو الوادي، فكلمه أبو بكر فلم يجبه، فكلمه عمر فلم يجبه، فقال عمرو بن العاص: إنه لاينبغي أن نضيع أنفسنا! إنطلقوا بنا نعلو الوادي فأبى ذلك المسلمون! وفي رواية أبت الأرض أن تحملهم، أي لم يستطيعوا المشي!قالوا فلما أحس (علیه السلام) الفجر قال: إركبوا بارك الله فيكم، وطلع الجبل حتى إذا انحدر على القوم وأشرف عليهم قال لهم: أتركوا عكمة دوابكم! قال فشمت الخيل ريح الإناث فصهلت، فسمع القوم صهيل خيلهم فولوا هاربين.

وفي رواية مقاتل والزجاج أنه كبس القوم وهم غادون فقال: يا هؤلاء أنا رسول رسول الله إليكم أن تقولوا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإلا ضربتكم بالسيف. فقالوا: إنصرف عنا كما انصرف الثلاثة فإنك لا تقاومنا! فقال (علیه السلام): إنني لا أنصرف

ص: 390

أنا علي بن أبي طالب، فاضطربوا وخرج إليه الأشداء السبعة وناصحوه وطلبوا الصلح فقال (علیه السلام): إما الإسلام وإما المقاومة فبرز إليه واحد بعد واحد، وكان أشدهم آخرهم وهو سعد بن مالك العجلي وهو صاحب الحصن فقتلهم، فانهزموا ودخل بعضهم في الحصن، وبعضهم استأمنوا وبعضهم أسلموا، وأتوه بمفاتيح الخزائن.

قالت أم سلمة: انتبه النبي (صلی الله علیه و آله) من القيلولة فقلت: الله جارك ما لك؟ فقال: أخبرني جبرئيل بالفتح ونزلت: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا.!

قال أبو منصور الكاتب:

أقسم بالعاديات ضبحا *** حقاً وبالموريات قدحا

وقال المدني:

وقوله والعاديات ضبحا *** يعني علياً إذْ أغار صُبحا

على سليم فشنها كفحا *** فأكثر القتل بها والجرحا

وأنتم في الفُرش نائمونا!

فبشر النبي (صلی الله علیه و آله) أصحابه بذلك وأمرهم باستقباله والنبي يتقدمهم، فلما رأى علي النبي (صلی الله علیه و آله) ترجل عن فرسه فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إركب فإن الله ورسوله عنك راضيان، فبكى علي (علیه السلام) فرحاً، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): يا علي لولا أني أشفق أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في المسيح..الخبر. وقال العوني:

من ذا سواه إذا تشاجرت القنا *** وأبى الكماة الكر والإقداما

وتصلصلت حلق الحديد وأظهرت *** فرسانها التصحاج والإحجاما

ورأيت من تحت العجاج لنقعها *** فوق المغافر والوجوه قتاما

كشف الإله بسيفه وبرأيه *** يظمى الجواد ويروي الصمصاما

ووزيره جبريل يقحمه الوغى *** طوعا وميكال الوغى إقحاما

ص: 391

وقال الحميري:

وفي ذات السلاسل من سليم *** غداة أتاهم الموت المبير

وقد هزموا أبا حفص وعمراً *** وصاحبه مراراً فاستطيروا

وقد قتلوا من الأنصار رهطاً *** فحل النذر أو وجبت نذور

أذادَ الموت مشيحة ضخاماً *** جحاجحة يسد بها الثغور».

ورواه في الخرائج: 1/167، وفيه: «وكان المشركون قد أقاموا رقباء على جبالهم ينظرون إلى كل عسكر يخرج إليهم من المدينة على الجادة، فيأخذون حذرهم واستعدادهم، فلما خرج علي ترك الجادة وأخذ بالسرية في الأودية بين الجبال. فلما رأى عمرو بن العاص قد فعل علي ذلك علم أنه سيظفر بهم فحسده، فقال لأبي بكر وعمر ووجوه السرية: إن علياً رجل غِرٌّ لاخبرة له بهذه المسالك، ونحن أعرف بها منه، وهذا الطريق الذي توجه فيه كثير السباع، وسيلقى الناس من معرتها أشد ما يحاذرونه من العدو فاسألوه أن يرجع عنه إلى الجادة!

فعرفوا أميرالمؤمنين (علیه السلام) ذلك، قال: من كان طائعاً لله ولرسوله منكم فليتبعني ومن أراد الخلاف على الله ورسوله فلينصرف عني. فسكتوا وساروا معه، فكان يسير بهم بين الجبال بالليل ويكمن في الأودية بالنهار، وصارت السباع التي فيها كالسنانير، إلى أن كبس المشركين وهم غارُّونَ آمنون وقت الصبح، فظفر بالرجال والذراري والأموال فحاز ذلك كله، وشد الرجال في الحبال كالسلاسل فلذلك سميت غزاة ذات السلاسل.

فلما كانت الصبيحة التي أغار فيها أميرالمؤمنين (علیه السلام) على العدو ومن المدينة إلى هناك خمس مراحل، خرج النبي (صلی الله علیه و آله) وصلى بالناس الفجر وقرأ: وَالْعَادِيَاتِ.. في الركعة الأولى، وقال: هذه سورة أنزلها الله عليَّ في هذا الوقت يخبرني فيها بإغارة علي على العدو».

وقال في الإرشاد: 1/113: غزوة وادي الرمل، ويقال: إنها كانت تسمى بغزوة السلسلة

ص: 392

وفيه/116: «فقال النبي (صلی الله علیه و آله) لبعض من كان معه في الجيش: كيف رأيتم أميركم؟ قالوا: لم ننكر منه شيئاً إلا إنه لم يؤم بنا في صلاة إلا قرأ بنا فيها بقل هو الله أحد! فقال النبي (صلی الله علیه و آله) سأسأله عن ذلك، فلما جاءه قال له: لمَ لم تقرأ بهم في فرائضك إلا بسورة الإخلاص؟فقال: يا رسول الله أحببتها.قال له النبي (صلی الله علیه و آله): فإن الله قد أحبك كما أحببتها. ثم قال له: يا علي لولا أنني أشفق أن تقول فيك طوائف ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت فيك اليوم مقالاً لا تمر بملأ منهم إلا أخذوا التراب من تحت قدميك»!

ورواها فرات في تفسيره/591، وفيه: «وما زال علي ليلته قائماً يصلي حتى إذا كان في السحر قال لهم: إركبوا بارك الله فيكم، قال: فهبط جبرئيل (علیه السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا. فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا. فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا. فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا... فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): تخالط القوم ورب الكعبة».

وفي تفسير فرات/591،«وسار علي فيمن معه متوجهاً نحو العراق وظنوا أنه يريد بهم غير ذلك الوجه حتى أتاهم من الوادي، ثم جعل يسير الليل ويكمن النهار... فقتل منهم مائة وعشرين رجلاً وكان رئيس القوم الحارث بن بشر، وسبى منهم مائة وعشرين ناهداً». وتفسير القمي: 2/434، إعلام الورى: 1/382 وسماها غزوة وادي الرمل. وكشف الغمة: 1/230 وسماها غزاة السلسلة. وكذا العلامة في كشف اليقين/151. وتأويل الآيات: 2/839 و843، عن أبي جعفر (علیه السلام)...

وروى في تفسير فرات/599، رواية مفصلة في سبب نزول سورة العاديات، خلاصتها أن أهل وادي اليابس جمعوا اثني عشر ألفاً لغزو المدينة..

وفي تأويل الآيات: 2/840: «وأمر عليهم أبابكر فسار إليهم، فلقيهم قريباً من الحرة وكانت أرضهم أسنة كثيرة الحجارة والشجر ببطن الوادي والمنحدر إليهم صعب، فهزموه وقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة. فلما قدموا على النبي عقد لعمر بن الخطاب وبعثه، فكمن له بنو سليم بين الحجارة وتحت الشجر، فلما ذهب ليهبط خرجوا عليه ليلاً فهزموه حتى بلغ جنده سيف البحر

ص: 393

فرجع عمر منهم منهزماً. فقام عمرو بن العاص إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: أنا لهم يا رسول الله إبعثني إليهم. فقال له: خذ في شأنك فخرج إليهم فهزموه وقتل من أصحابه ما شاء الله. قال: ومكث رسول الله (صلی الله علیه و آله) أياماً يدعو عليهم..قال أبوجعفر: وكأني أنظر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) شيع علياً عند مسجد الأحزاب وعلي على فرس أشقر مهلوب وهو يوصيه.. فنزلت: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا.. قال: فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يقول: صبَّح عليٌّ والله جمع القوم! ثم صلى وقرأ بها، فلما كان اليوم الثالث قدم علي (علیه السلام) المدينة وقد قتل من القوم عشرين ومائة فارس، وسبى عشرين ومائة ناهد».

أقول: سياق هذه الغزوة كسياق محاصرة حصن خيبر الذي عجز الصحابة عن فتحه، فبعث النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام). وكذلك استقباله لعلي (علیه السلام) ومدحه له يشبه ما قاله في حقه بعد فتح خيبر. وهو يكشف عن خطورة تجمع بني سليم وهم قبيلة كبيرة ومعهم لفيف من غيرهم.

وكان وقتها بعد الحديبية وبعد مؤتة، ومع تحشيد هرقل لغزو المدينة. وقد تكون قريش أو هرقل حرَّكوا بني سليم وأمدوهم ليغزوا المدينة.

2- ملاحظات على تحريفهم ذات السلاسل

1- لم نجد في مصادر السلطة شيئاً عن سبب نزول سورة العاديات إلا قولهم: «بعث (صلی الله علیه و آله) خيلاً فأسهبت شهراً لم يأته منها خبر فنزلت: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا» وهذا كل ما ذكروه! أسباب النزول للواحدي/ 305 والفائق للزمخشري: 2/172.

ولا تعجب فغرضهم إخفاء فرار الفارين وبطولة علي (علیه السلام) ! بل لم يهدأ بالهم حتى جعلوا العاديات الأباعر وليس الخيل! ثم رووه عن علي (علیه السلام) !

قال ابن حجر في فتح الباري: 8/559:«وعند البزار والحاكم من حديث ابن عباس قال بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) خيلاً فلبثت شهراً لا يأتيه خبرها فنزلت: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، ضبحت بأرجلها، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا: قدحت الحجارة فأورت بحوافرها. فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا: صبحت القوم بغارة، فأثَرْنَ به نَقْعاً: التراب. فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا: صبحت القوم

ص: 394

جميعاً. وفي إسناده ضعف، وهو مخالف لما روى ابن مردويه بإسناد أحسن منه! عن ابن عباس قال: سألني رجل عن العاديات فقلت: الخيل، قال فذهب إلى علي فسأله فأخبره بما قلت، فدعاني فقال لي: إنما العاديات الإبل من عرفة إلى مزدلفة.. الخ»!

وفي تفسير القرطبي: 20/155، أن ابن عباس تاب رجع عن قوله بأنها الخيل إلى قول علي (علیه السلام) بأنها الإبل! وفرح ابن حجر بذلك كبقية علماء السلطة، لأنه يغطي غزوة ذات السلاسل ويجعل للإبل حوافر توري بها الصوان قدحاً!

2-«تقع ذات السلاسل من جهة مكة والبحر، ومسافتها عن المدينة خمس مراحل أي خمسة أيام في المتوسط، وكان لبني سليم جواسيس في المدينة فاتجه علي (علیه السلام) أولاً نحو العراق ليخدع جواسيس بني سُليم بأنه متجه إلى العراق لا إليهم، فهم إذن من الجهة المخالفة للعراق أي جهة مكة. وفي رواية: «فهزموه حتى بلغ جنده سيف البحر فرجع عمر منهم منهزماً».«تأويل الآيات: 2/840». ومعناه أنها في جهة البحر الأحمر، ويظهر أنها جبال رضوى وهي منازل بني سليم، «معجم البلدان: 3/181». وقد سمتها بعض رواياتها غزوة بني سليم، قال في كشف الغمة: 1/232: «نزلت في حق علي (علیه السلام) وانتصاره على بني سليم».

بينما جعلتها الحكومات بلاد بلي وعذرة التي تقع في أرض الشام قريب تبوك، وجعلها بعضها في الكاظمة قرب البصرة. أي من الجهة المخالفة جغرافياً.

ويوجد ذات السلاسل قرب كاظمة كما في مكتبة الخرائط:

22http: //sirah.al-islam.com/map-pic.asp?f=mapa

وهو إسم لمنطقة بعد وادي القرى من جهة الشام، بينها وبين المدينة عشرة أيام كما «في الطبقات: 2/131». وسميت بذلك لأن جبالها متموجة كالسلاسل.

3- لاتجد في غزوة ذات السلاسل الحكومية أسماء قتلى ولا وصف قتال! بل تهافتاً في الهدف والنتيجة والأحداث! فهي تقول مرة إن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث ابن

ص: 395

العاص في مئتي فارس إلى أخواله عشيرة أمه النابغة ليدعوهم إلى الإسلام أو يقاتلهم! وأن جمع العدو كان كثيراً فبعث ابن العاص إلى النبي (صلی الله علیه و آله) يطلب مدداً فأمده بأبي عبيدة في ثلاث مئة فيهم أبو بكر وعمر! واختلفوا مع ابن العاص لكنهم أطاعوه، ثم لا تذكر أحداثاً مع عدو ولا معركة! ومع ذلك تقول إن ابن العاص دوخ القبائل، ورجع!

قال ابن هشام: 4/1040: «وغزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من أرض بلي وعذرة، وكان من حديثه أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعثه يستنفر العرب إلى الشام.

وذلك أن أم العاص بن وائل كانت امرأة من بلي، فبعثه رسول الله اليهم يستألفهم لذلك، حتى إذا كان على ماء بأرض جذام، يقال له السلسل وبذلك سميت تلك الغزوة غزوة ذات السلاسل، فلما كان عليه خاف فبعث إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يستمده، فبعث إليه رسول الله أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين فيهم أبو بكر وعمر وقال لأبي عبيدة حين وجهه: لا تختلفا. فخرج أبو عبيدة حتى إذا قدم عليه قال له عمرو: إنما جئت مدداً لي، قال أبو عبيدة: لا، ولكني على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه، وكان أبو عبيدة رجلاً ليناً سهلاً هيناً عليه أمر الدنيا، فقال له عمرو: بل أنت مدد لي، فقال أبو عبيدة: يا عمرو، إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لي: لاتختلفا وإنك إن عصيتني أطعتك، قال: فإني الأمير عليك وأنت مدد لي، قال فدونك، فصلى عمرو بالناس..».

ونحوه الطبري: 2/315، وذكر أن عدد سرية عمرو كان ثلاث مئة، وقال: «فكان جميعهم خمس مائة». ولم يذكر ابن هشام ولا ابن إسحاق ولا الطبري نتيجة هذه الغزوة أو السرية لأنها من أصلها مكذوبة ولا نتيجة ملموسة لها!

وتضحك من كلام ابن سعد في الطبقات: 2/131، قال: «كان عمرو يصلي بالناس، وسار حتى وطأ بلاد بلي ودوخها، حتى أتى إلى أقصى بلادهم وبلاد عذرة وبلقين، ولقي في آخر ذلك جمعاً فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا. ثم قفل»!

4. وذكر رواة السلطة أنها كانت في الشتاء فقد أراد عمر أن يشعل ناراً فنهاه ابن العاص، فكلمه أبو بكر وتصايحا فلم يقبل، وقال من أشعل ناراً ألقيته فيها!

ص: 396

بينما نزلت سورة العاديات في الخيل التي أثارت بحوافرها النقع أي الغبار.

5. في رواية الحكومة أن ابن العاص ذبح بعيراً لآخرين وسلخه وأخذ أجرته من لحمه فأطعمهم، ولما عرف أبو بكر أنه أجرة ذبحه تقيأ ما أكله لأنه حرام! ورووا فيها أن رجلاً إسمه رافع بن عمرو رافق أبابكر فيها فقال له: عظني، فوعظه بما وعظه به النبي (صلی الله علیه و آله) أن يبتعد عن الإمارة كل عمره! ولما سمع ذلك الرجل بأن أبابكر صار خليفة جاء اليه وذكَّره بما قاله فقال له: أجبروني على الخلافة، لأنهم خافوا على المسلمين الفرقة!تاريخ دمشق: 18/10 وابن هشام: 4/104.

وهذا يدل على أنهم كانوا في سرية صغيرة غير ذات السلاسل فجعلوها هي.

ص: 397

الفصل الثاني والستون: غزوة فتح مكة

1- قريش تنقض معاهدة الحديبية

كان بنود المعاهدة: حرية المسلمين في مكة، وحرية قبائل العرب أن تتحالف مع النبي (صلی الله علیه و آله) أو قريش، ووضع الحرب بينهما عشر سنين. وعدم مساعدة المعتدي على أحد الطرفين. وإرجاع النبي (صلی الله علیه و آله) من يأتيه مسلماً منهم. «فلما كتبوا الكتاب قامت خزاعة فقالت: نحن في عهد محمد رسول الله وعقده وقامت بنو بكر فقالت: نحن في عهد قريش وعقدها».القمي: 2/310.

وبذلك جددت خزاعة وكنانة حلف المطيبين بين عبدالمطلب وحلفائه من قريش وخزاعة، وحلف لعقة الدم بين أمية وحلفائهم من قريش وكنانة!

قال اليعقوبي: 1/248: «ولما رأت قريش أن عبدالمطلب قد حاز الفخر، طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزُّوا، وكان أول من طلب ذلك بنو عبدالدار لما رأت حال عبدالمطلب، فمشت بنو عبدالدار إلى بني سهم فقالوا: إمنعونا من بني عبدمناف.. فتطيب بنو عبدمناف، وأسد، وزهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، فسموا حلف المطيبين. فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرةً وقالوا: من أدخل يده في دمها ولعق منه فهو منا! فأدخلت أيديها بنو سهم وبنو عبدالدار وبنو جمح وبنو عدي وبنو مخزوم، فسموا اللعقة. وكان تحالف المطيبين ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضاً. وقالت اللعقة: قد أعتدنا لكل قبيلةٍ قبيلة».

وبعد توقيع معاهدة الحديبية جاءت خزاعة للنبي (صلی الله علیه و آله) بكتاب حلفها مع جده عبدالمطلب (رحمة الله) فأكده. ونصه كما في أنساب الأشراف للبلاذري/46: «باسمك اللهم، هذا ما

ص: 398

تحالف عليه عبدالمطلب بن هاشم، ورجالات عمرو بن ربيعة من خزاعة ومن معهم من أسلم ومالك ابني أفصى بن حارثة، تحالفوا على التناصر والمؤاساة ما بلَّ بحر صوفة، حلفاً جامعاً غير مفرق، الأشياخ على الأشياخ، والأصاغر على الأصاغر، والشاهد على الغائب. وتعاهدوا وتعاقدوا أوكد عهد وأوثق عقد، لا ينقض ولا ينكث، ما أشرقت شمس على ثبير وحن بفلاة بعير، وما قام الأخشبان، وعمر بمكة إنسان، حلف أبد لطول أمد، يزيده طلوع الشمس شداً، وظلام الليل سداً. وإن عبدالمطلب وولده ومن معهم دون سائر بني النضر بن كنانة، ورجال خزاعة، متكافئون متضافرون متعاونون. فعلى عبدالمطلب النصرة لهم ممن تابعه على كل طالب وتر، في بر أو بحر أو سهل أو وعر. وعلى خزاعة النصرة لعبدالمطلب وولده ومن معهم على جميع العرب، في شرق أو غرب، أو حزن أو سهب. وجعلوا الله على ذلك كفيلا، وكفى به حميلاً. هذا حلف عبدالمطلب بن هاشم لخزاعة، إذ قدم عليه سراتهم وأهل الرأي، غائبهم مقر بما قضى عليهم شاهدهم، أن بيننا وبينك عهود الله وعقوده ما لا ينسى أبداً ولا يأتي بلداً، اليد واحدة، والنصر واحد ما أشرف ثبير وثبت حراء وما بل بحر صوفه، لا يزداد فيما بيننا وبينكم إلا تجدداً أبداً أبد الدهر سرمد».

جاءت به خزاعة للنبي (صلی الله علیه و آله) «فقرأه عليه أبي بن كعب فقال: ما أعرفني بحلفكم وأنتم على ما أسلمتم عليه من الحلف، فكل حلف كان في الجاهلية، فلا يزيده الإسلام إلا شدة، ولاحلف في الإسلام». مكاتيب الرسول: 3/234.

وكانوا أخوال بني هاشم، فأم وهب والد آمنة خزاعية، وأم عبدمناف خزاعية وأم لؤي خزاعية. وكانوا يتعاطفون مع النبي (صلی الله علیه و آله) وينصحون له ويخبرونه أخبار قريش، وعرفوا بأنهم: «عَيْبَة نصح رسول الله (صلی الله علیه و آله)».مكاتيب الرسول: 3/133. وعيبة النصح تشبيه للمملوء نصحاً بصرة الثياب المملوءة.

أما كنانة فكانت مع مشركي قريش كخزاعة مع بني هاشم، وكان بينها وبين خزاعة عداوة وثارات فقامت كنانة بعملية مباغتة تشبه المجزرة، فهاجمت بيوت

ص: 399

خزاعة خارج الحرم وداخله وقتلت منهم أكثر من عشرين رجالاً ونساء وأطفالاً وساعدتها قريش بالسلاح وبمقاتلين ملثمين، فنقضت بذلك معاهدة الحديبية! وكانت الشرارة أن كنانياً هجا النبي (صلی الله علیه و آله) فضربه خزاعي.إعلام الورى: 1/215.

وقَبِلَ الجميع رواية الواقدي/469، وخلاصتها: «أنس بن زنيم الديلي هجا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسمعه غلامٌ من خزاعة فوقع به فشجه، فخرج إلى قومه فأراهم شجته، فثار الشر، مع ما كان بينهم.. فلما دخل شعبان على رأس اثنين وعشرين شهراً من صلح الحديبية، تكلمت بنو نفاثة من بني بكر أشراف قريش..أن يعينوا بالرجال والسلاح على عدوهم من خزاعة، وذكروهم القتلى الذين أصابت خزاعة لهم.. فوجدوا القوم إلى ذلك سراعاً، إلا أبا سفيان لم يشاور في ذلك ولم يعلم، ويقال إنهم ذاكروه فأبى عليهم..فأعانوهم بالسلاح والكراع والرجال، ودسوا ذلك سراً لئلا تحذر خزاعة.. ثم اتعدت قريش الوتير موضعاً بمن معها فوافوا للميعاد، فيهم رجالٌ من قريش من كبارهم متنكرون متنقبون: صفوان بن أمية، ومكرز بن حفص بن الأخيف، وحويطب بن عدب العزى، وأجلبوا معهم أرقاءهم ورأس بني بكر نوفل بن معاوية الدؤلي، فبيتوا خزاعة ليلاً وهم غارُّون آمنون من عدوهم، فلم يزالوا يقتلونهم حتى انتهوا بهم إلى أنصاب الحرم فقالوا: يا نوفل إلهك إلهك، قد دخلت الحرم! قال: لا إله لي اليوم! يا بني بكر، قد كنتم تسرقون الحاج، أفلا تدركون ثأركم من عدوكم! فلما انتهت خزاعة إلى الحرم دخلت دار بديل بن ورقاء، ودخلت رؤساء قريش في منازلهم وهم يظنون ألا يعرفوا وألا يبلغ هذا محمداً!

وجاء الحارث بن هشام، وابن أبي ربيعة، إلى صفوان بن أمية، وإلى سهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، فلاموهم فيما صنعوا من عونهم بني بكر وأن بينكم وبين محمد مدة وهذا نقضٌ لها! ومشيا إلى أبي سفیان فقالا: والله لئن لم يصلح هذا الأمر لايروعكم إلا محمد في أصحابه! فقال: لا والله ما شوورت ولا هويت حيث بلغني! والله ليغزونا محمدٌ إن صدقني ظني وهو صادقي. وما لي بدٌّ أن آتي محمداً فأكلمه أن يزيد في الهدنة ويجدد العهد قبل أن يبلغه هذا الأمر. فقالت قريش: قد والله أصبت

ص: 400

الرأي! وندمت قريش على ما صنعت، فخرج أبوسفيان وخرج معه مولىً له على راحلتين فأسرع السير وهو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله. وقدم ركب خزاعة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره بمن قتل منهم، قال رسول الله: فمن تُهمتكم وظِنَّتُكم؟ قالوا: بنو بكر. قال: كلها؟ قالوا: لا ولكن تهمتنا بنو نفاثة قَصْرةً «كلهم»ورأس القوم نوفل بن معاوية النفاثي.

قال (صلی الله علیه و آله): هذا بطنٌ من بني بكر، وأنا باعثٌ إلى أهل مكة فسائلهم عن هذا الأمر ومخيرهم في خصال. فبعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى ثلاث خلال: بين أن يَدُوا خزاعة، أو يبرؤوا من حلف نفاثة، أو ينبذ إليهم على سواء.

فقال قرطة بن عبد عمرو: لا والله لا يودون، ولا نبرأ من حلف نفاثة بن الغوث وهم بناء وأعمدة لشدتنا، ولكن ننبذ إليه على سواء! فأخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالأنقاب وعمَّى عليهم الأخبار، حتى دخلها فجاءةً!

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قد حرت في أمر خزاعة! فقالت عائشة: يا رسول الله أترى قريشاً تجترئ على نقض العهد بينكم وبينهم، وقد أفناهم السيف؟

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ينقضون العهد لأمرٍ يريده الله تعالى بهم. قالت عائشة: خيرٌ أو شرٌّ يا رسول الله؟ قال: خيرٌ»!

وإذا صح قوله (صلی الله علیه و آله) «حِرْتُ في أمر خزاعة» فمعناه: همَّني ذلك، وليس التحير في تفسيره أو فيما يعمل. ولعله (صلی الله علیه و آله) قاله ليحير قريشاً، فلا تدري ماذا ينوي.

2- خزاعة تطالب النبي (صلی الله علیه و آله) بنصرتها وفاءً بحلفهم

قال في الصحيح من السيرة: 21/64 ملخصاً: «ذكر المؤرخون قدوم بديل بن ورقاء على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليخبره بالمجزرة التي ارتكبتها كنانة وقريش في بيته وعلى باب داره، في حق رجال وصبيان ونساء، وذكروا أيضاً لقاءه أبا سفيان في عسفان حين كان أبوسفيان متوجهاً إلى المدينة، وبديل عائد منها.

وكانت مبادرة بديل بن ورقاء محاطة منه وممن معه بسرية تامة.. ولذلك لم يستطع أبوسفيان معرفة حقيقة الأمر، فسكت عليه. كما قدم عمرو بن سالم

ص: 401

الخزاعي في أربعين راكباً من خزاعة يستنصرون رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخبروه بالخبر، فلما فرغوا من قصتهم، قام عمرو بن سالم، فقال:

يا رب إني ناشدٌ محمدا *** حِلْفَ أبينا وأبيه الأتلدا

قد كنتمُ ولداً وكنا والدا *** ثَمَّتَ أسلمنا فلم ننزعْ يدا

إن قريشاً أخلفوك الموعدا *** ونقضوا ميثاقَك المؤكدا

وزعموا أن لست أدعو أحدا *** هم أذلُّ وأقلُّ عددا

هم بيَّتونا بالوتير هُجَّدا *** وقتلونا رُكَّعاً وسُجَّدا

وجعلوا لي في كداء رصدا *** فانصر رسول الله نصراً أيدا

وادعُ عباد الله يأتوا مددا *** فيهم رسول الله قد تجردا

إن سِيمَ خسفاً وجهُهُ تربَّدا *** في فيلق كالبحر يجري مُزبدا

قرمٌ لقرم من قروم أصيدا

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): حسبك يا عمرو، ودمعت عيناه. أو قال: نُصرت ياعمرو بن سالم. فلما فرغ الركب قالوا: يا رسول الله، إن أنس بن زنيم الديلي قد هجاك فهدر رسول الله دمه! فبلغ أنس بن زنيم ذلك، فقدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) معتذراً عما بلغه فقال قصيدة منها:

فما حملت من ناقة فوق رحلها *** أبرُّ وأوفى ذمة من محمد

وبلغت رسول الله قصيدته واعتذاره، وكلم نوفل بن معاوية الديلي النبي (صلی الله علیه و آله) فيه فقال له: أنت أولى الناس بالعفو، ومن منا لم يعادك ولم يؤذك؟ ونحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ وما ندع، حتى هدانا الله بك من الهلكة، وقد كذب عليه الركب وكثَّروا عندك! فقال (صلی الله علیه و آله): دع الركب فإنَّا لم نجد بتهامة أحداً من ذي رحم ولا بعيداً كان أبرَّ بنا من خزاعة، فأسكت نوفل بن معاوية!

فلما سكت قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قد عفوت عنه. فقال نوفل: فداك أبي وأمي.

وقالوا إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لعمرو بن سالم وأصحابه: إرجعوا وتفرقوا في الأودية،

ص: 402

مخافة اكتشاف قريش لهم وانتقامها منهم فرجعوا وتفرقوا، وذهبت فرقة إلى الساحل بعارض الطريق، ولزم بديل بن ورقاء في نفر من قومه الطريق».

3- أحست قريش بجريمتها فحاولت أن تسترضي النبي (صلی الله علیه و آله)

قال المفيد (رحمة الله) في الإرشاد: 1/132: «ولما دخل أبوسفيان المدينة لتجديد العهد بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين قريش، عندما كان من بني بكر في خزاعة وقتلهم من قتلوا منها، فقصد أبوسفيان ليتلافى الفارط من القوم، وقد خاف من نصرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) لهم، وأشفق مما حل بهم يوم الفتح، فأتى النبي (صلی الله علیه و آله) وكلمه في ذلك فلم يردد عليه جواباً، فقام من عنده فلقيه أبو بكر فتشبث به وظن أنه يوصله إلى بغيته من النبي (صلی الله علیه و آله) فسأله كلامه له فقال: ما أنا بفاعل، لعلم أبي بكر بأن سؤاله في ذلك لا يغني شيئاً، فظن أبوسفيان بعمر بن الخطاب ما ظنه بأبي بكر فكلمه في ذلك فدفعه بغلظة وفظاظة، كادت أن تفسد الرأي على النبي (صلی الله علیه و آله).

فعدل إلى بيت أميرالمؤمنين (علیه السلام) فاستأذن عليه فأذن له وعنده فاطمة والحسن والحسين: فقال له: يا علي، إنك أمسُّ القوم بي رحماً وأقربهم مني قرابة، وقد جئتك فلا أرجعن كما جئت خائباً! إشفع لي إلى رسول الله فيما قصدته.فقال له: ويحك يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله (صلی الله علیه و آله) على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه! فالتفت أبوسفيان إلى فاطمة (علیها السلام) فقال لها: يا بنت محمد، هل لك أن تأمري ابنيك أن يجيرا بين الناس فيكونا سيدي العرب إلى آخر الدهر؟ فقالت: ما بلغ بنياي أن يجيرا بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله (صلی الله علیه و آله).

فتحير أبوسفيان وسقط في يده، ثم أقبل على أميرالمؤمنين (علیه السلام) فقال: يا أبا الحسن، أرى الأمور قد التبست عليَّ فانصح لي. فقال له أميرالمؤمنين: ما أرى شيئاً يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك. قال: فترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال: لا والله لا أظن، ولكني لا أجد لك غير ذلك. فقام أبوسفيان في المسجد فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره فانطلق!

ص: 403

فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته فوالله ما رد علي شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم لقيت ابن الخطاب فوجدته فظاً غليظاً لا خير فيه، ثم أتيت علياً فوجدته ألين القوم لي، وقد أشار في بشئ فصنعته، والله ما أدري يغني عني شيئاً أم لا، فقالوا: بمَ أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت. فقالوا له: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلك والله ما زاد الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنك؟

قال أبوسفيان: لا والله ما وجدت غير ذلك».

ونحوه في مغازي الواقدي/475، وفيه: «فقام بين ظهري الناس فصاح: ألا إني قد أجرت بين الناس ولا أظن محمداً يخفرني! ثم دخل على النبي فقال: يا محمد ما أظن أن ترد جواري! فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أنت تقول ذاك يا أبا سفيان. لم يزد على ذلك»!

يبقى سؤال: كيف دخل أبوسفيان إلى المدينة، وهو رأس الأحزاب وإمام أئمة الكفر؟ والجواب: أن الهدنة كانت نوعاً من الأمان تسمح بالذهاب والمجئ بين المسلمين والقرشيين، ولا بد أنه أرسل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) يستأذن في المجئ.

4- النبي (صلی الله علیه و آله) يتجهز لغزو مكة ويخفي مقصده

قرر النبي (صلی الله علیه و آله) غزو مكة وفتحها، وأراد أن يكون ذلك مفاجأةً لقريش، ولذلك دعا الله تعالى: «اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش، حتى نَبْغَتَهَا في بلادها».مناقب آل أبي طالب: 1/177 وابن هشام: 4/857.

لكن كيف يمكن تجهيز جيش من ألوف والمسير به إلى مكة بدون أن تشعر قريش؟ هنا كان الإعجاز، مضافاً إلى ما قام النبي (صلی الله علیه و آله) وهو ما يلي:

1- حرص أن لايقول كلاماً يفهم منه العفو عن قريش، وفي نفس الوقت أن لا يصرح بأنه سيغزوهم بسبب نقضهم للعهد!

2- سكت (صلی الله علیه و آله) عن الأمر فترة: «مكث بعد خروج أبي سفیان ما شاء الله أن يمكث، ثم قال لعائشة: جهزينا وأخفي أمرك».الصحيح من السيرة: 21/139.

ص: 404

3- ثم أصدر أمره بالتجهز للغزو ولم يفصح إلى أين: «وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهي تحرك بعض جهاز رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: أي بنية أأمركم رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن تجهزوه؟ قالت: نعم فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري».ابن هشام: 4/857.

4- أرسل إلى القبائل أن يوافوه في شهر رمضان للذهاب في غزوة ولم يخبرهم أين: «ودعا رئيس كل قوم، فأمره أن يأتي قومه فيستنفرهم».إعلام الورى: 1/219.

5- وأمر بضبط الداخل إلى المدينة والخارج منها: «وضع حرساً على المدينة، وكان على الحرس حارثة بن النعمان».إعلام الورى: 1/216.

ولكن ذلك لم يكن كافياً بسبب فعالية قريش، وكثرة المنافقين المرتبطين بها، ولذلك احتاج الأمر إلى تدخل جبرئيل (علیه السلام).

5- الوَحْيُ يكشف خيانة بعض الصحابة

في تفسير القمي: 2/361: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ.. نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، ولفظ الآية عام ومعناها خاص. وكان سبب ذلك أن حاطب بن أبي بلتعة كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة، وكان عياله بمكة، وكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فصاروا إلى عيال حاطب وسألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألوه عن خبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهل يريد أن يغزو مكة؟ فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك، فكتب إليهم حاطب إن رسول الله يريد ذلك، ودفع الكتاب إلى امرأة تسمى صفية، فوضعته في قرنها ومرَّت، فنزل جبرئيل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره بذلك، فبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) أميرالمؤمنين (علیه السلام) والزبير بن العوام في طلبها فلحقوها فقال لها أميرالمؤمنين: أين الكتاب؟ فقالت: ما معي! ففتشوها فلم يجدوا معها شيئاً، فقال الزبير: ما نرى معها شيئاً، فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): والله ما كذَبَنَا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا كذَبَ رسول الله (صلی الله علیه و آله) على جبرئيل، ولا كذب جبرئيل على الله جل ثناؤه! والله لتظهرن لي الكتاب أو

ص: 405

لأوردن رأسك إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فقالت: تنحيا حتى أخرجه فأخرجت الكتاب من قرنها، فأخذه أميرالمؤمنين وجاء به إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا حاطب ما هذا؟ فقال حاطب: والله يا رسول الله ما نافقت ولا غيرت ولا بدلت، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله حقاً، ولكن أهلي وعيالي كتبوا إليّ بحسن صنيع قريش إليهم، فأحببت أن أجازي قريشاً بحسن معاشرتهم! فأنزل الله جل ثناؤه على رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ... إلى آخر سورة الممتحنة.

وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (علیه السلام): فإن الله أمر نبيه والمؤمنين بالبراءة من قومهم ما داموا كفاراً فقال: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ.. إلى قوله: وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قطع الله عزوجل ولاية المؤمنين منهم وأظهروا لهم العداوة فقال: عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً، فلما أسلم أهل مكة خالطهم أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وناكحوهم».

وفي الإرشاد: 1/56:«فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة يخبرهم بعزيمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) على فتحها، وأعطى الكتاب امرأة سوداء كانت وردت المدينة تستميح بها الناس وتستبرهم، وجعل لها جعلاً على أن توصله إلى قوم سماهم لها من أهل مكة، وأمرها أن تأخذ على غير الطريق. إلى أن قال: فأخذه أميرالمؤمنين (علیه السلام) وصار به إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأمر أن ينادي بالصلاة جامعة، فنودي في الناس فاجتمعوا إلى المسجد حتى امتلأ بهم، ثم صعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) المنبر وأخذ الكتب بيده وقال: أيها الناس، إني كنت سألت الله عزوجل أن يخفي أخبارنا عن قريش، وإن رجلاً منكم كتب إلى أهل مكة يخبرهم بخبرنا فليقم صاحب الكتاب وإلا فضحه الوحي! فلم يقم أحد فأعاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) مقالته ثانية، وقال: ليقم صاحب الكتاب وإلا فضحه الوحي! فقام حاطب بن

أبي بلتعة وهو يرعد كالسعفة في يوم الريح العاصف، فقال: يا رسول الله أنا صاحب الكتاب، وما أحدثت نفاقاً بعد إسلامي ولا شكاً بعد يقيني. فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): فما الذي حملك على أن كتبت هذا الكتاب؟ فقال: يا رسول الله إن لي أهلاً بمكة وليس

ص: 406

لي بها عشيرة، فأشفقت أن تكون الدائرة لهم علينا فيكون كتابي هذا كفاً لهم عن أهلي ويداً لي عندهم، ولم أفعل ذلك لشك في الدين. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله مرني بقتله فإنه قد نافق! فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إنه من أهل بدر ولعل الله تعالى اطلع عليهم فغفر لهم، أخرجوه من المسجد. قال: فجعل الناس يدفعون في ظهره حتى أخرجوه، وهو يلتفت إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ليرق عليه، فأمر النبي برده وقال له: قد عفوت عنك وعن جرمك، فاستغفر ربك ولا تعد لمثل ما جنيت»!

وفي المسترشد للطبري الشيعي/540،أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لعمر: «أتريد يا عمر أن تقول العرب إن محمداً يقتل أصحابه»؟!

أقول: تقدم أن ابن بلتعة كان مبعوث النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المقوقس، وكان تاجراً له معرفة بمصر، وكان يمانياً من لخم، متحالفاً مع بني أسد عبدالعزى القرشيين.

وفي المبسوط للطوسي: 2/15: «وإذا تجسس مسلم لأهل الحرب..وللإمام أن يعفو عنه، وله أن يعزره لأن النبي (صلی الله علیه و آله) عفا عن حاطب».

ورووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لعمر: «وما يدریك يا عمر لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر، فقال إعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم»!ابن هشام: 4/858.

كما روت مصادرنا عن علي (علیه السلام) ذماً لابن بلتعة. تأويل الآيات: 2/465 والجمل/208.

وذكر الثعلبي في تفسيره: 9/291،«أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان سأل سارة السوداء التي حملت الكتاب: أمسلمة جئت؟ قالت: لا، قال: أمهاجرة جئت؟ قالت: لا، قال: فما جاء بك؟ قالت: كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهبت مواليَّ واحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني، فقال لها: فأين أنت من شباب مكة وكانت مغنية نائحة! قالت: ما طلب مني شئ بعد وقعة بدر! فحث رسول الله (صلی الله علیه و آله) بني عبدالمطلب وبني المطلب، فكسوها وأعطوها نفقة».

كما روت مصادر السلطة أن أبابكر حاول أن يعرف قصد النبي (صلی الله علیه و آله) وهل يقصد غزو قريش أو غيرها، وسأل النبي (صلی الله علیه و آله) وألحَّ بالسؤال.

وروى الواقدي: 2/796 والمقريزي في الإمتاع: 1/352 أن أبابكر سأل النبي (صلی الله علیه و آله):

ص: 407

«يا رسول الله أردت سفراً؟ قال رسول الله: نعم. قال: أفأتجهز؟ قال: نعم. قال أبو بكر: وأين تريد يا رسول الله؟ قال: قريشاً وأخفِ ذلك يا أبابكر! وأمر رسول الله بالجهاز قال: أوليس بيننا وبينهم مدةٌ قال: إنهم غدروا ونقضوا العهد فأنا غازيهم. وقال لأبي بكر: إطو ما ذكرت لك! فظانٌّ يظن أن رسول الله يريد الشام وظانٌّ يظن ثقيفاً وظانٌّ يظن هوازن».

وقال صاحب الصحيح: 21/129 إن أبابكر وعائشة عرفا قصد النبي (صلی الله علیه و آله) وأفشيا سره، لكن خيانة حاطب بن أبي بلتعة متفق عليها!

أما خيانة غيره، فإن صحت، فقد عولجت وبقيت مخفية.

6- جاءت القبائل إلى المدينة وتحرك النبي (صلی الله علیه و آله) إلى مكة

سبب توافد القبائل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) أنهم أحسوا بعد انتصاراته (صلی الله علیه و آله) وصلح الحديبية أن ميزان القوة تحول إلى جانبه، فأخذوا يدخلون في الإسلام أو يتقربون اليه، ويطمعون أن يشاركوه في حروبه لينالوا من الغنائم!

وخرج النبي (صلی الله علیه و آله) بالناس ولم يعلن عن مقصده: «ولما انتهى إلى قٌدَيد قيل له: يا رسول الله هل لك في بيض النساء وأدم الإبل، بني مدلج؟ فقال (صلی الله علیه و آله) إن الله عزوجل حرَّمهن عليَّ بصلة الرحم».الصحيح: 21/233.

أقول: بنو مدلج عند ينبع، عشيرة من بني كنانة، وكان النبي (صلی الله علیه و آله) غزاهم في ذات العشيرة، وكتب معهم صلحاً أن يكونوا حياديين. وقد مدح نساءهم بصلة الرحم. وعرف بنو مدلج بأن فيهم خبراء في القيافة.

قال في الصحيح من السيرة: 21/215ملخصاً: «خرج النبي (صلی الله علیه و آله) في المهاجرين والأنصار وطوائف من العرب وقادوا الخيل وامتطوا الإبل، وقدَّم أمامه جريدة من الخيل الزبير بن العوام في مائة فارس.. ولما بلغ قديداً لقيته سُليم هناك فعقد الألوية والرايات ودفعها إلى القبائل.وقبل أن يصل النبي (صلی الله علیه و آله) إلى مكة وجد عيناً لهوازن، فاعترف أنهم يجمعون جيشاً لحربه فأمر بحبسه، فظن الظانون أنه يقصد هوازن.وجاءه عيينة بن حصن رئيس بني فزارة لأنه سمع وهو بنجد أن النبي (صلی الله علیه و آله) قاصد وجهاً وأن العرب تجتمع اليه، فوصل

ص: 408

اليه وهو في الطريق في القديد، فسأله عن مقصده فأجابه: إلى حيث يشاء الله!

وقد بالغوا في عدد جيش النبي (صلی الله علیه و آله) فقالوا كان عشرة آلاف، وقد يكون جيشه بلغ ستة آلاف. وقال بعضهم كان الأنصار أربعة آلاف معهم خمس مائة فرس، ومزينة ألفاً وفيها مائة فرس، وأسلم أربع مائة معها ثلاثون فرساً، وجهينة ثمان مائة معها خمسون فرساً، وبني سليم سبع مائة، وغفار أربع مائة، وأسلم أربع مائة، وطوائف من العرب من تميم وقيس وأسد.»راجع: الصحيح: 21/230.

7- فاجأ النبي (صلی الله علیه و آله) قريشاً وعسكر قرب مكة

عسكر النبي (صلی الله علیه و آله) بجيشه في «مَرّ الظهران» وهو قرب عرفات، وكان ذلك مفاجأة لقريش، فأسقط في يد زعمائها لأنهم لايريدون الخضوع له، ولا طاقة لهم بحربه! فسارع أبوسفيان بالذهاب إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ليتفاوض معه.

قال في إعلام الورى: 1/218: «سار حتى نزل مرَّ الظهران ومعه نحو من عشرة آلاف رجل ونحو من أربعمائة فارس، وقد عميت الأخبار من قريش، فخرج في تلك الليالي أبوسفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء هل يسمعون خبراً، وقد كان العباس بن عبدالمطلب خرج يتلقى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعه أبوسفيان بن الحارث «ابن عم النبي (صلی الله علیه و آله)» وعبدالله بن أبي أمية «أخ أم سلمة» وقد تلقاه بنيق العقاب، ورسول الله (صلی الله علیه و آله) في قبته وعلى حرسه يومئذ زياد بن أسيد، فاستقبلهم زياد فقال: أما أنت يا أبا الفضل فامض إلى القبة، وأما أنتما فارجعا. فمضى العباس حتى دخل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسلم عليه وقال: بأبي أنت وأمي هذا ابن عمك قد جاء تائباً وابن عمتك. قال: لا حاجة لي فيهما إن ابن عمي انتهك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي يقول بمكة: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا. فلما خرج العباس كلمته أم سلمة وقالت: بأبي أنت وأمي ابن عمك قد جاء تائباً لايكون أشقى الناس بك، وأخي ابن عمتك وصهرك فلا يكونن شقياً بك! ونادى أبوسفيان بن الحارث النبي (صلی الله علیه و آله): كن لنا كما قال العبدالصالح: لاتَثْرِيبَ عَلَيْكم! فدعاه وقبل منه، ودعا عبدالله بن أبي أمية، فقبل منه.

ص: 409

وقال العباس: هو والله هلاك قريش إلى آخر الدهر إن دخلها رسول الله (صلی الله علیه و آله) عُنْوَةً قال: فركبت بغلة رسول الله (صلی الله علیه و آله) البيضاء وخرجت أطلب الحطَّابة أو صاحب لبَن لعلي آمره أن يأتي قريشاً فيركبون إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يستأمنون إليه، إذ لقيت أبا سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام، وأبوسفيان يقول لبديل: ما هذه النيران؟ قال: هذه خزاعة. قال: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانهم! ولكن لعل هذه تميم أو ربيعة! قال العباس: فعرف صوت أبي سفیان، فقلت: أبا حنظلة؟ قال: لبيك فمن أنت؟ قلت: أنا العباس، قال: فما هذه النيران فداك أبي وأمي قلت: هذا رسول الله (صلی الله علیه و آله) في عشرة آلاف من المسلمين قال: فما الحيلة؟ قال: تركب في عجز هذه البغلة، فأستأمن لك رسول الله (صلی الله علیه و آله). قال: فأردفته خلفي ثم جئت به، فكلما انتهيت إلى نار قاموا إليَّ فإذا رأوني قالوا: هذا عم رسول الله خلوا سبيله، حتى انتهيت إلى باب عمر فعرف أبا سفيان فقال: عدو الله الحمد الله الذي أمكن منك، فركضت البغلة حتى اجتمعنا على باب القبة، ودخل عمر على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: هذا أبوسفيان قد أمكنك الله منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه! قال العباس: فجلست عند رأس رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقلت: بأبي أنت وأمي أبوسفيان قد أجرته. قال: أدخله فدخل فقام بين يديه فقال: ويحك يا أبا سفيان أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أكرمك وأوصلك وأحلمك، أما الله لو كان معه إله لأغنى يوم بدر ويوم أحد، وأما أنك رسول الله فوالله إن في نفسي منها لشيئاً! قال العباس: يضرب والله عنقك الساعة أو تشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله!قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، تلجلج بها فوه!

فقال أبوسفيان للعباس: فما نصنع باللات والعزى؟ فقال له عمر: إسلح عليهما. فقال أبوسفيان: أفٍّ لك ما أفحشك! ما يدخلك يا عمر في كلامي وكلام ابن عمي؟! فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): عند من تكون الليلة؟ قال: عند أبي الفضل. قال: فاذهب به يا أبا الفضل فأبته عندك الليلة، واغد به عليَّ. فلما أصبح سمع بلالاً يؤذن قال: ما هذا المنادي يا أبا الفضل؟ قال: هذا مؤذن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، قم فتوضأ وصل، قال: كيف

ص: 410

أتوضأ؟ فعلمه. قال: ونظر أبوسفيان إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وهو يتوضأ وأيدي المسلمين تحت شعره، فليس قطرة تصيب رجلاً منهم إلا مسح بها وجهه فقال: بالله إن رأيت كاليوم قط كسرى ولا قيصر!

فلما صلى غدا به إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله إني أحب أن تأذن لي بالذهاب إلى قومك فأنذرهم وأدعوهم إلى الله ورسوله فأذن له، فقال العباس: كيف أقول لهم بين لي من ذلك أمراً يطمئنون إليه؟ فقال (صلی الله علیه و آله): تقول لهم: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً رسول الله وكف يده، فهو آمن. ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه، فهو آمن. فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فلو خصصته بمعروف؟

فقال (صلی الله علیه و آله): من دخل دار أبي سفیان فهو آمن. قال أبوسفيان: داري؟! قال: دارك! ثم قال: من أغلق بابه فهو آمن. ولما مضى أبوسفيان قال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل من شأنه الغدر، وقد رأى من المسلمين تفرقاً. قال: فأدركه واحبسه في مضايق الوادي حتى يمر به جنود الله. قال: فلحقه العباس فقال: أبا حنظلة! قال: أغدراً يا بني هاشم؟ قال: ستعلم أن الغدر ليس من شأننا ولكن اصبر حتى تنظر إلى جنود الله..».

وفي الصحيح من السيرة: 22/17، ملخصاً: «وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) منادياً ينادي: لتصبح كل قبيلة قد أرحلت ووقفت مع صاحبها عند رايته، وتظهر ما معها من الأداة والعدة! فأصبح الناس على ظهر، وقدَّم بين يديه الكتائب. ومرت القبائل على قادتها والكتائب على راياتها، وكان أول من قدم خالد بن الوليد في بني سليم وهم ألف ومعهم لواءان وراية، فلما مروا بأبي سفیان كبروا ثلاث تكبيرات، ثم مضوا! فقال أبوسفيان: يا عباس هذا رسول الله؟ قال: لا، ولكن هذا خالد بن الوليد في المقدمة. قال: الغلام؟قال: نعم. قال: ومن معه؟ قال: بنو سليم. قال: ما لي وبني سليم!

ثم مر على أثره الزبير بن العوام في خمس مائة من المهاجرين وأفناء العرب

ص: 411

ومعه راية سوداء. فلما مروا بأبي سفیان كبروا ثلاثاً! فقال أبوسفيان: من هؤلاء؟ قال: هذا الزبير بن العوام. قال: ابن أختك؟ قال: نعم.

ثم مرت بنو غفار في ثلاث مائة يحمل رايتهم أبوذر، فلما حاذوه كبروا ثلاثاً! فقال أبوسفيان: من هؤلاء؟ قال: بنو غفار. قال: ما لي ولبني غفار؟

ثم مرت أسلم في أربع مائة فيها لواءان، فقال: من هؤلاء؟ قال العباس: أسلم. قال: ما لي ولأسلم؟ ما كان بيننا وبينهم تِرَةٌ قط! قال العباس: هم قوم مسلمون دخلوا في الإسلام. ثم مرت بنو كعب بن عمرو«من خزاعة» في خمس مائة يحمل رايتهم بسر بن سفيان فقال: من هؤلاء؟ قال العباس: بنو عمرو بن كعب بن عمرو إخوة أسلم. قال: نعم هؤلاء حلفاء محمد! ثم مرت مزينة في ألف فيها ثلاثة ألوية ومائة فرس، قال: من هؤلاء؟ قال العباس: مزينة. قال: ما لي ولمزينة؟ قد جاءتني تقعقع من شواهقها!

ثم مرت جهينة في ثمان مائة فيها أربعة ألوية فقال: من هؤلاء؟ قال: جهينة. قال: ما لي ولجهينة؟ ثم مرت كنانة بنو ليث وضمرة وسعد بن بكر في مائتين، فقال: من هؤلاء؟ قال العباس: بنو بكر. قال: نعم أهل شؤم والله! هؤلاء الذين غزانا محمد بسببهم! أما والله ما شُووِرت فيهم ولا علمته، ولكنه أمر حُتِم!

ثم مرت أشجع وهم آخر من مر، وهم ثلاث مائة معهم لواءان، قال العباس: هؤلاء أشجع. قال أبوسفيان: هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد! ثم قال أبوسفيان: أبعدُ ما مضى محمد؟ فقال العباس: لا، لم يمض بعد لو أتت الكتيبة التي فيها محمد رأيت فيها الحديد والخيل والرجال، وما ليس لأحد به طاقة. قال: ومن له بهؤلاء طاقة؟ حتى طلعت كتيبة رسول الله (صلی الله علیه و آله) الخضراء التي فيها المهاجرون والأنصار، مع كل بطن من بطون الأنصار لواء وراية، وهم في الحديد لايرى منهم إلا الحدق، وعمر بن الخطاب يقول: رويداً حتى يلحق أولكم آخركم. فقال أبوسفيان: يا أبا الفضل من هذا المتكلم؟! قال: عمر بن الخطاب. فقال أبوسفيان: لقد أَمِرَ أَمْرُ بني عدي، بعد والله، قلة وذلة!«يقصد مشى أمرهم وصار منهم شخص مذكوراً». وأعطى رسول الله (صلی الله علیه و آله) رايته سعد بن عبادة، فلما مر براية رسول الله (صلی الله علیه و آله) نادى «سعد» أبا

ص: 412

سفيان فقال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحَل الحرمة، اليوم أذل الله قريشاً».

8- أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) الأمان إلى أهل مكة مع أبي سفیان

«قال النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي سفیان: تقدم إلى مكة فأعلمهم الأمان. قال العباس: فقلت لأبي سفیان: أُنج ويحك فأدرك قومك قبل أن يدخل عليهم رسول الله (صلی الله علیه و آله). فخرج أبوسفيان فتقدم الناس كلهم حتى دخل مكة من كداء، فصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، أسلموا تسلموا، من دخل دار أبي سفیان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغني دارك؟! قال: ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فقامت إليه هند بنت عتبة زوجته فأخذت بشاربه وقالت: أقتلوا الحميت الدسم الأحمس، قُبِّح من طليعة قوم! فقال أبوسفيان: ويلكم لاتغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به!.. البيوت البيوت، من أغلق بابه فهو آمن، من دخل داري فهو آمن. فعرفت هند فأخذت تطردهم، فقال لها: ويلك إني رأيت ذات القرون ورأيت فارس أبناء الكرام، ورأيت ملوك كندة وفتيان حمير يسلمون آخر النهار، ويلك أسكتي، فقد والله جاء الحق ودنت البلية. فجعل الناس يقتحمون الدور ويغلقون عليهم».الصحيح: 22/58و85.

9- نصب النبي (صلی الله علیه و آله) خيمته عند قبر خديجة (علیها السلام) !

أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) الزبير بن العوام أن يدخل من كداء من أعلى مكة، وأن يغرز رايته بالحجون، أي عند قبر خديجة (علیها السلام)، ولا يبرح حتى يأتيه.

وأمر خالداً وكان على المجنبة اليمنى وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من العرب، أن يدخل من الليط موضع بأسفل مكة، وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت، وبها بنو بكر، وبنو الحارث بن عبد مناة، والأحابيش الذين استنفرتهم قريش.

وأمر سعد بن عبادة أن يدخل من كداء والراية مع ابنه قيس، وأمرهم أن يكفوا أيديهم، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم.

ص: 413

وأقبل (صلی الله علیه و آله) في كتيبته الخضراء، وعليه عمامة سوداء وقد أرخى طرفها بين كتفيه وهو على ناقته القصواء، فاستشرفه الناس فوضع رأسه على رحله متخشعاً، وقد طأطأ رأسه تواضعاً لله تعالى، وهو يقرأ سورة الفتح يرجع بها صوته، ثم قال: اللهم إن العيش عيش الآخرة. ومضى (صلی الله علیه و آله) فدخل من أذاخر بأعلى مكة يوم الإثنين، وكان أبو رافع قد ضرب له قبة من أدم بالحجون، فأقبل رسول الله حتى انتهى إلى القبة، ومعه أم سلمة وميمونة زوجتاه.

وأقبل الزبير بمن معه من المسلمين حتى انتهى إلى الحجون، فغرز الراية عند منزل رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ورووا أن لواء رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم دخل مكة كان أبيض، ورايته سوداء تسمى العقاب، وكانت قطعة مرط مرجل.

وسأله أسامة: يا رسول الله أنَّى تنزل غداً، تنزل في دارك؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دار! وقيل للنبي (صلی الله علیه و آله): ألا تنزل منزلك من الشعب؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل منزلاً؟ وكان عقيل قد باع منزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومنزل إخوته

من الرجال والنساء بمكة، فقيل لرسول الله (صلی الله علیه و آله): فانزل في بعض بيوت مكة غير منازلك، فأبى وقال: لا أدخل البيوت! وبقي في قبته بالحجون، وكان يأتي المسجد لكل صلاة.وقال جابر بن عبدالله: كنت ممن لزم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فدخلت معه يوم الفتح، فلما أشرف من أذاخر ورأى بيوت مكة وقف عليها، فحمد الله وأثنى عليه. ونظر من موضع قبته فقال: هذا منزلنا يا جابر، حيث تقاسمت قريش علينا في كفرها «يشير إلى الشعب» وكنا بالأبطح وِجَاهَ «مقابل» شعب أبي طالب، حيث حصر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبنو هاشم ثلاث سنين».الصحيح: 22/77.

وقال الطبري: 2/342: «أقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة».

10- قريش تسترحم النبي (صلی الله علیه و آله) بشعر ضرار بن الخطاب

خافت قريش من انتقام الأنصار منها، وكانت رايتهم كانت بيد سعد بن عبادة، فاستغاثت بالنبي (صلی الله علیه و آله) من سعد خشية أن يأخذ منهم ثار أحُد، فطمأنهم النبي (صلی الله علیه و آله) لأنه قرر أن لايسفك دماً في الحرم، إلا أربعة نفر هدر دمهم!

ص: 414

وفي الإرشاد: 1/134: «ولما أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) سعد بن عبادة بدخول مكة بالراية، غلظ على القوم وأظهر ما في نفسه من الحنق عليهم، ودخل وهو يقول: اليوم يوم الملحمه اليوم تسبى الحرمة، فسمعها العباس فقال للنبي (صلی الله علیه و آله): أما تسمع يا رسول الله ما يقول سعد بن عبادة؟ إني لا آمن أن يكون له في قريش صولة!

فقال النبي (صلی الله علیه و آله) لأميرالمؤمنين (علیه السلام) أدرك يا علي سعداً فخذ الراية منه، وكن أنت الذي يدخل بها مكة، فأدركه أميرالمؤمنين (علیه السلام) فأخذها منه».

«فأخذ الراية فذهب بها إلى مكة، حتى غرزها عند الركن».الصحيح: 22/26.

وفي الإمتاع: 8/386، أن أبا سفيان شكى إلى النبي (صلی الله علیه و آله) قول سعد فقال له: «يا أبا سفيان اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله قريشاً، وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه».

وقال ضرار بن الخطاب شاعر قريش أبياتاً يستعطف النبي (صلی الله علیه و آله) وأرسلوا امرأة فاعترضت طريقه وأنشدته إياها:

يا نبي الهدى إليك لجا *** حي قريش ولات حين لجاء

حين ضاقت عليهم سعة الأر *** ض وعاداهم إلهُ السماء

والتقت حلقتا البطان على القوم *** ونودوا بالصيلم الصلعاء

إن سعداً يريد قاصمة الظهر *** بأهل الحجون والبطحاء

خزرجي لو يستطيع من الغيظ *** رمانا بالنسر والعواء

وَغِرُ الصدر لا يهمُّ بشئ *** غير سفك الدما وسبي النساء

قد تلظى على البطاح وجاءت *** عنه هندٌ بالسوءة السواء

إذ ينادي بذل حي قريش *** وابن حرب بذا من الشهداء

فلئن أقحم اللواء ونادى *** يا حماة الأدبار أهل اللواء

ثم ثابت إليه من بهم الخز *** رج والأوس أنجم الهيجاء

لتكونن بالبطاح قريشٌ *** فقعة القاع في أكف الإماء

فانهينهُ فإنه أسد الأسد *** لدى الغاب والغ في الدماء

إنه مطرق يريد لنا الأمر *** سكوتاً كالحية الصماء

ص: 415

11- طاف النبي (صلی الله علیه و آله) بالبيت وحَطَّم الأصنام

دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) مكة وعليه السلاح، ومكث في منزله ساعة من النهار حتى اطمأن الناس، فاغتسل ثم دعا براحلته القصواء فأُدنيت إلى باب قبته، وعاد فلبس السلاح والمغفر على رأسه، وركب راحلته وقد حفَّ الناس به والخيل تجول من الخندمة إلى الحجون. فلما انتهى إلى الكعبة ومعه المسلمون، تقدَّم على راحلته واستلم الركن بمحجنه «عصاه» وكبَّر فكبَّر المسلمون بتكبيره فارتجت مكة تكبيراً حتى جعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يشير إليهم أن اسكتوا والمشركون فوق الجبال ينظرون! وطاف رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالبيت، وأقبل على الحجر فاستلمه ونزل عن راحلته، فأخرجوها وأناخوها بالوادي، ثم انتهى إلى المقام فصلى ركعتين، ثم انصرف إلى زمزم فاطلع فيها فنزع له الحرث بن عبدالمطلب دلواً فشرب منه وتوضأ والمسلمون يبتدرون وضوءه يصبونه على وجوههم، والمشركون ينظرون إليهم ويتعجبون ويقولون: ما رأينا ملكاً قط أبلغ من هذا ولا سمعنا به!

وكان حول الكعبة ثلاث مائة وستون صنماً مرصعة بالرصاص، لكل حي من أحياء العرب صنم، وكان هبل أعظمها وهو وجاهَ الكعبة، وإساف ونايلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح، فأخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) كفاً من حصى فرماها وفي يده عود، فجعل كلما مر بصنم منها يشير إليه ويطعن في عينه أو في بطنه ويقول: جَاء الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً، فما يشير إلى صنم إلا سقط لوجهه من غير أن يمسه! فأمر بها فأخرجت من المسجد فطرحت فكسرت.

وعن علي (علیه السلام) قال: انطلق رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى أتى بي الكعبة، فقال: أجلس فجلست بجنب الكعبة فصعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) على منكبي فقال: إنهض فنهضت فلما رأى ضعفي تحته قال: أجلس فجلست ثم قال: يا علي، إصعد على منكبي ففعلت، فلما نهض بي خُيل إلي لو شئت نلت أفق السماء! فصعدت فوق الكعبة وتنحى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: ألق صنمهم الأكبر، فألقى الأصنام ولم يبق إلا صنم خزاعة وكان من نحاس موتد بأوتاد من حديد إلى الأرض، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): عالجه: جَاء

ص: 416

الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً. فلم أزل أعالجه حتى استمكنت منه. فقال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله): إقذف به فقذفت به فتكسر كما تتكسر القوارير، ثم نزلت. ثم إن علياً (علیه السلام) أراد أن ينزل فألقى نفسه من صوب الميزاب تأدباً وشفقة على النبي (صلی الله علیه و آله)، ولما وقع على الأرض تبسم فسأله النبي (صلی الله علیه و آله) عن تبسمه؟ فقال لأني ألقيت نفسي من هذا المكان الرفيع وما أصابني ألم. قال: كيف يصيبك ألم وقد رفعك محمد وأنزلك جبريل؟! وقال بعض الشعراء، وقد نسبه القندوزي إلى الإمام الشافعي، ونسبه عطاء الله في الأربعين إلى حسان بن ثابت:

قيل لي قل في عليٍّ مدحاً *** ذكره يخمد ناراً مؤصده

قلت لا أقدم في مدح امرئ *** ضل ذو اللب إلى أن عبده

والنبي المصطفى قال لنا *** ليلة المعراج لما صعده

وضع الله بظهري يده *** فأحسَّ القلب أن قد برده

وعلي واضع أقدامه *** في محل وضع الله يده

وأمر بهبل فكسر وهو واقف عليه، فقال الزبير بن العوام لأبي سفیان بن حرب: يا أبا سفيان قد كسر هبل، أما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور، حين تزعم أنه أنعم. فقال أبوسفيان: دع عنك هذا ياابن العوام، فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان»! الصحيح: 22/190.

ودخل الكعبة ومعه أسامة وبلال وعثمان بن طلحة والفضل بن عباس، وكبر في زواياها وأرجائها وحمد الله تعالى.وروي أنه صلى ركعتين.الصحيح: 22/235.

12- جبرئيل يفضح زعماء قريش

عن سعيد بن المسيب قال: لما دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) مكة ليلة الفتح لم يزالوا في تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا، فقال أبوسفيان لهند: أترين هذا من الله؟ قالت: نعم، هذا من الله. قال: ثم أصبح فغدا أبوسفيان إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قلت لهند: أترين هذا من الله؟! قالت: نعم

ص: 417

هذا من الله. فقال أبوسفيان: أشهد أنك عبدالله ورسوله، والذي يُحلَف به ما سمع قولي هذا أحد من الناس إلا الله عزوجل وهند! فقال أبوسفيان في نفسه: أفشت عليَّ هند سري لأفعلن بها ولأفعلن! فلما فرغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) من طوافه لحق بأبي سفیان فقال: يا أبا سفيان، لا تكلم هنداً فإنها لم تفش من سرك شيئاً. فقال أبوسفيان: أشهد أنك رسول الله (صلی الله علیه و آله) !

ورأى أبوسفيان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يمشي والناس يطؤون عقبه، فقال في نفسه: لو عاودت هذا الرجل القتال وجمعت له جمعاً؟ فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى ضرب بيده في صدره فقال: إذن يخزيك الله! فقال: أتوب إلى الله تعالى وأستغفر الله مما تفوهت به، ما أيقنت أنك نبي حتى الساعة، إني كنت لأحدث نفسي بذلك!

وخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأبوسفيان جالس في المسجد، فقال أبوسفيان في نفسه: ما أدري بما يغلبنا محمد؟ فأتاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فضرب صدره وقال: بالله تعالى نغلبك! فقال أبوسفيان: أشهد أنك رسول الله!الصحيح: 22/321.

وزعم فضالة بن عمير أنه أراد اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله) وهو يطوف فعرف ذلك النبي ووضع يده على صدر فضالة فتاب وأسلم. قال: «والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق شئ أحب إليَّ منه»!الصحيح: 22/190.

وأمر النبي (صلی الله علیه و آله) بلالاً وقت الظهر أن يصعد على سطح الكعبة ويطلق الأذان، فتنغص عيش أبي سفیان ورفقائه الذين«أسلموا»!«فقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يسمع بهذا اليوم! وكان أسيد مات قبل الفتح بيوم!

وقال الحارث بن هشام: واثكلاه ليتني متُّ قبل أن أسمع بلالاً ينهق فوق الكعبة!وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث الجلل أن يصبح عبد بني جمح ينهق على بُنَيَّة «الكعبة» أبي طلحة!

وقال سهيل بن عمرو: إن كان هذا سخطاً لله فسيغيره الله! وقال أبوسفيان بن حرب: أما أنا فلا أقول شيئاً، لو قلت شيئاً لأخبرته هذه الحصاة!

فأتى جبريل (علیه السلام) رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره، فأقبل حتى وقف عليهم فقال:

ص: 418

أما أنت يا فلان فقلت كذا، وأما أنت يا فلان فقلت كذا، وأما أنت يا فلان فقلت كذا! فقال أبوسفيان: أما أنا يا رسول الله فما قلت شيئاً! فضحك رسول الله»! «أخبار مكة: 1/142» وفي أسباب النزول للواحدي/264: «وقال أبوسفيان: إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به رب السماء»! وفي تاريخ أبي الفداء: 1/181: «فقالت بنت أبي جهل: لقد أكرم الله أبي حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة»!

13- خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) في فتح مكة وإعلانه العفو عن الطلقاء

في الكافي: 4/225، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) مكة يوم افتتحها، فتح باب الكعبة فأمر بصور في الكعبة فطمست، فأخذ بعضادتي الباب فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ماذا تقولون وماذا تظنون؟ قالوا: نظن خيراً و نقول خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت! قال: فإني أقول كما قال أخي يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة، لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه للقبر والبيوت؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلا الإذخر».

ويظهر أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمر بإحضار فراعنة قريش وشخصياتها إلى المسجد.

قال في إعلام الورى: 1/225 ومجمع البيان: 10/472، ملخصاً: «ودخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنون أن السيف لايرفع عنهم، فأتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) البيت وأخذ بعضادتي الباب ثم قال: لا إله إلا الله أنجز وعده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده.. ألا إن كل دم ومال ومأثرة كان في الجاهلية فإنه موضوع تحت قدمي، إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليهما، ألا إن مكة محرمة بتحريم الله، لم تحل لأحد كان قبلي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، فهي محرمة إلى أن تقوم الساعة.. ثم قال: ألا لبئس جيران النبي كنتم، لقد كذبتم وطردتم،

ص: 419

وأخرجتم وفللتم، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني، فاذهبوا فأنتم الطلقاء. فخرج القوم كأنما أنشروا من القبور، ودخلوا في الإسلام، وكأن الله أمكنه من رقابهم عنوة فكانوا له فيئاً، فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء!

وكان فتح مكة لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان، واستشهد من المسلمين ثلاثة نفر دخلوا من أسفل مكة وأخطأوا الطريق فقتلوا».

وفي مجمع البيان: «وجاء ابن الزبعرى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأسلم، وقال:

يا رسول الإله إن لساني *** راتق ما فتقت إذ أنا بورُ

إذ أباري الشيطان في سنن الغي *** ومن مال ميله مثبور

آمن اللحم والعظام لربي *** ثم نفسي الشهيد أنت النذير».

14- الذين هدر النبي (صلی الله علیه و آله) دمهم

عدهم صاحب الصحيح من السيرة: 23/9 اثنين وعشرين شخصاً، ثم بحث أسباب هدر النبي (صلی الله علیه و آله) دمهم فقال ما خلاصته: «يتساءل البعض عن التوفيق بين احترام الكعبة وتعظيمها واعتبار مكة بلداً آمناً، وبين أمره (صلی الله علیه و آله) بقتل أفراد هذه الجماعة حتى لو كانوا متعلقين بأستار الكعبة! والجواب: أن الأمر بقتل هؤلاء الناس هو من مفردات تعظيم الكعبة وحفظ حرمة الحرم، لأنهم بشركهم وبصدهم عن سبيل الله وسعيهم في الأرض فساداً، وجدهم واجتهادهم لإبطال دين الله، وقتل الأنبياء والمؤمنين من أجل نصرة الباطل، يمثلون الرجس والقاذورات التي لا بد من تطهير بيت الله وحرمه منها، فقتْلهم حتى لو كانوامتعلقين بأستار الكعبة تكريمٌ للكعبة وتكريسٌ لمعنى الطهر والقداسة فيها.

1 - عكرمة بن أبي جهل: كان هو وأبوه أشد الناس أذية للنبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمين. ولما بلغه أن النبي (صلی الله علیه و آله) أهدر دمه فرّ إلى اليمن، فقالت امرأته أم حكيم لرسول الله: يا رسول الله قد ذهب عكرمة عنك إلى اليمن وخاف أن تقتله، فأمِّنه يا رسول الله، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): هو آمن. فخرجت في طلبه ومعها غلام لها رومي فراودها

ص: 420

عن نفسها، فجعلت تمنِّيه حتى قدمت به على حي من عك فاستعانتهم عليه فأوثقوه رباطاً، وأدركت عكرمة وقد انتهى إلى البحر فركب سفينة وجعلت تليح إليه وتقول: يا ابن عم جئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس وخير الناس، لا تهلك نفسك. فرجع وأسلم. وزعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: لا تسبوا أباجهل، ولا يصح ذلك. وقد عظموا عكرمة حتى ادَّعوا أنه (صلی الله علیه و آله) رأى في منامه أنه دخل الجنة ورأى فيها عذقاً فأعجبه وقال: لمن هذا؟ فقيل: لأبي جهل! وأنه حين أسلم قام إليه النبي (صلی الله علیه و آله) واعتنقه، وقال: مرحباً بالراكب المهاجر.

وكان عكرمة من المحرضين على حرب أحُد، وكان على ميسرة المشركين وخالد بن الوليد على ميمنتهم، وقد عبر الخندق يوم الأحزاب مع عمرو بن عبد ود، وضرار بن الخطاب الفهري، وهبيرة بن أبي وهب، ونوفل بن عبدالله. وفي بدر قتل من المسلمين رافع بن المعلى الزرقي، وضرب معاذ بن عمرو بن الجموح على عاتقه فطرح يده حين رآه قتل أباه أباجهل.

وكان من المناوئين لأميرالمؤمنين (علیه السلام)، ولعل هذا هو السبب في إغداقهم الأوسمة عليه ونسجهم له الكرامات.

2- صفوان بن أمية: هرب مع عبد له إسمه يسار إلى جدة، ليذهب إلى اليمن فقال عمير بن وهب: يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومي وقد خرج هارباً منك ليقذف نفسه في البحر، فأمنه صلى الله عليك. قال: هو آمن. فقال: أعطني آية يعرف بها أمانك، فأعطاه عمامته التي دخل بها مكة، فخرج عمير حتى أدركه فقال: يا أبا وهب جعلت فداك، جئت من عند أبر الناس، وأوصل الناس، فداك أبي وأمي، الله الله في نفسك أن تهلكها، هذا أمان من رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد جئتك به. قال: ويحك أُغرب عني فلا تكلمني إني أخافه على نفسي! قال: هو أحلم من ذلك وأكرم. قال: ولا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها. فرجع معه صفوان حتى انتهى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يصلي بالمسلمين العصر في المسجد، فلما سلم رسول الله (صلی الله علیه و آله) صاح صفوان: يا محمد إن عمير بن وهب جاءني ببردك

ص: 421

وزعم: أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيت أمراً وإلا سيَّرتني شهرين. فقال: إنزل أبا وهب. قال: لا والله حتى تبين لي. قال: بل لك تسيير أربعة أشهر. فنزل صفوان. ولما خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى هوازن أرسل إليه يستعير سلاحه، فأعاره سلاحه مائة درع بأداتها، فقال: طوعاً أو كرهاً؟. قال (صلی الله علیه و آله): عارية مؤداة فأعاره فأمره رسول الله (صلی الله علیه و آله) فحملها إلى حنين، فشهد حنيناً والطائف، ثم رجع إلى الجعرانة، فبينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) يسير في الغنائم ينظر إليها، وفرق غنائمها فرأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) صفوان ينظر إلى شعب ملآن نعماً وشاء ورعاء، فأدام النظر إليه ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يرمقه، فقال: يا أبا وهب يعجبك هذا الشعب؟ قال: نعم. قال: هو لك وما فيه. فقبض صفوان ما في الشعب، وقال عند ذلك: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. وأسلم مكانه!

ومع هذاتجدهم يعظمون أمثال صفوان ويعتقدون عدالته! فما أعجب أمرهم!

3 - عبدالعزى بن خطل: أهدر النبي (صلی الله علیه و آله) دمه وكان أسلم فسماه رسول الله (صلی الله علیه و آله) عبدالله وهاجر إلى المدينة، وبعثه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ساعياً وبعث معه رجلاً وكان يصنع له طعامه ويخدمه، فعدى عليه فضربه فقتله وارتد عن الإسلام، وساق ما أخذ من الصدقة وهرب إلى مكة، وقال: لم أجد ديناً خيراً من دينكم!

وكان يقول الشعر يهجو به رسول الله (صلی الله علیه و آله). وكانت له قينتان فاسقتان يأمرهما أن تغنيا بهجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله). ولما دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى ذي طوى أقبل ابن خطل من أعلى مكة مدججاً بالحديد على فرس وبيده قناة، فمر ببنات سعيد بن العاص فقال لهن: أما والله لا يدخلها محمد حتى ترين ضرباً كأفواه المزاد.

ثم رأى خيل الله فدخله رعب فنزل عن فرسه وطرح سلاحه وأتى البيت فدخل تحت أستاره. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أقتلوه، إن الكعبة لا تعيذ عاصياً، ولا تمنع من إقامة حد واجب، فقتله سعيد بن حريث وأبو برزة.

4 - عبدالله بن سعد بن أبي سرح: وإنما أمر بقتله لأنه كان أسلم قبل الفتح، وكان

ص: 422

يكتب لرسول الله (صلی الله علیه و آله) الوحي وكان إذا أملى عليه: سميعاً بصيراً، كتب عليماً حكيماً! وإذا أملى عليه: عليماً حكيماً كتب غفوراً رحيماً! وكان يفعل مثل هذه الخيانات حتى صدر عنه أنه قال: إن محمداً لا يعلم ما يقول! فلما ظهرت خيانته لم يستطع أن يقيم بالمدينة فارتدّ وهرب إلى مكة وقال: إن كان محمد نبياً يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ! وعندما دخل النبي (صلی الله علیه و آله) مكة لجأ ابن سرح إلى عثمان بن عفان أخيه من الرضاعة فقال له: يا أخي استأمن لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل أن يضرب عنقي! فغيبه عثمان حتى هدأ الناس واطمأنوا فاستأمن له وأتى به إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فأعرض عنه النبي (صلی الله علیه و آله) فصار عثمان يقول: يا رسول الله أمنته والنبي (صلی الله علیه و آله) يعرض عنه! ثم قال: نعم، فبسط يده فبايعه، فلما خرج عثمان وعبدالله قال (صلی الله علیه و آله) لمن حوله: أعرضت عنه مراراً، ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه!

فقال عباد بن بشر: يا رسول الله خفتك، أفلا أومضتَ إليّ أي أومأت؟ فقال (صلی الله علیه و آله): إنه ليس لنبي أن يومض.إن النبي لاينبغي أن يكون له خائنة الأعين.

وعندما صار عثمان خليفة ولاه على مصر! وشكاه المصريون إلى عثمان فقَتَل بعض من اشتكوا عليه فكان ذلك من أسباب خروج المصريين على عثمان حتى قتل! وذكر عكرمة والحسن البصري أن الذين توسطوا لابن أبي سرح هم: أبو بكر وعمر وعثمان.

5 - عبدالله بن الزبعرى: كان شاعراً يهجو النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمين ويحرض عليهم كفار قريش، وهو الذي تمثَّل يزيد بأبياته لما جئ له برأس الحسين (علیه السلام) فأخذ ينكت ثنايا الإمام (علیه السلام) بقضيب في يده. وهو الذي ألقى الفرث والدم على النبي (صلی الله علیه و آله) وهو يصلي ثم جاء أبوطالب وسل سيفه، فأمرَّ ذلك الفرث على لحاهم وشواربهم! ويوم الفتح سمع أن النبي (صلی الله علیه و آله) أهدر دمه فهرب إلى نجران وسكنها فأرسل اليه حسان بن ثابت بأبيات فجاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: السلام عليك يا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله، الحمدالله الذي هداني للإسلام، لقد عاديتك وأجلبت عليك، وقال:

ص: 423

يا رسول المليك إن لساني *** راتق ما فتقت إذ أنا بور

إذ أباري الشيطان في سنن الغي *** ومن مال ميله مثبور

آمن اللحم والعظام لربي *** ثم قلبي الشهيد أنت النذير

إنني عنك زاجر ثم حيا *** من لؤي وكلهم مغرور

وقال أيضاً حين أسلم:

منع الرقاد بلابل وهموم *** والليل معتلج الرواق بهيم

مما أتاني أن أحمد لامني *** فيه فبت كأنني محموم

يا خير من حملت على أوصالها *** عيرانة سرح اليدين غشوم

إني لمعتذر إليك من الذي *** أسديت إذ أنا في الضلال أهيم

أيام تأمرني بأغوى خطة *** سهم وتأمرني بها مخزوم

وأمد أسباب الردى ويقودني *** أمر الوشاة وأمرهم مشؤم

فاليوم آمن بالنبي محمد *** قلبي ومخطئ هذه محروم

مضت العداوة فانقضت أسبابها *** ودعت أواصر بيننا وحلوم

فاغفر فدى لك والداي كلاهما *** زللي فإنك راحم مرحوم

وعليك من علم المليك علامة *** نور أغر وخاتم مختوم

أعطاك بعد محبة برهانه *** شرفاً وبرهان الإله عظيم

ولقد شهدت بأن دينك صادق *** حق وأنك في العباد جسيم

والله يشهد أن أحمد مصطفى *** مستقبل في الصالحين كريم

قرم علا بنيانه من هاشم *** فرع تمكن في الذرى وأروم

6 - الحويرث بن نقيد كان يؤذي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونخس بزينب بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما هاجرت إلى المدينة فرمى بها عن بعيرها، فأهدر النبي (صلی الله علیه و آله) دمه فخرج في مكة يوم الفتح يريد أن يهرب فتلقاه علي (علیه السلام) فضرب عنقه.

ص: 424

7 - هبار بن الأسود: كان شديد الأذى للمسلمين، وتعرض لزينب بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما هاجرت فنخس بها أو ضربها بالرمح، فسقطت عن راحلتها فأسقطت ولم يزل ذلك المرض بها حتى ماتت! فلما كان يوم الفتح وبلغه أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أهدر دمه أعلن بالإسلام فقبله منه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعفا عنه. وزعموا: أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: إن لقيتم هباراً هذا فأحرقوه، ولا يصح قولهم.

ونقول: إذا كان (صلی الله علیه و آله) قد أهدر دم هبار بن الأسود والحويرث بن نقيد لأنهما روَّعا زينب وأوقعاها عن الراحلة إلى الأرض، فماذا سيكون موقفه (صلی الله علیه و آله) ممن ضرب فاطمة (علیها السلام) وأسقط جنينها وكسر ضلعها وتسبب لها بعلَّتها التي ماتت منها فكانت صدِّيقة شهيدة؟!

8 - الحارث بن هشام: أخو أبي جهل لأبويه. وقد أسلم بعد ذلك.

9 - زهير بن أمية: وكان قد استجار بأم هاني وأراد علي (علیه السلام) قتله فأمضى النبي (صلی الله علیه و آله) جوارها وأسلم بعد ذلك.

10 - عبدالله بن ربيعة: ذكره الأزرقي بدل زهير بن أمية.

11 - زهير بن أبي سلمى الشاعر.

12 - مقيس بن صبابة: كان أسلم ثم أتى على رجل من الأنصار فقتله وارتد، فقتله نميلة بن عبدالله بحكم النبي (صلی الله علیه و آله) يوم الفتح.

13- الحويرث بن الطلاطل الخزاعي: كان يؤذي النبي (صلی الله علیه و آله)، قتله علي (علیه السلام).

14 - كعب بن زهير: وهو الشاعر الذي كان يهجو رسول الله وجاء بعد ذلك فأسلم، ومدحه بقصيدة: بانت سعاد.

15 - وحشي بن حرب: قاتل حمزة في حرب أحُد، وقد هرب في فتح مكة إلى الطائف فلما أسلم أهلها جاء مع وفدهم فقال له (صلی الله علیه و آله): غيب عني وجهك!

16- هبيرة بن أبي وهب: زوج أم هاني يقال: إن النبي (صلی الله علیه و آله) أهدر أيضاً دمه.

17 - سارة: مولاة عمرو بن هاشم بن عبدالمطلب بن عبدمناف، وكانت مغنية نواحّة بمكة تغني بهجاء النبي (صلی الله علیه و آله) وقالوا: استؤمن لها رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأمنها،

ص: 425

فأسلمت وعاشت إلى خلافة عمر بن الخطاب.

18 - أرنب مولاة ابن خطل.

19 - فرتنى: أو قرينا.

20- قريبة ويقال: هي أرنب السابقة. وهما قينتان لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء النبي (صلی الله علیه و آله) فاستؤمن لإحداهما فأسلمت وقتلت الأخرى، قتلها علي (علیه السلام).

21 - أم سعد: قتلت فيما ذكره ابن إسحاق، ويحتمل أن تكون هي أرنب.

22 - هند بنت عتبة: وهي التي لاكت كبد حمزة بن عبدالمطلب (علیه السلام). أتت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو بالأبطح فأسلمت وقالت: الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه، لتمسني رحمتك يا محمد، إني امرأة مؤمنة بالله مصدقة به. ثم كشفت عن نقابها فقالت: أنا هند بنت عتبة. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): مرحباً بك. وقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح فهل عليَّ حرج أن أطعم من ماله عيالنا؟ فقال: لاحرج عليك أن تطعميهم بالمعروف.

15- علي (علیه السلام) ينفذ أمر النبي (صلی الله علیه و آله) فتعترضه أخته أم هاني!

قال في إعلام الورى: 1/223: «عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المسلمين أن لا يقتلوا بمكة إلا من قاتلهم، سوى نفر كانوا يؤذون النبي (صلی الله علیه و آله) منهم: مقيس بن صبابة، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، وعبدالله بن خطل، وقينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: أقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة. فأدرك ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عماراً فقتله. وقتل مقيس بن صبابة في السوق. وقتل علي (علیه السلام) إحدى القينتين وأفلتت الأخرى، وقتل (علیه السلام) أيضاً الحويرث بن نقيذ بن كعب. وبلغه أن أم هانئ بنت أبي طالب قد آوت ناساً من بني مخزوم، منهم الحارث بن هشام وقيس بن السائب، فقصد نحو دارها مقنعاً بالحديد فنادى: أخرجوا من آويتم! فجعلوا يذرقون كما تذرق الحبارى خوفاً منه «اطائر كبير السلحة!» فخرجت إليه أم هاني وهي لاتعرفه فقالت: يا عبدالله، أنا أم

ص: 426

هاني بنت عم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخت علي بن أبي طالب، إنصرف عن داري. فقال علي (علیه السلام): أخرجوهم! فقالت: والله لأشكونك إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فنزع المغفر عن رأسه فعرفته فجاءت تشتد حتى التزمته فقالت: فديتك حلفت لأشكونك إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فقال لها: فاذهبي فبري قسمك، فإنه بأعلى الوادي. قالت أم هاني: فجئت إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وهو في قبة يغتسل وفاطمة (علیها السلام) تستره، فلما سمع رسول الله كلامي قال: مرحباً بك يا أم هاني. قلت: بأبي وأمي ما لقيت من علي اليوم! فقال (صلی الله علیه و آله): قد أجرتُ من أجرتِ! فقالت فاطمة (علیها السلام): إنما جئت يا أم هانئ تشكين علياً في أنه أخاف أعداء الله وأعداء رسوله! فقلت: إحتمليني فديتك! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قد شكر الله لعلي سعيه، وأجرت من أجارت أم هانئ لمكانها من علي بن أبي طالب»!

«وروت مصادرهم مجئ أم هاني إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وعفوه عن المخزوميين الذين أجارتهم، واتفقوا على أن علياً (علیه السلام) لم يدخل البيت، مع أنه يحمل أمراً قضائياً من النبي (صلی الله علیه و آله)، وأن أم هاني لم تخرجهم بل أغلقت الغرفة عليهم، وذهبت إلى النبي (صلی الله علیه و آله) تشتكي علياً (علیه السلام) ! وروي أن أم هاني أمسكت بساعد علي (علیه السلام) لتمنعه من دخول دارها، فكشف قناعه فعرفته، وأن ذلك أعجب النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: لله در أبي طالب! لو ولد الناس كلهم كانوا شجعاناً».كشف الغمة: 2/235.

كما رووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يدخل بيت أحد في مكة إلا بيت أم هاني!

ففي مجمع الزوائد: 6/175: «دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) على أم هانئ بنت أبي طالب يوم الفتح وكان جائعاً.وقال هل عندك من طعام نأكله؟ فقالت: ليس عندي إلا كسر يابسة، وإني لأستحي أن أقدمها إليك! فقال: هلمي بهن فكسرهن في ماء وجاءت بملح فقال: هل من إدام؟ فقالت ما عندي يا رسول الله إلا شئ من خل. فقال: هلميه فصبيه على الطعام فأكل منه ثم حمد الله، ثم قال: نعم الإدام الخل يا أم هانئ لا يفتقر بيت فيه خل». وذخائر العقبى/223 والطبراني الصغير: 2/67.

ص: 427

16- النبي (صلی الله علیه و آله) ينصب حاكماً لمكة

كان على زعماء قريش أن يتفهموا الوضع الجديد، فقد داهم النبي (صلی الله علیه و آله) مكة بألوف من جنود الله تعالى وأجبرهم على الإستسلام وخلع سلاحهم، وبذلك صاروا أسرى حرب في يده، وكان من حقه أن يضرب أعناقهم ويغنم أموالهم، لكنه منَّ عليهم وأطلقهم! فكان عليهم أن يشكروه ويقبلوا بالحاكم الذي ينصبه لمكة. لكنهم لم يفعلوا!وفي الأيام الأولى لدخوله مكة عين النبي (صلی الله علیه و آله) حاكماً هو الشاب الأموي عَتَّاب بن أسَيْد، وجعل معه أنصارياً يساعده هو معاذ بن جبل، وجعل عتاباً نائبه في الصلاة.

ففي المسترشد/129: «استخلف عتاب ابن أسيد على مكة ورسول الله (صلی الله علیه و آله) مقيم بالأبطح، وأمره أن يصلي بالناس بمكة الظهر والعصر والعشاء الآخرة، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يصلي بهم الفجر والمغرب».

وفي إعلام الورى: 1/243: «استخلف عتاب بن أسيد وخلف معه معاذاً يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن، وحج بالناس في تلك السنة وهي سنة ثمان عتاب بن أسيد.ثم كانت غزوة تبوك.وبعث إلى عتاب بن أسيد عامله على مكة يستنفرهم لغزو الروم».

وفي المغني: 4/372: «واستخلف النبي عتاب بن أسيد على مكة، والياً وقاضياً».

وفي الدرر/236و237: «واستخلف على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص، وهو ابن نيف وعشرين سنة.. وهو أول أمير أقام الحج في الإسلام، وحج المشركون على مشاعرهم. وكان عتاب بن أسيد خيراً فاضلاً ورعاً».

وقال ابن هشام: 4/891: «استعمل رسول الله (صلی الله علیه و آله) عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس على مكة، أميراً على من تخلف عنه من الناس، ثم مضى رسول الله على وجهه يريد لقاء هوازن».

17- بعث النبي (صلی الله علیه و آله) سرايا إلى المناطق القريبة من مكة

في إعلام الورى: 1/227: «وبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) السرايا فيما حول مكة يدعون إلى الله عزوجل، ولم يأمرهم بقتال، فبعث غالب بن عبدالله إلى بني مدلج فقالوا: لسنا عليك

ص: 428

ولسنا معك، فقال الناس: أغزهم يا رسول الله، فقال: إن لهم سيدا أديباً أريباً، ورب غاز من بني مدلج شهيد في سبيل الله.

وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى بني الديل فدعاهم إلى الله ورسوله، فأبوا أشد الإباء فقال الناس: أغزهم يا رسول الله، فقال: أتاكم الآن سيدهم قد أسلم فيقول لهم: أسلموا، فيقولون: نعم. وبعث عبدالله بن سهيل بن عمرو إلى بني محارب بن فهر، فأسلموا وجاء معه نفر منهم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)».

18- بعث خالد بن الوليد في سرية فغدر بهم

اشارة

في إعلام الورى: 1/228: «بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر، وقد كانوا أصابوا في الجاهلية من بني المغيرة نسوة وقتلوا عم خالد، فاستقبلوه وعليهم السلاح وقالوا: يا خالد إنا لم نأخذ السلاح على الله وعلى رسوله ونحن مسلمون فانظر فإن كان بعثك رسول الله ساعياً فهذه إبلنا وغنمنا فاغد عليها، فقال: ضعوا السلاح، قالوا: إنا نخاف منك أن تأخذنا بإحنة الجاهلية وقد أماتها الله ورسوله. فانصرف عنهم بمن معه فنزلوا قريباً ثم شن عليهم الخيل فقتل وأسر منهم رجالاً ثم قال: ليقتل كل رجل منكم أسيره فقتلوا الأسرى!

وجاء رسولهم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره بما فعل خالد بهم، فرفع (علیه السلام) يده إلى السماء وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد، وبكى! ثم دعا علياً (علیه السلام) فقال: أخرج إليهم وانظر في أمرهم وأعطاه سفطاً من ذهب، ففعل ما أمره وأرضاهم».

وفي أمالي الصدوق/237: «عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) خالد بن الوليد إلى حي يقال لهم بنو المصطلق من بني جذيمة، وكان بينهم وبين بني مخزوم إحنة في الجاهلية، فلما ورد عليهم كانوا قد أطاعوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخذوا منه كتاباً، فلما ورد عليهم خالد أمر منادياً فنادی بالصلاة فصلى وصلوا فلما كانت صلاة الفجر أمر مناديه فنادى فصلى وصلوا، ثم أمر الخيل فشنوا فيهم الغارة فقتل وأصاب فطلبوا كتابهم فوجدوه فأتوا به النبي (صلی الله علیه و آله) وحدثوه بما صنع

ص: 429

خالد بن الوليد، فاستقبل القبلة ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد! قال: ثم قدم على رسول الله تبر ومتاع، فقال لعلي (علیه السلام): يا علي إئت بني جذيمة من بني المصطلق فأرضهم مما صنع خالد. ثم رفع (صلی الله علیه و آله) قدميه فقال: يا علي، اجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك! فأتاهم علي (علیه السلام) فلما انتهى إليهم حكم فيهم بحكم الله، فلما رجع إلى النبي (صلی الله علیه و آله) قال: يا علي أخبرني بما صنعت، فقال: يا رسول الله عمدت فأعطيت لكل دم دية ولكل جنين غرة، ولكل مال مالاً، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم وحبلة رعاتهم، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لما يعلمون ولما لا يعلمون، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله. فقال (صلی الله علیه و آله): يا علي أعطيتهم ليرضوا عني، رضی الله عنك يا علي، إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي».

وفي أمالي الطوسي/498: «فأدى إليهم ديات رجالهم، وما ذهب لهم من أموالهم، وبقي معه من المال زعبة فقال لهم: هل تفقدون شيئاً من أموالكم وأمتعتكم؟ فقالوا: ما نفقد شيئاً إلا ميلغة كلابنا فدفع إليهم ما بقي من المال فقال هذا لميلغة كلابكم وما أنسيتم من متاعكم. وأقبل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: ما صنعت؟ فأخبره حتى أتى على حديثهم فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أرضيتني رضی الله عنك يا علي أنت هادي أمتي، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبك وأخذ بطريقتك، ألا إن الشقي كل الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلى يوم القيامة».

أقول: روته مصادرهم وحذفوا منه مدح النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) ! وتجاهلوا براءة النبي (صلی الله علیه و آله) من فعل خالد، وحاولوا تبرير فعل خالد بأنه لم يفهم كلام بني جذيمة فأسرهم وقتلهم! وتجرأ بعض المتأخرين وهو العقاد في كتابه عبقرية عمر، فأدان خالداً قال: «بعث رسول الله خالداً إلى بني جذيمة داعياً إلى الإسلام ولم يبعثه للقتال وأمره ألا يقاتل أحداً إن رأى مسجداً أو سمع أذاناً. ثم وضع بنو جذيمة السلاح بعد جدال بينهم واستسلموا فأمر بهم خالد فكتفوا! ثم عرضهم السيف فقتل منهم وأفلت من القوم غلام يقال له السميدع حتى اقتحم على رسول الله وأخبره وشكاه إليه».النص والإجتهاد/460.

ص: 430

قتل خالد عاشقاً غريباً ولم يرحمه

وروى ابن حجر في فتح الباري: 8/46 حالة مؤثرة من مجزرة خالد في بني جذيمة! قال: «وذكر ابن إسحاق من حديث ابن أبي حدرد الأسلمي قال: كنت في خيل خالد، فقال لي فتى من بني جذيمة قد جمعت يداه في عنقه برمَّة «حبل»: يا فتى هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدي إلى هؤلاء النسوة؟ فقلت: نعم، فقدته، ثم ضربتُ عنق الفتى فأكبت عليه فما زالت تقبله حتى ماتت!

وقد روى النسائي والبيهقي في الدلائل بسند صحيح من حديث ابن عباس نحو هذه القصة، وقال فيها: فقال إني لست منهم إني عشقت امرأة منهم فدعوني أنظر إليها نظرة! فضربوا عنقه فجاءت المرأة فوقعت عليه فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت!فذكروا ذلك للنبي (صلی الله علیه و آله) فقال: أما كان فيكم رجل رحيم»!

ونقل ابن هشام: 4/883 قول عبدالرحمن بن عوف لخالد: كذبت ولكنك إنما ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة!

وروى الطبري: 2/342 حوار العاشِقَيْن شعراً، وقال: «قامت إليه حين ضربت عنقه فأكبت عليه، فما زالت تقبله حتى ماتت عنده»!

19- قريش تعزل أبا سفيان وتنصب بدله سهيل بن عمرو

اعتبر زعماء قريش أن أبا سفيان خانهم فوافق على استسلام قريش وخلع سلاحها بدون شروط لمصلحتها، ومال إلى محمد (صلی الله علیه و آله) تعصباً للمنافية أي لجدهم المشترك عبدمناف! وإنه يطمع بمناصب لبني أمية في دولة محمد (صلی الله علیه و آله)، وهاهو محمد ينصب حاكماً أموياً على مكة، مجازاة لأبي سفیان!

وكانوا معجبين بسهيل بن عمرو الذي انتزع من محمد في الحديبية شروطاً لمصلحتهم، لذلك قاموابعزل أبي سفیان عن قيادة قريش، ونصبوا سهيل بن عمرو، ونشطوا في دعمه والإلتفاف حوله!

وقد كتبنا في آيات الغدير/138، أن سهيلاً تصرف بعد فتح مكة وكأن شيئاً لم

ص: 431

يحدث وتجاهل حاكم مكة الذي نصبه النبي (صلی الله علیه و آله) ! وكتب إلى النبي (صلی الله علیه و آله) مطالباً بأناس جاؤوا من مكة اليه ليتفقهوا في الدين، وجاء إلى المدينة مطالباً بهم، ونزل عند أبي بكر وعمر، فذهبا معه إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وأيدا مطلبه! يقول بذلك للنبي (صلی الله علیه و آله) هؤلاء أولادنا وعبيدنا هربوا منا وجاؤوك، فإن كانت حجتهم التفقه فنحن نفقههم في الدين، فأرجعهم إلينا!

ومعنى ذلك أن قريشاً بقيت على كبريائها ولم تعترف بالحاكم الشرعي لمكة، وتريد منه الإعتراف بأنها وجود سياسي في مقابله!

روى الحاكم في المستدرك: 2/138: «عن ربعي بن حراش عن علي قال: لما افتتح رسول الله (صلی الله علیه و آله) مكة أتاه ناس من قريش فقالوا: يا محمد إنا حلفاؤك وقومك، وإنه لَحِقَ بك أرقاؤنا ليس لهم رغبة في الإسلام، وإنما فروا من العمل فارددهم علينا! فشاور أبابكر في أمرهم فقال: صدقوا يا رسول الله! فقال لعمر: ماترى؟ فقال مثل قول أبي بكر. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا معشر قريش ليبعثن الله عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للإيمان فيضرب رقابكم على الدين! فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا. قال عمر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه خاصف النعل في المسجد وقد كان ألقى نعله إلى علي يخصفها. هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه».

ورواه الحاكم: 4/298، وصححه بشرط مسلم وفيه: «لما افتتح رسول الله (صلی الله علیه و آله) مكة أتاه أناس من قريش.. يا معشر قريش لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلاً فيضرب أعناقكم على الدين، ثم قال: أنا أو خاصف النعل، قال علي: وأنا أخصف نعل رسول الله (صلی الله علیه و آله)».

لقد جاؤوا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في عاصمته يطالبونه بالإعتراف باستقلالهم، وهي وقاحة ما فوقها وقاحة! وقالوا له «يا محمد» كما رواه الحاكم وأبو داود: 1/611! لكن الترمذي جعلها:«يا رسول الله»! وحاول بعض علماء قريش أن يجعل الحديث قبل فتح مكة، لكن نصوصه ذكرت أن النبي (صلی الله علیه و آله) غضب من طلبهم وهو لايغضب إلا بحق! فلو كان طلبهم قبل نقضهم العهد وفتح مكة لكان حقاً لهم لايوجب الغضب! ومما يؤكد

ص: 432

أنه بعد فتح مكة أنه (صلی الله علیه و آله) قال: «يا معشر قريش لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة» ولايمكن أن يطالبهم بالصلاة قبل فتح مكة! وقول سهيل«سنفقههم»وهذا لا يقوله إلا الطلقاء الذين يدعون الإسلام! مضافاً إلى أن رواية الحاكم وغيرها صرحت بأنه بعد فتح مكة.

ونلاحظ أن سهيل بن عمر ومن أيده اعتبروا أن فتح مكة«ودخولهم»في الإسلام لا يعني خضوعهم للنبي (صلی الله علیه و آله) وذوبانهم في الأمة الإسلامية، بل هو تحالف الند للند مع النبي (صلی الله علیه و آله) ! فعليه الآن أن يعترف بكيانهم القرشي المستقل! ويعيد لهم الفارين إليه من أبنائهم وعبيدهم! والعنصر الجديد في الأمر أن أبابكر وعمر أيدا مطلبهم! فقال أبو بكر: «صدقوا يا رسول الله! وقال عمر مثل قوله: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم»! الحاكم: 3 /122، الزوائد: 9 /134 و 5 /186 وصححه.

وجاء الرد النبوي غاضباً حاسماً، فأعلن يأسه من أن تصلح قريش ويحسن إسلامها إلا بقوة السيف! ففي عدد من روايات الحادثة كالحاكم: 2/125: «فقال: ما أراكم تنتهون يامعشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا» أي على الإسلام! وأبو داود: 1/611، البيهقي: 9/229 وكنز العمال: 10/473!

وهو تصريح بأنهم لم يسلموا ولن يسلموا إلا تحت سيف علي الذي ترتعد منه فرائصهم، فهذا هو الدواء الوحيد لفراعنة قريش!

وفي تلك الفترة أكمل النبي (صلی الله علیه و آله) تهديده«لمسلمة»الفتح بأن أمر علياً (علیه السلام) أن يعلن الحرب عليهم إن هم أعلنوا ارتدادهم بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) !

فقد روى في مجمع الزوائد: 9/134: «عن ابن عباس: إن علياً كان يقول في حياة رسول الله: إن الله عزوجل يقول: أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم! والله لاننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى. والله لئن مات أو قتل (صلی الله علیه و آله) لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت! لا والله، إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه، فمن أحق به مني؟!».

وأشد ما في موقف النبي (صلی الله علیه و آله) حكمه بكفرهم! ولعمري إن مجرد طلبهم كاف

ص: 433

لإثبات كفرهم! ثم إنه (صلی الله علیه و آله) أبى أن يرد عليهم أولادهم وعبيدهم المملوكين، وأخبرهم أنه أعتقهم فصاروا عتقاء الله تعالى، ومعناه أنه اعتبرهم من أموال الكفار التي أحلها له الله تعالى! ولو كان الطلقاء مسلمين وكانت ملكيتهم محترمة لم يجز للنبي (صلی الله علیه و آله) أن يعتق عبيدهم، فهو أتقى الأتقياء (صلی الله علیه و آله) وهو القائل: لايحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه!

وهكذا دخلت قريش بعد فتح مكة معركة «استقلال مكة» مع النبي (صلی الله علیه و آله) والحاكم الذي نصبه عليهم، وحاول عتاب أن يلزمهم بالصلاة والزكاة وهم يتملصون، ولايعرفون حاكماً لهم إلا سهيل بن عمرو!

ففي السيرة الحلبية: 3/59: «فكان شديداً على المريب ليناً على المؤمن وقال: والله لا أعلم متخلفاً يتخلف عن الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه، فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق! فقال أهل مكة: يا رسول الله لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد، أعرابياً جافياً! فقال (صلی الله علیه و آله): إني رأيت فيما يرى النائم كأن عتاب بن أسيد أتى باب الجنة فأخذ بحلقة الباب فقلقلها قلقالاً شديداً حتى فتح له فدخلها، فأعز الله به الإسلام فنصرته للمسلمين على من يريد ظلمهم.

ولما ولاه على مكة جعل له في كل يوم درهماً. ويروی أنه قام فخطب الناس فقال: أيها الناس، أجاع الله كبد من جاع على درهم أي له درهم، فقد رزقني رسول الله درهماً في كل يوم فليست لي حاجة إلى أحد». وبعضه ابن هشام: 4/936.

وبقي عتَّاب والياً على مكة والطائف من قبل النبي (صلی الله علیه و آله)، وأمره أن يحج بالناس في تلك السنة لكن القرشيين لم يحجوا معه!

قال اليعقوبي: 2/76: «فوقف عتاب بالمسلمين، ووقف المشركون على حدتهم».

وتواصلت مؤامرتهم على عتاب، وكانت أول أعمالهم لأخذ خلافة النبي (صلی الله علیه و آله) وإبعاد عترته (علیهم السلام)! فقد كانت قريش تعتبر عتاباً من«عُبَّاد محمد»الذين يريدون فرض عترته بعده! وقد جاءتهم الفرصة لقتله عندما جاءهم خبر وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) فشاع في مكة أن قريشاً ارتدت عن الإسلام، وخاف منهم عتَّاب فاختبأ، مع أنه مكيٌّ قرشي أموي!وعندما وصلهم خبر يطمئنهم بعزل بني هاشم وبيعة أبي بكر اطمأن سهيل بن

ص: 434

عمرو وخطب في قريش بنفس خطبة أبي بكر في المدينة، وقال كلمتهم المشهورة: من كان يعبد محمداً فإن إلهه قد مات، ونحن لا نعبد محمداً، بل هو رسول بلغ رسالته ومات، وهو ابن قريش وسلطانه سلطان قريش، وقد اختارت قريش حاكماً لنفسها بعده وهو أبو بكر، فاسمعوا له وأطيعوا. وأصدر سهيل أمره إلى عتاب الحاكم: أخرج من مخبئك واحكم مكة، لكن ليس باسم رسول الله، بل باسم الزعيم القرشي أبي بكر بن أبي قحافة»!

قال ابن هشام: 4/1079: «حدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم أن أكثر أهل مكة لما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) هموا بالرجوع عن الإسلام وأرادوا ذلك، حتى خافهم عتاب بن أسيد فتوارى! فقام سهيل بن عمرو فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة رسول الله، وقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربنا عنقه، فتراجع الناس وكفوا عما هموا به، وظهر عتاب بن أسيد»!

ومن الواضح أن عتاباً بقي حاكماً إسمياً لأن أبابكر لم يرد عزل ولاة النبي (صلی الله علیه و آله) حتى لايقال نصبهم النبي (صلی الله علیه و آله) وعزلهم أبو بكر! أما الحاكم الحقيقي لمكة فكان سهيل بن عمرو! ولم يطل الأمر بعتاب حتى قتلوه! فهو أحد من يجب تصفيتهم لتصل الخلافة إلى عمر! قال الطبري: 2/611: «ومات عتاب بن أسيد بمكة في اليوم الذي مات فيه أبو بكر، وكانا سُمَّا جميعاً «في المدينة»

ثم مات عتاب بمكة»!

قتلوه بالسم في ريعان شبابه (رحمة الله)، لأنه كان متمسكاً بالنص النبوي، موالياً لعترة النبي (صلی الله علیه و آله)، ولم يكن كأبي سفیان عارضهم حتى وصل اليه سهم فدعا لأبي بكر!

قال الطبري: 2/449:«لما استخلف أبو بكر قال أبوسفيان: ما لنا ولأبي فصيل؟! إنما هي بنو عبدمناف! قال فقيل له: إنه قد ولَّى ابنك! قال:

وصلته رحم»!

ص: 435

الفصل الثالث والستون: غزوة حنين والطائف

1- أسباب غزوة فتح مكة وغزوة حنين والطائف

قد يصنع أحداث التاريخ أشخاص بدون أن يقصدوا، ولله في خلقه شؤون! ومن أولئك «بنو نفاثة» وهم عائلة صغيرة شريرة من كنانة، عُرفت بأنها تسرق أمتعة الحجاج في حرم الله تعالى، وكان لها ثأر عند خزاعة، فأرادت الهجوم عليهم وأقنعت بذلك رؤساء كنانة، فطلبوا من قريش أن تمدهم بالسلاح وبمقاتلين ليباغتوا خزاعة، ويقتلوا منهم أكبر عدد ممكن! ففعلت قريش ذلك وهي تعلم أن ذلك نقض لعهدها مع النبي (صلی الله علیه و آله) في الحديبية! فقدمت بذلك للنبي (صلی الله علیه و آله) مبرراً لفتح مكة، فأخضعها وأجبرها على خلع سلاحها!

وشبيهاً بذلك فعلت هوازن في غزوة حنين، وثقيف في الطائف!

فقد فكر رئيس هوازن مالك بن عوف أن النبي (صلی الله علیه و آله) بعد سيطرته على قبائل الجزيرة وانتصاره على اليهود وإجلائهم، سيهاجم قبائل نجد لإخضاعها، فبادر إلى تحشيد القبائل لحرب النبي (صلی الله علیه و آله) قبل أن يحاربه!وقبض النبي (صلی الله علیه و آله) في طريقه إلى فتح مكة على عين لهوازن أقر بأنهم يجمعون لحربه، فأمر بحبسه حتى لايخبروهم بحركة النبي (صلی الله علیه و آله) !» الصحيح من السيرة: 21/215.

وبعث اليهم النبي (صلی الله علیه و آله) «عبدالله بن أبي حدرد عيناً، فسمع ابن عوف يقول: يا معشر هوازن إنكم أحدُّ العرب وأعدُّها، وإن هذا الرجل لم يلق قوماً يصدقونه القتال، فإذا لقيتموه فاكسروا جفون سيوفكم «أغلفتها» واحملوا عليه حملة رجل واحد. فأتى ابن

أبي حدرد رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره».إعلام الورى:1/228.

ص: 436

وأكملت هوازن تحشيد قواتها واتخذت مركز معسكرها وادي أوطاس، وهو شمال شرق مكة، على بعد بضعة وعشرين كیلومتراً من حنين، قرب الضربية «ذات عرق» ميقات أهل العراق. ثم اتفقوا مع ثقيف على حرب النبي (صلی الله علیه و آله) فقدموا مركز معسكرهم إلى وادي حنين بين الطائف ومكة، ويعرف اليوم بالشرائع.

تقدمت نخبة قوات هوازن وثقيف وعسكرت في حنين، وهددت المسلمين وأهل مكة، فعطلت الحج في تلك السنة، فقصدهم النبي (صلی الله علیه و آله) وكانت المعركة فانهزم الثقفيون إلى الطائف، وهي تبعد نحو تسعين كیلومتراً عن مكة، وترتفع عن سطح البحر نحو1300متراً. ثم انهزمت قبائل هوازن إلى أوطاس القريبة.

2- أخذ النبي (صلی الله علیه و آله) قريشاً معه إلى حرب هوازن

في مناقب آل أبي طالب: 1/180: «فات الحج من فساد هوازن في وادي حنين! فخرج (صلی الله علیه و آله) في ألفين من مكة، وعشرة آلاف كانوا معه».

ورووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) أعلن موعد تجمع جيشه في منى، في مكان مؤتمر قريش وكنانة لمقاطعة بني هاشم! قال (صلی الله علیه و آله): «منزلنا غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر»!«صحيح بخاري: 5/92». وفي ذلك تخليدٌ للمكان، وتذكير لقريش بجرائمها بحق الإسلام وبني هاشم! وقد بقي (صلی الله علیه و آله) في مكة أسبوعين، وكان خروجه إلى حنين يوم السبت السادس من شوال، ووصلها يوم الثلاثاء التاسع من شوال.الصحيح من السيرة:24/53.

وفي إعلام الورى: 1/228: «فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ألفين من مكة وعشرة آلاف كانوا معه فقال أحد أصحابه «هو أبو بكر» الصحيح/24/106: لن نغلب اليوم من قلة! فشق ذلك على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأنزل الله سبحانه: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ...

ص: 437

3- دريد بن الصمة ينصح هوازن فلا يقبلون!

في إعلام الورى: 1/229: «قال الصادق (علیه السلام): وكان مع هوازن دُرَيْد بن الصُّمَّة خرجوا به شيخاً كبيراً يتيمنون برأيه، فلما نزلوا بأوطاس قال: نِعْمَ مجالُ الخيل لاحَزَنٌ ضِرْسٌ ولاسهلٌ دَهْس، مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وذراريهم. قال: فأين مالك؟ فدعي مالك له فأتاه فقال: يا مالك أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير وثغاء الشاة؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. قال: ويحك لم تصنع شيئاً، قدمت بيضة هوازن في نحور الخيل، وهل يرد وجه المنهزم شئ؟! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك! قال: إنك قد كبرت وكبر عقلك! فقال دريد: إن كنت قد كبرت فتورث غداً قومك ذلاً بتقصير رأيك وعقلك، هذا يوم لم أشهده ولم أغب عنه! ثم قال: حربٌ عَوَان! يا ليتني فيها جذع أخبُّ فيها وأضع»!

وفي سيرة ابن هشام: 4/290، أن ابن عوف قال لقبائل نجد: «والله لتطيعنني يا معشر هوازن، أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري! وكره أن يكون لدريد بن الصمة فيها ذكرٌ أو رأي، فقالوا: أطعناك»!

وقد روي أن دُريد بن الصُّمَّة كان عمره مئتي سنة، وكان أعمى يحملونه في محفة، وكان أسطورة في حروب العرب، وقد تركوا رأيه لأنه خالف مالك بن عوف! وعندما انهزمت هوازن ورجعت فلولهم إلى أوطاس كان دريد هناك، فلحقهم المسلمون وقتلوه فيمن قتلوا من هوازن، بينما سلم مالك بن عوف وعفا عنه النبي (صلی الله علیه و آله) وأعطاه أهله وماله ومئة بعير.

ص: 438

4- أدلة تآمر طلقاء قريش مع هوازن على النبي (صلی الله علیه و آله)

1. ورد في وصف الهزيمة: «تفسير القمي: 2/286»: «فلما صلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الغداة انحدر في وادي حنين وهو واد له انحدار بعيد وكانت بنو سليم على مقدمة فخرجت عليها كتائب هوازن من كل ناحية فانهزمت بنو سليم، وانهزم من ورائهم ولم يبق أحد إلا انهزم!وبقي أميرالمؤمنين (علیه السلام) يقاتلهم في نفر قليل، ومر المنهزمون برسول الله (صلی الله علیه و آله) لايلوون على شئ، وكان العباس آخذٌ بلجام بغلة رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن يمينه وأبوسفيان بن الحارث بن عبدالمطلب عن يساره، فأقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ينادي يا معشر الأنصار إلى أين المفر؟ ألا أنا رسول الله، فلم يلو أحد عليه! وكانت نسيبة بنت كعب المازنية تحثو التراب في وجوه المنهزمين وتقول: أين تفرون عن الله وعن رسوله؟ ومر بها عمر فقالت له: ويلك ما هذا الذي صنعت؟ فقال لها: هذا أمر الله! فلما رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الهزيمة ركض يحوم على بغلته قد شهر سيفه، فقال يا عباس إصعد هذا الظرب وناد يا أصحاب البقرة! ويا أصحاب الشجرة! إلى أين تفرون هذا رسول الله! ثم رفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) يده فقال: اللهم لك الحمد واليك المشتكى وأنت المستعان، فنزل جبرئيل (علیه السلام) عليه فقال له: يارسول الله دعوت بما دعا به موسى حين فلق الله له البحر ونجاه من فرعون»!

ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأبي سفیان بن الحارث: ناولني كفاً من حصى فناوله فرماه في وجوه المشركين، ثم قال: شاهت الوجوه! ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد!

وفي إعلام الورى: 1/229: «قال جابر بن عبدالله: فسرنا حتى إذا استقبلنا وادي حنين كان القوم قد كمنوا في شعاب الوادي ومضائقه، فما راعنا إلا كتائب الرجال بأيديها السيوف والعمد والقنا، فشدوا علينا شدة رجل واحد، فانهزم الناس راجعين لايلوي أحد على أحد! وأخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات اليمين، وأحدق ببغلته تسعة من بني عبدالمطلب.

ص: 439

وأقبل مالك بن عوف يقول: أروني محمداً، فأروه، فحمل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكان رجلاً أهوج، فلقيه رجل من المسلمين فالتقيا فقتله مالك، وقيل إنه أيمن بن أم أيمن، ثم أقدم فرسه فأبى أن يقدم نحو رسول الله (صلی الله علیه و آله) !

وصاح كلدة بن حنبل وهو أخو صفوان بن أمية لأمه وصفوان يومئذ مشرك: ألا بطل السحر اليوم! فقال صفوان: أسكت فض الله فاك، فوالله لأن يَرُبَّني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن»!

2. وقد ذكر القرآن أن سبب هزيمة المسلمين في حنين: إعجابهم بكثرة عددهم فقد كانوا في بدر ثلاث مئة ونيفاً، وفي خيبر ألفاً وخمس مئة، فانتصروا، لكنهم رأوا أنفسهم في حنين عشرة آلاف أو نحوها فأعجبتهم كثرتهم! فنبههم الله تعالى إلى خطأ تفكيرهم وأن النصر لم يكن يوماً بالكثرة، قال تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ. ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ». «25-27»والخطاب في الآية للمسلمين الذين نصرهم الله من قبل، وليس منهم الطلقاء.

3. لكن ذلك لا ينفي تواطؤ الطلقاء مع النجديين مقابل عدم هجوم هوازن على مكة، وبذلك يثأر الطلقاء من النبي (صلی الله علیه و آله) لأنه غلبهم وأخضعهم.

وقد يقال هنا إن صفوان بن أمية كان يفضل أن ينتصر النبي (صلی الله علیه و آله) على هوازن فقد «صاح كلدة بن حنبل وهو أخو صفوان لأمه وصفوان يومئذ مشرك: ألا بطل السحر اليوم! فقال صفوان: أسكت فضَّ الله فاك فوالله لأن يَرُبَّنِي«يحكمني»رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن».إعلام الورى: 1/229.

لكن تفضيل صفوان حكم النبي (صلی الله علیه و آله) لاينفي عمل قريش ورئيسها سهيل لقتله (صلی الله علیه و آله) ! لأن صفوان فهو كناني حليف لقريش وليس من صلبهم فلايجب أن يعرف اتفاقهم.

4- كشف النضير خطة الطلقاء بصراحة، فقال كما رواه الواقدي: «خرجت مع قوم من قريش هم على دينهم بعدُ: أبوسفيان بن حرب وصفوان بن أمية وسهيل بن

ص: 440

عمرو ونحن نريد إن كانت دبرة على محمد أن نغير عليه فيمن يغير. فلما تراءت الفِئَتَان ونحن في حيز المشركين حملت هوازن حملة واحدة ظننا أن المسلمين لا يجبرونها أبداً، ونحن معهم وأنا أريد بمحمد ما أريد، وعمدت له فإذا هو في وجوه المشركين واقف على بغلة شهباء حولها رجال بيض الوجوه، فأقبلت عامداً إليه فصاحوا بي: إليك! فأرعب فؤادي وأرعدت جوارحي! قلت: هذا مثل يوم بدر، إن الرجل لعلى حق وإنه لمعصوم! وأدخل الله تعالى في قلبي الإسلام، وغيَّره عما كنت أهم به».سبل الهدى: 5/321.

4- قال الطلقاء بعضهم لبعض عند الهزيمة: «أخذلوه فهذا وقته، فانهزموا أول من انهزم وتبعهم الناس».الصحيح: 24/120.

5- أرسل الطلقاء بخبر الهزيمة إلى مكة وبشروا أهل مكة بهزيمة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فاغتم عتاب بن أسيد حاكم مكة من قبل النبي (صلی الله علیه و آله)، وسُرَّ بذلك الطلقاء في مكة وأظهروا الشماتة، وقالوا ترجع العرب إلى دين آبائها وقد قتل محمد وتفرق أصحابه! فما أمسوا ذلك اليوم حتى جاء الخبر أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أوقع بهوازن، فسُرَّ عتَّاب وكبت الله تعالى أعداء رسوله (صلی الله علیه و آله).سبل الهدى: 5/230.

ومما يؤيد وجود المؤامرة قول الإمام الصادق (علیه السلام): «ما مرَّ بالنبي (صلی الله علیه و آله) يوم كان أشد عليه من يوم حنين! وذلك أن العرب تباغت عليه».علل الشرائع: 2/462.

6- استقسم أبوسفيان بالأزلام وهو نوع من التبصير بالمستقبل! «أخرج أزلاماً من كنانته فضرب بها وقال: إني أرى أنها هزيمة لايردها إلا البحر».

7- وقعت محاولتان على الأقل لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) ! فقد قال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة: «اليوم أدرك ثأر أبي»! وكان أبوه قتل ببدر، وجاء ليقتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره رسول الله بما نواه وأحبط الله سعيه! ثم النضير بن كلدة العبدري وقد اعترف بأنه قصد قتل النبي (صلی الله علیه و آله) فأحبط الله تعالى سعيه! آيات الغدير للمؤلف/136.

8- تناقضت روايتهم عن سبب الهزيمة، فقد قالوا إن هوازن كمنت في الشعاب في مدخل وادي حنين، فتفاجأت المقدمة بقيادة خالد بن الوليد بسهامهم ووقع

ص: 441

منهم قتلى فانهزم خالد وتبعه الطلقاء وتبعهم الباقون، وتركوا النبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم وحدهم مقابل هوازن!

وكذبوا بقولهم إن الوقت كان فجراً فلم يرَ خالد الكمائن!فقد كان قريب الظهر! وقد ناقش مقولاتهم ومبرراتهم للهزيمة صاحب الصحيح:24/100.

5- فرَّ الجميع وثبت النبي (صلی الله علیه و آله) وبنو هاشم فقط!

1- وصف القرآن فرار المسلمين في حنين فضلاً عن الطلقاء، فقال تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ.فالفرار عام والسكينة بعده خاصة.

2- اعترف الجميع بالفرار، ففي صحيح بخاري: 4/57، قال أبو قتادة: «فلحقت عمر بن الخطاب فقلت ما بال الناس؟ قال: أمر الله»! فقد نسب عمر الفرار إلى الله تعالى! وفي صحيح بخاري: 5/98: «يا أبا عمارة أتوليت يوم حنين!فقال: أما أنا فأشهد على النبي (صلی الله علیه و آله) أنه لم يولِّ».

وفي البخاري: 4/28: «فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول: أنا النبي لاكذب. أنا ابن عبدالمطلب. فما رؤي من الناس يومئذ أشد منه»!

وقال ابن هشام: 4/893:«وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد، وانحاز رسول الله ذات اليمين ثم قال: أين الناس هلموا إليَّ أنا رسول الله أنا محمد بن عبدالله! قال: فلا شئ».

وقال ابن خلدون: 2ق2/46: «فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد وناداهم (صلی الله علیه و آله)

فلم يرجعوا».

وقال السرخسي في سيره: 1/117: «فانكشفت أول الخيول خيل بنى سليم مولية ثم تبعهم أهل مكة، وتبعهم الناس مدبرين لايلوي أحد على أحد».

3- في الصحيح من السيرة: 24/ 293، ملخصاً: «دلت النصوص على أن علياً (علیه السلام) وحده الذي ثبت، وقد وردت نصوص كثيرة تضمنت نفي ثبات غيره، واستثنى بعضها

ص: 442

بضعة رجال من بني هاشم، أحاطوا بالنبي (صلی الله علیه و آله) لحمايته.

أما قول بعضهم إنه ثبت ثمانون أو مائة رجل فلعلهم كانوا من أوائل العائدين.

4- وفي الإرشاد: 1/141:«لم يبق منهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) إلاعشرة أنفس: تسعة من بني هاشم خاصة، وعاشرهم أيمن بن أم أيمن، فقتل أيمن (رحمة الله) وثبتت التسعة الهاشميون حتى ثاب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من كان انهزم، فرجعوا أولاً فأولاً حتى تلاحقوا وكانت لهم الكرة على المشركين، وفي ذلك أنزل الله تعالى وفي إعجاب أبي بكر بالكثرة: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ.، يعني أميرالمؤمنين علياً (علیه السلام) ومن ثبت معه من بني هاشم، وهم يومئذ ثمانية.. العباس عن يمينه والفضل عن يساره وأبوسفيان ممسك بسرجه عند ثفر بغلته، وسائرهم حوله، وعلي (علیه السلام) يضرب بالسيف بين يديه».

قال مالك بن عبادة الغافقي:

لم يواس النبي غير بني ها *** شم عند السيوف يوم حنين

هرب الناس غير تسعة رهط *** فهم يهتفون بالناس: أين

ثم قاموا مع النبي على المو *** ت فآبوا زيناً لنا غير شين

وسوى أيمن الأمين من القوم *** شهيداً فاعتاض قرة عين

وقال العباس بن عبدالمطلب:

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة *** وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا

وقولي إذا ما الفضل شد بسيفه *** على القوم أخرى يابني ليرجعوا

وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه *** لما ناله في الله لا يتوجع

5- قال المأمون في مجلسه مع فقهاء عصره: «إن الناس انهزموا يوم حنين فلم يبق مع النبي (صلی الله علیه و آله) إلا سبعة من بني هاشم: علي (علیه السلام) يضرب بسيفه، والعباس آخذ بلجام بغلة النبي (صلی الله علیه و آله)، والخمسة محدقون بالنبي (صلی الله علیه و آله) خوفاً من أن يناله سلاح

ص: 443

الكفار، حتى أعطى الله تبارك وتعالى رسوله (علیه السلام) الظفر.عنى في هذا الموضع علياً ومن حضر من بني هاشم. فمن كان أفضل أمَن كان مع النبي (صلی الله علیه و آله) ونزلت السكينة على النبي (صلی الله علیه و آله) وعليه؟ أم من كان في الغار مع النبي (صلی الله علیه و آله) ولم يكن أهلاً لنزولها عليه؟!».

6- كانت نسيبة تحثو التراب في وجوه المنهزمين وتقول: أين تفرون عن الله وعن رسوله؟ ومر بها عمر بن الخطاب فقالت له: ويلك ما هذا الذي تصنع! فقال: هذا أمر الله!

6- نزلت الملائكة والسكينة على الثابتين خاصة!

قال تعالى: وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ.ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

فالمخاطب بالآية المسلمون الذين نصرهم الله في مواطن كثيرة، وقد وبخهم، وأخبرهم أنه بعد فرارهم أنزل سكينته على رسوله (صلی الله علیه و آله) وعلى المؤمنين الذين ثبتوا معه، وهم بنو هاشم ومولاهم أيمن، ومعهم نسيبة، وقيل معهم ابن أم مسعود. وعذب الذين كفروا حتى انهزموا، وكان عذابهم بيد الملائكة وعلي (علیه السلام) !

7- قاتلَ علي (علیه السلام) وحده ونزلت الملائكة!

اشارة

إطمأن علي (علیه السلام) بأن بني هاشم يحيطون بالنبي (صلی الله علیه و آله)، فغاص في أوساط هوازن يقصد القائد حامل راية الكتيبة فيقتله، ثم يقصد الآخر! وبذلك أبعد المعركة عن النبي (صلی الله علیه و آله) وضعضع صفوف العدو. وكان يرجع بين فترة وأخرى ليطمئن على سلامة النبي (صلی الله علیه و آله) وقد يأتي معه بأسير أو أكثر!

وقد ورد أن النبي (صلی الله علیه و آله) أركض بغلته نحوه، «الصحيح: 24/223» فلعله ذهب ليخبره بنزول الملائكة وأن جبرئيل والملائكة يقاتلون معه، أو يعطيه برنامج القتال!

وفي المناقب: 1/355: «وقف (علیه السلام) يوم حنين في وسط أربعة وعشرين ألف ضارب سيف إلى أن ظهر المدد من السماء. وقتل أربعين رجلاً وفارسهم أبا جرول، قدَّه بنصفين بضربة في الخوذة والعمامة والجوشن والبدن إلى القربوس».

ص: 444

ولا ننس أن إسم علي (علیه السلام) طبق الجزيرة وهابته الفرسان، بعد أن قتل عمرو بن ود في الخندق ومرحباً في خيبر! فكانت حملاته في هوازن كافيةً للرعب فيهم!

ففي أمالي الطوسي/575:«قال نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب: فرَّ الناس جميعاً وأعْرَوْا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلم يبق معه إلا سبعة نفر من بني عبدالمطلب: العباس، وابنه الفضل، وعلي، وأخوه عقيل، وأبوسفيان، وربيعة، ونوفل بنو الحارث بن عبدالمطلب، ورسول الله (صلی الله علیه و آله) مصلت سيفه في المجتلد، وهو على بغلته الدلدل، وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب

قال الحارث بن نوفل: فحدثني الفضل بن العباس قال: التفت العباس يومئذ

وقد أقشع الناس عن بكرة أبيهم، فلم ير علياً (علیه السلام) في من ثبت، فقال: شوهة بوهة، أفي مثل هذا الحال يرغب ابن أبي طالب بنفسه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو صاحب ما هو صاحبه! يعني المواطن المشهورة له فقلت: نقص قولك لابن أخيك يا أبه. قال: ما ذاك يا فضل؟ قلت: أما تراه في الرعيل الأول، أما تراه في

الرهج! قال: أشعره لي يا بني. قلت: ذو كذا ذو كذا ذو البردة. قال: فما تلك البرقة؟ قلت: سيفه يزيل به بين الأقران. فقال: بَرٌّ بن بَر، فداه عم وخال.

قال: فضرب علي (علیه السلام) يومئذ أربعين مبارزاً، كلهم يقدُّه حتى أنفه، قال: وكانت ضرباته مبتكرة». أي واحدة لاتحتاج إلى ثانية!

وقد بخلت مصادر السلطة في ذكر بطولات علي (علیه السلام) وكيف حقق النصر للمسلمين بعد فرارهم! فذكروا أنه قتل قائد هوازن«ذا الخمار»وفارسهم أبا جرول! وقتل (علیه السلام) أربعين من فرسانهم، فوقع فيهم الرعب والهزيمة!

قال في الإرشاد: 1/142:«وأقبل رجل من هوازن على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام القوم، إذا أدرك نفراً من المسلمين أكب عليهم وإذا فاته الناس رفعه لمن وراءه من المشركين فاتبعوه، وهو يرتجز ويقول:

أنا أبو جرولٍ لا براح *** حتى نبيحَ القومَ أو نباح

فصمد له أميرالمؤمنين (علیه السلام) فضرب عجز بعيره فصرعه ثم ضربه فقطره، ثم قال:

ص: 445

قد علم القوم لدى الصباح *** أني في الهيجاء ذو نصاح

فكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول لعنه الله».

«وكان على راية الأحلاف من ثقيف يوم حنين قارب بن الأسود، فلما رأى الهزيمة أسند رايته إلى شجرة وهرب»! ابن حبان: 2/73 وابن خلدون: 2ق2/47.

واعترف رواة السيرة من حيث لا يريدون بفرار الجمع وبطولات علي (علیه السلام) !

ففي سيرة ابن هشام: 4/896:«فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتَّفين عند رسول الله (صلی الله علیه و آله)»! والدرر لابن عبدالبر/227.

فمن أسرهم وكتَّفهم قبل رجوع الفارِّين والكل فارُّون ما عدا بني هاشم الذين يحرسون النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) وحده في المعركة؟!

وقد ادعوا أن ثمانين من الفارين أو مئة رجعوا قبل غيرهم، ونسبوا بطولات علي (علیه السلام) أو قسماً منها اليهم! لكنهم لم يسموا منهم أحداً إلا عبدالله بن مسعود، وهو ضعيف البنية صغير الجثة غير مقاتل! ثم نسبوا النصر إلى دعاء النبي (صلی الله علیه و آله) وإلقائه حفنة الحصى والتراب على جيش هوازن وهو صحيح، لكنه لا يلغي دور علي (علیه السلام) ! وقد نسب أميرالمؤمنين (علیه السلام) النصر إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال فيه:

ألم تر أن الله أبلى رسوله *** بلاء عزيزاً ذا اقتدار وذا فضل

بما أنزل الكفار دار مذلة *** فذاقوا هواناً من إسار ومن قتل

مناقب آل أبي طالب: 2/331.

ومما يدلك على أنه لم يقاتل أحدٌ في حنين إلا علي (علیه السلام) عدم وجود شهداء للمسلمين! وعدم وجود قتلى من المشركين، إلا من قتلهم علي (علیه السلام) !

فلا شهداء إلا أيمن بن أم أيمن (رحمة الله) الذي استشهد دفاعاً عن النبي (صلی الله علیه و آله) عندما قصده مالك بن عوف! وقالوا استشهد غيره ثلاثة أو أربعة، لكن ذكروا أن أحدهم أبا عامر الأشعري«جد الأشعريين القميين»لكنه قتل بعد المعركة في أوطاس في تعقب الفارين، ويزيد بن زمعة بن الأسود جمح به فرسه فمات»! الصحيح من السيرة: 24/338 ولعل البقية مثله!

ص: 446

ولا شك أن الملائكة كان لهم دورٌ مع علي (علیه السلام)، فقد روى القمي في تفسيره: 2/288: «قال رجل من بني نضر بن معاوية يقال له شجرة بن ربيعة للمؤمنين وهو أسير في أيديهم: أين الخيل البلق والرجال عليهم الثياب البيض؟ فإنما كان قتلنا بأيديهم، وما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة! قالوا: تلك الملائكة». وروت شبيهاً به بقية المصادر، ومشاهدة جنود هوازن لكتائب على خيل بلق، وسماعهم قعقعة سلاح في الجو!

وفي مجمع البيان: 5/32: «قال سعيد بن المسيب: حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يقفوا لنا حلب شاة، فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم، حتى إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء، يعني رسول الله، فتلقانا رجال بيض الوجوه فقالوا لنا: شاهت الوجوه إرجعوا! فرجعنا، وركبوا أكتافنا، فكانوا إياها يعني الملائكة»!

وإنما نزلت الملائكة بعد نزول السكينة على المؤمنين الثابتين، وقتال علي (علیه السلام).

رجع المنهزمون فرأوا الأسرى حول النبي (صلی الله علیه و آله)

وجعل ابن عبدالبر في الدرر/226، النصر ببطولة مئة صحابي بلا أسماء! قال: «حتى إذا اجتمع حواليه (صلی الله علیه و آله) مائة رجل أو نحوهم استقبلوا هوازن بالضرب واشتدت الحرب وكثر الطعن والجلاد، فقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ركائبه فنظر إلى مجتلد القوم فقال: الآن حمي الوطيس. وضرب علي بن أبي طالب عرقوب جمل صاحب الراية أو فرسه فصرعه، ولحق به رجل من الأنصار فاشتركا في قتله، وأخذ علي الراية وقذف الله عزوجل في قلوب هوازن الرعب، حين وصلوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وذلك أن رسول الله إذا واجههم وواجهوه صاح بهم صيحة، ورمى في وجوههم بالحصا فلم يملكوا أنفسهم! وفي ذلك يقول الله عزوجل: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى.

وروينا من وجوه عن بعض من أسلم من المشركين ممن شهد حنيناً، قال وقد

ص: 447

سئل عن يوم حنين: لقينا المسلمين فما لبثنا أن هزمناهم، وأتبعناهم حتى وصلنا إلى رجل راكب على بغلة بيضاء، فلما رآنا زجرنا زجرة وانتهرنا، وأخذ بكفه حصاً أو تراباً فرمانا به، وقال: شاهت الوجوه، شاهت الوجوه! فلم تبق عين إلا دخلها من ذلك، فما ملكنا أنفسنا أن رجعنا على أعقابنا! وما استوفى رجوع المسلمين إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلا وأسرى هوازن بين يديه».

أقول: لم يسموا حتى شخصاً واحداً من الأبطال الذين رجعوا، وجعل ابن عبدالبر لعلي (علیه السلام) شريكاً مجهولاً في قتل أبي جرول حامل رايتهم فقال: «فاشتركا في قتله وأخذ علي الراية»!

8- هزيمة هوازن وغنائم المسلمين منها

اشارة

كانت هزيمة المسلمين سريعة، وكان بعدها مباشرة محاولات القرشيين لاغتيال النبي (صلی الله علیه و آله) ومعهم حملات هوازن وفرسانها، فكانت حماية بني هاشم، وحملات علي (علیه السلام) المضادة! ولعل حملاته استمرت أربع ساعات أو نحوها، ومعناه أنه لم يحن الظهر حتى تم النصر للنبي (صلی الله علیه و آله) وانهزم أعداؤه شذر مذر!

أما قائدهم مالك بن عوف الذي كان يهدر ويصيح: أروني محمداً حتى أقتله! وجاء بالفعل إلى قرب مكان النبي (صلی الله علیه و آله) فتصدى له أيمن (رحمة الله) فقتله مالك، ولعل علياً (علیه السلام) قصده فهرب، أو أحس بالملائكة فارتعب، ثم سمع مالك دوي تكبيرات علي (علیه السلام) وهويجندل حملة راياتهم ذا الخمار بن عبدالله، وأخاه عثمان، وأبا جرول، فهرب مالك إلى الطائف!

في إعلام الورى: 1/232:«فر مالك بن عوف حتى دخل حصن الطائف في ناس من أشراف قومهم، وأسلم عند ذلك كثير من أهل مكة حين رأوا نصر الله وإعزاز دينه». والإرشاد: 1/151 والدرر/227.

غنائم هوازن الوافرة

في سيرة ابن هشام: 4/902: «وخرج مالك بن عوف عند الهزيمة، فوقف في فوارس من قومه على ثنية من الطريق وقال لأصحابه: قفوا حتى تمضي ضعفاؤكم وتلحق أخراكم. فوقف هناك حتى مضى من كان لحق بهم من منهزمة الناس»!

ص: 448

«وتركوا أموالهم وأولادهم غنيمة هنيئة للمسلمين كما وعد الله تعالى نبيه (صلی الله علیه و آله)، وكانت أكبر غنيمة، فقد بلغت ستة آلاف سبي بين امرأة وغلام، وأربعةً وعشرين ألف بعير، وأكثر من أربعين ألف شاة من الغنم، وأربعة آلاف أوقية فضة».الصحيح من السيرة: 25/173 وأقل منه في مناقب آل أبي طالب: 1/181.

وأصدر النبي (صلی الله علیه و آله) أمره إلى الراجعين من فرارهم أن يجمعوا الغنائم ويرسلوها إلى «الجعرانة» وجعل بديل بن ورقاء رئيس خزاعة، مسؤولاً عليها. وأصدر أمره أن يتهيؤوا للسير إلى الطائف لمحاصرة ثقيف، التي تحالفت مع هوازن، وخرجت معها لحرب النبي (صلی الله علیه و آله) !

ويفهم من رواية الإمام الصادق (علیه السلام) «مكارم الأخلاق/119»أن النبي (صلی الله علیه و آله) ذهب بنفسه لتعقب الفارين في أوطاس قبل الطائف، قال: «دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) الحرم يوم دخل مكة وعليه عمامة سوداء وعليه السلاح، ثم خرج إلى حنين، فلما فرغ منهم انتهى إلى أوطاس، بقيت منهم بقية ففرغ منهم».

وكان له فيها عين هو أنيس بن مرثد الغنوي، وكان أبو مرثد حليف حمزة بن عبدالمطلب.مذيل الطبري/51.

9- النبي (صلی الله علیه و آله) يحاصر قبيلة ثقيف في الطائف

كانت قبيلة ثقيف في الطائف حلفاء قريش وكان أثرياء قريش يملكون كثيراً من بساتين الطائف وأرضها. وقد جاءها النبي (صلی الله علیه و آله) قبل هجرته يدعوها إلى الإسلام وحمايته من قريش، فرفضت دعوته وآذته! وشاركت مع هوازن في حرب حنين، وسرعان ما انهزمت! فقد رأى قائدهم قارب بن الأسود علياً (علیه السلام) يحصد فرسان هوازن، فخاف وأسند رايته إلى شجرة، وهرب راجعاً إلى الطائف! ثم انهزمت هوازن، فذهب بعضم إلى أوطاس وبعضهم إلى الطائف مع رئيسهم مالك بن عوف، وأكثرهم رجعوا إلى بواديهم.

قال المفيد في الإرشاد: 1/148:«فبعث النبي (صلی الله علیه و آله) أبا عامر الأشعري إلى أوطاس

ص: 449

في جماعة فيهم أبو موسى الأشعري، وبعث أبا سفيان صخر بن حرب إلى الطائف. فأما أبو عامر فإنه تقدم بالراية وقاتل حتى قتل فقال المسلمون لأبي موسى: أنت ابن عم الأمير وقد قتل، فخذ الراية حتى نقاتل دونها، فأخذها أبو موسى فقاتل المسلمون حتى فتح الله عليهم. وأما أبوسفيان فإنه لقيته ثقيف فضربوه على وجهه، فانهزم ورجع إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: بعثتني مع قوم لا يرقع بهم الدلاء من هذيل والأعراب، فما أغنوا عني شيئاً، فسكت النبي (صلی الله علیه و آله) عنه»!

قال الطبري: 2/352:«لما قدم فلُّ ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها وصنعوا الصنائع للقتال. ولم يشهد حنيناً ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلمة، كانا بجرش يتعلمان صنعة الدباب والضبور والمجانيق».

وجرش قرية باليمن تصنع فيها المجانيق، والضبور صندوق مدرع للمقاتلين لينقبوا سور الحصن أو ليردوا المتسلقين، وتسمى الدباب أيضاً، كما تطلق الدباب على الأحجار التي تلقى من المنجنيق، أو تُدحرج من الجبل.

وفي إعلام الورى: 1/233: «سار رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الطائف في شوال سنة ثمان فحاصرهم بضعة عشر يوماً، وخرج نافع بن غيلان بن معتب في خيل من ثقيف فلقيه علي (علیه السلام) في خيله فالتقوا ببطن وَجّ فقتله علي (علیه السلام) وانهزم المشركون.

ونزل من حصن الطائف إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) جماعة من أرقائهم، منهم أبو بكرة وكان عبداً للحارث بن كلدة المنبعث وكان اسمه المضطجع، فسماه رسول الله المنبعث. ووردان، وكان عبداً لعبدالله بن ربيعة، فأسلموا.

فلما قدم وفد الطائف على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأسلموا قالوا: يا رسول الله رد علينا رقيقنا الذين أتوك فقال: لا، أولئك عتقاء الله».

وفي فتوح البلدان للبلاذري: 1/65:«سار رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالمسلمين حتى نزل الطائف فرمتهم ثقيف بالحجارة والنبل، ونصب رسول الله (صلی الله علیه و آله) منجنيقاً على حصنهم، وكانت مع المسلمين دبابة من جلود البقر، فألقت عليها ثقيف سكك الحديد المحماة فأحرقتها، فأصيب من تحتها من المسلمين. وكان حصار رسول الله (صلی الله علیه و آله) الطائف خمس عشرة ليلة».

ص: 450

وفي الخرائج: 1/118: «لما حاصر النبي (صلی الله علیه و آله) أهل الطائف قال عيينة بن حصن: إئذن لي حتى آتي حصن الطائف فأكلمهم، فأذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فجاءهم فقال: أدنو منكم وأنا آمن؟ قالوا: نعم. وعرفه أبو محجن فقال: أدنُ فدخل عليهم، فقال: فداكم أبي وأمي والله لقد سرني ما رأيت منكم، وما في العرب أحد غيركم ووالله ما في محمد مثلكم، ولقد قل المقام وطعامكم كثير، وماؤكم وافر لا تخافون قطعه! فلما خرج قالت ثقيف لأبي محجن: فإنا قد كرهنا دخوله وخشينا أن يخبر محمداً بخلل إن رآه فينا أو في حصننا! فقال أبو محجن: أنا كنت أعرف به ليس منا أحد أشد على محمد منه وإن كان معه! فلما رجع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: قلت لهم أدخلوا في الإسلام، فوالله لا يبرح محمد عقر داركم حتى تنزلوا فخذوا لأنفسكم أماناً، فخذلتهم ما استطعت! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): كذبت لقد قلت لهم كذا وكذا! وعاتبه جماعة من الصحابة قال: أستغفر الله وأتوب إليه، ولا أعود أبداً».

وأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) إلى عبيد أهل الطائف أن من يخرج اليه منهم ويسلم يعتقه، فخرج اليه بعضهم ومنهم أبو بكَرَة بن سمية وأبي عبيد، وهو أخ زياد بن أبي عبيد الذي ادعاه أبوسفيان وألحقه معاوية به، وسمي أبابكرة لأنه استعمل حبلاً وبكرة ونزل من حصن الطائف، فقبل النبي (صلی الله علیه و آله) إسلامه وأعتقه.

10- النبي (صلی الله علیه و آله) يفك الحصار عن الطائف

يلفتنا في عمل النبي (صلی الله علیه و آله) في حصار الطائف أمران:

الأول: أنه لم يأخذ معه علياً (علیه السلام) بل بعثه لإخضاع ضواحيها خاصة قبيلة خثعم، وتحطيم الأصنام الكثيرة التي كانت لأهل الطائف وقريش!

قال المفيد في الإرشاد: 1/148:«وأنفذ أميرالمؤمنين (علیه السلام) في خيل وأمره أن يطأ ما وجد ويكسر كل صنم وجده. فخرج حتى لقيته خيل خثعم في جمع كثير، فبرز له رجل من القوم يقال له شهاب في غبش الصبح فقال: هل من مبارز؟ فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): من له؟ فلم يقم أحد فقام إليه أميرالمؤمنين (علیه السلام)، فوثب أبو

ص: 451

العاص بن الربيع زوج بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: تكفاه أيها الأمير. فقال: لا، ولكن إن قتلت فأنت على الناس. فبرز إليه أميرالمؤمنين (علیه السلام) وهو يقول:

إن على كل رئيس حقا *** أن يرويَ الصعدة أو تُدَقا

ثم ضربه فقتله ومضى في تلك الخيل حتى كسر الأصنام، وعاد إلى رسول الله وهو محاصر لأهل الطائف». ومعنى يروي الصعدة: يروي الرمح المستقيم من دم العدو.

وقد استغرقت مهمة علي (علیه السلام) بضع عشرة يوماً.

ففي أمالي الطوسي/579 و504، عن أبيذر: «عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: لما أوقع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من هوازن سار حتى نزل بالطائف، فحصر أهل وجّ أياماً فسأله القوم أن ينتزح عنهم ليقدم عليه وفدهم، فيشترط له ويشترطون لأنفسهم. فسار (صلی الله علیه و آله) حتى نزل مكة، فقدم عليه نفر منهم بإسلام قومهم، ولم يبخع «يخضع» القوم له بالصلاة ولا الزكاة، فقال (صلی الله علیه و آله): إنه لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود، أما والذي نفسي بيده ليقيمن الصلاة وليؤتن الزكاة أو لأبعثن إليهم رجلاً هو مني كنفسي، فليضربن أعناق مقاتليهم وليسبين ذراريهم هو هذا، وأخذ بيد علي (علیه السلام) فأشالها! فلما صار القوم إلى قومهم بالطائف أخبروهم بما سمعوا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأقروا له بالصلاة وأقروا له بما شرط عليهم، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): ما استعصى عليَّ أهل مملكة ولا أمة إلا رميتهم بسهم الله عزوجل! قالوا: يا رسول الله وما سهم الله؟ قال: علي بن أبي طالب، ما بعثته في سرية إلا رأيت جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، وملكاً أمامه وسحابة تظله، حتى يعطي الله حبيبي النصر والظفر».

وقال المفيد في الإرشاد: 1/148: «وعاد إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو محاصر لأهل الطائف، فلما رآه النبي (صلی الله علیه و آله) كبر للفتح وأخذ بيده فخلا به وناجاه طويلاً. فروى عبدالرحمن بن سيابة والأجلح جميعاً، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبدالله الأنصاري أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما خلا بعلي بن أبي طالب (علیه السلام) يوم الطائف، أتاه عمر بن الخطاب فقال: أتناجيه دوننا وتخلو به دوننا؟ فقال: يا عمر، ما أنا انتجيته بل الله انتجاه! قال: فأعرض عمر وهو يقول: هذا كما قلت لنا قبل الحديبية: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ

ص: 452

اللهُ آمِنِينَ، فلم ندخله وصددنا عنه! فناداه النبي (صلی الله علیه و آله): لم أقل إنكم تدخلونه في ذلك العام»!

والأمر الثاني الملفت في حصار الطائف: أن النبي (صلی الله علیه و آله) فك الحصار عنها ولم يصرّ على فتحها، وروي أنه لم يُؤذن له في فتحها.

وفي إعلام الورى: 1/234: «ذكر الواقدي عن شيوخه قال: شاور رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصحابه في حصن الطائف، فقال له سلمان الفارسي: يا رسول الله أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم، فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فعمل منجنيق، ويقال: قدم بالمنجنيق يزيد بن زمعة ودبابتين. ويقال خالد بن سعيد، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار فأحرقت الدبابة.

وأنفذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) في خيل عند محاصرته أهل الطائف، وأمره أن يكسر كل صنم وجده، فخرج فلقيه جمع كثير من خثعم...الى آخر ما تقدم.

فلما قدم علي (علیه السلام) فكأنما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) على وجل فارتحل، فنادى سعيد بن عبيدة: ألا إن الحي مقيم فقال (علیه السلام): لا أقمت ولاظعنت! فسقط فانكسر فخذه»!

أي لما جاء علي (علیه السلام) فك النبي (صلی الله علیه و آله) الحصار بدون تأخير، فقال الراوي كأنما كان على وجل. ومعنى كلام سعيد أن الذي يظعن هو الغريب الضعيف، وقصده الطعن بالنبي (صلی الله علیه و آله) بفك الحصار وأنه عن عجز، فدعا عليه النبي (صلی الله علیه و آله) فقتله الله! والظاهر أن سبب فك الحصار عن الطائف ليس عجز الصحابة عن اقتحامه، فقد جاء علي (علیه السلام) ! بل سببه طلب قسم من ثقيف«أهل وجّ»أن يفكه عنهم ليأتيه وفدهم ويتفاوضوا معه؟ وقد يكون السبب قرب دخول شهر ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال.تفسير الثعلبي: 5/22.

والأمر المؤكد أن النبي (صلی الله علیه و آله) مسدد بوحي ربه عزوجل في قوله وفعله. فقد قبل وعد أهل الطائف بأنهم يأتون إلى المدينة لمفاوضته، وفك حصارهم مع عدم ثقته بهم، وذهب إلى مكة معتمراً، ثم عاد المدينة.

وذكرت رواية للواقدي أنه (صلی الله علیه و آله) أمر بقطع شجر كرومهم، وهذا لا يصح عندنا.

ص: 453

11- سياسة الإسلام العجيبة مع قريش وثقيف

لم يعرف التاريخ قبائل أفرطت في عدائها كبطون قريش مع النبي (صلی الله علیه و آله) وعشيرته بني هاشم! وقد وثقنا ذلك بسلسة مواقفهم وأعمالهم الكيدية ضد النبي (صلی الله علیه و آله) في بحث: «صراع قريش مع النبي (صلی الله علیه و آله)». لكن العجيب أن النبي (صلی الله علیه و آله) قاوم قريشاً حتى فتح مكة، فأخضعهم وعفا عنهم وقبل إسلامهم وسماهم«الطلقاء».

ثم فتح لهم أبواب دولته! وفي نفس الوقت أعلن أنهم وأولادهم طلقاء وأخرجهم من أمته إلى يوم الدين! ثم حكم (صلی الله علیه و آله) على ثقيف شبيهاً بحكمه على قريش، وثقيف من قبائل هوازن النجدية، سكنت الطائف فصارت حضرية، وكانت حليفة لقريش وشريكتها في عدائها للنبي (صلی الله علیه و آله).وقد تحالفت مع هوازن في حربها للنبي وانهزمت معها في حنين، ثم انهزمت بيد علي (علیه السلام) في وجّ، وبعد هزيمتهم طلبوا أن يعفيهم من الصلاة لأنها «دناءة» معيبة! فلم يقبل منهم وهددهم بعلي (علیه السلام) ! وقد تأخر وفد ثقيف وظلوا على شركهم «ابن هشام: 4/936» فحرك عليهم النبي (صلی الله علیه و آله) القبائل المحيطة بهم التي أسلمت، ومنها بعض قبائل هوازن ليضغطوا عليهم! وأخيراً جاءه وفد ثقيف إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بعد رجوعه من غزوة تبوك، فقبل إسلامهم وسماهم«العتقاء»في مقابل تسمية قريش«الطلقاء».

وأصدر حكمه عليهم وعلى من ولد منهم إلى يوم الدين، بأنهم كالطلقاء ليسوا من أمته الإسلامية! فقال (صلی الله علیه و آله): «المهاجرون والأنصار أولياءٌ بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة».وروته مصادر السنيين بأسانيد عديدة فيها الصحيح على شرط الشيخين كمسند أحمد: 4/363 بروايتين، مجمع الزوائد: 10/15، بروايات وقال في بعضها: رواه أحمد والطبراني بأسانيد وأحد أسانيد الطبراني رجاله رجال الصحيح، وقد جوده فإنه رواه عن الأعمش. وأبو يعلى/446، ابن حبان: 16/250،

الطبراني الكبير: 2/309، 313، 214، 316، 343، 347 و10/187، موارد الظمآن: 7/271،الدر المنثور:3/206، فتح القدير: 2/330، علل الدارقطني 5/102، السمعاني: 4/152، تاريخ بغداد: 13/46، تعجيل المنفعة/414 ومن مصادرنا أمالي الطوسي/268.

ص: 454

وهو حكمٌ شديد وضربة قاصمة لطلقاء قريش وعتقاء ثقيف! حيث أخرجهم من أمته وألحقهم بها إلحاقاً، والعجيب أنه شامل لمن وجد منهم في ذلك العصر، ومن يولد من ذرياتهم إلى يوم القيامة!

فكيف يدعي لهم محبوهم الصحبة والفضائل والخلافة، وهم لايستطيعون إدخالهم في متن أمة الإسلام!

وقد كتب أميرالمؤمنين (علیه السلام) إلى معاوية: «وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان، فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله، وإن نقص لم تلحقك ثلمته! وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس؟ وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم. هيهات لقد حن قدح ليس منها، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها! ألا تربع أيها الإنسان على ظلعك وتعرف قصور ذرعك؟ وتتأخر حيث أخرك القدر فما عليك غلبة المغلوب ولا لك ظفر الظافر! وإنك لذهَّاب في التيه روَّاغ عن القصد».

نهج البلاغة: 3/30، الإحتجاج: 1/259 وابن الأعثم: 2/560.

وقال صعصعة لمعاوية: «أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهراً، ودانهم كبراً، واستولى بأسباب الباطل كذباً ومكراً؟! وإنما أنت طليق ابن طليق، أطلقكما رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فأنى تصلح الخلافة لطليق»!مروج الذهب/694.

وقال ابن عباس لأبي موسى الأشعري: «ليس في معاوية خلة يستحق بها الخلافة! واعلم يا أبا موسى أن معاوية طليق الإسلام، وأن أباه رأس الأحزاب، وأنه يدعي الخلافة من غير مشورة ولا بيعة». شرح النهج: 2/246.

وكتب ابن عباس إلى معاوية: «وإن الخلافة لا تصلح إلا لمن كان في الشورى، فما أنت والخلافة؟ وأنت طليق الإسلام، وابن رأس الأحزاب، وابن آكلة الأكباد من قتلى بدر». الإمامة والسياسة: 1/100 وراجع جواهر التاريخ: 2/94.

وقد اتفق المسلون على هذا الحكم، فقد أفتى عمر بأن حكم الأمة محرم على الطلقاء! وقال كما في الطبقات: 3/342: «هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم

ص: 455

أحد، ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد، وفي كذا وكذا، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شئ». ورواه في تاريخ دمشق: 59/145، أسد الغابة:4/387، تاريخ الخلفاء للسيوطي/113، الغدير: 7/144 و10/30 ونفحات الأزهار: 5/350.

فاعجب لهذا الأمر! واعجب من أن أكثر حكام أمة النبي (صلی الله علیه و آله) ليسوا من أمته!

12- النبي (صلی الله علیه و آله) في الجعرانة يقسم الغنائم ويُحرم للعمرة

الجعرانة: «ماء بين الطائف ومكة وهي إلى مكة أقرب، نزلها النبي (صلی الله علیه و آله) لما قسم غنائم هوازن، مرجعه من غزاة حنين، وأحرم منها، وله فيها مسجد، وبها بِئَار متقاربة».«معجم البلدان: 2/142». وهي من مواقيت الحج، فعن عبدالرحمن بن الحجاج، أن الإمام الصادق (علیه السلام) قال له: «إن سفيان فقيهكم أتاني فقال: ما يحملك على أن تأمر أصحابك يأتون الجعرانة فيحرمون منها؟فقلت له: هو وقت من مواقيت رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال: وأي وقت من مواقيت رسول الله هو؟ فقلت له: أحرم منها حين قسم غنائم حنين ومرجعه من الطائف». الكافي: 4/300.

وفي مجمع البيان: 5/32، «فحاصر أهل الطائف بقية الشهر، فلما دخل ذو القعدة انصرف أتى الجعرانة، وقسم بها غنائم حنين وأوطاس».

وفي إعلام الورى: 1/236: «قال محمد بن إسحاق: فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير، ومعاوية ابنه مائة بعير، وحكيم بن حزام من بني أسد بن عبدالعزى بني قصي مائة بعير، وأعطى النضير بن الحارث بن كلدة مائة بعير، وأعطى العلاء بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة مائة بعير، وأعطى الحارث بن هشام من بني مخزوم مائة، وجبير بن مطعم من بني نوفل بن عبدمناف مائة، ومالك بن عوف النصري مائة، فهؤلاء أصحاب المائة. وقيل: إنه أعطى علقمة بن علاثة مائة، والأقرع بن حابس مائة، وعيينة بن حصن مائة، وأعطى العباس بن مرداس أربعاً فتسخطها وأنشأ يقول:

أتجعل نهبي ونهب العبيد *** بين عيينة والأقرع

فما كان حصن ولا حابس *** يفوقان مرداس في مجمع

ص: 456

وما كنت دون امرء منهما *** ومن تضع اليوم لا يرفع

وقد كنت في الحرب ذا تدرأ *** فلم أعط شيئا ولم أمنع

فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): أنت القائل: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟ فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي لست بشاعر، قال (صلی الله علیه و آله): كيف قال؟ فأنشده أبو بكر، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي قم فاقطع لسانه! قال عباس: فوالله لهذه الكلمة كانت أشد عليَّ من يوم خثعم، فأخذ علي (علیه السلام) بيدي فانطلق بي فقلت: يا علي إنك لقاطع لساني؟ قال: إني ممض فيك ما أمرت، حتى أدخلني الحظائر فقال: أعقل ما بين أربعة إلى مائة. قال: قلت بأبي أنتم وأمي، ما أكرمكم وأحلمكم وأجملكم وأعلمكم. فقال لي: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أعطاك أربعاً وجعلك مع المهاجرين، فإن شئت فخذها وإن شئت فخذ المائة وكن مع أهل المائة. قال: فقلت لم لعلي (علیه السلام): أشر أنت علي. قال: فإني آمرك أن تأخذ ما أعطاك وترضى. قال: فإني أفعل».

وفي سيرة ابن هشام: 4/906: «ثم جُمعت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) سبايا حنين وأموالها وكان على المغانم مسعود بن عمرو الغفاري، وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالسبايا والأموال إلى الجعرانة، فحبست بها».

قال في الصحيح من السيرة: 25/178: «تقدم أن المسلمين انهزموا جميعاً عن النبي (صلی الله علیه و آله) وأن راجِعَتَهم حين رجعت وجدت الأسارى مكتفين عند رسول الله، وأن المسلمين المهزومين لم يضربوا بسيف ولم يطعنوا برمح...والمهاجم الوحيد لجيوش المشركين كان علي بن أبي طالب (علیه السلام) فهزم الله المشركين على يديه شر هزيمة. فالنصر إنما تحقق بجهاد علي (علیه السلام) وبالتأييد الإلهي للنبي (صلی الله علیه و آله) بإنزال الملائكة.وهذا يبين السبب في أن الله سبحانه رد أمر الغنائم والسبي إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليعطيها لمن يشاء، فأعطاها لمن أراد أن يتألفهم، ولم يعط منها حتى أقرب الناس إليه وهم الأنصار..لأنهم لم يكن لهم ولا للمهاجرين ولا

ص: 457

لغيرهم حق فيها ولكنه (صلی الله علیه و آله) قد طيب نفوس الأنصار، بعدما نفَّذ ما أمره الله تعالى».

13- وفد هوازن والشيماء حاضنة النبي (صلی الله علیه و آله)

في إعلام الورى: 1/239: «كان فيما سبي أخته بنت حليمة فلما قامت على رأسه قالت: يا محمد أختك شيماء بنت حليمة! قال فنزع رسول الله (صلی الله علیه و آله) برده فبسطه لها فأجلسها عليه ثم أكب عليها يسائلها وهي التي كانت تحضنه إذ كانت أمها ترضعه... أدرك وفد هوازن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالجعرانة وقد أسلموا فقالوا: يا رسول الله لنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك. وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله، إنا لو ملَّحنا الحارث بن أبي شمر أو النعمان بن المنذر، ثم ولي منا مثل الذي وليت، لعاد علينا بفضله وعطفه وأنت خير المكفولين، وإنما في الحظائر خالاتك وبنات خالاتك وحواضنك وبنات حواضنك اللاتي أرضعنك، ولسنا نسألك مالاً، إنما نسألكهن. أي الحارث ملك غسان والنعمان ملك المناذرة. وقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) قسم منهن ما شاء الله، فلما كلمته أخته قال: أما نصيبي ونصيب بني عبدالمطلب فهو لك، وأما ما كان للمسلمين فاستشفعي بي عليهم».

فلما صلوا الظهر قامت فتكلمت وتكلموا، فوهب لها الناس أجمعون إلا الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، فإنهما أبيا أن يهبا وقالوا: يا رسول الله إن هؤلاء قوم قد أصابوا من نسائنا، فنحن نصيب من نسائهم مثل ما أصابوا.

فأقرع رسول الله (صلی الله علیه و آله) بينهم ثم قال: اللهم أتْوِهْ سهميهما، فأصاب أحدهما خادماً لبني عقل، وأصاب الآخر خادماً لبني نمير، فلما رأيا ذلك وهبا ما منعا.

قال: ولولا أن النساء وقعن في القسمة لوهبهن لها كما وهب ما لم يقع في القسمة ولكنهن وقعن في أنصباء الناس، فلم يأخذ منهم إلا بطيبة النفس.

وروي أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: من أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فئ نصيبه، فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم.

وفي الطبقات: 2/153: «وقدم وفد هوازن على النبي (صلی الله علیه و آله) وهو أربعة عشر رجلاً ورأسهم زهير بن صرد، وفيهم أبو برقان عم رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الرضاعة، فسألوه

ص: 458

أن يمن عليهم بالسبي فقال: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً. فقال: أما ما لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم، وسأسأل لكم الناس، فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله..الخ. وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد كسا السبي قبطيةً قبطية».

قال: وكلمته أخته«الشيماء»في مالك بن عوف فقال: «إن جاءني فهو آمن، فأتاه فرد عليه ماله، وأعطاه مائة من الإبل».

14- مالك بن عوف مسلماً!

في شرح الأخبار: 1/317: «وسأل رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن مالك بن عوف سيد هوازن يومئذ ما فعل؟ فقالوا: لحق بالطائف وتحصن بها مع ثقيف يا رسول الله. قال: فأخبروه أنه إن أتاني مسلماً رددت إليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل. فأخبر بذلك فخرج من الطائف متسللاً عن ثقيف لئلا يعلموا به فيحبسوه. وأتى رسول الله فرد عليه أهله وماله وزاده مائة من الإبل، وأسلم وحسن إسلامه».

وفي تفسير القمي: 1/299: «وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: المؤلفة قلوبهم: أبوسفيان بن حرب بن أمية، وسهيل بن عمرو وهو من بني عامر بن لوي وهمام بن عمرو وأخوه، وصفوان بن أمية بن خلف القرشي ثم الجشمي الجمحي، والأقرع بن حابس التميمي، ثم عمر أحد بني حازم، وعيينة بن حصين الفزاري، ومالك بن عوف، وعلقمة بن علاقة. بلغني أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يعطي الرجل منهم مائة من الإبل ورعاتها، وأكثر من ذلك وأقل».

وفي سيرة ابن هشام: 4/927، أن مالك بن عوف قال بعد مجيئه إلى النبي (صلی الله علیه و آله):

«ما إن رأيت ولا سمعتُ بمثله *** في الناس كلهم بمثل محمد

أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى *** ومتى تشأ يخبرك عما في غد

وإذا الكتيبة عردت أنيابها *** بالسمهري وضرب كل مهند

فكأنه ليث على أشباله *** وسط الهباءة خادر في مرصد

ص: 459

«فاستعمله رسول الله (صلی الله علیه و آله) على من أسلم من قومه وتلك القبائل: ثمالة، وسلمة، وفهم، فكان يقاتل بهم ثقيفاً لايخرج لهم سرح إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم».

15- الأنصار يسقطون في امتحان المال

في مجمع البيان: 5/32: «قال أبو سعيد الخدري: قسم رسول الله للمتألفين من قريش من سائر العرب ما قسم، ولم يكن في الأنصار منها شئ قليل ولا كثير، فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شئ! فقال (صلی الله علیه و آله): فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال: ما أنا إلا امرؤ من قومي! فقال رسول الله: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فجمعهم فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر الأنصار، أو لم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ فقالوا: وما نقول؟ وبماذا نجيبك؟ المنُّ لله ولرسوله.

فقال رسول الله: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فآمناك، ومخذولاً فنصرناك. فقالوا: المنُّ لله ولرسوله.

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم، وقالوا: رضينا بالله ورسوله قسماً. ثم تفرقوا»!

وفي إعلام الورى: 1/238: «وغضب قوم من الأنصار لذلك وظهر منهم كلام قبيح حتى قال قائلهم: لقي الرجل أهله وبني عمه ونحن أصحاب كل كريهة! فلما رأى

ص: 460

رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما دخل على الأنصار من ذلك، أمرهم أن يقعدوا ولا يقعد معهم غيرهم، ثم أتاهم شبه المغضب يتبعه علي (علیه السلام) حتى جلس وسطهم، فقال: ألم آتكم وأنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم الله منها بي؟ قالوا: بلى، ولله ولرسوله المن والطول والفضل علينا. قال: ألم آتكم وأنتم أعداء فألف الله بين قلوبكم بي؟ قالوا: أجل... إلى آخر ما تقدم».

وفي الكافي: 2/411، بسند صحيح عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال زرارة: «سألته عن قول الله عزوجل: والمُؤَلَّفَة قُلُوبُهُم...فغضبت الأنصار واجتمعت إلى سعد بن عبادة فانطلق بهم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالجعرانة فقال: يا رسول الله أتأذن لي في الكلام؟ فقال: نعم، فقال: إن كان هذا الأمر من هذه الأموال التي قسمت بين قومك شيئاً أنزله الله رضينا، وإن كان غير ذلك لم نرض! قال زرارة: وسمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا معشر الأنصار أكُلُّكُمْ على قول سيدكم سعد؟ فقالوا: سيدنا الله ورسوله، ثم قالوا في الثالثة: نحن على مثل قوله ورأيه! قال: زرارة فسمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: فحط الله نورهم».

أقول: من عجائب التاريخ موقف الأنصار عند غنائم حنين، ورئيسهم سعد بن عبادة! فقد آمنوا بالنبي (صلی الله علیه و آله) ورأوا معجزاته، وبذلوا في سبيله أموالهم وأرواحهم، ولما أعطى غيرهم ولم يعطهم اتهموه بأنه يميل مع هواه إلى قومه! وتفسير ذلك أنهم عند الإمتحان غلبهم هواهم وفقدوا عقولهم، فانخفض مستوى إيمانهم، فحط الله نورهم!

وقد سأل النبي (صلی الله علیه و آله) سعداً عن موقفه في اتهامهم لنبيهم (صلی الله علیه و آله) بأنه مال لقومه في تقسيم الغنائم، فأجابه بأنه واحد من قومه رأيه رأيهم! لذلك ينبغي أن يقسم تاريخ الأنصار إلى مرحلة ما قبل غنائم حنين وبعدها!

وهذا يفسر سوء توفيق سعد ونقضه بيعته للنبي (صلی الله علیه و آله) بأن يحموه ويحموا أهل بيته بعده مما يحمون منه أنفسهم وذراريهم، فعندما رأى قريشاً مجمعة على إبعاد عترة النبي (صلی الله علیه و آله) عن خلافته، اتجه إلى ذاته وأخذ يعمل لأن تكون الخلافة له، لأنه

ص: 461

أحق بالإسلام وخلافته، من بطون قريش!

وقد عالج النبي (صلی الله علیه و آله) هذا الهبوط الذي حدث في حنين، بتطييب خواطرهم والدعاء لهم، وهي معالجة لتهدئتهم، لكن مستواهم انخفض كثيراً.

16- ولادة الخوارج في الجعرانة

في إعلام الورى: 1/241: «عن أبي سعيد الخدري قال: بينا نحن عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يقسم إذ أتاه ذو الخويصرة، رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله إعدل! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ويلك من يعدل إن أنا لم أعدل وقد خبت وخسرت إن أنا لم أعدل! فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يقرؤون القرآن لايجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، يُنظر إلى نصله فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر إلى رصافه«شد السهم»فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر في قذذه «ريش السهم» فلا يوجد فيه شئ، قد سبق الفرث والدم! آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تَدَرْدَر«تترجرج»يخرجون على خير فرقة من الناس.

قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتُمس فوُجد فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي نعت». ومناقب الخوارزمي/259، بخاري: 4/179وغيره بتفاصيل أكثر، ومديح عظيم لمن يقتلهم.

وقال الشريف الرضي في المجازات النبوية/33: «ومن ذلك قوله (صلی الله علیه و آله) في ذكر الخوارج: يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية..الحديث.. إلى قوله: قد سبق الفرث والدم. وفي هذا القول مجاز، لأنه (صلی الله علیه و آله) شبه دخولهم في الدين وخروجهم منه بسرعة من غير أن يتعلقوا بعقدته أو يعيقوا بطينته، بالسهم الذي أصاب الرمية، وهي الطريدة ثم خرج مسرعاً من جسمها ولم يعلق بشئ من فرثها ودمها،

ص: 462

وذلك من صفات السهم الصائب، لأنه لا يكون شديد السرعة إلا بعد أن يكون قوي النزعة». والمعنى أنهم منافقون يدخلون في الدين ويخرجون منه بسرعة، كالسهم السريع الذي ينفذ في الصيد ويخرج منه، وليس فيه أثر منه!

17- اعتمر النبي (صلی الله علیه و آله) من الجعرانة، ثم رجع إلى المدينة

في الخصال/200: «عن ابن عباس أن النبي (صلی الله علیه و آله): اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية وعمرة القضاء من قابل، والثالثة من جعرانة، والرابعة التي مع حجته».

وفي سيرة ابن هشام: 4/936: «ثم خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الجعرانة معتمراً، وأمر ببقايا الفئ فحبس بمجنة بناحية مر الظهران، فلما فرغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) من عمرته انصرف راجعاً إلى المدينة، واستخلف عتاب بن أسيد على مكة. وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج عليه، وحج بالمسلمين تلك السنة عتاب بن أسيد وهي سنة ثمان، وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم ما بين ذي القعدة إذ انصرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى شهر رمضان من سنة تسع».

ص: 463

الفصل الرابع والستون: استكمال فتح اليمن بعد حنين

1- ضعف الحكام الفرس في اليمن

عندما بُعث النبي (صلی الله علیه و آله) كانت اليمن تُحكم من قبل كسرى، ولما كتب (صلی الله علیه و آله) إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام، غضب ومزق الرسالة وأرسل إلى حاكم اليمن واسمه باذان أن يبعث له النبي (صلی الله علیه و آله) ! فأرسل باذان إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وأبلغه رسالة كسرى، فأجابه في اليوم التالي إن الله قد أخبرني أنه قتل كسرى في يوم كذا من شهر كذا! فعاد الوفد مبهوتاً إلى باذان، وجاءه الخبر بتصديق ما قاله النبي (صلی الله علیه و آله) حرفياً فأسلم باذان فقبل النبي (صلی الله علیه و آله) إسلامه، ونصبه حاكماً على اليمن.

قال الأحمدي في مكاتيب الرسول: 2/499 و329، ملخصاً: «كانت اليمن كلها تحت حكم كسرى وكان عامله عليها وهرز «وهو الذي حرر اليمن من الحبشة مع سيف بن ذي يزن»ثم بعده المرزبان بن وهرز، ثم بعده البينجان بن المرزبان بن وهرز، ثم بعده خرخسرة بن البينجان، ثم بعده باذان، حتى هلك كسرى وأسلم باذان فنصبه رسول الله (صلی الله علیه و آله) على اليمن كلها..فلم يعزله عنها حتى مات أو قتله الأسود العنسي، واستصفى زوجته المرزبانة لنفسه! ففرق رسول الله (صلی الله علیه و آله) عمله ما بين شهر بن باذان، وعامر بن شهر الهمداني، وأبي موسى الأشعري، وخالد بن سعيد، ويعلى بن أمية، وعمرو بن حزم، وزياد بن لبيد، والطاهر بن أبي هالة، وعكاشة بن ثور المهاجر أو عبدالله...

والمراد بالأبناء أبناء الفرس الذين بعثهم كسرى إلى اليمن لما استنجد سيف بن ذي يزن،

ص: 464

فاسترجعوا ملك سيف، واستقروا في اليمن وتزوجوا في العرب، وسميت أبناؤهم بالأبناء، وغلب عليهم هذا الإسم».وابن هشام: 1/45.

2- ضعف سلطة باذان وتفكك اليمن

كانت قبائل اليمن تخضع للحاكم الفارسي وأسرته«الأبناء»لأن وراءهم أمبراطورية إذا طلبوا منها مدداً عسكرياً أرسلت لهم، لكن عندما قتل كسرى وضعفت فارس ونقل حكام اليمن ولاءهم من كسرى إلى النبي (صلی الله علیه و آله) طمع زعماء القبائل وأخذوا يستقلون بمناطقهم فاحتاج النبي (صلی الله علیه و آله) لأن يرسل لكل منطقة حاكماً، فتوزع حكم اليمن. والحكام الذين عينهم النبي (صلی الله علیه و آله) كانوا مميزين عسكرياً لحاجة المنطقة إلى ذلك، أو أصحاب قبول ونفوذ في المناطق التي عينهم فيها. ويظهر أن نفوذ باذان والأبناء ضعف كثيراً حتى احتاجوا إلى التحالف مع القبائل: «فقالت الرسل من الفرس لرسول الله (صلی الله علیه و آله): إلى من نحن يا رسول الله؟ قال: أنتم منا وإلينا أهل البیت. قال ابن هشام: فبلغني عن الزهري أنه قال: فمن ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): سلمان منا أهل البیت».سيرة ابن هشام: 1/45.

يقصد الراوي أن ولاء الفرس لبني هاشم، ولذا صار سلمان من أهل البیت، وهذا التعليل لايصح. ويظهر أن نفوذ باذان اقتصر على صنعاء وبعض مناطق اليمن فقط! فقد اتفق المؤرخون على أن قبائل همدان أسلمت على يد علي (علیه السلام)، وسجد النبي (صلی الله علیه و آله) شكراً لله على إسلامها وقال: السلام على همدان، وكان ذلك في السنة الثامنة بعد حنين، وقيل في العاشرة، كما أن قبائل مذحج أسلمت بعدها.

وهمدان ومذحج هما الشطر الأعظم من اليمن. ويؤيد ذلك أن الأسود العنسي ادعى النبوة وسيطر على صنعاء، وقتل باذان أو قتل ابنه الذي حكم بعده.

وقد بعث النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) إلى اليمن ثلاث مرات، في السنة الثامنة إلى قبائل همدان، وفي العاشرة إلى قبائل مذحج، وأرسله بينهما قاضياً على اليمن.

قال في أعيان الشيعة: 1/410: «قال دحلان في سيرته... بَعْثُ عليٍّ إلى همدان لم

ص: 465

يكن سنة عشر إنما كان سنة عشر بعثه إلى بني مذحج، وأما بعثه إلى همدان فكان سنة ثمان بعد فتح مكة، فيكون بعث علي إلى اليمن حصل مرتين».

وفي المستجاد من الإرشاد/111: «لما أراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) تقليده قضاء اليمن وإنفاذه إليهم ليعلمهم الأحكام، ويبين لهم الحلال من الحرام، ويحكم فيهم بأحكام القرآن قال له: تندبني يا رسول الله للقضاء وأنا شاب ولا علم لي بكل القضاء. فقال له: أدنُ مني فدنا منه، فضرب على صدره وقال: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه. قال أميرالمؤمنين: فما شككت في قضاء بين اثنين بعد ذلك المقام».

3- فتح علي (علیه السلام) لليمن

صعدنا درج صنعاء ودخلنا سوقها، فقالوا هذه الساحة «إسمها الحلقة»وسألنا عن معناها فقالوا: هنا وقف علي (علیه السلام) وقرأ كتاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأهل اليمن فتحَلَّقُوا حوله! وزرنا بعد الساحة مسجد علي (علیه السلام) وهو البيت الذي كان لامرأة فاستأجره علي (علیه السلام) وسكن فيه مدة عمله في اليمن، فحولته صاحبته إلى مسجد.

في الكافي: 5/28، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قال أميرالمؤمنين (علیه السلام): بعثني رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى اليمن وقال لي: يا علي لاتقاتلن أحداً حتى تدعوه، وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه».

وفي العدد القوية للحلي/251: «عن البراء بن عازب قال: بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام، فكنت فيمن سار معه، فأقام عليهم ستة أشهر لا يجيبونه إلى شئ! فبعث النبي (صلی الله علیه و آله) علي بن أبي طالب وأمره أن يُقفل«يُرجع»خالداً ومن اتبعه إلا من أراد البقاء مع علي فيتركه، فكنت ممن عقب مع علي، فلما انتهينا إلى أوائل اليمن وبلغ القوم الخبر فجمعوا له، فصلى بنا علي صلاة الفجر، فلما فرغ صفنا صفاً واحداً ثم تقدم بين أيدينا فحمد الله وأثنى عليه ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، وكتب بذلك علي إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما قرأ كتابه خر ساجداً ثم جلس فقال: السلام على همدان، وتتابع أهل اليمن الإسلام».

ص: 466

وروته مصادر السلطة وسماها ابن هشام: 4/1028و 1056: غزوة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه إلى اليمن، غزاها مرتين، وتوغل في مناطقها.

وقال الصالحي في سبل الهدى: 6/235: «روى البيهقي في السنن والدلائل والمعرفة عن البراء بن عازب قال: بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام. قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا. ثم إن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث علي بن أبي طالب مكان خالد وأمره أن يُقفل خالداً، وقال: مُرْ أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب ومن شاء فليقبل...الى آخره، وفيه: «وقال: إذا كان قتال فعليٌّ الأمير، قال: فافتتح عليُّ حصناً فغنمت أواقي ذوات عدد وأخذ علي منه جارية، قال: فكتب معي خالد إلى رسول الله يخبره! قال الترمذي: يعني النميمة! قال: فلما قدمت على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقرأ الكتاب رأيته يتغير لونه فقال: ما ترى في رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله تعالى ورسوله؟ فقلت: أعوذ بالله من غضب الله تعالى وغضب رسوله، إنما أنا رسول». فسكت.

وفي رواية: فكتب خالد إلى رسول الله فقلت إبعثني فبعثني، فجعل يقرأ الكتاب وأقول صدق، فإذا النبي (صلی الله علیه و آله) قد احمر وجهه فقال: من كنت وليه فعلي وليه! ثم قال: يا بريدة أتبغض علياً؟ فقلت: نعم. قال: لاتبغضه فإن له الخمس أكثر من ذلك. وفي رواية: والذي نفسي بيده لنصيب علي في الخمس أفضل من وصيفة، وإن كنت تحبه فازدد له حباً. وفي رواية: لا تقع في علي فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي. قال بريدة: فما كان في الناس أحد أحب إلي من علي!

قال الحافظ: كان بعث علي بعد رجوعهم من الطائف، وقسمة الغنائم بالجعرانة.. وهو وليكم بعدي: أي يلي أمركم.

الباب الثاني والسبعون في سرية علي بن أبي طالب إلى اليمن المرة الثانية: قال محمد بن عمر«الواقدي» وابن سعد واللفظ للأول: قالوا بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً إلى اليمن في رمضان وأمره أن يعسكر بقناة، فعسكر بها حتى تتامَّ أصحابه. فعقد له

ص: 467

رسول الله (صلی الله علیه و آله) لواء وأخذ عمامته فلفها مثنية مربعة، فجعلها في رأس الرمح ثم دفعها إليه، وعممه بيده عمامة ثلاثة أكوار، وجعل له ذراعاً بين يديه وشبراً من ورائه وقال له: إمض ولا تلتفت. فقال علي: يا رسول الله ما أصنع؟ قال: إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، وادعهم إلى أن يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإن قالوا نعم فمرهم بالصلاة، فإن أجابوا فمرهم بالزكاة، فإن أجابوا فلا تبغ منهم غير ذلك. والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت.

فخرج علي في ثلاث مائة فارس فكانت خيلهم أول خيل دخلت تلك البلاد. فلما انتهى إلى أدنى الناحية التي يريد من مذحج، فرق أصحابه فأتوا بنهب وغنائم وسبايا نساء وأطفالاً ونعماً وشاءً وغير ذلك، فجعل علي على الغنائم بريدة بن الحصيب الأسلمي فجمع إليه ما أصابوا قبل أن يلقى لهم جمعاً.

ثم لقي جمعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا أصحابه بالنبل والحجارة، فلما رأى أنهم لايريدون إلا القتال، صف أصحابه ودفع اللواء إلى مسعود بن سنان السلمي فتقدم به، فبرز رجل من مذحج يدعو إلى البراز، فبرز إليه الأسود بن خزاعي فقتله الأسود وأخذ سلبه. ثم حمل عليهم علي وأصحابه فقتل منهم عشرين رجلاً، فتفرقوا وانهزموا وتركوا لواءهم قائماً، وكف علي عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإسلام فأسرعوا وأجابوا، وتقدم نفر من رؤسائهم فبايعوه على الإسلام وقالوا: نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله تعالى. وجمع علي ما أصاب من تلك الغنائم، فجزأها خمسة أجزاء، فكتب في سهم منها لله ثم أقرع عليها، فخرج أول السُّهمان سهم الخمس.

وقسم عليٌّ على أصحابه بقية المغنم، ولم ينفل أحداً من الناس شيئاً، وكان من كان قبله يعطون خيلهم الخاص دون غيرهم من الخمس، ثم يخبرون رسول الله بذلك فلا يرده عليهم، فطلبوا ذلك من علي فأبى وقال: الخمس أحمله إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يرى فيه رأيه. وأقام فيهم يقرؤهم القرآن ويعلمهم الشرائع.

وكتب إلى رسول الله كتاباً مع عبدالله بن عمرو بن عوف المزني يخبره الخبر، فأتى

ص: 468

رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يوافيه الموسم، فانصرف عبدالله بن عمرو بن عوف إلى علي بذلك فانصرف علي راجعاً، فلما كان بالفتقن«مكان»تعجل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يخبره الخبر، وخلف على أصحابه والخمس أبا رافع، فوافى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة قد قدمها للحج، وكان في الخمس ثياب من ثياب اليمن أحمال معكومة ونعم وشاء مما غنموا، ونعم من صدقة أموالهم، فسأل أصحاب علي أبا رافع أن يكسوهم ثياباً يحرمون فيها، فكساهم منها ثوبين ثوبين. فلما كانوا بالسدرة داخلين خرج علي ليتلقاهم ليقدم بهم، فرأى على أصحابه الثياب فقال لأبي رافع: ما هذا؟ فقال: كلموني ففرقت من شكايتهم وظننت أن هذا ليسهل عليك، وقد كان من قبلك يفعل هذا بهم. فقال: قد رأيت امتناعي من ذلك ثم أعطيتهم وقد أمرتك أن تحتفظ بما خلفت فتعطيهم! فنزع علي الحلل منهم! فلما قدموا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) شكوه، فدعا علياً فقال: ما لأصحابك يشكونك؟ قال: ما أشكيتهم، قسمت عليهم ماغنموا وحبست الخمس حتى يقدم عليك فترى فيه رأيك. فسكت رسول الله (صلی الله علیه و آله)». انتهى.

أقول: يظهر أن خالداً لم يطع أمر النبي (صلی الله علیه و آله) فقد أمره أن يرجع، وخيَّر جنوده بين البقاء مع علي (علیه السلام) أو الرجوع! لكنه بقي يتتبع عمل علي (علیه السلام) ويرسل إلى النبي يشكوه! كما يتضح من روايتهم أن علياً (علیه السلام) أعطى جنوده أربعة أخماس الغنيمة فطمعوا في خمس النبي (صلی الله علیه و آله) واستغلوا مسارعة علي (علیه السلام) قبلهم إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فأصروا على أبي رافع وأخذوا من الخمس الذي للنبي (صلی الله علیه و آله) بغير حق، فلما رجع علي (علیه السلام) نزعه منهم!وظلم رواة الحكومة علياً (علیه السلام) فصوروا أنه أخطأ مع جنوده!

ثم تابع الصالحي في سبل الهدى: «الباب الرابع والتسعون في وفود همدان إليه (صلی الله علیه و آله): قالوا قدم وفد همدان على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعليهم مقطعات الحبرات مكففة بالديباج، وفيهم حمزة بن مالك من ذي مشعار، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):

نِعْمَ الحيُّ همدان ما أسرعها إلى النصر وأصبرها على الجهد، ومنهم أبدال وأوتاد الإسلام. فأسلموا وكتب لهم النبي (صلی الله علیه و آله) كتاباً بمخلاف خارف، ويام، وشاكر،

ص: 469

وأهل الهضب، وحقاف الرمل من همدان، لمن أسلم منهم...

وقد روى البيهقي بإسناد صحيح من حديث ابن إسحاق عن البراء: أن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام. قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام، فلم يجيبوه، ثم أن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث علي بن أبي طالب وأمره أن يعقب خالداً إلا رجلاً ممن كان مع خالد أحب أن يعقب مع علي فليعقب معه.. إلى آخر ما تقدم».

وقال ابن إسحاق: فقام مالك بن نمط بين يديه فقال: يا رسول الله نصيَّةٌ من همدان من كل حاضر وباد، أتوك على قلص نواح، متصلة بحبائل الإسلام، لا تأخذهم في الله لومة لائم، من مخلاف خارف ويام وشاكر، أهل السواد والقود أجابوا دعوة الرسول وفارقوا الإلاهات والأنصاب، عهدهم لا ينقض عن سِنَة ماحل، ولا سوداء عنقفير، ما أقام لعلع، وما جرى اليعفور بصيلع.

فكتب لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) كتاباً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد رسول الله لمخلاف خارف، وأهل جناب الهضب، وحقاف الرمل، مع وافدها ذي المشعار مالك بن نمط، ومن أسلم من قومه أن لهم فراعها ووهاطها وعزازها، ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون ظلافها، ويرعون عفاءها، ولنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقة الثلب والتاب والفصيل والفارض والداجن والكبش الحوري وعليهم فيها الصالغ والقارح. لكم بذلك عهد الله وذمام رسوله، وشاهدكم المهاجرون والأنصار.

فقال في ذلك مالك بن نمط:

ذكرت رسول الله في فحمة الدجى *** ونحن بأعلى رحرحان وصلدد

وهن بنا خوص طلائح تغتلي *** بركبانها في لأحب متمدد

على كل فتلاء الذراعين جسرة *** تمر بنا مر الهجف الخفيدد

حلفت برب الراقصات إلى منى *** صوادر بالركبان من هضب قردد

بأن رسول الله فينا مصدق *** رسول أتى من عند ذي العرش مهتد

ص: 470

فما حملت من ناقة فوق رحلها *** أشد على أعدائه من محمد

وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه *** وأمضى بحد المشرفي المهند»

ومن رواياتها عن أبي رافع: «بعث رسول الله علياً أميراً على اليمن، وبعث خالد بن الوليد على الجبل فقال: إن اجتمعتما فعليٌّ على الناس، فالتقوا وأصابوا من الغنائم ما لم يصيبوا مثله وأخذ علي جارية من الخمس، فدعا خالد بن الوليد بريدة فقال: إغتنمها فأخبر النبي ما صنع! فقدمت المدينة ودخلت المسجد ورسول الله في منزله وناس من أصحابه على بابه فقالوا: ما الخبر يا بريدة؟ فقلت: خيراً فتح الله على المسلمين، فقالوا: ما أقدمك؟ قلت: جارية أخذها علي من الخمس فجئت لأخبر النبي! فقالوا: فأخبر النبي فإنه يسقط من عين النبي! ورسول الله يسمع الكلام فخرج مغضباً فقال: ما بال أقوام ينتقصون علياً! من تَنَقَّصَ علياً فقد تنقصني ومن فارق علياً فقد فارقني! إن علياً مني وأنا منه خلق من طينتي وخلقت من طينة إبراهيم، وأنا أفضل من إبراهيم، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم. يا بريدة: أما علمت أن لعلي أكثر من الجارية التي أخذ وأنه وليكم بعدي؟فقلت: يا رسول الله بالصحبة إلا بسطت يدك فبايعتني على الإسلام جديداً! قال: فما فارقته حتى بايعته على الإسلام»! أوسط الطبراني: 6/163.

أقول: بحثنا شكاية خالد وجواب النبي (صلی الله علیه و آله) في كتاب العقائد الإسلامية: 4/91، وتحريف البخاري وغيره لها.

وأخيراً، ادعى كعب الأحبار أنه لقي عليا (علیه السلام) باليمن وأسلم! ففي مغازي الواقدي/668: «لما قدم علي بن أبي طالب اليمن خطب به، وبلغ كعب الأحبار قيامه بخطبته، فأقبل على راحلته في حلة، معه حبر من أحبار اليهود حتى استمعا له... قال كعب الأحبار: لما قدم علي اليمن لقيته فقلت: أخبرني عن صفة محمد، فجعل يخبرني عنه وجعلت أتبسم، فقال: مم تتبسم؟ فقلت: مما يوافق ما عندنا من صفته... قال: فأقمت باليمن على إسلامي حتى توفي رسول الله وتوفي أبو

ص: 471

بكر فقدمت في خلافه عمر، وياليت أني كنت تقدمت في الهجرة»!

وكذب كعب في ادعائه، لأنه إنما أعلن أنه مسلم في أواسط خلافة عمر!

4- أهدى علي (علیه السلام) إلى النبي (صلی الله علیه و آله) أفراساً من اليمن

في الكافي: 6/535، عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: «أهدى أميرالمؤمنين (علیه السلام) إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أربعة أفراس من اليمن فقال: سمها لي، فقال: هي ألوان مختلفة قال: ففيها وضح؟ فقال: نعم فيها أشقر به وضح، قال: فأمسكه عليَّ، قال: وفيها كميتان أوضحان، فقال: أعطهما ابنيك، قال: والرابع أدهم بهيم قال: بعه واستخلف به نفقة لعيالك، إنما يمن الخيل في ذوات الأوضاح».

5- وأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) قاضياً إلى اليمن

في بصائر الدرجات/472، عن عبدالعزيز القراطيسي: «قلت لأبي عبدالله: جعلت فداك إن الناس يزعمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجه علياً (علیه السلام) إلى اليمن ليقضي بينهم فقال علي (علیه السلام): فما وردت على قضية إلا حكمت فيها بحكم الله وحكم رسوله (صلی الله علیه و آله). فقال صدقوا. قلت: وكيف ذاك ولم يكن أنزل القرآن كله، وقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) غائباً عنه؟ فقال: يتلقاه به روح القدس».

وفي أمالي الصدوق/428: «عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً إلى اليمن فانفلت فرس لرجل من أهل اليمن فنفح رجلاً برجله فقتله، وأخذه أولياء المقتول فرفعوه إلى علي، فأقام صاحب الفرس البينة أن الفرس انفلت من داره فنفح الرجل برجله، فأبطل علي (علیه السلام) دم الرجل، فجاء أولياء المقتول من اليمن إلى النبي (صلی الله علیه و آله) يشكون علياً (علیه السلام) فيما حكم عليهم فقالوا: إن عليا ظلمنا وأبطل دم صاحبنا! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن علياً ليس بظلام، ولم يخلق علي للظلم، وإن الولاية من بعدي لعلي، والحكم حكمه، والقول قوله، لا يرد حكمه وقوله وولايته إلا كافر، ولا يرضى بحكمه وقوله وولايته إلا مؤمن. فلما سمع اليمانيون قول رسول الله (صلی الله علیه و آله)

في علي (علیه السلام) قالوا: يا رسول الله، رضينا بقول علي وحكمه. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):

ص: 472

هو توبتكم مما قلتم». والتهذيب: 10/228.

أقول: من القواعد المتفق عليها أنه لا يبطل دم امرئ مسلم، فلا بد أن يكون إبطال دم الذي نفحه الفرس، بمعنى عدم ضمان صاحب الفرس لعدم تقصيره، فتكون ديته على الوالي من بيت المال.

6- ثم أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) إلى اليمن ليصلح بينهم

في بصائر الدرجات/521، عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: «دعاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) فوجهني إلى اليمن لأصلح بينهم، فقلت له يا رسول الله (علیه السلام) إنهم قوم كثير وأنا شاب حدث. فقال لي: يا علي (علیه السلام) إذا صرت بأعلى عقبة فيق فناد بأعلى صوتك: يا شجر يا مدر يا ثرى، محمد رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقرؤكم السلام!قال: فذهبت فلما صرت بأعلى عقبة فيق أشرفت على اليمن، فإذا هم بأسرهم مقبلون نحوي مشرعون أسنتهم، متنكبون قسيهم شاهرون سلاحهم، فناديت بأعلى صوتي: يا شجر يا مدر يا ثرى محمد (صلی الله علیه و آله) يقرؤكم السلام، قال: فلم يبق شجرة ولا مدرة ولا ثرى الا ارتجت بصوت واحد: وعلى محمد رسول الله وعليك السلام! فاضطربت قوايم القوم وارتعدت ركبهم، ووقع السلاح من أيديهم، وأقبلوا مسرعين فأصلحت بينهم وانصرفت».

7- ثم أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) إلى اليمن عندما ارتد ابن معديكرب

في البحار: 21/356 والإرشاد: 1/145: «لما عاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) من تبوك إلى المدينة قدم إليه عمرو بن معدي كرب فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): أسلم يا عمرو يؤمنك الله من الفزع الأكبر، قال: يا محمد وما الفزع الأكبر فإني لا أفزع، فقال يا عمرو: إنه ليس كما تظن وتحسب! إن الناس يصاح بهم صيحة واحدة، فلا يبقى ميت إلا نشر ولا حي إلا مات، إلا ما شاء الله، ثم يصاح بهم صيحة أخرى فينشر من مات، ويُصَفُّونَ جميعاً وتنشق السماء وتهد الأرض وتخر الجبال هداً، وترمي النار بمثل الجبال شرراً، فلا يبقیٰ ذو روح إلا انخلع قلبه وذكر ذنبه وشغل بنفسه

ص: 473

إلا من شاء الله! فأين أنت يا عمرو من هذا؟ قال: ألا إني أسمع أمراً عظيماً، فآمن بالله ورسوله وآمن معه من قومه ناس ورجعوا إلى قومهم.

ثم إن عمرو بن معدي كرب نظر إلى أبيّ بن عثعث الخثعمي، فأخذ برقبته ثم جاء به إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: أُعْدُني على هذا الفاجر الذي قتل والدي، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أهدر الإسلام ما كان في الجاهلية، فانصرف عمرو مرتداً، فأغار على قوم من بني الحارث بن كعب، ومضى إلى قومه! فاستدعى رسول الله (صلی الله علیه و آله) علي بن أبي طالب وأمره على المهاجرين وأنفذه إلى بني زبيد، وأرسل خالد بن الوليد في الأعراب وأمره أن يعمد لجعفى، فإذا التقيا فأمير الناس أميرالمؤمنين. فسار أميرالمؤمنين (علیه السلام) واستعمل على مقدمته خالد بن سعيد بن العاص واستعمل خالد على مقدمته أبا موسى الأشعري، فأما جعفى فإنها لما سمعت بالجيش افترقت فرقتين: فذهبت فرقة إلى اليمن وانضمت الفرقة الأخرى إلى بني زبيد، فبلغ ذلك أميرالمؤمنين (علیه السلام) فكتب إلى خالد بن الوليد: أن قف حيث أدركك رسولي فلم يقف! فكتب إلى خالد بن سعيد بن العاص: تعرض له حتى تحبسه، فاعترض له خالد حتى حبسه، وأدركه أميرالمؤمنين (علیه السلام) فعنفه على خلافه! ثم سار حتى لقي بني زبيد بواد يقال له كثير، فلما رآه بنو زبيد قالوا لعمرو: كيف أنت يا با ثور إذا لقيك هذا الغلام القرشي فأخذ منك الإتاوة؟ قال: سيعلم إن لقيني! قال: وخرج عمرو فقال: من يبارز؟ فنهض إليه أميرالمؤمنين (علیه السلام) وقام إليه خالد بن سعيد وقال له: دعني يا أبا الحسن بأبي أنت وأمي أبارزه، فقال له أميرالمؤمنين (علیه السلام): إن كنت ترى أن لي عليك طاعة فقف مكانك فوقف، ثم برز إليه أميرالمؤمنين (علیه السلام) فصاح به صيحة فانهزم عمرو! وقتل أخاه وابن أخيه. وأُخِذَت امرأته ركانة بنت سلامة، وسبي منهم نسوان، وانصرف أميرالمؤمنين (علیه السلام) وخلف على بني زبيد خالد بن سعيد ليقبض صدقاتهم، ويؤمِّن من عاد إليه من هرابهم مسلماً، فرجع عمرو بن معدي كرب واستأذن على خالد بن سعيد فأذن له، فعاد إلى الإسلام، فكلمه في امرأته وولده فوهبهم له! وقد كان عمرو لما وقف بباب خالد بن سعيد وجد جزوراً قد نحرت فجمع قوائمها ثم ضربها بسيفه فقطعها جميعاً، وكان يسمى سيفه الصمصامة،

ص: 474

فلما وهب خالد بن سعيد لعمرو امرأته وولده، وهب له عمرو الصمصامة.

وكان أميرالمؤمنين (علیه السلام) قد اصطفى من السبي جارية، فبعث خالد بن الوليد بريدة الأسلمي إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وقال له: تقدم الجيش إليه فأعلمه بما فعل علي من اصطفائه الجارية من الخمس لنفسه، وقَعْ فيه! فسار بريدة حتى انتهى إلى باب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلقيه عمر بن الخطاب فسأله عن حال غزوتهم وعن الذي أقدمه فأخبره أنه إنما جاء ليقع في علي وذكر له اصطفاءه الجارية من الخمس لنفسه فقال له عمر: إمض لما جئت له فإنه سيغضب لابنته مما صنع علي!

فدخل بريدة على النبي (صلی الله علیه و آله) ومعه كتاب من خالد بما أرسل به بريدة، فجعل يقرأه ووجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتغير فقال بريدة: يا رسول الله إنك إن رخصت للناس في مثل هذا ذهب فيئهم! فقال النبي (صلی الله علیه و آله): ويحك يا بريدة أحدثت نفاقاً؟ إن علي بن أبي طالب يحل له من الفئ ما يحل لي، إن علي بن أبي طالب خير الناس لك ولقومك، وخير من أخلف بعدي لكافة أمتي! يا بريدة إحذر أن تبغض علياً فيبغضك الله! قال بريدة: فتمنيت أن الأرض انشقت لي فسخت فيها وقلت: أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسول الله.يارسول الله إستغفر لي، فلن أبغضن علياً أبداً ولا أقول فيه إلا خيراً، فاستغفر له النبي (صلی الله علیه و آله)».

أقول: نلاحظ أن خالد بن الوليد كان مأموراً من النبي (صلی الله علیه و آله) بطاعة علي (علیه السلام)، ولكنه كان يتصرف كأنه مستقل، وقد تركه علي (علیه السلام) حتى إذا خشي الضرر من تصرفه أمر خالداً بن سعيد أن يمنعه بالقوة من مواصلة مسيره، فمنعه!

وهذا يثبت شجاعة خالد بن سعيد وخوف خالد بن الوليد منه ومن علي (علیه السلام)، لأنهما أشجع منه، ومكانته في قريش ومكة أعلى من مكانته!

وقد يكون علي (علیه السلام) منعه من التقدم إلى زبيد لخوفه عليه من الهزيمة أمام ابن معديكرب وهو هزيمة للمسلمين، ثم ظهر أن علياً (علیه السلام) كان أعد خطة لهزيمة ابن معديكرب بدون أن يقتله! ولا بد أن ابن الوليد بهت لفزع عمرو من صرخة علي (علیه السلام) ! ويبدو أن تلك الصرخة الحيدرية بأمر النبي (صلی الله علیه و آله) وفيها سرٌّ من أسراره! لأنه (صلی الله علیه و آله)

ص: 475

لما أنذر عمرواً من فزع الآخرة قال له عمرو: «يا محمد وما الفزع الأكبر فإني لا أفزع»! وعندما ارتد عمرو أراه الله الفزع في الدنيا، وأبقاه حياً.

8- الأسود العنسي يدعي النبوة في اليمن

في البحار: 21/411: «لما رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من حجه طارت الأخبار بأنه قد اشتكى فوثب الأسود باليمن ومسيلمة باليمامة، فأما الأسود العنسي فاسمه عهيلة بن كعب، وكان كاهنا يشعبذ ويريهم الأعاجيب ويصمي منطقه قلب من يسمعه.

وكان أول خروجه بعد حجة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسار إلى صنعاء فأخذها، فكتب فروة بن مسيك إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بخبره وكان عامل رسول الله على مراد، وخرج معاذ بن جبل هارباً حتى مر بأبي موسى الأشعري وهو بمارت فاقتحما حضر موت، ورجع عمرو بن خالد إلى المدينة، وقتل شهر بن باذام وتزوج امرأته، وكانت ابنة عم فيروز، فأرسل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى نفر من الأبناء رسولاً وكتب إليهم أن يحاولوا الأسود إما غيلة وإما مصادمة، وأمرهم أن يستنجدوا رجالاً سماهم لهم ممن حولهم من حمير وهمدان، وأرسل إلى أولئك النفر أن ينجدوهم، فدخلوا على زوجته فقالوا: هذا قد قتل أباك وزوجك فما عندك؟ قالت: هو أبغض خلق الله إليَّ وهو مجرد والحرس محيطون بقصره إلا هذه البيت فانقبوا عليه فنقبوا، ودخل فيروز الديلمي فخالطه فأخذ برأسه فقتله، فخار خوار ثور فابتدر الحرس الباب فقالوا: ما هذا؟ فقالت: النبي يوحى إليه ثم خمد! وقد كان يجئ إليه شيطان فيوسوس له فيغط ويعمل بما قاله، فلما طلع الفجر نادوا بشعارهم الذي بينهم ثم بالأذان وقالوا فيه: أشهد أن محمداً رسول الله، وأن عهيلة كذاب، وشنوها غارة وتراجع أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله)

إلى أعمالهم، وكتبوا إلى رسول الله بالخبر فسبق خبر السماء إليه، فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل موته بيوم أو بليلة فأخبر الناس بذلك، فقال: قتل الأسود البارحة، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين، قيل: ومن هو؟ قال: فيروز، فاز فيروز، ووصل الكتاب ورسول الله (صلی الله علیه و آله) قد مات إلى أبي بكر. وكان من أول خروجه إلى أن قتل نحو أربعة أشهر. وفيروز قيل: إنه ابن أخت النجاشي وقيل هو من أبناء فارس.

ص: 476

وأما مسيلمة بن حبيب الكذاب فكان يقال له: رحمن اليمامة، لأنه كان يقول: الذي يأتيني اسمه رحمن، وقدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيمن أسلم ثم ارتد لما رجع إلى بلده، وكتب إلى رسول الله: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد فإن الأرض لنا نصف ولقريش نصف، ولكن قريش قوم يعتدون»!

وفي الينابيع الفقهية: 9/143: «وقيل كان أهل الردة إحدى عشرة فرقة، ثلاث في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله): بنو مدلج، ورئيسهم ذو الخمار، وهو الأسود العنسي وكان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلاده، وأخرج عمال رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فبيته فيروز الديلمي فقتله. وأخبر رسولُ الله بقتله ليلة قتل فسر المسلمون وقبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الغد. وبنو حنيفة قوم مسيلمة الذي تنبأ. وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ أيضاً ثم أسلم وحسن إسلامه. وبعد وفاة رسول (صلی الله علیه و آله) كفى الله أمرهم».

وفي مناقب آل أبي طالب: 1/94: «وأخبَرَ (صلی الله علیه و آله) بمقتل الأسود العنسي الكذاب ليلة قتله وهو بصنعاء وأخبر بمن قتله». راجع: مكاتيب الرسول: 1/278 و270: كتبه في الردة في قتل الأسود العنسي. والإستيعاب: 2/698 والإصابة: 2/330، الطبقات: 5/534

وتاريخ دمشق: 6/127.

ص: 477

الفصل الخامس والستون: أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) یشاركن فی الصراع على الخلافة

1- نشاط زعماء قريش بعد هزيمتهم

كانت أكبر ضربة تلقاها زعماء قريش في كل حياتهم، يوم فاجأهم النبي (صلی الله علیه و آله) بجنود الإسلام مكة وأجبرهم على خلع سلاحهم وإعلان الإستسلام!

في تلك الأيام عاشوا أشد أيام حياتهم ذهولاً وحيرة! فقد أسقط في أيديهم تماماً بعد معركة امتدت عشرين سنة مع محمد وبني هاشم، وكانوا فيها قبل فتح مكة منتصرين أحياناً، أو سجالاً متعادلين أحياناً!

ولما دعاهم النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المسجد حضروا مجبرين خائفين، وأعلنوا إسلامهم تحت سيف النبي (صلی الله علیه و آله) وخطب فيهم ووبخهم! ثم أعلنهم«طلقاء»! فلا هم عبيد ولا عتقاء، ثم أطمعهم في الدنيا، ودعاهم إلى حرب هوازن معه في حنين! إنها سياسة الحزم والتطميع، وهي لا ترفع حيرتهم بل تزيدها!

فهل يستسلمون لدولة محمد وبني هاشم، أم يوجد طريقٌ للخروج من هذه الأزمة؟! وهل تدور الأيام فيستطيعون جمع العرب من جديد لقتال محمد؟

هكذا كان يفكر أبوسفيان وهو يطوف، فالتفت اليه النبي (صلی الله علیه و آله) وضرب بيده في صدره وقال: إذن يخزيك الله ياأبا سفيان! الصحيح:22/321.

أم هل يرون هوازن وقد انتصرت عليه فينتهي دينه: «وترجع العرب إلى دين آبائها،

ص: 478

وقد قتل محمد وتفرق أصحابه»! كما قالوا عندما وقعت على المسلمين الهزيمة في أول جولة من معركة حنين؟!سبل الهدى: 5/230.

أم هل يستطيعون تدبير قتله فيحلون مشكلتهم معه، وقد حاولوا ذلك قبل فتح مكة، فلم ينجحوا! أم هل ينتظرون، كما ينصحهم صحابته القرشيون، حتى يموت فيرثوا دولته؟!

وكيف يمكن لهم ذلك وهو يرتب الأمر من بعده لابن عمه وصهره علي الذي هو في الثلاثينات من عمره، ثم من بعده لأولاد ابنته فاطمة، الحسن والحسين، ومعهم لايبقى لقبائل قريش شئ!

واتخذ زعماء قريش قرارهم الذي كانوا اتخذوه سابقاً، وهو العمل على هذه الجبهات جميعاً! وظهرت نواياهم عند هزيمة المسلمين في الجولة الأولى في حنين، واعترف اثنان من شخصياتهم بأنهما حاولا قتل النبي (صلی الله علیه و آله) فلم يستطيعا!

وكانت الخطوة التالية أن عزلوا أبا سفيان عن قيادتهم، ولم يشفع له أنه ما زال يشاركهم في عداوة محمد (صلی الله علیه و آله)، فقد اعتبروه ضَعُفَ أو داهن في فتح مكة، فلم يأخذ لهم شروطاً تحفظ وجودهم، كالتي أخذها سهيل بن عمرو في الحديبية!

واختاروا سهيلاً قائداً بدل أبي سفیان، وضيقوا دائرة مشورتهم في العمل ضد محمد، وأبعدوا منها أبا سفيان وبني أمية لأنهم من بني عبدمناف، فاضطر أبوسفيان للذهاب إلى المدينة، لعله يجد مجالاً للعمل في دولة محمد!

وقد عمل سهيل بن عمرو لإعادة كيان قريش الذي انهار بفتح مكة، وأخذ يتصرف في مكة متجاهلاً عتَّاب بن أسيد الذي عينه النبي (صلی الله علیه و آله) حاكماً، وأخذ يراسل النبي (صلی الله علیه و آله) بطلبات قريش منه، باعتبارهم ما زالوا كياناً مقابله كما كانوا!

ووجد سهيل عضدين قويين يساعدانه من الصحابة القرشيين هما أبو بكر وعمر فكان ينزل عندهما في المدينة، ويذهبان معه إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ويؤيدان طلباته! وكان من أهم الأعمال التي قاموا بها في السنة الثامنة، أنهم شجعوا هجرة القرشيين المبغضين لبني هاشم إلى المدينة. وقاموا في المدينة بحملات دعاية ضد

ص: 479

بني هاشم، حتى أنهم كانوا يقولون إن «محمداً» نشاز في هؤلاء السيئين!

فضجَّ منهم الأنصار واشتكوا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقالوا: «إنا نسمع من قومك، حتى يقول القائل: إنما مثل محمد كمثل نخلة نبتت في كبا «مزبلة»! فخطب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: أيها الناس من أنا؟ فقالوا: أنت رسول الله، فقال: أنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب. قال فما سمعناه انتمى قبلها قط، ثم قال: إن الله تعالى خلق خلقه فجعلني في خير خلقه، ففرقهم فريقين فجعلني في خير الفريقين، ثم جعلهم قبائل فجعلني من خيرهم قبيلة، ثم فرقهم بيوتاً فجعلني من خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً».

مسند أحمد: 1/210.

وتواصلت دعاية قريش ضد بني هاشم، حتى كانوا يعبسون في وجوههم! فشكى بنو هاشم ذلك إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ووصف هو ذلك بأن أحدهم إذا رأى هاشمياً فكأنما يفقأ في عينيه حب الرمان الحامض!

وجاء العباس يوماً مغضباً وقال: «يارسول الله ما لنا ولقريش! إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة، وإذا لقونا لقونا بغير ذلك! قال فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى احمر وجهه، ثم قال: والذي نفسي بيده لايدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله».الترمذي: 5/317.

وقد جمعناها أحاديثهم وكفرياتهم من مصادرهم في كتاب: ألف سؤال وإشكال: 1/179. وركزت قريش دعايتها ضد علي (علیه السلام) خاصة لإسقاط شخصيته، والإنتقام منه لقتله زعماءها وأبطالها، وتهيئة الجو لعزله بعد النبي (صلی الله علیه و آله) ! وعملت لذلك أعمالاً عديدة في حرب النبي (صلی الله علیه و آله) وسلمه وسفره وحضره (صلی الله علیه و آله) !

وقد غضب النبي (صلی الله علیه و آله) من ذلك مراراً وشدد دفاعه عن علي (علیه السلام)، وخطب أكثر من مرة مبيناً مكانته وفضله، ونفاق من يؤذيه ويبغضه، أو كفره! ولو لم يكن منها إلا قصة بريدة الأسلمي، التي روتها مصادر السنيين بطرق عديدة وأسانيد صحيحة لكفى، فقد كشفت عن وجود شبكة عمل منظم ترسل الرسائل من اليمن إلى المدينة، وتضع الخطط ضد علي (علیه السلام) !

ص: 480

وروت إدانة النبي (صلی الله علیه و آله) وغضبه عليهم وتصريحه بأن علياً «وليكم من بعدي» كما رواه أحمد والنسائي، وأن كل من ينتقد علياً (علیه السلام) ولا يحبه ولا يطيعه، فهو منافق خارج عن الإسلام! لكن القرشيين لم يسمعوا أوامر النبي (صلی الله علیه و آله) في حق علي (علیه السلام) في حياته فكيف بهم بعد وفاته؟!

ثم تزايدت فعالية القرشيين حتى وصلت في السنة التاسعة إلى وضع خطة قوية لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) في طريق رجوعه من تبوك، ويأتي ذلك في مؤامرة ليلة العقبة.

قال أميرالمؤمنين (علیه السلام): «إن العرب كرهت أمر محمد (صلی الله علیه و آله) وحسدته على ما آتاه الله من فضله، واستطالت أيامه! حتى قذفت زوجته! ونَفَّرت به ناقته، مع عظيم إحسانه إليها وجسيم مننه عندها! وأجمعت مذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته»!شرح النهج:20/298.

ثم صارت عدواتهم للنبي (صلی الله علیه و آله) في أهل بيته: ميثاقاً سرياً مع اليهود، قال الله عنها في سورة محمد (صلی الله علیه و آله) التي نزلت تلك السنة: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ. محمّد: 25-26.

2- كانت ولادة ابراهيم بن النبي (صلی الله علیه و آله) كارثة على قريش!

في السنة الثامنة للهجرة حدث أمرٌ أربك القرشيين وزاد من صعوبة عملهم في تسقيط سمعة علي (علیه السلام) وبني هاشم، فقد رزق النبي (صلی الله علیه و آله) بولد، وصار برأي قريش وريثه حسب العرف القبلي، وفي الإسلام بقانون الأسرة الربانية المختارة: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ.ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. لذا نشطت عناصر قريش من نساء النبي (صلی الله علیه و آله) في العمل لإبطال وراثة إبراهيم بن النبي (صلی الله علیه و آله) لأبيه باتهام والدته مارية القبطية لنفيه عن النبي (صلی الله علیه و آله) !

فاضطر النبي (صلی الله علیه و آله) أن يُسكنها بعيداً عند بيت أبي رافع، وأنزل الله براءتها قرآناً فجعلتها عائشة براءة لها، فأنزل الله سورة التحريم وفيها كشف انحراف اثنتين

ص: 481

من نساء النبي (صلی الله علیه و آله) وتهديد لهما! لكنهما واصلتا العمل فتفاقم الأمر حتى غضب النبي (صلی الله علیه و آله) واعتزل نساءه شهراً في أوائل السنة التاسعة، وشاع خبر أنه طلقهن!

قال ابن كثير: 3/710: «رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة لليال بقين من ذي الحجة في سفرته هذه «فتح مكة».«وفي ذي الحجة منها ولد إبراهيم بن رسول الله (صلی الله علیه و آله) من مارية القبطية، فاشتدت غيرة أمهات المؤمنين منها حين رزقت ولداً ذكراً».

وقال ابن سعد في الطبقات: 1/135: «أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حجب مارية، وكانت قد ثقلت على نساء النبي (صلی الله علیه و آله) وغرن عليها، ولا مثل عائشة».

3- سورة التحريم كشفت الحزب القرشي في بيت النبي (صلی الله علیه و آله)

عاد النبي (صلی الله علیه و آله) من فتح مكة وحرب حنين في ذي القعدة من السنة الثامنة، وحدثت أحداثٌ تتعلق ببيته وأزواجه، استوجبت أن يهجر عائشة ثلاثة أشهر! «ذا الحجة والمحرم وبعض صفر».طبقات الشافعية: 6/319 والصحيح: 26/68.

وقالوا إن ذلك بسبب حديث الإفك واتهام بعضهم لعائشة، لكن تهمة عائشة كانت في غزوة المريسيع في شعبان من السنة الخامسة، «إعلام الورى: 1/196». وهجره لها كان في آخر السنة الثامنة وأول التاسعة، وقد رووا أنه (صلی الله علیه و آله) هجرها شهراً وليس ثلاثة أشهر! «فتح الباري: 8/363». وقالوا إنه هجرها بسبب أنها لم تعط بعيرها إلى صفية! وهذه عادتهم في تبسيط أسباب غضب النبي (صلی الله علیه و آله) على زوجاته وجعلها أموراً عادية، لإبعادها عن عملهن ضده لمصلحة قريش! لكن سورة التحريم، كشفت أن حفصة وعائشة أفشتا سره (صلی الله علیه و آله) وتآمرتا عليه!وهددهن الله بجيش جرار لايستنفر إلا في حالات الخطر على الرسالة والرسول!

وهذا واضح من نص السورة قال تعالى:

وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِىَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ 3 إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَمَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ4 عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا 5.

ص: 482

ثم قال تعالى لهما: ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحِينِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ 10.

فقد نصت على أن النبي (صلی الله علیه و آله) أسرَّ لهما بحديث وأكد عليهما أن لا تقولاه، ولا بد أن الله أمره بذلك لحكمة يعلمها. لكنهما خانتا وأفشتا سر النبي (صلی الله علیه و آله) فأطلعه الله، فهددهما وضرب لهما مثلاً بامرأتي نوح ولوط، اللتين خانتا زوجيهما النبيين وكفرتا فدخلتا النار!

قال العلامة في نهج الحق/370: «وأفشت سر رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين أن عمر خليفة أبيها شهد عليها بذلك. ونقل الغزالي سوء صحبتها لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: إن أباها أبابكر دخل يوماً على النبي (صلی الله علیه و آله) وقد وقع منها في حق النبي أمر مكروه، فكلفه النبي (صلی الله علیه و آله) أن يسمع ما جرى ويدخل بينهما فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): تتكلمين أو أتكلم؟ فقالت: بل تكلم ولا تقل إلا حقاً! فلينظر العاقل إلى هذا الجواب وهل كان عنده إلا الحق؟ وينظر في الفرق بين خديجة وعائشة. وقد أنكر الجاحظ من أهل السنة في كتاب الإنصاف غاية الإنكار على من يساوي عائشة بخديجة، أو يفضلها عليها».

وفي تأويل الآيات: 2/697: «سبب نزول هذه الآيات أن النبي (صلی الله علیه و آله) أسرَّ إلى عائشة وحفصة حديثاً وهو أن أبابكر وعمر يليان الأمر من بعده بالقهر والغلبة، فلما أسر إليهما ذلك عرفت كل واحدة أباها، وأفشت سر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فأنزل الله على رسوله (صلی الله علیه و آله) يخبره بما فعلتا.. وَصَالِحُ المؤمنين: أميرالمؤمنين (علیه السلام) على ما رواه محمد بن العباس (رحمة الله) من طريق العام والخاص، أورد في تفسيره هذا المنقول اثنين وخمسين حديثاً، اخترنا منها بعضها، فقد قال لغلامه ابن أبي رافع لما بكى وقال: من لي ولولدي بعدك يا رسول الله؟قال: لك الله بعدي، ووصيي صالح المؤمنين علي بن أبي طالب. لكن رواة الخلافة القرشية أغمضوا عن الخطر على الإسلام، الذي تحدثت عنه السورة واستنفر له الله تعالى جيشاً لحالة الخطر القصوى؟!

يبقى السؤال: لماذا أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) عائشة بأن أبوها سيتسلط على الأمة

ص: 483

بعده؟! وجوابه: أن قريشاً كانت تخطط لإعلان الردة بحجة أن محمداً (صلی الله علیه و آله) يريد أن يؤسس ملكاً لبني هاشم، فهو ليس بنبي! فأخبر الله تعالى نبيه (صلی الله علیه و آله) بذلك وأمره أن يطمئنهم ليحفظوا نبوته، وإن أخذوا الحكم بعده، وأبعدوا عترته:!

4- اتهامهم مارية وتبرئة الله لها

قال ابن سعد: 8/212: «بعث المقوقس صاحب الإسكندرية إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) في سنة سبع من الهجرة بمارية وبأختها سيرين، وألف مثقال ذهباً، وعشرين ثوباً ليناً، وبغلته الدلدل وحماره عفير ويقال يعفور، ومعهم خِصْيٌ يقال له مابور شيخ كبير، كان أخا مارية... فجاء أبو رافع زوج سلمى فبشر رسول الله بإبراهيم فوهب له عبداً، وذلك في ذي الحجة سنة ثمان».

وقالت عائشة كما في الطبقات: 8/212: «ما غرتُ على امرأة إلا دون ما غرتُ على مارية! وذلك أنها كانت جميلة من النساء جعدة، وأعجب بها رسول الله، وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت لحارثة بن النعمان فكانت جارتنا، فكان رسول الله عامة النهار والليل عندها، حتى فرغنا لها فجزعت! فحولها إلى العالية، فكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشد علينا، ثم رزق الله منها الولد وحرمنا منه».

وعبَّرت عائشة بقولها: فرغنا لها فجزعت! عن سنتين من صراعها مع مارية، وتفرغها هي وحفصة لأذية مارية المؤمنة الغافلة الغريبة! وروي من أذيتهن الكلام والأفعال والضرب والشد بالشعر! فخشي النبي (صلی الله علیه و آله) عليها وعلى حملها! وكان له بستان في العوالي يسكن فيه غلامه أبو رافع (رحمة الله) وزوجته سلمى وكانت مؤمنة عاقلة، فبنى لأم إبراهيم غرفة وأسكنها هناك وكان يذهب اليها. فزاد عداء عائشة وحزبها لمارية، وتضاعف حسدهن عندما رزقت بإبراهيم (علیه السلام) !

بل دخل العنصر القرشي بوقاحة لأنه صار للنبي (صلی الله علیه و آله) وارث من صلبه! وقد بلغت جلافتهم أن قالوا: إن إبراهيم لا يشبه النبي (صلی الله علیه و آله) !واتهموا مارية فغضب على نسائه واعتزلهن وسكن في بيت مارية (علیها السلام)، فنزلت آيات الإفك وبراءة مارية وآيات

ص: 484

تخيير النبي (صلی الله علیه و آله) لأزواجه بين الزوجية والطلاق.

وتدل أحاديث إبراهيم (علیه السلام) على خوف قريش أن يجعله النبي (صلی الله علیه و آله) خليفته بدل علي والحسنين:! فأشاعوا أن إبراهيم (علیه السلام) لايشبهه!

قال علي (علیه السلام): «إن العرب كرهت أمر محمد (صلی الله علیه و آله) وحسدته على ما آتاه الله من فضله، واستطالت أيامه حتى قذفت زوجته، ونَفَّرت به ناقته، مع عظيم إحسانه إليها وجسيم مننه عندها، وأجمعت مذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته»!شرح النهج: 20/298.

وروى في المنتظم: 3/346، عن عائشة: «لما ولد إبراهيم جاء به رسول الله إليَّ فقال: أنظري إلى شبهه بي، فقلت: ما أرى شبهاً»!

وأكدت عائشة أن الذي اتهم مارية غيرها فقالت، «الحاكم: 4/39»: «أهديت مارية إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعها ابن عم لها، قالت: فوقع رسول الله (صلی الله علیه و آله) عليها وقعة فاستمرت حاملاً، قالت فعزلها عند ابن عمها، قالت فقال أهل الإفك والزور: من حاجته إلى الولد ادعى ولد غيره! وكانت أمةً قليلة اللبن، فابتاعت له ضائنة لبون فكان يغذى بلبنها فحسن عليه لحمه.

قالت عائشة: فدُخل به على النبي (صلی الله علیه و آله) ذات يوم فقال: كيف ترين؟ فقلت: من غُذِّيَ بلحم الضأن يحسن لحمه. قال: ولا الشبه؟ قالت: فحملني ما يحمل النساء من الغيرة أن قلت ما أرى شبهاً! قالت: وبلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما يقول الناس! فقال لعلي: خذ هذا السيف فانطلق فاضرب عنق ابن عم مارية حيث وجدته! قالت: فانطلق فإذا هو في حائط على نخلة يخترف رطباً، قال فلما نظر إلى علي ومعه السيف استقبلته رعدة، قال فسقطت الخرقة فإذا هو لم يخلق الله له ما للرجال، شئ ممسوح».

وقال في شرح النهج: 9/190، عن عائشة: «وكانت لها عليه جرأة وإدلال لم يزل ينمى ويستشري، حتى كان منها في أمره في قصة مارية ما كان».

وصرحت مصادرنا بأن عائشة هي التي اتهمت مارية فقالت للنبي (صلی الله علیه و آله)

ص: 485

بعد موت إبراهيم: «ما الذي يحزنك عليه إنه ابن جريح القبطي! فبعث النبي علياً ليقتله فخاف منه جريح فتسلق نخلة في بستان فانكشف ثوبه فإذا ليس له ما للرجال، فرجع علي (علیه السلام) إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخبره بما رأى فقال (صلی الله علیه و آله): الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البیت، ثم نزلت هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاتَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ».«تفسير القمي: 2/318».

قال في الصحيح من السيرة: 26/23: «إن أقوالها لرسول الله (صلی الله علیه و آله) حول ولده إبراهيم بعيدة كل البعد عن أبسط قواعد الأدب والإلتزام والإحترام.. فلماذا هذا الطعن المتوالي الممعن في القسوة لقلب الإنسانية الطافح بالرحمة والمودة والحنان والغيرة، والشعور بالكرامة والعزة؟! وهل يجرؤ إنسان يدَّعي أنه قريب وحبيب على التصريح لمن يحبه ويتقرب منه بأن ولده الذي يبكي عليه، وقد مات قبل ساعة أو ساعات: ليس ولده الشرعي»؟!

بل افتروا على النبي (صلی الله علیه و آله) أنه هو اتهم مارية، وأنه شكاها إلى عمر بن الخطاب! فقد روى في مجمع الزوائد: 9/161، أن النبي (صلی الله علیه و آله) ذهب إلى مارية: «فوجد قريبها عندها فوقع في نفسه من ذلك شئ، كما يقع في أنفس الناس، فرجع متغير اللون فلقي عمر فأخبره بما وقع في نفسه من قريب أم إبراهيم، فأخذ السيف فوجده ممسوحاً. فرجع إلى النبي وطمأنه!

وقال أنس: «لما ولد إبراهيم من مارية جاريته كان يقع في نفس النبي (صلی الله علیه و آله) حتى أتاه جبريل (علیه السلام) فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم».الإصابة: 1/218.

إن مجرد وجود روايات من هذا النوع يدلك على أن عرض النبي (صلی الله علیه و آله) وكرامته كانت تلوكها ألسنتهم، وأن الغرض منها الطعن بعرضه لترثه قريش دون عترته!

ويسهل عليك أن تجد أصابع قريش في قول عائشة: «فقال أهل الإفك والزور: من حاجته إلى الولد ادعى ولد غيره»!

ومعناها أنهم كانوا يرون أن النبي (صلی الله علیه و آله) بحاجة إلى ابن ليرثه ويرأس دولته، فيجعله في وصاية أحد حتى يكبر! والحل أن ينفوه عنه، ويرثوا ملكه!

ص: 486

وعندما لم ينفع ذلك وأنزل الله براءة مارية، فالحل قتل هذا الطفل المرشح لخلافة أبيه، ومن يدري فقد يكون إبراهيم (علیه السلام) قتل بالسم!

هذا، وقد بحث صاحب الصحيح قصة الإفك في مجلد كامل، وخلاصة ما قاله في ختامه: 13/386: «إن الإفتراء على مارية واتهامها بمابور مما أجمعت الأمة على حصوله. ذكر ذلك كل من ترجم لمارية وإبراهيم بن النبي (صلی الله علیه و آله)، فقصة الإفك عليها أمر لا ريب فيه، وفيها نزلت آيات سورة النور ولا يصح ذلك في عائشة! ومن الأدلة والشواهد عليها أن مارية لم يكن لها أحد يدافع عنها فحرفت عائشة اتهامها وبراءتها لتنطبق عليها»!

راجع: رسالة حول خبر مارية للمفيد، وأمالي المرتض: 1/54، وسيرة ابن إسحاق: 5/252، أنساب الأشراف/362، الطبقات: 1/137، اليعقوبي: 2/87، حلية الأولياء: 3/177، صفة الصفوة: 2/78، الأحاديث المختارة: 2/353، مسند البزار: 2/237، غوامض الأسماء: 1/498، مجمع الزوائد: 4/329، الآحاد والمثاني: 5/450، الفائق: 1/287، تاريخ دمشق: 3/236، النهاية: 5/325، سيرة ابن كثير: 4/600،سبل الهدى:11/219 وكنز العمال: 5/454.

وأخيراً، في منهج الرشاد:3 /265: «سأل جميل بن دراج الإمام الصادق (علیه السلام) عن أطفال الأنبياء: فقال: ليسوا كأطفال الناس. وسأله عن ابراهيم بن رسول الله فقال: لو بقي كان صديقاً نبياً؟ لو بقي كان على منهاج أبيه (صلی الله علیه و آله)».

وسأل رجلٌ علياً (علیه السلام): «أرأيت لو كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) ترك ولداً ذكراً قد بلغ الحلم، أكانت العرب تسلم إليه أمرها؟ قال: لا، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلتُ! ولولا أن قريشاً جعلت إسمه ذريعة إلى الرياسة، وسلَّماً إلى العز والأمرة لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً، ولارتدت في حافرتها، وعاد قارحها جذعاً، وبازلها بكراً. ثم فتح الله عليها الفتوح فأثْرت بعد الفاقة، وتمولت بعد الجَهد والمخمصة، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً، وقالت: لولا أنه حق لما كان كذا! ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها وحسن تدبير الأمراء».شرح النهج: 20/298.

ص: 487

5- إبراهيم بن رسول الله (صلی الله علیه و آله)

1. كان إبراهيم (علیه السلام) أبيض حنطياً مشرباً بحمرة، شبيهاً بأبيه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وعاش سنة ونصفاً، وروي: سنة وعشرة أشهر. وفي الإستيعاب ملخصا: ً1/54: «ولدته أمه مارية في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، بالعالية في مشربة أم إبراهيم وكانت قابلتها سلمى امرأة أبي رافع، فبشر أبو رافع به النبي (صلی الله علیه و آله)، فوهب له عبداً، فلما كان يوم سابعه عقَّ عنه بكبش وحلق رأسه، وسماه يومئذ، وتصدق بوزن شعره ورقاً على المساكين، ودفن شعره في الأرض.ودفعه إلى أم بردة، بنت المنذر من بني النجار لترضعه، وكانت لرسول الله (صلی الله علیه و آله) قطعة من الضأن، فكانت تؤتى بلبنها كل ليلة فتشرب منه وتسقي ابنها».

وقد توفيت مارية سنة16هجرية، ودفنت قرب ابنها (علیهما السلام) بالبقيع.الطبقات:8/216.

2. في الكافي: 3/463 والمحاسن: 2/313 عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «لما قبض إبراهيم ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) جرت فيه ثلاث سُنن. أما واحدة فإنه لما مات انكسفت الشمس فقال الناس انكسفت الشمس لفقد ابن رسول الله، فصعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تجريان بأمره مطيعان له، لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا انكسفتا أو واحدة منهما فصلوا، ثم نزل فصلى بالناس صلاة الكسوف. فلما سلم قال: يا علي قم فجهز ابني قال: فقام علي بن أبي طالب (علیه السلام) فغسل إبراهيم وكفنه وحنطه ومضى، فمضى رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى انتهى به إلى قبره فقال الناس: إن رسول الله نسي أن يصلي على ابنه لما دخله من الجزع عليه، فانتصب قائماً ثم قال: إن جبرئيل (علیه السلام) أتاني فأخبرني بما قلتم، زعمتم أني نسيت أن أصلي على ابني لما دخلني من الجزع، ألا وإنه ليس كما ظننتم، ولكن اللطيف الخبير فرض عليكم خمس صلوات، وجعل لموتاكم من كل صلاة تكبيرة، وأمرني أن لا أصلي إلا على من صلى.

ثم قال: يا علي إنزل والحد ابني، فنزل علي فألحد إبراهيم في لحده، فقال الناس إنه لا ينبغي لأحد أن ينزل في قبر ولده، إذ لم يفعل رسول الله بابنه، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):

ص: 488

يا أيها الناس إنه ليس عليكم بحرام أن تنزلوا في قبور أولادكم، ولكن لست آمن إذا حل أحدكم الكفن عن ولده أن يلعب به الشيطان، فيدخله عن ذلك من الجزع ما يحبط أجره».

أقول: ورد عندنا أن النبي (صلی الله علیه و آله) صلى على ابنه إبراهيم (علیه السلام) وكبر عليه خمساً. «المعتبر: 2/348» ومشهور فقه مذهبنا أنه لاتجب صلاة الميت على الأطفال حتى يبلغوا ست سنين، وقيل تستحب الصلاة على من هم أصغر سناً.

3. في كشف اليقين/321، عن ابن عباس: «كنت عند النبي (صلی الله علیه و آله) وعلى فخذه الأيسرابنه إبراهيم وعلى فخذه الأيمن الحسين بن علي (علیهما السلام)، وهو يقبل هذا تارة وذلك أخرى، إذ هبط جبريل (علیه السلام) فقال: يا محمد إن الله تعالى يقرأ عليك السلام ويقول لك: لست أجمعهما لك فافد أحدهما بصاحبه! فنظر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى إبراهيم وبكى، ونظر إلى الحسين وبكى، وقال: إن إبراهيم متى مات لم يحزن عليه غيري، وأما الحسين متى مات حزنت عليه ابنتي وحزن ابن عمي وحزنت أنا، وأنا أؤثر حزني على حزنهما. يا جبرئيل يقبض إبراهيم فقد فديت الحسين به. قال: فقبض بعد ثلاثة، فكان النبي (صلی الله علیه و آله) إذا رأى الحسين مقبلاً، قبَّله وضمه إلى صدره ورشف ثناياه وقال: فديتُ من فديته بابني إبراهيم:». وتاريخ بغداد: 2/200، تاريخ دمشق: 52/324 والطرائف/202.

4. لما مات إبراهيم (علیه السلام) قال (صلی الله علیه و آله): أدفنوه في البقيع فإن له مرضعاً في الجنة.. بعث علي بن أبي طالب (علیه السلام) إلى أمه مارية القبطية وهي في مشربة، فحمله علي في سفط وجعله بين يديه على الفرس ثم جاء به إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فغسله وكفنه وخرج به وخرج الناس معه، وقال لا تدرجوه في أكفانه حتى أنظر إليه، فأتاه فانكب عليه وبكى، وقال: تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا مايرضي الرب وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.

ودفنه في الزقاق الذي يلي دار محمد بن زيد، فدخل علي (علیه السلام) في قبره وسواه عليه ودفنه، ثم خرج و رش على قبره الماء، وأدخل رسول الله يده في قبره وبكى

ص: 489

وبكى المسلمون حتى ارتفع الصوت. ثم رأى النبي (صلی الله علیه و آله) في قبره خللاً فسواه بيده، ثم قال: اذا عمل أحدكم عملاً فليتقن، ثم قال: إلحق بسلفك الصالح عثمان بن مظعون. وقال الواقدي: مات ابراهيم يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من ربيع الأول سنة عشر، وهو ابن ثمانية عشر شهراً».الكافي: 3/262، الصحيح: 26/28 وحياة النبي لقوام: 3/243.

أقول: يتعجب الإنسان من تعبير النبي (صلی الله علیه و آله) عن عثمان بن مظعون الجمحي بأنه سلفه (صلی الله علیه و آله)، مع أن سلفه آباؤه الطاهرون:. لكنه يدل على أن ابن مظعون له مكانة خاصة، وانه جزء من سلفه الصالح العظماء سلام الله عليهم، وهو أخو النبي (صلی الله علیه و آله) من الرضاعة، وكان مستقيماً في الجاهلية.

5. في مسكن الفؤاد للشهيد الثاني/93: «عن أسماء ابنة زيد قالت: لما توفي ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) إبراهيم (علیه السلام) بكى رسول الله فقال له المعزي: أنت أحق من عظم الله عزوجل حقه، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب، لولا أنه وعد حق وموعود جامع وأن الآخر تابع للأول، لوجدنا عليك يا إبراهيم أفضل مما وجدناه، وإنا بك لمحزونون.

فقال له عبدالرحمن بن عوف: يا رسول الله تبكي، أوَلم تُنه عن البكاء؟ فقال: إنما نهيت عن النوح، عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لعب ولهو ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان.

إنما هذه رحمة، ومن لا يرحم لا يرحم، ولولا أنه أمر حق ووعد صدق وسبيل نأتيه وأن آخرنا سيلحق أولنا، لحزنا عليك حزناً أشد من هذا، وإنا بك لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب عزوجل. وعن أبي أمامة قال: جاء رجل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) حين توفي ابنه وعيناه تدمعان فقال: يا نبي الله تبكي على هذا السخل؟ والذي بعثك بالحق لقد دفنت اثني عشر ولداً في الجاهلية كلهم أشب منه أدسه في التراب، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): فماذا، إن كانت الرحمة ذهبت منك، يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا على إبراهيم لمحزونون. قال: ريحانة وهبها الله لي وكنت أشمها».

ص: 490

6- ساءت علاقة النبي (صلی الله علیه و آله) بزوجاته فهجرهن!

تضمنت سورة التحريم تهديداً لزوجات النبي (صلی الله علیه و آله) بالطلاق! ثم ازداد سوءاً في أوائل السنة التاسعة فهجرهن واعتزل منزله، وسكن على بعد كيلو مترات عنهن وعن المسجد، في بيت مارية القبطية في ضاحية المدينة، وبقي هناك شهراً، وشاع خبر غضبه و طلاقه لهن! مغني المحتاج: 3/343.

وزعم شخصيات قريش أنها حادثة شخصية سببها طلبات نساء النبي المعيشية! ولا ربط لها بالقضية التي كانت تشغل الساحة بعد حجة الوداع وهي خلافة النبي (صلی الله علیه و آله) ! لكن أي حادثة شخصية هذه التي نزلت فيها سورة التحريم والتهديد؟ولماذا أمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يهجر نساءه وبيته ومسجده، ويعلن غضبه عليهن حتى شاع أنه طلقهن!

7- ملاحظات حول سورة التحريم وهجر النبي (صلی الله علیه و آله) لأزواجه

1-تعمد القرشيون أن يخلطوا خَمْس مسائل لتضييع الحقيقة!مع أنها مختلفة موضوعاً وزماناً! فآيات الإيلاء نزلت في سورة البقرة، في أول الهجرة.

وتهمة عائشة كانت في السنة الخامسة، في غزوة المريسيع أو بني المصطلق!

وتهمة مارية كانت في أوائل السنة الثامنة، بعد حملها بإبراهيم (علیه السلام) !

ونزول سورة التحريم كان بعد فتح مكة، واتجاه قريش لإعلان الردة!

وهجْر النبي (صلی الله علیه و آله) لزوجاته كان في السنة التاسعة، قبيل غزوة تبوك.

قال الصدوق (رحمة الله) في الفقيه: 3/517: «قال أبي رضی الله عنه في رسالته إليَّ: إعلم يا بنيَّ أن أصل التخيير«تخيير أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) بين الطلاق والبقاء»هو أن الله تبارك وتعالى أنفَ لنبيه (صلی الله علیه و آله) من مقالة قالتها بعض نسائه: أيَرى محمد أنه لو طلقنا لا نجد أكفاءنا من قريش يتزوجونا؟! فأمر الله نبيه أن يعتزل نساءه تسعاً وعشرين ليلة، فاعتزلهن النبي (صلی الله علیه و آله) في مشربة أم إبراهيم، ثم نزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً

ص: 491

جَمِيلاً. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً، فاخترن الله ورسوله فلم يقع الطلاق، ولو اخترن أنفسهن لَبِنَّ».

لكن رواة قريش قالوا إنه (صلی الله علیه و آله) آلاهن، أي حلف أن يهجرهن في المضجع شهراً فعاتبه ربه وأمره بالرجوع! قال الترمذي: 5/95: «وكان أقسم أن لا يدخل على نسائه شهراً، فعاتبه الله في ذلك، فجعل له كفارة اليمين»!

وقال بخاري: 1/100: «وآلى من نسائه شهراً فجلس في مشربة له درجتها من جذوع... ونزل لتسع وعشرين فقالوا: يا رسول الله إنك آليت شهراً، فقال: إن الشهر تسع وعشرون». انتهى.

فزعموا أن سبب إيلائه وأن غضبه كثرة طلباتهن! وليس اتهامهن لمارية، ولا خيانتهن المنصوص عليها في سورة التحريم!«قال المفسرون: حين غار بعض نساء النبي وآذينه بالغيرة وطلبن زيادة النفقة، فهجرهن رسول الله شهراً حتى نزلت آية التخيير».أسباب النزول/240.

لكن هجرهن ونزول آية التخيير كان في التاسعة، ونزول آيات الإيلاء كان قبل سنوات في سورة البقرة.البقرة: 225-227!

2- نصت سورة التحريم على معصية حفصة وعائشة وهددتهما بالنار، فهي تدل على أنهما ليستا من أهل البیت المطهرين من الرجس، ولذا لم تدع أي منهما أن آية التطهير تشملها، وإنما ادعيت لهما بعد وفاتهما!

قال في بشارة المصطفى/390: «ليس يجوز لمن له أدنى علم أن يخلط ذكر فاطمة (علیها السلام) بذكر غيرها! وكيف يجوز أن يقاس من شهد الله بطهارتها بقوله تعالى: إنما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً.على من قال الله في حقها: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا! لكن العمى في القلب والعصبية وبغض أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحمل بعض الناس على ما لا يليق بالعقل».

3- كان النبي (صلی الله علیه و آله) طلق حفصة فوضع عمر التراب على رأسه وقال: «ما يعبأ الله بك يا ابن الخطاب بعدها» فأرجعها النبي (صلی الله علیه و آله)، وقالوا أمره جبرئيل بإرجاعها من

ص: 492

أجل عمر! وقال لها عمر مرة: «طلقك مرة ثم راجعك من أجلي، والله إن كان طلقك مرة أخرى لا كلمتك أبداً»!مجمع الزوائد:4/333.

ويحتمل أن يكون ذلك عند إفشائها لسره، أو عند تفاقم الأمر بعد ذلك.

4- استدل أتباع الخلافة على أن عائشة وحفصة مبرأتان من كل عيب، لقوله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ. وأفتوا بقتل من اتهم عائشة لأن الله تعالى برأها فيكون اتهامه تكذيباً للقرآن.

أما فقهاؤنا فحرموا تهمة نساء النبي (صلی الله علیه و آله) أخلاقياً، لكنهم جوزوا عليهن خيانة رسالته والعمل مع أعدائه ضده، واستحقاق النار، بدليل سورة التحريم.

أما آية الطيبين للطيبات فهي في الآخرة، أما في الدنيا فامرأة نوح ولوط خبيثتان كافرتان بنص القرآن، وقد ضربهما الله مثلاً لعائشة وحفصة.

على أنه قد يكون المقصود به حكم شرعي، وأنه يحرم أن يتزوج الطيبون من خبيثات. كما استدل به بعض فقهائنا.

5- لا صحة لقولهم إن سبب هجر النبي (صلی الله علیه و آله) لهن النفقة، فقد كان الوضع المالي للنبي (صلی الله علیه و آله) جيداً في السنة التاسعة، بعد فتح خيبر وحنين وكثرة الغنائم التي أحلها الله لنبيه (صلی الله علیه و آله).بل السبب أن الله أنفَ لنبيه قول بعضهن أنه لو طلقنا سنجدن خيراً منه، وقد نص الرواة على أن حفصة قالت ذلك!

ص: 493

الفصل السادس والستون: أحداث قبل غزوة تبوك

1- توبة كعب بن زهير ومدحه للنبي (صلی الله علیه و آله)

كان الشاعر كعب بن زهير يهجو النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمين، فأهدر النبي (صلی الله علیه و آله) دمه. وبعد حنين جاء كعب تائباً، فأناخ بباب المسجد، قال: فعرفت رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالصفة فتخطيت حتى جلست إليه فأسلمت، ثم قلت: الأمان يا رسول الله، أنا كعب بن زهير. وأنشده قصيدته المعروفة بقصيدة البردة:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ *** مَُتيَّمٌ إثرها لم يُفْدَ مكبولُ

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا *** إلا أغنُّ غضيض الطرف مكحول

ومنها: وقال كل صديق كنت آمله *** لا ألهينك إني عنك مشغول

فقلت خلوا سبيلي لا أباً لكم *** فكل ما قدر الرحمن مفعول

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته *** يوماً على آلة حدباء محمول

نبئتُ أن رسول الله أوعدني *** والعفو عند رسول الله مأمول

مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة *** القرآن فيها مواعيظ وتفصيل

لا تأخذنِّي بأقوال الوشاة ولم *** أذنب ولو كثرت فيَّ الأقاويل

ما زلت أقتطع البيداء مدرعاً *** جنح الظلام وثوب الليل مسدول

ص: 494

إن الرسول لنور يستضاء به *** مهند من سيوف الله مسلول

في عصبة من قريش قال قائلهم *** ببطن مكة لما أسلموا: زولوا

شم العرانين أبطال لبوسهم *** من نسج داود في الهيجا سرابيل

فكساه رسول الله (صلی الله علیه و آله) بردة له.الصحيح من السيرة: 26/87 وابن هشام: 4/ 939.

2- انضمام البحرين وعُمَان إلى دولة النبي (صلی الله علیه و آله)

في مكاتيب الرسول (صلی الله علیه و آله): 2/361: «كتابه (صلی الله علیه و آله) إلى جيفر وعبد ابني الجلندي:

بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبدالله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، إني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً، ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام، فإن ملككما زائل عنكما، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما».

وفي فتوح البلدان: 88 وفي ط: 103 و104: كان الغالب على عمان الأزد، وكان بها من غيرهم بشركثير في البوادي، فلما كانت سنة ثمان بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبا زيد الأنصاري أحد الخزرج..بكتابه إلى عبد وجيفر ابني الجلندي الأزديين في سنة ست، وقال (صلی الله علیه و آله) لأبي زيد: خذ الصدقة من المسلمين والجزية من المجوس.. ووجه عمرو بن العاص في سنة 8 بعد إسلامه بقليل سنة ثمان».

وفي فتوح البلدان للبلاذري: 1/92: «فلما قدم أبو زيد وعمرو عمان وجدا عبداً وجيفراً بصحار على ساحل البحر. فأوصلا كتاب النبي (صلی الله علیه و آله) إليهما فأسلما، ودعوا العرب هناك إلى الإسلام، فأجابوا إليه ورغبوا فيه. فلم يزل عمرو وأبو زيد بعمان حتى قبض النبي (صلی الله علیه و آله)».

وذكر الطبري: 2/362 أن سكان عمان كانوا مجوساً، وكان العرب حول البلد.

ص: 495

3- سرية علي (علیه السلام) لمنع تحويل طیئ إلى قاعدة للروم

بعد انتصار الروم على الفرس ومقتل كسرى دخل النظام الفارسي في صراع داخلي على منصب«الشاهنشاه»فارتفع خطرهم الفعلي عن النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمين. لكن زاد خطر الروم، وأخذ قيصر يحضِّر لغزو المدينة والجزيرة كما تقدم في غزوة مؤتة، وكان اعتماده على ملك الشام، وعلى الأكيدر ملك دومة الجندل، كما عمل على تحويل قبيلة طئ إلى قاعدة مساندة، وقد استجاب له عدي بن حاتم واعتنق المسيحية وكان يقضي وقتاً من سنته في الشام. «قدم على النبي (صلی الله علیه و آله) من الشام ودعاه إلى الإسلام فقال: إني نصراني ركوسي. فقال إنك لا دين لك، إنك تصنع ما لايصلح لك في ركوسيتك، فأبصر وأسلم».تاريخ دمشق: 40/78.

وفي فايق الزمخشري: 2/6: «إنك تأكل المرباع وهو لا يحل لك.. المرباع الربع ومثله المعشار، وكان يأخذه الرئيس مع المغنم في الجاهلية. الركوسية قوم بين النصارى والصابئين».«والرِّكس بالكسر: الجسر».لسان العرب: 6/101.

فقد اختار عدي بن حاتم المسيحية الشرقية التي فيها أفكار من الصابئة، ولا بد أن مذهبه أخذ ينتشر في قبيلته، الذين كانوا وثنيين يعبدون صنمهم الفُلس، وله معبد مشهور، وقد أهدى الحارث بن شمر ملك الغساسنة هدية لصنم طئ فيها سيوف مع أنه مسيحي على دين قيصر! لذلك رأى النبي (صلی الله علیه و آله) أن يقلم أظافر هرقل من الجزيرة قبل غزوة تبوك! فأرسل علياً (علیه السلام) في سرية إلى قبيلة طئ.

قال في الصحيح من السيرة: 26/335، ملخصاً: «في شهر ربيع الآخر من سنة تسع بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) علي بن أبي طالب (علیه السلام) في خمسين ومائة رجل أو مائتين من الأنصار كما ذكره ابن سعد، على مائة بعير وخمسين فرساً، ومعه راية سوداء ولواء أبيض إلى الفُلْس وهو صنم لطئ ليهدمه، فوجدوا عيناً لطئ على بعد ليلة فأخذوه معهم وشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر، فهدموا الفلس وخربوه ووجد في خزانته ثلاثة أسياف: رسوب والمخذم وكان الحارث بن

أبي شمر ملك الشام قلده إياهما، وسيف يقال له: اليماني، وثلاثة أدرع.

ص: 496

وأخذوا من نعمهم وسبوا منهم، وكان في السبي سفانة أخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشام، فلما نزلوا رَكَك اقتسموا الغنائم، وعزلوا للنبي (صلی الله علیه و آله) السيوف والخُمس، ولم يقسم آل حاتم حتى قدم بهم المدينة.

وكانت أخت عدي إذا مرَّ النبي (صلی الله علیه و آله) تقول: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد، فامنن علينا من الله عليك، فسألها: من وافدك؟ فتقول: عدي بن حاتم. فيقول: الفار من الله ورسوله؟ فلما كان يوم الرابع مرَّ النبي، فلم تتكلم فأشار إليها رجل قومي فكلميه فكلمته أن يمن عليها فمن عليها فأسلمت. وسألت عن الرجل الذي أشار إليها، فقيل: علي وهو الذي سباكم أما تعرفينه؟ فقالت: لا والله ما زلت مُدْنِيَةً طرف ثوبي على وجهي، وطرف ردائي على بُرقعي من يوم أُسرت حتى دخلتُ هذه الدار، ولا رأيت وجهه ولا وجه أحد من أصحابه.

وفي نص آخر قالت: يا محمد أرأيت أن تخلي عنا ولاتشمت بنا أحياء العرب؟ فإني ابنة سيد قومي وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط! أنا ابنة حاتم طئ. فقال لها النبي (صلی الله علیه و آله): يا جارية، هذه صفة المؤمنين حقاً، ولو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق. قالت: وكساني رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وحملني وأعطاني نفقة، فخرجت حتى قدمت على أخي.

وخرجت سفانة بنت حاتم إلى الشام، قال عدي: «فوالله إني لقاعد في أهلي، إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إليَّ تَؤُمُّنا. قال: فقلت: ابنة حاتم، فإذا هي هي! فلما وقفت عليَّ قالت: أنت القاطع الظالم، ارتحلت بأهلك وولدك، وتركت بقية والدك: أختك وعورتك؟! قال قلت: يا خية، لا تقولي إلا خيراً، فوالله ما لي من عذر، ولقد صنعتُ ما ذكرت. قال: ثم نزلت فأقامت عندي. قال: فقلت لها وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن نلحق به سريعاً، فإن يكن الرجل نبياً فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكاً فلن نذل في

ص: 497

عز اليمن، وأنت أنت. قال قلت: والله إن هذا الرأي.

قال: فخرجت حتى أقدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده وعنده امرأة وصبيان، فعرفت أنه ليس بمُلك كسرى ولا قيصر، فسلمت عليه فقال: مَن الرجل؟قال قلتُ: عدي بن حاتم. فرحب به النبي (صلی الله علیه و آله) وقربه وأخذه إلى بيته فلقيته امرأة كبيرة ضعيفة فاستوقفته، فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها. قال عدي: قلت في نفسي والله ما هذا بمَلِك. قال: ثم مضى حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفاً فقدمها إلي، فقال: أجلس على هذه. قلت: بل أنت فاجلس. فقال: بل أنت فاجلس عليها. فجلست عليها وجلس رسول الله (صلی الله علیه و آله) على الأرض. فقلت في نفسي: ما هذا بأمر ملك! فدخل الإسلام في قلبي وأحببت رسول الله (صلی الله علیه و آله) حباً لم أحبه شيئاً قط!

قال: ثم أقبل عليَّ فقال: هيه يا عدي بن حاتم، أفررت أن توحد الله وهل من أحدٍ غير الله؟ هيه يا عدي بن حاتم، أفررت أن تكبر الله ومن أكبر من الله؟ هيه يا عدي بن حاتم، أفررت أن تعظم الله ومن أعظم من الله؟ هيه يا عدي بن حاتم أفررت أن تشهد أن لا إله إلا الله وهل من إلهٍ غير الله؟ هيه يا عدي بن حاتم أفررت أن تشهد أن محمداً رسول الله؟! قال: فجعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول نحو هذا وأنا أبكي. قال:

ثم أسلمت.

قال: فلعلك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم والله لتفتحن عليهم كنوز كسرى بن هرمز. قلت: كنوز كسرى بن هرمز؟! قال: كنوز كسرى بن هرمز. قال عدي: فأسلمت، فرأيت وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد استبشر! قال عدي: وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة سترون ما قال أبو القاسم (صلی الله علیه و آله).

ص: 498

الفصل السابع والستون: غزوة تبوك لمواجهة الروم

1- ملك دومة الجندل أكيدر بن عبدالملك

دُومة الجندل بضم الدال وفتحها: مدينة الجَوْف وضواحيها، هي الآن محافظة في شمال المملكة السعودية. «والدَّوْم شجر يشبه النخل إلا أنه يثمر المُقْل «ليف أو مسد تصنع منه الحبال» وله ليف وخوص مثل ليف النخل. ودومة الجندل خمسة فراسخ ومن قبل مغربه عين تَثِجَّ فتسقي ما به من النخل والزرع. واسم حصنها مارد، وسميت دومة الجندل لأن حصنها مبني بالجندل».لسان العرب: 12/218.

«تتصل به عين التمر وبَرِّية خساف من بادية السماوة».نزهة المشتاق: 1/352.

وفي قاموس الكتاب المقدس/381: «آدوم: إسم مكان ذكر في إشعياء: 21: 11، مع سعير أو أدوم. ويعتقد بعضهم أن هذا المكان هو الواحة التي تسمى دومة الجندل وتدعى الآن الجوف، وهي في الشمال الغربي من شبه الجزيرة العربية على نحو مسافة مائة ميل من حدود الأردن. وربما سكن نسل دومة بن إسماعيل هذه البلاد». وفي الصحيح من السيرة: 10/126: «مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال، وتبعد عن المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة، وهي بقرب تبوك».

«أكيدر: صاحب دومة الجندل.وكودر: ملك من ملوك حمير».لسان العرب:5/135.

وفي مكاتيب الرسول: 3/331: «ذكر بعض الأخباريين أن كلباً كانت تحكم دومة الجندل،

ص: 499

وأن أول من حكمها منهم دجاجة بن قنانة بن عدي.وذكروا أيضاً أن الملك على دومة الجندل وتبوك كان لهم إلى أن ظهر الإسلام، وأنهم كانوا يتداولون الحكومة مع السكون من كندة، فلما ظهر الإسلام كان على دومة الجندل الأكيدر بن عبدالملك، وكان سوق دومة الجندل يعشرها كلب تارة وأكيدر أخرى. ويؤيد سلطة كلب وقوتها أن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث سرية إلى دومة مع عبدالرحمن بن عوف في السنة السادسة في شعبان فتزوج ابنة الأصبغ، وهو رأسهم وملكهم. راجع الطبري: 2/642.

أقول: كانت دومة الجندل «دولة» تابعة لهرقل، وهي حدود بلاد الشام مع جزيرة العرب، وهي حدود دولة المناذرة في العراق التي يحكمها الفرس. وقد انتشرت فيها المسيحية إلى جانب الوثنية العربية، ومثلها تيماء ووادي القرى وتبوك. وعندما ضعف نفود الفرس بعد هزيمتهم على يد الروم، زاد نشاط الغساسنة والروم في هذه المناطق، وتعاظم خطر الروم على النبي (صلی الله علیه و آله). وكان الأكيدر ملك الدومة على صلة وثيقة بمَلك الشام الحارث بن أبي شمر، وكان ذراعه داخل الجزيرة، وكانا يُحَضِّرَان لغزو المدينة بأمر هرقل من قديم.

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يتجنب الإصطدام مع أي حاكم عربي مهما أمكن ليجمع العرب على الإسلام ضد الروم، وتقدم في غزوة مؤتة أن ملك الشام قتل رسوله (صلی الله علیه و آله) إلى حاكم عمَّان، واستخف برسوله اليه هو، وعزم على غزو النبي فنهاه قيصر، ولما بلغ النبي (صلی الله علیه و آله) ما كان منه قال: بادَ ملكه».السيرة الحلبية: 3/304.

2- غزوة النبي (صلی الله علیه و آله) لدومة الجندل في السنة الخامسة

في السنة الخامسة بلغ النبي (صلی الله علیه و آله) أن الأكيدر يجمع لغزو المدينة فغزاه بنفسه في وقت سوق دومة الجندل السنوي، فهرب الأكيدر إلى صاحبه ملك الشام فقرر النبي (صلی الله علیه و آله) أن لا يهاجم السوق، ورجع إلى المدينة.

قال الطبري: 2/232: «وفيها«السنة الخامسة»غزا دومة الجندل في شهر ربيع الأول وكان سببها أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بلغه أن جمعاً تجمعوا بها ودنوا من أطرافه، فغزاهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى بلغ دومة الجندل، ولم يلق كيداً».

ص: 500

وفي المحبر/58: «وكان تجار العرب شكوا إليه ظلم أكيدر بن عبدالملك السكوني فخرج (صلی الله علیه و آله) مستهل المحرم يوم الإثنين، فبلغ أكيدر إقباله فهرب وخلَّى السوق! ورجع (صلی الله علیه و آله) من الطريق في صدر صفر، ولم يلق كيداً».

وفي البدء والتاريخ/332: «وأحسَّ بذلك أكيدر فهرب، واحتمل الرحل وخلى السوق، وتفرق أهلها، فلم يجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أحداً، فرجع».

3- الوضع السياسي للروم عند غزوة تبوك

ذكر المسعودي في التنبيه والإشراف/134، وهو مؤرخ خبير بالروم: أن هرقل بدأ حكمه في سنة هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) وحَكَم إلى السنة الثانية من خلافة عثمان، فكان قائد الروم في حروبهم مع الفرس وانتصارهم عليهم، وفي حروبهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمين، وانتصار المسلمين عليهم.

أما كسرى أبرويزشاهنشاه الفرس فكان عند هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) في السنة الثالثة والثلاثين من حكمه.ولما ملك هرقل جَدَّ في حرب الفرس فكانت بينهم حروب في حوران انتصر فيها الفرس وقال الله تعالى عنها: ألَمِ. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرض.

أما انتصار الروم على الفرس فكان في السنة السادسة لهجرة النبي (صلی الله علیه و آله) عندما أرسل كسرى جيشاً إلى القسطنطينية وحاصرها، وأثناء حصارها ساءت العلاقة بينه وبين قائد جيشه شهر براز، فاتفق مع هرقل ضد كسرى وانسحب من حصار قسطنطينية، فنشط هرقل في حرب جيوش كسرى في مصر وسوريا فهزمها، وجمع جيشه في الجزيرة وسار بنفسه إلى الموصل، وخرج كسرى اليه في جيشه الخاص فاقتتلوا فانهزم الفرس! ولما رأى ذلك كسرى غضب على كبار قادته وعماله وحبسهم ليقتلهم، وكان عددهم ثلاثين ألفاً! فاتفق عليه شخصيات مملكته وخلعوه وملَّكوا ابنه شيرويه.راجع الأخبار الطوال/106.

وعاد هرقل منتصراً من الموصل، وقد اطمأن إلى أن النظام الفارسي في حالة تفكك، وصار له نفوذ على ابن كسرى وقادة الجيش الفارسي المتصارعين.

وقد صح تقدير هرقل، فبعد حكم كسرى لمدة ثمانية وثلاثين عاماً حكم ابنه

ص: 501

شيرويه ستة أشهر، وأصابته الكآبة والأمراض بعد قتله أباه وإخوته الخمسة عشر! ثم حكم ابنه أردشير سنة ونصفاً. ثم حكم شهر براز أربعين يوماً. ثم حكم كسرى بن قباذ ثلاثة أشهر. ثم حكمت بوران بنت كسرى سنة ونصفاً، وفي عهدها قال النبي (صلی الله علیه و آله) عن الفرس: لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. ثم حكم فيروز جشنس بنده ستة أشهر. ثم حكمت آزر ميدخت بنت كسرى ستة أشهر.

ثم حكم فرخزاد خسرو بن أبرويز سنة. ثم حكم يزجرد بن شهريار بن كسرى عشرين سنة، لكنه كان متخفياً هارباً من المسلمين حتى قتل في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين. التنبيه والإشراف/89، المحبر/362، اليعقوبي: 1/156و172 والطبري: 1/587.

وبعد انتصاره على الفرس، بقي هرقل في بلاد الشام يرتب أمورها، وصار واضحاً أن معركته المقبلة ستكون مع النبي (صلی الله علیه و آله) وأنه يُعِدُّ العُدة لذلك.

كان هرقل يهاب النبي (صلی الله علیه و آله) ويحسب لقوته حساباً أكثر مما يهاب كسرى، ولذلك أجاب النبي (صلی الله علیه و آله) على رسالته بجواب ليِّن وأنه يؤمن بأنه الرسول الأخير الذي بشر به عيسى (علیه السلام)، وأنه دعا بطارقة الروم ليؤمنوا به، لكنهم لم يطيعوه!

أراد بذلك أن كسب الوقت للإعداد لحرب النبي (صلی الله علیه و آله)، وكان نهيه لملك الشام أن يغزو المدينة، وقايةً من الهزيمة على يد النبي (صلی الله علیه و آله).

وقد اتضحت سياسة هرقل وعداؤه للنبي (صلی الله علیه و آله) عندما أمر الحارث ملك الشام أن يقتل حاكم عَمَّان، لأنه بعث إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بإسلامه، ثم جاء إلى تبوك بعد عودة النبي (صلی الله علیه و آله) منها، وأمر بقتل يوحنا حاكم أيلة وصلبه، لأنه كتب مع النبي (صلی الله علیه و آله) عهد صلح! كما كان أمر بقتل رسول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى حاكم بصرى من قبله، بينما أكرم هو رسول النبي (صلی الله علیه و آله) وأجاب جواباً ليناً!

كان هرقل يحشد جيش الشام، وجيش كندة عند الأكيدر ملك دومة الجندل، ويهئ «طابوره الخامس» من متنصرة المدينة ومنافقيها ومنافقي قريش وبقايا اليهود، بقيادة أبي عامر الفاسق.لكن كل ذلك مقدمة لجيشه الرومي من فرسان الروم المحترفين الذين سيزحف بهم إلى المدينة خلف هذا الجيش العربي!

ص: 502

وينبغي أن نشير إلى دولتي العرب في الشام والعراق، اللتين كانتا تحت نفوذ الروم والفرس، فقد ذكروا أن أول ملوك الشام التابعين للروم جفنة بن عمرو بن ماء السماء.وآخرهم جبلة بن الأيهم، الذي لحق بالروم بعد فتح الشام.

أما في العراق فقد ملَّك الفرس على الحيرة: النعامنة والمناذرة وآخرين من تميم وكندة وغسان وطيئ، وآخرهم النعمان بن المنذر الذي قتله كسرى وملَّك بعده أياس بن قبيصة الطائي وغيره، ثم جاء الله بالإسلام.التنبيه والإشراف/1589.

4- النبي (صلی الله علیه و آله) يعمل لنقل المعركة إلى الشام وحصرها بالروم

مقابل ذلك كان النبي (صلی الله علیه و آله) يرى أن هزيمة كسرى والصراع الداخلي على السلطة بعده، تسهل على المسلمين فتح فارس. أما هرقل فيجب توجيه رسالة قوية اليه والمبادرة إلى الإشتباك معه في بلاد الشام، لصرفه عن التفكير في غزو الجزيرة. وكان (صلی الله علیه و آله) حريصاً على أن يتجنب المعركة مع الحكام المحليين التابعين لهرقل ويحصر المعركة مع جيشه الرومي الخالص ليضغط عليه أن ينسحب من الشام ومصر، ويضغط على الحكام المحليين ليكونوا على الحياد، ويعقدوا معه معاهدات صلح.

وبهذه الرؤية أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) جعفر بن أبي طالب (رحمة الله) وأمره أن يتوغل بجيشه إلى قريب القدس حيث الجيش الرومي المحترف، ولم يأمره أن يثأر لرسوله من حاكم بصرى، أو يشتبك مع الحارث حاكم الشام! وبذلك وجه رسالة إلى هرقل أن موضع الإشتباك معه في عقره بالشام ومع جيشه الرومي، وليس في الجزيرة!

وبهذه الرؤية قصد النبي (صلی الله علیه و آله) بنفسه مركزاً آخر لتجمع الجيش الرومي هو تبوك وكان يحث المسلمين على المعركة فيقول: «أغزوا الروم تنالوا بنات الأصفر»!«تفسير القمي: 1/293 والإستيعاب: 1/266» فهو يوجههم إلى المعركة المقبلة الطويلة مع الروم، ويطمعهم ببناتهم البيض، وليس ببنات المنطقة السمر!

وكان قيصر أيامها في حمص وقيل في دمشق، وكانت قواته الرومية فضلاً

ص: 503

عن العربية في حالة استنفار ضد النبي (صلی الله علیه و آله) منذ أن راسله في السنة السادسة ودعاه إلى الدخول في الإسلام، أي قبل ثلاث سنوات من تبوك، وكانت تبوك وحمص وأجنادين ومؤتة، أهم نقاط تجمع الجيش الرومي.

وتبعد تبوك عن المدينة سبع مئة كيلو متر، وهي الآن مدينة قرب الحدود السعودية الأردنية، وتبعد عن عَمَّان أربع مئة وخمسين كيلو متراً، وعن الشام نحو ذلك. وهي الأيكة التي ورد ذكرها في القرآن، وقربها مَدْيَن التي بعث فيها شعيب (علیه السلام).معجم البلدان: 1/291.

وقد علم هرقل بحركة النبي (صلی الله علیه و آله) بجيش من ثلاثين ألفاً، فقد أخبره جواسيسه في المدينة والجزيرة بحركته، وأنه أعلن مقصده ودعا الناس إلى حرب الروم! فأمر هرقل بسحب جميع قواته والقوات العربية من تبوك وأخلاها من أي قوة، لأنه لم يستعد لخوض المعركة مع النبي (صلی الله علیه و آله) !وبلغه ما فعل النبي (صلی الله علیه و آله) بالأكيدر ملك دومة الجندل، وكتب معه معاهدة صلح، فلم يحرك هرقل ساكناً.

وقد أقام النبي (صلی الله علیه و آله) في تبوك نحو عشرين يوماً وأرسل إلى هرقل رسالة أو أكثر وتلقى جوابها، وقد خلطها الرواة برسالة النبي (صلی الله علیه و آله) الأولى.

وقال المسعودي في التنبيه والإشراف/236: «وقد أتينا على ما كان بينه وبين هرقل ملك الروم من المراسلات في هذه الغزاة في حال مقامه بتبوك، وهرقل يومئذ بحمص وقيل بدمشق، فيما سلف من كتبنا».

5- تبوك والثأر لجعفر بن أبي طالب (رحمة الله)

قال اليعقوبي في تاريخه: 2/67: «سار رسول الله (صلی الله علیه و آله) في جمع كثير إلى تبوك من أرض الشأم يطلب بدم جعفر بن أبي طالب (رحمة الله)، ووجه إلى رؤساء القبائل والعشائر يستنفرهم ويرغبهم في الجهاد، وحض رسول الله (صلی الله علیه و آله) أهل الغنى على النفقة، فأنفقوا نفقات كثيرة وقووا الضعفاء».

وفي تاريخ ابن خلدون: 2 ق: 1/224: «وَجَد النبي«حَزِنَ» على من قتل من المسلمين، ولا كوجده على جعفر بن أبي طالب لأنه كان تلاده، ثم أمر بالناس في السنة التاسعة بعد الفتح وحنين والطائف أن يتهيؤا لغزو الروم، فكانت غزوة تبوك».

ص: 504

أي: كان حزنه (صلی الله علیه و آله) على جعفر (رحمة الله) عميقاً، لأنه من ذخائره القديمة العزيزة.

6- هرقل يحرك المنافقين والأكيدر لحرب النبي (صلی الله علیه و آله)

كان مسجد الضرار عملاً من جماعة أبي عامر الراهب، الذي سماه النبي (صلی الله علیه و آله) أبا عامر الفاسق، وكانوا على صلة بقيصر الروم، وقد بنوا «مسجدهم» في السنة التاسعة للهجرة ليكون مقراً لهم، فكشفهم الله تعالى، وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) فهدمه وجعله المسلمون موضع كناسة! وقد رأيت موضعه قبل نحو أربعين سنة إلى يسار الداخل إلى مسجد قباء، وكان محل قمامة، لكن الوهابيين أزالوه.

قال القمي في تفسيره: 1/305: «قوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا، فإنه كان سبب نزولها أنه جاء قوم من المنافقين إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: يا رسول الله أتأذن لنا أن نبني مسجداً في بني سالم للعليل والليلة المطيرة والشيخ الفاني؟ فأذن لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو على الخروج إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله لو أتيتنا فصليت فيه؟ قال (صلی الله علیه و آله): أنا على جناح سفر فإذا وافيت إن شاء الله أتيته فصليت فيه فلما أقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) من تبوك نزلت عليه هذه الآية في شأن المسجد وأبي عامر الراهب... وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ، يعني أبا عامر الراهب كان يأتيهم في ذكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه. وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لاتَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَلِ يَوْمٍ: يعني مسجد قبا، أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. قال كانوا يتطهرون بالماء.

وقوله: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. وفي رواية أبي الجارود عن

أبي جعفر (علیه السلام) قال: مسجد ضرار الذي أسس عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. فبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) مالك بن الدخشم الخزاعي وعامر بن عدي على أن يهدموه ويحرقوه، فجاء مالك فقال لعامر: إنتظرني حتى أخرج ناراً من منزلي،

ص: 505

فدخل فجاء بنار وأشعل في سعف النخل ثم أشعله في المسجد فتفرقوا، وقعد زيد بن حارثة حتى احترقت البنية، ثم أمر بهدم حائطه».

أما أبو عامر الفاسق فهرب إلى القسطنطينية، على أمل أن يعود بعد احتلال الأكيدر وأنصاره المدينة، لكنه خاب وبقي هناك حتى مات! «الإستيعاب: 1/381». راجع في قصة أبي عامر الراهب: شرح النهج: 14/219 و244، ابن هشام:4/956، قصص الأنبياء/349، قصص الأنبياء للراوندي/350، تفسير الطبري: 11/38، الفخر الرازي: 16/194، الدر المنثور:3 /277، تاريخ المدينة: 1/54، الصحيح من السيرة: 4/130 ونظرية عدالة الصحابة/45.

7- أكبر جيش في تاريخ الجزيرة

كان النبي (صلی الله علیه و آله) يعرف خصمه هرقل جيداً ويتعامل معه بلغة يفهمها، ولذا أعد جيشاً كبيراً، فأرسل إلى القبائل والنواحي يدعوهم للسير معه إلى غزو الروم، أراد بهذا الإعلان أن يجرئ العرب عليهم ولم تكن لهم جرأة قبل ذلك، وأن يثبت لهرقل قوة المسلمين الذين رأى نموذجاً من بسالتهم في مؤتة!

قال المفيد في الإرشاد: 1/154: «ثم كانت غزاة تبوك، فأوحى الله تبارك وتعالى اسمه إلى نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يسير إليها بنفسه ويستنفر الناس للخروج معه، وأعلمه أنه لا يحتاج فيها إلى حرب ولا يُمْنَى بقتال عدو، وأن الأمور تنقاد له بغير سيف، وتعبده بامتحان أصحابه بالخروج معه واختبارهم، ليتميزوا بذلك وتظهر سرائرهم فاستنفرهم النبي (صلی الله علیه و آله) إلى بلاد الروم وقد أينعت ثمارهم واشتد القيظ عليهم، فأبطأ أكثرهم عن طاعته رغبة في العاجل، وحرصاً على المعيشة وإصلاحها، وخوفاً من شدة القيظ وبعد المسافة ولقاء العدو، ثم نهض بعضهم على استثقال للنهوض، وتخلف آخرون».

وفي إعلام الورى: 1/243: «ثم كانت غزوة تبوك تهيأ رسول الله (صلی الله علیه و آله) في رجب

لغزو الروم، وكتب إلى قبائل العرب ممن قد دخل في الإسلام وبعث إليهم الرسل يرغبهم في الجهاد والغزو، فكتب إلى تميم، وغطفان، وطيئ، وبعث إلى عتاب بن أسيد عامله على مكة، يستنفرهم لغزو الروم». «وكتب كتباً إلى جميع القبائل التي أسلمت وقتئذ، يدعوهم إلى غزو الروم».مكاتيب الرسول (صلی الله علیه و آله): 1/216.

ص: 506

وفي الصحيح من السيرة: 29/144: «عن زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل قال: خرجنا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى غزوة تبوك زيادة على ثلاثين ألفاً.. عن أبي زرعة قال: كانوا بتبوك سبعين ألفاً.وكانت الخيل عشرة آلاف فرس.وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) كل بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء وراية.وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) جيشه بالإستكثار من النعال وقال: إن الرجل لا يزال راكباً ما دام منتعلاً».

وفي تفسير القمي: 1/295: «وكان مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) بتبوك رجل يقال له المضرَّب من كثرة ضرباته التي أصابته ببدر وأحُد، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): عُدَّ لي أهل العسكر، فعدهم فقال: هم خمسة وعشرون ألف رجل، سوى العبيد والتُّبَّاع. فقال: عُدَّ المؤمنين، فعدهم فقال: هم خمسة وعشرون رجلاً».

أقول: يبدو أن النبي (صلی الله علیه و آله) قصد بالمؤمنين أصحاب الدرجات العالية في الإيمان ولا بد أن يكون هذا الصحابي (رحمة الله) من هؤلاء الأصحاب الخاصين للنبي (صلی الله علیه و آله)، وقد بحثت عن المُضَرَّب فلم أجد له ترجمة في المصادر، وله أمثال في الصحابة الخاصين، كأبيذر، وعمرو بن الحمق الخزاعي.

8- أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) المسلمين بمدة الغزوة ونتيجتها

من أساليب الإعجاز النبوي أن النبي (صلی الله علیه و آله) أخبر المسلمين عن نتيجة معاركه مسبقاً، كما حصل في بدر وخيبر وحنين وتبوك.

وقد كشف الإمام الكاظم (علیه السلام) قصة مسجد الضرار وعلاقته بهرقل وغزوة تبوك، فقال كما في تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /481: «ولقد اتخذ المنافقون من أمة محمد (صلی الله علیه و آله) بعد موت سعد بن معاذ، وبعد انطلاق محمد (صلی الله علیه و آله) إلى تبوك،

أبا عامر الراهب، اتخذوه أميراً ورئيساً وبايعوا له وتواطؤوا على إنهاب المدينة، وسبي ذراري رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسائر أهله وصحابته ودبروا التبييت على محمد (صلی الله علیه و آله) ليقتلوه في طريقه إلى تبوك، فأحسن الله الدفاع عنه وفضح المنافقين وأخزاهم.

وذلك أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: لتسلكن سبيل من كان قبلكم، حَذْوَ النعل بالنعل والقُذَّة بالقذة حتى أن أحدهم لو دخل جُحْرَ ضب لدخلتموه!

ص: 507

قال: إعلموا أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان تأتيه الأخبار عن صاحب دومة الجندل، وكانت تلك النواحي مملكة عظيمة مما يلي الشام، وكان يهدد رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأن يقصده ويقتل أصحابه ويبيد خضراءهم! وكان أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) خائفين وجلين من قبله حتى كانوا يتناوبون على رسول الله (صلی الله علیه و آله) كل يوم عشرون منهم، كلما صاح صائح ظنوا أن قد طلع أوائل رجاله وأصحابه!

وأكثرَ المنافقون الأراجيف والأكاذيب وجعلوا يتخللون أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) ويقولون: إن أكيدر قد أعد لكم من الرجال كذا، ومن الكراع كذا، ومن المال كذا، وقد نادى فيما يليه من ولايته: ألا قد أبحتكم النهب والغارة في المدينة!

ثم يوسوسون إلى ضعفاء المسلمين يقولون لهم: وأين يقع أصحاب محمد من أصحاب أكيدر؟ يوشك أن يقصد المدينة فيقتل رجالها ويسبي ذراريها ونساءها! حتى آذى ذلك قلوب المؤمنين فشكوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما هم عليه من الجزع!

ثم إن المنافقين اتفقوا وبايعوا لأبي عامر الراهب الذي سماه رسول الله (صلی الله علیه و آله) «الفاسق»وجعلوه أميراً عليهم وبخعوا له بالطاعة فقال لهم: الرأي أن أغيب عن المدينة لئلا أتهم إلى أن يتم تدبيركم.

وكاتبوا أكيدر في دومة الجندل ليقصد المدينة ليكونوا هم عليه وهو يقصدهم فيصطلموه. فأوحى الله تعالى إلى محمد (صلی الله علیه و آله) وعرفه ما أجمعوا عليه من أمره، وأمره بالمسير إلى تبوك، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) كلما أراد غزواً وَرَّى بغيره إلا غزاة تبوك فإنه أظهر ما كان يريده، وأمرهم أن يتزودوا لها، وهي الغزاة التي افتضح فيها المنافقون وذمهم الله في تثبيطهم عنها، وأظهر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما أوحى الله تعالى إليه أن الله سيظهره بأكيدر حتى يأخذه ويصالحه على ألف أوقية ذهب في صفر، وألف أوقية ذهب في رجب، ومائتي حلة في رجب ومائتي حلة في صفر وينصرف سالماً إلى ثمانين يوماً!

فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن موسى (علیه السلام) وعد قومه أربعين ليلة وإني أعدكم ثمانين ليلة، أرجع سالماً غانماً ظافراً بلا حرب تكون، ولا أحد يستأسر من المؤمنين! فقال المنافقون: لا والله ولكنها آخر كرَّاته التي لاينجبر بعدها، وإن أصحابه ليموت

ص: 508

بعضهم في هذا الحر ورياح البوادي ومياه المواضع المؤذية الفاسدة، ومن سلم من ذلك فبين أسير في يد أكيدر وقتيل وجريح!

واستأذنه المنافقون بعلل ذكروها: بعضهم يعتل بالحر، وبعضهم بمرض جسده وبعضهم بمرض عياله، فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يأذن لهم. فلما صح عزم رسول الله (صلی الله علیه و آله) على الرحلة إلى تبوك، عمد هؤلاء المنافقون فبنوا خارج المدينة مسجداً وهو مسجد ضرار، يريدون الإجتماع فيه ويوهمون أنه للصلاة، وإنما كان ليجتمعوا فيه فيتم تدبيرهم، ويقع هناك ما يسهل لهم به ما يريدون.

ثم جاء جماعة منهم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقالوا: يا رسول الله إن بيوتنا قاصية عن مسجدك وإنا نكره الصلاة في غير جماعة ويصعب علينا الحضوروقد بنينا مسجداً فإن رأيت أن تقصده وتصلي فيه لنتيمن ونتبرك بالصلاة في موضع مصلاك، فلم يُعَرِّفهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما عرفه الله تعالى من أمرهم ونفاقهم فقال (صلی الله علیه و آله): إئتوني بحماري فأتي باليعفور فركبه يريد نحو مسجدهم، فكلما بعثه هو وأصحابه لم ينبعث ولم يمش، وإذا صرف رأسه عنه إلى غيره سار أحسن سير وأطيبه! قالوا: لعل هذا الحمار قد رأى في هذا الطريق شيئاً كرهه ولذلك لا ينبعث نحوه!

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إئتوني بفرس، فأتي بفرس فركبه فكلما بعثه نحو مسجدهم لم ينبعث، وكلما حركوه نحوه لم يتحرك، حتى إذا ولوا رأسه إلى غيره سار أحسن سير! فقالوا: ولعل هذا الفرس قد كره شيئاً في هذا الطريق!

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): تعالوا نمشي إليه، فلما تعاطى هو ومن معه المشي

نحو المسجد جثوا في مواضعهم ولم يقدروا على الحركة، وإذا هموا بغيره من المواضع خفت حركاتهم، وخفت أبدانهم، ونشطت قلوبهم! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن هذا أمر قد كرهه الله فليس يريده الآن، وأنا على جناح سفر فأمهلوا حتى أرجع إن شاء الله، ثم أنظر في هذا نظراً يرضاه الله تعالى.

وجدَّ في العزم على الخروج إلى تبوك وعزم المنافقون على اصطلام مخلفيهم إذا خرجوا! فلما خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) وشيَّعه علي (علیه السلام) خاض المنافقون فقالوا: إنما

ص: 509

خلفه محمد بالمدينة لبغضه له ولملالته منه، وما أراد بذلك إلا أن يُبَيِّته المنافقون فيقتلوه أويحاربوه فيهلكوه، فاتصل ذلك برسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال علي (علیه السلام): تسمع ما يقولون يا رسول الله؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أما يكفيك أنك جلدة ما بين عيني ونور بصري وكالروح في بدني.

ثم سار رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأصحابه وأقام علي (علیه السلام) بالمدينة فكان كلما دبر المنافقون أن يوقعوا بالمسلمين فزعوا من علي (علیه السلام) وخافوا أن يقوم معه عليهم من يدفعهم عن ذلك! وجعلوا يقولون فيما بينهم: هي كرَّة محمد التي لا يؤوب منها!

فلما صار بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين أكيدر مرحلة، قال تلك العشية: يا زبير بن العوام ويا سماك بن خرشة، إمضيا في عشرين من المسلمين إلى باب قصر أكيدر فخذاه وأتياني به! فقال الزبير: يا رسول الله وكيف نأتيك به، ومعه من الجيوش الذي قد علمت، ومعه في قصره سوى حشمه ألف ومائتان عبد وأمة وخادم؟!

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): تحتالان عليه فتأخذانه. قال: يا رسول الله وكيف نأخذه وهذه ليلة قمراء وطريقنا أرض ملساء، ونحن في الصحراء لا نخفى؟!

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أتحبان أن يستركما الله عن عيونهم، ولا يجعل لكما ظلاً إذا سرتما، ويجعل لكما نوراً كنور القمر لاتتبينان منه؟ قالا: بلى. قال: عليكما بالصلاة على محمد وآله الطيبين معتقدين أن أفضل آله علي بن أبي طالب، وتعتقد أنت يا زبير خاصة أنه لا يكون علي في قوم إلا كان هو أحق بالولاية عليهم، ليس لأحد أن يتقدمه. فإذا أنتما فعلتما ذلك وبلغتما الظل الذي بين يدي قصره من حائط قصره، فإن الله تعالى سيبعث الغزلان والأوعال إلى بابه فتحتك قرونها به فيقول: من لمحمد في مثل هذا؟ ويركب فرسه لينزل فيصطاد، فتقول امرأته: إياك والخروج فإن محمداً قد أناخ بفنائك، ولست تأمن أن يكون قد احتال ودس عليك من يقع بك! فيقول لها: إليك عني فلو كان أحد انفصل عنه في هذه الليلة لتلقته في هذا القمر عيون أصحابنا في الطريق، وهذه الدنيا بيضاء لا أحد فيها، ولو كان في ظل قصرنا هذا إنسيٌّ لنفرت منه الوحوش!

ص: 510

فينزل ليصطاد الغزلان والأوعال فتهرب من بين يديه ويتبعها، فتحيطان به وأصحابكما فتأخذانه! فكان كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخذوه! فقال: لي إليكم حاجة. قالوا: وما هي فإنا نقضيها إلا أن تسألنا أن نخليك.

فقال: تنزعون عني ثوبي هذا وسيفي ومنطقتي وتحملونها إليه، وتحملونني إليه في قميصي لئلا يراني في هذا الزي، بل يراني في زي التواضع فلعله يرحمني، ففعلوا ذلك.فلما أتي به رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال له: يا محمد أقلني وخلني على أن أدفع عنك من ورائي من أعدائك. فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): فإن لم تف بذلك؟ قال: يا محمد إن لم أفِ بذلك فإن كنت رسول الله فسيظفرك بي من منع ظلال أصحابك أن تقع على الأرض حتى أخذوني، ومن ساق الغزلان إلى بابي حتى استخرجني من قصري وأوقعني في أيدي أصحابك! وإن كنت غير نبي فإن دولتك التي أوقعتني في يدك بهذه الخصلة العجيبة والسبب اللطيف ستوقعني في يدك بمثلها.

قال: فصالحه رسول الله (صلی الله علیه و آله) على ألف أوقية ذهب في رجب ومائتي حلة، وألف أوقية في صفر ومائتي حلة، وعلى أنهم يضيفون من مرَّ بهم من المسلمين ثلاثة أيام، ويزودونه إلى المرحلة التي تليها، على أنهم إن نقضوا شيئاً من ذلك فقد برئت منهم ذمة الله وذمة محمد رسول الله (صلی الله علیه و آله).

وعاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) غانماً ظافراً، وأبطل الله تعالى كيد المنافقين، وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بإحراق مسجد الضرار، وأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ... الآيات».والبحار: 21/258.

أقول: بعد معركة مؤتة، رأى الروم أن جيش النبي (صلی الله علیه و آله) يتحفز ضدهم بجرأة وشجاعة وأنه سيعاود الكرة لأخذ ثأر جعفر (علیه السلام)، فدبروا خطة أكيدر والمنافقين من قريش وأهل المدينة لاستئصال النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمين بزعمهم، ولهذا أمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يبقي علياً (علیه السلام) في المدينة، بينما أراد المنافقون أن يغادرها لتخلو لهم!

وبهذا تعرف أن محاولة قتل النبي (صلی الله علیه و آله) في رجوعه من تبوك، ومحاولة قتل علي (علیه السلام) في المدينة في تلك الفترة، كانت خطة بديلة بعد فشل خطة هرقل في

ص: 511

الأكيدر ملك دومة الجندل. وقد أنجى الله علياً (علیه السلام) في المدينة، وأنجى نبيه (صلی الله علیه و آله) منها وأمره أن يخفي أسماء المشاركين فيها، لئلا تعلن قريش الردة، كما سيأتي!

9- عَسْكرَ النبي (صلی الله علیه و آله) في ثنية الوداع

قال المسعودي في التنبيه والإشراف/235: «ثم غزوة رسول الله (صلی الله علیه و آله) في رجب تبوك مما يلي دمشق من أرض الشام، وبين تبوك والمدينة تسعون فرسخاً، وذلك مسيرة اثنتي عشرة ليلة، وكان معه في هذه الغزاة ثلاثون ألفاً، الخيل عشرة آلاف والإبل اثنا عشر ألف بعير، ويسمَّی جيش العسرة لأنهم أمروا بالخروج لما طابت الثمار واشتد الحر وطاب لهم الظلال، وشق عليهم الخروج لبعد المسافة وعسرة من الماء وعسرة من النفقة والظهر. وحث رسول الله (صلی الله علیه و آله) الأغنياء على النفقة والحملان، فصار إلى تبوك فأقام بها بضع عشرة ليلة وقيل عشرين، يصلي ركعتين ركعتين، وعاد إلى المدينة وكان استخلف عليها علي بن أبي طالب».

وفي الإختصاص/342 وتفسير القمي: 1/290، عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) قال: «خطب النبي (صلی الله علیه و آله) لما أراد الخروج إلى تبوك بثنية الوداع فقال: بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس إن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى وخير الملل ملة إبراهيم وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص القرآن، وخير الأمور عزائمها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الأنبياء، وأشرف القتل قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتبع وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزراً، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجراً، ومن أعظم الخطايا للسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله، وخير ما ألقى في القلب اليقين، والإرتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من جمر جهنم، والسكر جمر النار، والشعر

ص: 512

من إبليس، والخمر جماع الآثام، والنساء حبالات إبليس، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، والأمر إلى آخره، وملاك العمل خواتيمه، وأربى الربا الكذب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يبالي على الله يكذبه، ومن يعفو يعف الله عنه، ومن كظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يبتغ السمعة يسمع الله به، ومن يصم بصره ومن يعصى الله يعذبه الله. اللهم اغفر لي ولأمتي اللهم اغفر لي ولأمتي. أستغفر الله لي ولكم.

قال: فرغب الناس في الجهاد، لما سمعوا هذا من رسول الله (صلی الله علیه و آله). وقدمت القبائل من العرب ممن استنفرهم. وقعد عنه قوم من المنافقين، ولقي رسول الله الجد بن قيس فقال له: يا أبا وهب ألا تنفر معنا في هذه الغزاة لعلك أن تستحفد من بنات الأصفر! فقال: يا رسول الله والله إن قومي ليعلمون أنه ليس فيهم أحد أشد عجباً بالنساء مني، وأخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر، فلا تفتنِّي وائذن لي أن أقيم!

وقال لجماعة من قومه: لا تخرجوا في الحر، فقال ابنه: تردُّ على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتقول له ما تقول، ثم تقول لقومك لا تنفروا في الحر! والله لينزلن في هذا قرآناً تقرأه الناس إلى يوم القيامة! فأنزل الله على رسوله في ذلك: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاتَفْتِنِّي، أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ. ثم قال الجد بن القيس: أيطمع محمد أن حرب الروم مثل حرب غيرهم، لا يرجع من هؤلاء أحد أبداً»!

10- استخلف علياً (علیه السلام) وودعه وناجاه

في المسترشد لمحمد بن جرير الطبري الشيعي/443: «وكان سبب تخلف علي (علیه السلام) عنه أن تبوك بعيدة عن المدينة فلم يأمن الرسول (صلی الله علیه و آله) العرب أن يصيروا إليها، إذ كان قد وترهم وسفك دماءهم.وأخرى أنه علم (صلی الله علیه و آله) أنه لا يكون

ص: 513

هناك قتال. وخرج في جيش يُروى أنهم كانوا أكثر من أربعين ألف رجل، وخلَّف بالمدينة جيشاً وهو علي (علیه السلام) وحده. فحصن الله عزوجل به المدينة وعفف به حرمهم، فتكلم فيه المنافقون وقالوا ما خلفه إلا استثقالاً له! فلحق علي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله زعم المنافقون أنك خلفتني استثقالاً لي؟ فتضاحك رسول الله، ثم أمر فنودي في الناس كلهم فاعصوصبوا وتجمعوا، فقال (صلی الله علیه و آله): يا أيها الناس ما فيكم من أحد إلا وله خاصة من أهله، ألا إن علياً مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي! فصار علي من النبي (علیه السلام) بذلك المكان الذي أردوا أن يضعوا منه، بمنزلة هارون من موسى في أسبابه كلها، إلا ما استثناه من النبوة. ولا أحسبهم يأتون بمثلها في أحد من العالمين».

وفي المناقب لمحمد بن سليمان: 1/523: «عن الحارث بن ثعلبة قال: قلت لسعد بن أبي وقاص: هل شهدت لعلي منقبة؟ قال: شهدت لعلي أربع مناقب لأن يكون لي إحداهن أحب إلي من الدنيا وما فيها! والخامسة خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غزوة تبوك فخلف علياً في أهله فقالت قريش استثقله! فجاء علي فأخذ بغرز الناقة وقال: يا رسول الله إني لخارج معك وتابعك، زعمت قريش أنك استثقلتني! فقال: هل منكم إلا وله خاصة من أهله؟أنت مني بمنزلة هارون من موسى».

وقال المفيد (رحمة الله) في الإرشاد: 1/154: «فاستخلفه ونص عليه بالإمامة من بعده نصاً جلياً وذلك فيما تظافرت به الرواية أن أهل النفاق لما علموا باستخلاف رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) على المدينة حسدوه لذلك، وعظم عليهم مقامه فيها بعد خروجه، وعلموا أنها تُحرس به ولا يكون للعدو فيها مطمع، فساءهم ذلك!

وكانوا يؤثرون خروجه معه لما يرجونه من وقوع الفساد والإختلاط عند نأي النبي (صلی الله علیه و آله) عن المدينة وخلوها من مرهوب مخوف يحرسها! وغبطوه (علیه السلام) على الرفاهية والدعة بمقامه في أهله، وتكلف من خرج منهم المشاق بالسفر والخطر. فأرجفوا به وقالوا: لم يستخلفه رسول الله (صلی الله علیه و آله) إكراماً له وإجلالاً ومودة، وإنما خلفه استثقالاً له. فلما بلغ أميرالمؤمنين (علیه السلام) إرجاف المنافقين به، أراد تكذيبهم وإظهار فضيحتهم فلحق

ص: 514

بالنبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله إن المنافقين يزعمون أنك إنما خلفتني استثقالاً ومقتاً!

فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): إرجع يا أخي إلى مكانك، فإن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي.وأوجب له به جميع منازل هارون من موسى (علیهما السلام) إلا ما خصه العرف من الأخوة واستثناه هو من النبوة.

ألا ترى أنه (صلی الله علیه و آله) جعل له كافة منازل هارون من موسى، إلا المستثنى منها لفظاً أو عقلاً... وكان له من الإمامة عليهم وفرض الطاعة كإمامته وفرض طاعته، وأنه كان أحب قومه إليه وأفضلهم لديه. قال الله عزوجل حاكياً عن موسى (علیه السلام): قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي. هَارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. فأجاب الله تعالى مسألته وأعطاه سؤله في ذلك وأمنيته حيث يقول:

قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى...

ولو علم الله تعالى أن نبيه (صلی الله علیه و آله) في هذه الغزاة حاجة إلى الحرب والأنصار لما أذن له في تخليف أميرالمؤمنين (علیه السلام)».

وفي خصائص الأئمة/66: «وروي أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما أجمع على المضي إلى تبوك ناجى أميرالمؤمنين (علیه السلام) فأطال، فقال أبو بكر لعمر: لقد أطال مناجاته لابن عمه فقال النبي (صلی الله علیه و آله) ما أنا ناجيته ولكن الله ناجاه، وفي ذلك يقول حسان:

ويوم الثنية عند الوداع *** وأجمع نحو تبوك المضيا

تنحى يودعه خالياً *** وقد وقف المسلمون المطيا

فقالوا يناجيه دون الأنام *** بل الله أدناه منه نجيا

علی فم أحمد يوحي إليه *** كلاماً بليغاً ووحياً خفيا».

وفي مناقب ابن سليمان: 1/333، عن أبي رافع قال: «لما خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى غزوة تبوك خلف علياً وكثرت فيه الأقاويل من الناس فقالوا: لم يخلقه إلا

ص: 515

بغضاً له وكراهية أن يتبعه! فبلغ ذلك علياً فلحقه على مرحلة أو مرحلتين فسار محادثه وهما على بعيرين لهما والناس ينظرون إليهما وأنا قريب منهما، فجاءت عائشة لما رأت حالهما ومناجاة كل واحد منهما لصاحبه فأدخلت بعيرها بينهما، فالتفت إليها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم قال: أما والله ما يومه منك بواحد! ثم قال: أما ترضى يا علي أنك أخي في الدنيا والآخرة وأنك خير أمتي في الدنيا والآخرة، وأن امرأتك خير نساء أمتي في الدنيا والآخرة، وأن ابنيك سيدا شباب أهل الجنة في الدنيا والآخرة وأنك أخي ووزيري ووارثي.انصرف فلايصلح ماهناك إلا أنا أوأنت».

11- أبوذر تأخر به بعيره

في تفسير القمي: 1/294: «وتخلف عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوم من أهل ثبات وبصائر لم يكن يلحقهم شك ولا ارتياب، ولكنهم قالوا نلحق برسول الله (صلی الله علیه و آله). منهم أبو خثيمة، وكان قوياً وكانت له زوجتان وعريشتان، فكانت زوجتاه قد رشتا عريشتيه وبردتا له الماء وهيئتا له طعاماً، فأشرف على عريشته، فلما نظر اليهما قال: والله، ما هذا بإنصاف! رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قد خرج في الصخ والريح وقد حمل السلاح مجاهداً في سبيل الله، وأبو خثيمة قوي قاعد في عريشته وامرأتين حسناوتين! لا والله ما هذا بإنصاف! ثم أخذ ناقته فشد عليها رحله فلحق برسول الله (صلی الله علیه و آله) فنظر الناس إلى راكب على الطريق فأخبروا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بذلك فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) كن أبا خثيمة، فأقبل وأخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بما كان منه فجزَّاه خيراً ودعا له.

وكان أبوذر (رحمة الله) تخلف عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثلاثة أيام، وذلك أن جمله كان أعجف، فلحق بعد ثلاثة أيام به، ووقف عليه جمله في بعض الطريق فتركه وحمل ثيابه على ظهره، فلما ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): كن أباذر، فقالوا: هو أبوذر، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) أدركوه بالماء فإنه عطشان! فأدركوه بالماء، ووافى أبوذر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعه إداوة فيها ماء فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا أباذر معك ماء وعطشت؟ فقال: نعم يا رسول الله بأبي أنت وأمي انتهيت إلى صخرة وعليها ماء السماء فذقته

ص: 516

فإذا هو عذب بارد، فقلت لا أشربه حتى يشربه حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فقال رسول الله: يا أباذر رحمك الله تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك، وتدخل الجنة وحدك، يسعد بك قوم من أهل العراق، يتولون غسلك وتجهيزك والصلاة عليك ودفنك»!ونحوه ابن هشام: 4/950، الطبري:2/371 والكشاف: 2/219.

أقول: فسر بعضهم قول النبي (صلی الله علیه و آله) «كن أباذر» بأنه على نحو المعجزة، فهو إعمال للولاية التكوينية التي أعطاها الله لرسوله (صلی الله علیه و آله).

قال الشعراني الصوفي في الجواهر والدرر: 3/ 123: «هل يعطى أحد من الأولياء التصرف بكن في هذه الدار؟ فقال: نعم بحكم الإرث لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فإنه تصرف بها في عدة مواطن منها قوله في غزوة تبوك: كن أباذر، فكان أباذر».

وقال ابن عربي الصوفي في الفتوحات المكية: 2/126: «جاء عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غزوة تبوك أنهم رأوا شخصاً فلم يعرفوه فقال رسول الله: كن أباذر، فإذا هو أبوذر، ولم يقل بسم الله فكانت كن منه كن الإلهية، فإنه قال الله تعالى فيمن أحبه حب النوافل كنت سمعه وبصره ولسانه الذي يتكلم به. وقد شهد الله لمحمد (صلی الله علیه و آله) بأن له نافلة بقوله تعالى: ومن الليل فتهجد به نافلة لك. فلا بد أن يكون سمعه الحق وبصره الحق وكلامه الحق، ولم يشهد بها لأحد من الخلق على التعيين. فعلامة من لم تستغرق فرائضه نوافله، وفضلت له نوافل أن يحبه الله تعالى هذه المحبة الخاصة، وجعل علامتها أن يكون الحق سمعهم وبصرهم ويدهم وجميع قواهم. ولهذا دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يكون كله نوراً فإن الله نور السماوات والأرض. ولهذا تشير الحكماء بأن الغاية المطلوبة للعبدالتشبه بالإله وتقول فيه الصوفية التخلق بالأسماء، فاختلفت العبارات وتوحد المعنى، ونحن نرغب إلى الله ونضرع أن لا يحجبنا في تخلقنا بالأسماء الإلهية عن عبوديتنا».

وقال صدر المتألهين الشيرازي في الأسفار: 8/9: «وإنا قد قدمنا إليكم يا إخواني في الطريق من أنوار الحكم ولطائف الكلم مبادئ عقليات وضوابط كليات وقوانين ميزانية وأحكاما ذهنية، هي مقدمات ذوات فضائل جمة ودرجات

ص: 517

للمسير إلى الله بقدم الفكر والهمة، وهي معارج للإرتقاء إلى معرفة الإلهية والإعتلاء إلى شهود جمال الأحدية وصفاته الواجبية، ومجاورة المقدسين ومنادمة أهل الملكوت والعليين، من مقاصد أصحاب الوحي والتنزيل ومحكمات أسرار أهل التأويل، الآخذين علومهم عن الملائكة المقربين والحفظة الكرام الكاتبين... فهذا العلم يجعل الإنسان ذا ملك كبير، لأنه الإكسير الأعظم الموجب للغنى الكلي والسعادة الكبرى، والبقاء على أفضل الأحوال، والتشبه بالخير الأقصى والتخلق بأخلاق الله تعالى، ولذلك ورد في بعض الصحف المنزلة من الكتب السماوية أنه قال سبحانه: يا ابن آدم خلقتك للبقاء وأنا حي لا أموت، أطعني فيما أمرتك وانته عما نهيتك أجعلك مثلي حياً لا تموت..فهذا مقام من المقامات التي يصل إليها الإنسان بالحكمة والعرفان! وهو يسمى عند أهل التصوف بمقام كن، كما ينقل عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غزوة تبوك أنه قال: كن أباذر، فكان أباذر. وله مقام فوق هذا يسمى بمقام الفناء في التوحيد، المشار إليه بقوله تعالى في الحديث القدسي: فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع وبصره الذي به يبصر.. الحديث. وسينكشف لك في هذا السفر بيان هذا المطلب بالبرهان ويلقى إليك معرفة العلم الذي من أجله يستوجب من علمه وعمل بموجبه تلك البهجة الكبرى والمنزلة العظمى، فافهم واغتنم به وكن به سعيداً، ولا تلقه الا إلى أهله العامل بمقتضاه وموجبه».

أقول: لا كلام في إمكان أن يكون النبي (صلی الله علیه و آله) قال للسوادة: كن أباذر، فكان على نحو الإعجاز. لكن الإشكال في زعمهم أن ذلك مقامٌ يمكنهم أن يبلغوه هم وأمثالهم، ودعوتهم الناس أن يتبعوهم لكي يبلغوه! ولم يكتفوا بذلك حتى اخترعوا مقاماً أعلى منه هو الفناء في التوحيد!

قال صدر المتألهين في الأسفار: 2/18: «فإن المنازل اللائقة بالأولياء هذه، وكذا يترقون من الواحدية إلى الفناء في الأحدية، ويسافرون من الحق إلى الخلق».

وقال في: 3/183: «فالعشق الأكبر عشق الإله جل ذكره وهو لا يكون إلا للمتألهين الكاملين الذين حصل لهم الفناء الكلي. وهؤلاء هم المشار اليه في قوله تعالى: يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونه،

ص: 518

فإنه في الحقيقة ما يُحب إلا نفسه لا غيره، فالمحب والمحبوب في الطرفين شئ واحد.

والأوسط عشق العلماء الناظرين في حقائق الموجودات المتفكرين دائماً في خلق السماوات والأرض كما في قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. وهو عذاب الفرقة والإحتجاب عن رؤية الآثار وجنة الأفعال.

والأصغر عشق الإنسان الصغير، لكونه أيضاً أنموذجاً مما في عالم الكبير كله والعالم كله كتاب الحق الجامع، وتصنيف الله الذي أبرز فيه كمالاته الذاتية ومعانيه الإلهية، وكتاب الإنسان مجموعة مختصرة، فيه آيات الكتاب المبين، فمن تأمل فيه وتدبر في آياته ومعانيه بنظر الإعتبار يسهل عليه مطالعة الكتاب الكبير وآياته ومعانيه وأسراره! وإذا اتفق وأحكم معاني الكتاب الكبير يسهل معها العروج إلى مطالعة جمال الله وجلال أحديته، فيرى الكل منطوياً في كبريائه مضمحلاً تحت أشعة نوره وضيائه».

فهذا المذهب يدعي أولاً: أن مقامات الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) ثمرة لسلوكية معينة.

ويدعي ثانياً: أن باستطاعة الإنسان أن يصل إلى تلك المقامات!

ونلاحظ أنهم جعلوا عشق الإنسان من عشق الله تعالى أو مقدمة له لأن الله: «أبرز فيه كمالاته الذاتية ومعانيه الإلهية»! ولم يبينوا من هو ذلك الإنسان، فإن قصدوا غير المعصوم فهو كلام باطل.

ويدعي ثالثاً: لأئمته وأساتيذه مقامات شبيهة بمقامات المعصومين (علیهم السلام) بل أعلى منهم، وهذا واضح من هرم شخصياتهم الذي يزعمه ابن عربي، وأعلاه أهل الظاهر وهم ستة منهم أبو يزيد البسطامي وهم الذين يتصرفون في الطبيعة. وفوقهم ستة هم الباطن الذين يتصرفون في الملكوت، ورئيسهم ابن عربي!

قال في الفتوحات المكية: 1/187: «قال الله تعالى: وعلى الأعراف رجال.

أهل الشم والتمييز والسراح عن الأوصاف فلا صفة لهم، كان منهم أبو يزيد البسطامي، ورجال إذا دعاهم الحق إليه يأتونه رجالاً لسرعة الإجابة لايركبون:

ص: 519

وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً، وهم رجال المطلع. فرجال الظاهر هم الذين لهم التصرف في عالم الملك والشهادة، وهم الذين كان يشير إليهم الشيخ محمد بن قائد الأواني، وهو المقام الذي تركه الشيخ العاقل أبو السعود بن الشبل البغدادي أدباً مع الله أخبرني أبو البدر التماشكي البغدادي رحمه الله قال: لما اجتمع محمد بن قائد الأواني وكان من الأفراد بأبي السعود هذا، قال له: يا أبا السعود إن الله قسم المملكة بيني وبينك، فلم لا تتصرف فيها كما أتصرف أنا فقال له أبو السعود: يا ابن قائد وهبتك سهمي، نحن تركنا الحق يتصرف لنا»!

وكل ذلك أماني ومزاعم ولقلقة لسان، لا أكثر.

12- في ذهابه (صلی الله علیه و آله) إلى تبوك أسَرَ الأكيدر وأطلقه

تقدمت الرواية عن الإمام الكاظم (علیه السلام) أن النبي (صلی الله علیه و آله) عندما وصل إلى دومة الجندل أرسل الزبير وأبا دجانة الأنصاري ليلاً في سرية من عشرين شخصاً، فأسروا الأكيدر بآية ربانية، وأتوه به فكتب معه معاهدة وأطلقه.

لكن رواة السلطة أعطوا هذه السرية إلى خالد بن الوليد، فقالوا إن النبي (صلی الله علیه و آله) أرسله من تبوك إلى الدومة فأسرالأكيدر! لكن لا يصح إرساله من تبوك لأن الدومة في طريق النبي (صلی الله علیه و آله) إلى تبوك! ولأن يوحنَّه حاكم إيلات ومن جاورها جاؤوا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في تبوك، لمَّا سمعوا بما حدث للأكيدر.فالصحيح أنه أسره وصالحه وأطلقه، في ذهابه إلى تبوك.

ونحن نرجح رواية تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /486، المتقدمة، عن الإمام الكاظم (علیه السلام)، أن النبي (صلی الله علیه و آله) أرسل أبا دجانة والزبير.

وقد نص اليعقوبي: 2/67 على أن النبي (صلی الله علیه و آله) تحرك في غرة رجب، ووصل إلى تبوك في شعبان أي بعد شهر أو أكثر، والمسافة إلى تبوك على أكثر تقدير عشرون يوماً، فالباقي كان في فرق الطريق إلى دومة الجندل، حيث أسره النبي (صلی الله علیه و آله).

وفي مغازي الواقدي/615: «وكانت دومة وأيلة وتيماء قد خافوا النبي (صلی الله علیه و آله) لما رأوا العرب قد أسلمت. وقدم يُحنة بن رؤبة على النبي (صلی الله علیه و آله) وكان ملك أيلة وأشفقوا

ص: 520

أن يبعث إليهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما بعث إلى أكيدر، وأقبل معه أهل جرباء وأذرح فأتوه فصالحهم، فقطع عليهم الجزية جزية معلومة وكتب لهم كتاباً».

13- راسل النبي (صلی الله علیه و آله) هرقل من تبوك

أقام النبي (صلی الله علیه و آله) في تبوك نحو عشرين يوماً، لأنه راسل هرقل وانتظر جوابه، ففي الخرائج: 1/169: «واختلفت الرسل بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وملك الروم، فطالت في ذلك الأيام حتى نفد الزاد فشكوا إليه نفاده فقال (صلی الله علیه و آله): من كان معه شئ من دقيق أو تمر أو سويق فليأتني به، فجاءه رجل بكف تمر والآخر بكف سويق فبسط رداءه وجعل ذلك عليه ووضع يده على كل واحد منها، ثم قال: نادوا في الناس: من أراد الزاد فليأت، فأقبل الناس يأخذون الدقيق والتمر والسويق حتى ملؤوا جميع ما كان معهم من الأوعية، وذلك الدقيق والتمر والسويق على حاله، ما نقص من واحد منها شئ ولا زاد على ما كان».

ويشعر قوله «واختلفت الرسل» أنهما تبادلا أكثر من رسالة، لكن لم تذكر المصادر إلا رسالة واحدة، شبيهة برسالة النبي (صلی الله علیه و آله) إلى هرقل في السنة السادسة.

ففي مكاتيب الرسول (صلی الله علیه و آله): 2/410: «من محمد رسول الله إلى صاحب الروم: إني أدعوك إلى الإسلام، فإن أسلمت فلك ما للمسلمين وعليك ما عليهم، فإن لم تدخل في الإسلام، فأعط الجزية، فإن الله تبارك وتعالى يقول: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وإلا فلا تَحُل بين الفلاحين وبين الإسلام، أن يدخلوا فيه، أو يعطوا الجزية».

لكن هذا النص للرسالة ناقص، فجواب هرقل يدل على أنه كان فيها آية: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. فقد رووا عن رجل تنوخي إسمه سعيد بن أبي راشد أنه قال: لما جاء كتاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) دعا قسيسي الروم وبطارقتها ثم غلق عليه وعليهم الدار،

ص: 521

فقال: قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم، وقد أرسل إلي يدعوني إلى ثلاث خصال: يدعوني إلى أن أتبعه على دينه، أو على أن نعطيه ما لنا على أرضنا والأرض أرضنا، أو نلقى إليه الحرب، والله لقد عرفتم فيما تقرؤن من الكتب ليأخذن ما تحت قدمي، فهلم نتبعه على دينه أو نعطيه مالنا وأرضنا! فنخروا نخرة رجل واحد حتى خرجوا من برانسهم وقالوا: تدعونا إلى أن ندع النصرانية، أو نكون عبيداً لأعرابي جاء من الحجاز! فقال: إنما قلت ذلك لكم لأعلم صلابتكم على أمركم!

ثم دعا رجلاً من عرب تجيب كان على نصارى العرب فقال:«أدع لي رجلاً حافظاً للحديث عربي اللسان أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه، فجاء بي، فدفع إليَّ هرقل كتاباً وقال: إذهب بكتابي إلى هذا الرجل فما ضيعت من حديثه فاحفظ لي منه ثلاث خصال: أنظر هل يذكر صحيفته التي كتب إليَّ بشئ، وانظر إذا قرأ كتابي فهل يذكر الليل وانظر في ظهره هل به شئ يريبك، فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوك فإذا هو جالس بين ظهراني أصحابه محتبياً على الماء فقلت: أين صاحبكم؟ قيل ها هوذا فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه فناولته كتابي فوضعه في حجره ثم قال: ممن أنت؟ فقلت: أنا أحد تنوخ. قال: هل لك في الإسلام الحنيفية ملة أبيك إبراهيم؟ قلت إني رسول قوم وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم، فضحك وقال: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين. يا أخا تنوخ إني كتبت بكتابي إلى كسرى فمزقه والله ممزقه وممزق ملكه، وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فخرقها والله مُخرقه ومخرق ملكه، وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها فلن يزل الناس يجدون منه بأساً ما دام في العيش خير. قلت: هذه إحدى الثلاثة التي أوصاني بها صاحبي، وأخذت سهماً من جعبتي فكتبتها في جلد سيفي، ثم إنه ناول الصحيفة رجلاً عن يساره.. فإذا في كتاب صاحبي: تدعوني إلى جنة عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ فأين النار؟ فقال رسول الله: سبحان الله أين الليل إذا جاء النهار؟ قال فأخذت سهماً من جعبتي فكتبته في جلد سيفي». سبل الهدى: 11/356.

وقد أجاب النبي (صلی الله علیه و آله) على ادعاء هرقل أنه مسلم مؤمن بنبوته فقال: «كذب بل هو

ص: 522

على نصرانيته».مكاتيب الرسول (صلی الله علیه و آله):2/410،فتح الباري: 1/35 والروض الأنف: 4/302.

وفي مغازي الواقدي/608: «وكان هرقل قد بعث رجلاً من غسان إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فينظر إلى صفته وإلى علاماته إلى حمرة في عينيه، وإلى خاتم النبوة بين كتفيه، وسأل فإذا هو لا يقبل الصدقة، فوعى أشياء من حال النبي (صلی الله علیه و آله) ثم انصرف إلى هرقل فذكر له ذلك، فدعا قومه إلى التصديق به فأبوا حتى خافهم على ملكه، وهو في موضعه لم يتحرك ولم يزحف». أي لم يحرك جيشه إلى تبوك!

14- انتقم هرقل من يوحنا فقتله ولم ينتقم من الأكيدر!

كان انسحاب هرقل من تبوك حتى لايشتبك مع النبي (صلی الله علیه و آله) تخاذلاً واضحاً، وحتى لو لم تكن له قوات هناك، فالواجب على أمبراطور أن يبادر إلى قتال جيش معادٍ من ثلاثين ألفاً دخل في عمق بلاده وعسكر في مكان قريب منه، وأسر أحد الملوك التابعين له وهو الأكيدر، وكتب معه معاهدة صلح يدفع بموجبها جزية كبيرة مرتين في السنة، وخاف منه حكام محليون فجاؤوه طائعين أو مكرهين وكتبوا معه معاهدات، يدفعون بموجبها الجزية.

لكن هرقل لم يفعل، وواصل استعمال الدهاء الغربي لكسب الوقت، وأجاب النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه مؤمن به، لكن وزراءه وبطارقته لا يقبلون!

فقال النبي (صلی الله علیه و آله) عن هرقل: «كذب عدو الله إنه على نصرانيته» وصدق رسول الله فقد قتل هرقل حاكم عَمَّان لأنه أسلم، وقتل رسول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى حاكم بصرى، وقتل يوحنا حاكم إيلات، لأنه وقع مع النبي (صلی الله علیه و آله) معاهدة صلح!

قال الواقدي في المغازي/615: «وكانت دومة وأيلة وتيماء قد خافوا النبي (صلی الله علیه و آله) لما رأوا العرب قد أسلمت، وقدم يُحَنَّه بن رؤبة على النبي (صلی الله علیه و آله) وكان ملك أيلة، وأشفقوا أن يبعث إليهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما بعث إلى أكيدر. وأقبل معه أهل جرباء وأذرح فأتوه فصالحهم، فقطع عليهم الجزية جزية معلومة وكتب لهم كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمَنَةً من الله ومحمد النبي رسول الله،

ص: 523

ليُحَنَّهْ بن رؤبة وأهل أيلة لسفنهم وسائرهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد رسول الله، ولمن كان معه من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر. ومن أحدث حدثاً فإنه لايحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يريدونه، ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر». ومكاتيب الرسول:3/116، معجم البلدان: 1/292 والطبري: 2/372، ابن هشام: 4/952والتبيان: 5/172.

وجاء يوحنا بعد ذلك إلى المدينة فروي عن جابر (رحمة الله) أنه قال: «رأيت يحنة بن رؤبة يوم أُتي به إلى النبي (صلی الله علیه و آله) عليه صليب من ذهب وهو معقود الناصية، فلما رأى النبي (صلی الله علیه و آله) كفَّرَ وأومأ برأسه «وضع يديه على بعضهما لأن ذلك من فعل الفرس والروم في الخضوع لملكهم» فأومأ إليه النبي (صلی الله علیه و آله): إرفع رأسك! وصالحه يومئذ وكساه رسول الله (صلی الله علیه و آله) برداً يمنية، وأمر له بمنزل عند بلال.

وكتب رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأهل جر باء وأذرح هذا الكتاب: من محمد النبي رسول الله لأهل أذرح أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجبٍ وافية طيبة والله كفيل عليهم.. وكتب لأهل مقنا». مغازي الواقدي/615.

وبلغ خبر يوحنا إلى هرقل فأمر بقتله وصلبه عند قريته!»ابن خلدون: 2/ق:1/224.

انتظر هرقل حتى انسحب النبي (صلی الله علیه و آله) من تبوك وجاء وقتل يوحنا!

قال الشيخ الغزالي في التسامح/140: «ما إن عاد المسلمون من تبوك حتى جاء هرقل! فأمر بقتل يوحنا بن رؤبة أمير أيلة، ثم صلبه أمام قريته لأنه رضي بعقد صلح مع المسلمين».

لكن هرقل سكت عن معاهدة الأكيدر مع النبي (صلی الله علیه و آله)، لأن لقتله تداعيات!

15- مؤامرة الصحابة العدول لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) في عودته من تبوك!

1. اعترفت كل المصادر بحصول هذه المؤامرة، وتُعرف بليلة العقبة، ويُعرف منفذوها بأصحاب العقبة! لكنهم اتفق الجميع على إخفاء أسماء«أبطالها»!

روى مسلم في صحيحه: 8/123، عن أبي الطفيل قال: «كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟

ص: 524

قال فقال له القوم: أخبره إذْ سألك! قال: كنا نُخبر أنهم أربعة عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر! وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حربٌ لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد! وعَذَرَ ثلاثة قالوا: ما سمعناه منادي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا علمنا بما أراد القوم!».

وتدل هذه الرواية الرسمية على أن المتآمرين كانوا بعد النبي (صلی الله علیه و آله) بين المسلمين وكان حذيفة يعرفهم، وكذا عمار، وكذا أهل البیت (علیهم السلام). وقد أبهمت الرواية الموضوع وذكرت أن النبي (صلی الله علیه و آله) عَذَر ثلاثة منهم غير الأربعة عشر، لأنهم قالوا إنهم كانوا في محل الجريمة صدفةً، ولم يكونوا مع المتآمرين، حيث لم يسمعوا منادي النبي (صلی الله علیه و آله) يطلب من المسلمين أن يمروا من الوادي، ولا يصعدوا العقبة!

أما قصة الماء ونهي النبي (صلی الله علیه و آله) أن يشربوا منه إذا وصلوا اليه قبله، فهي منفصلة عن مؤامرة العقبة، فقد كان ذلك الماء قليلاً وأراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يباركه ويجريه بما يكفي الجيش والمنطقة، فوصل اليه جماعة قبله وعصوا وشربوا منه، وهم من أصحاب العقبة وغيرهم! فلعنهم النبي (صلی الله علیه و آله) ثانية بعد لعنة العقبة!

2. روى المفسرون مؤامرة العقبة في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.73-74.

قال البيضاوي في تفسيره: 3/158: «وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا، من الفتك بالرسول وهو أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ تسنم العقبة بالليل! فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح فقال: إليكم إليكم يا أعداء الله، فهربوا».

وفي الخصال/499، عن حذيفة أنهم أربعة عشر، ثم عدَّد أسماءهم كما يأتي، وقال: «وهم الذين أنزل الله عزوجل فيهم: وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا».

ص: 525

3. اتفقت روايتهم على أن المؤامرة كانت لقتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) في نقطة معينة من العقبة! قال الصحابي عامر بن واثلة كما في روايتهم الصحيحة: «أرادوا أن ينفروا برسول الله فيطرحوه».«مسند أحمد: 5/453».كما اتفقوا على أن غزوة تبوك كانت في الصيف وكانوا يسيرون ليلاً اتقاء الحر، وكان أمامهم طريق مختصر من العقبة لا يناسب جيشاً من ثلاثين ألفاً، فسلك الجيش طريق الوادي، وقرر النبي (صلی الله علیه و آله) أن يسلك طريق العقبة، وأحس بأن بعضهم يأتمر عليه فنادى مناديه أن لايسلك أحد العقبة، فبادر المتآمرون وصعدوا الجبل ليدحرجوا صخوراً كبيرة عليه فتقتله، أو تنفر ناقته (صلی الله علیه و آله) فتسقط في الوادي، وكان مسلكاً ضيقاً يتسع في نقطة منه لجمل واحد، وكان واديه عميقاً، روي أنه مقدار ألف رمح! البحار: 82/267.

كما ورد ذكر الدِّبَاب، وهي كراتٌ كبيرة من جلود أو خشب، يلقونها فتصدر منها أصوات تنفر الناقة: «فسبق بعضهم إلى تلك العقبة وكانوا قد أخذوا دباباً كانوا هيأوها من جلد حمار، وضعوا فيها حصى وطرحوها بين يدي الناقة».الصحيح من السيرة: 30/143.

وفي الإحتجاج: 1/64: «ثم إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمر بالرحيل في أول نصف الليل الأخير، وأمر مناديه فنادى: ألا لا يسبقن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أحد إلى العقبة ولا يطؤها حتى يجاوزها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ثم أمر حذيفة أن يقعد في أصل العقبة فينظر من يمر بها ويخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكان رسول الله أمره أن يتشبه بحجر فقال حذيفة: يا رسول الله إني أتبين الشر في وجوه القوم من رؤساء عسكرك، وإني أخاف إن قعدت في أصل الجبل وجاء منهم من أخاف أن يتقدمك إلى هناك للتدبير عليك يحس بي ويكشف عني فيعرفني ويعرف موضعي من نصيحتك، فيتهمني ويخافني فيقتلني. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنك إذا بلغت أصل العقبة فاقصد أكبر صخرة هناك إلى جانب أصل العقبة وقل لها: إن رسول الله يأمرك أن تنفرجي لي حتى أدخل جوفك، ثم يأمرك أن تثقبي فيك ثقبة أبصر منها المارين وتدخل علي منها الروح لئلا أكون من الهالكين، فإنها تصير إلى ما تقول لها بإذن الله رب العالمين. فأدى حذيفة الرسالة ودخل جوف الصخرة وجاء الأربعة والعشرون على جمالهم وبين أيديهم رجالتهم يقول بعضهم

ص: 526

لبعض: من رأيتموه هنا كائناً من كان فاقتلوه، لئلا يخبروا محمداً أنهم قد رأونا هاهنا، فينكص محمد ولا يصعد هذه العقبة إلا نهاراً، فيبطل تدبيرنا عليه! وسمعها حذيفة، واستقصوا فلم يجدوا أحداً، وكان الله قد ستر حذيفة بالحجر عنهم، فتفرقوا فبعضهم صعد على الجبل وعدل عن الطريق المسلوك، وبعضهم وقف على سفح الجبل عن يمين وشمال... فأخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بما رأى وسمع فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أوَعرفتهم بوجوههم؟ فقال: يا رسول الله كانوا متلثمين وكنت أعرف أكثرهم بجمالهم، فلما فتشوا المواضع فلم يجدوا أحداً أحدروا اللثام، فرأيت وجوههم وعرفتهم بأعيانهم وأسمائهم: فلان وفلان وفلان حتى عد أربعة وعشرين. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا حذيفة إذا كان الله يثبِّت محمداً، لم يقدر هؤلاء ولا الخلق أجمعون أن يزيلوه، إن الله تعالى بالغ في محمد أمره ولو كره الكافرون. ثم قال: يا حذيفة فانهض بنا أنت وسلمان وعمار وتوكلوا على الله، فإذا جزنا الثنية الصعبة فأذنوا للناس أن يتبعونا، فصعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو على ناقته وحذيفة وسلمان أحدهما آخذ بخطام ناقته يقودها والآخر خلفها يسوقها، وعمار إلى جانبها، والقوم على جمالهم ورجالتهم منبثون حوالي الثنية على تلك العقبات، وقد جعل الذين فوق الطريق حجارة في دباب فدحرجوها من فوق لينفروا الناقة برسول الله (صلی الله علیه و آله) ويقع به في المهوى الذي يهول الناظر إليه من بعده، فلما قربت الدباب من ناقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) أذن الله لها فارتفعت ارتفاعاً عظيماً فجاوزت ناقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم سقطت في جانب المهوى، ولم يبق منها شئ إلا صار كذلك، وناقة رسول الله كأنها لا تحس بشئ من تلك القعقعات التي كانت للدباب. ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعمار: إصعد إلى الجبل فاضرب بعصاك هذه وجوه رواحلهم فارم بها، ففعل ذلك عمار فنفرت بهم رواحلهم وسقط بعضهم فانكسر عضده».

4. وأمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن لا يعاقبهم، كما أمره أن يكتم أسماءهم، حتى لا ترتد قريش! ففي الصحيح من السيرة: 30/141 ملخصاً: «فأخبر الله تعالى

ص: 527

رسوله بمكرهم، فلما بلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) تلك العقبة نادى مناديه للناس: أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخذ العقبة فلا يأخذها أحد، واسلكوا بطن الوادي فإنه أسهل لكم وأوسع، فسلك الناس بطن الوادي إلا النفر الذين مكروا برسول الله (صلی الله علیه و آله) لما سمعوا ذلك استعدوا وتلثموا. فبينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) يسير من العقبة إذ سمع حسَّ القوم قد غَشَوْهُ، فنفَّروا ناقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى سقط بعض متاعه. فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمر حذيفة أن يردهم فرجع حذيفة إليهم، وقد رأى غضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعه محجن يضرب وجوه رواحلهم وقال: إليكم إليكم يا أعداء الله تعالى. فعلم القوم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد اطلع على مكرهم، فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس!

قالوا: أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاء الناس أن تضرب أعناقهم؟ قال: أكره أن يتحدث الناس ويقولوا: إن محمداً قد وضع يده في أصحابه».

أقول: هذا يدل على أن أولئك المجرمين كانوا صحابة، وكانت خطتهم أن يقتلوا النبي (صلی الله علیه و آله) سراً ثم يبكون عليه، ويقدموا أحدهم ويصفقوا على يده لخلافته! فأمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يكتم عليهم! لأن إعلان أسمائهم يؤدي إلى إعلان قريش الردة ومعها بعض القبائل، وهذا أضر على الإسلام من الصبر عليهم!

5- تراوح عدد المتآمرين في الروايات بين اثني عشر وأربع وعشرين، فكان فيهم أساسيون ومساعدون. وروي أنهم ثمانية من قريش وأربعة من غيرهم، وروي أنهم اثنا عشر من بني أمية وخمسة من غيرهم. وذكرت رواياتنا أن حذيفة (رحمة الله) كشف أسماءهم في خطبته في مرض وفاته في المدائن، لما تحدث عن مؤامرة قريش على النبي (صلی الله علیه و آله) وعترته، وقال في حديثه عن ليلة العقبة: «فبرقت برقة فأضاءت جميع ما حولنا وثبتت البرقة حتى خلتها شمساً طالعة، فنظرت والله إلى القوم فعرفتهم رجلاً رجلاً، وإذا هم كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وعدد القوم أربعة عشر رجلاً، تسعة من قريش، وخمسة من سائر الناس، فقال له: سمهم لنا يرحمك الله، فقال حذيفة: هم والله... قال حذيفة: ثم انحدرنا من العقبة وقد طلع الفجر، فنزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فتوضأ وانتظر أصحابه حتى انحدروا من العقبة واجتمعوا، فرأيت القوم بأجمعهم وقد دخلوا مع الناس وصلوا خلف رسول الله!

ص: 528

فلما انصرف من صلاته (صلی الله علیه و آله) التفت فنظر إلی أبي بكر وعمر وأبي عبيدة يتناجون فأمر منادياً فنادى في الناس: لا يجتمع ثلاثة نفر من الناس يتناجون فيما بينهم بسر».البحار: 28/100.

وفي تاريخ دمشق: 32/93: «عن أبي تحيى حكيم قال: كنت جالساً مع عمار فجاء أبو موسى فقال: ما لي ولك ألست أخاك؟ قال: ما أدري، إلا أني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يلعنك ليلة الجبل! قال: إنه قد استغفر لي! قال عمار: قد شهدت اللعن، ولم أشهد الإستغفار!».

وقال عنه ابن حجر في لسان الميزان: 5/290: «قال ابن عدي: عند محمد بن علي هذا، من هذا الضرب عجائب وهو منكر الحديث، والبلاء فيه عندي منه لا من حسين.. وقال الخطيب قال محمد بن منصور: كان ثقة مأموناً حسن النقل»!

أقول: تعجبَ ابن حجر من كون أبي موسى الأشعري من أهل العقبة، ولا قيمة لاستنكاره، فالراوي ثقة! وأبو موسى عند أهل البیت (علیهم السلام) كسامري اليهود!

6. استبدل رواة السلطة أسماء أصحاب العقبة بآخرين، لاهم في العير ولا النفير، ولا مصلحة لهم أو لمن وراءهم بقتل النبي (صلی الله علیه و آله) ! فذكروا لائحتين بأسمائهم:

1- معتب بن قشير بن مليل، من بني عمرو بن عوف.2- وديعة بن ثابت بن عمرو بن عوف.3- جدّ بن عبدالله بن نبتل من بني عمرو بن عوف.4- الحارث بن يزيد الطائي.5- أوس بن قيظى، من بني حارثة. 6- الحارث بن سويد.7- سعد بن زرارة، من بني مالك. 8- قيس بن قهد، من بني مالك. 9- سويد من بني بلحبلى. 10- داعس من بني بلحبلى. 11- قيس بن عمرو بن سهل.12- زيد بن اللصيت.13- سلامة بن الحمام. وهما من بني قينقاع.

والثانية ذكرها ابن القيّم والسيوطي والصالحي:

1- عبدالله بن أبي «سعد». 2- سعد بن أبي سرح. 3- أبوخاطر«حاضر»

الأعرابي. 4- عامر.5- أبو عامر «أبو عمر». 6- الجلاس بن سويد بن الصامت. 7- مجمع بن حارثة«جارية». 8- فليح «مليح» التيمي. 9- طعمة

ص: 529

بن أبيرق. 10-عبدالله بن عيينة. 11- مرة بن الربيع. 12-حصين بن النمير.

وذكرت لائحة أخرى بأسمائهم في مصادر لاتهتم برضا رموز السلطة، وهم:

1- أبو بكر. 2- عمر. 3- عثمان. 4- طلحة. 5- الزبير. 6- أبوسفيان. 7- معاوية. 8- عتبة بن أبي سفیان. 9- أبو الأعور السلمي. 10- المغيرة بن شعبة. 11- أبو موسى الأشعري.12- أبو قتادة. 13- عمرو بن العاص. 14- سعد بن أبي وقاص. وفي نص آخر: الثمانية من قريش هم: سعد بن أبي وقاص، معاوية، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة. بالإضافة إلى: 15- عبدالرحمن بن عوف. 16- أبو عبيد بن الجراح. والذين هم من غير قريش: 17- أوس بن الحدثان. 18- أبو هريرة. 19- أبو طلحة الأنصاري. 20- أبو موسى الأشعري.

وزاد في نص آخر: 21- سالم مولى أبي حذيفة.22- خالد بن الوليد. وأبا المعازف. 23- وأباه. 24- وأبا مسعود. وينتهي العدد انتهى إلى أربعة وعشرين، وقد جمعناه من الروايات المختلفة وهو ما صرحت به بعض الروايات. الصحيح:30/123.

أقول: هذه الحادثة لا يكفي فيها التعليق، فهي توجب ثورة في فهم الصحابة والسيرة!

16- في تلك الفترة حاول المنافقون قتل علي (علیه السلام) في المدينة!

في الإحتجاج: 1/59: «قال أبو محمد الحسن العسكري (علیه السلام): لقد رامت الفجرة ليلة العقبة قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) على العقبة، ورام من بقي من مردة المنافقين بالمدينة قتل علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فما قدروا على مغالبة ربهم! حملهم على ذلك حسدهم لرسول الله (صلی الله علیه و آله) في علي (علیه السلام) لما فخَّمَ من أمره وعظَّمَ من شأنه.

من ذلك أنه لما خرج النبي (صلی الله علیه و آله) من المدينة وقد كان خلفه عليها وقال له: إن جبرئيل أتاني وقال لي: يا محمد إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك: يا محمد إما أن تخرج أنت ويقيم علي أو تقيم أنت ويخرج علي، لا بد من ذلك، فإن علياً قد ندبته لإحدى اثنتين لايعلم أحد كنه جلال من أطاعني فيهما وعظيم ثوابه غيري. فلما خلفه أكثر المنافقون الطعن فيه فقالوا: ملَّه وسئمه وكره صحبته فتبعه علي (علیه السلام) حتى لحقه

ص: 530

وقد وجد غماً شديداً مما قالوا فيه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما أشخصك يا علي عن مركزك؟ فقال: بلغني عن الناس كذا وكذا. فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ فانصرف علي (علیه السلام) إلى موضعه فدبروا عليه أن يقتلوه، وتقدموا في أن يحفروا له في طريقه حفيرة طويلة قدر خمسين ذراعاً ثم غطوها بخص رقاق، ونثروا فوقها يسيراً من التراب بقدر ما غطوا به وجوه الخص، وكان ذلك على طريق علي (علیه السلام) الذي لا بد له من سلوكه، ليقع هو ودابته في الحفيرة التي قد عمقوها، وكان ما حوالي المحفور أرض ذات حجارة، ودبروا على أنه إذا وقع مع دابته في ذلك المكان كبسوه بالأحجار حتى يقتلوه! فلما بلغ علي (علیه السلام) قُرب المكان لوى فرسه عنقه.. فقال علي (علیه السلام): سر بإذن الله سالماً سوياً، عجيباً شأنك، بديعاً أمرك، فتبادرت الدابة فإذا الله عزوجل قد متن الأرض وصلَّبها ولأَّم حفرها، كأنها لم تكن محفورة وجعلها كسائر الأرض، فلما جاوزها علي (علیه السلام) لوى الفرس عنقه ووضع جحفلته على أذنه ثم قال: ما أكرمك على رب العالمين، أجازك على هذا المكان الخاوي... فلما قرب رسول الله (صلی الله علیه و آله) من العقبة التي بإزائها فضائح المنافقين والكافرين، نزل دون العقبة ثم جمعهم فقال لهم: هذا جبرئيل الروح الأمين يخبرني أن علياً دُبِّرَ عليه كذا وكذا،

فدفع الله عزوجل عنه من ألطافه وعجائب معجزاته بكذا وكذا».

وفي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /560: «فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي! تقيم يا علي فإن لك في مقامك من الأجر مثل الذي يكون لك لو خرجت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ولك مثل أجور كل من خرج مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) موقناً طائعاً، وإن لك عليَّ يا علي أن أسأل الله بمحبتك أن تشاهد من محمد سمته في سائر أحواله، إن الله يأمر جبرئيل في جميع مسيرنا هذا أن يرفع الأرض التي نسير عليها والأرض التي تكون أنت عليها ويقوي بصرك حتى تشاهد محمداً وأصحابه في سائر أحوالك وأحوالهم، فلا يفوتك الأنس من رؤيته ورؤية أصحابه ويغنيك ذلك عن المكاتبة والمراسلة.

ص: 531

فقام رجل من مجلس زين العابدين (علیه السلام) لما ذكر هذا وقال له: يا ابن رسول الله كيف يكون هذا لعلي، إنما يكون هذا للأنبياء لا لغيرهم! فقال زين العابدين: هذا هو معجزة لمحمد رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا لغيره، لأن الله تعالى لما رفعه بدعاء محمد (صلی الله علیه و آله) زاد في نوره أيضاً بدعاء محمد حتى شاهد ما شاهد، وأدرك ما أدرك.

ثم قال الباقر (علیه السلام): ما أكثر ظلم هذه الأمة لعلي بن أبي طالب (علیه السلام) وأقل إنصافهم له!؟ يمنعون علياً ما يعطونه سائر الصحابة وعلي (علیه السلام) أفضلهم! فكيف يمنعون منزلة يعطونها غيره؟! قيل: وكيف ذاك يا ابن رسول الله؟ قال: لأنكم تتولون محبي أبي بكر بن أبي قحافة وتبرؤون من أعدائه كائناً من كان، وكذلك تتولون عمر بن الخطاب وتبرؤون من أعدائه كائناً من كان، وتتولون عثمان بن عفان وتبرؤون من أعدائه كائناً من كان. حتى إذا صار إلى علي ابن أبي طالب (علیه السلام) قالوا: نتولى محبيه ولا نتبرأ من أعدائه بل نحبهم!

وكيف يجوز هذا لهم ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول في علي: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله! فتراهم لا يعادون من عاداه وخذله،

ليس هذا بإنصاف!

ثم أخرى: أنهم إذا ذكر لهم ما اختص الله به علياً (علیه السلام) بدعاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكرامته على ربه تعالى جحدوه، وهم يقبلون ما يذكر لهم في غيره من الصحابة! فما الذي منع علياً (علیه السلام) ما جعله لسائر أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟

هذا عمر بن الخطاب إذا قيل لهم: إنه كان على المنبر بالمدينة يخطب إذ نادى في خلال خطبته: يا سارية الجبل، وعجبت الصحابة وقالوا: ما هذا من الكلام الذي في هذه الخطبة! فلما قضى الخطبة والصلاة قالوا: ما قولك في خطبتك يا سارية الجبل؟ فقال: إعلموا أني وأنا أخطب رميت ببصري نحو الناحية التي خرج فيها إخوانكم إلى غزو الكافرين بنهاوند وعليهم سعد بن أبي وقاص، ففتح الله لي الأستار والحجب، وقوى بصري حتى رأيتهم وقد اصطفوا بين يدي جبل هناك، وقد جاء بعض الكفار ليدوروا خلف سارية وسائر من معه من المسلمين فيحيطوا بهم فيقتلوهم، فقلت يا سارية الجبل ليلتجئ إليه فيمنعهم ذلك من أن يحيطوا به ثم يقاتلوا...

ص: 532

قال الباقر (علیه السلام): فإذا كان هذا لعمر! فكيف لا يكون مثل هذا لعلي بن أبي طالب (علیه السلام) ؟ ولكنهم قوم لا ينصفون بل يكابرون!

ثم عاد الباقر (علیه السلام) إلى حديثه عن علي (علیه السلام) قال: فكان الله تعالى يرفع البقاع التي عليهامحمد (صلی الله علیه و آله) ويسير فيها لعلي بن أبي طالب (علیه السلام) حتى يشاهدهم على أحوالهم».

هذا، وسيأتي أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمر في تلك الأيام في طريق عودته من تبوك أن يعمل له منبر، وبيَّن للمسلمين مقام علي والعترة الطاهرة:.

17- نهاهم النبي (صلی الله علیه و آله) عن الشرب قبله، فعصوْهُ فلعنهم

في معجم البلدان: 5/135: «المشقَّق: قال ابن إسحاق في غزوة تبوك: وكان في الطريق ماء يخرج من وَشَل، ما يروي الراكب والراكبين والثلاثة، بواد يقال له المشقق، فقال رسول الله: من سبقنا إلى هذا الماء فلا يستقين منه شيئاً حتى نأتيه، قال: فسبقه إليه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول الله وقف عليه فلم ير فيه شيئاً فقال: من سبقنا إلى هذا الماء؟ فقيل له: يا رسول الله فلان وفلان، فقال: أوَلم أنههم أن يستقوا منه شيئاً حتى آتيهم؟! ثم لعنهم رسول الله ودعا عليهم!

ثم نزل فوضع يده تحت الوشل فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب ثم نضحه به ومسحه بيده، ودعا رسول الله بما شاء أن يدعو به فانخرق من الماء كما يقول من سمعه أما إن له حساً كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم، فقال رسول الله: لئن بقيتم أو من بقي منكم لتسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه». وسيرة ابن هشام: 4/954 والطبري: 2/ 373.

وفي إمتاع الأسماع: 2/71: «وأقبل قافلاً حتى كان بين تبوك وواد يقال له وادي الناقة وهو وادي المشقق...فسبق إليه أربعة من المنافقين: معتب بن قشير والحارث بن يزيد الطائي حليف بني عمرو بن عوف، ووديعة بن ثابت، وزيد بن اللصيت فقال: ألم أنهكم؟! ولعنهم ودعا عليهم ثم نزل».ونحوه قرب الإسناد للحميري/327، الخرائج: 1/109 وجعله في طريق عودته (صلی الله علیه و آله) من الحديبية.

ص: 533

وفي الإمتاع: 5/112، عن عامر بن واثلة: «فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشئ من ماء، قال: فسألها رسول الله (صلی الله علیه و آله) هل لمستما من مائها شيئاً؟ قالا: نعم، فسبهما النبي (صلی الله علیه و آله) وقال لهما ما شاء الله أن يقول»!

وفي صحيح مسلم: 8/123:»وقد كان في حَرَّة فمشى فقال: إن الماء قليل فلا يسبقني إليه أحد، فوجد قوماً قد سبقوه فلعنهم يومئذ»!

أقول: أراد النبي (صلی الله علیه و آله) بالنهي عن الشرب قبل وصوله أن يمتحن المؤمنين بالطاعة كما امتحنهم طالوت (علیه السلام) بعدم شرب الماء في قوله تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ».

وقد أخفت الحكومات أسماء الذين لعنهم (صلی الله علیه و آله)، وكانوا اثنين في رواية، وقوماً في رواية، وأقواماً في رواية، ولا بد أنهم كانوا من كبارهم فأخفوهم!

وقد وقعت هذه الحادثة بعد محاولتهم قتل النبي (صلی الله علیه و آله)، فأخفوا أسماء الصحابة المجرمين ومنهم من أهل العقبة! وسموا غيرهم ممن لاوزن لهم.

قال السيد شرف الدين في كتابه أبو هريرة/97: «وما كان للأمة أن تحتفظ بكرامة من لعنهم نبيها (صلی الله علیه و آله) لنفاقهم ونفاهم لإفسادهم، فتضيع على أنفسها المصلحة التي توخاها (صلی الله علیه و آله) لها في لعنهم وإقصائهم، وهم الذين دحرجوا الدباب ليلة العقبة لينفروا برسول الله فيطرحوه، وكان إذ ذاك قافلاً من غزوة تبوك في حديث ثابت مستفيض وهو طويل، وقد جاء في آخر فلعنهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) يومئذ.

والعجب من المسلم ينتصر لهم وقد جرعوا النبي (صلی الله علیه و آله) كل غصة، وقعدوا له في كل مرصد، ووثبوا عليه وعلى أهل بيته: من بعده كل وثبة! وما لعنهم إلا ليطردهم الله من رحمته ويجتنبهم المؤمنون من أمته، جزاء وفاقاً، لا ليقربهم

إلى الله زلفى، كما يخرِّفون».

يقصد السيد شرف الدين بتخريفهم، أنهم جعلوا لعنة الملعون على لسان النبي (صلی الله علیه و آله) منقبة له! فروى مسلم في صحيحه: 8/25: «أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: اللهم إني

ص: 534

أتخذ عندك عهداً لن تخلفنيه، فإنما أنا بشر، فأيُّ المؤمنين آذيته أو شتمته أو لعنته أو جلدته، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة». فصار الملعون أحسن حظاً من غيره»!

18- نزول سورة التوبة في طريق العودة من تبوك

من المؤكد أن قسماً منها نزل في طريق العودة من تبوك، وروي أنها نزلت كلها: «روى البراء بن عازب قال: آخر سورة نزلت كاملة، براءة».التبيان: 3/407.

وسميت «براءة» لأن أولها: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وهي السورة الوحيدة التي لاتبدأ بالبسملة، لأنها غضب على المشركين والمنافقين.

قال الشافعي في الأم: 4/201: «لما قوي أهل الإسلام أنزل الله عزوجل على رسوله (صلی الله علیه و آله) مرجعه من تبوك: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، فأرسل بهذه الآيات مع علي بن أبي طالب رضی الله تعالى عنه فقرأها على الناس في الموسم، وكان فرضاً أن لا يعطى لأحد مدة بعد هذه الآيات، إلا أربعة أشهر».

كما سميت الفاضحة لأنها فضحت المنافقين وخاصة محاولتهم قتل النبي (صلی الله علیه و آله) «قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن سورة براءة فقال: تلك الفاضحة! ما زال ينزل: ومنهم.. ومنهم.. حتى خفنا ألا تدع أحداً»!معاني القرآن: 3/179.

وفي تفسير القرطبي: 8/61: «وفي السورة كشف أسرار المنافقين. وتسمى الفاضحة والبَحُوث لأنها تبحث عن أسرار المنافقين! وتسمى المبعثرة، والبعثرة: البحث».

وهي مئة وتسع وعشرون آية، وفيها بحوث عديدة، نكتفي ببعضها:

فقد بينت الآيات الأربع وعشرون الأولى، تحريم دخول المشركين إلى مكة بعد

تلك السنة.

ثم تعرضت الآيات: 25-27 إلى معركة حنين وفرار المسلمين وثبات النبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم ونصر الله تعالى لهم. ثم أكدت الآية: 28 تحريم مكة على المشركين.

ثم بينت الآيات: 29-35، الموقف من اليهود والنصارى وبعض صفاتهم.

ثم بينت الآيتان: 36-37، تحريم القتال في الأشهر الحرم، وبطلان النسئ فيها.

ص: 535

أما بقية الآيات من آية: 38، إلى 129، فعالجت مواضيع عن الجهاد، والمنافقين، وغزوة تبوك. ونشير منها إلى ست مسائل تتعلق بالسيرة:

الأولى: قوله تعالى: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ. «التوبة: 43» فقد استأذن بعض المؤمنين وبعض المنافقين من النبي (صلی الله علیه و آله)، مدعين أعذاراً، فقبل منهم وأذن لهم. «والمستأذنون ثمانون رجلاً من قبائل شتى».«تفسير القمي: 1/293». وزعم مفسروا الحكومات أن إذن النبي (صلی الله علیه و آله) للمنافقين معصية لربه! وخففها بعضهم فجعلها ذنباً صغيراً! وأطلقوا العنان لخيالهم في ذنوب النبي (صلی الله علیه و آله) وأخطائه التي عاتبه الله عليها فعفا عن بعضها وعاقبه على بعضها مثل ذنبه في أسر قرشيين في بدر! الذي عاقبه الله عليه بجرحه وهزيمته في أحُد! وقد بحثنا ذلك في كتاب «ألف سؤال وإشكال: 2/422».

والمسألة الثانية: قوله تعالى: لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. التوبة: 117.

فقد سموا جيش تبوك جيش العسرة وفسروها بالضائقة المالية، وجعلوا التوبة في الآية بسبب الإنفاق، وجعلوا المنفقين أبابكر وعمر وعثمان، وزادوا من حصة عثمان في الإنفاق وسهمه في التوبة عليه، وناقش ذلك صاحب الصحيح.

والمسألة الثالثة: قصة الذين تخلفوا عن تبوك في قوله تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ التوبة: 118. وستأتي.

والمسألة الرابعة: مسجد الضرار، وتقدم شئ من تفسير آياته عن الإمامين الحسن العسكري والكاظم (علیهما السلام).

والمسألة الخامسة: الآيتان في مؤامرتهم لقتل النبي (صلی الله علیه و آله): يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. «التوبة: 73-74». وتقدم شئ في تفسيرهما، ونشير هنا إلى أن مرتكبي الجريمة هم الذين كانوا

ص: 536

فقراء وأغناهم الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) من فضله، فهم قريبون من النبي (صلی الله علیه و آله) وقد شاركوه في حروبه لكن في الصف الخلفي، ووصلت اليهم الغنائم وعطايا النبي (صلی الله علیه و آله)، فأغناهم الله ورسوله من فضله!

والمسألة السادسة: قتال أهل الكتاب حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية، وهذا بحث فقهي وحقوقي مهم، لكنه خارج عن غرضنا هنا.

19- عودة النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة

اتفقت المصادر على أن النبي (صلی الله علیه و آله) خرج من المدينة إلى تبوك في رجب في يوم الخميس سنة تسع، وعند اليعقوبي في أول رجب، ورجع في شهر رمضان. ونصت رواية الإمام الكاظم (علیه السلام) على أنه واعد أمته ثمانين ليلة، فيكون رجوعه في نحو العشرين من شهر رمضان.

وقال اليعقوبي: 2/67: «واستخلف علياً على المدينة واستعمل الزبير على راية المهاجرين..وقدم رسول الله تبوك في شعبان فأتاه يُحَنَّة بن رؤبة أسقف أيلة فصالحه». وفي مناقب آل أبي طالب: 1/27: «أنشد العباس في النبي (صلی الله علیه و آله):

من قبلها طبت في الظلال وفي *** مستودعٍ حيث يخصف الورقُ

ثم هبطت البلاد لا بشرٌ أنت *** ولا مضغةٌ ولا علقُ

بل نطفةٌ تركب السفير وقد *** ألجم نسراً وأهله الغرق

تنقل من صالب إلى رحم *** إذا مضى عام بدا طبق

حتى احتوى بيتك المهيمن من *** خندف علياء نحلتها النطق

وأنت لما ولدت أشرقت الأرض *** وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضياء وفي *** النور وسبل الرشاد نحترق

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لايفضض الله فاك».

وروي أنه لغيره، وروى الحاكم: 3/326 أن ذلك كان منصرف النبي (صلی الله علیه و آله) من تبوك.

ص: 537

ومن مكذوباتهم في رجوع النبي (صلی الله علیه و آله) من تبوك أنه لم يدخل بيت فاطمة (علیها السلام) على عادته، لأنها اشترت ستراً ملوناً وسوارين من فضة للحسن والحسين (صلی الله علیه و آله) !

ففي مسند أحمد: 5/275، عن ثوبان قال: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا سافر آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة (علیها السلام)، وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة (علیها السلام) فقدم من غزاة له فأتاها فإذا هو بمسح على بابها ورأى على الحسن والحسين قُلبين من فضة فرجع ولم يدخل عليها! فلما رأت ذلك فاطمة ظنت أنه لم يدخل عليها من أجل ما رأى، فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما فبكى الصبيَّان فقسمته بينهما، فانطلقا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهما يبكيان فأخذه رسول الله (صلی الله علیه و آله) منهما فقال: يا ثوبان إذهب بهذا إلى بني فلان أهل بيت بالمدينة، واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج، فإن هؤلاء أهل بيتي، ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا».

ورواه بلفظ آخر في فضائل سيدة النساء لعمر بن شاهين/15: «عن ابن عمر أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان إذا خرج كان آخر عهده فاطمة (علیها السلام) وإذا رجع كان أول عهده فاطمة (علیها السلام)، فلما رجع من غزوة تبوك وقد اشترت مقينعة وصبغتها بزعفران وعلقت على بابها ستراً، وألقت في بيتها بساطاً، فلما رأى ذلك النبي (صلی الله علیه و آله) رجع فأتى المنزل فقعد فيه، فأرسلت إلى بلال فقالت: إذهب فانظره ما رده عن بابي؟ فأتاه فأخبره فقال: إني رأيتها صنعت كذا وكذا! فأتاها فأخبرها فهتكت الستر وكل شئ أحدثته وألقت ما عليها ولبست أطمارها فأخبره، فجاء حتى دخل عليها فقال: كذا كوني فداك أبي وأمي». ورواه أبو داود: 2/291، البيهقي: 1/26، ابن حبان:2/470، حماد بن زيد في تركة النبي (صلی الله علیه و آله) /56 وأخذته بعض مصادرنا كذخائر العقبى/51، البحار: 43/89 وكشف الغمة:2/79، ظناً أنه فضيلة.

وسبب تكذيبنا لهذا الحديث: أن أهل البیت (علیهم السلام) لم يرووه، وأن ما نسبه إلى الزهراء (علیها السلام) ليس حراماً ولا خلاف الأولى. وما نسبه اليها من أنها انتزعت السوارين بعنف حتى قطعتهما، مما أبكى الحسن والحسين (صلی الله علیه و آله) ! ثم استكثاره على فاطمة (علیها السلام) أن يكون لها ستر لباب دارها، وسواران من فضة لولديها، وقوله عن ذلك: «ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا»!

ص: 538

هو من نوع التبرير لما فعلته السلطة من مصادرة فدك وكل أموالهم، لتجويعهم وإخضاعهم، فبرروا ذلك بأن أهل البیت (علیهم السلام) نصيبهم في الآخرة فقط!

وكأن القصة كانت مع إحدى زوجاته فجعلوها للزهراء (علیها السلام)، قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) وهو يصف النبي (صلی الله علیه و آله) «نهج البلاغة/ 88 ح: 580»: «ويكون السِّتر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول: يا فلانة لإحدى أزواجه غيّبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها».

وينبغي الإلتفات إلى أن حسد قريش تصاعد ضد علي والعترة: في تلك الفترة، فهم يريدون أن يقولوا إن النبي (صلی الله علیه و آله) غيَّرَ عادته عند عودته من تبوك وذهب إلى المسجد ولم يذهب إلى بيت فاطمة (علیها السلام)، لأنها أرادت زينة الدنيا!

20- المتخلفون الثلاثة الذين تاب الله عليهم

قال الله تعالى: لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لامَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَالتَّوَابُ الرَّحِيمُ. سورة التوبة: 117-118.

في تفسير القمي: 1/296: «وقد كان تخلف عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوم من المنافقين وقوم من المؤمنين مستبصرين لم يعثر عليهم في نفاق، منهم كعب بن مالك الشاعر، ومرادة بن الربيع، وهلال بن أمية الواقفي، فلما تاب الله عليهم قال كعب: ما كنت قط أقوى مني في ذلك الوقت الذي خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى تبوك، وما اجتمعت لي راحلتان قط إلا في ذلك اليوم، وكنت أقول أخرج غداً أخرج بعد غد! فإني قوي وتوانيت، وبقيت بعد خروج النبي (صلی الله علیه و آله) أياماً أدخل السوق فلا أقضي حاجة! فلقيت هلال بن أمية ومرادة بن الربيع، وقد كانا تخلفا أيضاً، فتوافقنا أن نبكر إلى السوق ولم نقض حاجة، فما زلنا نقول نخرج غداً وبعد غد، حتى بلغنا إقبال رسول الله (صلی الله علیه و آله) فندمنا!

ص: 539

فلما وافى رسول الله (صلی الله علیه و آله) استقبلناه نهنؤه بالسلامة فسلمنا عليه فلم يرد علينا السلام وأعرض عنا، وسلمنا على إخواننا فلم يردوا علينا السلام! فبلغ ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا! وكنا نحضر المسجد فلا يسلم علينا أحد، ولا يكلمنا! فلما رأى كعب بن مالك وصاحباه ما قد حل بهم قالوا: ما يقعدنا بالمدينة ولا يكلمنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا إخواننا ولا أهلونا! فهلموا نخرج إلى هذا الجبل فلا نزال فيه حتى يتوب الله علينا أو نموت! فخرجوا إلى ذناب جبل بالمدينة فكانوا يصومون وكان أهلوهم يأتونهم بالطعام فيضعونه ناحية ثم يولون عنهم فلا يكلمونهم، فبقوا على هذا أياماً كثيرة يبكون بالليل والنهار ويدعون الله أن يغفر لهم. فلما طال عليهم الأمر قال لهم كعب: يا قوم قد سخط الله علينا ورسوله، قد سخط علينا وأهلونا وإخواننا قد سخطوا علينا، فلا يكلمنا أحد، فلم لا يسخط بعضنا على بعض؟! فتفرقوا في الليل وحلفوا أن لا يكلم أحد منهم صاحبه حتى يموت أو يتوب الله عليه، فبقوا على هذه ثلاثة أيام، كل واحد منهم في ناحية من الجبل لا يرى أحد منهم صاحبه ولا يكلمه! فلما كان في الليلة الثالثة ورسول الله (صلی الله علیه و آله) في بيت أم سلمة نزلت توبتهم على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقوله تعالى: لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ». وابن هشام: 4/957.

أقول: استثنى النبي (صلی الله علیه و آله) الذين تخلفوا عن تبوك لعذر فقال، كما في الغارات للثقفي: 1/230، وغيره: «لقد كان بالمدينة أقوام ما سرتم من مسير، ولا هبطتم من واد إلا كانوا معكم! ما حبسهم إلا المرض. يقول: كانت لهم نية».

وكان كبير المتخلفين كعب بن مالك الشاعر الأنصاري، وقد ورد عن أهل البیت (علیهم السلام) قراءة تفسيرية: لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين. الإحتجاج:1/98.

21- النبي (صلی الله علیه و آله) يرد على حُسَّاد علي (علیه السلام) في طريق تبوك

بعد معركة بدر خاصة، ظهر حسدهم لعلي (علیه السلام) لأن إسمه سطع في المعارك بطلاً وعضداً للنبي (صلی الله علیه و آله)، ووزيراً مقرباً منه.وصار حسدهم له بغضاً، ثم صار اتجاهاً، ثم صار حزباً، ثم صار ديناً!

ص: 540

قال بريدة: «لم أجد من الناس أبغض عليَّ من علي بن أبي طالب، حتى أحببت رجلاً من قريش ولا أحبه إلا على بغض علي»!خصائص علي (علیه السلام) للنسائي/102.

ثم زاد بغضهم له (علیه السلام) حتى تركوا من أجله السنة! قال ابن عباس: «اللهم العنهم فقد تركوا السنة من بغض علي».سنن البيهقي: 5/113.

ثم زاد بغضهم لعلي (علیه السلام) حتى بنوا مساجد خاصة بسبه! «بنى عبيدالله بن زياد أربعة مساجد بالبصرة تقوم على بغض علي بن أبي طالب والوقيعة فيه: مسجد بني عدي، ومسجد بني مجاشع، ومسجد كان في العلافين على فرضة البصرة، ومسجد في الأزد»!شرح النهج: 4/94.

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يعلم نشاط المبغضين لعلي (علیه السلام)، وقد اتخذ موقفاً حاسماً لوقف هذا الإنحراف فقال: «لايبغض علياً مؤمن ولايحبه منافق».ابن شيبة: 7/503.

وتقدم أن النبي (صلی الله علیه و آله) واجه المنافقين الذين تكلموا على علي (علیه السلام) عندما استخلفه على المدينة، وأرادوا أن تخلو المدينة منهما، فأعلن أن الله جعله منه بمنزلة هارون من موسى علیهم السلام! وفي طريق عودة النبي (صلی الله علیه و آله) من تبوك وبعد فشل مؤامرتهم لقتله وفشل مؤامرتهم لقتل علي في المدينة، بلغ النبي (صلی الله علیه و آله) أن جماعة يتكلمون على علي والعترة:، فأمر أن يعملوا له منبراً كمنبر غدير خم، وخطب في المسلمين وأبلغ رسالة ربه، وأتم عليهم الحجة!

قال أنس بن مالك: «رجعنا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) قافلين من تبوك، فقال لي في بعض الطريق: ألقوا لي الأحلاس والأقتاب، ففعلوا فصعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخطب فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: معاشر الناس، مالي إذا ذكر آل إبراهيم تهللت وجوهكم، وإذا ذكر آل محمد (صلی الله علیه و آله) كأنما يفقأ في وجوهكم حب الرمان! فوالذي بعثني بالحق نبياً لو جاء أحدكم يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبال ولم يجئ بولاية علي بن أبي طالب، لأكبه الله في النار»!أمالي الطوسي/308.

وفي نوادر المعجزات لمحمد بن جرير الطبري الشيعي/98: «روى عبدالله بن مسعود عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: كنا في غزاة تبوك ونحن نسير معه فقال: يا بن مسعود

ص: 541

إن الله عزوجل أمرني أن أزوج فاطمة من علي ففعلت. وقال لي جبرئيل: إن الله عزوجل قد بنى جنة من قصب اللؤلؤ، بين كل قصة إلى قصبة لؤلؤة من ياقوتة مشذرة بالذهب، وجعل سقوفها زبرجداً أخضر، فيها طاقات من اللؤلؤ مكللة بالياقوت، وجعل عليها غرفاً، لبنة من ذهب ولبنة من فضة ولبنة من در، ولبنة من ياقوت ولبنة من زبرجد، وقباباً من در قد شعبت بسلاسل الذهب، وحفت بأنواع الشجر، وبنى في كل قصر قبة، وجعل في كل قبة أريكة من درة بيضاء، فرشها السندس والإستبرق، وفرش أرضها بالزعفران والمسك والعنبر، وجعل في كل قبة مائة باب، وفي كل باب جاريتان وشجرتان، وفي كل قبة فرش وكتاب مكتوب حول القبة آية الكرسي. فقلت: يا جبرئيل لمن بنى الله عزوجل هذه الجنة؟ فقال: هذه جنة بناها الله تعالى لعلي بن أبي طالب وفاطمة ابنتك (علیهما السلام)، تحفة أتحفها الله بها وأقربها عينيك يا محمد». ودلائل الإمامة/142.

وعندما رجع النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة رأى أن المنافقين ما زالوا ناشطين في معاداة علي (علیه السلام) فغضب وأوضح لهم مقامه عند الله تعالى، وأتم الحجة عليهم:

ففي الروضة في فضائل أميرالمؤمنين/169 والمسترشد/615، قال: «مر عليٌّ بنفر من قريش في المسجد فتغامزوا، فدخل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وشكا له، فخرج وهو مغضب فقال: أيها الناس مالكم إذا ذكرت إبراهيم وآل إبراهيم أشرقت وجوهكم، وإذا ذكر محمد وآل محمد قست قلوبكم وعبست وجوهكم؟! والذي نفسي بيده لو عمل أحدكم عمل سبعين نبياً، لم يدخل عليَّ حتى يحب هذا أخي علياً وولده! والذي نفسي بيده لو أن أحدهم وافى بعمل سبعين نبياً، ما قبل الله منه حتى يوافي بولايتي وولاية أهل بيتي».

22- متفرقات من تبوك

1. تقدم ذكر عدد من معجزات النبي (صلی الله علیه و آله) في تبوك، وهي كثيرة، وأولها أنه أخبر بأن الغزوة ستكون ثمانين يوماً، وأخبر بما يقع له فيها، وبتفصيل معاهدته مع الأكيدر، فوقعت الأحداث كما أخبر.

ومن معجزاته (صلی الله علیه و آله): إرواء جيش المسلمين بالماء وهو نحو ثلاثين ألفاً، بدعائه بالمطر

ص: 542

حيناً، وبإنباع الماء حيناً، وتكثير الماء القليل حتى يكفيهم.

وقد حدث ذلك بضع مرات، ومنها نبع تبوك ونبع وادي المشقق الذي ما زال جارياً، كما تقدم. الخرائج: 1/28، مجمع البيان:5/138 والحاكم: 1/159.

ومنها: معجزته في الإخبار عن أبيذر وإحضاره، كما تقدم.

ومنها: معجزته في كشف المؤامرة لقتله (صلی الله علیه و آله).

و منها إخبارهم بما حدث لعلي (علیه السلام) من محاولة الاغتیال

ومنها: مباركته الظهرالذي أجهده الطريق والحر، فنشط.مجمع الزوائد: 6/193.

ومنها: «أنه ضلت ناقته القصوى فقال عمارة بن حزم: يخبرنا محمد بخبر السماء ولا يدري أين ناقته! فقال (صلی الله علیه و آله): إني لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد أخبرني الآن أنها بشعب كذا وزمامها ملتف بشجرة. فكان كما قال (صلی الله علیه و آله)»!الخرائج: 1/121.

2. كان (صلی الله علیه و آله) يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويصلي النافلة على راحلته، ففي قرب الإسناد للحميري/16، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى تبوك، وكان يصلي على راحلته صلاة الليل حيثما توجهت به ويومئ إيماء».

3. أجرى مسابقة لخيل، ومسابقة للإبل، ففي قرب الإسناد/134، عن علي (علیه السلام):«أن النبي (صلی الله علیه و آله) أجرى الخيل وجعل فيها سبع أواق من فضة، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) أجرى الإبل مقبلة من تبوك فسبقت العضباء وعليها أسامة، فجعل الناس يقولون: سبق رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ورسول الله يقول: سبق أسامة».

«أهدى عُبيد للنبي (صلی الله علیه و آله) فرساً عتيقاً يقال له مراوح، وقال: يا رسول الله سابق! فأجرى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الخيل بتبوك فسبق الفرس، فأخذه رسول الله منه، فسأله المقداد بن عمرو الفرس، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أين سبحة؟ فرس للمقداد قد شهد عليها بدراً. قال: يا رسول الله عندي وقد كبرت، وأنا أضن بها للمواطن التي شهدت عليها، وقد خلفتها لبعد هذا السفر وشدة الحر عليها، فأردت

ص: 543

أحمل هذا الفرس المعرق عليها فتأتيني بمهر. قال النبي (صلی الله علیه و آله): فذاك إذاً! فقبضه المقداد فخبر منه صدقاً، ثم حمله على سبحة فنتجت له مهراً كان سابقاً يقال له الذيال سبق في عهد عمر وعثمان فابتاعه منه عثمان بثلاثين ألفاً».الواقدي/617.

4- أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) قبل أن يصل إلى المدينة رجلين ليهدما مسجد الضرار فهدماه، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لاتَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.لايَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ

وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. سورة التوبة: 107-110.

ففي التبيان: 5/297 و 598: «قيل إنهم كانوا خمسة عشر رجلاً منهم عبدالله بن نفيل... وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل قدومه من تبوك عاصم بن عون العجلاني ومالك بن الدخشم وكان مالك من بني عوف، فقال لهما: إنطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه ثم احرقاه، فخرجا يشتدان سريعين على أقدامها ففعلا ما أمرهما به، فثبت قوم من جملتهم زيد بن حارثة بن عامر حتى احترقت البتة».

وفي تفسير القمي: 1/305: «فجاء مالك فقال لعامر: إنتظرني حتى أخرج ناراً من منزلي فدخل فجاء بنار وأشعل في سعف النخل ثم أشعله في المسجد فتفرقوا وقعد زيد بن حارثة حتى احترقت البلية، ثم أمر بهدم حايطه».

وفي فقه القرآن للقطب الراوندي: 1/159: «وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ: هو أبو عامر الراهب لحق بقيصر متنصراً، وكان يبعث إليهم: سآتيكم بجند فأخرج محمداً، فبنوه يترقبونه! وهو الذي حزب الأحزاب مع المشركين. فلما فتحت مكة هرب إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف خرج إلى الروم. وابنه عبدالله أسلم وقتل يوم أحد وهو غسيل الملائكة. ووجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الدخشم، وكان مالك من بني عوف الذين بنوا مسجد الضرار،

ص: 544

فقال لهما: إنطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه ثم احرقاه، ففعلا ما أمر به».وفي سيرة ابن هشام: 4/956، أنه بعثهما من أوان، وهي قبل المدينة بساعة من نهار.

23- تذكير ببعض مكذوبات الحكومات عن تبوك

كتب صاحب الصحيح من السيرة في غزوة تبوك أكثر من خمس مئة صفحة، وفنَّد أكثر مكذوبات رواة السلطة فيها!وتبدأ مكذوباتهم في أسباب الغزوة، إلى ادعاء إنفاق عثمان وأبي بكر على جيش العسرة، إلى تنقيصهم من أهمية حديث أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلى زعمهم أن النبي (صلی الله علیه و آله) أرسل بدل الزبير خالداً إلى الأكيدر، إلى ادعائهم فضائل لعمر وأن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يخطئ وكان عمر يصيب مثل أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمرهم أن يذبحوا جمالهم فنهاه عمر!

ومنها مكذوباتهم في التغطية على أسماء المتآمرين لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) ليلة العقبة..الخ.

24- بعد تبوك مات ابن سلول كبير المنافقين المدنيين

بعد رجوع النبي (صلی الله علیه و آله) من تبوك، وقيل بعد رجوعه من فتح مكة، مات عبدالله بن أُبيّ بن سلول رئيس المنافقين المدنيين. ففي تفسير القمي: 1/302: «وكان ابنه عبدالله بن عبدالله مؤمناً، فجاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأبوه يجود بنفسه فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إنك إن لم تأت أبي كان ذلك عاراً علينا! فدخل إليه رسول الله والمنافقون عنده، فقال ابنه عبدالله بن عبدالله: يا رسول الله إستغفر له فاستغفر له فقال عمر: ألم ينهك الله يا رسول الله أن تصلي عليهم أو تستغفر لهم! فأعرض عنه رسول الله، فأعاد عليه فقال له: ويلك إني خُيِّرْتُ فاخترت! إن الله يقول: إسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاتَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ».

فلما مات عبدالله جاء ابنه إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إن رأيت أن تحضر جنازته، فحضره رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقام على قبره، فقال له الثاني: يا رسول الله ألم ينهك الله أن تصلي على أحد منهم مات أبداً، وأن تقوم على قبره؟ فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): ويلك وهل تدري ما قلت؟إنما قلت: اللهم احش قبره

ص: 545

ناراً وجوفه ناراً وأصله النار، فبدا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما لم يكن يحب»! وسبب خطأ عمر وتصوره أن النبي (صلی الله علیه و آله) أخطأ، أنه تخيل أن قبوله حضور جنازة ابن سلول وصلاته عليه، يعني الإستغفار له، مع أن لا ملازمة بينهما، فقد زاره وصلى على جنازته ولم يستغفر له! فقد قال أهل البیت (علیهم السلام) إن الصلاة المنهي عنها في قوله تعالى: وَلاتُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاتَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ.. هي الدعاء والإستغفار، أما الصلاة عليهم بدون استغفار فليس

منهياً عنها.الكافي: 3/188.

ومعناه أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يستعمل التقية مع أتباع ابن سلول ليجذبهم إلى الإسلام، ولكن فضول عمر أجبره على إظهار أنه دعا عليه لا له!

وفي الإستبصار: 1/476: «عن أبي بصير قال: كنت عند أبي عبدالله (علیه السلام) جالساً فدخل رجل فسأله عن التكبير على الجنائز، فقال: خمس تكبيرات، ثم دخل آخر فسأله عن الصلاة على الجنائز؟ فقال: له أربع صلوات، فقال الأول: جعلت فداك سألتك فقلت خمساً، وسألك هذا فقلت أربعاً، فقال: إنك سألتني عن التكبير وسألني هذا عن الصلاة، ثم قال: إنها خمس تكبيرات بينهن أربع صلوات ثم بسط كفه فقال: إنهن خمس تكبيرات، بينهن أربع صلوات».

فقد عبَّر الإمام الأدعية التي بين التكبيرات بالصلوات ليبين أن تحريم الصلاة على المنافق يخص الدعاء له، الذي يقع بعد التكبيرة الرابعة، فالصلاة هنا بمعناها اللغوي وليس الإصطلاحي. والحدائق: 10/417 والجواهر 17/359.

وقد بيَّنا مكذوباتهم وطعنهم بالنبي (صلی الله علیه و آله) بأنه أخطأ وأصاب عمر! في كتاب ألف سؤال وإشكال: 2/329.

25- وفد ثقيف بعد تبوك

في إعلام الورى: 1/233: «سار رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الطائف في شوال سنة ثمان فحاصرهم بضعة عشر يوماً، وخرج نافع بن غيلان بن معتب في خيل من ثقيف فلقيه علي (علیه السلام) في خيله، فالتقوا ببطن وج فقتله علي (علیه السلام) وانهزم المشركون.

ص: 546

ونزل من حصن الطائف إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) جماعة من أرقائهم، منهم أبو بكَرَة وكان عبداً للحارث بن كلدة المنبعث، وكان اسمه المضطجع فسماه رسول الله المنبعث ووردان وكان عبداً لعبدالله بن ربيعة، فأسلموا.

فلما قدم وفد الطائف على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأسلموا قالوا: يا رسول الله رد علينا رقيقنا الذين أتوك، فقال: لا، أولئك عتقاء الله.

وفي إعلام الورى: 1/249: «ثم قدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) عروة بن مسعود الثقفي مسلماً، واستأذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الرجوع إلى قومه فقال: إني أخاف أن يقتلوك فقال: إن وجدوني نائماً ما أيقظوني! فأذن له رسول الله (صلی الله علیه و آله) فرجع إلى الطائف ودعاهم إلى الإسلام ونصح لهم فعصوه وأسمعوه الأذى، حتى إذا طلع الفجر نام في غرفة من داره فأذن وتشهد، فرماه رجل بسهم فقتله!

وأقبل بعد قتله وفد ثقيف بضعة عشر رجلاً هم أشراف ثقيف فأسلموا فأكرمهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحباهم، وأمَّر عليهم عثمان بن أبي العاص بن بشر، وقد كان تعلم سوراً من القرآن. قال: قلت: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بين صلاتي وقراءتي. قال: ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا خشيت فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً. قال: ففعلت فأذهب الله عني».

وقال الشيخ الأحمدي في مكاتيب الرسول (صلی الله علیه و آله): 3/70 ملخصاً: «خلال تلك المدة رأت ثقيف ممن حولها من الأعراب ما يسوؤها في الأموال والأنفس، إذ أسلم من حولهم وكانوا يستحلون أموال ثقيف لأنهم كفار، فكانوا يسلبون أموالهم ويرعون زروعهم ولا يؤدون دَيْنهم، فاضطرت ثقيف للدخول في الإسلام، وقال بعضهم لبعض: أفلا ترون أنه لا يأمن لكم سرب ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع! فأتمروا بينهم وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) رجلاً كما أرسلوا عروة، فكلموا في ذلك عبد ياليل بن عمرو وكان في سن عروة بن مسعود فأبى لأنه خشي أن يفعل به كما فعل بعروة، فكلموا شرحبيل بن غيلان وغيره من أشراف ثقيف فوفدوا في تسعة عشر رجلاً أو أقل، فلما وصلوا إلى المدينة

ص: 547

لقوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فحيوه بتحية الجاهلية: أنعم صباحاً، فضربت لهم قبة في المسجد ليسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا، فكان خالد بن سعيد بن العاص يمشي بينهم وبين رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى اكتتبوا كتابهم، وكان خالد هو الذي كتب الكتاب بيده.» «راجع الطبقات: 4/96» «فشرطوا أن يدع لهم الطاغية وهي اللات لايهدمها ثلاث سنين، فأبى عليهم ذلك، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليهم حتى سألوه شهراً واحداً فأبى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلا أن يرسل أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها.

وفيما شرطوا لأنفسهم أن يعفيهم عن الصلاة، وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم فقال (صلی الله علیه و آله): أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم عنه، وأما الصلاة فإنه لا خير في دين لاصلاة فيه! فقالوا: يا محمد فسنؤتيكها وإن كانت دناءة! وسألوا أن يترك لهم الزنا والربا وشرب الخمر، فأبى عليهم ذلك كله».

أقول: وصفوا الصلاة بأنها دناءة لأن فيها سجوداً! وكان عوام عرب الجزيرة يرون السجود كأنه انحناء لمن يفعل به الفاحشة، فكان الذي يُدعى إلى الإسلام يقول: لا أريد أن تعلوني إستي! وقد أشاعت قريش هذه السخرية لتنفير الناس من الإسلام، وافتروا على أبي طالب (علیه السلام) أنه قالها!

26- خضوع العرب للنبي (صلی الله علیه و آله) بعد فتح مكة وتبوك

وذكر ابن إسحاق أن العرب كانت تتربص بالإسلام قريشاً ثم ثقيفاً فلما رأت أنهما أسلما وخضعا للنبي (صلی الله علیه و آله) توافدت قبائل العرب من أقصى الجزيرة إلى أقصاها إلى المدينة، لإعلان إسلامها ومبايعة النبي (صلی الله علیه و آله).

قال الطبرسي في إعلام الورى: 1/250: «فلما أسلمت ثقيف ضربت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفود العرب، فدخلوا في دين الله أفواجاً».

وقال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه المواجهة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) /310: «سقطت عاصمة الشرك رسمياً، وتلقت عقيدة الشرك ضربة قصمت ظهرها تماماً وهدمت أركانها..لقد احترقت راية الشرك والمعارضة التي كانت تلجأ إليها العرب، فإذا سلَّم

ص: 548

قادة البطون وأسلموا، وأعطوا القيادة لمحمد وهم ألد أعدائه، فما هي مصلحة الآخرين بمعارضة محمد (صلی الله علیه و آله) ! ومن الذي يقف بوجه محمد الذي قضى على الحركة اليهودية بكل قوتها ومكرها، ودوَّخَ القبائل العربية وأذهب ريحها مع كثرتها، ثم ركَّع قادة بطون قريش بكل فخرها وشرفها.

لقد كان فتح مكة إعلاناً وبخط عريض بأن محمداً سيد الجزيرة بغير منازع، والمالك الحقيقي لخيراتها، والمخول بتوزيع الأدوار كلها على سكانها، وأن الدين الذي جاء به محمد هو الدين الرسمي للسكان، فمن لم يوالِ محمداً أو يتظاهر بموالاته، ومن لم يعتنق دين محمد أو يتظاهر باعتناقه، فقد أسقط ضمنياً حقه بالرزق والملك والجاه والنفوذ وبالمستقبل له، ورضي أن يعيش خائفاً في مجتمع موعود بالأمن والإستقرار.

وبفتح مكة وباستسلام هوازن والطائف سقطت آخر حصون المقاومة للنبوة والدين، وأخذت قبائل العرب تتوافد على النبي (صلی الله علیه و آله) لتعلن قبولها بولايته واعتناقها لدينه، حتى سمي عام الفتح بعام الوفود.

كان محمدٌ يبحث عن الناس والناس الآن يبحثون عن محمد! كان محمد يركض خلفهم وصار العرب يركضون لمحمد! وأخذ جباته يتحركون بين القبائل ويجبون الأموال، ليوزعها محمد على الوجه الشرعي.

وباختصار فإنك لاتجد إلا مسلماً أو متظاهراً بالإسلام، وموالياً للنبي (صلی الله علیه و آله) أو متظاهراً بالولاء! لقد أصبحت الجزيرة دولة إسلامية واحدة قامت لأول مرة في التاريخ، وحَّدها النبي (صلی الله علیه و آله) خلال مدة لاتتجاوز العشر سنين، ونالت شرف رئاسة النبي لهذه الدولة، فأعظم مظاهر وحدتها كانت رئاسة النبي المباركة فقد والته كل العرب أو تظاهرت بموالاته بدون إكراه، ودخلت في دينه أو تظاهرت بالدخول في دينه، وبدون إكراه أيضاً.

لقد أصبح محمد نظام وحدة العرب ونظام وحدة الدولة ونظام وحدة القانون. لقد اختلط محمد بالدين واختلط الدين بمحمد، فهما وجهان لعملة واحدة، فلو

ص: 549

قمت بكل واجباتك الدينية من صلاة وصيام وحج وقراءة قرآن وصدقة وقيام ليل ولكنك لا توالي محمداً (صلی الله علیه و آله)، فأنت كافر بلا خلاف.. لقد صار الرئيس بمثابة خيط سبحة إذا قطع الخيط تبعثرت حبات السبحة».

ثم أكدت غزوة تبوك للعرب أن محمداً (صلی الله علیه و آله) صار قوة تهابه الروم فها هو يقصدهم في تبوك بثلاثين ألفاً، فينسحب هرقل خوفاً من مواجهته ويرسل اليه بأنه مؤمن به، لكن بطارقته لايقبلون!

27- بعث النبي (صلی الله علیه و آله) أبابكر بسورة براءة ثم سحبها منه

في تفسير القمي: 1/281: «بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. عن الصادق (علیه السلام) قال: نزلت هذه الآية بعد ما رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة، قال: وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما فتح مكة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة، وكان سنة في العرب في الحج أنه من دخل مكة وطاف بالبيت في ثيابه لم يحل له إمساكها وكانوا يتصدقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف، وكان من وافى مكة يستعير ثوباً ويطوف فيه ثم يرده، ومن لم يجد عارية اكترى ثياباً ومن لم يجد عارية ولا كراءً ولم يكن له إلا ثوب واحد طاف بالبيت عرياناً! فجاءت امرأة من العرب وسيمة جميلة فطلبت ثوباً عارية أو كراءً فلم تجده، فقالوا لها إن طفت في ثيابك احتجت أن تتصدقي بها! فقالت وكيف أتصدق بها وليس لي غيرها؟ فطافت بالبيت عريانة! وأشرف عليها الناس..فلما فرغت من الطواف خطبها جماعة فقالت إن لي زوجاً!

وكانت سيرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل نزول سورة البراءة أن لا يقاتل إلا من قاتله، ولا يحارب إلا من حاربه وأراده، وقد كان نزل عليه في ذلك من الله عزوجل: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً. فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لايقاتل أحداً قد تنحى عنه واعتزله حتى نزلت عليه سورة البراءة، وأمره الله بقتل المشتركين من اعتزله ومن لم يعتزله، إلا الذين قد كان عاهدهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم فتح مكة إلى مدة، منهم صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، فقال الله عزوجل: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ

ص: 550

إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَسِيحُوا فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثم يقتلون حيثما وجدوا.

فهذه أشهر السياحة: عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشرة من شهر ربيع الآخر، فلما نزلت الآيات من أول براءة دفعها رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى أبي بكر وأمره أن يخرج إلى مكة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر، فلما خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد لا يؤدي عنك إلا رجل منك، فبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) أميرالمؤمنين (علیه السلام) في طلبه فلحقه بالروحاء فأخذ منه الآيات، فرجع أبو بكر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله أأنزل الله فيَّ شئ؟ قال لا، إن الله أمرني أن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني...

قال أميرالمؤمنين (علیه السلام): إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمرني أن أبلغ عن الله أن لا يطوف بالبيت عريان، ولايقرب المسجد الحرام مشرك بعد هذا العام، وأقرأ عليهم:

بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَسِيحُوا فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ،

فأحل الله للمشركين الذين حجوا تلك السنة أربعة أشهر، حتى يرجعوا إلى مأمنهم، ثم يقتلون حيث وجدوا»!

وفي الإرشاد: 1/65: «فركب أميرالمؤمنين ناقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) العضباء وسار حتى لحق أبابكر، فلما رآه فزع من لحوقه به واستقبله وقال: فيم جئت يا أبا الحسن أسائر معي أنت أم لغير ذلك؟ فقال له أميرالمؤمنين: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمرني أن ألحقك فأقبض منك الآيات من براءة وأنبذ بها عهد المشركين إليهم، وأمرني أن أخيرك بين أن تسير معي أو ترجع إليه. فقال: بل أرجع إليه.

وعاد إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فلما دخل عليه قال يا رسول الله إنك أهلتني لأمر طالت الأعناق فيه إليَّ، فلما توجهت له رددتني عنه، ما لي أنزل في قرآن؟ فقال النبي (صلی الله علیه و آله): لا، ولكن الأمين هبط إليَّ عن الله جل جلاله بأنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك، وعلي مني».

وفي الخصال/369: قال علي (علیه السلام) «فأتيت مكة وأهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلا ولو قدر أن يضع على كل جبل مني إرباً لفعل، ولو أن يبذل في ذلك

ص: 551

نفسه وأهله وولده وماله، فبلغتهم رسالة النبي (صلی الله علیه و آله) وقرأت عليهم كتابه، فكلهم يلقاني بالتهدد والوعيد ويبدي لي البغضاء ويظهر الشحناء، من رجالهم ونسائهم فكان مني في ذلك ما قد رأيتم».

وفي تفسير العياشي: 2/74، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «فوافى الموسم فبلغ عن الله وعن رسوله بعرفة والمزدلفة ويوم النحر عند الجمار وفي أيام التشريق كلها، ينادي: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ... لايطوفن بالبيت عريان..الخ. خطب علي بالناس واخترط سيفه وقال: لايطوفن بالبيت عريان، ولا يحجن بالبيت مشرك ولا مشركة..».

وفي الإقبال: 2/39: «وصعد على الجبل المشرف المعروف بالشعب، فأذن ثلاث مرات: ألا تسمعون يا أيها الناس أني رسول رسول الله إليكم ثم قال: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.. تسع آيات من أولها، ثم لمع بسيفه فأسمع الناس وكررها، فقال الناس: من هذا الذي ينادى في الناس؟ فقالوا: علي بن أبي طالب، وقال من عرفه من الناس: هذا ابن عم محمد، وما كان ليجترئ على هذا غير عشيرة محمد. فأقام أيام التشريق ثلاثة ينادي بذلك، ويقرأ على الناس غدوةً وعشية، فناداه الناس من المشركين: أبلغ ابن عمك أن ليس له عندنا إلا ضرباً بالسيف وطعناً بالرماح»!

وفي المناقب: 1/392 والإقبال: 2/41: عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنه عندما تلا عليهم: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.«قام خداش وسعيد أخوا عمرو بن ود فقال: وما يسرُّنا على أربعة أشهر، بل برئنا منك ومن ابن عمك، فليس بيننا وبين ابن عمك إلا السيف والرمح وإن شئت بدأنا بك! فقال علي (علیه السلام): أجل أجل إن شئت هلموا! ثم قال: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ».

أقول: غضب جماعة أبي بكر من أن النبي (صلی الله علیه و آله) سحب منه سورة براءة، فقالوا إنه بعثه أميراً على الحج وذهب علي بالسورة معه! فقد روى ابن كثير في سيرته: 4/72، عن أحمد بن حنبل: «لما أردف أبابكر بعلي فأخذ منه الكتاب بالجحفة رجع أبو بكر فقال: يا رسول الله نزل في شئ؟ قال: لا ولكن جبريل جاءني فقال لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك. وهذا ضعيف الإسناد ومتنه فيه نكارة والله أعلم».

ص: 552

وعدَّ صاحب الغدير (رحمة الله): 6/338 أكثر من ستين من علمائهم، أوردوا الحديث ولم يطعنوا فيه كما فعل ابن كثير! وينبغي التذكير بأن المشركين حجوا في السنة الثامنة وحدهم وحج بالمسلمين أمير مكة من قبل النبي (صلی الله علیه و آله) عتاب بن أسيد، وفي السنة التاسعة لم يُرو أي توثيق لحج أبي بكر بالمسلمين، ولكنهم جعلوه أميراً على الحج وعلى علي (علیه السلام) ! ومن الطبيعي عندما ذهب علي (علیه السلام) أن يكون أميراً للحج، لأن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يؤمِّر عليه أحداً أبداً، بينما أمَّر على أبي بكر وعمر، عمرو بن العاص.

ويظهر أن كذبتهم ظهرت في زمن الإمام الباقر (علیه السلام) فقال: «إنكم لتجعلون لآل أبي بكر شيئاً ما كان! تقولون: إن أبابكر أمَّ الناس عام براءة وما أمَّهم إلا علي».

مناقب أميرالمؤمنين (علیه السلام) لمحمد بن سليمان: 1/474.

هذا، وقد روينا بسند صحيح «أمالي الطوسي/343»: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما أسري بي إلى السماء، ثم من سماء إلى سماء ثم إلى سدرة المنتهى، أوقفت بين يدي ربي عزوجل فقال لي: يا محمد. فقلت: لبيك ربي وسعديك. قال: قد بلوتَ خلقي فأيهم وجدت أطوع لك؟ قال قلت: رب علياً. قال: صدقت يا محمد فهل اتخذت لنفسك خليفة يؤدي عنك ويعلم عبادي من كتابي ما لايعلمون؟ قال قلت: إختر لي فإن خيرتك خير لي. قال: قد اخترت لك علياً فاتخذه لنفسك خليفةً ووصياً فإني قد نحلته علمي وحلمي وهو أميرالمؤمنين حقاً، لم يقلها أحد قبله ولا أحد بعده. يا محمد علي راية الهدى وإمام من أطاعني ونور أوليائي، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين. من أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد أبغضني، فبشره بذلك يا محمد».

وكشف اليقين/278، عن مناقب الخوارزمي.

ص: 553

الفصل الثامن والستون: السنة التاسعة للهجرة: عام الوفود

1- وفادة قبائل العرب الی رسول الله (صلی الله علیه و آله)

قال الیعقوبی:2/79: «وقدمت علیه وفود العرب ولكل قبیلة رئیس یتقدمهم. فقدمت مزینة ورئیسهم خزاعی بن عبد نهم، وأشجع ورئیسهم عبدالله بن مالك، وأسلم ورئیسهم بریدة، وسلیم ورئیسهم وقاص بن قمامة، وبنو لیث ورئیسهم الصعب بن جثامة، وفزارة ورئیسهم عیینة بن حصن، وبنو بكر ورئیسهم عدي بن شراحیل، وطئ ورئیسهم عدي بن حاتم، وبجیلة ورئیسهم قیس بن غربة، والأزد ورئیسهم صرد بن عبدالله، وخثعم ورئیسهم عمیس بن عمرو، ووفد نفر من طیئ ورئیسهم زید بن مهلهل وهو زید الخیل، وبنو شیبان. وعبدالقیس ورئیسهم الأشج العصري، ثم وفد الجارود بن المعلی فولاه رسول الله علی قومه، وأوفدت ملوك حمیر بإسلامهم وفوداً وهم: الحارث بن عبد كلال ونعیم بن عبد كلال والنعمان قیل ذي رعین وكتبوا إلیه بإسلامهم فبعث إلیهم معاذ بن جبل، وعكل ورئیسها خزیمة بن عاصم، وجذام ورئیسها فروة بن عمرو، وحضرموت ورئیسها وائل بن حجر الحضرمي، والضباب ورئیسها ذو الجوشن، وبنو أسد ورئیسها ضرار بن الأزور وقیل نقادة بن العایف، وعامر بن الطفیل فی بني عامر فرجع ولم یسلم، وأربد ابن قیس رجع ولم یسلم، وبنو الحارث بن كعب ورئیسهم یزید بن عبدالمدان، وبنو تمیم وعلیهم عطارد بن حاجب والزبرقان بن بدر وقیس بن عاصم ومالك بن

ص: 554

نویرة، وبنو نهد وعلیهم أبو لیلی خالد بن الصقعب، وكنانة ورئیسهم قطن وأنس ابنا حارثة من بني علیم، وهمدان ورئیسهم ضمام بن مالك، وثمالة والحدان فخذ من الأزد ورئیسهم مسلمة بن هزان الحداني، وباهلة ورئیسهم مطرف بن كاهن الباهلي، وبنو حنیفة ومعهم مسیلمة بن حبیب الحنفي، ومراد ورئیسهم فروة بن مسیك، ومهرة ورئیسهم مهري بن الأبیض».

وقال ابن هشام: 4/985: «قال ابن إسحاق: لما افتتح رسول الله (صلی الله علیه و آله) مكة وفرغ من تبوك وأسلمت ثقیف وبایعت، ضربت إلیه وفود العرب من كل وجه. قال ابن هشام: حدثني أبو عبیدة أن ذلك فی سنة تسع وأنها كانت تسمی سنة الوفود.

قال ابن إسحاق: وإنما كانت العرب تربَّص بالإسلام أمر هذا الحي من قریش وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وذلك أن قریشاً كانوا إمام الناس وهادیهم وأهل البیت والحرم، وصریح ولد إسماعیل بن إبراهیم (علیهما السلام) وقادة العرب لا ینكرون ذلك. وكانت قریش هي التی نصبت لحرب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخلافه، فلما افتتحت مكة ودانت له قریش ودوخها الإسلام، وعرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا عداوته، فدخلوا فی دین الله كما قال عزوجل أفواجاً، یضربون إلیه من كل وجه، یقول الله تعالی لنبیه: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَیتَ النَّاسَ یدْخُلُونَ فِی دِینِ اللهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَابًا. أي فاحمد الله علی ما أظهر من دینك، واستغفره إنه كان توابا».

وقال ابن سعد في الطبقات: 1/291-359: «ذكر وفادات العرب علی رسول الله (صلی الله علیه و آله): وفد مزینة. وفد أسد. وفد تمیم. وفد عبس. وفد فزارة. وفد مرة. وفد ثعلبة. وفد محارب. وفد سعد بن بكر. وفد كلاب.وفد رؤاس بن كلاب. وفد عقیل بن كعب. وفد جعدة. وفد قشیر بن كعب. وفد بني البكاء. وفد كنانة. وفد بني عبد بن عدي. وفد أشجع. وفد باهلة. وفد سلیم. وفد هلال بن عامر. وفد عامر بن صعصعة. وفد ثقیف. وفود ربیعة عبدالقیس. وفد بكر بن وائل. وفد تغلب. وفد حنیفة.

ص: 555

وفد شیبان. وفادات أهل الیمن وفد طئ.وفد تجیب. وفد خولان. وفد جعفي.

وفد صداء.وفد مراد. وفد زبید. وفد كندة. وفد الصدف. وفد خشین. وفد سعد هذیم.

وفد بلي. وفد بهراء.وفد عذرة. وفد سلامان. وفد كلب. وفد جرم.

وفد الأزد. وفد غسان. وفد الحارث بن كعب. وفد همدان. وفد سعد العشیرة. وفد عنس. وفد الداریین.وفد الرهاویین حي من مذحج. وفد غامد.

وفد النخع. وفد بجیلة. وفد خثعم. وفد الأشعرین. وفد حضرموت. وفد أزد عمان.

وفد غافق. وفد بارق. وفد دوس. وفد ثمالة والحدان. وفد أسلم. وفد جذام.

وفد مهرة. وفد حمیر. وفد نجران. وفد جیشان. وفد أسباع».

2- ملاحظات حول الوفود الی النبی (صلی الله علیه و آله)

1. لا شك فی أن حركة الوفود الی النبي (صلی الله علیه و آله) كانت واسعة من أنحاء الجزیرة والیمن والشام، وكانت رسالة قویة الی كل المعارضین والمنافقین داخل الدولة الإسلامیة، والی هرقل وقادة الفرس، بأن الإسلام أمر واقع فرض نفسه فی دولة قویة، وخضعت له كل القوی التی حاربته، بل كان ذلك رسالة لهم بأن المد الإسلامي قادم الی بلاد الفرس والروم، لامحالة.

2. كانت جمهرة الوفود فی السنة التاسعة بعد تبوك، وتأخر عدد منها الی السنة العاشرة والحادیة عشرة، كما كانت أوائلها قبل السنة التاسعة.

قال في الصحیح من السیرة: 7/135: «وهذه الوفود وإن كانت قد ظهرت علی نطاق واسع سنة تسع من الهجرة، أي بعد فتح مكة وكسر شوكة قریش والقضاء علی جبروتها، ولكن بدء هذه الوفود ولو بصورة محدودة فی السنة الخامسة، یدلل علی وجود تحول حقیقي فی میزان القوی فی المنطقة، ثم فی نظرة الناس للإسلام والمسلمین، وحساباتهم الدقیقة وتصوراتهم فیما یختص بالتعامل معه كقوةٍ جدیدة في المنطقة، وكدینٍ جدید أیضاً».

3. كانت الوفود تأتي بحریة تامة، فلم یفِدْ أحدٌ الی النبي (صلی الله علیه و آله) مجبراً، ولا یعتبر الجو

ص: 556

العام إجباراً. ولذا كان فی الوفود من جاء لإبرام الصلح، أو لحل مشكلة كانت له مع النبي (صلی الله علیه و آله) أراد أن یعفو عنها، وبعضهم جاء لیناظر النبي (صلی الله علیه و آله) ویثبت له خطأه فكان یناقش النبي (صلی الله علیه و آله) بشدة وسوء أدب! وبعضهم جاء یطلب منه أن یجعله خلیفته ویجعل له الأمر بعده لكي یسلم. وبعضهم كان مسلماً وجاء لیؤكد إسلامه، أو لیتبرك بزیارة النبي (صلی الله علیه و آله).

3. صارت الوفادة علی النبي (صلی الله علیه و آله) ومجرد مشاهدته والسلام علیه، تاریخاً وفخراً للقبائل وأفرادها، لذلك انفتح باب الإدعاء والكذب والتضخیم، فی أصل الوفد وفیما قالوه وقاله لهم النبي (صلی الله علیه و آله)، وفیما أعطاهم وكتب لهم!وأطلق بعضهم خیاله في الكذب، مثل فی تمیم الذي زعم أنه وفد مع بعض الداریین فكتب لهم النبي (صلی الله علیه و آله)

قری من الشام قبل فتحها، ومثل أبي رزین العقیلي الذي زعم أنه وفد الی النبي (صلی الله علیه و آله)

عن قبیلة المنتفق، وروی أحادیث التجسیم.

4. اهتم رواة السیرة بالوفود فأطالوا فیها، وقال ابن حجر عن ابن سعد: «وقد عقد محمد بن سعد في الترجمة النبویة من الطبقات للوفود باباً، وذكر فیه القبائل من مضر ثم من ربیعة ثم من الیمن، وكاد یستوعب ذلك بتلخیص حسن، وكلامه أجمع ما یوجد فی ذلك».فتح الباري: 8/76.

وكتب فیها صاحب الصحیح من السیرة نحو مجلدین: 27/75 و 28واخترنا منها نماذج لأهمیتها أو أهمیة ما تضمنته من دلالات.

3- عدي بن حاتم الطائي

في الصحیح من السیرة: 28/69 ملخصاً: «في سنة تسع جاء وفد طئ، وقالوا: كانوا خمسة عشر رجلاً، رأسهم وسیدهم زید الخیل بن مهلهل من بني نبهان، وفیهم وزر بن جابر بن سدوس، وقبیصة بن الأسود بن عامر، من جرم طئ، ومالك بن عبدالله بن خیبري من بني معن، وقعین بن خلیف من جدیلة، ورجل من بني بولان. فدخلوا المدینة ورسول الله (صلی الله علیه و آله) فی المسجد فعقلوا رواحلهم بفناء المسجد، ثم دخلوا فدنوا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فعرض علیهم الإسلام فأسلموا

ص: 557

وحسن إسلامهم، وأجازهم بخمس أواق فضة كل رجل منهم، وأعطی زید الخیل اثنتی عشرة أوقیة ونشاً. وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما ذكر رجل من العرب إلا رأیته دون ما ذكر لي إلا ما كان من زید الخیل فإنه لم یبلغ كل ما فیه. وسماه رسول الله (صلی الله علیه و آله) زید الخیر، وقطع له فید وأرضین وكتب له بذلك كتاباً، ورجع مع قومه. وفي لفظ: فخرج به من عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) راجعاً إلی قومه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن ینجُ زید من حمی المدینة فإنه، أي فإنه قد نال مراده أو نحو ذلك. فلما انتهی من بلد نجد إلی ماء من میاهه یقال له فردة، أصابته الحمی بها فمات هناك، وعمدت امرأته بجهلها وقلة عقلها إلی ما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) كتب له به فحرقته بالنار»!

وعن أبي سعید الخدري: أن علیاً (علیه السلام) بعث إلی رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الیمن بذهیبة في أدیم مقروظ لم تحصل من ترابها، فقسمها رسول الله (صلی الله علیه و آله) بین أربعة نفر: عیینة بن بدر، وأقرع بن حابس، وزید الخیل، وعلقمة بن غیلان.

وقد انتقد صاحب الصحیح مدحهم لزید الخیل بن المهلهل وقال: «لا ندري ما الذي لفت نظر النبي (صلی الله علیه و آله) فی شخصیة زید حتی قال: ما ذكر رجل من العرب إلا رأیته دون ما ذكر لي إلا ما كان من زید الخیل فإنه لم یبلغ كل ما فیه! هل رآه متمیزاً بعلمه أم بأخلاقه أم بشجاعته أم بعقله، أم بضخامة جثته؟!

إنا لم نجد في التاریخ ما یشیر إلی امتیازه فی شئ من ذلك، فكیف إذا رأیناه لایرضی بالإسلام دیناً حتی اعتبره النبي (صلی الله علیه و آله) فی المؤلفة قلوبهم كما روته صحاحهم، مما یعني أن هذا الثناء مكذوب علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! وهو أصح عندهم من حدیث مدحه فلماذا تركوا الحدیث الصحیح وأخذوا بالضعیف»!

وفی إعلام الوری: 1/251: «ذكر محمد بن إسحاق: أن عدي بن حاتم فرَّ، وأن خیل رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد أخذوا أخته فقدموا بها علی رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأنه من علیها وكساها وأعطاها نفقة فخرجت مع ركب حتی قدمت الشام وأشارت علی أخیها بالقدوم، فقدم وأسلم وأكرمه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأجلسه علی وسادة رمی بها إلیه بیده». وقد تقدم ذلك فی غزوة النبي (صلی الله علیه و آله) لبلاد طئ.

ص: 558

4- وفد عبدالقیس من هَجَر

فی الخصال/416، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «قال أمیر المؤمنین (علیه السلام): بینما نحن عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذ ورد علیه وفد عبدالقیس فسلموا، ثم وضعوا بین یدیه جلَّة تمر فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أصدقةٌ أم هدیة؟ قالوا: بل هدیةٌ یا رسول الله، قال: أي تمراتكم هذه؟ قالوا: البَرْني. فقال: إن هذا جبرئیل یخبرني أن فیه تسع خصال: یطیب النكهة، ویطیب المعدة، ویهضم الطعام، ویزید فی السمع والبصر ویقوي الظهر، ویخبل الشیطان، ویقرب من الله عزوجل ویباعد من الشیطان».

وفی الخرائج: 1/107: «قال: إئتوني بتمر أرضكم مما معكم. فأتاه كل واحد منهم بنوع منه، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): هذا یسمی كذا، وهذا یسمی كذا. قالوا: أنت أعلم بتمر أرضنا منا! فوصف لهم أرضهم فقالوا: دخلتها؟ قال: لا ولكن فسح لي فنظرت إلیها! فقام رجل منهم فقال: یا رسول الله هذا خالي وبه خبل. فأخذ بردائه وقال: أُخرج یا عدو الله ثلاثاً ثم أرسله، فبرئ. فأتوه بشاة هرمة فأخذ إحدی أذنیها بین إصبعیه فصار لها میسماً، ثم قال: خذوها فإن هذا میسم في آذان ما تلد إلی یوم القیامة، فهي تتوالد كذلك»!

وفی الصحیح من السیرة: 27/309، ملخصاً: «رووا أنه بینما رسول الله (صلی الله علیه و آله) یحدث أصحابه إذ قال لهم: سیطلع علیكم من هاهنا ركب هم خیر أهل المشرق.

وفي حدیث البیهقي: فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبِّل ید رسول الله ورجله، وانتظر المنذر الأشج حتی أتی عیبته فلبس ثوبیه فأخرج ثوبین أبیضین من ثیابه فلبسهما ثم جاء یمشي حتی أخذ بید رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقبَّلها وكان رجلاً دمیماً، فلما نظر (صلی الله علیه و آله) إلی دمامته، قال: إنه لا یسْتَقَی فی مُسُوك الرجال، إنما یحتاج من الرجل إلی أصغریه لسانه وقلبه. قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن فیك خصلتین یحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة. قال: یا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني علیهما؟ قال: بل الله تعالی جبلك علیهما. قال: الحمد لله الذی جبلني علی

ص: 559

خَلَّتین یحبهما الله تعالی ورسوله. وقال لهم النبي (صلی الله علیه و آله): یا معشر عبدالقیس ما لي أری وجوهكم قد تغیرت؟ قالوا: یا نبي الله نحن بأرض وخمة، وكنا نتخذ من هذه الأنبذة ما یقطع اللحمان في بطوننا، فلما نهیتنا عن الظروف، فذلك الذي تری في وجوهنا. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الظروف لا تُحلّ ولا تُحرم ولكن كل مسكر حرام، ولیس أن تجلسوا فتشربوا حتی إذا ثملت العروق تفاخرتم، فوثب الرجل علی ابن عمه بالسیف فتركه أعرج. قال: وهو یومئذ فی القوم الأعرج الذی أصابه ذلك!

وعن ابن عباس قال: إن أول جُمعة جُمعت بعد جُمعة في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مسجد عبدالقیس بجواثي من البحرین. وعن نوح بن مخلد: أنه أتی رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو بمكة فسأله ممن أنت؟ فقال: أنا من بني ضبیعة بن ربیعة. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): خیر ربیعة عبدالقیس، ثم الحي الذي أنت منهم. وكانت لهم وفادتان الی النبي (صلی الله علیه و آله) إحداهما سنة ست أو خمس، والثانیة سنة تسع أو بعدها، وكان عدد الوفد أربعین رجلاً. كتب النبي (صلی الله علیه و آله) إلی العلاء بن الحضرمي فی البحرین أن یقدم علیه عشرون رجلاً منهم، فقدموا علیه ورأسهم عبدالله بن عوف الأشج، فشكی الوفد العلاء بن الحضرمي فعزله النبي (صلی الله علیه و آله) وولی أبان بن سعید، وأوصاه بعبدالقیس خیراً. وقد نصرت عبدالقیس أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی حروبه، لا سیما أبناء صوحان: صعصعة، وزید، وسیحان، وعمرو... وقد اشتهروا بالفصاحة والخطابة والشعر وقیل كان لصحار بن العباس العبدي كتاب: الأمثال».

5- الجارود بن المنذر من عبدالقیس

قال الجوهري فی مقتضب الأثر/31: «ومن أتقن الأخبار المأثورة وغریبها وعجیبها، ومن المصون المكنون فی أعداد الأئمة (علیهم السلام) وأسمائهم من طریق العامة مرفوعاً، وهو خبر الجارود بن المنذر وإخباره عن قس بن ساعدة. حدثني الجارود بن المنذر العبدي وكان نصرانیاً فأسلم عام الحدیبیة وحسن إسلامه، وكان قاریاً للكتب، عالماً بتأویلها علی وجه الدهر وسالف العصر، بصیراً بالفلسفة والطب، ذا رأي أصیل ووجه

ص: 560

جمیل، أنشأ یحدثنا فی إمارة عمربن الخطاب قال: وفدت علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) في رجال من عبدالقیس، ذوي أحلام وأسنان وفصاحة وبیان، وحجة وبرهان، فلما بصروا به (صلی الله علیه و آله) راعهم منظره ومحضره، وأفحموا عن بیانهم واعتراهم العرواء فی أبدانهم! فقال زعیم القوم لي: دونك من أقمت بنا أممه، فما نستطیع أن نكلمه!فاستقدمت دونهم إلیه فوقفت بین یدیه (صلی الله علیه و آله) وقلت: السلام علیك یا نبي الله بأبي أنت وأمي ثم أنشأت أقول:

یا نبی الهدی أتتك رجالٌ *** قطعت قرددا وآلاً فآلا

جابت البید والمهامهَ حتی *** غالها من طوی السری ما غالا

قطعت دونك الصحاصح تهوي *** لا تعد الكلال فیك كلالا

كل دهناء تقصر الطرف عنها *** أرقلتها قلاصنا إرقالا

خصك الله یا ابن آمنة الخیر *** إذا ما تلت سجال سجالا

أنبأ الأولون باسمك فینا *** وبأسماء بعده تتلالا

قال: فأقبل علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) بصفحة وجهه المبارك وشِمْتُ منه ضیاء لامعاً ساطعاً كومیض البرق فقال: یا جارود لقد تأخر بك وبقومك الموعد، وقد كنت وعدته قبل عامي ذلك أن أفد إلیه بقومي فلم آته وأتیته فی عام الحدیبیة، فقلت: یا رسول الله! بنفسي أنت ما كان إبطائي عنك إلا أن جلة قومي أبطأوا عن إجابتي حتی ساقها الله إلیك لما أراد لها من الخیر لدیك.وقد كنت علی دین النصرانیة قبل أن آتي إلیك الأولی فها أنا تاركه بین یدیك إذ ذلك مما یعظم الأجر، ویمحو المآثم والحوب، ویرضی الرب عن المربوب.

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أنا ضامن لك یا جارود! قلت: أعلم یا رسول الله أنك بذلك ضمین قمین. قال: فَدِنْ الآن بالوحدانیة ودع عنك النصرانیة، قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شریك له، وأنك عبده ورسوله، ولقد أسلمت علی علم بك وبناء فیك علمته من قبل. فتبسم (صلی الله علیه و آله) كأنه علم ما أردته من

ص: 561

الأنباء فیه فأقبل عليَّ وعلی قومي فقال: أفیكم من یعرف قس بن ساعدة الإیادي؟

قلت: یا رسول الله كلنا نعرفه غیر أني من بینهم عارف بخبره، واقف علی أثره: كان قس بن ساعدة یا رسول الله سبطاً من أسباط العرب، عمِّر خمس مائة عام، تقفَّر منها فی البراري خمسة أعمار، یضج بالتسبیح علی منهاج المسیح، لا یقره قرار ولا یكنه جدار، ولا یستمتع منه جار، لا یفتر من الرهبانیة، ویدین الله بالوحدانیة، یلبس المسموح، ویتحسی فی سیاحته بیض النعام، بالنور والظلام، یبصر فیعتبر، ویتفكر فیختبر، تضرب بحكمته الأمثال، أدرك رأس الحواریین شمعون، وأدرك لوقا ویوحنا وأمثالهم، ففقه كلامهم ونقل منهم، تحوَّبَ الدهر وجانَبَ الكفر، وهو القائل بسوق عكاظ وذي المجاز: شرقٌ وغرب، ویابسٌ ورطب، وأجاجٌ وعذب، وحبٌّ ونبات، وجمعٌ وأشتات، وذهابٌ وممات، وآباءٌ وأمهات، وسرورُ مولود، ورزء مفقود. تباً لأرباب الغفلة، لِیصلحنَّ العامل عمله قبل أن یفقد أجله، كلا بل هو الله الواحد لیس بمولود ولا والد، أمات وأحیا، وخلق الذكر والأنثی، وهو رب الآخرة والأولی.. ثم صاح: یا معاشر أیاد: أین ثمود، وأین عاد، وأین الآباء والأجداد، وأین العلیل والعواد، وأین الطالبون والرواد، وكل له معاد.

قلت: یا رسول الله لقد شهدت قساً خرج من ناد من أندیة أید، إلی صحصح ذي قتاد، وصمرة وعتاد، وهو مشتمل بنجاد، فوقف في أضحیان لیل كالشمس، رافعاً إلی السماء وجهه وإصبعه، فدنوت منه وسمعته یقول:

اللهم رب هذه السبعة الأرقعة، والأرضین الممرعة، وبمحمد والثلاثة المحامدة معه، والعلیین الأربعة، وسبطیه النبعة، والأرفعة الفرعة، والسری اللامعة، وسمي الكلیم الضرعة، والحسن ذي الرفعة، أولئك النقباء الشفعة، والطریق المهیعة، درسة الإنجیل، وحفظة التنزیل، علی عدد النقباء من بني إسرائیل، محاة الأضالیل ونفاة الأباطیل، الصادقو القیل، علیهم تقوم الساعة، وبهم تنال الشفاعة ولهم من الله تعالی فرض الطاعة.

اللهم لیتني مدركهم ولو بعد لأي من عمري ومحیاي. ثم آب یكفكف دمعه ویرن

ص: 562

رنین البكرة، وقد بریت ببراة وهو یقول:

أقسمَ قِسٌّ قسما *** لیس به مكتتما

لو عاش ألفي عمر *** لم یلق منها سأما

حتی یلاقي أحمداً *** والنقباء الحكما

هم أوصیاء أحمدٍ *** أكرم من تحت السما

یعمی العباد عنهم *** وهم جلاء للعمی

لست بناس ذكرهم *** حتی أحُلَّ الرجما

ثم قلت: یا رسول الله أنبئني أنبأك الله بخیر عن هذه الأسماء التی لم نشهدها وأشهدنا قس ذكرها؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): یا جارود لیلة أسري بي إلی السماء أوحی الله عزوجل إلی أن سل من أرسلنا من قبلك من رسلنا علی ما بعثوا؟ فقلت: علی ما بعثتم؟فقالوا: علی نبوتك وولایة علي بن أبي طالب والأئمة منكما. ثم أوحی إلی أن التفت عن یمین العرش، فالتفت فإذا علي والحسن والحسین، وعلي بن الحسین، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسی بن جعفر، وعلي بن موسی، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، والمهدي فی ضحضاح من نور یصلون، فقال لي الرب تعالی: هؤلاء الحجج لأولیائي، وهذا المنتقم من أعدائي. قال الجارود: فانصرفت بقومي وقلت في وجهتي إلی قومي:

أتيتك يا ابن آمنة الرسولا *** لكي بك أهتدى النهج السبيلا

فقلت وكان قولك قول حق *** وصدق ما بدالك أن تقولا

وبصرت العمى من عبد قيس *** وكل كان من عمه ضليلا

وأنبأناك عن قس الأيادي *** مقالاً فيك ظلت به جديلا

وأسماء عمت عنا فآلت *** إلى علم وكنت به جهولا».

ورواه أبو الفتح فی الإستنصار/34، كنز الفوائد/256، المناقب: 1/245، والصراط المستقیم: 2/239.

ص: 563

6- أشهر وفود الیمن

فی الغیبة للنعماني/46، عن جابر الأنصاري قال: «وفد علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) أهل الیمن فقال النبي (صلی الله علیه و آله): جاءكم أهل الیمن یبسون بسیساً «یسوقون إبلهم سوقاً سریعاً» فلما دخلوا علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: قوم رقیقة قلوبهم، راسخ إیمانهم، منهم المنصور یخرج فی سبعین ألفاً ینصرخلفي وخلف وصیي، حمائل سیوفهم المسك! [المسد] فقالوا: یا رسول الله ومن وصیك؟ فقال: هو الذي أمركم الله بالإعتصام به فقال عزوجل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِیعًا وَلا تَفَرَّقُوا. فقالوا: یا رسول الله، بین لنا ما هذا الحبل؟ فقال: هو قول الله: إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، فالحبل من الله كتابه والحبل من الناس وصیي. فقالوا: یا رسول الله، من وصیك؟ فقال: هو الذی أنزل الله فیه: أن تقول نفس یا حسرتی علی ما فرطت فی جنب الله! فقالوا: یا رسول الله وما جنب الله هذا؟ فقال: هو الذي یقول الله فیه: وَیوْمَ یعَضُّ الظَّالِمُ عَلَی یدَیهِ یقُولُ یا لَیتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِیلاً. هو وصیي، والسبیل إليَّ مِن بعدي!

فقالوا: یا رسول الله بالذی بعثك بالحق نبیاً أرناه فقد اشتقنا إلیه.فقال: هو الذي جعله الله آیة للمؤمنین المتوسمین، فإن نظرتم إلیه نظر من كان له قلب أو ألقی السمع وهو شهید، عرفتم أنه وصیي كما عرفتم أني نبیكم، فتخللوا الصفوف وتصفحوا الوجوه، فمن أهوت إلیه قلوبكم فإنه هو، لأن الله عزوجل یقول فی كتابه: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَیهِمْ، أي: إلیه وإلی ذریته.

ثم قال: فقام أبو عامر الأشعري فی الأشعریین، وأبو غرة الخولاني فی الخولانیین، وظبیان وعثمان بن قیس فی بني قیس، وعرنة الدوسي فی الدوسیین ولاحق بن علاقة، فتخللوا الصفوف وتصفحوا الوجوه، وأخذوا بید الأصلع البطین وقالوا: إلی هذا أهوت أفئدتنا یا رسول الله. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أنتم نجبة الله حین عرفتم وصي رسول الله، قبل أن تعرفوه فبم عرفتم أنه هو؟ فرفعوا أصواتهم یبكون ویقولون: یا رسول الله نظرنا إلی القوم فلم تحن لهم قلوبنا، ولما رأیناه رجفت قلوبنا، ثم اطمأنت نفوسنا وانجاشت أكبادنا وهملت أعیننا، وانثلجت صدورنا، حتی كأنه لنا أب ونحن

ص: 564

له بنون! فقال النبي (صلی الله علیه و آله): وَمَا یعْلَمُ تَاوِیلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ! أنتم منهم بالمنزلة التی سبقت لكم بها الحسنی، وأنتم عن النار مبعدون. قال: فبقي هؤلاء القوم المسمون حتی شهدوا مع أمیر المؤمنین (علیه السلام) الجمل وصفین فقتلوا في صفین رحمهم الله. وكان النبي (صلی الله علیه و آله) بشرهم بالجنة، وأخبرهم أنهم یستشهدون مع

علي بن أبي طالب (علیه السلام)».

وفی الكافي: 6/417، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «قدم علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الیمن قوم فسألوه عن معالم دینهم فأجابهم، فخرج القوم بأجمعهم فلما ساروا مرحلة قال: بعضهم لبعض: نسینا أن نسأل رسول الله (صلی الله علیه و آله) عما هو أهم إلینا.

ثم نزل القوم ثم بعثوا وفداً لهم فأتی الوفد رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: یا رسول الله إن القوم بعثوا بنا إلیك یسألونك عن النبیذ، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): وما النبیذ، صِفُوُه لي؟ فقالوا: یؤخذ من التمر فینبذ فی إناء ثم یصب علیه الماء حتی یمتلئ ویوقد تحته حتی ینطبخ، فإذا انطبخ أخذوه فألقوه فی إناء آخر، ثم صبوا علیه ماء، ثم یمرس، ثم صَفَّوْه بثوب، ثم یلقی فی إناء، ثم یصب علیه من عكر ما كان قبله، ثم یهدر ویغلی، ثم یسكن علی عكرة. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): یا هذا قد أكثرت أفیسكر؟ قال: نعم، قال: فكل مسكر حرام!

قال: فخرج الوفد حتی انتهوا إلی أصحابهم فأخبروهم بما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال القوم: إرجعوا بنا إلی رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتی نسأله عنها شفاهاً ولا یكون بیننا وبینه سفیر، فرجع القوم جمیعاً فقالوا: یا رسول الله إن أرضنا أرض دویة ونحن قوم نعمل الزرع ولا نقوی علی العمل إلا بالنبیذ، فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): صفوه لی فوصفوه له كما وصف أصحابهم فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): أفیسكر؟ فقالوا: نعم. فقال: كل مسكر حرام، وحق علی الله أن یسقي شارب كل مسكر من طینة خبال، أفتدرون ما طینة خبال؟ قالوا: لا، قال: صدید أهل النار».

ص: 565

7- السائب الأشعري جد الأشعریین القمیین

فی رجال النجاشی/81: «أحمد بن محمد بن عیسی. وأول من سكن قم من آبائه سعد بن مالك بن الأحوص، وكان السائب بن مالك وفد إلی النبي (صلی الله علیه و آله) وهاجر إلی الكوفة وأقام بها. وذكر بعض أصحاب النسب: أن فی أنساب الأشاعرة أحمد بن محمد بن عیسی بن عبدالله بن سعد بن مالك بن هانئ بن عامر بن أبي عامر الأشعري، واسمه عبید، وأبو عامر له صحبة. وقد رُوي أنه لما هزم هوازن یوم حنین عقد رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأبي عامر الأشعري علی خیل فقتل، فدعا له فقال: اللهم أعط عبیدك عبیداً أبا عامر، واجعله فی الأكبرین یوم القیامة».

8- الرجل الیماني المجادل السخي

في الكافي: 4/39، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «أتی رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفد من الیمن وفیهم رجل كان أعظمهم كلاماً، وأشدهم استقصاء فی محاجة النبي (صلی الله علیه و آله) فغضب النبي (صلی الله علیه و آله) حتی التوی عرق الغضب بین عینیه، وتربد وجهه وأطرق إلی الأرض، فأتاه جبرئیل فقال: ربك یقرؤك السلام ویقول لك: هذا رجل سخي یطعم الطعام. فسكن عن النبي (صلی الله علیه و آله) الغضب ورفع رأسه، وقال له: لولا أن جبرئیل أخبرني عن الله عزوجل أنك سخي تطعم الطعام، لشردت بك وجعلتك حدیثاً لمن خلفك! فقال له الرجل: وإن ربك لیحب السخاء؟ فقال: نعم. فقال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، والذی بعثك بالحق لا رددتُ من مالي أحداً»!

9- عمرو بن معدي كرب الفارس المشهور

فی إعلام الوری: 1/251: «قدم علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) عمرو بن معدي كرب وأسلم ثم نظر إلی أبي بن عثعث الخثعمي فأخذ برقبته وأدناه إلی رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: أعْدُني علی هذا الفاجر الذي قتل والدي! فقال (صلی الله علیه و آله): أهدر الإسلام ما كان فی الجاهلیة! فانصرف عمرو مرتداً وأغار علی قوم من بني الحارث بن كعب، فأنفذ رسول الله علیاً (علیه السلام) إلی بني زبید».

ص: 566

أقول: تقدم فی فتح الیمن أن علیاً (علیه السلام) جعل علی مقدمته خالد بن سعید بن العاص، وبارز علي (علیه السلام) عمرو بن معدیكرب وصرخ به صرخة فهرب! وأخضع قبیلة زبید وولی علی المنطقة خالد بن سعید وتوغل في فتح الیمن.

«قالوا لخالد: والله لقد دخلنا فیما دخل فیه الناس وصدقنا بمحمد (صلی الله علیه و آله) وخلینا بینك وبین صدقات أموالنا، وكنا لك عوناً علی من خالفك من قومنا.

قال خالد: قد فعلتم؟ قالوا: فأوفد منا نفراً یقدمون علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) ویخبرونه بإسلامنا ویقبسونا منه خیراً.

فقال خالد: ما أحسن ما عدتم إلیه وأنا أجیبكم، ولم یمنعني أن أقول لكم هذا إلا أني رأیت وفود العرب تمر بكم فلا یهیجنكم ذلك علی الخروج، فساءني ذلك منكم حتی ساء ظني فیكم، وكنتم علی ما كنتم علیه من حداثة عهدكم بالشرك، فحسبت أن لایكون الإسلام راسخاً فی قلوبكم».الصحیح من السیرة: 28/158.

10- وفد قبیلة النخع الی النبي (صلی الله علیه و آله)

بعثت قبیلة النخع إلی النبي (صلی الله علیه و آله) وافدین عنها بإسلامها هما: أرطأة بن شراحیل بن كعب، والجهیش، واسمه الأرقم من بني بكر بن عوف بن النخع، فخرجا حتی قدما علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) فعرض علیهما الإسلام فقبلاه وبایعاه علی قومهما فأعجب رسول الله (صلی الله علیه و آله) شأنهما وحسن هیئتهما فقال: هل خلفتما وراءكما قومكما مثلكما؟ فقالا: یا ر سول الله قد خلفنا وراءنا من قومنا سبعین رجلاً كلهم أفضل منا، وكلهم یقطع الأمر وینفذ الأشیاء، ما یشاركوننا في الأمر إذا كان.

فدعا لهما رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولقومهما بخیر وقال: اللهم بارك فی النخع. وعقد لأرطأة لواء علی قومه وكتب له كتاباً، فكان في یده یوم الفتح.

وقدموا من الیمن للنصف من المحرم سنة إحدی عشرة وهم مائتا رجل، فنزلوا دار رملة بنت الحدث، ثم جاؤوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) مقرین بالإسلام،

ص: 567

وقد كانوا بایعوا معاذ بن جبل بالیمن، فكان فیهم زرارة بن عمرو، فقال: یا رسول الله إني رأیت فی سفري هذا رؤیا هالتني! قال: وما رأیت؟قال: رأیت أتاناً تركتها فی الحي كأنها ولدت جدیاً أسفع أحوی! فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): هل لك من أمة تركتها مصرة حملاً؟قال: نعم تركت أمة لي أظنها قد حملت. قال: فإنها قد ولدت غلاماً وهو ابنك! فقال: یا رسول الله ما باله أسفع أحوی؟ قال: أُدن مني فدنا منه فقال: هل بك برص تكتمه؟ قال: والذی بعثك بالحق نبیاً ما علم به أحد ولا اطلع علیه غیرك! قال: فهو ذلك.

أقول: ترجمنا لمالك الأشتر (رحمة الله) فی كتابنا قبیلة النخع، وأثبتنا صحبته للنبي (صلی الله علیه و آله).

11- كان النبي (صلی الله علیه و آله) یهدد من یخاف عصیانهم بعلي (علیه السلام)

في أمالي الطوسي/579:«عن أبي ذر قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد قدم علیه وفد أهل الطائف: یا أهل الطائف، والله لتقیمن الصلاة، ولتؤتن الزكاة، أو لأبعثن إلیكم رجلاً كنفسي، یحب الله ورسوله، ویحبه الله ورسوله، یقصعكم بالسیف! فتطاول لها أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأخذ بید علي فأشالها ثم قال: هو هذا. فقال أبو بكر وعمر: ما رأینا كالیوم فی الفضل قط».

«عن عبدالله بن شداد قال: قدم علی النبي (صلی الله علیه و آله) وفد آل تنوخ من الیمن قال فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): لتقیمن الصلاة ولتؤتن الزكاة ولتسمعن ولتطیعن أو لأبعثن إلیكم رجلاً كنفسي یقاتل مقاتلیكم ویسبي ذراریكم، اللهم أنا أو كنفسي، ثم أخذ بید علي (علیه السلام)».مناقب أمیر المؤمنین (علیه السلام) لمحمد بن سلیمان: 1/468.

«وفي حدیث جابر أنه قال لوفد هوازن: أما والذي نفسي بیده لیقیمن الصلاة ولیؤتن الزكاة أو لأبعثن إلیهم رجلاً وهو مني كنفسي، فلیضربن أعناق مقاتلیهم ولیسبین ذراریهم، هو هذا وأخذ بید علي (علیه السلام). فلما أقروا بما شرط علیهم قال: ما استعصی عَلَيَّ أهل مملكة ولا أمةٌ إلا رمیتهم بسهم الله علي بن أبي طالب!ما بعثته فی سریة إلا رأیت جبرئیل عن یمینه ومیكائیل عن یساره وملكاً أمامه وسحابة تظله حتی یعطي الله حبیبي النصر والظفر!

ص: 568

وروی الخطیب فی الأربعین نحواً من ذلك عن مصعب بن عبدالرحمن أنه قال النبي (صلی الله علیه و آله) لوفد ثقیف.. الخبر، وفی روایة أنه قال مثل ذلك لبني ولیعة».«المناقب: 2/67». أما حدیث تهدید النبي (صلی الله علیه و آله) قریشاً بعلي (علیه السلام)، فمتواتر مشهور.

12- مالك بن نویرة (رحمة الله) من وفود بنی تمیم

في الفضائل لشاذان بن جبرئیل القمي/75: «قال البراء بن عازب بینا رسول الله جالس فی أصحابه إذا أتاه وافد من بني تمیم مالك بن نویرة، فقال: یا رسول الله علمني الإیمان. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): تشهد أن لا إله الا الله وحده لا شریك له وأني رسول الله، وتصلي الخمس، وتصوم رمضان، وتؤدي الزكاة وتحج البیت، وتوالي وصیي هذا من بعدي وأشار إلی علي (علیه السلام) بیده، ولا تسفك دماً ولا تسرق ولا تخون ولا تأكل مال الیتیم ولا تشرب الخمر، وتوفي بشرائعي، وتحلل حلالي، وتحرم حرامي، وتعطي الحق من نفسك للضعیف والقوي، والكبیر والصغیر، حتی عد علیه شرائع الإسلام.

فقال یا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أعد عَلَيَّ فإنی رجل نَسَّاء، فأعاد علیه، فعقدها بیده وقام وهو یجر إزاره وهو یقول: تعلمت الإیمان ورب الكعبة، فلما بعد من رسول الله قال (صلی الله علیه و آله): من أحب أن ینظر إلی رجل من أهل الجنة فلینظر إلی هذا الرجل! فقال أبو بكر وعمر: إلی من تشیر یا رسول الله؟ فأطرق إلی الأرض، فجدَّا فی السیر فلحقاه فقالا: لك البشارة من الله ورسوله بالجنة. فقال: أحسن الله تعالی بشارتكما إن كنتما ممن یشهد بما شهدت به فقد علمتما ما علمني النبي محمد (صلی الله علیه و آله)، وإن لم تكونا كذلك فلا أحسن الله بشارتكما.

فقال أبو بكر: لا تقل فأنا أبو عائشة زوجة النبي (صلی الله علیه و آله) !قال: قلت ذلك، فما حاجتكما؟ قالا: إنك من أصحاب الجنة فاستغفر لنا، فقال: لا غفر الله لكما تتركان رسول الله صاحب الشفاعة، وتسألاني أستغفر لكما، فرجعا والكآبة لائحة فی وجهیهما، فلما رآهما رسول الله (صلی الله علیه و آله) تبسم وقال: أفي الحق مغضبة؟!

ص: 569

فلما توفي رسول الله ورجع بنو تمیم إلی المدینة ومعهم مالك بنو نویرة فخرج لینظر من قام مقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) فدخل یوم الجمعة وأبو بكر علی المنبر یخطب بالناس فنظر إلیه وقال: أخو تیم؟! قالوا: نعم.قال: فما فعل وصي رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي أمرني بموالاته؟ قالوا: یا أعرابي الأمر یحدث بعده الأمر! قال: بالله ما حدث شئ، وإنكم قد خنتم الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) !

ثم تقدم إلی أبي بكر وقال: من أرقاك هذ المنبر ووصي رسول الله (صلی الله علیه و آله) جالس؟ فقال أبو بكر: أخرجوا الأعرابي البوال علی عقبیه من مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) !

فقام إلیه قنفذ بن عمیر وخالد بن الولید فلم یزالا یلكزان عنقه حتی أخرجاه، فركب راحلته وأنشأ یقول:

أطعنا رسول الله ما كان بیننا *** فیا قوم ما شأني وشأن أبي بكر

إذا مات بكر قام عمرٌو ومقامه *** فتلك وبیت الله قاصمة الظهر

یدب ویغشاه العشار كأنما *** یجاهد جماً أو یقوم علی قبر

فلو قام فینا من قریش عصابة *** أقمنا ولكن القیام علی جمر

قال: فلما استتم الأمر لأبي بكر وجه خالد بن الولید وقال له: قد علمت ما قاله مالك علی رؤس الأشهاد، ولست آمن أن یفتق علینا فتقاً لا یلتئم، فاقتله.

فحین أتاه خالد، ركب جواده وكان فارساً یعد بألف، فخاف خالد منه فآمنه وأعطاه المواثیق، ثم غدر به بعد أن ألقی سلاحه، فقتله وأعرس بامرأته فی لیلته وجعل رأسه فی قدر فیها لحم جزور لولیمة عرسه وبات ینزو علیها نزو الحمار»!

13- صعصعة بن ناجیة جد الفرزدق

في أمالي المرتضی: 4/192: «وفَدَ صعصعة بن ناجیة جد الفرزدق علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) في وفد بني تمیم، وكان صعصعة منع الوأد فی الجاهلیة، فلم یدع تمیماً تئد وهو یقدر علی ذلك. وقد فدی فی بعض الروایات أربعمائة موؤدة، وفی أخری ثلاثمائة، فقال للنبي (صلی الله علیه و آله): بأبي أنت وأمي أوصني. فقال: أوصیك بأمك وأبیك وأختك وأخیك

ص: 570

وأدانیك أدانیك. فقال: زدني، فقال (صلی الله علیه و آله): إحفظ ما بین لحییك ورجلیك.

ثم قال (صلی الله علیه و آله): ما شئ بلغنی عنك فعلته؟ فقال: یا رسول الله رأیت الناس یموجون علی غیر وجه ولم أدر أین الصواب، غیر أني علمت أنهم لیسوا علیه، فرأیتهم یئدون بناتهم فعرفت أن ربهم عزوجل لم یأمرهم بذلك، فلم أتركهم ففدیت ما قدرت علیه.

وفي روایة أخری إن صعصعة لما وفد علی النبي (صلی الله علیه و آله) فسمع قوله تعالی: فَمَنْ یعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَیرًا یرَهُ. وَمَنْ یعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا یرَهُ. قال: حسبي، ما أبالي أن لا أسمع من القرآن غیر هذا. ویقال إنه اجتمع جریر والفرزدق یوماً عند سلیمان بن عبدالملك فافتخرا، فقال الفرزدق: أنا ابن محیي الموتی! فقال له سلیمان: أنت ابن محیي الموتی؟! فقال إن جدي أحیا الموؤودة، وقد قال الله تعالی: وَمَنْ أَحْیاهَا فَكأَنَّمَا أَحْیا النَّاسَ جَمِیعاً، وقد أحیا جدي اثنتین وتسعین موؤودة، فتبسم سلیمان وقال: إنك مع شعرك لفقیه».

14- النابغة الجعدي الشاعر المتأله

في أمالي المفید/224: «كان نابغة الجعدي ممن یتأله فی الجاهلیة، وأنكر الخمر والسكر، وهجَر الأوثان والأزلام، وقال في الجاهلیة كلمته التي قال فیها:

الحمد لله لا شریك له *** من لم یقلها لنفسه ظلما

وكان یذكر دین إبراهیم (علیه السلام) والحنیفیة ویصوم ویستغفر، ویتوقی أشیاء لغواً فیها، ووفد علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال:

أتیت رسول الله إذ جاء بالهدی *** ویتلو كتاباً كالمجرة نُشِّرَا

وجاهدت حتی ما أحس ومن معي *** سهیلاً إذا ما لاح ثم تغورا

وصرت إلی التقوی ولم أخش كافراً *** وكنت من النار المخوفة أزجرا

وقال: وكان النابغة علوي الرأي، وخرج بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع أمیر المؤمنین علي بن أبی طالب (علیه السلام) إلی صفین، فنزل لیلة فطاف به وهو یقول:

ص: 571

قد علم المصران والعراقُ *** إن علیاً فحلها العتاقُ

أبیض جحجاحٌ له رواقُ *** وأمه غالی بها الصداق

أكرم من شد به نطاق *** إن الأولی جاروك لا أفاقوا

لكم سباق ولهم سباق *** قد علمت ذلكم الرفاق

سقتم إلی نهج الهدی وساقوا *** إلی التي لیس لها عراق

في ملة عادتها النفاق

15- من الوفود المكذوبة وفد تمیم الداري

تمیم الداري من نصاری بلاد الشام یظهر أنه من داریا قرب دمشق، كان یعمل مع أقاربه في تجارة الخمر من الشام إلی الجزیرة، وكان یحدث بقصص أهل الكتاب الیهود والنصاری، وقد أعلن إسلامه قبیل وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) وسكن المدینة.

وكانت ثقافته یهودیة وكان یهتم بالأمور الخارقة للعادة والأساطیر، وكان مقرباً من الیهود ومن عمر وكعب الأحبار، ونشط هو وتلامذته فی إشاعة التجسیم والإسرائیلیات في عقائد المسلمین!

وكتب له عمر مرسوماً خلافیاً أن یقص عن أهل الكتاب یوم السبت فی مسجد النبي (صلی الله علیه و آله) ! وحضر مجلسه احتراماً له وتأییداً! ثم زاده یوماً آخر في الأسبوع!

فقام تمیم بنشر الإسرائیلیات والأكاذیب، كما تری في حدیث الجساسة والدجال في مسلم وغیره من أنه أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) أن الدجال المحبوس فی جزیرة وأنه رآه! ففرح النبي (صلی الله علیه و آله) وصعد المنبر وحدث ببشارة أخیهم تمیم عن الدجال! راجع تدوین القرآن/444، جواهر التاریخ: 1/135 وألف سؤال وإشكال: 2/112.

وجعل رواة الخلافة تمیماً شخصیة صاحب كرامات! فقال إمامهم الذهبي في سیره: 2/445:«نام لیلة لم یقم یتهجد فقام سنة لم ینم فیها عقوبة للذي صنع»!

وفي دلائل البیهقی: 6/80: «خرجت نار بالحرة فجاء عمر إلی تمیم فقال: قم إلی هذه النار، فقال یا أمیر المؤمنین! ومن أنا وما أنا! قال: فلم یزل به حتی قام معه قال

ص: 572

وتبعتهما فانطلقا إلی النار فجعل تمیم یحوشها بیده حتی دخلت الشعب ودخل تمیم خلفها! قال: فجعل عمر یقول: لیس من رأی كمن لم یر»!

ومن أكاذیب تمیم ادعاؤه أنه كان یهدي الی النبي (صلی الله علیه و آله) كل عام زق خمر، فلما حُرمت الخمر لم یأخذها فقال له: خذه وبعه وانتفع بثمنه!«فتح الباری: 8/209». مع أن تمیماً جاء في السنة التاسعة، وحُرِّمت الخمر في السنة الثانیة!

الدر المنثور: 2/317.

وزعم تمیم أنه وفد هو وأقاربه علی النبي (صلی الله علیه و آله) فكتب لهم إقطاعاً بقری سیفتحها المسلمون من أرض الشام! قالوا: قدموا بعد تبوك وهم عشرة نفر منهم: تمیم ونُعیم ابنا أوس، ویزید بن قیس بن خارجة، والفاكه بن النعمان بن جَبَلَة، وأبو هند والطیب ابنا ذر، وهو عبدالله بن رزین، وهانئ بن حبیب، وعزیز ومرة ابنا مالك بن سواد بن جَذِیمَة، فأسلموا وأهدی هانئ بن حبیب لرسول الله (صلی الله علیه و آله) أفراساً وقباء مخوصاً بالذهب، فقبل الأفراس والقباء. وقال تمیم: لنا جیرة من الروم لهم قریتان یقال لإحداهما: حِبْرَی والأخری بیت عینون، فإن فتح الله علیك الشام فهبهما لي. قال: فهما لك وكتب له به كتاباً.

فلما قام أبو بكر أعطاه ذلك، وأقام وفد الداریین حتی توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأوصی لهم بمائة وسق من تمر خیبر!

ونقد صاحب الصحیح: 28/59 هذه الروایات، لأن الإقطاع إنما كان للأرض الموات ونحوها مما هجره أهله، ولأن بعض نصوص الكتاب الذي زعموه فیه أخطاء نحویة لا تصدر عنه (صلی الله علیه و آله) كقوله: إني أنطیكم بیت عینون وجیرون والمرطوم وبیت إبراهیم برمتهم، وجمیع ما فیهم! وبعض نصوص الكتاب ذكرت أن من آذی الداریین فقد آذی الله، وهذا معناه أنهم معصومون لأن غیر المعصوم قد یؤذی لمنعه من ارتكاب المعصیة أو لأخذ الحق منه فإن كان یحرم إیذاؤه مطلقاً لزم أن یرضی الله

بالمعصیة والباطل!

ص: 573

16- من الوفود المكذوبة وفد أبي رزین

أبو رزین العقیلي: إسمه لقیط بن عامر أو ابن صبرة. زعم أنه وفد إلی النبي (صلی الله علیه و آله) عن قبیلة المنتفق قال: «كنت وافد بني المنتفق إلی رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلم نجده فأطعمتنا عائشة تمراً وعصدت لنا عصیدة، إذ جاء رسول الله فقال: هل طعمتم من شئ؟ قلنا نعم، فبینا نحن علی ذلك، دفع الراعي الغنم إلی المراح وعلی یده سخلة فقال هل ولدت؟ قال نعم، ثم أقبل علینا بوجهه فقال: لاتحسبن أنا ذبحنا الشاة لأجلكم، لنا غنم مائة لانرید أن تزید علیها إذا ولدت بهمة ذبحنا شاة»!أسد الغابة: 4/266.

وفي أسد الغابة: 5/44: «ومعه صاحب له یقال له نهیك بن عاصم بن مالك بن المنتفق قال: فقدمنا المدینة لانسلاخ رجب، فأتینا رسول الله (صلی الله علیه و آله) حین انصرف من صلاة الغداة». «وفي كنز العمال: 7/146»، «أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان یكره المسائل ویعیبها فإذا سأله أبو رزین أجابه وأعجبه»!

وأكثر ما اشتهر به أبو رزین أحادیث التجسیم، وأنه سمع النبي (صلی الله علیه و آله) یقول:«لَعَمْرُ إلهك! ویقول: إن الله تعالی یضحك ویظل یضحك! قلت: یا رسول الله! أویضحك الرب؟ قال: نعم، قلت: لن نعدم من رب یضحك خیراً! وفي روایة: قلت: یا رسول الله أین كان ربنا عزوجل قبل أن یخلق خلقه؟ قال: كان فی عماء. ما تحته هواء وما فوقه هواء. ثم خلق عرشه علی الماء».مسند أحمد: 4/11. وقد نقدنا أحادیثه فی الإنتصار::2/234 وغیره ونقدها صاحب الصحیح: 27/223.

ص: 574

الفصل التاسع والستون: مباهلة النبي (صلی الله علیه و آله) مع نصاری نجران

1- نجران العاصمة الدینیة للمسیحیة فی الجزیرة

كانت نجران ولایة تابعة للدولة الرومانیة، یحكمها أسقف من قِبل هرقل مع رؤساء قبائلها، والمشهور فیهم بنو عبدالمدان. وكان ارتباطهم بهرقل وثیقاً فهو یدافع عنهم وینفق علیهم، وقد بعث لهم بصلیب كبیر من ذهب.

وفي نجران كانت قصة أصحاب الأخدود التي ذكرها الله تعالی فی سورة البروج فقال: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ. وَالْیوْمِ الْمَوْعُودِ. وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ. قُتِلَ أَصْحَابُ الآخْدُودِ. النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ. إِذْ هُمْ عَلَیهَا قُعُودٌ. وَهُمْ عَلَی مَا یفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِینَ شُهُودٌ.

قال القمي فی تفسیره: 2/413: «كان سببهم أن الذي هیج الحبشة علی غزو الیمن ذو نواس، وهو آخر من ملك من حمیر، تهوَّد واجتمعت معه حمیر علی الیهودیة وسمی نفسه یوسف، وأقام علی ذلك حیناً من الدهر، ثم أُخبر أن بنجران بقایا قوم علی دین النصرانیة، وكانوا علی دین عیسی وعلی حكم الإنجیل، ورأس ذلك الدین عبدالله بن بریا، فحمله أهل دینه علی أن یسیر إلیهم ویحملهم علی الیهودیة ویدخلهم فیها، فسار حتی قدم نجران فجمع من كان بها علی دین النصرانیة ثم عرض علیهم دین الیهودیة والدخول فیها فأبوا علیه، فجادلهم وعرض علیهم وحرص الحرص كله، فأبوا علیه وامتنعوا من الیهودیة والدخول فیها واختاروا القتل، فخد لهم أخدوداً جمع فیه الحطب وأشعل فیه النار، فمنهم

ص: 575

من أحرق بالنار، ومنهم من قتل بالسیف، ومثَّل بهم كل مثلة! فبلغ عدد من قتل وأحرق بالنار عشرین ألفاً، وأفلت رجل منهم یدعی دوس ذو ثعلبان علی فرس له وركضه واتبعوه حتی أعجزهم فی الرمل، ورجع ذو نواس إلی ضیعته فی جنوده فقال الله: قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ».

فأمر هرقل عامله ملك الحبشة أن یغزو الیمن ثأراً لشهداء نجران، فغزا الیمن وهزم ذا نواس الذی ألقی نفسه فی البحر وغرق، وحكموا الیمن الی زمن سیف بن ذی یزن. قال المسعودی فی مروج الذهب: 1/89 إن المسیحیین أصحاب الأخدود«كانوا مؤمنین موحِّدین، لا علی رأي النصرانیة في هذا الوقت».لكن أهل نجران تبنوا بعد ذلك عقیدة هرقل فی أن المسیح ابن الله.

2- رسالة النبی (صلی الله علیه و آله) الی أسقف نجران وأهلها

لما كتب رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلی ملوك العالم بعد الحدیبیة، أرسل عتبة بن غزوان، وعبدالله بن أبي أمیة، والهدیر بن عبدالله، وصهیب بن سنان، إلی نجران وحواشیها، وكتب معهم إلی أساقفة نجران یدعوهم إلی رفض الأقانیم والأنداد والإلتزام بالتوحید وعبادة الله تعالی. ونص كتابه (صلی الله علیه و آله) كما یلي: «باسم إله إبراهیم وإسحاق ویعقوب. من محمد النبي رسول الله إلی أسقف نجران وأهل نجران: أسلمٌ أنتم، فإنی أحمد إلیكم إله إبراهیم وإسحاق ویعقوب، أما بعد فإني أدعوكم إلی عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلی ولایة الله من ولایة العباد، وإن أبیتم فالجزیة، فإن أبیتم آذنتكم بحرب، والسلام. وقیل: كتب لهم آیة: قُلْ یا أَهْلَ الْكتَابِ تَعَالَوْا إِلَی كلِمَةٍ سَوَاءٍ بَینَنَا وَبَینَكمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِك بِهِ شَیئًا وَلا یتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ». آل عمران: 64.

والأسقف أصلها أبیسكوبوس یونانیة بمعنی الناظر، وكان الأسقف أبو حارثة بن علقمة، الشخص الأول، والباقون دون رتبته. فلما قرأ الأسقف الكتاب فزع وارتاع وقام وقعد، وشاور أهل الحجی والرأي منهم، فقال شرحبیل وكان ذا لب ورأي بنجران: قد علمت ما وعد الله إبراهیم فی ذریة إسماعیل من النبوة، فما یؤمنك أن

ص: 576

یكون هذا الرجل ولیس لي في النبوة رأی، ولو كان أمر من أمور الدنیا أشرت علیك فیه وجهدت لك.

فبعث الأسقف إلی كل واحد واحد من أهل نجران، فتشاوروا وكثر اللغط وطال الحوار والجدال، فاجتمع رأیهم علی أن یبعثوا وفداً یأتي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فیرجع بخبره. فوفدوا إلیه فی ستین راكباً وفیهم ثلاثة عشر رجلاً من أشرافهم وذوي الرأي والحجی منهم، وثلاثة یتولون أمرهم: العاقب واسمه عبدالمسیح أمیر الوفد وصاحب مشورتهم الذي لایصدرون إلا عن رأیه، والسید واسمه الأیهم، وهو ثمالهم وصاحب رحلهم، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم الأول وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم، وهو الأسقف الأعظم، قد شرفه ملك الروم ومولوه وبنوا له الكنائس وبسطوا له الكرامات، لما بلغهم من علمه واجتهاده فی دینه. فلما توجهوا إلی رسول الله (صلی الله علیه و آله) جلس أبو حارثة علی بغلة وإلی جنبه أخ له یقال له كرز إذ عثرت بغلته، قال: تعس الأبعد یرید محمداً (صلی الله علیه و آله) ! فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست!فقال له: ولم یا أخ؟ فقال: والله إنه النبي الذي كنا ننتظره! فقال كرز: فما یمنعك وأنت تعلم هذا أن تتبعه؟فقال: ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا كل ما تری!فأضمر علیه منه أخوه كرز حتی أسلم بعد ذلك وكان كرز یرتجز ویقول:

إلیك یغدو قلقاً وضینها *** معترضاً في بطنها جنینها

مخالفاً دین النصاری دینها

مكاتیب الرسول (صلی الله علیه و آله) 2/489ملخصاً.

3- أمهل النبي (صلی الله علیه و آله) وفدهم ثلاثاً ثم ناظرهم

في الإختصاص للمفید (رحمة الله) /112، عن محمد بن المنكدر عن أبیه قال: «لما قدم السید والعاقب أسقفا نجران في سبعین راكباً وافداً علی النبي (صلی الله علیه و آله) كنت معهم فبینا

ص: 577

كرز یسیر وكرز صاحب نفقاتهم، إذ عثرت بغلته فقال: تعس من نأتیه الأبعد یعني النبي (صلی الله علیه و آله) ! فقال له صاحبه وهو العاقب: بل تعست وانتكست! فقال: ولم ذلك؟ قال: لأنك أتعست النبي الأمي أحمد، قال: وما علمك بذلك؟ قال: أما تقرأ من المفتاح الرابع من الوحي إلی المسیح: أن قل لبني إسرائیل: ما أجهلكم تتطیبون بالطیب لتطیبوا به في الدنیا عند أهلها وأهلكم وأجوافكم عندي كالجیفة المنتنة! یا بني إسرائیل، آمنوا برسولي النبي الأمي الذی یكون فی آخر الزمان، صاحب الوجه الأقمر والجمل الأحمر، المشرب بالنور، ذي الجناب الحسن والثیاب الخشن، سید الماضین عندی وأكرم الباقین عَلَيَّ، المستن بسنتي، والصائر في دارجتي، والمجاهد بیده المشركین من أجلي، فبشر به بني إسرائیل ومر بني إسرائیل أن یعزروه وأن ینصروه.

قال عیسی صلی الله علیه: قدوس قدوس، من هذا العبدالصالح الذي قد أحبه قلبي ولم تره عیني؟ قال: هو منك وأنت منه وهو صهرك علی أمك، قلیل الأولاد كثیر الأزواج، یسكن مكة من موضع أساس وطي إبراهیم، نسله من مباركة، وهي ضرة أمك فی الجنة، له شأن من الشأن، تنام عیناه ولا ینام قلبه، یأكل الهدیة ولا یقبل الصدقة، له حوض من شفیر زمزم إلی مغیب الشمس حیث یغرب، فیه شرابان من الرحیق والتسنیم، فیه أكاویب عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم یظمأ بعدها أبداوذلك بتفضیلي إیاه علی سائر المرسلین، یوافق قوله فعله وسریرته علانیته، فطوبی له وطوبی لأمته، الذین علی ملته یحیون وعلی سنته یموتون ومع أهل بیته یمیلون، آمنین مؤمنین مطمئنین مباركین ویظهر فی زمن قحط وجدب فیدعوني، فترخی السماء عزالیها حتی یری أثر بركاتها فی أكنافها، وأبارك فیما یضع فیه یده.

قال: إلهي سمه، قال: نعم هو أحمد وهو محمد رسولي إلی الخلق كافة، وأقربهم مني منزلة وأحضرهم عندي شفاعة، لا یأمر إلا بما أحب وینهی لما أكره. قال له صاحبه: فأنی تقدم بنا علی من هذه صفته؟

قال: نشهد أحواله وننظر آیاته فإن یكن هو هو ساعدناه بالمسالمة، ونكفه بأموالنا عن أهل دیننا من حیث لا یشعر بنا، وإن یكن كاذباً كفیناه بكذبه علی الله عزوجل!

ص: 578

قال: ولم إذا رأیت العلامة لا تتبعه؟ قال: أما رأیت ما فعل بنا هؤلاء القوم أكرمونا، ومولونا ونصبوا لنا الكنائس وأعلوا فیه ذكرنا، فكیف تطیب النفس بالدخول في دین یستوي فیه الشریف والوضیع.

فلما قدموا المدینة قال من رآهم من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما رأینا وفداً من وفود العرب كانوا أجمل منهم، لهم شعور وعلیهم ثیاب الحبر، وكان رسول الله متنائیاً عن المسجد، فحضرت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) تلقاء المشرق فهمَّ بهم رجال من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فمنعهم، فأقبل رسول الله فقال: دعوهم فلما قضوا صلاتهم جلسوا إلیه وناظروه، فقالوا: یا أبا القاسم حاجنا في عیسی، قال: هو عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلی مریم وروح منه، فقال أحدهما: بل هو ولده وثاني اثنین. وقال آخر: بل هو ثالث ثلاثة: أب وابن وروح القدس، وقد سمعناه في قرآن نزل علیك یقول: فعلنا وجعلنا وخلقنا ولو كان واحداً لقال: خلقت وجعلت وفعلت!

فتغشی النبي (صلی الله علیه و آله) الوحي فنزل علیه صدر سورة آل عمران إلی قوله رأس الستین، منها: فَمَنْ حَاجَّك فِیهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَك مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَی الْكاذِبِینَ.آل عمران: 61.

فقص علیهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) القصة وتلا علیهم القرآن، فقال بعضهم: لبعض: قد والله أتاكم بالفصل من خبر صاحبكم. فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الله عزوجل قد أمرني بمباهلتكم، فقالوا: إذا كان غداً باهلناك. فقال القوم بعضهم لبعض: حتی ننظر بما یباهلنا غداً بكثرة أتباعه من أوباش الناس أم بأهله من أهل الصفوة والطهارة، فإنهم وشیج الأنبیاء وموضع نهلهم.

فلما كان من غد غدا النبي (صلی الله علیه و آله) بیمینه علي وبیساره الحسن والحسین: ومن ورائهم فاطمة صلی الله علیها، علیهم النمار النجرانیة، وعلی كتف رسول الله كساء قطواني رقیق خشن لیس بكثیف ولا لین، فأمر بشجرتین فكسح ما بینهما ونشر الكساء علیهما وأدخلهم تحت الكساء وأدخل منكبه الأیسر معهم تحت

ص: 579

الكساء، معتمداً علی قوسه النبع، ورفع یده الیمنی إلی السماء للمباهلة، واشرأب الناس ینظرون، واصفرَّ لون السید والعاقب وكرَّا حتی كادت أن تطیش عقولهما فقال أحدهما لصاحبه: أنباهله؟ قال: أوَما علمت أنه ما باهل قوم قط نبیاً فنشأ صغیرهم وبقي كبیرهم؟! ولكن أره أنك غیر مكترث وأعطه من المال والسلاح ما أراد، فإن الرجل محارب، وقل له: أبهؤلاء تباهلنا لئلا یری أنه قد تقدمت معرفتنا بفضله وفضل أهل بیته.

فلما رفع النبي (صلی الله علیه و آله) یده إلی السماء للمباهلة قال أحدهما لصاحبه: وأي رهبانیة! دارك الرجل فإنه إن فاه ببهلة لم نرجع إلی أهل ولا مال! فقالا: یا أبا القاسم أبهؤلاء تباهلنا؟ قال: نعم، هؤلاء أوجه من علی وجه الأرض بعدي إلی الله عزوجل وجهة وأقربهم إلیه وسیلة، قال: فبصبصا یعني ارتعدا وكرَّا وقالا له: یا أبا القاسم نعطیك ألف سیف وألف درع وألف حجفة وألف دینار كل عام، علی أن الدرع والسیف والحجفة عندك إعارة حتی یأتي من وراءنا من قومنا فنعلمهم بالذي رأینا وشاهدنا فیكون الأمر علی ملأ منهم، فإما الإسلام وإما الجزیة وإما المقاطعة في كل عام.فقال النبي (صلی الله علیه و آله): قد قبلت ذلك منكما. أما والذي بعثني بالكرامة لو باهلتموني بمن تحت الكساء لأضرم الله عزوجل علیكم الوادي ناراً تأجج، حتی یساقها إلی من وراءكم في أسرع من طرفة العین فأحرقتم تأججاً! فهبط علیه جبرئیل الروح الأمین (علیه السلام) فقال: یا محمد الله یقرؤك السلام ویقول لك: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لو باهلت بمن تحت الكساء أهل السماوات وأهل الأرض لتساقطت السماء كسفاً متهافتة، ولتقطعت الأرضون زبراً سائحة، فلم تستقر علیها بعد ذلك! فرفع النبي (صلی الله علیه و آله) یدیه حتی رئي بیاض إبطیه، ثم قال: وعلی من ظلمكم حقكم، وبخسني الأجر الذی افترضه الله فیكم علیهم بهلة الله تتابع إلی یوم القیامة».

أقول: هذه الروایة من أقوی الرویات فی المباهلة، ولعلها أقواها علی الإطلاق.

وفی الإرشاد: 1/168: «فقال الأسقف: یا أبا القاسم إنا لا نباهلك ولكنا نصالحك، فصالحنا علی ما ننهض به. فصالحهم النبي (صلی الله علیه و آله) علی ألفي حلة من حلل الأواقي، قیمة كل حلة أربعون درهماً جیاداً، فما زاد أو نقص كان بحساب ذلك، وكتب لهم

ص: 580

النبي (صلی الله علیه و آله) كتاباً بما صالحهم علیه وكان الكتاب: بسم الله الرحمن الرحیم هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لنجران وحاشیتها فی كل صفراء وبیضاء وثمرة ورقیق، لا یؤخذ منهم شئ غیر ألفي حلة من حلل الأواقي ثمن كل حلة أربعون درهماً، فما زاد أو نقص فبحساب ذلك، یؤدون ألفاً منها في صفر وألفاً منها في رجب، وعلیهم أربعون دیناراً مثواة رسولي فما فوق ذلك وعلیهم في كل حدث یكون بالیمن من كل ذي عدن عاریة مضمونة ثلاثون درعاً وثلاثون فرساً وثلاثون جملاً مضمونة، لهم بذلك جوار الله وذمة محمد بن عبدالله، فمن أكل الربا منهم بعد عامهم هذا فذمتي منه بریئة».مكاتیب الرسول (صلی الله علیه و آله) 2/489 و494.

وفي روایة الإقبال/343:«أمهلهم وأمهلوه ثلاثاً، فلم یدعهم ولم یسألوه، لینظروا إلی هدیه ویعتبروا ما یشاهدون منه مما یجدون من صفته. فلما كان بعد ثالثة دعاهم إلی الإسلام فقالوا: یا أبا القاسم ما أخبرتنا كتب الله عزوجل بشئ من صفة النبي المبعوث بعد الروح عیسی (علیه السلام) إلا وقد تعرفناه فیك إلا خلة هي أعظم الخلال آیة ومنزلة وأجلاها أمارة ودلالة. قال (صلی الله علیه و آله): وما هي؟قالوا: إنا نجد فی الإنجیل من صفة النبي الغابر من بعد المسیح أنه یصدق به ویؤمن به وأنت تسبه وتكذب به وتزعم أنه عبد! قال: فلم تكن خصومتهم ولامنازعتهم للنبي إلا في عیسی (علیه السلام).فقال النبي (صلی الله علیه و آله): لا، بل أصدقه وأصدق به وأؤمن به، وأشهد أنه النبي المرسل من ربه عزوجل وأقول: إنه عبد لا یملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حیاةً ولا نشوراً. قالوا: وهل یستطیع العبد أن یفعل ما كان یفعل؟ وهل جاءت الأنبیاء بما جاء به من القدرة القاهرة؟ ألم یكن یحیي الموتی ویبرئ الأكمه والأبرص، وینبئهم بما یكنون فی صدورهم وما یدخرون فی بیوتهم؟ فهل یستطیع هذا إلا الله عزو جل أو ابن الله؟وقالوا في الغلو فیه وأكثروا تعالی الله عن ذلك علواً كبیراً!فقال (صلی الله علیه و آله): قد كان عیسی أخي كما قلتم یحیي الموتی ویبرئ الأكمه والأبرص ویخبر قومه بما فی نفوسهم، وبما یدخرون فی بیوتهم، وكل ذلك بإذن الله عزوجل، وهو لله

ص: 581

عزوجل عبد، وذلك علیه غیر عار، وهو منه غیر مستنكف، فقد كان لحماً ودماً وشعرًا وعظماً وعصباً وأمشاجاً، یأكل الطعام ویظمأ وینصب. بارؤه وربه الأحد الحق الذی لیس كمثله شئ ولیس له ند. قالوا: فأرنا مثله من جاء من غیر فحل ولا أب؟ قال: هذا آدم (علیه السلام) أعجب منه خلقاً جاء من غیر أب ولا أم! وتلا علیهم: إِنَّ مَثَلَ عِیسَی عِنْدَ اللهِ كمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كنْ فَیكونُ. آل عمران: 59.

4- كتاب الصلح مع أهل نجران

وفي مكاتیب الرسول: 3/152: «كتابه (صلی الله علیه و آله) لأهل نجران: بسم الله الرحمن الرحیم هذا ما كتب النبي رسول الله محمد لنجران، إذ كان له علیهم حكمه في كل ثمرة وصفراء وبیضاء وسوداء ورقیق، فأفضل علیهم وترك ذلك: ألفی حلة حلل الأواقي في كل رجب ألف حلة، وفی كل صفر ألف حلة، كل حلة أوقیة وما زادت حلل الخراج أو نقصت عن الأواقي فبالحساب، وما قصوا من درع أو خیل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بالحساب. وعلی نجران مثواة رسلي شهراً فدونه، ولا یحبس رسلي فوق شهر، وعلیهم عاریة ثلاثین درعاً، وثلاثین فرساً، وثلاثین بعیراً إذا كان كید بالیمن ذو مغدرة، وما هلك مما أعاروا رسلي من خیل أو ركاب فهم ضمن یردوه إلیهم، ولنجران وحاشیتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله علی أنفسهم وملتهم وأرضهم، وأموالهم، وبیعهم، ورهبانیتهم وأساقفتهم، وغائبهم وشاهدهم، وكلما تحت أیدیهم من قلیل أو كثیر، وعیرهم وبعثهم، وأمثلتهم، لا یغیر ما كانوا علیه، ولا یغیر حق من حقوقهم وأمثلتهم». ثم أورد نصوصه بفروقاتها، ومنها نص المفید المتقدم. راجع: تفسیر العیاشي: 1/175، ابن هشام:2/412 وتفسیر القمي: 1/104.

5- سمع الیهود بمجیئ وفد النصاری فحضروا معهم

فی الإرشاد: 1/166: «فقدموا المدینة وقت صلاة العصر، وعلیهم لباس الدیباج والصلب، فصار إلیهم الیهود وتساءلوا بینهم فقالت النصاری لهم: لستم علی شئ وقالت لهم الیهود: لستم علی شئ! وفي ذلك أنزل الله سبحانه: وَقَالَتِ الْیهُودُ لَیسَتِ

ص: 582

النَّصَارَی عَلَی شَئٍْ وَقَالَتِ النَّصَارَی لَیسَتِ الْیهُودُ عَلَی شَئٍْ وَهُمْ یتْلُونَ الْكتَابَ كذَلِك قَالَ الَّذِینَ لایعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ یحْكمُ بَینَهُمْ یوْمَ الْقِیامَةِ فِیمَا كانُوا فِیهِ یخْتَلِفُون».

وفي تفسیر فرات/89، عن علي (علیه السلام) قال:«لما قدم وفد نجران علی النبي (صلی الله علیه و آله) قدم فیهم ثلاثة من النصاری من كبارهم: العاقب وقیس والأسقف، فجاؤوا إلی الیهود وهم في بیت المدارس، فصاحوا بهم: یاإخوة القردة والخنازیر هذا الرجل بین ظهرانیكم قد غلبكم، إنزلوا إلینا. فنزل إلیهم ابن صوریا الیهودي وكعب بن الأشرف الیهودي، فقالوا لهم: إحضروا غداً نمتحنه. قال: وكان النبي (صلی الله علیه و آله) إذا صلی الصبح قال: هاهنا من الممتحنة أحد؟ فإن وجد أحداً أجابه وإن لم یجد أحداً قرأ علی أصحابه ما نزل علیه فی تلك اللیلة. فلما صلی الصبح جلسوا بین یدیه فقال له الأسقف: یا أبا القاسم فداك أبي: موسی من أبوه؟ قال: عمران. قال: فیوسف من أبوه؟ قال: یعقوب. قال: فأنت فداك أبي وأمي من أبوك؟ قال: عبدالله بن عبدالمطلب. قال: فعیسی من أبوه؟ قال: فسكت النبي (صلی الله علیه و آله) وكان رسول الله ربما احتاج إلی شئ من المنطق فینقض علیه جبرئیل (علیه السلام) من السماء السابعة فیصل له منطقه فی أسرع من طرفة عین، فذاك قول الله تعالی: وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر. قال: فجاء جبرئیل (علیه السلام) فقال: هو روح الله وكلمته فقال له الأسقف: یكون روح بلا جسد؟ قال: فسكت النبي (صلی الله علیه و آله). قال: فأوحی إلیه: إِنَّ مَثَلَ عِیسَی عِنْدَ اللهِ كمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كنْ فَیكونُ.. قال: فنزا الأسقف نزوةً إعظاماً لعیسی (علیه السلام) أن یقال له: من تراب. ثم قال: ما نجد هذا یا محمد في التوراة ولا في الإنجیل ولا في الزبور ولا نجد هذا إلاعندك! قال: فأوحی الله إلیه: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَی الْكاذِبِینَ.. فقالوا: أنصفتنا یا أبا القاسم فمتی موعدك؟ قال: بالغداة

إن شاء الله. قال: فانصرف الیهود وهم یقولون: لا إله إلا الله، ما نبالي أیهما أهلك الله: النصرانیة أو الحنیفیة».

وفي سیرة ابن هشام: 2/390: «قال ابن إسحاق: ولما قدم أهل نجران من

ص: 583

النصاری علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) أتتهم أحبار الیهود فتنازعوا عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال رافع بن حریملة: ما أنتم علی شئ، وكفروا بعیسی وبالإنجیل، فقال رجل من أهل نجران من النصاری للیهود: ما أنتم علی شئ، وجحد نبوة موسی وكفر بالتوراة. فأنزل الله تعالی فی ذلك من قولهم: وَقَالَتِ الْیهُودُ لَیسَتِ النَّصَارَی عَلَی شَئٍْ وَقَالَتِ النَّصَارَی لَیسَتِ الْیهُودُ عَلَی شَئٍْ وَهُمْ یتْلُونَ الْكتَابَ كذَلِك قَالَ الَّذِینَ لا یعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ یحْكمُ بَینَهُمْ یوْمَ الْقِیامَةِ فِی مَا كانُوا فِیهِ یخْتَلِفُونَ. أی كل یتلو في كتابه تصدیق ما كفر به أي یكفر الیهود بعیسی وعندهم التوراة فیها ما أخذ الله علیهم علی لسان موسی (علیه السلام) بالتصدیق بعیسی (علیه السلام) وفی الإنجیل ما جاء به عیسی (علیه السلام)، من تصدیق موسی (علیه السلام)، وما جاء به من التوراة من عند الله، وكل یكفر بما في ید صاحبه».

وفي سیرة ابن هشام: 2/35: «وقال أبو رافع القرظي: حین اجتمعت الأحبار من یهود والنصاری من أهل نجران، عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) ودعاهم إلی الإسلام: أترید منا یا محمد أن نعبدك كما تعبدالنصاری عیسی بن مریم؟ وقال رجل من أهل نجران نصراني، یقال له: الرئیس: أو ذاك ترید منا یا محمد وإلیه تدعونا؟ أو كما قال. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): معاذ الله أن أعبد غیر الله أو آمر بعبادة غیره، فما بذلك بعثني الله ولا أمرني، أو كما قال. فأنزل الله تعالی في ذلك من قولهما: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ یؤْتِیهُ اللهُ الْكتَابَ وَالْحُكمَ وَالنُّبُوَةَ ثُمَّ یقُولَ لِلنَّاسِ كونُوا عِبَادًا لِی مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكنْ كونُوا رَبَّانِیینَ بِمَا كنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكتَابَ وَبِمَا كنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلا یأمُرَكمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكةَ وَالنَّبِیینَ أَرْبَابًا أَیامُرُكمْ بِالْكفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ».

6- مستحبات یوم المباهلة

قال في الجواهر: 17/109: «وهو الیوم الرابع والعشرین من ذي الحجة، قیل وهو الذي تصدق فیه أمیر المؤمنین (علیه السلام) بخاتمه في ركوعه فنزل قوله تعالی: إِنَّمَا وَلِیكمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یقِیمُونَ الصَّلَوةَ وَیؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكعُونَ. وأظهر الله فیه نبیه (صلی الله علیه و آله) علی خصمه. فهو حینئذ أشرف الأیام الذي ینبغي فیه الصیام شكراً لهذه النعم الجسام والمنن العظام».

وفي مصباح المتهجد/764: «عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: یوم المباهلة الیوم الرابع

ص: 584

والعشرون من ذي الحجة، تصلي في ذلك الیوم ما أردت من الصلاة، فكلما صلیت ركعتین استغفرت الله تعالی بعقبها سبعین مرة، ثم تقوم قائماً وترمي بطرفك في موضع سجودك وتقول وأنت علی غسل: الحمد لله رب العالمین، الحمد لله فاطر السماوات والأرض...».

7- مسائل في المباهلة

المسألة الأولى: المباهلة ابتكار إسلامي، معناها أن الله تعالى تكفل بنصرة صاحب الحق وخذلان صاحب الباطل، فهي ميزان مهم إذا أحسن الناس استعماله.

وآيتها نزلت في محاجة النبي (صلی الله علیه و آله) لعلماء النصارى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ.«آل عمران: 59-61» لكنها لا تختص بالنبي (صلی الله علیه و آله) ولابألوهية المسيح (علیه السلام) بل تصح من كل الناس في مسائل العقيدة.

وقد أفتى الفقهاء بجواز مباهلة المعاند، وعقد في الكافي: 2/513 باباً بعنوان:باب المباهلة، روى فيه خمسة أحاديث، منها بسند صحيح عن أبي مسروق عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «قلت: إنا نكلم الناس فنحتج عليهم بقول الله عزوجل: أطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُم، فيقولون: نزلت في أمراء السرايا، فنحتج عليهم بقوله عزوجل: إنما وليكم الله ورسوله إلى آخر، الآية فيقولون: نزلت في المؤمنين، ونحتج عليهم بقول الله عزوجل: قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى، فيقولون نزلت في قربى المسلمين! قال: فلم أدع شيئاً مما حضرني ذكره من هذه وشبهه إلا ذكرته. فقال لي: إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة، قلت:وكيف أصنع؟قال: أصلح نفسك ثلاثاً، وأظنه قال وصم واغتسل، وابرز أنت وهو إلى الجبان، فشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه، ثم أنصفه وابدأ بنفسك وقل: اللهم رب السماوات السبع ورب

ص: 585

الأرضين السبع، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، إن كان أبو مسروق جحد حقاً وادعى باطلاً، فأنزل عليه حسباناً من السماء أو عذاباً أليماً. ثم رد الدعوة عليه فقل: وإن كان فلان جحد حقاً وادعى باطلاً فأنزل عليه حسباناً من السماء أو عذاباً أليماً.ثم قال لي: فإنك لاتلبث أن ترى ذلك فيه! فوالله ما وجدت خلقاً يجيبني إليه»!

وقال المفيد في تصحيح اعتقادات الإمامية/71: «وقال (علیه السلام) لطائفة من أصحابه: بينوا للناس الهدى الذي أنتم عليه، وبينوا لهم ضلالهم الذي هم عليه، وباهلوهم في علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فأمر بالكلام ودعا إليه وحث عليه».

وقال الحر العاملي في هداية الأمة 3/121: «تستحب مباهلة العدو والخصم... يستحب غسل المباهلة.. يستحب الصوم قبلها والخروج إلى الجبان..دعاء كل منهما على نفسه سبعين مرة ثم على خصمه سبعين مرة.. أن يشبك كل منهما أصابعه في أصابع الآخر ويدعو بالمأثور.. يستحب كونها بين طلوع الفجر وطلوع الشمس».

وقال السيد السبزواري في تفسيره: مواهب الرحمن 6/31: «المباهلة نوع من الدعاء والإبتهال والتضرع والتبتل إلى الله تعالى لإثبات حق عَلم به. وهي عادة جارية بين الناس في جميع الملل والأقوام ممن يعتقد بوجود عالم الغيب وراء هذا العالم المادي، فتكون نظير صلاة الإستسقاء أو الإستخارة و نحوهما.

والمستفاد من الآيات الشريفة وما ورد في شأنها من السنة المقدسة أنها تتقوم بأمرين: الأول: ثبوت حق علم بأنه حق قد سبق الإعلام به بالحجة والبيان، وبعد اليأس عن الفائدة فيهما يرجع بالدعاء واللعان واللجوء إلى الأمرالغيبي الذي يعترف به الخصمان، و هذا يدل عليه قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فيه، أي في الحق المعلوم. الثاني: وجود الرابط بين عالم الغيب وعالم المادة، إما في شخص الرسول أو من يقوم مقامه علماً وعملاً، أو حالة الإنكسار والخضوع والتضرع التي تكون رابطة حالية، فإذا تحقق هذان الأمران تجوز المباهلة لإثبات الحق بالتماس من عالم الغيب، فلا تختص المباهلة بمورد خاص...

و للمباهلة آداب خاصة مذكورة في أبواب الدعاء، ولا ريب في تقومها بمن يقوم به

ص: 586

الإحتجاج وإظهار الحق وهو في المقام نفس رسول الله (صلی الله علیه و آله).

وحيث إنها تدل على الملاعنة والهلاك يكون إحضار من يريده صاحب الحق أولى في الإحتجاج وأثبت للمدعى وأقطع لدعوى الخصم، ولأن الإجتماع في الدعاء والتأمين عليه مرغوب اليه كثيراً في السنة المقدسة».

المسألة الثانية: قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَاجَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ. أي جاءك العلم من الله بأمرعيسى (علیه السلام)، فصار عندك حجة من الله وبينتها للناس فتمت عليهم الحجة، فمن جادلك ليبطل حجتك بزعمه فهو مكابر، فلا تجادله بل ادعه إلى المباهلة. فطالب الحق يُبين له وتُقام عليه الحجة، لكن المُحَاجّ مجادل، يُعرض عنه، أو يدعى إلى المباهلة.

المسألة الثالثة: المباهلة دعاء، وهي بنفس الوقت منازلة وتوسل. والمنازلة تقتضي أن تضرب الخصم بأقوى أسلحتك. والتوسل إلى الله تعالى في المنازلة يقتضي أن تتقرب إلى الله بأقوى الناس وسيلة عنده ليستجيب دعاءك على خصمك.

ولما قال الله لرسوله (صلی الله علیه و آله): فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ. واختار (صلی الله علیه و آله) للمباهلة بأمر ربه خاصة عترته، فمعناه أنهم أقوى سلاح رباني، لا يخطئ ولا ينهزم، وأنهم أقرب الناس وسيلة إلى الله تعالى، فلا يخيب من توسل بهم، ولا يرد دعاءه.

المسألة الرابعة: تدل المباهلة على أن الذين باهل الله بهم أفضل أهل الأرض، وكل كلام في تفضيل غيرهم عليهم، أو مساواته بهم، ردٌّ عملي على الله تعالى وعلى رسوله (صلی الله علیه و آله)، وصاحبه ذو غرض وذو مرض، وانقطع الخطاب.

المسألة الخامسة: يمثل المباهَل بهم الأمة كلها: المباهل ونفسه والأبناء والنساء. فهم القيادة النبوية وورثتها، وهم البنت والأم والزوجة والأبناء، وهم مكونات المجتمع الإنساني، يباهل بهم قيادة المسيحيين وأبناءهم ونساءهم، ويباهل من ادعى للأم مريم وابنها عيسى ألوهيةً ومقاماً غير صحيح.

ص: 587

المسألة السادسة: قوله:تعَالوا نَدْعُ. معناه: اُحضروا أنتم إلى مكان المنازلة والمباهلة، وأحضروا مكونات دينكم ومجتمعكم.وروي أن كبيرالقساوسة ومعاونه أحضرا ولديهما: (وغدا العاقب والسيد بابنين لهما، عليهما الدر والحلي وقد حفوا بأبي حارثة) اليعقوبي2/82. ولم يقل تعالوا نحضرهم، بل قال ادعوهم للحضور، لأنهم حسب المفروض شخصيات مستقلة يُدعون دعوةً.

المسألة السابعة: تعالوا ندعوهم الحضور في المكان المحدد للمباهلة، وقبلها كانت المناظرة في المسجد، لكن المباهلة ينبغي أن تكون تحت السماء، في مكان اختاره النبي (صلی الله علیه و آله) يقع اليوم في شارع الستين، ومشى (صلی الله علیه و آله) أمام المسلمين مسافة، حتى وصلوا إلى قرب المكان فقال لهم قفوا أنتم هنا، وتقدم المباهلون معه فقط!

المسألة الثامنة: قال بعضهم إن المباهلة الملاعنة، فجعل الدعاء على الخصم بمعنى ملاعنته، تشبيهاً بملاعنة الزوج إذا تبرأ من ولده ولاعنَ زوجته. ويصح ذلك مجازاً لأنها دعاء يترتب عليه جعل اللعنة على المبطل. لكن الآية قالت: فنبتهل ولم تقل فنتباهل، أي فندعو، وينتج عنه أن تكون اللعنة على الكاذب.

قال ابن فارس في المقاييس 1/311:(أصول ثلاثة: أحدها التخلية، والثاني جنس من الدعاء، والثالث قلة في الماء..وأما الآخر فالإبتهال والتضرع في الدعاء. والمباهلة ترجع إلى هذا فإن المتباهلين يدعو كل واحد منهما على صاحبه ).

فمعنى تعالوا نبتهل: تعالوا ندعوأن يظهرالله الحق وينتقم من المبطل. وجزم فنبتهل لأنه جواب تعالوا مثل ندعو، وجزم نجعل لأنه جواب نبتهل، وهو يدل على أن الله تعالى جعل اللعنة مترتبة على المباهلة ومحققة بها.

المسألة التاسعة:ذكرت الآية أبناءنا بصيغة الجمع،والمقصود بهم الحسن والحسين (علیهما السلام) فقط، وهما مثنى، وذكرت نساءنا بالجمع والمقصود فاطمة (علیها السلام) فقط، وهي مفرد. ومثله كثير في القرآن وفي لغة العرب حيث يذكر الجمع ويقصد به المفرد أوالمثنى.

وذكرت الآية أنفسنا بالجمع، والمقصود بها شخص واحد هو أميرالمؤمنين (علیه السلام)، ولا

ص: 588

يصح أن تشمل النبي (صلی الله علیه و آله) لأنه الداعي ولا يدعو نفسه.

قال الشيخ المفيد (رحمة الله) في الفصول المختارة/38: (قال المأمون يوماً للرضا (علیه السلام): أخبرني بأكبر فضيلة لأميرالمؤمنين (علیه السلام) يدل عليها القرآن.

قال فقال له الرضا (علیه السلام): فضيلته في المباهلة، قال الله جل جلاله:فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ. فدعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) الحسن والحسين (علیهما السلام) فكانا ابنيه ودعا فاطمة (علیها السلام) فكانت في هذا الموضع نساءه، ودعا أميرالمؤمنين (علیه السلام) فكان نفسه بحكم الله عزوجل،وقد ثبت أنه ليس أحد من خلق الله سبحانه أجل من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأفضل فوجب أن لايكون أحد أفضل من نفس رسول الله (صلی الله علیه و آله)

بحكم الله عزوجل.

قال فقال له المأمون:أليس قد ذكر الله الأبناء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله ابنيه خاصة وذكر النساء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله ابنته وحدها، فلم لا جاز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره فلا يكون لأميرالمؤمنين ما ذكرت من الفضل؟

قال فقال له الرضا (علیه السلام): ليس بصحيح ما ذكرت يا أميرالمؤمنين وذلك أن الداعي إنا يكون داعياً لغيره كما يكون الأمر آمراً لغيره، ولايصح أن يكون داعياً لنفسه في الحقيقة، كما لا يكون آمراً لها في الحقيقة، وإذا لم يدع رسول الله رجلاً في المباهلة إلا أميرالمؤمنين فقد ثبت أنه نفسه التي عناها الله تعالى في كتابه وجعل حكمه ذلك في تنزيله.قال فقال المأمون: إذا ورد الجواب سقط السؤال).

وتعبير أنفسنا في الآية، يعني أنه نفس النبي (صلی الله علیه و آله) إلا ما اختص به من نبوة، وهو يشرح المقصود من أقوال النبي (صلی الله علیه و آله): علي مني وأنا منه، ومَن أطاعه أطاعني ومن عصاه عصاني، ومَن سبه سبني، ومَن كنت مولاه فعلي مولاه، وأنا وعلي من شجرة واحدة والناس من شجر شتى، وأنا وعلي كالضوء من الضوء، وكنت وعلياً نوراً قبل أن يخلق الله الخلق، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى..

ص: 589

إلى آخر كلماته المضيئة التي تبين مكانة علي (علیه السلام) وأنه بحكم نفسه إلا ما استثني.

فلا يبقى مجال لتفضيل غيره عليه، ولا لتقديم غيره عليه في الفضائل، ولا في قيادة الأمة وإمامتها، ولا في الموالاة والمودة ولا في تلقي علم النبي (صلی الله علیه و آله) ؟!

المسألة العاشرة: «الحسنان (علیهما السلام) أبناء النبي (صلی الله علیه و آله) بحكم الآية، ولقوله (صلی الله علیه و آله): يا علي، ما بعث الله عزوجل نبياً إلا وجعل ذريته من صلبه، وجعل ذريتي من صلبك، ولولاك ما كانت لي ذرية». الفقيه 4/365.

وقال الإمام الباقر (علیه السلام) الكافي8/318 في قوله تعالى:حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ.. وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ: فسلهم يا أبا الجارود: هل كان يحل لرسول الله (صلی الله علیه و آله) نكاح حليلتيهما؟ فإن قالوا: نعم كذبوا وفجروا، وإن قالوا:لا، فهما ابناه لصلبه».

وروى مخالفونا قول النبي (صلی الله علیه و آله): «كل ولد أم فإن عصبتهم لأبيهم، ما خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم».كبير الطبراني3 /44، الزوائد4/224 و 6/301.

وقال علماؤهم:«وأولاد بناته ينسبون إليه لحديث: إن ابني هذا سيد مشيراً إلى الحسن. وفي حديث: إن الله لم يبعث نبياً قط إلا جعل ذريته من صلبه غيري، فإن الله جعل ذريتي من صلب علي.دون أولاد بنات غيره فينسبون إلى آبائهم. قال تعالى: أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ». كشاف القناع 5/31.

وقال الشوكاني في نيل الأوطار 6/139: «قال السخاوي: وقد كنت سئلت عن هذا الحديث وبسطت الكلام عليه، وبينت أنه صالح للحجة».

المسألة الحادية عشرة: الآية نص في التوسل، حتى بالأقل درجة من المتوسِّل: «ثم جثى (صلی الله علیه و آله) بركبتيه وجعل علياً أمامه بين يديه وفاطمة بين كتفيه والحسن عن يمينه والحسين عن يساره، وهو يقول لهم: إذا دعوت فأمِّنوا، فقال الأسقف:جثى والله محمد كما يجثو الأنبياء للمباهلة». مناقب آل أبي طالب3/144.

ومعنى: إذا دعوت فأمنوا: أن تأمينهم جزء من الإبتهال، وهو توسل بهم.

هذا، وفي الآية مسائل أخرى مهمة، اكتفينا بما تقدم.

ص: 590

الفصل السبعون: حجة الوداع

1- أجواء حجة الوداع

أ. أمر الله تعالی نبیه (صلی الله علیه و آله) بالحج ونزل علیه قوله تعالی: وَأَذِّنْ فِی النَّاسِ بِالحَجِّ یأْتُوك رِجَالاً وَعَلَی كلِّ ضَامِرٍ یأْتِینَ مِنْ كلِّ فَجٍّ عَمِیقٍ. قال الإمام الصادق (علیه السلام): «فأمر المؤذنین أن یؤذنوا بأعلی أصواتهم: بأن رسول الله یحج فی عامه هذا، فعلم به من حضر المدینة وأهل العوالي والأعراب، واجتمعوا لحج رسول الله (صلی الله علیه و آله).

فكتب إلی من بلغه كتابه ممن دخل في الإسلام: أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) یرید الحج، یؤذنهم بذلك لیحج من أطاق الحج». الكافی: 4/244.

وأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) رسُلَهُ یدعون الناس الی الحج، وبلغت دعوته أقاصي بلاد الإسلام، فتجهز الناس للخروج معه، وحضر الی المدینة خلق كثیر، ووافاه في الطریق خلائق، وكانوا مد البصر، كلهم یرید أن یأتم برسول الله (صلی الله علیه و آله) ویعمل مثل عمله.البحار: 21/384 والصحیح من السیرة: 30/288.

ب. في الحج أخبرهم أنه یوشك أن یدعی فیجیب، وأنهم قد لا یرونه بعد عامهم هذا، فسماها الناس حجة الوداع، وأقرَّ هذا الإسم أهل البیت (علیهم السلام).

ففي الكافي: 7/373 قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقف بمنی حین قضی مناسكها في حجة الوداع فقال: أیها الناس إسمعوا ما أقول لكم واعقلوه عني، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم في هذا الموقف بعد عامنا هذا، ثم قال: أي یوم أعظم حرمة؟ قالوا: هذا الیوم

ص: 591

قال: فأي شهر أعظم حرمة؟ قالوا: هذا الشهر، قال: فأي بلد أعظم حرمة؟ قالوا: هذا البلد، قال: فإن دماء كم وأموالكم علیكم حرام كحرمة یومكم هذا في شهركم هذا فی بلدكم هذا إلی یوم تلقونه، فیسألكم عن أعمالكم. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم قال: اللهم اشهد..».

ج- هدف النبي (صلی الله علیه و آله) من حجة الوداع: إتمام تبلیغ الإسلام، ومنه تبلیغ مناسك الحج، حیث قال لهم: خذوا عني مناسك حجكم. حجوا كما رأیتموني أحج.

لكن الهدف الأهم عنده (صلی الله علیه و آله) التأكید علی خلافة علي والأئمة من عترته:، وتحذیر الأمة من مخالفته فیهم بأن من یخالفه فیهم لا یوافیه علی الحوض.

ولا ننس أن حجة الوداع كانت بعد شهرین من محاولة اغتیاله (صلی الله علیه و آله) فی رجوعه من تبوك. لقد استبطأت قریش موته لتأخذ دولته كما قال علي (علیه السلام)، فأعلن قرب وفاته لیطمئنهم بأنه مغادر عن قریب فلیكفُّوا عن محاولة اغتیاله، أو إعلان الردة وإعادة العرب الی وثنیتهم، بحجة أن محمداً یرید بناء ملك لعترته:!

لكن قریشاً لم تقنع بتطمینه (صلی الله علیه و آله)، فحاولت اغتیاله فی عودته من حجة الوداع!

د. خرج النبي (صلی الله علیه و آله) من المدینة یوم الخمیس السادس والعشرین من ذي القعدة«لأربع بقین منه»وبات في ذي الحلیفة «مسجد الشجرة». وفي الیوم التالي أحرم وتحرك بالمسلمین نحو مكة، فوصلها لأربع مضین من ذي الحجة.

أما رجوعه الی المدینة فكان في العشر الأخیر من ذي الحجة، ولم أجد من حدده.

وأما عدد الذین حضروا حجة الوداع فتفاوتت الروایة في عددهم بین سبعین ألفاً، ومئة وأربع وعشرین ألفاً.

ه. روی المسلمون عن النبي (صلی الله علیه و آله) أحادیث عدیدة من حجة الوداع، وأجزاءً من الخطب الست التی خطبها: عندما وصل الی مكة، ثم في عرفات، ثم في منی عند جمرة العقبة یوم العید وثاني العید، ثم في الیوم الثالث في مسجد الخیف، ثم في عودته في غدیر خم عند الجحفة.

وتضمنت توجیهاته ووصایاه لأمته، وقد أخفی رواة الحكومة منها أكثر ما یتعلق

ص: 592

بأهل البیت (علیهم السلام) وهو بضع عشرة مادة، وسیأتي ذكر مضامینها.

و. عن جابر قال: «طاف رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حجة الوداع علی راحلته بالبیت وبالصفا والمروة، لیراه الناس ولیشرف علیهم لیسألوه، فإن الناس غَشَوْهُ».

أي أحاطوا به وزاحموه.تذكرة الفقهاء: 8/111.

2- صفة حج النبی (صلی الله علیه و آله) عند أهل البیت (علیهم السلام)

في الكافي: 4/244، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لم یحج النبي (صلی الله علیه و آله) بعد قدومه المدینة إلا واحدة، وقد حج بمكة مع قومه حجات مستسراً في كلها...فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أربع بقین من ذي القعدة، فلما انتهی إلی ذي الحلیفة زالت الشمس فاغتسل، ثم خرج حتی أتی المسجد الذي عند الشجرة فصلی فیه الظهر وعزم بالحج مفرداً»سألته: ألیلاً أحرم رسول الله أم نهاراً؟ فقال: نهاراً. قلت: أیة ساعة؟ قال: صلاة الظهر«وخرج حتی انتهی إلی البیداء عند المیل الأول، فصُفَّ له سماطان فلبی بالحج مفرداً، وساق الهدي ستاً وستین، حتی انتهی إلی مكة في سلخ أربع من ذي الحجة، فطاف بالبیت سبعة أشواط، ثم صلی ركعتین خلف مقام إبراهیم (علیه السلام)، ثم عاد إلی الحجر فاستلمه، وقد كان استلمه في أول طوافه.

ثم قال: إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله. فأبدأ بما بدأ الله تعالی به. وإن المسلمین كانوا یظنون أن السعي بین الصفا والمروة شئ صنعه المشركون، فأنزل الله عزوجل: إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَیتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَیهِ أَنْ یطَّوَّفَ بِهِمَا. ثم أتی الصفا فصعد علیه، واستقبل الركن الیماني فحمد الله وأثنی علیه ودعا مقدار ما یقرأ سورة البقرة مترسلاً، ثم انحدر إلی المروة فوقف علیها كما وقف علی الصفا، ثم انحدر وعاد إلی الصفا فوقف علیها، ثم انحدر إلی المروة حتی فرغ من سعیه. فلما فرغ من سعیه وهو علی المروة أقبل علی الناس بوجهه فحمد الله وأثنی علیه ثم قال: إن هذا جبرئیل وأومأ بیده إلی خلفه یأمرني أن آمر من لم یسق هدیاً أن یحل، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت مثل ما

ص: 593

أمرتكم، ولكني سقت الهدي، ولا ینبغي لسائق الهدي أن یحل حتی یبلغ الهدي محله.

قال: فقال له رجل من القوم«عمر»: لنخرجن حجاجاً ورؤوسنا وشعورنا تقطر! فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): أما إنك لن تؤمن بهذا أبداً! فقال له سراقة بن مالك بن جعشم الكناني: یا رسول الله علمنا دیننا كأنا خلقنا الیوم، فهذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم لما یستقبل؟فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): بل هو للأبد إلی یوم القیامة ثم شبك أصابعه وقال: دخلت العمرة في الحج إلی یوم القیامة.

قال: وقدم علي (علیه السلام) من الیمن علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو بمكة، فدخل علی فاطمة سلام الله علیها وهي قد أحلت، فوجد ریحاً طیبة ووجد علیها ثیاباً مصبوغة فقال: ما هذا یا فاطمة؟ فقالت أمرنا بهذا رسول الله (صلی الله علیه و آله).

فخرج علي (علیه السلام) إلی رسول الله (صلی الله علیه و آله) مستفتیاً فقال: یا رسول الله إني رأیت فاطمة قد أحلت وعلیها ثیاب مصبوغة؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أنا أمرت الناس بذلك فأنت یا علي بمَ أهللت؟ قال: یا رسول الله إهلالاً كإهلال النبي، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): قُرَّ علی إحرامك مثلي، وأنت شریكي في هدیي.

قال: ونزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة بالبطحاء هو وأصحابه، ولم ینزل الدور، فلما كان یوم الترویة عند زوال الشمس أمر الناس أن یغتسلوا ویهلوا بالحج، وهو قول الله عزوجل الذي أنزل علی نبیه (صلی الله علیه و آله): فاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبْرَاهیم.

فخرج النبي (صلی الله علیه و آله) وأصحابه مُهِلِّین بالحج حتی أتی منی فصلی الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر، ثم غدا والناس معه، وكانت قریش تفیض من المزدلفة وهي جُمع ویمنعون الناس أن یفیضوا منها، فأقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقریش ترجو أن تكون إفاضته من حیث كانوا یفیضون، فأنزل الله تعالی علیه: ثُمَّ أَفِیضُوا مِنْ حَیثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ، یعني إبراهیم وإسماعیل وإسحاق في إفاضتهم منها ومن كان بعدهم، فما رأت قریش أن قبة رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد مضت كأنه دخل في أنفسهم شئ للذي كانوا یرجون من الإفاضة من مكانهم، حتی انتهی إلی نمرة، وهي بطن عرنة بحیال الأراك، فضربت قبته، وضرب الناس أخبیتهم عندها.

ص: 594

فلما زالت الشمس خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعه قریش، وقد اغتسل وقطع التلبیة، حتی وقف بالمسجد فوعظ الناس وأمرهم ونهاهم، ثم صلی الظهر والعصر بأذان وإقامتین، ثم مضی إلی الموقف فوقف به، فجعل الناس یبتدرون أخفاف ناقته یقفون إلی جانبها فنحاها، ففعلوا مثل ذلك فقال: أیها الناس لیس موضع أخفاف ناقتي بالموقف، ولكن هذا كله وأومأ بیده إلی الموقف، فتفرق الناس. وفعل مثل ذلك بالمزدلفة، فوقف الناس حتی وقع القرص قرص الشمس، ثم أفاض وأمر الناس بالدعة حتی انتهی إلی المزدلفة، وهو المشعر الحرام فصلی المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتین، ثم أقام حتی صلی فیها الفجر، وعجل ضعفاء بني هاشم بلیل وأمرهم أن لا یرموا الجمرة جمرة العقبة حتی تطلع الشمس، فلما أضاء له النهار أفاض، حتی انتهی إلی منی فرمی جمرة العقبة.

وكان الهدي الذي جاء به رسول الله (صلی الله علیه و آله) ستاً وستین وجاء علي بأربع وثلاثین فنحر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ستة وستین ونحر علي (علیه السلام) أربعة وثلاثین بدنة، وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن یؤخذ من كل بدنة منها جذوة من لحم، ثم تطرح فی برمة ثم تطبخ، فأكل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي وحَسَیا من مرقها، ولم یعطیا الجزارین جلودها ولا جلالها ولا قلائدها وتصدق به، وحلق، وزار البیت ورجع إلی منی، وأقام بها حتی كان الیوم الثالث من آخر أیام التشریق.

ثم رمی الجمار ونفر، حتی انتهی إلی الأبطح، فقالت له عایشة: یا رسول الله ترجع نساؤك بحجة وعمرة معاً وأرجع بحجة؟ فأقام بالأبطح وبعث معها عبدالرحمن بن أبی بكر إلی التنعیم، فأهلت بعمرة ثم جاءت وطافت بالبیت وصلت ركعتین عند مقام إبراهیم (علیه السلام) وسعت بین الصفا والمروة، ثم أتت النبي (صلی الله علیه و آله) فارتحل من یومه، ولم یدخل المسجد الحرام ولم یطف بالبیت. ودخل من أعلی مكة من عقبة المدنیین، وخرج من أسفل مكة من ذی طوی.

وذكر أنه حیث لبی قال: لبیك اللهم لبیك لبیك، لا شریك لك لبیك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شریك لك. وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) یكثر من ذي

ص: 595

المعارج، وكان یلبي كلما لقي راكباً، أو علا أكمةً، أو هبط وادیاً، ومن آخر اللیل، وفی إدبار الصلوات. فلما دخل مكة دخل من أعلاها من العقبة وخرج حین خرج من ذي طوی، فلما انتهی إلی باب المسجد استقبل الكعبة، فحمد الله وأثنی علیه وصلی علی أبیه إبراهیم، ثم أتی الحجر فاستلمه، فلما طاف بالبیت صلی ركعتین خلف مقام إبراهیم ودخل زمزم فشرب منها، ثم قال: اللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً واسعاً وشفاءً من كل داء وسقم. فجعل یقول ذلك وهو مستقبل الكعبة ثم قال لأصحابه: لیكن آخر عهدكم بالكعبة استلام الحجر، فاستلمه، ثم خرج إلی الصفا.

الذي كان علی بُدْن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ناجیة بن جندب الخزاعي الأسلمی. والذي حلق رأس النبي (صلی الله علیه و آله) فی حجته معمر بن عبدالله بن حارثة. قال: ولما كان فی حجة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو یحلقه قالت قریش: أي معمر، أذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فی یدك وفي یدك الموسی! فقال معمر: والله إني لأعده من الله فضلاً عظیماً عَلَیّ، قال: وكان معمر هو الذي یرحل لرسول الله فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): یا معمر إن الرحل اللیلة لمسترخٍ فقال معمر: بأبي أنت وأمي لقد شددته كما كنت أشده، ولكن بعض من حسدني مكاني منك یا رسول الله أراد أن تستبدل بي، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما كنت لأفعل».

وفي الكافي: 4/257، عن الإمام زین العابدین (علیه السلام) قال: «لما وقف (صلی الله علیه و آله) بعرفة وهمَّت الشمس أن تغیب، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): یا بلال قل للناس فلینصتوا، فلما نصتوا قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن ربكم تطوَّل علیكم في هذا الیوم فغفر لمحسنكم وشفع محسنكم في مسیئكم، فأفیضوا مغفوراً لكم، قال: وزاد غیر الثمالي أنه قال: إلا أهل التبعات، فإن الله عدل یأخذ للضعیف من القوي.

فلما كانت لیلة جمع لم یزل یناجي ربه ویسأله لأهل التبعات، فلما وقف بجمع قال لبلال: قل للناس فلینصتوا، فلما نصتوا قال: إن ربكم تطول علیكم فی هذا الیوم فغفر لمحسنكم وشفع محسنكم فی مسیئكم، فأفیضوا مغفوراً لكم، وضمن لأهل التبعات من عنده الرضا».

أقول: معناه أن الله تعالی ضمن لمن شملته المغفرة في عرفات أن یرْضِي عنه من له

ص: 596

علیه حق، فیعطیه حتی یسقط حقه عنه. ولا یمكن أن یكون هذا الحكم لكل من حج، لأنه یحج أناسٌ مشهود لهم من النبي (صلی الله علیه و آله) بأنهم مجرمون من أهل النار.

3- خطب النبي (صلی الله علیه و آله) في حجة الوداع

اشارة

مع أن المسلمین اهتموا بحجة الوداع ورووا منها أحادیث كثیرةً، لكن رواة السلطة القرشیة نَتَّفُوا الأحادیث وجَزَّؤوها، وخلطوا بین مضامینها!

وسبب ذلك أن النبي (صلی الله علیه و آله) ركز فیها علی مكانة عترته:، وخصهم بكلام بلیغ كثیر، فتعمدوا إهمال ذلك لأنه إدانة لنظام الخلافة القرشي الذي قام أساساً علی إقصاء العترة:. فذنب أحادیث حجة الوداع أن النبي (صلی الله علیه و آله) أنها تأمر بطاعة أهل بیته:، وتحذر قریشاً والصحابة من معصیتهم!

وقد راجعتُ نصوص هذه الخطب في أكثر من مائة مصدر من مصادرهم فوجدت أنها تشكل منظومة كاملة في حقوق الإنسان واحترام حریته ودمه وملكیته وكرامته، وفي مكانة القرآن والعترة!

والیك فهرساً بها، وقد أفردنا بشارته (صلی الله علیه و آله) بالأئمة الإثني عشر::

1- خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) في عرفات

حسب روایة ابن شعبة الحراني (رحمة الله) في تحف العقول/30: «الحمد لله، نحمده ونستعینه، ونستغفره ونتوب إلیه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسیئات أعمالنا. من یهد الله فلا مضل له، ومن یضلل فلا هادي له، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشریك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أوصیكم عباد الله بتقوی الله وأحثكم علی العمل بطاعته، وأستفتح الله بالذي هو خیر.

أما بعد: أیها الناس! إسمعوا مني ما أبین لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.

أیها الناس: إن دماءكم وأعراضكم علیكم حرام، إلی أن تلقوا ربكم، كحرمة یومكم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

ص: 597

فمن كانت عنده أمانة فلیؤدها إلی من ائتمنه علیها. وإن ربا الجاهلیة موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبدالمطلب. وإن دماء الجاهلیة موضوعة، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربیعة بن الحارث بن عبدالمطلب.

وإن مآثر الجاهلیة موضوعة غیر السدانة والسقایة، والعمد قَوَدٌ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفیه مائة بعیر، فمن ازداد فهو من الجاهلیة.

أیها الناس: إن الشیطان قد یئس أن یعبد بأرضكم هذه، ولكنه قد رضي بأن یطاع فیما سوی ذلك، فیما تحتقرون من أعمالكم.

أیها الناس: إنما النسئ زیادة فی الكفر، یضل به الذین كفروا، یحلونه عاماً ویحرمونه عاما، لیواطؤوا عدة ماحرم الله. وإن الزمان قد استدار كهیئته یوم خلق السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً فی كتاب الله یوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم ثلاثة متوالیة، وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب بین جمادی وشعبان. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

أیها الناس: إن لنسائكم علیكم حقاً، ولكم علیهن حقاً، حقكم علیهن أن لایوطئن أحداً فرشكم، ولا یدخلن أحداً تكرهونه بیوتكم إلا بإذنكم، وألا یأتین بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غیر مبرح، فإذا انتهین وأطعنكم فعلیكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكتاب الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خیراً.

أیها الناس: إنما المؤمنون إخوة، ولا یحل لمؤمن مال أخیه إلا عن طیب نفس منه. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد، فلا ترجعن كفاراً یضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فیكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بیتي. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

أیها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب،

إِنَّ أَكرَمَكمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكمْ. ولیس لعربي علی عجمي فضل إلا بالتقوی. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: فلیبلغ الشاهد الغائب.

أیها الناس: إن الله قسم لكل وارث نصیبه من المیراث، ولا تجوز لوارث وصیة فی

ص: 598

أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر.

من ادُّعي إلی غیر أبیه، ومن تولی غیر موالیه، فعلیه لعنة الله والملائكة والناس أجمعین، ولا یقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. والسلام علیكم ورحمة الله».

2- من خطب النبي (صلی الله علیه و آله) في منی:

في تفسیر علي بن إبراهیم: 1/171: «وحج رسول الله (صلی الله علیه و آله) حجة الوداع لتمام عشر حجج من مقدمه المدینة، فكان من قوله بمنی أن حمد الله وأثنی علیه ثم قال:

أیها الناس: إسمعوا قولي واعقلوه عني، فإني لا أدري ألقاكم بعد عامي هذا.

ثم قال: هل تعلمون أي یوم أعظم حرمة؟ قال الناس: هذا الیوم. قال: فأي شهر؟ قال الناس: هذا. قال: وأي بلد أعظم حرمة؟ قالوا: بلدنا هذا. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم علیكم حرام، كحرمة یومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، إلی یوم تلقون ربكم، فیسألكم عن أعمالكم. ألا هل بلغت أیها الناس؟قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد. ثم قال: ألا وكل مأثرة أو بدعة كانت في الجاهلیة، أو دم أو مال فهو تحت قدمي هاتین، لیس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوی. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.

ثم قال: ألا وكل رباً كان فی الجاهلیة فهو موضوع، وأول موضوع منه ربا العباس بن عبدالمطلب. ألا وكل دم كان في الجاهلیة فهو موضوع، وأول موضوع دم ربیعة. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.

ثم قال: ألا وإن الشیطان قد یئس أن یعبد بأرضكم هذه، ولكنه راض بما تحتقرون من أعمالكم، ألا وإنه إذا أطیع فقد عبد!

ألا أیها الناس: إن المسلم أخو المسلم حقاً، لایحل لامرئ مسلم دم امرئ مسلم وماله، إلا ما أعطاه بطیبة نفس منه. وإني أمرت أن أقاتل الناس حتی یقولوا لاإله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم علی الله. ألا هل بلغت أیها الناس؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.

ص: 599

ثم قال: أیها الناس: إحفظوا قولي تنتفعوا به بعدي وافهموه تنعشوا، ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً یضرب بعضكم رقاب بعض بالسیف علی الدنیا، فإن فعلتم ذلك ولتفعلن! لتجدوني فی كتیبة بین جبرئیل ومیكائیل أضرب وجوهكم بالسیف! ثم التفت عن یمینه فسكت ساعة ثم قال: إن شاء الله، أو علي بن أبي طالب.

ثم قال: ألا وإني قد تركت فیكم أمرین إن أخذتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بیتي، فإنه قد نبأني اللطیف الخبیر أنهما لن یفترقا حتی یردا علي الحوض، ألا فمن اعتصم بهما فقد نجا، ومن خالفهما فقد هلك. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.

ثم قال: ألا وإنه سیرد عَلَيَّ الحوض منكم رجال فیدفعون عني، فأقول: رب أصحابي؟ فیقول: یامحمد إنهم أحدثوا بعدك وغیروا سنتك! أقول: سحقاً سحقاً.

فلما كان آخر یوم من أیام التشریق أنزل الله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): نُعِیتْ إليَّ نفسي. ثم نادی الصلاة جامعة في مسجد الخَیف، فاجتمع الناس فحمد الله وأثنی علیه ثم قال:

نَضَّرَ اللهُ امرأً سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم یسمعها، فرب حامل فقه غیر فقیه، ورب حامل فقه إلی من هو أفقه منه. ثلاث لایغل علیهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصیحة لأئمة المسلمین ولزم جماعتهم، فإن دعوتهم محیطة من ورائهم. المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم یسعی بذمتهم أدناهم، وهم ید علی من سواهم.

أیها الناس: إني تارك فیكم الثقلین. قالوا: یا رسول الله وما الثقلان؟ قال: كتاب الله وعترتی أهل بیتی، فإنه قد نبأني اللطیف الخبیر أنهما لن یفترقا حتی یردا عَلَيَّ الحوض كإصبعي هاتین وجمع بین سبابتیه، ولا أقول كهاتین وجمع سبابته والوسطی فتَفْضُلُ هذه علی هذه! فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا یرید محمد أن یجعل الإمامة في أهل بیته! فخرج أربعة نفر منهم إلی مكة ودخلوا الكعبة وتعاهدوا وتعاقدوا وكتبوا فیما بینهم كتاباً: إن مات محمد أو قتل أن لایردُّوا هذا الأمر في أهل بیته أبداً! فأنزل الله علی نبیه في ذلك: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ.أَمْ یحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَی وَرُسُلُنَا لَدَیهِمْ یكتُبُونَ. الزخرف: 79-80.

ص: 600

وفي بصائر الدرجات/433: «عن جابر قال قال أبوجعفر (علیه السلام) دعا رسول الله أصحابه بمنی وقال: یا أیها الناس إني تارك فیكم الثقلین، أمَا إن تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بیتي فإنهما لن یفترقا حتی یردا عَلَيَّ الحوض.

ثم قال: أیها الناس، إني تارك فیكم حرمات الله: كتاب الله، وعترتي، والكعبة البیت الحرام. ثم قال أبوجعفر (علیه السلام): أما كتاب الله فحرفوا، وأما الكعبة فهدموا، وأما العترة فقتلوا، وكل ودایع الله فقد تَبَّروا»!

وفي الخصال/486، بسنده عن عبدالله بن عمر قال: «نزلت هذه السورة: إذا جاء نصر الله والفتح، علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أوسط أیام التشریق، فعرف أنه الوداع، فركب راحلته العضباء فحمد الله وأثنی علیه..الی آخر روایة القمي».

وفي الكافي: 1/403: «قال سفیان الثوري «لصاحبه»: إذهب بنا إلی جعفر بن محمد، قال فذهبت معه إلیه فوجدناه قد ركب دابته، فقال له سفیان: یا أبا عبدالله حدثنا بحدیث خطبة رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مسجد الخیف. قال: دعني حتی أذهب في حاجتي فإني قد ركبت فإذا جئت حدثتك. فقال: أسألك بقرابتك من رسول الله لما حدثتني. قال: فنزل فقال له سفیان: مر لي بدواة وقرطاس حتی أثبته، فدعا به ثم قال أكتب: بسم الله الرحمن الرحیم. خطبة رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مسجد الخیف: نضَّرَ الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم تبلغه. یا أیها الناس: لیبلغ الشاهد الغائب، فرب حامل فقه لیس بفقیه، ورب حامل فقه إلی من هو أفقه منه: ثلاثٌ لایغل علیهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصیحة لأئمة المسلمین، واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محیطة من ورائهم. المؤمنون إخوةٌ تتكافأ دماؤهم وهم ید علی من سواهم، یسعی بذمتهم أدناهم...

فكتبه سفیان ثم عرضه علیه، وركب أبو عبدالله وجئت أنا وسفیان، فلما كنا في بعض الطریق قال لي: كما أنت، حتی أنظر في هذا الحدیث. قلت له: قد والله ألزم أبو عبدالله رقبتك شیئاً، لایذهب من رقبتك أبداً! فقال: وأي شئ ذلك؟ فقلت له: ثلاث لایغل علیهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، قد

ص: 601

عرفناه. والنصیحة لأئمة المسلمین، من هؤلاء الأئمة الذین یجب علینا نصیحتهم؟ معاویة بن أبي سفیان، ویزید بن معاویة، ومروان بن الحكم، وكل من لاتجوز الصلاة خلفهم؟ وقوله: واللزوم لجماعتهم، فأي الجماعة؟ مُرْجِئٌ یقول: من لم یصلِّ ولم یصُم ولم یغتسل من جنابة، وهادم الكعبة وناكح أمه، فهو علی إیمان جبرئیل ومیكائیل؟! أو قدري یقول لایكون ما شاء الله عزوجل ویكون ما شاء إبلیس؟ أو حروري یتبرأ من علي بن أبي طالب ویشهد علیه بالكفر؟ أو جهمي یقول إنما هي معرفة الله وحده لیس الإیمان شئ غیرها؟!

قال: ویحك وأي شئ یقولون؟! فقلت: یقولون: إن علي بن أبي طالب والله الإمام الذي وجب علینا نصیحته. ولزوم جماعتهم: أهل بیته!

قال: فأخذ الكتاب فخرقه، ثم قال: لاتخبر بها أحداً»!.انتهی.

وفي الكافي: 2/74، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «خطب رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حجة الوداع فقال: یا أیها الناس والله ما من شئ یقربكم من الجنة ویباعدكم من النار، إلا وقد أمرتكم به، وما من شئ یقربكم من النار ویباعدكم من الجنة إلا وقد نهیتكم عنه. ألا وإن الروح الأمین نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتی تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا یحمل أحدكم استبطاء شئ من الرزق أن یطلبه بغیر حله، فإنه لا یدرك ما عند الله إلا بطاعته».راجع فی تفسیر القمي: 2/303، خطبته (صلی الله علیه و آله) في مكة، وقد أخذ بحلقة الكعبة. وفي: 2/447، خطبته (صلی الله علیه و آله) في مسجد الخیف.

3- ومن مصادر السنیین

في سنن الدارمي: 2/47: «حتی إذا زاغت یعني الشمس «یوم عرفة» أمر بالقصواء فرُحِّلَتْ له، فأتی بطن الوادي فخطب الناس، وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام كحرمة یومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا إن كل شئ من أمر الجاهلیة تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلیة موضوعة...فاتقوا الله في النساء، فإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله..

ص: 602

أنتم مسؤلون عني فما أنتم قائلون؟قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأدیت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة فرفعها إلی السماء وینكتها إلی الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد».

وفي صحیح بخاري: 5/126: عن أبي بكرة عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «الزمان قد استدار كهیئة یوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالیات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بین جمادی وشعبان. أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتی ظننا أنه سیسمیه بغیر اسمه قال: ألیس ذا الحجة؟ قلنا: بلی. قال: فأي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتی ظننا أنه سیسمیه بغیر اسمه، قال: ألیس البلدة؟قلنا: بلی. قال: فأي یوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتی ظننا أنه سیسمیه بغیر اسمه! قال: ألیس یوم النحر؟ قلنا: بلی. قال: فإن دماءكم وأموالكم- قال محمد وأحسبه قال وأعراضكم- علیكم حرام كحرمة یومكم هذا فی بلدكم هذا فی شهركم هذا، وستلقون ربكم فسیسألكم عن أعمالكم. ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً یضرب بعضكم رقاب بعض. ألا لیبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من یبلغه أن یكون أوعی له من بعض من سمعه». وروته المصادر: «كفاراً» ورواها بخاري وقلیل غیره«ضلالاً»! أیضاً في صحیحه: 1/24.

وفي صحیح مسلم: 4/41: «حتی أتی عرفة..فنزل بها حتی إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرُحِّلت له، فأتی بطن الوادي فخطب الناس... وقد تركت فیكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله». فحذف وصیة النبي (صلی الله علیه و آله) بعترته!

وفي ابن ماجة: 2/1024 والحاكم: 1/77: «خطب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: یا أیها الناس: إني فرط لكم علی الحوض، وإن سعته ما بین الكوفة إلی الحجر الأسود، وآنیته كعدد النجوم، وإني رأیت أناساً من أمتي «أصلها أصحابی» لما دنوا مني خرج علیهم رجل فمال بهم عني، ثم أقبلت زمرة أخری ففعل بهم كذلك فلم یفلت إلا كمثل همل النعم! فقال أبو بكر: لعلي منهم یا نبي الله؟! قال: لا»!

ص: 603

وواضحٌ أن الراوي تعمد ذكرأبي بكر لیخرجه من الصحابة المطرودین!

وفي ابن ماجة: 2/1016، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو علی ناقته المخضرمة بعرفات.. «ألا وإني مستنقذ أناساً، ومستنقَذٌ مني أناس، فأقول: یا رب أصیحابي! فیقول: إنك لاتدری ما أحدثوا بعدك»!

وفي سنن ابن ماجة: 2/1300:«عن ابن عمر أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: ویحكم أو ویلكم! لاترجعوا بعدي كفاراً..».

وفي سنن الترمذي: 2/62، عن أبي أمامة: «سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) یخطب في حجة الوداع فقال: إتقوا الله ربكم، وصلُّوا خَمْسَكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطیعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم. قال: قلت لأبي أمامة: منذ كم سمعت هذا الحدیث؟ قال: سمعت وأنا ابن ثلاثین سنة».

وفي مسند أحمد: 5/412: «فقال...ألا وإني فرطكم علی الحوض أنظركم وإني مكاثرٌ بكم الأمم، فلا تسوِّدُوا وجهي! ألا وقد رأیتموني وسمعتم مني وستسألون عني فمن كذب علي فلیتبوأ مقعده من النار. ألا وإني مستنقذٌ رجالاً أو أناساً، ومستنقَذٌ مني آخرون فأقول: یا رب أصحابي..الخ.»!

وفي مجمع الزوائد: 3/265، عن الرقاشي قال: «كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله في وسط أیام التشریق أذود عنه الناس فقال..».وفیه: «ألا لاترجعوا بعدي كفاراً یضرب بعضكم رقاب بعض... أیها الناس: إن النساء عندكم عوان، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله... لایحل لامرئ من مال أخیه إلا ما طابت به نفسه. أیها الناس: إني تركت فیكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله فاعملوا به». ولم یذكر الراوي أهل بیته:!

4- بشارة النبي (صلی الله علیه و آله) في حجة الوداع بالأئمة الإثني عشر بعده

كان من الواضح للمسلمین أن ولایة الأمر بعد النبي (صلی الله علیه و آله) لعترته: فقد أمره الله تعالی أن یبلغ الأمة ولایتهم، علی سنته تعالی في أنبیائه السابقین الذین ورَّث عترتهم الكتاب والحكم، ذُرِّیةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ. «آل عمران: 34».

ص: 604

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكتَابَ الَّذِینَ اصْطَفَینَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَیرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِك هُوَ الْفَضْلُ الْكبِیرُ. فاطر: 32.

والذین اصطفاهم الله علي وأبناؤه من فاطمة:، والسابقون بالخیرات الأئمة المعصومون: منهم. والمقتصد: هو المؤمن بهم. والظالم لنفسه: من حسدهم وأنكرهم! ولا یستقیم معنی الآیة بتفسیر آخر.

وقد بَلَّغَ النبي (صلی الله علیه و آله) طوال نبوته ولایة عترته بالتدریج والحكمة، بالتلویح والتصریح، لعلمه بحسد قریش لهم، وقد روت مصادرهم أنه (صلی الله علیه و آله) بشر بالأئمة الإثني عشر في خطب حجة الوداع، لكنهم أبهموا وحذفوا منها! ففي صحیح بخاري: 8/127، عن: «جابر بن سمرة قال: سمعت النبي (صلی الله علیه و آله) یقول: یكون اثنا عشر أمیراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: كلهم من قریش»!

وفي مسلم: 6/3: «لایزال الإسلام عزیزاً إلی اثني عشر خلیفة، ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلهم من قریش»!

ثم روی ثانیة فیها: «ثم تكلم بشئ لم أفهمه».

وثالثة فیها: «لا یزال هذا الدین عزیزاً منیعاً إلی إثني عشر خلیفة، فقال كلمة صَمَّنِیها الناس! فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قریش».

ولم یقل بخاري إن هذا الحدیث من خطب حجة الوداع! لكن عدداً من المصادر قالته، كمسند أحمد: 5/93 و96 و99: «عن جابر بن سمرة قال: خطبنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعرفات». وفي/87: «یقول في حجة الوداع». وفي/99: «سمعت رسول الله یخطب بمنی». وهذا یعنی أنه (صلی الله علیه و آله) كرره في عرفات ومنی، ثم أعلنه صریحاً في غدیر خم!

وأصل الحدیث: اثنا عشر إماماً كلهم من أهل بیتي، «ففي مسند أحمد: 5/100 و107»، لكن السلطة لا ترید العترة فقال الراوي: «ثم قال كلمة لم أفهمها، قلت لأبي: ما قال؟ قال: قال كلهم من قریش». وفي الحاكم: 3/617: «وقال كلمة خفیت علي، وكان أبي أدنی إلیه مجلساً مني فقلت: ما قال؟ فقال كلهم من قریش».

ص: 605

وفي أحمد: 5/90 و 98، أن النبي (صلی الله علیه و آله) أخفاها وخفض بها صوته وهمس بها همساً!

وفي الحاكم: 3/618: «ثم قال كلمة وخفض بها صوته، فقلت لعمي وكان أمامي: ما قال یا عم؟ قال: قال یا بني: كلهم من قریش».

وفي الطبراني الكبیر: 2/213و214: «قال (صلی الله علیه و آله): یكون لهذه الأمة اثنا عشر قیماً لایضرهم من خذلهم، ثم همس رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكلمة لم أسمعها، فقلت لأبي: ما الكلمة التي همس بها النبي؟ قال أبي: كلهم من قریش».

وقالت روایات أخری إن الذي ضیع الكلمة هم الناس، ولیس الراوي ولا النبي (صلی الله علیه و آله) ! فالناس المحرمون لربهم، المنتظرون لكل كلمة تصدر من نبیهم، صاروا عند الكلمة الحساسة مشاغبین! یلغطون، ویضجون، ویكبرون، ویتكلمون ویقومون ویقعدون!

ففي سنن أبي داود: 2/309: «قال: فكبر الناس وضجوا، ثم قال كلمة خفیة، قلت لأبي: یا أبة ما قال؟ قال: كلهم من قریش».

و مثله أحمد: 5/98. وفیه: «ثم قال كلمة أصَمَّنِیها الناس، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قریش». وفي روایة مسلم المتقدمة: «صَمَّنیها الناس».

وفي روایة أحمد: 5/93: «وضج الناس..ثم لغط القوم وتكلموا فلم أفهم قوله بعد كلهم». وفي نفس الصفحة: «لایزال هذا الدین عزیزاً منیعاً، ینصرون علی من ناواهم علیه إلی اثني عشر خلیفة. قال فجعل الناس یقومون ویقعدون...»!

فهل سمعت بأمة یودعها نبیها، ویبشرها بأن الله عزوجل حلَّ مشكلة القیادة فیها وعین اثني عشر إماماً ربانیاً، ثم لم یحدد لها هؤلاء الأئمة، لا بأسمائهم ولا بأسرتهم! بل جعلهم ضائعین في عشرین قبیلة! ولم یسأله أحد من أمته من هم؟!

إنها فضیحة وراءها قریش بكیدها وخططها ضد النبي (صلی الله علیه و آله) وعترته!

إن زعمهم أن الأئمة الربانیین ضاعوا فی قریش، هو نفس كلامهم في السقیفة حیث قالوا إن قریشاً تأبی أن تجمع لبني هاشم بین النبوة والخلافة، فیجب أن تدور الخلافة بین بطون قریش العشرین!وهم بتهمتهم للنبي (صلی الله علیه و آله) بأنه ضیع هویة الأئمة من بعده، یتهمون ربهم سبحانه وتعالی وینسبون الیه أنه جعل في هذه الأمة اثني عشر

ص: 606

إماماً مجهولین في عشرین قبیلة! وأشعل الصراع بین هذه القبائل علی الخلافة ورئاسة الدولة، خاصة وهم یتحاربون سنین علی فرس وبعیر!

فالصحیح أن النبي (صلی الله علیه و آله) حددهم بعترته: وسماهم: علیاً والحسن والحسین وتسعة من ذریة الحسین:، لكنهم تعمدوا تضییعهم!

وقد قال أمیر المؤمنین (علیه السلام): «أین الذین زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذباً وبغیاً علینا أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم!

بنا یستعطی الهدی، ویستجلی العمی. إن الأئمة من قریش، غرسوا فی هذا البطن من هاشم، لاتصلح علی سواهم ولا تصلح الولاة من غیرهم «نهج البلاغة: 1/82 و 2/27». وقال (علیه السلام) أیضاً: «والله ما تنقم منا قریش إلا أن الله اختارنا علیهم، فأدخلناهم في حیزنا، فكانوا كما قال الأول:

أدَمْتَ لعَمري شُرْبَك المحضَ صابحاً *** وأكلَك بالزُّبد المَقَشَّرة البُجْرَا

ونحن وهبناك العلاءَ ولم تكنْ *** علیاً وحُطْنَا حولك الجُرْدَ والسُّمْر.

هذا، وقد تحیر الشراح السنیون في الأئمة الإثني عشر، وحاولوا تطبیقهم علی خلفائهم فلم یستطیعوا! واعترف ابن العربي المالكی المتوفی سنة543 في عارضة الأحوذي، بأن تطبیق الحدیث علی خلفائهم لایصح!

كما أخفوا أحادیث أن الأئمة من أهل البیت (صلی الله علیه و آله)، وأحرقوها، أو أنكروها.

قال ابن مسعود: «سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) یقول: الأئمة بعدي اثنا عشر، تسعة من صلب الحسین، والتاسع مهدیهم».كفایة الأثر/33.

وقد كتبنا رسالة خاصة في: «بشارة النبي (صلی الله علیه و آله) بالأئمة الإثني عشر:».

5- تحذیر النبي (صلی الله علیه و آله) لقریش والصحابة أن یطغوا بعده

سبب التحذیر النبوي أن قریشاً لها موقع القیادة في العرب، فقبائل العرب تَبَعٌ لها، والخطر الذي یخشاه علی أهل بیته إنما هو من قریش وحدها، والتحریف الذي یخشاه علی الإسلام، والظلم علی المسلمین، إنما هو من قریش وحدها!

ص: 607

لذا قال لهم (صلی الله علیه و آله): «یا معشر قریش لاتجیؤوا بالدنیا تحملونها علی رقابكم، وتجئ الناس بالآخرة، فإني لا أغنی عنكم من الله شیئاً».

وهذا نفس تحذیره (صلی الله علیه و آله) للصحابة من الصراع علی السلطة كقوله: «ویحكم أو ویلكم لاترجعوا بعدي كفاراً یضرب بعضكم رقاب بعض».«ابن ماجة: 2/1300». وقوله (صلی الله علیه و آله): «لاترجعوا بعدي كفاراً یضرب بعضكم رقاب بعض بالسیف علی الدنیا فإن فعلتم ذلك وَلَتَفْعَلُنَّ».تفسیر القمي: 1/1717.

فأخبرهم أنهم سیفعلون! واستعمل بلاغته (صلی الله علیه و آله) وكل موجبات الخوف والحذر لیقیم علیهم الحجة فلایقولون یوم القیامة: لماذا لم تحذرنا؟! فالذین حذرهم صحابته فقط! لا الیهود، ولا الروم، ولا القبائل العربیة، ولا حتی زعماء قریش بدون شركائهم

من الصحابة!

ذلك أن الخوف من الإقتتال بعده لیس من القبائل التی خضعت للإسلام طوعاً أو كرهاً، فهي مهما كانت كبیرة وموحدة مثل هوازن وغطفان..لاتطمح إلی قیادة هذه الدولة، وإن طمحت فلا حظَّ لها في النجاح إلا بواسطة الصحابة!

والیهود انكسروا وأجلی النبي (صلی الله علیه و آله) قسماً منهم من الجزیرة، ولم تبق لهم قوة عسكریة تذكر، ومكائدهم لاحظَّ لها في النجاح إلا بواسطة الصحابة، الذین تعاهدوا معهم سراً! سَنُطِیعُكمْ فِی بَعْضِ الأمر وَاللهُ یعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ. محمّد: 26.

وزعماء قریش في مكة، مع أنهم یملكون نحو ثلاثة آلاف مقاتل، لكنهم لا طریق لهم الی قیادة الدولة إلا بالصحابة القرشیین! فلایستطیعون أن یدَّعوا حقاً في قیادة دولة النبي (صلی الله علیه و آله) التي كانوا أعداؤها! لهذا كان تحذیره (صلی الله علیه و آله) من الصراع علی السلطة بعده، محصوراً بهؤلاء الصحابة المهاجرین، ثم بالأنصار فقط!

لكنك تقرأ في مصادر السلطة عشرات الأحادیث في مدح قریش، وأن القیادة لهم دون غیرهم! ولا تری من أحادیث تحذیره لهم إلا ما أفلت من الرقابة، فقد حرفوها أو جعلوها تحذیراً لبني هاشم بأن لا یطمعوا في الدنیا، لأنه لایغني عنهم من الله شیئاً! صحیح بخاري: 6/17.

ص: 608

أو جعلوها تحذیراً لفاطمة (علیها السلام) بأنها لو سرقت لقطع یدها! «صحیح بخاري: 4/151و 5/97 و 8/16». وتحذیراً لبني عبدالمطلب، بنحو هذا!

ومما أفلت وكان حجة دامغة وما زال، تحذیر النبي (صلی الله علیه و آله) لصحابته في حجة الوداع رسمه ببلاغته النبویة لوحةً خالدة لاتنقصها إلا الأسماء، أظهرت المصیر الجهنمي الذي یمشي إلیه هؤلاء الصحابة! ورسم مجیئهم الی حوض الكوثر یوم المحشر، فیأتي النداء الإلهي بمنعه من الشفاعة لهم ومنعهم من ورود الحوض، ثم یؤمر بهم إلی جهنم!

إنها صورة رهیبة نزل بها جبرئیل (علیه السلام) لیبلغها النبي (صلی الله علیه و آله) إلی الأمة في حجة الوداع! تجسد الكارثة علی صحابته، جزاءً لهم علی الكارثة التي سینزلونها في أمته بعده! ولا ینجو من هؤلاء المجرمین إلا مثل«هَمَل النَّعم» كما في روایة بخاري، أي الغنم المنفردة عن القطیع! ومعناه أن قطیع الصحابة في النار، ولا یفلت منهم إلا قلة مخالفون لرأي جمهورهم!

وهي حقیقةٌ مذهلةٌ، صعبة التصدیق علی المسلم السني المسكین، الذي رباه أبواه علی حب كل الصحابة، وخیر القرون، والجیل الفرید، والصحابة العدول، وأصحابي كالنجوم بأیهم اقتدیتم اهتدیتم.. وزرعوا في ذهنه من صغره الصور المثالیة لزید وعمرو، فإذا به یفاجأ بصورة مرعبة عنهم!

ولو كان المتكلم غیر رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما تردد السني في الحكم علیه بأنه عدو الإسلام، یرید أن یكید له بالطعن في صحابة رسول الإسلام (صلی الله علیه و آله) !

ولو كان الراوي غیر البخاري، لما ترددوا في تضعیف حدیثه واتهامه!

لكن المتكلم هو الرسول (صلی الله علیه و آله) یخبر عن وحي ربه عزوجل، وعن حدث سوف یحدث لامحالة!

والراوي للكارثة البخاري الذي أعطوا كتابه درجة العصمة من الجلد الی الجلد!

إنها جرعةٌ مُرَّةٌ مذهلة للسني المسكین، الذي تعلَّم أن الحقیقة دائماً حلوة، وأن الحق دائماً مفصلٌ علی قامة الصحابة!

ص: 609

ولم یكتف النبي (صلی الله علیه و آله) بذلك، حتی أوقف المسلمین في الجحفة وأخذ بید علي وأعلنه إماماً بعده، وجعل له الولایة علی أمته، ونصب له خیمة وأمرهم أن یسلموا علیه بإمرة المؤمنین، ویباركوا له ولایته علیهم، فهنؤوه وباركوا له وبخبخوا له، وأمر نساءه أن یهنئنه فجئن إلی باب خیمته وهنأنه وباركن له!

ثم أراد النبي (صلی الله علیه و آله) قبیل وفاته، أن یبعد هؤلاء الصحابة بعیداً عن المدینة، فأرسلهم جمیعاً فی جیش أسامة الی مؤتة قرب القدس، وكان الجیش ثلاثة آلاف فیهم سبع مئة من قریش الطلقاء والمهاجرین. لكنهم اعترضوا علی قیادة أسامة بن السبع عشرة سنة، وسوفوا وتعللوا لمدة أسبوعین حتی توفي النبي (صلی الله علیه و آله) !

ثم أراد النبي (صلی الله علیه و آله) في مرض وفاته، أن یؤكد علیهم الحجة بوثیقة مكتوبة، فطلب منهم أن یأتوه بدواة وقرطاس، لیكتب لهم كتاباً لن یضلوا بعده أبداً.

ولكنهم رفضوا ذلك بشدة، ورفعوا في وجهه القرآن فقالوا له: حسبنا كتاب الله! ومعناه: أیها الرسول لانرید أن تكتب لنا أطیعوا بعدي علیاً، ثم أولاد ابنتي فاطمة حسناً ثم حسیناً، ثم تسعة من ذریة الحسین!

وغضبوا ولغطوا وصاحوا بالحاضرین: لاتقربوا له دواة ولا قرطاساً!

فغضب النبي (صلی الله علیه و آله) وطردهم، وقال لهم: قوموا عني فما أنا فیه من اعترافكم بنبوتي خیر مما تدعونني الیه لأن أصرَّ علیكم، فتعلنوا الردة!

فاعجب لأمة تنقلب علی نبیها في حیاته!

6- عقوبة المخالفین لوصیة النبي (صلی الله علیه و آله) في عترته (علیهم السلام)

من الأسالیب النبویة المبتكرة في خطب حجة الوداع، أنه (صلی الله علیه و آله) بعد حدیثه عن

أهل بیته:، أعلن مبدأ: «لعن من ادعی إلی غیر أبیه، أو تولی غیر موالیه»!

ففي مسند أحمد: 4/186: «خطبنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو علی ناقته فقال: ألا إن الصدقة لاتحل لي ولا لأهل بیتي، وأخذ وبرة من كاهل ناقته فقال: ولا ما یساوي هذه، أو ما یزن هذه. لعن الله من ادُعيَ إلی غیر أبیه، أو تولی غیر موالیه»! وسیأتي في فصل جیش أسامة تفسیر النبي (صلی الله علیه و آله) لهذه اللعنة بأنها علی من ترك ولایة أهل بیته.

ص: 610

7- قریش تكتب معاهدة لأخذ خلافة النبي (صلی الله علیه و آله) من بني هاشم

كانت قریش في حجة الوداع مستنفرة خوفاً من فرض النبي (صلی الله علیه و آله) خلافة عترته! وكان المتآمرون لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) في طریق تبوك موجودین معه في حجة الوداع! وقد فرحوا لأنه (صلی الله علیه و آله) لم یستطع أن یكشف أسماءهم، ولا أن یعاقبهم علی مؤامرة تبوك! واعتبروا ذلك انتصاراً بالحد الأدنی علیه (صلی الله علیه و آله) ! وكانوا یرون أنه ماضٍ في تركیز خلافة علي، فقد أشاد به في طریق تبوك، وفي المدینة بعد عودته، وسحب سورة براءة من أبي بكر وبعثه بها، لأن جبرئیل (علیه السلام) أمره بأنه لایبلغ عنه إلا هو أو رجل منه! ثم أشركه في أضاحیه لأنهما من ولد عبدالمطلب، وجعلها مئة ناقة علی عدد نذر عبدالمطلب عن أبیه عبدالله:.

ثم خص ابنته فاطمة (علیها السلام) بأضحیة وقال لها قومي فاشهدي أضحیتك، «المغني: 1/156» بینما ذبح عن كل نسائه بقرة المغني: 3/501.

وتواصلت أحادیثه في مدح علي وفاطمة والحسن والحسین:، فقال إن فاطمة سیدة نساء العالمین، والحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة، وإنهما إمامان قاما أو قعدا، وإن علیاً أسد الله وأسد رسوله، وولي المؤمنین بعده.

ثم أكد علی میزانیة«الخمس» التي شرعت من أول الهجرة لبني هاشم خاصة لینزههم عن الزكوات التی هي أوساخ الناس، وهذا أقصی الرفعة لهم!

ثم لم یرض بذلك حتی قرن عترته بالقرآن وأوصیٰ بهما الأمة، ثم بشر باثنی عشر إماماً ربانیین من عترته، أي أن إمامتهم من الله! فماذا بقي لقبائل قریش؟!

ثم تراه یتعمد الحدیث عن ظلم قریش ومحاصرتهم له ولبني هاشم سنین في شعب أبي طالب، فقد أعلن یوم الترویة: «منزلنا غداً إن شاء الله تعالی بخیف بني كنانة حیث تقاسموا علی الكفر».«صحیح بخاري: 2/158» ثم كرره بعد عرفات، «بخاري: 4/247». وكان أكد علیه یوم فتح مكة!

فلا حل عند قریش فی مواجهة هذا الإصرار النبوي إلا مواصلة العمل لقتل محمد! فإن لم یمكن فبالحیلولة بینه وبین إعلان علي خلیفة، بالتشویش علی

ص: 611

كلامه وبالقول للناس إنه لم یقل، وبالتهدید بإعلان الردة عندما یلزم ذلك!

وهو الأمر الذي یخاف منه النبي (صلی الله علیه و آله) كثیراً!

إن قراءة نصوص خطب النبي (صلی الله علیه و آله) في عرفات حتی بروایة السلطة، یكفي لمعرفة الجو الذي أوجدته قریش حول النبي (صلی الله علیه و آله)، وكیف كانت تترقب كلماته لتشوش علی ما لایناسبها وترفضه، وتأخذ ما یناسبها وتضخمه!

فقد كان یوم عرفات أهدأ مكان وأنسبه لأن یوصل النبي (صلی الله علیه و آله) ما یریده الی المحرمین الواقفین لربهم، فركب ناقته لیشاهدوه ویسمعوه، وكان صوته یصل الی أكثرهم، ودعا برجل جهوري الصوت فكان یُلقي الجملة ویقول له: أُصرخ بها، فیصرخ ویسمعها من لم یسمعها مباشرة.

لكن ما إن بشر أمته بالأئمة الإثني عشر من عترته، حتی ارتفعت الضجة واللغط«فضجوا وقاموا وقعدو وكبروا ولغطوا» وقال راوي قریش إن النبي قال: اثنا عشر إماماً، ثم قال كلمة لم أفهمها فسألت عمر فقال: كلهم من قریش!

قال أمیر المؤمنین (علیه السلام): «إن العرب كرهت أمر محمد (صلی الله علیه و آله) وحسدته علی ما آتاه الله من فضله واستطالت أیامه! حتی قذفت زوجته ونفرت به ناقته، مع عظیم إحسانه إلیها وجسیم مننه عندها! وأجمعت مذ كان حیاً علی صرف الأمر عن أهل بیته بعد موته»! شرح النهج: 20/298.

ولم تكتف قریش بأعمالها لعزل العترة، فكتبت معاهدة بذلك فی الكعبة!

ففي الكافي: 4/545: عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «كنت دخلت مع أبي الكعبة فصلی علی الرخامة الحمراء بین العمودین فقال: في هذا الموضع تعاقد القوم إن مات رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو قتل ألایردوا هذا الأمر في أحد من أهل بیته أبداً! قال قلت: ومن كان؟قال: كان الأول والثاني وأبو عبیدة بن الجراح وسالم بن الحبیبة»!

ففي تفسیر القمي: 1/173«فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا یرید محمد أن یجعل الإمامة في أهل بیته! فخرج أربعة نفر منهم إلی مكة ودخلوا الكعبة وتعاهدوا وتعاقدوا وكتبوا فیما بینهم كتاباً: إن مات محمد أو قتل أن لایردُّوا هذا الأمر في أهل بیته أبداً.».

ص: 612

وفي الإستغاثة: 2/66: «وكتبوا بینهم صحیفة بذلك، ثم جعلوا أبا عبیدة بینهم أمیناً علی تلك الصحیفة، وهي الصحیفة التي روت العامة أن أمیر المؤمنین دخل علی عمر وهو مسجی فقال: ما أبالي أن ألقی الله بصحیفة هذا المسجی، وكان عمر كاتب الصحیفة فلما أودعوه الصحیفة خرجوا من الكعبة الشریفة ودخلوا المسجد ورسول الله (صلی الله علیه و آله) فیه جالساً فنظر إلی أبي عبیدة فقال: هذا أمین هذه الأمة علی باطلها! یعني أمین النفر الذین كتبوا الصحیفة! فروت العامة أن رسول الله قال: أبوعبیدة أمین هذه الأمة»!

والمعنی أن النبي (صلی الله علیه و آله) قالها باستنكار، ولیس مدحاً لأبي عبیدة!

وعُرفت الصحیفة التی كتبوها فی حجة الوداع بالصحیفة الملعونة الثانیة، والأولی صحیفة مقاطعة المشركین لبني هاشم حتی یسلموهم النبي (صلی الله علیه و آله) !

وفي مختصر بصائر الدرجات/19: «عن أبان بن تغلب عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال إنه بلغ رسول الله عن بطنین من قریش كلام تكلموا به فقالوا: یری محمد أن لو قد قضی أن هذا الأمر یعود فی أهل بیته من بعده! فأعلم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذلك فباح في مجمع من قریش بما كان یكتمه فقال: كیف أنتم معاشر قریش وقد كفرتم بعدي ثم رأیتموني في كتیبة من أصحابي أضرب وجوهكم ورقابكم بالسیف؟!

قال: فنزل جبرئیل فقال: یا محمد قل إن شاء الله أو یكون ذلك علي بن أبي طالب إن شاء الله.فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أو یكون ذلك علي بن أبي طالب إن شاء الله.فقال جبرئیل: واحدة لك واثنتان لعلي بن أبي طالب، وموعدكم السلم! قال أبان: جعلت فداك وأین السلم؟ فقال: یا أبان السلم من ظهر الكوفة».

وفي تفسیر العیاشي: 1/334: «عن أبي عبدالله (علیه السلام) في قول الله: وَحَسِبُوا أَلا تَكونَ فِتْنَةٌ

قال: حیث كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) بین أظهرهم.فَعَمُوا وَصَمُّوا: حیث قبض رسول الله! ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَیهِمْ: حیث قام أمیر المؤمنین (علیه السلام).قال: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا.. إلی الساعة»!

وسیأتي أن أبي بن كعب (رحمة الله) كان یسمیهم أصحاب العقدة!

ص: 613

8 - نتیجة حجة الوداع عند قریش وعند النبي (صلی الله علیه و آله)

كان زعماء قریش یتكلمون عن خلافة النبي (صلی الله علیه و آله) ومیله الی ابن عمه وعترته وكأنهم لم یشموا رائحة الإسلام! وكأن محمداً (صلی الله علیه و آله) هو الذي یعطي الإمامة والخلافة من عنده، فأعطاها لبني هاشم تعصباً لهم وظلماً لقبائل قریش!

واعتبر القرشیون أن حجة الوداع مرَّت بسلام، فقد تحدث النبي (صلی الله علیه و آله) كثیراً عن عترته، والأئمة منهم الی آخر الدهر.. الخ. لكن كانوا مرتاحین لأنه لم یطلب منهم أن یبایعوا علیاً كبیر أهل البیت بصفته الإمام الأول من أئمة العترة:.

أما النبي (صلی الله علیه و آله) فاعتبر أنه بلَّغَ رسالة ربه في عترته بأقصی ما یمكنه، وأن قریشاً لا تتحمل أكثر من ذلك! ولو طلب منها بیعة علي بعده، لطعنت في نبوته وقالت إنه ینطق عن الهوی، ویرید إقامة ملك لبني هاشم كملك كسری وقیصر، وقادت حركة ردة في العرب بتخویفهم من ملك بني هاشم بعد النبي (صلی الله علیه و آله)، لأنه ملك یبدأ بعلي وهو في الثلاثینات من عمره، ثم یكون للحسن والحسین وهما دون العاشرة، ثم لایخرج من أبناء فاطمة إلی یوم القیامة، وتكون بطون قریش محكومة لبني هاشم ولایكون لها شئ!

لذلك أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن یؤخر بقیة تفسیره للولایة وإعلانه علیاً (علیه السلام) خلیفته الی المدینة، لكن جاءه الأمر الإلهی بأن یبلغ ذلك في طریق عودته من حجة الوداع عند غدیر خم، ووعده بعصمته من الناس وحفظ نبوته، فصدع بأمر ربه.

ففي الكافي: 1/289، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «أمر الله عزوجل رسوله بولایة علي وأنزل علیه: إِنَّمَا وَلِیكمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یقِیمُونَ الصَّلَوةَ وَیؤْتُونَ الزَّكاةَ وفرض ولایة أولي الأمر فلم یدروا ما هي؟ فأمر الله محمداً (صلی الله علیه و آله) أن یفسر لهم الولایة كما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج.

فلما أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وتخوف أن یرتدوا عن دینهم وأن یكذبوه! فضاق صدره وراجع ربه عزوجل فأوحی الله عزوجل إلیه: یا أَیهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَیك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ یعْصِمُك مِنَ النَّاسِ.. فصدع بأمر الله تعالی ذكره، فقام بولایة علي (علیه السلام) یوم غدیر خم، فنادی الصلاة جامعة، وأمر

ص: 614

الناس أن یبلغ الشاهد الغائب.

وقال أبوجعفر (علیه السلام): وكانت الفریضة تنزل بعد الفریضة الأخری وكانت الولایة آخر الفرائض، فأنزل الله عزوجل: الْیوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِینَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیكمْ نِعْمَتِي. قال أبوجعفر (علیه السلام): یقول الله عزوجل: لا أنزل علیكم بعد هذه فریضة، قد أكملت لكم الفرائض».

وفي تفسیر العیاشي: 1/331، عن ابن عباس وجابر بن عبدالله قالا: «أمر الله تعالی نبیه محمداً (صلی الله علیه و آله) أن ینصب علیاً (علیه السلام) علماً للناس ویخبرهم بولایته، فتخوف رسول الله أن یقولوا حابی ابن عمه، وأن یطعنوا في ذلك علیه! فأوحی الله إلیه: یاأَیهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَیك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ یعْصِمُك مِنَ النَّاسِ.. فقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) بولایته یوم غدیر خم».

وفي إقبال الأعمال: 2/241: «فخرجنا إلی مكة مع النبي (صلی الله علیه و آله) في حجة الوداع، فنزل جبرئیل فقال: یا محمد إن ربك یقرئك السلام ویقول: أنصب علیاً علماً للناس! فبكی النبي (صلی الله علیه و آله) حتی اخضلت لحیته وقال: یا جبرئیل إن قومي حدیثو عهد بالجاهلیة، ضربتهم علی الدین طوعاً وكرهاً حتی انقادوا لي، فكیف إذا حملت علی رقابهم غیري، قال: فصعد جبرئیل».

أقول: نصَّ حدیث الإمام الباقر (علیه السلام) علی أن فریضة الولایة لأولي الأمر من أهل البیت (علیهم السلام) نزلت فی المدینة قبل حجة الوداع، فأمر الله نبیه (صلی الله علیه و آله) بتفسیرها للمسلمین، لأن آیة: یا أَیهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الأمر مِنْكمْ..

في سورة النساء، وقد نزلت قبل حجة الوداع. وكانت أحادیث النبي (صلی الله علیه و آله) في حق علي والعترة: تفسیراً لها، ومنها بشارته بالأئمة الإثني عشر: في حجة الوداع.

ومعنی قوله (علیه السلام): «وراجع ربه عزوجل فأوحی الله عزوجل إلیه: یا أَیهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ..أنه قال لجبرئیل إن قومي حدیثو عهد بالإسلام وأخشی أن یرتدوا! فسكت جبرئیل ففهم منه الرخصة بأن یواصل خطته التدریجیة في التفسیر، حتی نزل جبرئیل (علیه السلام) فی غدیر خم بآیة التبلیغ، وفیها تشدید علی التبلیغ ووعد بعصمته من ارتداد الناس عن نبوته! فأمر حینئذ بإیقاف المسلمین وبلغهم أمر ربه.

ص: 615

الفصل الحادي والسبعون: بیعة علي (علیه السلام) یوم الغدیر

1- حدیث الغدیر في بیعة علي (علیه السلام) صحیح متواتر عندهم

حدیث الغدیر یهز المنكرین ویحیرهم، لأنه عندهم صحیحٌ متواترٌ، خاصة أنه حدث مستقل. وقد سمعت أحد علماء السلطة یقول متعجباً: لم یكن للنبي (صلی الله علیه و آله) أي شغل ولا هدف آخر في نزوله وخطبته في غدیر خم، إلا البیعة لعلي!

ومن أصح روایاته عندهم حدیث أبي هریرة في فضل صوم یوم الغدیر شكراً لله تعالی، ونصه: «من صام یوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب له صیام ستین شهراً وهو یوم غدیر خم لما أخذ النبي (صلی الله علیه و آله) بید علي بن أبي طالب فقال: ألست ولي المؤمنین؟ قالوا: بلی یا رسول الله. قال: من كنت مولاه فعلي مولاه. فقال عمر بن الخطاب بخٍ بخٍ لك یا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولی كل مسلم!فأنزل الله عزوجل: الْیوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِینَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیكمْ نِعْمَتِي وَرَضِیتُ لَكمُ الإسلام دِینًا».تاریخ دمشق: 42/233، تاریخ بغداد: 8/248 والمنتظم:5/233.

وقد استقصی السید المیلاني مصادره، وكلماتهم فیه، في نفحات الأزهار: 8/262.

وأورد الأمیني في الغدیر: 1/236 عدداً من علماء السنة رووه، وقال: «روایة أبي هریرة صحیحة الإسناد عند أساتذة الفن، منصوص علی رجالها بالتوثیق..

ومع صحة حدیث تاریخ بغداد ودمشق، علی شرط البخاري ومسلم، فقد حاول الذهبي الطعن فیه بدون دلیل، إلا التعصب»!

ص: 616

وأما ابن كثیر فزوَّر الحدیث وكذب جهاراً نهاراً، فزعم أن النبي (صلی الله علیه و آله) بین في خطبته یوم الغدیر أشیاء، ثم عالج مشكلة كانت بین علي وكثیر من الناس! وكلاهما كذب، فلم یبین فیها إلا ما یتصل بولایة علي (علیه السلام)، ولم یكن فیها أي معالجة للمشكلة المزعومة بین علي (علیه السلام) وأحد من الصحابة!

قال في النهایة: 5/408: «لما تفرغ النبي من بیان المناسك ورجع إلی المدینة خطب خطبة عظیمة الشأن في الیوم الثامن عشر من ذي الحجة بغدیر خم، تحت شجرة هناك، فبین فیها أشیاء، وذكر في فضل علي بن أبي طالب وأمانته وعدله وقربه إلیه، وأزاح به ما كان في نفوس كثیر من الناس منه، وقد اعتنی بأمر حدیث غدیر خم أبوجعفر الطبري، فجمع فیه مجلدین، وأورد فیها طرقه وألفاظه، وكذلك الحافظ الكبیر أبوالقاسم بن عساكر أورد أحادیث كثیرة فی هذه الخطبة». یحاول بذلك ابن كثیر أن یصوِّر القضیة بأن كثیراً من المسلمین كانوا غاضبین علی علي متحاملین علیه، فأوقفهم النبي (صلی الله علیه و آله) في غدیر خم لیرضِّیهم عنه ویزیح «ما في نفوس كثیر من الناس منه»! و«أشیاء» من هذا القبیل!

وارتكب العجلوني شبیهاً بتزویر ابن كثیر «كشف الخفاء: 2/258» ونقل تكذیب الذهبي للحدیث بدلیل واهٍ ولم یؤیده، لكنه لم یذكر أسانیده الصحیحة!

وارتكب التحریف قبلهم الحسن البصري، وهو من رواة السلطة القدماء، لكن المحرفین جمیعاً لم یبلغوا جنایة ابن كثیر!ولهذا یحبه الوهابیة، وینشرون كتبه؟!

ومن روایاته الصحیحة عندهم، ما رواه مسلم في صحیحه: 7/122: «عن یزید بن حیان قال: انطلقت أنا وحصین بن سبرة وعمر بن مسلم إلی زید بن أرقم فلما جلسنا إلیه قال له حصین: لقد لقیت یا زید خیراً كثیراً، رأیت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسمعت حدیثه، وغزوت معه، وصلیت خلفه، لقد لقیت یا زید خیراً كثیراً. حدثنا یا زید ما سمعت من رسول الله (صلی الله علیه و آله). قال: یا ابن أخي، والله لقد كبرت سني وقدم عهدي، ونسیت بعض الذي كنت أعي من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فما حدثتكم فاقبلوا، وما لا، فلا تكلفونیه. ثم قال: قام رسول الله

ص: 617

یوماً فینا خطیباً بماء یدعی خمّاً بین مكة والمدینة، فحمد الله وأثنی علیه ووعظ وذكر ثم قال: أما بعد، ألا أیها الناس، فإنما أنا بشر یوشك أن یأتي رسول ربي فأجیب، وأنا تارك فیكم ثقلین: أولهما كتاب الله فیه الهدی والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث علی كتاب الله ورغب فیه، ثم قال: وأهل بیتي، أذكركم الله فی أهل بیتي ثلاثاً، فقال له حصین: ومن أهل بیته یا زید؟ ألیس نساؤه من أهل بیته؟ قال: نساؤه من أهل بیته؟! ولكن أهل بیته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقیل وآل جعفر وآل عباس.قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم». «ورواه أحمد: 2/366، الحاكم: 2/148»، وفیهما وإنهما لن یتفرقا حتی یردا علی الحوض. وهو إخبارٌ بوجود إمام من أهل بیته (صلی الله علیه و آله) إلی یوم القیامة.

2- جبرئیل ینزل بآیة التبلیغ ویوقف قافلة النبي (صلی الله علیه و آله)

كان جبرئیل (علیه السلام) ینزل علی النبي (صلی الله علیه و آله) بأوامر ربه طوال حجة الوداع، وقد یملی علیه عبارات من خطبه. وكان قال له في المدینة: إن الله عزوجل یقول لك إنه قد دنا أجلك، ویأمرك أن تدل أمتك علی ولیهم، فاعهد عهدك واعمد الی ماعندك من العلم ومیراث الأنبیاء فورثه علیاً وأقمه للناس علماً، فإني لم أقبض نبیاً من أنبیائي إلا بعد إكمال دیني، ولم أترك أرضي بغیر حجة علی خلقي.. الخ.

ففی دعائم الإسلام: 1/14، أن رجلاً قال للإمام الباقر (علیه السلام): «یا ابن رسول الله إن الحسن البصري حدثنا أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: إن الله أرسلني برسالة فضاق بها صدري، وخشیت أن یكذبني الناس، فتواعدني إن لم أبلغها أن یعذبني؟ قال له أبوجعفر: فهل حدثكم بالرسالة؟ قال: لا، قال: أما والله إنه لیعلم ما هي ولكنه كتمها متعمداً! قال الرجل: یا ابن رسول الله جعلني الله فداك وما هي؟ فقال: إن الله تبارك وتعالی أمر المؤمنین بالصلاة في كتابه، فلم یدروا ما الصلاة ولا كیف یصلون، فأمر الله عزوجل محمداً نبیه (صلی الله علیه و آله) أن یبین لهم كیف یصلون، فأخبرهم بكل ما افترض الله علیهم من الصلاة مفسَّراً، وفرض الصلاة في القرآن جملة، ففسرها رسول الله (صلی الله علیه و آله) فی سنته وأعلمهم بالذي أمرهم به من الصلاة التي فرض الله علیهم. وأمر بالزكاة فلم

ص: 618

یدروا ما هي ففسرها رسول الله وأعلمهم بما یؤخذ من الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والزرع، ولم یدع شیئاً مما فرض الله من الزكاة إلا فسره لأمته وبینه لهم. وفرض علیهم الصوم فلم یدروا ما الصوم ولا كیف یصومون، ففسره لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبین لهم ما یتقون في الصوم وكیف یصومون. وأمر بالحج فأمر الله نبیه (صلی الله علیه و آله) أن یفسر لهم كیف یحجون حتی أوضح لهم ذلك فی سنته.

وأمر الله عزوجل بالولایة فقال: إِنَّمَا وَلِیكمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یقِیمُونَ الصَّلَوةَ وَیؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكعُونَ. ففرض الله ولایة ولاة الأمر فلم یدروا ما هي، فأمر الله نبیه (علیه السلام) أن یفسر لهم ما الولایة مثلما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج، فلما أتاه ذلك من الله عزوجل ضاق به رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذرعاً وتخوف أن یرتدوا عن دینه وأن یكذبوه، فضاق صدره وراجع ربه فأوحی إلیه: یاأَیهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَیك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ یعْصِمُك مِنَ النَّاسِ، فصدع بأمر الله وقام بولایة أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب صلوات الله علیه یوم غدیر خم ونادی لذلك: الصلاة جامعة وأمر أن یبلغ الشاهد الغائب.وكانت الفرائض ینزل منها شئ بعد شئ، تنزل الفریضة ثم تنزل الفریضة الأخری. وكانت الولایة آخر الفرائض فأنزل الله عزوجل: الْیوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِینَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیكمْ نِعْمَتِی وَرَضِیتُ لَكمُ الإسلام دِینًا، قال أبوجعفر: یقول الله عزوجل: لاأنزل علیكم بعد هذه الفریضة فریضة، قد أكملت لكم هذه الفرائض».

ونحوه في: 2/276، وفیه: «فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): یا جبرائیل أمتي حدیثة عهدٍ بجاهلیة، وأخاف علیهم أن یرتدوا، فأنزل الله عزوجل: یاأَیهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَیك مِنْ رَبِّك - في علي- وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ یعْصِمُك مِنَ النَّاسِ. فلم یجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) بداً من أن جمع الناس بغدیر خم فقال: أیها الناس إن الله عزوجل بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً فتواعدني إن لم أبلغها أن یعذبني، أفلستم تعلمون أن الله عزوجل مولاي وأني مولی المسلمین وولیهم وأولی بهم من أنفسهم؟ قالوا: بلی، فأخذ بید علي (علیه السلام) فأقامه ورفع یده بیده وقال: فمن كنت مولاه

ص: 619

فعلي مولاه، ومن كنت ولیه فهذا علي ولیه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حیث دار. ثم قال أبوجعفر (علیه السلام): فوجبت ولایة علي (علیه السلام) علی كل مسلم ومسلمة».

ونحوه العیاشي: 1/333، وفیه: «فقام إلیه رجل من أهل البصرة یقال له عثمان الأعشی، كان یروي عن الحسن البصری..إلی آخر ما تقدم».

وفي شرح الأخبار: 1/104: «قال جعفر بن محمد (علیه السلام) عن أبیه عن آبائه صلوات الله علیهم أجمعین: إن آخر ما أنزل الله عزوجل من الفرائض ولایة علي (علیه السلام) فخاف رسول الله (صلی الله علیه و آله) إن بلغها الناس أن یكذبوه ویرتد أكثرهم حسداً له، لما علمه في صدور كثیر منهم له! فلما حج حجة الوداع وخطب بالناس بعرفة، وقد اجتمعوا من كل أفق لشهود الحج معه، علمهم في خطبته معالم دینهم وأوصاهم وقال فی خطبته: إني خشیت ألا أراكم ولا تروني بعد یومي هذا في مقامي هذا، وقد خلفت فیكم ما إن تمسكتم به بعدي لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بیتي فإنهما لن یفترقا حتی یردا عَلَيَّ الحوض، حبل ممدود من السماء إلیكم طرفه بید الله وطرفه بأیدیكم، وأجمل (صلی الله علیه و آله) ذكر الولایة في أهل بیته إذ علم أن لیس فیهم أحد ینازع فیها علیاً (علیه السلام) وأن الناس إن سلموها لهم سلموها لعلي (علیه السلام)، واتقی علیه وعلیهم أن یقیمه هو بنفسه. فلما قضی حجه وانصرف وصار إلی غدیر خم أنزل الله عزوجل علیه: یا أَیهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَیك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ یعْصِمُك مِنَ النَّاسِ، فقام بولایة علي (علیه السلام) ونص علیه كما أمر الله تعالی فأنزل الله عزوجل: الْیوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِینَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیكمْ نِعْمَتِي وَرَضِیتُ لَكمُ الإسلام دِیناً».

3- خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) یوم الغدیر

جاءه جبرئیل (علیه السلام) بآیة التبلیغ وهو في كراع الغمیم، لخمس ساعات مضت من النهار، فخشع لربه وتَسَمَّرَ في مكانه، وأصدر أمره إلی المسلمین بالتوقف، وكان أولهم قد وصل إلی مشارف الجحفة، وهي بلدةٌ عامرة علی بعد میلین أو أقل، لكنه (صلی الله علیه و آله) أراد تنفیذ الأمر الإلهي فوراً في المكان الذی نزل فیه الوحي، ونادی منادیه:

ص: 620

أیها الناس أجیبوا داعي الله، وأمرهم أن یوقفوا من تأخر من المسلمین ویردوا من تقدم منهم. وتقدم نحو دوحة غدیر خم وأمرهم أن یكسحوا تحت الأشجار لتكون مكاناً لخطبته وللصلاة في ذلك الهجیر، فنصبوا له أحجاراً كهیئة المنبر، ووضعوا علیها حدائج الإبل فصارت أكثر ارتفاعاً، ووردوا ماء الغدیر فشربوا منه وتوضؤوا. ولم یتسع لهم المكان تحت دوحة الغدیر، وكانت ستَّ أشجارٍ كبیرة، فجلس بعضهم في الشمس، أو استظل بناقته.

عرفوا أن أمراً حدث، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) سیخطب، فقد نزل علیه وحي أوجب أن یوقفهم في هذا الهجیر، قبل محطة الجحفة القریبة! وصعد (صلی الله علیه و آله) منبر الأحجار والأحداج، وبدأ باسم الله تعالی وأخذ یرتل قصیدته في حمده والثناء علیه، ویشهد الله تعالی والناس علی عبودیته المطلقة لربه العظیم عزوجل. ثم قدم لهم عذره لأنه اضطر أن ینزلهم في مكان قلیل الماء والشجر، ولم یمهلهم إلی الجحفة المناسبة لنزول مثل هذا القافلة الكبیرة، وكلفهم الإستماع إلیه في حر الظهیرة!

أخبرهم (صلی الله علیه و آله) أن جبرئیل (علیه السلام) أمره أن یفسر للمسلمین فریضة الولایة ویقیم علیاً إماماً بعده للناس، قال لهم: إن الله عزوجل بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً وخفت الناس أن یكذبوني، فقلت في نفسي من غیر أن ینطق به لسانط: أمتي حدیثو عهد بالجاهلیة ومتی أخبرتهم بهذا في ابن عمي، یقول قائل ویقول قائل! فأتتني عزیمة من الله بَتْلة«قاطعة» في هذا المكان وتوعدني إن لم أبلِّغها لیعذبني! وقد ضمن لي العصمة من الناس وهو الكافي الكریم، فأوحی إليّ: یا أَیهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَیك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ یعْصِمُك مِنَ النَّاسِ، ثم قال (صلی الله علیه و آله): «لاإله إلا هو، لایؤمن مكره، ولا یخاف جوره أقرُّ له علی نفسي بالعبودیة وأشهد له بالربوبیة، وأؤدي ما أوحی إليّ حذراً من أن لاأفعل فتحل بي منه قارعةٌ، لایدفعها عني أحدٌ، وإن عظمت حیلته.

أیها الناس: إني أوشك أن أدعی فأجیب، فما أنتم قائلون؟

فقالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت.

ص: 621

فقال: ألیس تشهدون أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حقٌ وأن النار حقٌ وأن البعث حق؟

قالوا: بلی یا رسول الله. فأومأ رسول الله إلی صدره وقال: وأنا معكم.

قال (صلی الله علیه و آله): أنا لكم فرط وأنتم واردون عليَّ الحوض، وسعته ما بین صنعاء إلی بصری، فیه عدد الكواكب قِدْحان، ماؤه أشد بیاضاً من الفضة، فانظروا كیف تخلفوني في الثقلین. فقام رجل فقال: یا رسول الله وما الثقلان؟

قال: الأكبر كتاب الله طرفه بید الله وسبب طرفه بأیدیكم فاستمسكوا به ولا تزلوا ولا تضلوا. والأصغر: عترتي أهل بیتي أذكركم الله في أهل بیتی«ثلاثاً»وإنهما لن یفترقا حتی یردا عليَّ الحوض، سألت ربي ذلك لهما، فلا تقدموهم فتهلكوا ولا تتخلفوا عنهم فتضلوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم.

أیها الناس: ألستم تعلمون أن الله عزوجل مولاي وأنا مولی المؤمنین وأني أولی بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلی یا رسول الله.

قال: قم یا علي، فقام علي عن یمین النبي (صلی الله علیه و آله) فأخذ بیده ورفعها حتی بان بیاض إبطیهما، وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حیث دار.

فاعلموا معاشر الناس أن الله قد نصبه لكم ولیاً وإماماً مفترضةً طاعته علی المهاجرین والأنصار، وعلی التابعین لهم بإحسان، وعلی البادي والحاضر، وعلی الأعجمي والعربي، والحر والمملوك والصغیر والكبیر.

فقام أحدهم فسأله وقال: یا رسول الله ولاؤه كماذا؟ فقال (صلی الله علیه و آله): ولاؤه كولائي، من كنت أولی به من نفسه فعلي أولی به من نفسه»!

وأفاض النبي (صلی الله علیه و آله) في بیان مكانة علی والعترة والأئمة الإثني عشر من بعده: علي والحسن والحسین وتسعة من ذریة الحسین واحدٌ بعد واحد مع القرآن والقرآن معهم، لایفارقونه ولا یفارقهم حتی یردوا علی حوضي.

ثم أشهد المسلمین مراتٍ أنه قد بلغ عن ربه، فشهدوا له، وأمرهم أن یبلغ الشاهد

ص: 622

الغائب، فوعدوه. وقام إلیه آخرون فسألوه، فأجابهم.

وما إن أتم خطبته حتی نزل جبرئیل بقوله تعالی: الْیوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِینَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیكمْ نِعْمَتِي وَرَضِیتُ لَكمُ الإسلام دِینًا، فكبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: الله أكبر علی إكمال الدین وإتمام النعمة، ورضا الرب برسالتي وولایة علي بعدي. ونزل عن المنبر وأمر أن تنصب لعلي خیمة ویهنئه المسلمون بولایته علیهم ویبایعوه علی الولایة، وأمر نساءه فجئن إلی باب الخیمة وهنأنه!

وكان من أوائل المهنئین عمر بن الخطاب فقال له: بخٍ بخٍ لك یا بن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولی كل مؤمن ومؤمنة!

وجاء حسان بن ثابت وقال: إئذن لي یا رسول الله أن أقول في علي أبیاتاً:

ینادیهمُ یوم الغدیر نبیهُمْ *** بخمٍّ فأسمع بالرسول منادیا

یقول فمن مولاكمُ وولیكمْ *** فقالوا ولم یبدوا هناك التعامیا

إلهك مولانا وأنت ولینا *** ولم تر منا فی الولایة عاصیا

فقال له قم یا علي فإنني *** رضیتك من بعدي إماماً وهادیا

فمن كنت مولاه فهذا ولیه *** فكونوا له أنصار صدق موالیا

هناك دعا اللهم وال ولیه *** وكن للذي عادی علیاً معادیا

راجع: كمال الدین/276، أمالی الصدوق/50، الإحتجاج: 1/70، روضة الواعظین/ 89، المسترشد/117 والكافي: 4/ 148، الفقیه: 2/90، تهذیب الأحكام: 4/ 305 وثواب الأعمال/74 وغیرها.

وفي كتاب الغیبة للنعماني/74: «أن معاویة لما دعا أبا الدرداء وأبا هریرة ونحن مع أمیر المؤمنین علي صلوات الله علیه بصفین، فحملهما الرسالة إلی أمیر المؤمنین علي (علیه السلام) وأدیاها إلیه قال: قد بلغتماني ما أرسلكما به معاویة، فاستمعا مني وأبلغاه عني كما بلغتماني». قالا: نعم. وجاء في جوابه قوله (علیه السلام): «فنصبني رسول الله بغدیر خم وقال: إن الله عزوجل أرسلني برسالة ضاق بها صدري وظننت أن الناس یكذبونی، فأوعدني لأبلغنها أو لیعذبني! قم یا علي، ثم نادی

ص: 623

بأعلی صوته بعد أن أمر أن ینادي بالصلاة جامعة فصلی بهم الظهر ثم قال:

أیها الناس، إن الله مولای، وأنا مولی المؤمنین، وأنا أولی بهم منهم بأنفسهم، من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه.

فقام إلیه سلمان الفارسي فقال: یا رسول الله، ولاء ماذا؟ فقال: من كنت أولی به من نفسه فعلي أولی به من نفسه، فأنزل الله عزوجل: الْیوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِینَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیكمْ نِعْمَتِي وَرَضِیتُ لَكمُ الإسلام دِینًا، فقال له سلمان: یا رسول الله، أنزلت هذه الآیات في علي؟ قال: بل فیه وفي أوصیائي إلی یوم القیامة. فقال: یا رسول الله، بینهم لي. قال: علي أخي ووصیي وصهري ووارثي وخلیفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي، وأحد عشر إماماً من ولدي، أولهم ابني حسن، ثم ابني حسین، ثم تسعة من ولد الحسین واحداً بعد واحد، هم مع القرآن والقرآن معهم لا یفارقونه ولا یفارقهم حتی یردوا علی الحوض...

یا أیها الناس، إني قد أعلمتكم مفزعكم بعدي، وإمامكم وولیكم وهادیكم بعدي، وهو علي بن أبي طالب أخي، وهو فیكم بمنزلتي فقلدوه دینكم وأطیعوه في جمیع أموركم، فإن عنده جمیع ما علمني الله عزوجل، أمرني الله عزوجل أن أعلمه إیاه وأن أعلمكم أنه عنده، فاسألوه وتعلموا منه ومن أوصیائه، ولا تعلموهم ولا تتقدموا علیهم ولا تتخلفوا عنهم، فإنهم مع الحق والحق معهم، لا یزایلهم ولا یزایلونه». انتهی.

هذه خلاصة خطبة الغدیر، وهي أطول من ذلك، فقد روتها مصادرنا بصفحات وروتها مصادر السلطة بصفحة، والمطلب الأساسي فیها حدیث الثقلین، وولایة أولهم علي (علیه السلام)، وبخبخة عمر بن الخطاب! راجع: كمال الدین/276، الإحتجاج: 1/70، روضة الواعظین/89، المسترشد/117 وغیرها.

4- أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بنصب خیمة لعلي (علیه السلام) وتهنئته ومبایعته

ظهرت عصمة لله لرسوله (صلی الله علیه و آله) من الناس یوم الغدیر! فقد كمَّمَ أفواه قریش عن المعارضة وفتحها للموافقة فقالوا جمیعاً: نشهد أنك بلغت عن ربك وأنك نعم الرسول، سمعنا لك وأطعنا! وكبروا مع المكبرین عندما نزلت آیة: الْیوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِینَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیكمْ نِعْمَتِي!

ص: 624

ثم أصغوا جمیعاً إلی قصیدة حسان في وصف نداء النبي (صلی الله علیه و آله) وإبلاغه عن ربه ولایة علي (علیه السلام). ثم تهافتوا مع المهنئین إلی خیمة علي (علیه السلام)، واستمرت التهنئة من بعد صلاة العصر إلی ما شاء الله، وبعد صلاة المغرب والعشاء لیلة التاسع عشر من ذي الحجة، فقد بات النبي (صلی الله علیه و آله) في غدیر خم، وقیل بقي فیه یومان!

في مسارِّ الشیعة للمفید/38: «وفي الیوم الثامن عشر منه سنة عشر من الهجرة عقد رسول الله (صلی الله علیه و آله) لمولانا أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب العهد بالإمامة في رقاب الأمة كافة، وذلك بغدیرخم عند مرجعه من حجة الوداع، حین جمع الناس فخطبهم ووعظهم ونعی إلیهم نفسه، ثم قررهم علی فرض طاعته حسب ما نزل به القرآن وقال لهم... ثم نزل فأمر الكافة بالتسلیم علیه بإمرة المؤمنین تهنئة له بالمقام، وكان أول من هنأه بذلك عمر بن الخطاب».

وفي الإرشاد: 1/176: «ثم زالت الشمس فأذن مؤذنه لصلاة الفرض، فصلی بهم الظهر، وجلس (صلی الله علیه و آله) في خیمته وأمر علیاً (علیه السلام) أن یجلس في خیمة له بإزائه، ثم أمر المسلمین أن یدخلوا علیه فوجاً فوجاً فیهنؤوه بالمقام، ویسلموا علیه بإمرة المؤمنین، ففعل الناس ذلك كلهم، ثم أمر أزواجه وجمیع نساء المؤمنین معه أن یدخلن علیه ویسلمن علیه بإمرة المؤمنین ففعلن.

وكان ممن أطنب في تهنئته بالمقام عمر بن الخطاب فأظهر له المسرة به وقال فیما قال: بخ بخ یا علي، أصبحت مولاي ومولی كل مؤمن ومؤمنة»!

وفی كتاب سلیم بن قیس/356: «وأمر بنصب خیمة وأمر علیاً (علیه السلام) أن یدخل فیها وأول من أمرهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) هما أبو بكر وعمر، فلم یقوما إلا بعد ما سألا رسول الله (صلی الله علیه و آله): هل من أمر الله هذه البیعة؟ فأجابهما: نعم من أمر الله جل وعلا واعلما أن من نقض هذه البیعة كافر ومن لم یطع علیاً كافر، فإن قول علي قولي وأمره أمري، فمن خالف قول علي وأمره فقد خالفني»!

وفي مناقب آل أبي طالب: 2/237 عن أبي سعید الخدري: «ثم قال النبي (صلی الله علیه و آله): یا قوم هنئوني هنئونی، إن الله خصني بالنبوة، وخص أهل بیتي بالإمامة».

ص: 625

5- حجر من سجیل للمعترضین من قریش!

معنی قوله تعالی: «وَاللهُ یعْصِمُك مِنَ النَّاسِ» أنه تعالی تكفل بحفظ نبوة النبي وأن لا تقوم ضده حركة ردة إذا بلغ رسالة ربه في علي والعترة:. فهو ضمان لأن تتحمل قریش تبلیغ النبي (صلی الله علیه و آله) ولایة علي (علیه السلام) نظریاً، ولا یعني ضمان طاعتها وعدم اعتراضها، ولا عدم محاولتها قتل النبي (صلی الله علیه و آله) مجدداً!

لذلك بدأ الإعتراض یوم الغدیر، ووقعت محاولة قتل النبي (صلی الله علیه و آله) في طریق عودته من حجة الوداع، لكن لم تحدث حركة ردة عن نبوته (صلی الله علیه و آله) !

وروت مصادرنا وبعض مصادرهم ما قاله المعترضون القرشیون! واعتراض بعضهم نزول العذاب علیهم! وقد بحثنا ذلك في كتابنا آیات الغدیر.

ونكتفي هنا بما رواه في الكافي: 1/422 و 8/57 وتفسیر فرات/504 وفیه: «طُرحت الأقتاب لرسول الله (صلی الله علیه و آله) یوم غدیر خم، قال: فعلا علیها فحمد الله وأثنی علیه، ثم أخذ بعضد علي بن أبي طالب (علیه السلام) فاستلها فرفعها، ثم قال: اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله. فقام إلیه أعرابي من أوسط الناس فقال: یا رسول الله دعوتنا أن نشهد أن لاإله إلا الله فشهدنا، وأنك رسول الله فصدقنا، وأمرتنا بالصلاة فصلینا، وبالصیام فصمنا، وبالجهاد فجاهدنا، وبالزكاة فأدینا، قال: ولم یقنعك إلا أن أخذت بید هذا الغلام علی رؤوس الأشهاد فقلت: اللهم من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله! فهذا عن الله أم عنك؟! قال: هذا عن الله، لاعني! قال: آلله الذي لاإله إلا هو لهذا عن الله لاعنك!قال: آلله الذي لاإله إلا هو لهذا عن الله لاعني.

ثم قال ثالثة: آلله الذي لاإله إلا هو لهذا عن ربك لاعنك؟

قال: آلله الذي لاإله إلا هو لهذا عن ربي لاعني.

قال: فقام الأعرابي مسرعاً إلی بعیره وهو یقول: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَالْحَقَّ مِنْ عِنْدِك فَأَمْطِرْ عَلَینَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِیمٍ. قال: فما استتم الأعرابي الكلمات حتی

ص: 626

نزلت علیه نار من السماء فأحرقته، وأنزل الله في عقب ذلك: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِع ٍ. لِلْكافِرِینَ لَیسَ لَهُ دَافِعٌ. مِنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ».

وأقدم من روی ذلك من أئمة السنیین أبو عبید الهروي في: غریب القرآن، قال: «لما بَلَّغَ رسول بغدیر خم ما بَلَّغ وشاع ذلك في البلاد أتی جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري فقال: یا محمد! أمرتنا عن الله بشهادة أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، فقبلنا منك ثم لم ترض بذلك حتی رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علینا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه! فهذا شئ منك أم من الله؟! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): والذی لاإله إلا هو إن هذا إلا من الله. فولی جابر یرید راحلته وهو یقول: اللهم إن كان ما یقول محمد حقاً فَأَمْطِرْ عَلَینَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِیمٍ! فما وصل إلیها حتی رماه الله بحجر فسقط علی هامته وخرج من دبره وقتله، وأنزل الله تعالی: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ.. الآیة».

6- نزلت ثلاث آیات في بیعة الغدیر

فأولها قوله تعالی: یا أَیهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَیك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ یعْصِمُك مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا یهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِینَ. المائدة: 67.

والثانیة: قوله تعالی: الْیوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِینَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیكمْ نِعْمَتِي وَرَضِیتُ لَكمُ الإسلام دِینًا.«المائدة: 3». نزلت بعد أن خطب النبي (صلی الله علیه و آله) ونصب علیاً (علیه السلام) خلیفته.

والثالثة: قوله تعالی: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ. لِلْكافِرِینَ لَیسَ لَهُ دَافِعٌ.«المعارج: 1-2»

نزلت عندما اعترض علی النبي (صلی الله علیه و آله) معترضون من قریش.

وفي كل واحدة منها حدیث صحیح في مصادرنا ومصادر أتباع السلطة، وقد فصلناها في رسالة: تفسیر آیات الغدیر.

ص: 627

7- محاولة قریش اغتیال النبي (صلی الله علیه و آله) بعد یوم الغدیر!

في بحار الأنوار: 2/97: «فأقبل بعضهم علی بعض وقالوا: إن محمداً یرید أن یجعل هذا الأمر في أهل بیته، كسنة كسری وقیصر إلی آخر الدهر! لا والله مالكم في الحیاة من حظ، إن أفضی هذا الأمر إلی علي بن أبي طالب! وإن محمداً عاملكم علی ظاهركم وإن علیاً یعاملكم علی ما یجد في نفسه منكم! فأحسنوا النظر لأنفسكم في ذلك وقدموا رأیكم فیه. ودار الكلام فیما بینهم وأعادوا الخطاب وأجالوا الرأي، فاتفقوا علی أن ینفروا بالنبي (صلی الله علیه و آله) ناقته علی عقبة هرشی، وقد كانوا عملوا مثل ذلك في غزوة تبوك، فصرف الله الشر عن نبیه (صلی الله علیه و آله)».

وفي تفسیر القمي: 1/174: «فقال أصحابه الذین ارتدوا بعده: قد قال محمد فی مسجد الخیف ما قال، وقال هاهنا ما قال، وإن رجع إلی المدینة یأخذنا بالبیعة له! فاجتمعوا أربعة عشر نفراً وتآمروا علی قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقعدوا في العقبة وهي عقبة هرشی بین الجحفة والأبواء، فقعدوا سبعة عن یمین العقبة وسبعة عن یسارها، لینفروا ناقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما جن اللیل تقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في تلك اللیلة العسكر فأقبل ینعس علی ناقته، فلما دنا من العقبة ناداه جبرئیل: یا محمد إن فلاناً وفلاناً وفلاناً قد قعدوا لك، فنظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: من هذا خلفي؟ فقال حذیفة الیماني: أنا یا رسول الله حذیفة بن الیمان، قال: سمعت ما سمعت؟ قال: بلی. قال: فاكتم، ثم دنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) منهم فناداهم بأسمائهم، فلما سمعوا نداء رسول الله (صلی الله علیه و آله) فروا ودخلوا في غمار الناس، وقد كانوا عقلوا رواحلهم فتركوها! ولحق الناس برسول الله وطلبوهم وانتهی رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلی رواحلهم فعرفهم، فلما نزل قال: ما بال أقوام تحالفوا في الكعبة إن مات محمد أو قتل ألا یردوا هذا الأمر في أهل بیته أبداً؟!

فجاؤوا إلی رسول الله (صلی الله علیه و آله) فحلفوا أنهم لم یقولوا من ذلك شیئاً ولم یریدوه ولم یكتموا شیئاً من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأنزل الله: یا أَیهَا النَّبِي جَاهِدِ الْكفَّارَ وَالْمُنَافِقِینَ وَاغْلُظْ عَلَیهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِیرُ. یحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا: أن لا یردوا هذا الأمر في أهل بیت رسول الله (صلی الله علیه و آله). وَلَقَدْ قَالُوا كلِمَةَ الْكفْرِ وَكفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ ینَالُوا: من

ص: 628

قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله). وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ...

فرجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلی المدینة وبقي بها محرم والنصف من صفر لا یشتكي شیئاً ثم ابتدأ به الوجع الذي توفي فیه (صلی الله علیه و آله)».

وفي كتاب سُلَیم/271، عن أبي ذر (رحمة الله) أن بعض الصحابة تعاقدوا في الكعبة في حجة الوداع وقالوا: «ما بال هذا الرجل ما زال یرفع خسیسة ابن عمه! وقال أحدهما:

إنه لیحسن أمر ابن عمه! وقال الجمیع: ما لنا عنده خیر ما بقي علي».

وفی الإقبال: 2/249: «فلما كان في تلك اللیلة قعد له (علیه السلام) أربعة عشر رجلاً في العقبة لیقتلوه، وهي عقبة بین الجحفة والأبواء، فقعد سبعة عن یمین العقبة وسبعة عن یسارها لینفروا ناقته، فلما أمسی رسول الله (صلی الله علیه و آله) صلی وارتحل، وتقدم أصحابه وكان (صلی الله علیه و آله) علی ناقة ناجیة، فلما صعد العقبة ناداه جبرئیل: یامحمد إن فلاناً وفلاناً وسماهم كلهم..»!

ص: 629

الفصل الثاني والسبعون: جیش أسامة وهدف النبي (صلی الله علیه و آله) منه

1- عاش النبي (صلی الله علیه و آله) سبعین یوماً بعد حجة الوداع

عاد النبي (صلی الله علیه و آله) الی المدینة من حجة الوداع في أواخر ذي الحجة، وأمضی بقیة أیامه في المدینة. وهي نحو سبعین یوماً حسب روایتنا، لأن وفاته (صلی الله علیه و آله) عندنا في الثامن والعشرین من صفر. ونحو ثمانین یوماً في روایة السلطة، لأن وفاته عندهم في الثاني عشر من ربیع. وفي هذه المدة وقعت أحداث وأمور، ونزلت آیات، وصدرت منه (صلی الله علیه و آله) خطب وأحادیث!

2- عَرَضَ الأنصار علی النبي (صلی الله علیه و آله) ثلث أموالهم

في الكافي: 1/293، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «فلما قدم المدینة «من حجة الوداع» أتته الأنصار فقالوا: یا رسول الله إن الله جل ذكره قد أحسن إلینا وشرفنا بك وبنزولك بین ظهرانینا، فقد فرح الله صدیقنا وكبت عدونا. وقد یأتیك وفود فلا تجد ما تعطیهم فیشمت بك العدو، فنحب أن تأخذ ثلث أموالنا حتی إذا قدم علیك وفد وجدت ما تعطیهم. فلم یردَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) علیهم شیئاً، وكان ینتظر مایأتیه من ربه، فنزل جبرئیل (علیه السلام) وقال: قُلْ لا أَسْئَلُكمْ عَلَیهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی، ولم یقبل أموالهم فقال المنافقون: ما أنزل الله هذا علی محمد وما یرید إلا أن یرفع بضبع ابن عمه ویحمل علینا أهل بیته! یقول أمس: من كنت مولاه فعلي مولاه والیوم: قُلْ لا أَسْئَلُكمْ عَلَیهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی. ثم [كان] نزل علیه آیة الخمس فقالوا یرید أن یعطیهم أموالنا وفیأنا! ثم أتاه جبرئیل فقال: یا محمد إنك قد قضیت نبوتك

ص: 630

واستكملت أیامك، فاجعل الإسم الأكبر ومیراث العلم وآثار علم النبوة عند علي (علیه السلام)، فإني لم أترك الأرض إلا ولی فیها عَلَمٌ تُعرف به طاعتي وتعرف به ولایتي، ویكون حجة لمن یولد بین قبض النبي إلی خروج النبي الآخر.

قال: فأوصی إلیه بالإسم الأكبر ومیراث العلم وآثار علم النبوة، وأوصی إلیه بألف كلمة وألف باب، یفتح كل كلمة وكل باب ألف كلمة وألف باب».

وفي الإرشاد: 1/179، أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «أیها الناس، إني فرطكم وأنتم واردون علي الحوض، ألا وإني سائلكم عن الثقلین فانظروا كیف تخلفوني فیهما، فإن اللطیف الخبیر نبأني أنهما لن یفترقا حتی یلقیاني، وسألت ربي ذلك فأعطانیه. ألا وإني قد تركتهما فیكم: كتاب الله وعترتي أهل بیتي، فلا تسبقوهم فتفرقوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم.

أیها الناس، لا ألفینكم بعدي ترجعون كفاراً یضرب بعضكم رقاب بعض فتلقوني في كتیبة كمجری السیل الجرار! ألا وإن علي بن أبي طالب أخي ووصیي یقاتل بعدي علی تأویل القرآن كما قاتلت علی تنزیله. فكان یقوم مجلساً بعد مجلس بمثل هذا الكلام ونحوه. ثم إنه عقد لأسامة بن زید بن حارثة الإمرة».

أقول: أكد القرآن علی أن الأنبیاء: كانوا یقولون لأممهم إنهم لایطلبون منهم أجراً علی تبلیغ الرسالة، وكذلك نبینا (صلی الله علیه و آله)، قال تعالی: قُلْ لا أَسْأَلُكمْ عَلَیهِ أَجْرًا إِنْ هُوَإِلا ذِكرَی لِلْعَالَمِینَ. وقال تعالی: وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَیهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَإِلا ذِكرٌ لِلْعَالَمِینَ.

لكنه خص هذه الأمة بأن جعل أجر نبیها (صلی الله علیه و آله) محبتها وطاعتها لعترته: فقال: قُلْ لا أَسْئَلُكمْ عَلَیهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی وَمَنْ یقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِیهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ

غَفُورٌ شَكورٌ. الشوری: 23.

ثم بین لهم أن هذا الأجر هو السبیل الی رضا الله تعالی وثوابه فقال: قُلْ مَا أَسْأَلُكمْ عَلَیهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ یتَّخِذَ إِلَی رَبِّهِ سَبِیلاً.

ثم قال لهم إن هذا الأجر الذي فرضه الله علی هذه الأمة لیس غرماً علیها بل غنمٌ لها، فقال: قُلْ مَا سَأَلْتُكمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكمْ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَی اللهِ. أي أنتم المنتفعون به لأنكم بمودتهم وطاعتهم لاتضلون.

ص: 631

وفي تفسیر فرات/392، عن عطاء بن أبي رباح قال: «قلت لفاطمة بنت الحسین: أخبریني جعلت فداك بحدیث أحدث، وأحتج به علی الناس. قالت: نعم، أخبرني أبي أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان نازلاً بالمدینة وأن من أتاه من المهاجرین عرضوا أن یفرضوا لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فریضة یستعین بها علی من أتاه، فأتوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقالوا: قد رأینا ما ینوبك من النوائب، وإنا أتیناك لتفرض فریضة تستعین بها علی من أتاك. قال: فأطرق النبي (صلی الله علیه و آله) طویلاً ثم رفع رأسه فقال: إني لم أؤمر أن آخذ منكم علی ما جئتم به شیئاً، إنطلقوا فإني لم أؤمر بشئ وإن أمرت به أعلمتكم. قال: فنزل جبرئیل فقال: یا محمد إن ربك قد سمع مقالة قومك وما عرضوا علیك وقد أنزل الله علیهم فریضة: قُلْ لا أَسْئَلُكمْ عَلَیهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَی.. قال فخرجوا وهم یقولون: ما أراد رسول الله إلا أن تذل الأشیاء وتخضع الرقاب ما دامت السماوات والأرض لبني عبدالمطلب.

قال: فبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلی علي بن أبي طالب أن اصعد المنبر وادع الناس إلیك ثم قل: أیها الناس من انتقص أجیراً أجره فلیتبوأ مقعده من النار! ومن ادعی إلی غیر موالیه فلیتبوأ مقعده من النار! ومن انتفی من والدیه فلیتبوأ مقعده من النار! قال: فقام رجل وقال: یا أبا الحسن ما لهن من تأویل؟ فقال: الله ورسوله أعلم. فأتی رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره، فقال رسول الله: ویل لقریش من تأویلهن، ثلاث مرات! ثم قال: یا علي انطلق فأخبرهم أني أنا الأجیر الذي أثبت الله مودته من السماء، ثم أنا وأنت مولی المؤمنین، وأنا وأنت أبوا المؤمنین»!

أقول: یظهر أن هؤلاء قرشیون جاؤوا الی النبي (صلی الله علیه و آله) بعد مجئ الأنصار، وطلبوا أن یفرضوا له فریضة في أموالهم، فأجابهم بآیة المودة في القربی، فنكصوا!

وفي الكافي: 1/293، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «أوصی موسی (علیه السلام) إلی یوشع بن نون وأوصی یوشع بن نون إلی ولد هارون، ولم یوص إلی ولده ولا إلی ولد موسی، إن الله تعالی له الخیرة یختار من یشاء ممن یشاء. وبشرموسی ویوشع بالمسیح، فلما أن بعث الله عزوجل المسیح قال المسیح لهم إنه سوف یأتي من بعدي نبي إسمه أحمد، من ولد إسماعیل، یجئ بتصدیقي وتصدیقكم، وعذري وعذركم. وجرت من بعده في الحواریین

ص: 632

في المستحفظین، وإنما سماهم الله تعالی المستحفظین لأنهم استحفظوا الإسم الأكبر وهو الكتاب الذي یعلم به علم كل شئ، الذي كان مع الأنبیاء صلوات الله علیهم. یقول الله تعالی: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَینَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكتَابَ وَالْمِیزَانَ. الكتاب الإسم الأكبر. فلم تزل الوصیة في عالم بعد عالم حتی دفعوها إلی محمد (صلی الله علیه و آله).

وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) یتألفهم ویستعین ببعضهم علی بعض، ولا یزال یخرج لهم شیئاً في فضل وصیه... وقال: إني تارك فیكم أمرین إن أخذتم بهما لن تضلوا: كتاب الله عزوجل و أهل بیتي عترتي...فلا تسبقوهم فتهلكوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم... فوقعت الحجة بقول النبي (صلی الله علیه و آله) وبالكتاب الذی یقرأه الناس فلم یزل یلقي فضل أهل بیته بالكلام ویبین لهم القرآن.فلما رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من حجة الوداع نزل علیه جبرئیل فقال: یا أَیهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَیك مِنْ رَبِّك...

فنادی الناس، فوقعت حسیكة النفاق في قلوب القوم وقالوا: ما أنزل الله جل ذكره هذا علی محمد قط، وما یرید إلا أن یرفع بضبع ابن عمه»!

3- النبي (صلی الله علیه و آله) یجهر بالحقیقة ویتحدی قریشاً!

وقد بدأ النبي (صلی الله علیه و آله) هذا التحدی في حجة الوداع بصیغة اللعنة النبویة علی من ادعی لغیر أبیه، كما تقدم! فقد روی ابن ماجة: 2/905، أنه (صلی الله علیه و آله) خطبهم في حجة الوداع علی راحلته فقال: «ومن ادعی إلی غیر أبیه أو تولی غیر موالیه، فعلیه لعنة الله والملائكة والناس أجمعین، لا یقبل منه صرف ولا عدل» والترمذي: 2/293، أحمد: 4/239، الدارمي:2/244 و 344 والبخاري: 2/221، و 4/67..

واستعمل النبي (صلی الله علیه و آله) هذا الأسلوب عمداً لتنقله الأجیال ولا تطمسه قریش! وقد روت مصادرهم أنه كتبه في صحیفة صغیرة معلقة في ذؤابة سیفه الذي ورَّثه لعلي (علیه السلام)، فرواه بخاري في صحیحه: 4/67، مسلم: 4/115، بروایات والترمذي: 3/297، وفي تلك الصحیفة لعن من تولی غیر موالیه! ویقصد بذلك من تولی غیره وغیر علي (علیه السلام)، لأنهما الأبوان المعنویان لهذه الأمة!

ص: 633

ویدل علیه أن الولد الذي یهرب من أبیه وینتسب الی آخر ویتوب، تقبل توبته! بینما هذا الذي لعنه النبي (صلی الله علیه و آله) لا یقبل منه صرف أي توبة، ولا عدل أي فدیة! فهي عقوبة الردة والخروج من الملة، ولیست عقوبة ولد یدعو نفسه لغیر أبیه!سنن البیهقي: 8/26، الزوائد: 1/9، وكنز العمال: 5/872 و10/324.

وقد رووا هذه اللعنة بعد ذكر النبي (صلی الله علیه و آله) لأهل بیته وحقهم في الخمس.

ففي مسند أحمد: 4/186: «خطبنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو علی ناقته فقال: ألا إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بیتي، وأخذ وبرة من كاهل ناقته، فقال: ولا ما یساوي هذه أو ما یزن هذه.لعن الله من ادعي إلی غیرأبیه، أو تولی غیر موالیه»!

وفسرته بذلك مصادرنا. وروت أن النبي (صلی الله علیه و آله) استعمله عندما كثر طلقاء قریش في المدینة، وتصاعد عملهم ضد أهل بیته: وقالوا: إنما مثل محمد في بني هاشم كمثل نخلة نبتت في كبا، أي مزبلة! فبلغ ذلك النبي فغضب وأمر علیاً (علیه السلام) أن یصعد المنبر ویجیبهم وقال له: «یا علي إنطلق حتی تأتي مسجدي ثم تصعد منبري، ثم تدعو الناس إلیك، فتحمد الله تعالی وتثني علیه وتصلي عَلَيَّ صلاة كثیرة، ثم تقول: أیها الناس إني رسول رسول الله إلیكم وهو یقول لكم: إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربین وأنبیائه المرسلین ولعنتي علی من انتمی إلی غیر أبیه، أو ادعی إلی غیر موالیه، أو ظلم أجیراً أجره! فأتیت مسجده وصعدت منبره، فلما رأتني قریش ومن كان في المسجد أقبلوا نحوي فحمدت الله وأثنیت علیه، وصلیت علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) صلاة كثیرة ثم قلت: أیها الناس إني رسول رسول الله إلیكم وهو یقول لكم: ألا إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربین وأنبیائه المرسلین ولعنتي، علی من انتمی إلی غیر أبیه، أو ادعی إلی غیر موالیه، أو ظلم أجیراً أجره. قال: فلم یتكلم أحد من القوم إلا عمر بن الخطاب فإنه قال: قد أبلغت یا أبا الحسن ولكنك جئت بكلام غیر مفسر، فقلت: أُبْلِغُ ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) فرجعت إلی النبي (صلی الله علیه و آله) فأخبرته الخبر فقال: إرجع إلی مسجدي حتی تصعد منبري فاحمد الله وأثن علیه وصل علی ثم قل: أیها الناس، ما كنا لنجیئكم بشئ إلا وعندنا تأویله وتفسیره، ألا وإني أنا أبوكم، ألا وإني أنا مولاكم ألاوإني أنا أجیركم»!أمالی المفید/353 و الطوسي/123.

ص: 634

4- جیش أسامة لإفراغ المدینة من خصوم علي (علیه السلام)

في الإرشاد: 1/179: «ثم إنه عقد لأسامة بن زید بن حارثة الإمرة، وندبه أن یخرج بجمهور الأمة إلی حیث أصیب أبوه من بلاد الروم، واجتمع رأیه (علیه السلام) علی إخراج جماعة من متقدمي المهاجرین والأنصار في معسكره، حتی لا یبقی في المدینة عند وفاته (صلی الله علیه و آله) من یختلف في الرئاسة ویطمع في التقدم علی الناس بالإمارة ویستتب الأمر لمن استخلفه من بعده، ولا ینازعه في حقه منازع. فعقد له الأمرة علی من ذكرناه وجدَّ (صلی الله علیه و آله) في إخراجهم، فأمر أسامة بالبروز عن المدینة بمعسكره إلی الجرف، وحث الناس علی الخروج إلیه والمسیر معه وحذرهم من التلوُّم والإبطاء عنه. فبینا هو فی ذلك إذ عرضت له الشكاة التی توفي فیها، فلما أحس بالمرض الذي عراه أخذ بید علي بن أبي طالب (علیه السلام) واتبعه جماعة من الناس وتوجه إلی البقیع، فقال لمن تبعه: إننی قد أمرت بالإستغفار لأهل البقیع، فانطلقوا معه حتی وقف بین أظهرهم فقال (صلی الله علیه و آله): السلام علیكم یا أهل القبور، لیهنئكم ما أصبحتم فیه مما فیه الناس، أقبلت الفتن كقطع اللیل المظلم یتبع أولها آخرها!

ثم استغفر لأهل البقیع طویلاً وأقبل علی أمیر المؤمنین فقال: إن جبرئیل (علیه السلام) كان یعرض علي القرآن كل سنة مرة، وقد عرضه عَلَيَّ العام مرتین، ولا أراه إلا لحضور أجلي».

وفي إعلام الوری: 1/263: «ولما قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) المدینة من حج الوداع بعث بعده أسامة بن زید وأمره أن یقصد حیث قتل أبوه، وقال له: أوطئ الخیل أواخر الشام من أوائل الروم. وجعل في جیشه وتحت رایته أعیان المهاجرین ووجوه الأنصار وفیهم أبو بكر وعمر وأبو عبیدة. وعسكر أسامة بالجرف فاشتكی رسول الله (صلی الله علیه و آله) شكواه التی توفی فیها، وكان یقول في مرضه: نفذوا جیش أسامة ویكرر ذلك، وإنما فعل ذلك لئلا یبقی فی المدینة عند وفاته من یختلف في الإمامة ویطمع في الإمارة، ویستوسق الأمر لأهله».

ص: 635

وفي كتاب سلیم بن قیس (رحمة الله) /424: «وفي ذلك الجیش أبو بكر وعمر، فقال كل واحد منهما: لاینتهي یستعمل علینا هذا الصبي العبد»!

وقال ابن حجر في فتح الباري: 8/115، وهو من كبار أئمة السلطة: «وقد أنكر ابن تیمیة في كتاب الرد علی ابن المطهر أن یكون أبو بكر وعمر في بعث أسامة، ومستند ما ذكرناه ما أخرجه الواقدی بأسانیده في المغازي، وذكره ابن سعد أواخر الترجمة النبویة بغیر إسناد، وذكره ابن إسحاق في السیرة المشهورة ولفظه: بدأ برسول الله (صلی الله علیه و آله) وجعه یوم الأربعاء فأصبح یوم الخمیس فعقد لأسامة فقال: أُغز في سبیل الله وسر إلی موضع مقتل أبیك، فقد ولیتك هذا الجیش. فذكر القصة وفیها: لم یبق أحد من المهاجرین الأولین إلا انتدب في تلك الغزوة منهم أبو بكر وعمر.. وعند الواقدي أن عدة ذلك الجیش كانت ثلاثة آلاف، فیهم سبعمائة من قریش».

أقول: أوردنا كلام ابن حجر لإثبات أن النبي (صلی الله علیه و آله) تعمد أن یفرغ المدینة من القرشیین، ومن كل من یمكن أن یعارض استخلاف علي (علیه السلام).

وتعمد أن یؤمِّر علیهم أسامة الشاب الأسود ابن الثمان أو السبع عشرة سنة، حتی لایعترض أحد علی سن علي (علیه السلام) الذي كان في الثالثة والثلاثین من عمره.

كما نلاحظ أن النبي (صلی الله علیه و آله) أخبر عن النتائج السیئة لما یجري حوله، وأطلق تحذیره لأجیال الأمة من الفتن التي سیسببها طمع قریش في خلافته!

وروی ابن هشام: 4/1057 قوله (صلی الله علیه و آله) لعائشة لما رجع من البقیع وتحدث عن الفتن: «ما ضرك لو مِتِّ قبلي فقمت علیك وكفنتك وصلیت علیك ودفنتك؟ قالت قلت: والله لكأني بك لو قد فعلتُ ذلك، لقد رجعت إلی بیتي فأعرست فیه ببعض نسائك»!

5- أمیر المؤمنین (علیه السلام) یصف عملهم لإفشال جیش أسامة

فی الخصال/371، عن أمیر المؤمنین (علیه السلام)، في جوابه للحبر الیهودي عن امتحانات الله للوصي النبي، قال (علیه السلام): «وأما الثانیة یا أخا الیهود، فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمَّرني في حیاته علی جمیع أمته، وأخذ علی من حضره منهم البیعة بالسمع والطاعة لأمري، وأمرهم أن یبلغ الشاهد الغائب في ذلك، فكنت المؤدي إلیهم عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمره

ص: 636

إذا حضرته، والأمیر علی من حضرني منهم إذا فارقته، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شئ من الأمور، في حیاة النبي (صلی الله علیه و آله) ولا بعد وفاته.

ثم أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بتوجیه الجیش الذي وجهه مع أسامة بن زید، عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فیه، فلم یدع النبي أحداً من أفناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغیرهم من سائر الناس، ممن یخاف علی نقضه ومنازعته، ولا أحداً ممن یراني بعین البغضاء ممن قد وترته بقتل أبیه أو أخیه أو حمیمه، إلا وجهه في ذلك الجیش، ولا من المهاجرین والأنصار والمسلمین وغیرهم، والمؤلفة قلوبهم والمنافقین، لتصفو قلوب من یبقی معي بحضرته، ولئلا یقول قائل شیئاً مما أكرهه، ولا یدفعني دافع من الولایة والقیام بأمر رعیته من بعده. ثم كان آخر ما تكلم به في شئ من أمر أمته أن یمضي جیش أسامة ولا یتخلف عنه أحد ممن أنهض معه، وتقدم في ذلك أشد التقدم، وأوعز فیه أبلغ الإیعاز، وأكد فیه أكثر التأكید!

فلم أشعر بعد أن قبض النبي (صلی الله علیه و آله) إلا برجال من بعث أسامة بن زید وأهل عسكره، قد تركوا مراكزهم وأخلوا مواضعهم، وخالفوا أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فیما أنهضهم له وأمرهم به، وتقدم إلیهم من ملازمة أمیرهم والسیر معه تحت لوائه، حتی ینفذ لوجهه الذی أنفذه إلیه، فخلفوا أمیرهم مقیماً في عسكره، وأقبلوا یتبادرون علی الخیل ركضاً إلی حل عقدة عقدها الله عزوجل لي ولرسوله (صلی الله علیه و آله) فی أعناقهم، فحلوها، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم، واختصت به آراؤهم، من غیر مناظرة لأحد منا بني عبدالمطلب، أو مشاركة في رأي، أو استقالة لما في أعناقهم من بیعتي! فعلوا ذلك وأنا برسول الله (صلی الله علیه و آله) مشغول، وبتجهیزه عن سائر الأشیاء مصدود، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها!

فكان هذا یا أخا الیهود أقرح ما ورد علی قلبي مع الذي أنا فیه من عظیم الرزیة وفاجع المصیبة، وفقد من لا خلف منه إلا الله تبارك وتعالی، فصبرت

ص: 637

علیها إذ أتت بعد أختها علی تقاربها وسرعة اتصالها». والإختصاص/170.

وفي المراجعات/365: «سریة أسامة بن زید بن حارثة إلی غزو الروم، وهي آخر السرایا علی عهد النبي (صلی الله علیه و آله) وقد اهتم فیها بأبي وأمي اهتماماً عظیماً فأمر أصحابه بالتهیؤ لها وحضهم علی ذلك، ثم عبأهم بنفسه الزكیة إرهافاً لعزائمهم واستنهاضاً لهممهم، فلم یبق أحداً من وجوه المهاجرین والأنصار، كأبي بكر وعمر وأبي عبیدة وسعد وأمثالهم، إلا وقد عبأه بالجیش...فخرج بلوائه معقوداً فدفعه إلی بریدة وعسكر بالجرف، ثم تثاقلوا هناك فلم یبرحوا، مع ما وعوه ورأوه من النصوص الصریحة في وجوب إسراعهم... وطعن قوم منهم في تأمیر أسامة كما طعنوا من قبل في تأمیر أبیه، وقالوا في ذلك فأكثروا مع ما شاهدوه من عهد النبي له بالإمارة... حتی غضب (صلی الله علیه و آله) من طعنهم غضباً شدیداً، فخرج بأبي وأمي معصب الرأس مدثراً بقطیفته محموماً ألماً...فصعد المنبر فحمد الله وأثنی علیه، ثم قال فیما أجمع أهل الأخبار علی نقله واتفق أولوا العلم علی صدوره: أیها الناس ما مقالةٌ بلغتني عن بعضكم في تأمیري أسامة، ولئن طعنتم في تأمیري أسامة لقد طعنتم في تأمیري أباه من قبله! وأیم الله إنه كان لخلیقاً بالإمارة وإن ابنه من بعده لخلیق بها! وحضهم علی المبادرة إلی السیر فجعلوا یودعونه ویخرجون إلی العسكر بالجرف وهو یحضهم علی التعجیل.

ثم ثقل في مرضه فجعل یقول: جهزوا جیش أسامة، أنفذوا جیش أسامة، أرسلوا بعث أسامة.. لعن الله من تخلف عنه... وقد تعلم أنهم إنما تثاقلوا عن السیر أولاً، وتخلفوا عن الجیش أخیراً، لیحكموا قواعد سیاستهم ویقیموا عمدها، ترجیحاً منهم لذلك علی التعبد بالنص.

وإنما أمَّر علیهم أسامة وهو ابن سبع عشرة سنة، لیاً لأعِنَّة البعض، ورداً لجِمَاح أهل الجماح منهم، واحتیاطاً علی الأمن في المستقبل من نزاع أهل التنافس.. لكنهم فطنوا إلی ما دبر (صلی الله علیه و آله) فطعنوا في تأمیر أسامة وتثاقلوا عن السیر معه، فلم یبرحوا من الجرف حتی لحق النبي (صلی الله علیه و آله) بربه...

فهذه خمسة أمور في هذه السریة لم یتعبدوا فیها بالنصوص الجلیة، إیثاراً لرأیهم في

ص: 638

الأمور السیاسیة، وترجیحاً لاجتهادهم فیها علی التعبد بنصوصه (صلی الله علیه و آله)».

وفي منهاج الكرامة/100: «وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مرض موته مرة بعد أخری مكرراً لذلك: أنفذوا جیش أسامة! لعن الله المتخلف عن جیش أسامة! وكان الثلاثة معه».

وفي تقریب المعارف/314: «ولا فرق بین خلافه (صلی الله علیه و آله) فیما أمر به من المسیر مع أسامة، وبین خلافه فیما أمر به من الصلاة والزكاة والإمامة، وذلك فسق لاشبهة فیه، ودعوی خروج أبي بكر من البعث لایفي شیئاً، لثبوت الروایة به».

وفي الإرشاد: 1/182: «واستمر به المرض أیاماً وثقل (صلی الله علیه و آله)، فجاء بلال عند صلاة الصبح ورسول الله مغمور بالمرض فنادی: الصلاة یرحمكم الله، فأوذن رسول الله بندائه فقال: یصلي بالناس بعضهم فإنني مشغول بنفسي. فقالت عائشة: مروا أبا بكر! وقالت حفصة: مروا عمر! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) حین سمع كلامهما، ورأی حرص كل واحدة منهما علی التنویه بأبیها وافتتانهما بذلك ورسول الله (صلی الله علیه و آله) حي: أُكففن فإنكن صویحبات یوسف!

ثم قام (صلی الله علیه و آله) مبادراً خوفاً من تقدم أحد الرجلین وقد كان أمرهما بالخروج إلی أسامة، ولم یكن عنده أنهما قد تخلفا، فلما سمع من عائشة وحفصة ما سمع علم أنهما متأخران عن أمره، فبدر لكف الفتنة وإزالة الشبهة، فقام وإنه لایستقل علی الأرض من الضعف، فأخذ بیده علي بن أبي طالب والفضل بن عباس فاعتمدهما ورجلاه تخطان الأرض من الضعف! فلما خرج إلی المسجد وجد أبا بكر قد سبق إلی المحراب، فأومأ إلیه بیده أن تأخر عنه، فتأخر أبو بكر وقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) مقامه فكبر فابتدأ الصلاة التي كان قد ابتدأ بها أبو بكر، ولم یبن علی ما مضی من فعاله. فلما سلَّم النبي (صلی الله علیه و آله) من الصلاة انصرف إلی منزله، واستدعی أبا بكر وعمر وجماعة ممن حضر المسجد من المسلمین، ثم قال: ألم آمر أن تنفذوا جیش أسامة! قالوا: بلی یا رسول الله. قال: فلم تأخرتم عن أمري؟ فقال أبو بكر: إننی كنت خرجت ثم عدت لأجدد بك عهداً. وقال عمر: یا رسول الله، لم أخرج لأنني لم أحب أن أسأل عنك الركب! فقال النبي (صلی الله علیه و آله):

ص: 639

فأنفذوا جیش أسامة، فأنفذوا جیش أسامة یكررها ثلاث مرات، ثم أغمي علیه من التعب الذي لحقه والأسف، فمكث هنیهة مغمي علیه، وبكی المسلمون، وارتفع النحیب من أزواجه وولده والنساء المسلمات ومن حضر من المسلمین».

6- حذیفة یصف تسلل أبي بكر وعمر لیلاً الی المدینة

«أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن تفرغ المدینة من دعاة الفتنة وأرسلهم جمیعاً في جیش أسامة إلی فلسطین، وفیهم سبع مئة رجل من قریش! وأمره بالتحرك ولعن من تخلف عن جیش أسامة! فافتعلوا المشاكل والأعذار حتی سوفوا الوقت وأفشلوا برنامج النبي (صلی الله علیه و آله)، وتسللوا من معسكره من الجرف لواذاً عائدین إلی المدینة!

وقد روی في إرشاد القلوب: 2/237 والدرجات الرفیعة/290، أن حذیفة صاحب سر رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان حاكم المدائن فلما جاءه خبر بیعة أمیر المؤمنین (علیه السلام) فرح بذلك، وصعد المنبر ودعا الناس الی بیعته وخطب خطبة طویلة، بین فیها فضائل علي (علیه السلام) وكشف مؤامرة قریش علی عترة النبي (صلی الله علیه و آله). ومما قاله (رحمة الله): «وأمر (صلی الله علیه و آله) أسامة بن زید فعسكر بهم علی أمیال من المدینة، فأقام بمكانه الذي حد له رسول الله (صلی الله علیه و آله) منتظراً القوم أن یرافقوه إذا فرغوا من أمورهم وقضاء حوائجهم، وإنما أراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) بما صنع من ذلك أن تخلو المدینة منهم ولایبقی بها أحد من المنافقین.قال: فهم علی ذلك من شأنهم ورسول الله (صلی الله علیه و آله) دائب یحثهم ویأمرهم بالخروج والتعجیل إلی الوجه الذي ندبهم إلیه، إذ مرض رسول الله مرضه الذي توفي فیه، فلما رأوا ذلك تباطؤوا عما أمرهم رسول الله من الخروج، فأمر قیس بن سعد بن عبادة وكان سیاف رسول الله والحباب بن المنذر في جماعة من الأنصار أن یرحلوا بهم إلی عسكرهم، فأخرجهم قیس بن سعد والحباب بن المنذر حتی ألحقاهم بمعسكرهم، وقالا لأسامة: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم یرخص لك فی التخلف فسر من وقتك هذا، لیعلم رسول الله ذلك. فارتحل بهم أسامة وانصرف قیس بن سعد والحباب بن المنذر إلی رسول الله فأعلماه برحلة القوم، فقال لهم: إن القوم غیر سائرین من مكانهم!

ص: 640

قال: فخلا أبو بكر وعمر وأبو عبیدة بأسامة وجماعة من أصحابه فقالوا: إلی أین ننطلق ونخلي المدینة، ونحن أحوج ما كنا إلیها وإلی المقام بها؟!

قالوا: إن رسول الله قد نزل به الموت، ووالله لئن خلینا المدینة لیحدثن بها أمور لایمكن إصلاحها! ننظر ما یكون من أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم المسیر بین أیدینا!

قال: فرجع القوم إلی المعسكر الأول فأقاموا به، فبعثوا رسولاً یتعرف لهم بالخبر من أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأتی الرسول عائشة فسألها عن ذلك سراً فقالت: إمض إلی أبي بكر وعمر ومن معهما فقل لهما: إن رسول الله قد ثقل ولا یبرحن أحد منكم! وأنا أعلمكم بالخبر وقتاً بعد وقت! واشتدت علة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فدعت عائشة صهیباً فقالت: إمض إلی أبي بكر وأعلمه أن محمداً في حال لاترجی، فهلموا إلینا أنت وعمر وأبو عبیدة ومن رأیتم أن یدخل معكم، ولیكن دخولكم المدینة باللیل سراً! قال: فأتاهم بالخبر فأخذوا بید صهیب فأدخلوه إلی أسامة بن زید فأخبروه الخبر وقالوا له كیف ینبغي لنا أن نتخلف عن مشاهدة رسول الله، واستأذنوه للدخول فأذن لهم بالدخول، وأمرهم أن لا یعلم أحد بدخولهم، وقال: إن عوفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) رجعتم إلی عسكركم، وإن حدث حادث الموت عرفونا ذلك لنكون فی جماعة الناس، فدخل أبو بكر وعمر وأبو عبیدة لیلاً المدینة ورسول الله (صلی الله علیه و آله) قد ثقل.

قال: فأفاق بعض الإفاقة فقال: لقد طرق لیلتنا هذه المدینة شر عظیم! فقیل له وما هو یا رسول الله؟ قال فقال: إن الذین كانوا في جیش أسامة قد رجع منهم نفر یخالفون أمري، ألا إني إلی الله منهم بريء!

ویحكم نفذوا جیش أسامة! فلم یزل یقول ذلك حتی قالها مرات كثیرة.

قال: وكان بلال مؤذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) یؤذن بالصلاة في كل وقت صلاة، فإن قدر رسول الله (صلی الله علیه و آله) علی الخروج تحامل وخرج وصلی بالناس، وإن هو لم یقدر علی الخروج أمر علي بن أبي طالب فصلی بالناس، وكان علي (علیه السلام) والفضل بن العباس لا یزایلانه في مرضه ذلك. فلما أصبح

ص: 641

رسول الله (صلی الله علیه و آله) من لیلته تلك التي قدم فیها القوم الذین كانوا تحت یدي أسامة، أذن بلال ثم أتاه یخبره كعادته فوجده قد ثقل فمنع من الدخول إلیه، فأمرت عائشة صهیباً أن یمضي إلی أبیها فیعلمه أن رسول الله قد ثقل، ولیس یطیق النهوض إلی المسجد وعلي بن أبي طالب قد شغل به وبمشاهدته عن الصلاة بالناس، فاخرج أنت إلی المسجد وصل بالناس فإنها حالة تهیئك وحجة لك بعد الیوم.

قال: ولم یشعر الناس وهم في المسجد ینتظرون رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو علیاً (علیه السلام) یصلي بهم كعادته التي عرفوها في مرضه، إذ دخل أبو بكر المسجد وقال: إن رسول الله قد ثقل وقد أمرني أن أصلي بالناس! فقال له رجل من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله): وأنَّی لك ذلك وأنت في جیش أسامة! لا والله ما أعلم أحداً بعث إلیك ولا أمرك بالصلاة! ثم نادی الناس بلالاً فقال: علی رسلكم رحمكم الله لأستأذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ذلك، ثم أسرع حتی أتی الباب فدقه دقاً شدیداً، فسمعه رسول الله فقال: ما هذا الدق العنیف فانظروا ما هو؟ قال فخرج الفضل بن العباس ففتح الباب فإذا بلال فقال: ما وراءك یا بلال؟ فقال: إن أبا بكر دخل المسجد وتقدم حتی وقف في مقام رسول الله، وزعم أن رسول الله أمره بذلك! فقال أولیس أبو بكر مع أسامة في الجیش! هذا والله هو الشر العظیم الذي طرق البارحة المدینة! لقد أخبرنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بذلك!

ودخل الفضل وأدخل بلالاً معه فقال (صلی الله علیه و آله): ما وراءك یا بلال؟ فأخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) الخبر فقال: أقیموني أخرجونی إلی المسجد والذي نفسی بیده قد نزلت بالإسلام نازلة وفتنة عظیمة من الفتن!

ثم خرج (صلی الله علیه و آله) معصوب الرأس یتهادی بین علي (علیه السلام) والفضل بن عباس ورجلاه تجران في الأرض، حتی دخل المسجد وأبو بكر قائم في مقام رسول الله (صلی الله علیه و آله)

وقد طاف به عمر وأبو عبیدة وسالم وصهیب والنفر الذین دخلوا، وأكثر الناس قد وقفوا عن الصلاة ینتظرون ما یأتي به بلال، فلما رأی الناس رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد دخل المسجد وهو بتلك الحالة العظیمة من المرض أعظموا ذلك، وتقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فجذب أبا بكر من ردائه فنحاه عن المحراب، وأقبل أبو بكر والنفر

ص: 642

الذین كانوا معه، فتواروا خلف رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! وأقبل الناس فصلوا خلف رسول الله وهو جالس وبلال یسمع الناس التكبیر حتی قضی صلاته، ثم التفت فلم یر أبا بكر! فقال: أیها الناس لا تعجبون من ابن أبی قحافة وأصحابه الذین أنفذتهم وجعلتهم تحت یدي أسامة، وأمرتهم بالمسیر إلی الوجه الذي وجهوا إلیه فخالفوا ذلك ورجعوا إلی المدینة ابتغاء الفتنة، ألا وإن الله قد أركسهم فیها!

أعرجوابي إلی المنبر فقام وهو مربوط حتی قعد علی أدنی مرقاة، فحمد الله وأثنی علیه ثم قال: أیها الناس إنني قد جاءني من أمر ربي ما الناس صائرون إلیه وإني قد تركتكم علی المحجة الواضحة لیلها كنهارها، فلا تختلفوا من بعدي كما اختلف من كان قبلكم من بني إسرائیل!

أیها الناس: لا أحِلُّ لكم إلا ما أحله القرآن ولا أحَرِّم علیكم إلا ما حرَّمه القرآن وإني مخلِّف فیكم الثقلین ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بیتي هما الخلیفتان، وإنهما لن یفترقا حتی یردا عليَّ الحوض، فأسألكم ماذا خلفتموني فیهما. ولیذادن یومئذ رجال عن حوضي كما تذاد الغریبة من الإبل، فیقول أنا فلان وأنا فلان، فأقول أما الأسماء فقد عرفت ولكنكم ارتددتم من بعدي

فسحقاً لكم سحقاً!

ثم نزل عن المنبر وعاد إلی حجرته. ولم یظهر أبو بكر وأصحابه حتی قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) !وكان من الأنصار سعد وغیرهم من السقیفة ما كان، فمنعوا أهل بیت نبیهم (صلی الله علیه و آله) حقوقهم التی جعلها الله عزوجل لهم».

7- أبو بكر وعمر یظهران الندم علی تركهما جیش أسامة!

في الخصال/171: «عن جابر بن عبدالله قال: شهدت عمر عند موته یقول: أتوب إلی الله من ثلاث: من ردي رقیق الیمن، ومن رجوعي عن جیش أسامة بعد أن أمَّره رسول الله علینا، ومن تعاقدنا علی أهل هذا البیت إن قبض الله رسوله لا نولي منهم أحداً». وروي نحوه عن الإمام الباقر  (علیه السلام).

ص: 643

وفي الإیضاح/159، عن إیاس بن قبیصة الأسدي، من حدیث قال: «سمعت أبا بكر یقول.. وأما الثلاث اللاتي لم أفعلهن ولیتني كنت فعلتهن، فوددت أني كنت أقدت من خالد بن الولید بمالك بن نویرة، ووددت أني لم أتخلف عن بعث أسامة، ووددت أني كنت قتلت عیینة بن حصین وطلحة بن خویلد».

8- الروایة الرسمیة لجیش أسامة

في سیرة ابن هشام: 4/1025 و 1064: «ثم قفل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأقام بالمدینة بقیة ذي الحجة والمحرم وصفراً، وضرب علی الناس بعثاً إلی الشام وأمَّر علیهم أسامة بن زید بن حارثة مولاه، وأمره أن یوطئ الخیل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطین، فتجهز الناس وأوعب مع أسامة بن زید المهاجرون الأولون...

استبطأ الناس في بعث أسامة بن زید وهو في وجعه، فخرج عاصباً رأسه حتی جلس علی المنبر، وقد كان الناس قالوا فی إمرة أسامة: أمَّر غلاماً حدثاً علی جلة المهاجرین والأنصار! فحمد الله وأثنی علیه بما هو له أهل ثم قال: أیها الناس، أنفذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم فی إمارة أبیه من قبله وإنه لخلیق للإمارة وإن كان أبوه لخلیقاً لها! قال: ثم نزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وانكمش الناس في جهازهم، واستعز برسول الله (صلی الله علیه و آله) وجعه، فخرج أسامة وخرج جیشه معه حتی نزلوا الجرف من المدینة علی فرسخ «نحو6كیلومتر» فضرب به عسكره، وتتامَّ إلیه الناس، وثقل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأقام أسامة والناس لینظروا ما الله قاض في رسول الله (صلی الله علیه و آله)».

وفي صحیح بخاري: 1/175، عن عائشة: «لما ثقل رسول الله (صلی الله علیه و آله) جاء بلال یؤذنه بالصلاة فقال: مروا أبا بكر أن یصلي بالناس، فقلت: یا رسول الله إن أبا بكر رجل أسیف، وإنه متی ما یقم مقامك لایسمع الناس، فلو أمرت عمر. فقال: مروا أبا بكر یصلي، فقلت لحفصة، قولي له إن أبا بكر رجل أسیف وإنه متی یقم مقامك لا یسمع الناس فلو أمرت عمر. قال: إنكن لأنتن صواحب یوسف، مروا أبا بكر أن یصلي بالناس! فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) في نفسه خفة فقام یهادي بین رجلین ورجلاه یخطان في الأرض، حتی دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب

ص: 644

أبو بكر یتأخر فأومأ إلیه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فجاء رسول الله حتی جلس عن یسار أبي بكرفكان أبو بكر یصلي قائماً، وكان رسول الله یصلي قاعداً یقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) والناس مقتدون بصلاة أبي بكر»!

9- رد قولهم إن النبي (صلی الله علیه و آله) نصب أبا بكر للصلاة

رد علماؤنا روایتهم بأن النبي (صلی الله علیه و آله) أمر أن یصلی أبو بكر بالناس، وقال السید المیلانی فی إبطال ما استدل به لإمامة أبی بكر/33: «أما أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان یؤكد علی بعث أسامة، وإلی آخر لحظة من حیاته، فلم یخالف فیه أحد ولا خلاف فیه أبداً، وهو مذكور فی كتبنا وفی كتبهم.. وأما أن كبار الصحابة وعلی رأسهم أبو بكر وعمر كانا فی هذا البعث، فهذا أیضاً ثابت بالكتب المعتبرة التی نقلت هذا الخبر، فكیف یأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بخروج أبی بكر فی بعث أسامة ویؤكد علی خروجه إلی آخر لحظة من حیاته، ومع ذلك یأمر أبا بكر أن یصلی فی مكانه؟

وهنا یضطر مثل ابن تیمیة لأن ینكر وجود أبی بكر فی بعث أسامة، ویقول هذا كذب، لأنه یعلم بأن وجود أبی بكر فی بعث أسامة یعنی كذب خبر إرسال أبی بكر إلی الصلاة..ولذا لما توفی رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان أسامة بجیشه فی خارج المدینة، ولذا لما ولی أبو بكر اعترض أسامة ولم یبایع أبا بكر قال: أنا أمیر علی أبی بكر وكیف أبایعه؟ولذا لما سیر أبو بكر أسامة بما أمره رسول الله به استأذن منه إبقاء عمر فی المدینة المنورة لیكون معه في تطبیق الخطط المدبرة.فالقرائن الداخلیة والخارجیة تقتضي كذب هذا خبر أن النبي (صلی الله علیه و آله) أرسل أبا بكر إلی الصلاة».

وقال السید المیلاني في رسالة في صلاة أبي بكر: 76: «خرج معتمداً علی أمیر المؤمنین (علیه السلام) ورجل آخر وهو في آخر رمق من حیاته لیصرفه«أبا بكر»عن المحراب.. ویعلن بأن صلاته لم تكن بأمر منه بل من غیره»!

وقال كبیر أئمة الزیدیة الهادي یحیی بن الحسین في تثبیت الإمامة/18: «وكیف تنعقد بیعة لمن هو في بیعة غیره؟ ألم یكن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجه أبا بكر وعمر

ص: 645

وغیرهما في جیش أسامة بن زید قبل وفاته صلوات الله علیه، وأمرهم أن یسمعوا له ویطیعوا ویصلوا بصلاته ویأتمروا بأمره؟ وقال (صلی الله علیه و آله): أنفذوا جیش أسامة ولا یتخلف إلا من كان عاصیاً لله ولرسوله. فلما صار أسامة بعسكره علی أمیال من المدینة بلغهم مرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) فرجع أبو بكر وعمر وأبو عبیدة بن الجراح، فلما دخلوا علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) تغیر لونه وقال: اللهم إني لا آذن لأحد أن یتخلف عن جیش أسامة! وهمَّ أبو بكر بالرجوع إلی أسامة واللحوق به فمنعه عمر!

ثم قال: وقال عمر لأبي بكر: أُكتب إلی أسامة بن زید یقدم علیك، فإن في قدومه علیك قطع الشنعة عنا! فكتب إلیه أبو بكر: بسم الله الرحمن الرحیم، من عبدالله أبي بكر خلیفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلی أسامة بن زید: أما بعد، فانظر إذا أتاك كتابي هذا فأقبل إليّ أنت ومن معك، فإن المسلمین قد اجتمعوا عَلَيَّ، وولوني أمرهم، فلا تتخلفن فتعصیني ویأتیك ما تكره، والسلام. فأجابه أسامة بن زید، وكتب إلیه: بسم الله الرحمن الرحیم. من عبدالله أسامة بن زید عامل رسول الله (صلی الله علیه و آله) علی غزوة الشام إلی أبي بكر بن أبی قحافة، أما بعد فقد أتاني كتابك ینقض أوله آخره! ذكرت فی أوله: أنك خلیفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وذكرت في آخره أن الناس قد اجتمعوا علیك، وولوك أمرهم ورضوا بك! واعلم أني ومن معي من المهاجرین والأنصار وجمیع المسلمین ما رضیناك ولا ولیناك أمرنا، فاتق الله ربك، وإذا قرأت كتابي هذا فأقدم إلی دیوانك الذي بعثك فیه النبي (صلی الله علیه و آله) ولا تعصه، وأن تدفع الحق إلی أهله فإنهم أحق به منك، وقد علمت ما قال رسول الله في علي یوم الغدیروما طال العهد فتنسی؟! فانظر أن تلحق بمركزك ولا تتخلف فتعصي الله سبحانه وتعالی ورسوله (صلی الله علیه و آله) وتعصي من استخلفه رسول الله علیك وعلی صاحبك، فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) استخلفني علیكم ولم یعزلني، وقد علمت كراهة رسول الله لرجوعكم مني إلی المدینة وقال: لا یتخلفن أحد عن جیش أسامة إلا كان عاصیاً لله ولرسوله! فیالك الویل یا ابن أبي قحافة! تعدل نفسك بعلي بن أبي طالب وهو وارث رسول الله (صلی الله علیه و آله) ووصیه وابن عمه وأبو ولدیه؟! فاتق الله أنت وصاحبك فإنه لكما بالمرصاد وأنتما منه في غرور!

ص: 646

والذي بعث محمداً بالحق نبیاً ما تركت أمة وصي رسولها ولا نقضوا عهده إلا استوجبوا من الله اللعنة والسخط!

فلما وصل الكتاب إلی أبي بكر هم أن یخلعها من عنقه فقال عمر: لا تفعل، قمیص قمصك الله تعالی لا تخلعه فتندم! فقال له: یا عمر أكفرٌ بعد إسلام؟ فألح علیه عمر وقال: أُكتب إلیه وإلی فلان وأمر فلاناً وفلاناً وفلاناً جماعة من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) یكتبوا إلیه أن أقدم، ولا تفرق جماعة المسلمین!

فلما وصلت كتبهم قدم المدینة ودخل إلی علي (علیه السلام) فعزاه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبكی بكاءً شدیداً وضم الحسن والحسین إلی صدره وقال: یا علي ما هذا؟! قال: هو ما أنت تری! قال: فما تأمرني؟ فأخبره بما عهد إلیه رسول الله (صلی الله علیه و آله) من تركهم حتی یجد أعواناً! ثم أتی أبو بكر إلی أسامة وسأله البیعة؟ فقال له أسامة: إن رسول الله أمَّرنی علیك فمن أمَّرك عَلَيَّ؟ والله لا أبایعك أبداً ولا حللت لك عهدي فلا صلاة لك إلا بصلاتي! أفلا یری من عقل أن أسامة أمیر علی أبي بكر وهو أحق بهذا الأمر وأولی منه، لأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) مات وهو علیه أمیر، ولم یعزله عن إمرته. فأین الإجماع والرضا مع هذه الأخبار؟!».

وقال في تثبیت الإمامة/22: «فسألناهم البینة من غیر أهل مقالتهم علی أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمر أبا بكر بالصلاة بالناس؟ فلم یأتوا بالبینة علی ذلك! وأجمعت الثلاث الفرق التي خالفتهم أن عائشة هي التي أمرت بلالاً عندما آذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالت: مر أبا بكر أن یصلي بالناس! فبطلت حجة من زعم أن رسول الله أمر أبا بكر بالصلاة، ولم نجد أحداً یشهد لها علی هذا الإدعاء!

ثم أجمع جمیع أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) علی أنه لما أفاق من غشیته سأل: من المتولي للصلاة؟ فقالوا: أبو بكر. فنهض (صلی الله علیه و آله) متوكئاً علی أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب كرم الله وجهه...تخط الأرض قدماه حتی جر أبا بكر من المحراب فأخره وتقدم (صلی الله علیه و آله) فصلی بالناس».

ص: 647

الفصل الثالث والسبعون: مرض النبي (صلی الله علیه و آله) وشهادته

1- النبي (صلی الله علیه و آله) یزور البقیع ویحذر صحابته!

لمَّا أحس بالمرض أخذ بید علي (علیه السلام) واتبعه جماعة من الناس، وذهب الی البقیع فاستغفر لأهله وقال: «السلام علیكم یا أهل القبور، لیهنئكم ما أصبحتم فیه مما فیه الناس، أقبلت الفتن كقطع اللیل المظلم یتبع آخرها أولها الآخرة شر من الأولی»! الإرشاد: 1/179 والإفصاح/50.

وفي كنز الفوائد/60، أنه قال لأصحابه في مرضه الذي توفي فیه: «أقبلت الفتن كقطع اللیل المظلم یتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولی»!

وقال لهم: «إنه سیجاء برجال من أمتی فیؤخذ بهم ذات الشمال فأقول یا رب أصحابي! فیقال: إنك لا تدری ما أحدثوا بعدك، إنهم لا یزالون مرتدین علی أعقابهم منذ فارقتهم»! وقال لهم: «ألا لأخبرنكم ترتدون بعدي كفاراً یضرب بعضكم رقاب بعض! ألا إني قد شهدت وغبتم»!

وقال لهم: «ستتبعون سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتی لو دخلوا في حجر ضب لاتبعتموهم. فقالوا: یا رسول الله، الیهود والنصاری؟ قال: فمن إذن؟!». «وسمعهم یذكرون فتنة الدجال فقال لهم: إني لفتنة بعضكم أخوف مني من فتنة الدجال»!

وروت نحوه مصادر السلطة، ففي مسند أحمد: 3/489 عن أبي مویهبة مولی رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «بعثني رسول الله (صلی الله علیه و آله) من جوف اللیل«یقصد أیقظني»فقال: یا أبا مویهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقیع فانطلق معي، فانطلقت معه فلما وقف بین أظهرهم قال: السلام علیكم

ص: 648

یا أهل المقابر، لیهْنِ لكم ما أصبحتم فیه مما أصبح فیه الناس! لو تعلمون ما نجاكم الله منه! أقبلت الفتن كقطع اللیل المظلم یتبع أولها آخرها، الآخرة شر من الأولی! قال: ثم أقبل علَيَّ فقال: یا أبا مویهبة إني قد أوتیت مفاتیح خزائن الدنیا والخلد فیها ثم الجنة، وخیرت بین ذلك وبین لقاء ربي عزوجل والجنة، قال قلت: بأبي وأمي فخذ مفاتیح الدنیا والخلد فیها ثم الجنة. قال: لا والله یا أبا مویهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة. ثم استغفر لأهل البقیع ثم انصرف، فبدأ رسول الله (صلی الله علیه و آله) في وجعه الذي قبضه الله عزوجل فیه». وابن هشام: 4/1056، الدارمي:1/36، الحاكم: 3/55، الطبراني الكبیر: 22/347، الطبقات: 2/ 204.

وهذا تأكید ما علیه مزید من النبي (صلی الله علیه و آله) بأن الفتنة تنتظر وفاته، وأن الموتی أحسن حالاً ممن سیقع فیها! ولا تفسیر لها إلا أن الحكم سینحرف من بعده!

لكن السلطة القرشیة تغمض عیونها عما ترویه، وتقول: إن الأمور سارت بعد النبي (صلی الله علیه و آله) بأفضل ما یكون، وإن خیر القرون قرن صحابته!

2- مدة مرض النبي (صلی الله علیه و آله)

تفاوتت الروایة في مدة مرض النبي (صلی الله علیه و آله) بین ثلاثة عشر وثمانیة عشر یوماً، والأخیر أرجح، لأن وفاته كانت یوم الإثنین، وبدأ مرضه یوم السبت.

والمشهور عندنا أن وفاته (صلی الله علیه و آله) كانت في الثامن والعشرین من صفر، وعند أتباع المذاهب أنها في الثاني عشر من ربیع الأول.

وكان مرضه (صلی الله علیه و آله) الحمی والصداع، وقد نفی أئمتنا: أن یكون مرضه ذات الجنب أي التهاب الرئة، ففي الكافي: 8/193، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال:

«اشتكی رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالت له عائشة: بك ذات الجنب؟ فقال: أنا أكرم علی الله عزوجل من أن یبتلینی بذات الجنب».

لكن عائشة قالت: «ما مات رسول الله إلا من ذات الجنب»! الزوائد: 9/34.

ص: 649

3- مات النبي (صلی الله علیه و آله) شهیداً بالسُّمّ!

قال الله تعالی: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَی أَعْقَابِكمْ وَمَنْ ینْقَلِبْ عَلَی عَقِبَیهِ فَلَنْ یضُرَّ اللهَ شَیئًاوَسَیجْزِي اللهُ الشَّاكرِینَ.

فأخبر عزوجل بأن وفاته (صلی الله علیه و آله) ستكون بالموت الطبیعي أو بالقتل، وهذا التردید من الله العلیم بكل شئ، یعني فتح الباب لاحتمال قتله بالسیف أو السُّم.

وقد أهدت له یهودیة بعد فتح خیبر شاة مسمومة، وأكلوا منها لقمة أو شموا رائحتها فأخبره الله تعالی بأنها مسمومة، وزعموا أنه أكل منها وأن ذلك السم كان یعاوده سنویاً. أبو داود: 2/370 وابن ماجة: 2/1174.

وقال في شفاء السقام/332: «قال العلماء: فجمع الله له بذلك بین النبوة والشهادة».

لكن أحادیثنا نفت أن یكون النبي (صلی الله علیه و آله) أكل من تلك الشاة، ففي الثاقب لابن حمزة/81: «فلما وضعت الشاة بین یدیه (صلی الله علیه و آله)، تكلمت كتفها فقال: مه یا محمد لا تأكلنی، فإنی مسمومة». فالصحیح أنه (صلی الله علیه و آله) لم یأكل منها.

وروینا أنه مات مسموماً من غیر لحم الشاة، بالدواء الذي لُدَّ به في مرضه! والُّلدود دواء كالمرهم یوضع في الفم!وقد روته عامة مصادرهم.

وخلاصة القصة: أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان یغشی علیه من شدة الحمی لدقائق ویفیق، فأحس بأن بعض من حوله یریدون أن یسقوه دواء عندما یغمی علیه، فنهاهم وشدد نهیه علیهم، ومع ذلك عصوه ووضعوا في فمه دواء كالمرهم عندما أغمي علیه فرفضه فوضعوه في فمه بالقوة! فأفاق (صلی الله علیه و آله) ووبخهم علی عملهم، وأمر كل من كان حاضراً أن یشرب من ذلك الدواء، ما عدا بني هاشم!

قال البخاري: 7/17: «قالت عائشة: لددناه في مرضه فجعل یشیر إلینا أن لا تلدوني فقلنا كراهیة المریض للدواء. فلما أفاق قال: ألم أنهكم أن تلدوني؟! قلنا: كراهیة المریض للدواء. فقال: لایبقی في البیت أحد إلا لد وأنا أنظر، إلا العباس فإنه لم یشهدكم»! «ورواه في: 8/40 و42» وفیه أنه أحس باللد فنهاهم فلم یمتنعوا فعاقبهم!

وفي روایة الحاكم: 4/202:«والذي نفسي بیده لایبقی في البیت أحد إلا لد إلا عمِّي

ص: 650

قال فرأیتهم یلدونهم رجلاً رجلاً قالت عائشة: ومن في البیت یومئذ فیذكر فضلهم، فلُدَّ الرجال أجمعون وبلغ اللدود أزواج النبي فلددن امرأة امرأة»!

ویظهرأنهم لدوه مرتین! أولاهما في أول مرضه (صلی الله علیه و آله)، كما في مسند أحمد: 6/438: عن أسماء بنت عمیس قالت: أول ما اشتكی رسول الله (صلی الله علیه و آله) في بیت میمونة فاشتد مرضه حتی أغمي علیه، فتشاور نساؤه في لده فلدوه، فلما أفاق قال: ما هذا؟! فقلنا: هذا فعل نساء جئن من ههنا، وأشرن إلی أرض الحبشة وكانت أسماء بنت عمیس فیهن. قالوا: كنا نتهم فیك ذات الجنب یا رسول الله! قال: إن ذلك لداء ما كان الله عزوجل لیقرفني به!لایبقین في هذا البیت أحد إلا التدَّ إلا عمُّ رسول الله یعني العباس!قال فلقد التدت میمونة یومئذ وإنها لصائمة لعزمة رسول الله.

والمرة الثانیة التي رواها بخاري ومسلم في آخر مرضه یوم الأحد: «ونزل أسامة یوم الأحد، ورسول الله (صلی الله علیه و آله) ثقیل مغمور وهو الیوم الذي لدُّوه فیه، فدخل علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعیناه تهملان». الطبقات: 2/190، تاریخ دمشق: 2/56، عیون الأثر: 2/352، الإمتاع: 14/520 وسبل الهدی: 6/249.

وقد اضطربت روایتهم فیمن وضع الدواء في فم النبي (صلی الله علیه و آله) بالقوة، وسألهم هو فأشاروا في المرة الأولی الی أسماء بنت عمیس، وقالوا له في الثانیة إنه العباس، والصحیح أنهما عائشة وحفصة. كما تحیر الفقهاء في یمینه (صلی الله علیه و آله) بمعاقبة جمیع من حضر وغرضه من ذلك! ولا تفسیر له إلا أن النبي (صلی الله علیه و آله) أراد أن یفهم أجیال الأمة أنه مات مسموماً، وأن الحاضرین غیر بني هاشم، متهمون بدمه!

ومما یدل علی أن النبي (صلی الله علیه و آله) مات مسموماً قول الإمام الحسن (علیه السلام) بسند صحیح «إنی أموت بالسم كما مات رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فقالوا: ومن یفعل ذلك؟! قال: امرأتي جعدة بنت الأشعث بن قیس، فإن معاویة یدس إلیها ویأمرها بذلك. قالوا: أخرجها من منزلك وباعدها من نفسك! قال: كیف أخرجها ولم تفعل بعد شیئاً، ولو أخرجتها ما قتلني غیرها وكان لها عذر عند الناس»!

ص: 651

وفي كتاب سلیم/363: «فقام إلیه علي بن أبي طالب (علیه السلام) وهو یبكي فقال: بأبي أنت وأمي یا نبي الله أتُقتل؟ قال: نعم أهلك شهیداً بالسم! وتُقتل أنت بالسیف وتُخضب لحیتك من دم رأسك، ویقتل ابني الحسن بالسم، ویقتل ابني الحسین بالسیف، یقتله طاغٍ ابن طاغ، دعي ابن دعي»! وما رواه العیاشي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «تدرون مات النبي (صلی الله علیه و آله) أو قتل؟ إن الله یقول: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَی أَعْقَابِكمْ، فسُمَّ قبل الموت، إنهما سقتاه».!

وما رواه وصححه مجمع الزوائد: 8/34، عن ابن مسعود قال: «لإن أحلف تسعاً أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قتل قتلاً أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم یقتل، وذلك بأن الله عزوجل جعله نبیاً واتخذه شهیداً! قال الأعمش: فذكرت ذلك لإبراهیم فقال: كانوا یرون أن الیهود سموه»!

ومما یؤید موته بالسم، أنه سقي ذلك الدواء یوم الأحد، وتقیأ دماً یوم الإثنین! قال ابن أبي الحدید في شرح النهج: 10/266: «یروی أنه (صلی الله علیه و آله) قذف دماً یسیراً وقت موته ومن قال بهذا القول زعم أن مرضه كان ذات الجنب، وأن القرحة التي كانت في الغشاء المستبطن للأضلاع انفجرت في تلك الحال وكانت فیها نفسه».

وبما أنه (صلی الله علیه و آله) نفی أن یكون مرضه ذات الرئة، فالمرجح أنه قذف دماً یوم الإثنین مما سقي یوم الأحد!

4- جاء الأنصار یبكون، فخطب فیهم النبي (صلی الله علیه و آله)

في أمالي المفید/46: «عن عبدالله بن عباس قال: إن علي بن أبي طالب والعباس بن عبدالمطلب والفضل بن العباس، دخلوا علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مرضه الذي قبض فیه فقالوا: یا رسول الله هذه الأنصار في المسجد تبكي رجالها ونساؤها علیك. فقال: وما یبكیهم؟ قالوا: یخافون أن تموت. قال (صلی الله علیه و آله): أعطوني أیدیكم فخرج في ملحفة وعصابة حتی جلس علی المنبر، فحمد الله وأثنی علیه ثم قال: أما بعد، أیها الناس، فما تنكرون من موت نبیكم؟ ألم أُنْعَ إلیكم وتُنْع إلیكم أنفسكم؟ لو خُلِّدَ أحد قبلي ثم بعث إلیه لخلدت فیكم. ألا إني لاحق بربي وقد تركت فیكم ما إن تمسكتم به

ص: 652

لن تضلوا: كتاب الله تعالی بین أظهركم، تقرؤونه صباحاً ومساءً، فلا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، وكونوا إخواناً كما أمركم الله، وقد خلفت فیكم عترتي أهل بیتي وأنا أوصیكم بهم، ثم أوصیكم بهذا الحي من الأنصار، فقد عرفتم بلاهم عند الله عزوجل وعند رسوله وعند المؤمنین، ألم یوسعوا في الدیار ویشاطروا الثمار ویؤثروا وبهم الخصاصة؟

فمن ولي منكم أمراً یضر فیه أحداً أو ینفعه فلیقبل من محسن الأنصار، ولیتجاوز عن مسیئهم. وكان آخر مجلس جلسه حتی لقي الله عزوجل».

5- الأمة تواجه رسولها بالإنقلاب علیه!

روت كل المصادر حدیث الإنقلاب علی النبي (صلی الله علیه و آله) الذی قاده عمر بن الخطاب بمناصرة طلقاء قریش، فقد وقف في وجه النبي (صلی الله علیه و آله) في مرضه وردَّ علیه ومنعه أن یكتب لأمته عهداً یؤمِّنُها من الضلال، ویجعلها سیدة العالم!

وبمجرد أن أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بذلك أعلن عمر رفضه، وصاح: حسبنا كتاب الله..

وصاح خلفه القرشیون الطلقاء: القول ما قاله عمر، لا تقربوا له شیئاً!

قال البخاري: 1/36: «عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبي (صلی الله علیه و آله) وجعه قال: إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده. قال عمر: إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا! فاختلفوا: وكثر اللغط! قال (صلی الله علیه و آله): قوموا عني ولا ینبغي عندي التنازع. فخرج ابن عباس یقول: إن الرزیئة كل الرزیئة ما حال بین رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبین كتابه».

«فلما أكثروا اللغو والإختلاف قال رسول الله: قوموا».بخاري: 5/137.

وفي مسلم: 5/75: «عن ابن عباس أنه قال: یوم الخمیس وما یوم الخمیس! ثم جعل تسیل دموعه حتی رأیت علی خدیه كأنها نظام اللؤلؤ! قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إئتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فقالوا: إن رسول الله یهجر! وفي روایة أخری: فقال عمر: إن رسول الله قد غلب علیه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله».

ص: 653

وفي مسند أحمد: 3/346: «دعا عند موته بصحیفة لیكتب فیها كتاباً لایضلون بعده قال فخالف علیها عمر بن الخطاب حتی رفضها»!

وفي مجمع الزوائد: 9/33: «عن عمر بن الخطاب قال: لما مرض النبي قال: أُدعوا لي بصحیفة ودواة أكتب كتاباً لاتضلون بعدي أبداً، فكرهنا ذلك أشد الكراهة! ثم قال: أُدعوا لي بصحیفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده أبداً! فقال النسوة من وراء الستر: ألاتسمعون ما یقول رسول الله؟ فقلت: إنكن صواحبات یوسف إذا مرض رسول الله عصرتن أعینكن وإذا صح ركبتن رقبته. فقال رسول الله: دعوهن فإنهن خیر منكم»!

وقد وصف المحامي الأردني أحمد حسین یعقوب/182، أجواء المواجهة في كتابه القیم: عدالة الصحابة، فكتب تحت عنوان: المواجهة الصاخبة:

«النبي علی فراش الموت، وجبریل الأمین لا ینقطع عن زیارته، وأكثر ما كان یأتیه جبریل في مرضه. النبي علی علم بمستقبل هذه الأمة وقد أدی دوره كاملاً وبلغ رسالات ربه، وبین لهم كل شئ علی الإطلاق، وهو علی علم تام بما یجري حوله، ومدرك أنه السكون الذي یسبق الإنفجار، فینسف الشرعیة السیاسیة والمرجعیة! وبنسف الشرعیة السیاسیة والمرجعیة یتجرد الإسلام من سلاحه الجبار ویتعطل المولد الأساسي للدعوة والدولة.

ولكن مثل النبي لاینحني أمام العاصفة، ولا یقعده شئ عن متابعة إحساسه العمیق بالرأفة والرحمة لهذه الأمة! وبالرغم من كمال الدین وتمام النعمة الإلهیة والبیان الإلهي الشامل لكل شئ تحتاجه الأمة، بما فیه كیف یتبول وكیف یتغوط أفرادها، إلا أنه أراد أن یلخص الموقف لأمته حتی تهتدي وحتی لاتضل، وحتی تخرج بسلام من المفاجآت التي تتربص بها وتنتظر موت النبي لتفتح أشداقها فتعكر صفو الإسلام وتعیق حركته وتغیر مساره!

النبي علی فراش المرض، وبیته المبارك یغص بأكابر الصحابة، وقد أصر النبي علی تلخیص الموقف والتذكیر بالخط المستقبلي لمسیرة الإسلام، فقال: قربوا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً. ما هو الخطأ بهذا العرض النبوي؟ من یرفض التأمین ضد

ص: 654

الضلالة؟ ولماذا؟ ولمصلحة من؟

ثم، إن من حق أي مسلم أن یوصي، ومن حق أي مسلم أن یقول ما یشاء قبل موته، والذین یسمعون قوله أحرار فیما بعد بإعمال هذا القول أو إبطاله!

هذا إذا افترضنا أن محمداً مجرد مسلم عادي، ولیس نبیاً وقائداً للأمة.

فتصدی الفاروق عمر بن الخطاب ووجه كلامه للحضور وقال: إن النبي قد غلب علیه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله!

فاختلف أهل البیت فاختصموا، منهم من یقول قربوا یكتب لكم رسول الله كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، ومنهم من یقول: القول ما قاله عمر!

فلما أكثروا اللغو والإختلاف عند النبي قال لهم رسول الله: قوموا عني!

وفي روایة ثانیة أن الرسول عندما قال: إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، تنازعوا ولا ینبغي عند نبي تنازع، فقالوا هجر رسول الله! قال النبی: دعوني فالذي أنا فیه خیر مما تدعوني إلیه!.

وفي روایة ثالثة، قال النبي: إئتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً فقالوا: إن رسول الله یهجر.

وفي روایة رابعة للبخاري: إن النبي قال: إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، قال عمر بن الخطاب: إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا فاختلفوا وأكثروا اللغط! قال النبي: قوموا عني ولا ینبغي عندي التنازع.

روایة بلفظ خامس للبخاري: قال النبي: إئتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا ولا ینبغي عند نبي تنازع فقالوا: ما شأنه أهجر؟ إستفهموه. فذهبوا یرددون علیه فقال: دعوني فالذي أنا فیه خیر مما تدعوني إلیه.

روایة بلفظ سادس للبخاري: قال النبي: إئتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا ولا ینبغي عند نبي تنازع فقالوا: ما له أهجر، استفهموه، فقال النبي: ذروني فالذي أنا فیه خیر مما تدعوني إلیه.

روایة بلفظ سابع للبخاري: قال النبي: هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده.

ص: 655

قال عمر: إن النبي غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله! واختلف أهل البیت واختصموا فمنهم من یقول: قربوا یكتب لكم رسول الله كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من یقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والإختلاف عند النبي قال: قوموا عني. وفي روایة أن عمر بن الخطاب قال: إن النبي یهجر.

وقد اعترف الفاروق أنه صد النبي عن كتابة الكتاب حتی لا یجعل الأمر لعلي!

تحلیل المواجهة:

أطراف المواجهة: الطرف الأول، محمد رسول الله وخاتم النبیین وإمام الدولة الإسلامیة«رئیسها». الطرف الثاني، عمر بن الخطاب أحد كبار الصحابة، ووزیر من أبرز وزراء دولة النبي، والخلیفة الثاني من خلفاء النبي فیما بعد.

مكان المواجهة: بیت النبي.

شهود المواجهة: كبار الصحابة رضوان الله علیهم.

النتائج الأولیة للمواجهة:

1- الإنقسام: إن الحاضرین قد انقسموا إلی قسمین: القسم الأول: یؤید الفاروق فیما ذهب إلیه من الحیلولة بین الرسول وبین كتابة ما یرید. وحجة هذا الفریق أن الفاروق من كبار الصحابة، وأحد وزراء النبي، ومشفق علی الإسلام، وأن النبي مریض، وبالتالي فلا داعي لإزعاجه بكتابة هذا الكتاب. ثم إن القرآن وحده یكفي، فهو التأمین ضد الضلالة، ولا داعي لأي كتاب آخر یكتبه النبي!

القسم الثاني: یرفض المواجهة أصلاً بین التابع والمتبوع وبین نبي ومصدق به وبین رسول یتلقی تعلیماته من الله، وبین مجتهد یعمل بما یوحیه له اجتهاده، وبین رئیس دولة ونبي بنفس الوقت وبین واحد من وزرائه.

ویری هذا القسم أن تتاح الفرصة للنبي لیقول ما یرید، ولكتابة ما یرید لأنه نبي وما زال نبیاً حتی یتوفاه الله، ولأنه رئیس الدولة وما زال رئیساً للدولة حتی یتوفاه الله ویحل رئیس آخر محله.

ثم علی الأقل، لأنه مسلم یتمتع بالحریة كما یتمتع بها غیره، ومن حقه أن یقول ما

ص: 656

یشاء وأن یكتب ما یشاء. ثم إن الأحداث والمواجهة تجري في بیته فهو صاحب البیت ومن حق أي إنسان أن یقول ما یشاء في بیته.

2- بروز قوة هائلة جدیدة: برز الفاروق كقوة جدیدة هائلة استطاعت أن تحول بین النبي وبین كتابة ما یرید، واستطاعت أن تستقطب لرأیها عدداً كبیراً من المؤیدین بمواجهة مع النبي نفسه وبحضور النبي نفسه»! انتهی كلام المحامي الأردني.

أقول: جاء انقلاب یوم الخمیس نتیجة صراع قریش مع النبي (صلی الله علیه و آله) الذی أخذ منحی جدیداً بعد فتح مكة، فقد قرر زعماء قریش أن یخوضوا مع النبي (صلی الله علیه و آله) المواجهة حول خلافته وأن تكون بزعامة عمر! وكثفوا وجود الطلقاء في المدینة لشد ظهر عمر فبلغوا ألوفاً! لأن الذین كتب النبي (صلی الله علیه و آله) أسماءهم منهم في جیش أسامة كانوا سبع مئة!فتح الباري: 8/116.

وقد أخبر الله تعالی نبیه (صلی الله علیه و آله) أن أمته ستختلف بعده كالأمم السابقة: «وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِینَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَینَاتُ وَلَكنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكنَّ اللهَ یفْعَلُ مَا یرِیدُ». البقرة: 253.

فكان النبي (صلی الله علیه و آله) یؤكد علی مكانة أهل بیته: ویحذر أمته أن یرتدوا بعده كفاراً یضرب بعضهم رقاب بعض، لأجل الحكم والخلافة! وخطب فیهم في حجة الوداع خمس خطب بیَّنَ فیها كل ما ینبغي بیانه وبشرهم بالأئمة الإثني عشر: من عترته بعده، وأكد علی وجوب اتباعهم وإلا وقعوا في الضلال والإنهیار!

«وفي خطبته السادسة بغدیرخم أخذ بید علي (علیه السلام) وأصعده المنبر وأعلنه خلیفته، وأمرهم أن یهنئوه ویبایعوه ففعلوا، وكان عمر أول المهنئین! فقال كما في حدیثهم الصحیح: بخٍ بخٍ لك یا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولی كل مسلم».

وفی مرض وفاته (صلی الله علیه و آله) أمره ربه عزوجل أن یدعو أصحابه وأهل الحل والعقد من أمته ویتم علیهم الحجة، فعرض علیهم أعظم عرض قدمه نبي لأمته! أن یضمن لهم أن یكونوا سادة العالم إلی یوم القیامة، بشرط أن یقبلوا حكم الله

ص: 657

ورسوله (صلی الله علیه و آله)، ویلتزموا بتنفیذ عهد یكتبه لهم! فانبری له عمر بالنیابة عن قریش فرد علیه، وأعلن رفضهم لعرضه!

فشد ظهر عمر أكثر الحاضرین وصاحوا في وجهه (صلی الله علیه و آله): القول ما قاله عمر، أي لا نرید أن تكتب لنا كتاباً، ولا نرید أمانك من الضلال! فقد غلب علیك الوجع وفقدت الصلاحیة العقلیة فأنت تهذي! فردوا علیه وأهانوه (صلی الله علیه و آله)، وحكموا علیه بأنه فقد عقله فهو یهذي! واختاروا الضلال عن عمد وإصرار، وأن یصادروا من نبیهم (صلی الله علیه و آله) قیادة الأمة ویعطوها إلی عمر، زعیم قریش الجدید!

واضطر النبي المظلوم (صلی الله علیه و آله) إلی السكوت، لأنهم خیروه بین الكف عن كتابة عهده وبین أن یعلنوا الردة، وأنه لیس نبیاً بل أراد تأسیس ملك لأسرته كملك كسری وقیصر! فالیوم ابن عمه علي ابن الثلاث والثلاثین سنة ثم من بعده أولاد ابنته الذین هم دون العاشرة، وإن دخلت الخلافة فیهم فلن تخرج منهم، ولن یصل إلی قبائل قریش شئ، وهذا ظلم لقریش ما بعده ظلم!

لهذا، تقدم عمربتخویل زعماء قریش، وواجهه بالقول إن بني هاشم تكفیهم النبوة، والخلافة یجب أن تكون لبقیة البطون، وبنو هاشم فیها كغیرهم لا أكثر!

قال عمر، شرح النهج: 12/21 لعبدالله بن عباس: «یا عبدالله علیك دماء البدن إن كتمتنیها! هل بقي فی نفسه (علي) شئ من أمر الخلافة؟ قلت: نعم، قال: أیزعم أن رسول الله نص علیه؟ قلت: نعم، وأزیدك سألت أبي عما یدعیه فقال: صدق. فقال عمر: لقد كان من رسول الله في أمره ذَرْوٌ (طرف) من قول لایثبت حجة ولا یقطع عذراً، ولقد كان یربع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن یصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحیطة علی الإسلام! لا ورب هذه البنیة لا تجتمع علیه قریش أبداً، ولو ولیها لانتقضت علیه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله أني علمت ما فی نفسه، فأمسك». ثم قال ابن أبي الحدید: ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاریخ بغداد في كتابه مسنداً.

لكنهم حذفوه من تاریخ بغداد! ولعل السبب أن عمر صرح فیه بأنه منع النبي (صلی الله علیه و آله) أن

ص: 658

یكتب الكتاب لعلي (علیه السلام) بالخلافة، وادعی أن دافعه لمواجهة النبي (صلی الله علیه و آله) الإشفاق علی الإسلام، لأن قریشاً والعرب لا یطیعون علیاً (علیه السلام) !

وهكذا اعتبرت قریش أنها انتصرت علی النبي (صلی الله علیه و آله) في مرض وفاته، فمنعته من كتابة عهده لعترته! وما إن أغمض عینیه (صلی الله علیه و آله) حتی سارعت بالصفق علی ید خلیفتها، وأسست نظام الخلافة القرشي علی قانون الغلبة والتسلط! وفتحت بذلك صراعاً علی السلطة لم تعرف أمة بعد رسولها أكثر منه سفكاً للدماء! وكان نتیجة هذا النظام بعض فتوحات علی غیر منهج، ثم غلبة غلمان بني أمیة علی الخلافة، ثم غلمان بني العباس، ثم غلمان الشراكسة والعثمانیین، حتی انهارت الخلافة ودفنها الغربیون في استانبول!

كانت المدة بین یوم الغدیر یوم الخمیس 18 ذي الحجة، وبین یوم الخمیس یوم الرزیة 24 صفر من نفس السنة ستاً وستین یوماً فقط! نشط فیها القرشیون ضد خلافة عترة النبي (صلی الله علیه و آله) ووقعت أحداث ونزلت آیات، وصدرت من النبي (صلی الله علیه و آله) خطب وأحادیث! ومن أبرزها دعوتهم الی كتابة عهده، فأفشلوها كما رأیت!

وقبلها إرسالهم في جیش أسامة لیخلو الجو منهم في المدینة، فیرتب الخلافة قبل وفاته! فأفشلوا جیش أسامة كما رأیت، وكان لحفصة وعائشة دور خطیر كما قال الله تعالی: إِنْ تَتُوبَا إِلَی اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَیهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَمَوْلاهُ وَجِبْرِیلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِینَ وَالْمَلائِكةُ بَعْدَ ذَلِك ظَهِیرٌ.

وتدل روایة سُلیم بن قیس/324، علی أن النبي (صلی الله علیه و آله) حاول في آخر یوم من حیاته الشریفة أیضاً أن یكتب عهده فوقف عمر نفس الموقف! قال سلیم: «كنت عند عبدالله بن عباس في بیته وعنده رهط من الشیعة، قال فذكروا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وموته فبكی ابن عباس وقال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) یوم الإثنین وهو الیوم الذي قبض فیه وحوله أهل بیته وثلاثون رجلاً من أصحابه: إیتوني بكتف أكتب لكم فیه كتاباً لن تضلوا بعدي ولن تختلفوا بعدي! فمنعهم رجل فقال: إن رسول الله یهجر! فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: إني أراكم تخالفوني وأنا

ص: 659

حي فكیف بعد موتي! قال سلیم: ثم أقبل علی ابن عباس فقال: یا سلیم، لولا ما قال ذلك الرجل لكتب لنا كتاباً لا یضل أحد ولایختلف! فقال رجل من القوم: ومن ذلك الرجل؟فقال: لیس إلی ذلك سبیل. فخلوت بابن عباس بعد ما قام القوم فقال: هو عمر. فقلت: صدقت قد سمعت علیاً وسلمان وأباذر والمقداد یقولون إنه عمر. فقال: یا سلیم أكتم إلا ممن تثق بهم من إخوانك، فإن قلوب هذه الأمة أشربت حب هذین الرجلین كما أشربت قلوب بني إسرائیل حب العجل»!

كما یدل قول الطبري الشیعي في المسترشد/680، علی غضب النبي (صلی الله علیه و آله) وحزنه عندما أمرهم بالقبول بعهده فعصوه! قال: «ألیس قال الرسول (صلی الله علیه و آله) وقد تغرغر «شرق بكلماته حزناً» إیتوني بدواة وصحیفة أكتب لكم ما لا تضلون معه بعدي. فقال الثاني: هجر رسول الله، ثم قال: حسبنا كتاب الله»!

أقول: عملت السلطة بكل حیلة لإخفاء هذه القضیة وتغییبها، وتفسیر ما أفلت منها لمصلحتها، ثم دافعوا عن قادة الإنقلاب وجعلوا فعلهم صواباً، وجعلوا أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بالكتابة خطأ! وهنا بحوث مهمة. راجع: ألف سؤال وإشكال: 2/369.

6- وصایا النبي (صلی الله علیه و آله) العامة والخاصة

مع أن زعماء قریش منعوا النبي (صلی الله علیه و آله) من كتابة عهده لأمته، فقد صدرت عنه مجموعة وصایا: منها للمسلمین، ومنها لعلي وفاطمة والحسنین:.

ومنها وصیته (صلی الله علیه و آله) التي نزل بها جبرئیل، وشهد علیها هو والملائكة:.

ومنها عهد الله تعالی للأئمة (علیهم السلام) الذي جاء به جبرئیل (علیه السلام) في صحف مختومة لكل إمام باسمه.

ومنها عهد الله تعالی الی الأئمة من ذریة فاطمة: في اللوح الذي جاء به جبرئیل (علیه السلام) هدیة من الله تعالی لفاطمة (علیها السلام).

هذا مضافاً الی تأكیداته المتواصلة علی الثقلین والخلیفتین بعده: كتاب الله وعترته أهل بیته:، وعلی علي (علیه السلام) بصفته أول العترة.

ص: 660

ولا یتسع المجال لتفصیل هذه الوصایا النبویة، التي أخفاها رواة السلطة، لكن بقي منها ما فیه بلاغ لمن كان له قلب.

7- تأكیداته الأخیرة علی علي والعترة (علیهم السلام)

في أمالي المفید/134، عن أبي سعید الخدري: «إن آخر خطبة خطبنا بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) لخطبة خطبنا في مرضه الذي توفي فیه، خرج متوكیاً علی علي بن أبي طالب ومیمونة مولاته، فجلس علی المنبر ثم قال: یا أیها الناس إني تارك فیكم الثقلین وسكت. فقام رجل فقال: یا رسول الله ما هذان الثقلان؟ فغضب حتی احمر وجهه ثم سكن، وقال: ما ذكرتهما إلا وأنا أرید أن أخبركم بهما ولكن رَبَوْتُ فلم أستطع: سبب طرفه بید الله وطرف بأیدیكم تعملون فیه كذا، ألا وهو القرآن، والثقل الأصغر أهل بیتي. ثم قال: وأیم الله إني لأقول لكم هذا ورجال في أصلاب أهل الشرك أرجی عندي من كثیر منكم! ثم قال: والله لایحبهم عبد إلا أعطاه الله نوراً یوم القیامة حتی یرد عليَّ الحوض، ولا یبغضهم عبد إلا احتجب الله عنه یوم القیامة»!

وفي مناقب آل أبي طالب: 2/217: «حلیة الأولیاء، وفضایل السمعاني، وكتاب الطبرانی، والنطنزي، بالإسناد عن عبدالرحمن بن أبي لیلی، عن الحسن بن علي قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أُدعوا لي سید العرب یعني علیاً، فقالت عایشة: ألست سید العرب؟ قال: أنا سید ولد آدم وعلي سید العرب. فلما جاء أرسل إلی الأنصار فأتوه فقال: معاشر الأنصار علی ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده. قالوا: بلی یا رسول الله.

قال: هذا علي فأحبوه لحبي وأكرموه لكرامتي، فإن جبرئیل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عزوجل.. وفي روایة: فقالت عایشة: وما السید؟ قال: من افترضت طاعته كما افترضت طاعتي».

وفي كفایة الأثر/41: عن سلمان الفارسي قال: «خطبنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: معاشر الناس إني راحل عن قریب ومنطلق إلی المغیب، أوصیكم فی عترتي

ص: 661

خیراً، وإیاكم والبدع، فإن كل بدعة ضلالة والضلالة وأهلها في النار.

معاشر الناس: من افتقد الشمس فلیتمسك بالقمر، ومن افتقد القمر فلیتمسك بالفرقدین، فإذا فقدتم الفرقدین فتمسكوا بالنجوم الزاهرة بعدي، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. قال: فلما نزل عن المنبر (صلی الله علیه و آله) تبعته حتی دخل بیت عائشة فدخلت إلیه وقلت: بأبي أنت وأمي یا رسول الله سمعتك تقول: إذا افتقدتم الشمس فتمسكوا بالقمر، وإذا افتقدتم القمر فتمسكوا بالفرقدین، وإذا افتقدتم الفرقدین فتمسكوا بالنجوم الزاهرة. قیل: فما الشمس وما القمر وما الفرقدان وما النجوم الزاهرة؟ فقال: أنا الشمس وعلي القمر والحسن والحسین الفرقدان، فإذا افتقدتموني فتمسكوا بعلي بعدي، وإذا افتقدتموه فتمسكوا بالحسن والحسین. وأما النجوم الزاهرة فهم الأئمة التسعة من صلب الحسین تاسعهم مهدیهم. ثم قال (صلی الله علیه و آله): إنهم هم الأوصیاء والخلفاء بعدي، أئمة أبرار، عدد أسباط یعقوب وحواري عیسی.

قلت: فسمهم لي یا رسول الله. قال: أولهم علي بن أبي طالب، وبعده سبطاي، وبعدهما علي زین العابدین، وبعده محمد بن علي الباقر علم النبیین، والصادق جعفر بن محمد، وابنه كاظم سمي موسی بن عمران والذي یقتل بأرض الغربة، ثم ابنه علي، ثم ابنه محمد، والصادقان علي والحسن، والحجة القائم المنتظر فی غیبته، فإنهم عترتي من دمي ولحمي، علمهم علمي وحكمهم حكمي، من آذاني فیهم فلا أناله الله شفاعتي». ومناقب آل أبي طالب: 1/242.

وفي كتاب سلیم/300 و414، أن أمیر المؤمنین ناشد كبار الصحابة، فكان مما قاله: «أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قام خطیباً ولم یخطب بعدها.. ثم دخل بیته فلم یخرج حتی قبضه الله إلیه، وقال: یا أیها الناس، إني قد تركت فیكم أمرین لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وعترتي أهل بیتي، فإنه قد عهد إلی اللطیف الخیبر أنهما لن یفترقا حتی یردا عليَّ الحوض؟ فقالوا: اللهم نعم قد شهدنا ذلك.. فقال (علیه السلام): حسبي الله».

وفي تفسیر العیاشي: 1/5: «عن مسعدة بن صدقة قال: قال أبو عبدالله (علیه السلام): إن الله جعل ولایتنا أهل البیت قطب القرآن وقطب جمیع الكتب، علیها یستدیر محكم

ص: 662

القرآن، وبها نوهت الكتب، ویستبین الإیمان. وقد أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن یقتدی بالقرآن وآل محمد، وذلك حیث قال في آخر خطبة خطبها: إني تارك فیكم الثقلین: الثقل الأكبر و الثقل الأصغر، فأما الأكبر فكتاب ربي، وأما الأصغر فعترتي أهل بیتی، فاحفظوني فیهما فلن تضلوا ما تمسكتم بهما».

وفي الكافي: 2/414: «عن سلیم بن قیس قال: سمعت علیاً صلوات الله علیه یقول وأتاه رجل فقال له: ما أدنی ما یكون به العبد مؤمناً وأدنی ما یكون به العبد كافراً وأدنی ما یكون به العبد ضالاً؟ فقال له: قد سألت فافهم الجواب: أما أدنی ما یكون به العبد مؤمناً أن یعرفه الله تبارك وتعالی نفسه فیقر له بالطاعة، ویعرفه نبیه (صلی الله علیه و آله) فیقر له بالطاعة، ویعرفه إمامه وحجته في أرضه وشاهده علی خلقه فیقر له بالطاعة. قلت له: یا أمیر المؤمنین وإن جهل جمیع الأشیاء إلا ما وصفت؟ قال: نعم إذا أُمِرَ أطاع، وإذا نُهِی انتهی.

وأدنی ما یكون به العبد كافراً: من زعم أن شیئاً نهی الله عنه أن الله أمر به، ونصبه دیناً یتولی علیه ویزعم أنه یعبدالذي أمره به، وإنما یعبدالشیطان.

وأدنی ما یكون به العبد ضالاً أن لا یعرف حجة الله تبارك وتعالی وشاهده علی عباده، الذی أمر الله عزوجل بطاعته وفرض ولایته.

قلت: یا أمیر المؤمنین صفهم لي فقال: الذین قرنهم الله عزوجل بنفسه ونبیه، فقال: یا أَیهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر مِنْكمْ. قلت: یا أمیر المؤمنین جعلني الله فداك أوضح لی، فقال: الذین قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في آخر خطبته یوم قبضه الله عزوجل إلیه: إني قد تركت فیكم أمرین لن تضلوا بعدی ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وعترتي أهل بیتي، فإن اللطیف الخبیر قد عهد إليّ أنهما لن یفترقا حتی یردا عليّ الحوض كهاتین، وجمع بین مسبحتیه، ولا أقول كهاتین، وجمع بین المسبحة والوسطی، فتسبق إحداهما الأخری، فتمسكوا بهما لا تزلوا ولا تضلوا ولا تقدموهم فتضلوا».

وفي المراجعات/279: «وحسبك في وجوب اتباع الأئمة من العترة الطاهرة،

ص: 663

اقترانهم بكتاب الله عزوجل الذي لا یأتیه الباطل من بین یدیه ولا من خلفه، فكما لا یجوز الرجوع إلی كتاب یخالف في حكمه كتاب الله سبحانه وتعالی، لا یجوز الرجوع إلی إمام یخالف في حكمه أئمة العترة».

أقول: ورد في أحادیث النبي (صلی الله علیه و آله) وصف القرآن بالثقل الأكبر، ووصف أئمة العترة بالثقل الأصغر. ثم ورد النص علی أنهما لیسا متفاوتین كالأصبع الوسطی والسبابة، بل هما متساویان كالسبابتین. وهذا یعني أن الصغر والكبر لا یرجع الی ذاتهما فهما متساویان، بل الی شیئ یتعلق بهما وبنوع علاقة الأمة بهما، أو التكلیف والمسؤولیة عنهما وما شابه. وعندنا أن النبي (صلی الله علیه و آله) وكذا عترته: أعظم شأناً وأفضل من القرآن، علی عظمته وعلو شأنه.

8- الوصیة التي نزلت من الله تعالی الی الأئمة (علیهم السلام)

نصت أحادیث وصیة النبي (صلی الله علیه و آله) أنه أملاها علی علي (علیه السلام) فكتبها وأخذ تعهده بها ثم طلب من جبرئیل (علیه السلام) أن یشهد علیها، فعرج بها ثم جاء بصحیفة مختومة ومعه الملائكة لیشهدوا علی تبلیغ النبي (صلی الله علیه و آله) إیاها لعلي (علیه السلام)، وتعهده بتنفیذها!

ففي الكافي: 1/281، عن الإمام الكاظم أنه سأل أباه الصادق (علیهما السلام) قال: «قلت لأبي عبدالله (علیه السلام) ألیس كان أمیر المؤمنین (علیه السلام) كاتب الوصیة ورسول الله (صلی الله علیه و آله) المملي علیه وجبرئیل والملائكة المقربون (علیه السلام) شهود؟ قال: فأطرق طویلاً ثم قال: یا أبا الحسن قد كان ما قلت، ولكن حین نزل برسول الله (صلی الله علیه و آله) الأمر نزلت الوصیة من عند الله كتاباً مسجلاً، نزل به جبرئیل مع أمناء الله تبارك وتعالی من الملائكة، فقال جبرئیل: یا محمد، مُرْ بإخراج من عندك إلا وصیك لیقبضها منا، وتشهدنا بدفعك إیاها إلیه، ضامناً لها، یعنی علیاً (علیه السلام). فأمر النبي (صلی الله علیه و آله) بإخراج من كان في البیت ما خلا علیاً، وفاطمة فیما بین الستر والباب، فقال جبرئیل: یا محمد ربك یقرئك السلام ویقول: هذا كتاب ما كنت عهدت إلیك وشرطت علیك وشهدت به علیك، وأشهدت به علیك ملائكتي وكفی بي یا محمد شهیداً. قال: فارتعدت مفاصل النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: یا جبرئیل، ربي هو السلام، ومنه السلام، وإلیه یعود السلام، صدق عزوجل وبر،

ص: 664

هات الكتاب، فدفعه إلیه وأمره بدفعه إلی أمیر المؤمنین (علیه السلام) فقال له: إقرأه، فقرأه حرفاً حرفاً، فقال: یا علي هذا عهد ربي تبارك وتعالی إليّ وشرطه علَيَّ وأمانته، وقد بلغت ونصحت وأدیت. فقال علي: وأنا أشهد لك بأبي وأمي أنت بالبلاغ والنصیحة، والتصدیق علی ما قلت، ویشهد لك به سمعي وبصري ولحمي ودمي. فقال جبرئیل: وأنا لكما علی ذلك من الشاهدین. فقال رسول الله: یا علي أخذت وصیتي وعرفتها، وضمنت لله ولي الوفاء بما فیها؟ فقال علي: نعم بأبي أنت وأمي علی ضمانها، وعلی الله عوني وتوفیقي علی أدائها.

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): یا علي إنی أرید أن أشهد علیك بموافاتي بها یوم القیامة! فقال علي (علیه السلام) نعم أشهد. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إن جبرئیل ومیكائیل فیما بیني وبینك الآن، وهما حاضران معهما الملائكة المقربون لأشهدهم علیك.

فقال: نعم لیشهدوا وأنا بأبي أنت وأمي أشهدهم. فأشهدهم رسول الله (صلی الله علیه و آله).

وكان فیما اشترط علیه النبي (صلی الله علیه و آله) بأمر جبرئیل (علیه السلام) فیما أمر الله عزوجل أن قال له: یا علي تفي بما فیها من موالاة من والی الله ورسوله، والبراءة والعداوة لمن عادی الله ورسوله والبراءة منهم. علی الصبر منك، وعلی كظم الغیظ، وعلی ذهاب حقك، وغصب خمسك، وانتهاك حرمتك؟

فقال: نعم یا رسول الله. فقال أمیر المؤمنین: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد سمعت جبرئیل (علیه السلام) یقول للنبي (صلی الله علیه و آله): یا محمد عَرِّفْه أنه تُنتهك الحرمة، وهي حرمة الله وحرمة رسول الله، وعلی أن تخضب لحیته من رأسه بدم عبیط!

قال أمیر المؤمنین (علیه السلام): فصعقت حین فهمت الكلمة من الأمین جبرئیل، حتی سقطت علی وجهي وقلت: نعم قبلت ورضیت، وإن انتهكت الحرمة، وعطلت السنن، ومزق الكتاب، وهدمت الكعبة، وخضبت لحیتي من رأسي بدم عبیط، صابراً محتسباً أبداً، حتی أقدم علیك! ثم دعا رسول الله فاطمة والحسن والحسین: وأعلمهم مثل ما أعلم أمیر المؤمنین (علیه السلام)، فقالوا مثل قوله! فختمت الوصیة بخواتیم من ذهب، لم تمسه النار، ودفعت إلی أمیر المؤمنین (علیه السلام).

ص: 665

قال الراوي: فقلت لأبي الحسن«الإمام الكاظم (علیه السلام)»: بأبي أنت وأمي، ألا تذكر ما كان في الوصیة؟ فقال: سنن الله وسنن رسوله. فقلت: أكان في الوصیة توثبهم وخلافهم علی أمیر المؤمنین (علیه السلام) ؟ فقال: نعم والله شیئاً شیئاً، وحرفاً حرفاً، أما سمعت قول الله عزوجل: إِنَّا نَحْنُ نُحْیي الْمَوْتَی وَنَكتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكلَّ شَئٍْ أَحْصَینَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِینٍ.

والله لقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأمیر المؤمنین وفاطمة (صلی الله علیه و آله): ألیس قد فهمتما ما تقدمت به إلیكما وقبلتماه؟ فقالا: بلی وصبرنا علی ما ساءنا وغاظنا»!!

أقول: نقل صاحب البحار (رحمة الله) أحادیث هذه الوصیة: 22/476 من كتاب الطُّرف لابن طاووس (رحمة الله) عن كتاب عیسی بن المستفاد، وهو الراوي الأخیر في سند حدیث الكلیني، عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «قال أمیر المؤمنین (علیه السلام): دعاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) عنده موته وأخرج من كان عنده في البیت غیري، والبیت فیه جبرئیل والملائكة أسمع الحس ولا أری شیئاً، فأخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) كتاب الوصیة من ید جبرئیل مختومة فدفعها إليّ وأمرني أن أفضها ففعلت، وأمرني أن أقرأها فقرأتها فقال: إن جبرئیل عندي، أتاني بها الساعة من عند ربي فقرأتها، فإذا فیها كل ما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) یوصي به شیئاً شیئاً ما تغادر حرفاً!

وبالإسناد المتقدم عنه عن أبیه عن جده الباقر: قال: «قال أمیر المؤمنین (علیه السلام): كنت مسند النبي (صلی الله علیه و آله) إلی صدری لیلة من اللیالي في مرضه، وقد فرغ من وصیته وعنده فاطمة ابنته، وقد أمر أزواجه والنساء أن یخرجن من عنده ففعلن، فقال: یا أبا الحسن تحول من موضعك وكن أمامي، قال ففعلت، وأسنده جبرئیل (علیه السلام) إلی صدره، وجلس میكائیل (علیه السلام) علی یمینه فقال: یا علي ضم كفیك بعضها إلی بعض ففعلت، فقال لي: قد عهدت إلیك أحدث العهد لك بمحضر أمیني رب العالمین: جبرئیل ومیكائیل، یا علي بحقهما علیك إلا أنفذت وصیتي علی ما فیها وعلی قبولك إیاها بالصبر والورع علی منهاجي وطریقي، لا طریق فلان وفلان، وخذ ما آتاك الله بقوة. وأدخل یده فیما بین كفي وكفاي مضمومتان، فكأنه أفرغ بینهما شیئاً فقال: یا علي قد أفرغت بین یدیك الحكمة وقضاء ما یرد علیك، وما هو وارد لا یعزب عنك من أمرك شئ، وإذا حضرتك الوفاة، فأوص وصیتك

ص: 666

إلی من بعدك علی ما أوصیك، واصنع هكذا بلا كتاب ولا صحیفة».

وفیه عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «قال علي بن أبي طالب (علیه السلام): كان في وصیة رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أولها: بسم الله الرحمن الرحیم، هذا ما عهد محمد بن عبدالله (صلی الله علیه و آله) وأوصی به، وأسنده بأمر الله إلی وصیه علي بن أبي طالب أمیر المؤمنین.

وكان في آخر الوصیة: شهد جبرئیل ومیكائیل وإسرافیل علی ما أوصی به محمد إلی علي بن أبي طالب، وقبضه وصیه، وضمانه علی ما فیها علی ما ضمن یوشع بن نون لموسی بن عمران، وعلی ما ضمن وأدی وصي عیسی بن مریم، وعلی ما ضمن الأوصیاء قبلهم، علی أن محمد أفضل النبیین وعلیاً أفضل الوصیین. وأوصی محمد وسلم إلی علي وأقر علي، وقبض الوصیة علی ما أوصی به الأنبیاء، وسلم محمد الأمر إلی علي بن أبي طالب، وولاه الأمر علی أن لانبوة لعلي ولا لغیره بعد محمد، وكفی بالله شهیداً».

وفیه أیضاً: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) حین دفع إلیه الوصیة: إتخذْ لها جواباً غداً بین یدي الله تبارك وتعالی رب العرش، فإنی محاجك یوم القیامة بكتاب الله حلاله وحرامه، ومحكمه ومتشابهه علی ما أنزل الله، وعلی ما أمرتك، وعلی فرائض الله كما أنزلت، وعلی الأحكام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتنابه، مع إقامة حدود الله وشروطه، والأمور كلها، وإقام الصلاة لوقتها، وإیتاء الزكاة لأهلها، وحج البیت، والجهاد في سبیل الله، فما أنت قائل یا علي؟

فقال علي: بأبي أنت وأمي، أرجو بكرامة الله لك ومنزلتك عنده ونعمته علیك، أن یعینني ربي ویثبتني، فلا ألقاك بین یدي الله مقصراً ولا متوانیاً

ولا مفرطاً، ولا أمغز وجهك، وِقَاهُ وجهي ووجوه آبائي وأمهاتي، بل تجدني

بأبي أنت وأمي مشمراً متبعاً لوصیتك ومنهاجك وطریقك ما دمت حیاً، حتی أقدم بها علیك، ثم الأول فالأول من ولدي، لا مقصرین ولا مفرطین.

قال علي (علیه السلام) ثم انكببت علی وجهه وعلی صدره وأنا أقول: واوحشتاه بعدك بأبي أنت وأمي، ووحشة ابنتك وبنیك، بل وأطول غمی بعدك یا أخي، انقطعت

ص: 667

من منزلي أخبار السماء، وفقدت بعدك جبرئیل ومیكائیل، فلا أحس أثراً ولا أسمع حساً، فأغمي علیه طویلاً، ثم أفاق (صلی الله علیه و آله).

قال أبو الحسن: فقلت لأبي: فما كان بعد إفاقته؟ قال: دخل علیه النساء یبكین وارتفعت الأصوات، وضج الناس بالباب من المهاجرین والأنصار، فبیناهم كذلك إذ نودي: أین علي؟ فأقبل حتی دخل علیه، قال علي (علیه السلام) فانكببت علیه فقال: یا أخي إفهم فَهَّمَك الله وسددك وأرشدك ووفقك وأعانك، وغفر ذنبك ورفع ذكرك، إعلم یا أخي أن القوم سیشغلهم عني ما یشغلهم، فإنما مثلك في الأمة مثل الكعبة نصبها الله للناس علماً، وإنما تؤتی من كل فج عمیق ونأي سحیق، ولا تأتي. وإنما أنت علم الهدی ونور الدین وهو نور الله.

یا أخي، والذي بعثني بالحق لقد قدمت إلیهم بالوعید بعد أن أخبرتهم، رجلاً رجلاً، ما افترض الله علیهم من حقك، وألزمهم من طاعتك، وكل أجاب وسلم إلیك الأمر، وإني لأعلم خلاف قولهم! فإذا قبضت وفرغت من جمیع ما أوصیك به، وغیبتني في قبري فالزم بیتك، واجمع القرآن علی تألیفه، والفرائض والأحكام علی تنزیله، ثم امض علی غیر لائمة علی ما أمرتك به، وعلیك بالصبر علی ما ینزل به وبها حتی تقدموا علَيَّ».

وفیه عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «قلت لأبي: فما كان بعد خروج الملائكة عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ قال: فقال: ثم دعا علیاً وفاطمة والحسن والحسین وقال لمن في بیته: أُخرجوا عني، وقال لأم سلمة: كوني علی الباب فلا یقربه أحد ففعلت، ثم قال: یا علی أُدن مني فدنا منه فأخذ بید فاطمة فوضعها علی صدره طویلاً،

وأخذ بید علي بیده الأخری، فلما أراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) الكلام غلبته عبرته، فلم یقدر علی الكلام، فبكت فاطمة (علیها السلام) بكاء شدیداً وعلي والحسن والحسین: لبكاء رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقالت فاطمة: یا رسول الله قد قطعت قلبي، وأحرقت كبدي لبكائك، یا سید النبیین من الأولین والآخرین، ویا أمین ربه ورسوله ویا حبیبه ونبیه، من لولدي بعدك؟ ولذل ینزل بي بعدك؟! من لعلي أخیك وناصر الدین؟ من

ص: 668

لوحي الله وأمره؟ ثم بكت وأكبت علی وجهه فقبلته، وأكب علیه علي والحسن والحسین، فرفع رأسه (صلی الله علیه و آله) إلیهم ویدها في یده فوضعها في ید علي وقال له: یا أبا الحسن هذه ودیعة الله وودیعة رسوله محمد عندك، فاحفظ الله واحفظني فیها وإنك لفاعله. یا علي هذه والله سیدة نساء أهل الجنة من الأولین والآخرین، هذه والله مریم الكبری. أما والله ما بلغت نفسي هذا الموضع حتی سألت الله لها ولكم فأعطاني ما سألته.

یا علي، أنفذ لما أمرتك به فاطمة، فقد أمرتها بأشیاء أمر بها جبرئیل (علیه السلام)، واعلم یا علي أني راض عمن رضیت عنه ابنتي فاطمة، وكذلك ربي وملائكته.

یا علي، ویل لمن ظلمها وویل لمن ابتزها حقها، وویل لمن هتك حرمتها، وویل لمن أحرق بابها، وویل لمن آذی خلیلها، وویل لمن شاقها وبارزها.

اللهم إني منهم بريء، وهم مني برآء، ثم سماهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وضم فاطمة إلیه وعلیاً والحسن والحسین: وقال: اللهم إني لهم ولمن شایعهم سلم، وزعیم بأنهم یدخلون الجنة، وعدو وحرب لمن عاداهم وظلمهم وتقدمهم أو تأخر عنهم وعن شیعتهم، زعیم بأنهم یدخلون النار. ثم والله یا فاطمة لا أرضی حتی ترضَيْ، ثم لا والله لا أرضیٰ حتی ترضَيْ، ثم لا والله لا أرضی حتی ترضَيْ.

قال عیسی: فسألت موسی (علیه السلام) وقلت: إن الناس قد أكثروا في أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمر أبا بكر أن یصلي بالناس ثم عمر، فأطرق عني طویلاً ثم قال: لیس كما ذكروا، ولكنك یا عیسی كثیر البحث عن الأمور، ولا ترضی عنها إلا بكشفها.فقلت: بأبي أنت وأمي إنما أسال عما أنتفع به فی دیني وأتفقه مخافة أن أضل وأنا لا أدري، ولكن متی أجد مثلك یكشفها لي.

فقال: إن النبي (صلی الله علیه و آله) لما ثقل في مرضه دعا علیاً فوضع رأسه في حجره، وأغمي علیه وحضرت الصلاة فأذِّن بها فخرجت عائشة فقالت: یا عمر أُخرج فصل بالناس فقال: أبوك أولی بها، فقالت: صدقت ولكنه رجل لین وأكره أن یواثبه القوم فصلِّ أنت، فقال لها عمر: بل یصلي هو وأنا أكفیه إن

ص: 669

وثب واثب أو تحرك متحرك، مع أن محمداً مغمی علیه لا أراه یفیق منها، والرجل مشغول به لا یقدر أن یفارقه، یرید علیاً (علیه السلام)، فبادره بالصلاة قبل أن یفیق، فإنه إن أفاق خفت أن یأمر علیاً بالصلاة، فقد سمعت مناجاته منذ اللیلة، وفي آخر كلامه: الصلاة الصلاة! قال: فخرج أبو بكر لیصلي بالناس فأنكر القوم ذلك، ثم ظنوا أنه بأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فلم یكبِّر حتی أفاق (صلی الله علیه و آله) وقال: أُدعوا لي العباس فدعی فحمله هو وعلي فأخرجاه حتی صلی بالناس وإنه لقاعد، ثم حمل فوضع علی منبره فلم یجلس بعد ذلك علی المنبر، واجتمع له جمیع أهل المدینة من المهاجرین والأنصار حتی برزت العواتق من خدورهن، فبین باك وصائح وصارخ ومسترجع والنبي یخطب ساعة ویسكت ساعة، وكان مما ذكر في خطبته أن قال: یا معشر المهاجرین والأنصار ومن حضرني في یومي هذا وفي ساعتي هذه من الجن والإنس: فلیبلغ شاهدكم الغائب، ألا قد خلفت فیكم كتاب الله، فیه النور والهدی والبیان، ما فرط الله فیه من شئ، حجة الله لي علیكم، وخلفت فیكم العلم الأكبر علم الدین ونور الهدی وصیي علي بن أبي طالب، ألا هو حبل الله فاعتصموا به جمیعاً ولا تفرقوا عنه.

أیها الناس: ومن كانت له قبلي تبعة فها أنا، ومن كانت له عدة فلیأت فیها علي بن أبي طالب، فإنه ضامن لذلك كله حتی لا یبقی لأحد علي تباعة».

أقول: تدل أحادیث وصیة النبي (صلی الله علیه و آله) علی أن الإمامة مهمة هدایة البشریة بعد النبوة ولها مسؤولیتها الثقیلة وعهدها میثاقها، وعلومها وأسرارها الربانیة.

لكن زعماء قریش قرروا أن لایفهموا الإمامة وخلافة النبوة إلا رئاسة دولة محمد والتمتع بسلطانه، وقالوا لیس من العدل أن یجمع بنو هاشم النبوة والخلافة! فالنبوة سهمهم والخلافة لبقیة البطون!

والله أصدق منهم حیث یقول: أهُمْ یقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّك، نَحْنُ قَسَمْنَا بَینَهُمْ مَعِیشَتَهُمْ.

ص: 670

9- وصیة النبي (صلی الله علیه و آله) لنسائه وعائشة خاصة

في إرشاد القلوب/337 والبحار: 28/107، عن حذیفة بن الیمان قال: «أمر (صلی الله علیه و آله) خادمةً لأم سلمة فقال: إجمعي لي هؤلاء یعني نساءه، فجمعتهن له في منزل

أم سلمة، فقال لهن: إسمعن ما أقول لكن، وأشار بیده إلی علي بن أبي طالب فقال لهن: هذا أخي ووصیي ووارثي والقائم فیكن وفي الأمة من بعدي، فأطعنه فیما یأمركن به، ولا تعصینه فتهلكن لمعصیته.

ثم قال: یا علي أوصیك بهن فأمسكهن ما أطعن الله وأطعنك، وأنفق علیهن من مالك وأمرهن بأمرك وانههن عما یریبك، وخل سبیلهن إن عصینك.

فقال علي (علیه السلام) یا رسول الله إنهن نساء وفیهن الوهن وضعف الرأي. فقال (صلی الله علیه و آله): إرفق بهن ما كان الرفق أمثل، فمن عصاك منهن فطلقها طلاقاً یبرأ الله ورسوله منها. قال: كل نساء النبي (صلی الله علیه و آله) قد صمتن فما یقلن شیئاً، فتكلمت عائشة فقالت: یا رسول الله ما كنا لتأمرنا بشئ فنخالفه إلی ما سواه! فقال لها: بلی قد خالفت أمری أشد خلاف! وأیم الله لتخالفین قولي هذا ولتعصینه بعدي، ولتخرجین من البیت الذي خلفتك فیه متبرجة فیه، قد حف بك فئات من الناس فتخالفینه ظالمة له عاصیة لربك ولتنبحنك في طریقك كلاب الحوأب. ألا إن ذلك كائن! ثم قال: قمن فانصرفن إلی منازلكن فقمن فانصرفن».

10- النبي (صلی الله علیه و آله) یخرج عمه العباس من وصیته

في الكافي: 1/236، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما حضرت رسول الله (صلی الله علیه و آله) الوفاة دعا العباس بن عبدالمطلب وأمیر المؤمنین (علیه السلام) فقال للعباس: یا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضي دینه وتنجز عداته؟ فرد علیه فقال: یا رسول الله

بأبي أنت وأمي إنی شیخ كثیر العیال قلیل المال، من یطیقك وأنت تباري الریح!

قال: فأطرق هنیئة ثم قال: یا عباس أتأخذ تراث محمد، وتنجز عداته وتقضي دینه؟ فقال بأبي أنت وأمي شیخ كثیر العیال قلیل المال وأنت تباري الریح!

ص: 671

قال (صلی الله علیه و آله): أما إني سأعطیها من یأخذها بحقها، ثم قال:

یا علي یا أخا محمد أتنجز عدات محمد وتقضي دینه وتقبض تراثه؟

فقال: نعم، بأبي أنت وأمي ذاك علي ولي. قال: فنظرت إلیه حتی نزع خاتمه من إصبعه فقال: تختم بهذا في حیاتي! قال: فنظرت إلی الخاتم حین وضعته في إصبعي فتمنیت من جمیع ما ترك الخاتم.

ثم صاح: یا بلال علَيَّ بالمغفر والدرع والرایة والقمیص وذي الفقار والسحاب والبرد والأبرقة والقضیب. قال: فوالله ما رأیتها غیر ساعتي تلك، یعنی الأبرقة، فجئ بشقة كادت تخطف الأبصار فإذا هي من أبرق الجنة، فقال: یا علي إن جبرئیل أتاني بها وقال: یامحمد إجعلها في حلقة الدرع واستدفر بها مكان المنطقة، ثم دعا بزوجَي نعال عربیین جمیعاً، أحدهما مخصوف والآخر غیر مخصوف، والقمیص الذي أسري به فیه، والقمیص الذي خرج فیه یوم أحد، والقلانس الثلاث: قلنسوة السفر وقلنسوة العیدین والجمع، وقلنسوة كان یلبسها ویقعد مع أصحابه. ثم قال: یا بلال علي بالبغلتین الشهباء والدلدل، والناقتین العضباء والقصوی، والفرسین: الجناح كانت توقف بباب المسجد لحوائج رسول الله (صلی الله علیه و آله) یبعث الرجل في حاجته فیركبه فیركضه في حاجة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وحیزوم وهو الذي كان یقول: أقدم حیزوم، والحمار عفیر فقال: إقبضها في حیاتي. فذكر أمیر المؤمنین (علیه السلام) أن أول شئ من الدواب توفي عفیر ساعة قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله)، قطع خطامه ثم مر یركض حتی أتی بئر بني خطمة بقباء، فرمی بنفسه فیها فكانت قبره». وعلل الشرائع: 1/166 والمناقب: 2/248.

وفي مناقب محمد بن سلیمان: 1/432: «یا عباس ترثني وتقضي دینی وتنجز عني عداتي؟ قال: بل یعافیك الله یا رسول الله وهل یسع هذا مال بني عبدالمطلب... فقال علي: نعم یا رسول الله. قال فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي: أنت لذاك أنت لذاك یا علي. قال: فمكث علي تسع سنین ینشد الناس في كل موسم: هل یطلب أحد رسول الله (صلی الله علیه و آله) بدین أو بموعد حتی أنجز عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) عداته وقضاء دینه؟ قال: ثم قام بذلك الحسن من بعد علي (علیه السلام)».

ص: 672

وفي الإرشاد: 1/184، قال العباس للنبی (صلی الله علیه و آله): «یا رسول الله إن یكن هذا الأمر فینا مستقراً بعدك فبشرنا، وإن كنت تعلم أنا نغلب علیه فأوص بنا، فقال: أنتم المستضعفون من بعدي، وأصمت! فنهض القوم وهم یبكون قد أیسوا من النبي! فلما خرجوا من عنده قال: أُرددوا علی أخي علي بن أبي طالب وعمي، فأنفذوا من دعاهما فحضرا، فلما استقر بهما المجلس قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): یا عباس یا عم رسول الله، تقبل وصیتي وتنجز عدتي وتقضي عني دیني؟ فقال العباس: یا رسول الله، عمك شیخ كبیر ذو عیال كثیر، وأنت تباري الریح سخاء وكرماً، وعلیك وعد لا ینهض به عمك..الی آخر ما تقدم».

11- قوله (صلی الله علیه و آله) لفاطمة (علیها السلام): أنت أول أهل بیتي لحوقاً بي

روت مصادرنا ومصادرهم حدیث عائشة وأنها قالت عن فاطمة الزهراء (علیها السلام): «كنَّ أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) عنده لم یغادر منهن امرأة، فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تمشي ما تخطئ مشیتها من مشیة رسول الله (صلی الله علیه و آله) شیئاً، فلما رآها رحب بها ثم قال: مرحباً بابنتي، ثم أجلسها عن یمینه أو عن شماله، ثم سارَّها فبكت بكاءً شدیداً فلما رأی جزعها سارَّها الثانیة فضحكت! فقلنا: خصَّك رسول الله (صلی الله علیه و آله) من نسائه بالسِّرار ثم أنت تبكي؟! فضحكت. قلت: ما رأیت ضحكاً أقرب من بكاء، فلما قامت سألتها ما قال لك رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ قالت: ما كنت لأفشي علی رسول الله سره. فلما توفي قلت: عزمت علیك بمالي علیك من الحق لما حدثتني بما قال لك. فقالت: أما الآن فنعم، أما حین سارَّني في المرة الأولی فأخبرني أن جبریل كان یعارضه بالقرآن في كل سنة مرة، وأنه عارضه العام مرتین، وأني أری الأجل قد اقترب فاتقي الله واصبري، فإني نعم السلف أنا لك! فبكیت بكائي الذي رأیت، فلما رأی جزعي سارَّنی الثانیة فقال: یا فاطمة أما ترضین أن تكوني سیدة نساء المؤمنین. فقال: یا بنیة لا تجزعي فإني سألت ربي أن یجعلك أول أهل بیتي لحاقاً بي فأخبرني أنه قد استجاب لي، فضحكت ضحكي الذي رأیت».شرح الأخبار: 3/23، العمدة/386، مسلم: 7/143، الآحاد: 5/367 وابن راهویه: 8/5/8.

ص: 673

وفي البحار: 22/490، عن الإمام الكاظم (علیه السلام) عن أبیه (علیه السلام) قال: «لما كانت اللیلة التي قبض النبي (صلی الله علیه و آله) في صبیحتها دعا علیاً وفاطمة والحسن والحسین: وأغلق علیه الباب وعلیهم وقال لفاطمة (علیها السلام) وأدناها منه، فناجی من اللیل طویلاً، فلما طال ذلك خرج علي ومعه الحسن والحسین (علیهما السلام) وأقاموا بالباب والناس خلف ذلك، ونساء النبي (صلی الله علیه و آله) ینظرن إلی علي (علیه السلام) ومعه ابناه فقالت عائشة: لأمر ما أخرجك عنه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخلا بابنته دونك في هذه الساعة؟ فقال لها علي (علیه السلام) قد عرفت الذي خلا بها وأرادها له، وهو بعض ما كنت فیه، وأبوك وصاحباه قد أسماه! فوجمت أن ترد علیه كلمة!

قال علي (علیه السلام) فما لبثت أن نادتني فاطمة فدخلت علی النبي (صلی الله علیه و آله) وهو یجود بنفسه، فبكیت ولم أملك نفسي حین رأیته بتلك الحال یجود بنفسه، فقال لي: ما یبكیك یا علي؟ لیس هذا أوان البكاء فقد حان الفراق بیني وبینك، فأستودعك الله یا أخي فقد اختار لي ربي ما عنده، وإنما بكائي وغمي وحزني علیك وعلی هذه أن تضیع بعدي، فقد أجمع القوم علی ظلمكم، وقد استودعتكم الله وقبلكم مني ودیعة. یا علي إني قد أوصیت فاطمة ابنتي بأشیاء وأمرتها أن تلقیها إلیك فأنفذها فهي الصادقة الصدوقة، ثم ضمها إلیه وقبل رأسها وقال: فداك أبوك یا فاطمة! فعلا صوتها بالبكاء، ثم ضمها إلیه وقبل رأسها وقال: أما والله لینتقمن الله ربي ولیغضبن لغضبك! فالویل ثم الویل ثم الویل للظالمین، ثم بكی (صلی الله علیه و آله) !

قال علي (علیه السلام) فوالله لقد حسست بضعة مني ذهبت لبكائه حتی هملت عیناه كمثل المطر، حتی بلت دموعه لحیته وملاءة كانت علیه، وهو ملتزم فاطمة (علیها السلام) ورأسه علی صدري وأنا مسنده، والحسن والحسین یقبلان قدمیه، وهما یبكیان بأعلی أصواتهما. قال علي (علیه السلام) فلو قلت إن جبرئیل لم یكن في مثل تلك اللیلة یفارق النبي (صلی الله علیه و آله) لقد رأیت من بكائها ما أحسست أن السماوات والأرضین قد بكت لها، ثم قال لها: یا بنیة خلیفتي علیكم الله وهو خیر خلیفة، والذی بعثني بالحق لقد بكی لبكائك عرش الله وما حوله من الملائكة، والسماوات والأرضون وما فیها، یا فاطمة والذي بعثنی

ص: 674

بالحق نبیاً، لقد حرمت الجنة علی الخلائق حتی أدخلها، وإنك لأول خلق الله كاسیة حالیة ناعمة، یا فاطمة فهنیئاً لك.

والذي بعثني بالحق إن الحور العین لیفخرن بك وبقربك منهن، ویتزین لزینتك، والذي بعثني بالحق إنك لسیدة من یدخلها من النساء.

والذي بعثني بالحق إن جهنم لتزفر زفرة لا یبقی ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا صعق، فینادی بها إلیك أن یاجهنم یقول لك الجبار: أُسكتي واستقري بعزتي حتی تجوز فاطمة بنت محمد إلی الجنان، ولا یشغلهم قتر ولا ذلة.

والذی بعثني بالحق لیدخل حسن عن یمینك، وحسین عن یسارك، والحور العین یتشرفن من أعلی الجنان فینظرن إلیك بین یدي الله في المقام الشریف. ولواء الحمد مع علي بن أبي طالب (علیه السلام) أمامي، یكسی إذا كسیت ویحَلَّی إذا حُلِّیت. والذي بعثني بالحق لأقومن بالخصومة لأعدائك، ولیندمن قوم ابتزوا حقك وقطعوا مودتك وكذبوا علي! ولیختلجن دوني فأقول: أمتي! فیقال: إنهم بدلوا بعدك، وصاروا إلی السعیر».

وفي كمال الدین/262: «عن سلیم بن قیس الهلالي قال: سمعت سلمان الفارسي رضی الله عنه یقول: كنت جالساً بین یدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مرضته التي قبض فیها، فدخلت فاطمة (علیها السلام) فلما رأت ما بأبیها من الضعف بكت حتی جرت دموعها علی خدیها فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما یبكیك یا فاطمة؟ قالت: یا رسول الله أخشی علی نفسي وولدي الضیعة بعدك! فاغرورقت عینا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالبكاء، ثم قال: یا فاطمة أما علمت أنا أهل بیت اختار الله عزوجل لنا الآخرة علی الدنیا، وإنه حتم الفناء علی جمیع خلقه، وإن الله تبارك وتعالی اطلع إلی الأرض اطلاعة فاختارني من خلقه فجعلنی نبیاً، ثم اطلع إليَّ الأرض اطلاعة ثانیة فاختار منها زوجك وأوحی الی أن أزوجك إیاه، وأتخذه ولیاً ووزیراً، وأن أجعله خلیفتي في أمتي. فأبوك خیر أنبیاء الله ورسله، وبعلك خیر الأوصیاء، وأنت أول من یلحق بي من أهلي. ثم اطلع إلی الأرض اطلاعة

ص: 675

ثالثة فاختارك وولدیك، فأنت سیدة نساء أهل الجنة وابناك حسن وحسین سیدا شباب أهل الجنة، وأبناء بعلك أوصیائي إلی یوم القیامة، كلهم هادون مهدیون، وأول الأوصیاء بعدي أخي علي، ثم حسن ثم حسین، ثم تسعة من ولد الحسین في درجتي، ولیس في الجنة درجة أقرب إلی الله من درجتي ودرجة أبي إبراهیم. أما تعلمین یا بنیة إن من كرامة الله إیاك أن زوجك خیر أمتي، وخیر أهل بیتي أقدمهم سلماً، وأعظمهم حلماً، وأكثرهم علماً؟!

فاستبشرت فاطمة وفرحت بما قال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ثم قال: یا بنیة إن لبعلك مناقب: إیمانه بالله ورسوله قبل كل أحد، فلم یسبقه إلی ذلك أحد من أمتي، وعلمه بكتاب الله عزوجل وسنتي ولیس أحد من أمتي یعلم جمیع علمي غیر علي (علیه السلام)، وإن الله جل وعز علمني علماً لا یعلمه غیري، وعلم ملائكته ورسله علماً، فكلما علمه ملائكته ورسله فأنا أعلمه، وأمرني الله أن أعلمه إیاه ففعلت، فلیس أحد من أمتي یعلم جمیع علمي وفهمي وحكمتي غیره. وإنك یا بنیة زوجته، وابناه سبطاي حسن وحسین وهما سبطا أمتي، وأمره بالمعروف ونهیه عن المنكر، فإن الله عزوجل آتاه الحكمة وفصل الخطاب...الخ.

ثم أقبل علی علي (علیه السلام) فقال: یا أخي أنت ستبقی بعدي، وستلقی من قریش شدة من تظاهرهم علیك وظلمهم لك، فإن وجدت علیهم أعواناً فجاهدهم وقاتل من خالفك بمن وافقك، وإن لم تجد أعواناً فاصبر وكفَّ یدك، ولا تلق بها إلی التهلكة، فإنك منی بمنزلة هارون من موسی، ولك بهارون أسوة حسنة إذ استضعفه قومه وكادوا یقتلونه! فاصبر لظلم قریش إیاك، وتظاهرهم علیك فإنك بمنزلة هارون ومن تبعه، وهم بمنزلة العجل ومن تبعه.

یا علي إن الله تبارك وتعالی قد قضی الفرقة والإختلاف علی هذه الأمة، ولو شاء الله

لجمعهم علی الهدی، لایختلف فیه اثنان من هذه الأمة، ولا ینازع فی شئ من أمره، ولایجحد المفضول لذي الفضل فضله. ولو شاء لعجل النقمة وكان منه التغییرحتی یكذَّبَ الظالم ویعلم الحق أین مصیره، ولكنه جعل الدنیا دار الأعمال وجعل

ص: 676

الآخرة دار القرار: لِیجْزِيَ الَّذِینَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَیجْزِيَ الَّذِینَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَی. فقال علي (علیه السلام) الحمد لله شكراً علی نعمائه، وصبراً علی بلائه».

أقول: روت مصادر السلطة هذا الحدیث وحذفت منه، لكن ما بقي منه حجة كافیة لمن یرید الحق! ففي الطبراني الكبیر: 3/57: «عن علي بن علي المكي الهلالي عن أبیه قال: دخلت علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) فی شكاته التي قبض فیها، فإذا فاطمة رضي الله عنها عند رأسه، قال: فبكت حتی ارتفع صوتها فرفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) طرفه إلیها فقال: حبیبتي فاطمة ما الذي یبكیك؟ فقالت: أخشی الضیعة من بعدك! فقال: یا حبیبتي أما علمت أن الله عزوجل اطلع إلی الأرض اطلاعة فاختار منها أباك فبعث برسالته، ثم اطلع اطلاعة فاختار منها بعلك وأوحی إليَّ أن أنكحك إیاه. یا فاطمة ونحن أهل بیت قد أعطانا الله سبع خصال لم یعط أحد قبلنا ولا یعطی أحد بعدنا: أنا خاتم النبیین وأكرم النبیین علی الله وأحب المخلوقین إلی الله عزو جل وأنا أبوك. ووصیي خیر الأوصیاء وأحبهم إلی الله وهو بعلك، وشهیدنا خیر الشهداء وأحبهم إلی الله، وهو عمك حمزة بن عبدالمطلب وهو عم أبیك وعم بعلك. ومنا من له جناحان أخضران یطیر في الجنة مع الملائكة حیث یشاء، وهو ابن عم أبیك وأخو بعلك. ومنا سبطا هذه الأمة وهما ابناك الحسن والحسین وهما سیدا شباب أهل الجنة، وأبوهما والذي بعثني بالحق خیر منهما.

یا فاطمة والذي بعثنی بالحق إن منهما مهدي هذه الأمة، إذا صارت الدنیا هرجاً ومرجاً، وتظاهرت الفتن وتقطعت السبل، وأغار بعضهم علی بعض، فلا كبیر یرحم صغیراً، ولا صغیر یوقر كبیراً، فیبعث الله عزوجل عند ذلك منهما من یفتح حصون الضلالة وقلوباً غلفاً! یقوم بالدین آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان، ویملأ الدنیا عدلاً كما ملئت جوراً.

یا فاطمة لا تحزني ولا تبكي، فإن الله عزوجل أرحم بك وأرأف علیك مني وذلك لمكانك من قلبي، وزوَّجك الله زوجاً هو أشرف أهل بیتك حسباً

ص: 677

وأكرمهم منصباً، وأرحمهم بالرعیة وأعدلهم بالسویة وأبصرهم بالقضیة، وقد سألت ربي عزوجل أن تكوني أول من یلحقني من أهل بیتي!

قال علي رضی الله عنه: فلما قبض النبي (صلی الله علیه و آله) لم تبق فاطمة رضي الله عنها بعده إلا خمسة وسبعین یوماً، حتی ألحقها الله عزوجل به».

12- وصیة النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) بتجهیزه

في روضة الواعظین/71: «قال ابن عباس: لما مرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعنده أصحابه قام إلیه عمار بن یاسر وقال له: فداك أبي وأمي یا رسول الله من یغسلك منا إذا كان ذلك منك؟ قال: ذاك علي بن أبي طالب، إنه لا یهم بعضو من أعضائي، إلا أعانته الملائكة علی ذلك».

وفي كفایة الأثر/124، عن عمار، قال: «لما حضرت رسول الله (صلی الله علیه و آله) الوفاة دعا بعلي فسارَّه طویلاً ثم قال: یا علي أنت وصیي ووارثي، قد أعطاك الله علمي وفهمي، فإذا مت ظهرت لك ضغائن في صدور قوم، وغصب علی حقد.

فبكت فاطمة وبكی الحسن والحسین: فقال لفاطمة: یا سیدة النسوان مم بكاؤك؟ قالت: یا أبة أخشی الضیعة بعدك! قال: أبشري یا فاطمة فإنك أول من یلحقني من أهل بیتي، ولا تبكي ولا تحزني، فإنك سیدة نساء أهل الجنة، وأباك سید الأنبیاء، وابن عمك خیر الأوصیاء، وابناك سیدا شباب أهل الجنة، ومن صلب الحسین یخرج الله الأئمة التسعة مطهرون معصومون، ومنا مهدي هذه الأمة. ثم التفت إلی علي (علیه السلام) فقال: یا علي لایلي غسلي وتكفیني غیرك.

فقال علي (علیه السلام) یا رسول الله من یناولني الماء فإنك رجل ثقیل لاأستطیع أن أقلبك. فقال: إن جبرئیل معك والفضل یناولك الماء ولیغطي عینیه، فإنه لا یری أحد عورتي إلا انفقأت عینیه».

أي لایری أحد غیر علي (علیه السلام) بدن النبي (صلی الله علیه و آله) بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) إلا عمي،

وهي خصوصیة لبدنه بعد وفاته (صلی الله علیه و آله)، وخصوصیة لعلي (علیه السلام).

ویدل علی ذلك أن علیاً (علیه السلام) لا یمكن أن ینظر الی عورته (صلی الله علیه و آله)، وأن الفضل كان

ص: 678

معصوب العینین، فیتعین أن یكون المقصود بدنه (صلی الله علیه و آله) غیر عورته، ویؤیده أن ابن المغازلي روی في المناقب/99، أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال:«لا یحلُّ لرجل یرَی مُجَرّدي إلاّ علي». والمجرد ما تحت القمیص، وهو غیر العورة، وقد عبر عنه بالعورة.

وفي أمالي الطوسی/600، عن الإمام الباقر (علیه السلام) عن أبیه عن جده علي (علیه السلام) قال: «لما ثقل رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مرضه الذي قبض فیه كان رأسه في حجري... فقال: یا علي أجلسني، فأجلسته وأسندته إلی صدري. قال علي (علیه السلام) فلقد رأیت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإن رأسه لیثقل ضعفاً، وهو یقول یسمع أقصی أهل البیت وأدناهم: أن أخي ووصیی ووزیري وخلیفتي في أهلي علي بن أبي طالب، یقضي دیني وینجز موعدي. یا بني هاشم یا بني عبدالمطلب: لا تبغضوا علیاً ولا تخالفوا أمره فتضلوا، ولا تحسدوه وترغبوا عنه فتكفروا، أضجعني یا علي فأضجعته.

فقال: یا بلال إئتني بولدَيْ الحسن والحسین، فانطلق فجاء بهما فأسندهما إلی صدره فجعل (صلی الله علیه و آله) یشمهما، قال علي: فظننت أنهما قد غمَّاه فذهبت لآخذهما عنه فقال: دعهما یا علي یشماني وأشمهما ویتزودا مني وأتزود منهما، فسیلقیان من بعدي أمراً عضالاً، فلعن الله من یخیفهما.اللهم إني أستودعكهما وصالح المؤمنین»

وفي الإرشاد: 1/184: «وكان أمیر المؤمنین لا یفارقه إلا لضرورة، فقام في بعض شؤونه، فأفاق (علیه السلام) إفاقة فافتقد علیاً (علیه السلام) فقال وأزواجه حوله: أُدعوا لي أخي وصاحبي، وعاوده الضعف فأصمت، فقالت عائشة: أُدعوا له أبا بكر، فَدُعِي فدخل علیه فقعد عند رأسه، فلما فتح عینه نظر إلیه وأعرض عنه بوجهه، فقام أبو بكر وقال: لو كان له إليَّ حاجة لأفضی بها إليّ.

فلما خرج أعاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) القول ثانیة وقال: أُدعوا لي أخي وصاحبي، فقالت حفصة: أُدعوا له عمر، فدعی فلما حضر رآه النبي (صلی الله علیه و آله) فأعرض عنه فانصرف، ثم قال (علیه السلام): أُدعوا لي أخي وصاحبي، فقالت أم سلمة:

أُدعوا له علیاً فإنه لا یرید غیره، فدعی أمیر المؤمنین فلما دنا منه أومأ إلیه، فأكب علیه فناجاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) طویلاً، ثم قام فجلس ناحیة حتی أغفی

ص: 679

رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال له الناس: ما الذی أوعز إلیك یا أبا الحسن؟ فقال: علمني ألف باب فتح لي كل باب ألف باب، ووصاني بما أنا قائم به إن شاء الله.

ثم ثقل (صلی الله علیه و آله) وحضره الموت وأمیر المؤمنین (علیه السلام) حاضر عنده. فلما قرب خروج نفسه قال له: ضع رأسي یا علي فی حجرك، فقد جاء أمر الله عزوجل، فإذا فاضت نفسي فتناولها بیدك وامسح بها وجهك، ثم وجهني إلی القبلة، وتول أمري، وصل علي أول الناس، ولا تفارقني حتی تواریني في رمسي، واستعن بالله تعالی. فأخذ علي (علیه السلام) رأسه فوضعه في حجره فأغمي علیه (صلی الله علیه و آله)، فأكبت فاطمة (علیها السلام) تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول:

وأبیضُ یستسقی الغَمامُ بوجهه *** ثمالُ الیتامی عصمة للأرامل

ففتح رسول الله (صلی الله علیه و آله) عینیه وقال بصوت ضئیل: یا بنیة هذا قول عمك أبي طالب (رحمة الله) لا تقولیه ولكن قولي: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَی أَعْقَابِكمْ.. فبكت طویلاً، فأومأ إلیها بالدنو منه، فدنت فأسرَّ إلیها شیئاً تهلل له وجهها. ثم قضی (صلی الله علیه و آله) وید أمیر المؤمنین (علیه السلام) الیمنی تحت حنكه ففاضت نفسه (صلی الله علیه و آله) فیها، فرفعها إلی وجهه فمسحه بها، ثم وجهه وغمضه ومد علیه إزاره».

وفي الكافي: 1/297: «عن یونس بن رباط قال: دخلت أنا وكامل التمار علی أبي عبدالله (علیه السلام) قال له كامل: جعلت فداك حدیث رواه فلان؟ فقال: أُذكره، فقال: حدثني أن النبي (صلی الله علیه و آله) حدث علیاً (علیه السلام) بألف باب یوم توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله)، كل باب یفتح ألف باب فذلك ألف ألف باب؟ فقال: لقد كان ذلك. قلت: جعلت فداك فظهر ذلك لشیعتكم وموالیكم؟ فقال: یا كامل باب أو بابان. فقلت: جعلت فداك، فما یروی من فضلكم من ألف ألف باب إلا باب أو بابان؟ قال: وما عسیتم أن ترووا من فضلنا، ما تروون من فضلنا إلا ألفاً غیر معطوفة»!

13- صفة احتضاره ووفاته (صلی الله علیه و آله)

في الفقیه: 4/163، عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: «لما حضرت النبي (صلی الله علیه و آله) الوفاة نزل جبرئیل (علیه السلام) فقال: یا رسول الله هل لك في الرجوع إلی الدنیا؟ فقال: لا، قد

ص: 680

بلغت رسالات ربي. فأعادها علیه، فقال: لا، بل الرفیق الأعلی. ثم قال النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمون حوله مجتمعون: أیها الناس إنه لا نبي بعدي، ولا سنة بعد سنتي، فمن ادعی بعد ذلك فدعواه وبدعته في النار فاقتلوه، ومن اتبعه فإنه في النار. أیها الناس: أحیوا القصاص، وأحیوا الحق لصاحب الحق، ولا تفرقوا، أسلموا وسلموا تسلموا: كتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِي عَزِیزٌ».

وفي أمالي الصدوق/384، أنه دخل علی الإمام زین العابدین (علیه السلام) رجلان من قریش فقال: «ألا أحدثكما عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ فقالا: بلی حدثنا عن أبي القاسم. قال: سمعت أبي (علیه السلام) یقول: لما كان قبل وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثلاثة أیام هبط علیه جبرئیل (علیه السلام) فقال: یا أحمد، إن الله أرسلنی إلیك إكراماً وتفضیلاً لك وخاصة، یسألك عما هو أعلم به منك یقول: كیف تجدك یا محمد؟ قال النبي (صلی الله علیه و آله): أجدني یا جبرئیل مغموماً، وأجدني یا جبرئیل مكروباً!

فلما كان الیوم الثالث هبط جبرئیل وملك الموت، ومعهما ملك یقال له إسماعیل في الهواء علی سبعین ألف ملك، فسبقهم جبرئیل (علیه السلام) فقال: یا أحمد، إن الله عزوجل أرسلني إلیك إكراماً لك وتفضیلاً لك خاصة، یسألك عما هو أعلم به منك، فقال: كیف تجدك یا محمد؟ قال: أجدني یا جبرئیل مغموماً، وأجدني یاجبرئیل مكروباً! فاستأذن ملك الموت فقال جبرئیل: یا أحمد هذا ملك الموت یستأذن علیك لم یستأذن علی أحد قبلك، ولایستأذن علی أحد بعدك. قال: إئذن له، فأذن له جبرئیل فأقبل حتی وقف بین یدیه فقال: یا أحمد، إن الله أرسلنی إلیك، وأمرنی أن أطیعك فیما تأمرني، إن أمرتني بقبض نفسك قبضتها، وإن كرهت تركتها. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أتفعل ذلك یا ملك الموت؟ قال: نعم، بذلك أمرت أن أطیعك فیما تأمرني. فقال له جبرئیل (علیه السلام): یا أحمد، إن الله تبارك وتعالی قد اشتاق إلی لقائك. فقال رسول الله لملك الموت: إمض لما أمرت به، فقال جبرئیل (علیه السلام): هذا آخر وطئي الأرض، إنما كنت حاجتي من الدنیا».

وفي الإرشاد/187: «ثم قضی (صلی الله علیه و آله) وید أمیر المؤمنین (علیه السلام) الیمنی تحت حنكه

ص: 681

ففاضت نفسه فیها، فرفعها إلی وجهه فمسحه بها، ثم وجَّهَه وغمضه، ومد علیه إزاره، واشتغل بالنظر في أمره».

14- صفة تغسیله وتحنیطه وتكفینه (صلی الله علیه و آله)

في الإرشاد/187: «لما أراد أمیر المؤمنین غسله صلوات الله علیه، استدعی الفضل بن عباس فأمره أن یناوله الماء لغسله بعد أن عصب عینیه، ثم شق قمیصه من قبل جیبه حتی بلغ به إلی سرته، وتولی (علیه السلام) غسله وتحنیطه وتكفینه، والفضل یعاطیه الماء ویعینه علیه، فلما فرغ من غسله وتجهیزه تقدم فصلی علیه وحده، لم یشركه معه أحد فی الصلاة علیه». ثم صلی علیه المسلمون كما یأتي.

وفي البحار: 22/492، عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «قال علي بن أبي طالب (علیه السلام): كان في الوصیة أن یدفع إليَّ الحنوط، فدعاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل وفاته بقلیل فقال: یا علي ویا فاطمة هذا حنوطي من الجنة، دفعه إلی جبرئیل وهو یقرئكما السلام ویقول لكما: إقسماه واعزلا منه لي ولكما. قالت: لك ثلثه، ولیكن الناظر في الباقي علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فبكی رسول الله (صلی الله علیه و آله) وضمها إلیه. وقال: موفقة رشیدة مهدیة ملهمة. یا علي قل في الباقي، قال: نصف ما بقي لها، ونصف لمن تری یا رسول الله، قال: هو لك فاقبضه.قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): یاعلي أضمنت دیني تقضیه عنی؟قال: نعم، قال: اللهم فاشهد.ثم قال: یا علي تغسلني ولا یغسلني غیرك فیعمی بصره، قال علي: ولم یا رسول الله؟ قال: كذلك قال جبرئیل (علیه السلام) عن ربي، إنه لا یری عورتي«أي بدني»غیرك إلا عمي بصره!

قال علي: فكیف أقوی علیك وحدي؟ قال: یعینك جبرئیل ومیكائیل وإسرافیل وملك الموت وإسماعیل صاحب السماء الدنیا.

قلت: فمن یناولني الماء؟ قال: الفضل بن العباس من غیر أن ینظر إلی شئ مني فإنه لا یحل له ولا لغیره من الرجال والنساء النظر إلی عورتي وهي حرام علیهم، فإذا فرغت من غسلي فضعني علی لوح، وافرغ علَيَّ من بئري بئر غَرْس «قرب مسجد قباء» أربعین دلواً مفتحة الأفواه. قال عیسی: أو قال أربعین قربة شككت أنا في ذلك،

ص: 682

قال: ثم ضع یدك یا علي علی صدري، وأحضر معك فاطمة والحسن والحسین من غیر أن ینظروا إلی شئ من عورتي، ثم تفهم عند ذلك مني تفهم ما كان وما هو كائن إن شاء الله تعالی! أقبلتَ یا علي؟قال: نعم. قال: اللهم فاشهد.

قال: وكان فیما أوصی به رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن یدفن في بیته الذي قبض فیه ویكفن بثلاثة أثواب: أحدها یمان، ولا یدخل قبره غیر علي (علیه السلام).

ثم قال: یا علي كن أنت وابنتي فاطمة والحسن والحسین وكبروا خمساً وسبعین تكبیرة، وكبر خمساً وانصرف، وذلك بعد أن یؤذن لك في الصلاة.

قال علي (علیه السلام) بأبي أنت وأمي من یؤذنني؟قال: جبرئیل (علیه السلام) یؤذنك. قال: ثم من جاء من أهل بیتي یصلون عليَّ فوجاً فوجاً ثم نساؤهم، ثم الناس بعد ذلك».

وفي الطبقات: 2/280، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «غسل النبي (صلی الله علیه و آله) ثلاث غسلات بماء وسدر، وغسل في قمیص، وغسل من بئر یقال لها الغرس لسعد بن خیثمة بقباء وكان یشرب منها، وولي علی غسله والعباس یصب الماء والفضل محتضنه یقول: أرحني أرحني قُطعت وتیني! إني أجد شیئاً یتنزل علَيَّ مرتین».

أقول: عرفت من روایة أهل البیت (علیهم السلام) أن العباس لم یكن یشارك، بل ابنه الفضل.

وفي دعائم الإسلام: 1/227، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أوصاه بأن یتولی غسله فكان هو الذي ولیه، قال: فلما أخذت في غسله سمعت قائلاً من جانب البیت وهو یقول: لاتنزع القمیص عنه فغسلته (صلی الله علیه و آله) في قمیصه، وإني لأغسله وأحس یداً مع یدي تتردد علیه، وإذا قلبته أعنت علی تقلیبه، وقد أردت أن أكبه لوجهه فأغسل ظهره فنودیت لاتكبه، فقلبته لجنبه وغسلت ظهره».

وفي تهذیب الأحكام: 1/296، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «كفن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ثلاثة أثواب: برد أحمر حبرة، وثوبین أبیضین صحاریین. قلت له وكیف صُلي علیه؟ قال سجي بثوب وجعل وسط البیت، فإذا دخل علیه قوم داروا به وصلوا علیه ودعوا له، ثم یخرجون ویدخل آخرون، ثم دخل علي (علیه السلام) القبر فوضعه علی یدیه وأدخل معه الفضل بن عباس، فقال رجل من الأنصار من بني

ص: 683

الخیلاء یقال له أوس بن خولي: أنشدكم الله أن تقطعوا حقنا! فقال له علي (علیه السلام) أدخل فدخل معهما. فسألته: أین وضع السریر؟ فقال: عند رجل القبر وسُلَّ سلاً».

15- صفة الصلاة علیه ودفنه (صلی الله علیه و آله)

في الكافي: 1/450، عن أبي مریم الأنصاري أنه سأل الإمام الباقر (علیه السلام): «كیف كانت الصلاة علی النبي (صلی الله علیه و آله) ؟ قال: لما غسله أمیر المؤمنین (علیه السلام) وكفنه سجَّاه، ثم أدخل علیه عشرة فداروا حوله، ثم وقف أمیر المؤمنین (علیه السلام) في وسطهم، فقال: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكتَهُ یصَلُّونَ عَلَی النبي، یا أَیهَا الَّذِینَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَیهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِیمًا، فیقول القوم كما یقول، حتی صلی علیه أهل المدینة وأهل العوالي.

عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: أتی العباسُ أمیرَ المؤمنین (علیه السلام) فقال: یا علي إن الناس قد اجتمعوا أن یدفنوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) في بقیع المصلی وأن یؤمهم رجل منهم، فخرج أمیر المؤمنین (علیه السلام) إلی الناس فقال: یا أیها الناس إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) إمام حیاً ومیتاً، وقال: إني أدفن في البقعة التي أقبض فیها، ثم قام علی الباب فصلی علیه، ثم أمر الناس عشرة عشرة یصلون علیه، ثم یخرجون.

عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: لما قبض النبي (صلی الله علیه و آله) صلت علیه الملائكة والمهاجرون والأنصار فوجاً فوجاً. وقال أمیر المؤمنین (علیه السلام): سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) یقول في صحته وسلامته: إنما أنزلت هذه الآیة في الصلاة علي بعد قبض الله لي: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكتَهُ یصَلُّونَ عَلَی النبي یا أَیهَا الَّذِینَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَیهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِیمًا».

أقول: صلی علیه أمیر المؤمنین (علیه السلام) وحده صلاة الجنازة، ثم كانت صلاة المسلمین علیه دعاء، فكانوا یتحلقون حوله وعلي (علیه السلام) معهم یقرأ الآیة: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكتَهُ یصَلُّونَ عَلَی النبي... ویرددونها معه.راجع الحدائق: 10/451.

وفي دعائم الإسلام: 1/234: «فخرج علي صلوات الله علیه علیهم فقال: أیها الناس، إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان إماماً حیاً ومیتاً، وإنه لم یقبض نبي إلا دفن في البقعة التي مات فیها. قالوا: إصنع ما رأیت. فقام علي علی باب البیت فصلی علی رسول الله (صلی الله علیه و آله)،

ص: 684

وقدم الناس عشرة عشرة، یصلون علیه وینصرفون».

وفي مناقب آل أبي طالب: 1/206، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «فصلوا علیه یوم الإثنین ولیلة الثلاثاء حتی الصباح، ویوم الثلاثاء، حتی صلی علیه الأقرباء والخواص. ولم یحضر أهل السقیفة وكان علي (علیه السلام) أنفذ إلیهم بریدة، وإنما تمت بیعتهم بعد دفنه». وسیأتی سبب عدم حضور أهل السقیفة لمراسم جنازة النبي (صلی الله علیه و آله).

وفي نهج البلاغة: 2/172: قال (علیه السلام): «ولقد قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإن رأسه لعلی صدري لقد سالت نفسه في كفي فأمررتها علی وجهي، ولقد وُلیت غسله والملائكة أعواني، فضجت الدار والأفنیة ملأٌ یهبط وملأ یعرج، وما فارقت سمعي هینمةٌ منهم یصلون علیه، حتی واریناه في ضریحه، فمن ذا أحق به مني حیاً ومیتاً»!

وفي روضة الواعظین/17، أن عماربن یاسر قال للنبي (صلی الله علیه و آله): «فداك أبي وأمي یا رسول الله فمن یصلی علیك منا، إذا كان ذلك منك؟ قال: مه رحمك الله، ثم قال لعلي (علیه السلام) یا بن أبي طالب: إذا رأیت روحي قد فارقت جسدي فاغسلني وأنِقْ غسلي، وكفِّني في طمري هذین، أو في بیاض مصر وبرد یماني، فلا تغال في كفني، واحملوني حتی تضعوني علی شفیر قبري فأول من یصلي علي الجبار جل جلاله من فوق عرشه، ثم جبرئیل ومیكائیل وإسرافیل في جنود من الملائكة لا یحصی عددهم إلا الله جل وعز، ثم الحافُّون بالعرش، ثم سكان أهل سماء سماء».

وفي الإرشاد: 1/187: «ولما صلی المسلمون علیه أنفذ العباس بن عبدالمطلب برجل إلی أبي عبیدة بن الجراح وكان یحفر لأهل مكة ویضرح، وكان ذلك عادة أهل مكة، وأنفذ إلی زید بن سهل وكان یحفر لأهل المدینة ویلحد، واستدعاهما وقال. اللهم خر لنبیك. فوجد أبو طلحة زید بن سهل فقیل له: إحتفر لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فحفر له لحداً، ودخل أمیر المؤمنین (علیه السلام) والعباس بن عبدالمطلب والفضل بن العباس وأسامة بن زید، لیتولوا دفن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فنادت الأنصار من وراء البیت (علیهم السلام) یا علي، إنا نذكرك الله وحقنا الیوم من رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن یذهب

ص: 685

أدخل منا رجلاً یكون لنا به حظ من مواراة رسول الله (صلی الله علیه و آله).

فقال: لیدخل أوس بن خولي، وكان بدریاً فاضلاً من بني عوف من الخزرج، فلما دخل قال له علي (علیه السلام) إنزل القبر فنزل، ووضع أمیر المؤمنین (علیه السلام) رسول الله (صلی الله علیه و آله) علی یدیه ودلاه في حفرته، فلما حصل في الأرض قال له: أُخرج فخرج، ونزل علی بن أبي طالب القبر، فكشف عن وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ووضع خده علی الأرض موجهاً إلی القبلة علی یمینه، ثم وضع علیه اللبن، وهال علیه التراب».

وفي أمالي المفید/102، عن ابن العباس قال: «لما توفی رسول الله (صلی الله علیه و آله) تولی غسله علي بن أبي طالب، والعباس معه والفضل بن العباس، فلما فرغ علي (علیه السلام) من غسله كشف الإزار عن وجهه ثم قال: بأبي أنت وأمي طبت حیاً وطبت میتاً، انقطع بموتك ما لم ینقطع بموت أحد ممن سواك من النبوة والإنباء. خصصت حتی صرت مسلیاً عمن سواك، وعممت حتی صار الناس فیك سواء. ولولا أنك أمرت بالصبر ونهیت عن الجزع، لأنفدنا علیك ماء الشؤون. ولكن ما لا یرفع كمد وغصص محالفان وهما داء الأجل، وقلاّ لك. بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من همك. ثم أكب علیه فقبل وجهه ومد الإزار علیه».

أقول: معنی قوله (علیه السلام): «انقطع بموتك ما لم ینقطع بموت أحد ممن سواك: انقطاع وحي النبوة إذ لا نبي بعده (صلی الله علیه و آله).أما وحي الإمامة والإلهام، ونزول جبرئیل (علیه السلام) فمستمر». وقد ذكر القرآن الوحي لأم موسی (علیه السلام) وللنحل وغیرهما.

16- من خصائص النبي (صلی الله علیه و آله) عند موته!

تضمنت أحادیث وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) مجموعة خصائص له، نذكر منها:

1. ثقل بدنه الشریف ثقلاً غیر عادي، «ففي المناقب: 1/205»، قال علي (علیه السلام) «فما تناولت عضواً إلا كأنما كان یقلبه معي ثلاثون رجلاً، حتی فرغت من غسله».

وفي طبقات ابن سعد: 1/280، عن الباقر (علیه السلام) قال: «وولي علي غسله والعباس یصب الماء والفضل محتضنه یقول: أرحني أرحني قُطعت وتیني! إني أجد شیئاً یتنزل علَيَّ مرتین»! وشاهدنا منه ثقل بدنه (صلی الله علیه و آله) والعباس لم یشترك في تغسیله.

ص: 686

2. أن كل ما تحت قمیصه عورة، لا یجوز لأحد أن ینظر الیه لئلا یعمی! فكأن فیه نوعاً من الأشعة تسبب فقدان البصر، ولا یتحملها إلا وصیه علي (علیه السلام)».

«قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): یا علي غسلني ولا یغسلني غیرك فیعمی بصره. قال علي (علیه السلام) ولمَ یا رسول الله؟ قال: كذلك قال لي جبرئیل عن ربي إنه لا یری عورتي [مجردي] أحد غیرك إلا عمي بصره»!جامع أحادیث الشیعة: 3/154.

«فإنه لا یری أحد عورتي غیرك إلا طمست عیناه.. قلت: فمن یناولني الماء؟ قال: الفضل بن العباس من غیر أن ینظر إلی شئ مني، فإنه لا یحل له ولا لغیره من الرجال والنساء النظر إلی عورتي... وأحضر معك فاطمة والحسن والحسین من غیر أن ینظروا إلی شئ من عورتي». المناقب: 1/205 والبحار: 22/493.

3. أن النبي (صلی الله علیه و آله) تكلم بعد موته! وقد عقد في بصائر الدرجات/203، باباً روی فیه عشرة أحادیث، ونحوها الكافي: 1/296 و 3/150.

منها: عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) إذا أنا مِتُّ فاستق لي ست قرب من ماء بئر غرس فغسلني وكفني، وخذ بمجامع كفني وأجلسني، ثم سلني ما شئت، فوالله لا تسألني عن شئ إلا أجبتك»!

وفي روایة: «وكفِّني ثم أقعدنی واسألني، واكتب».

وفي روایة: «فخذني وأجلسني وضع یدك علی صدري، وسلني عما بدا لك».

وفي روایة: «وكفني وأقعدني وما أملي علیك فاكتب. قال قلت: ففعل؟ قال: نعم»

وفي روایة: «فأدرجني في أكفاني، ثم ضع فاك علی فمي. قال: ففعلت وأنبأئي بما هو كائن إلی یوم القیمة».

وفي الخرائج: 2/800 و 2/827، بروایات، منها: «قال علي بن أبي طالب (علیه السلام): أمرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا توفي أن أستقي سبع قرب من بئر غرس فأغسله بها، فإذا غسلته وفرغت من غسله أخرجت من في البیت، فإذا أخرجتهم قال: فضع فاك علی فيّ ثم سلني أخبرك عما هو كائن إلی یوم الساعة من أمر الفتن. قال علي (علیه السلام) ففعلت ذلك، فأنبأني بما یكون إلی أن تقوم الساعة، وما من فتنة تكون

ص: 687

إلا وأنا أعرف أهل ضلالتها من أهل حقها».

ومنها: «فغسلني بسبع قرب من بئر غرس، غسلني بثلاث قرب غسلاً، وسُنَّ علي أربعاً سَنّاً، فإذا غسلتني وحنطتنی فأقعدني، وضعْ یدك علی فؤادي ثم سلني أخبرك بما هو كائن إلی یوم القیامة! قال: ففعلت. وكان علي (علیه السلام) إذا أخبرنا بشئ یكون قال: هذا مما أخبرني به النبي (صلی الله علیه و آله) بعد موته»! والمناقب: 1/316.

17- لم یحضر أهل السقیفة مراسم جنازة النبي (صلی الله علیه و آله)

في الإرشاد: 1/187: «ولم یحضر دفن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أكثر الناس، لما جری بین المهاجرین والأنصار من التشاجر في أمر الخلافة، وفات أكثرهم الصلاة علیه لذلك! وأصبحت فاطمة (علیها السلام) تنادي: واسوء صباحاه! فسمعها أبو بكر فقال لها: إن صباحك لصباح سوء! واغتنم القوم الفرصة لشغل علي بن أبي طالب برسول الله وانقطاع بني هاشم عنهم بمصابهم برسول الله (صلی الله علیه و آله)، فتبادروا إلی ولایة الأمر واتفق لأبي بكر ما اتفق، لاختلاف الأنصار فیما بینهم، وكراهة الطلقاء والمؤلفة قلوبهم من تأخر الأمر حتی یفرغ بنو هاشم فیستقر الأمر مقره، فبایعوا أبا بكر لحضوره المكان، وكانت أسباب معروفة تیسر منها للقوم ما راموه».

وفي المناقب: 1/206: «ولم یحضر أهل السقیفة، وكان علي (علیه السلام) أنفذ إلیهم بریدة وإنما تمت بیعتهم بعد دفنه».

أقول: لما توفي النبي (صلی الله علیه و آله) لبس عمر لباس حربه وخرج شاهراً سیفه یجول أمام بیت النبي (صلی الله علیه و آله) یهدد من یقول إنه مات، ویعید تهدیده«حتی أزبد شدقاه»!

ففي سنن الدارمي: 1/39: «فقام عمر فقال: إن رسول الله لم یمت، ولكن عرج بروحه كما عرج بروح موسی، والله لا یموت رسول الله حتی یقطع أیدي أقوام وألسنتهم! فلم یزل عمر یتكلم حتی أزبد شدقاه مما یتوعد ویقول! فقام العباس فقال: إن رسول الله قد مات، وإنه لبشر». ومسند أحمد: 3/196..

وفي شرح النهج: 1/178: «لما مات رسول الله (صلی الله علیه و آله) وشاع بین الناس موته طاف

ص: 688

عمر علی الناس قائلاً إنه لم یمت ولكنه غاب عنا كما غاب موسی عن قومه! ولیرجعن فلیقطعن أیدي رجال وأرجلهم یزعمون أنه مات! فجعل لا یمر بأحد یقول إنه مات إلا ویخبطه ویتوعده، حتی جاء أبو بكر فقال: أیها الناس من كان یعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان یعبد رب محمد فإنه حي لم یمت»!

وسبب هذا الفعل أن عمر خاف أن یبادر بنو هاشم لبیعة علي (علیه السلام) حیث دعا العباس الی ذلك وقال لعلي (علیه السلام) «أبسط یدك أبایعك فیقال: عم رسول الله بایع ابن عم رسول الله» «الإمامة لابن قتیبة: 1/12». فأراد عمر أن یكسب الوقت حتی یحضر أبو بكر، من بیته في السنح خارج المدینة! فلما اطمأن الی أن علیاً (علیه السلام) لم یقبل البیعة، وجاء أبو بكر وقال إن النبي (صلی الله علیه و آله) مات، قبل عمر ذلك، وسكت!

وبقي عندهما الخوف من الأنصار أن یبادروا الی بیعة سعد بن عبادة، وكان مریضاً في سقیفته التی تسمی سقیفة بني ساعدة، فسارعا لیصفقا علی ید أبي بكر في بیت سعد، بمساعدة اثنین من خصومه الأوس وجمهور الطلقاء!

قال ابن كثیر في سیرته: 4/491: «توفي رسول الله وأبو بكر في صائفة من المدینة، قال فجاء فكشف عن وجهه فقبله وقال: فداك أبي وأمي ما أطیبك حیاً ومیتاً، مات محمد ورب الكعبة. فذكر الحدیث قال: فانطلق أبو بكر وعمر یتعادیان حتی أتوهم،

فتكلم أبو بكر...».

وفي روایة النسائي في كتاب الوفاة/75: «ثم قال أبو بكر عندكم صاحبكم، وخرج»!

وفي سنن البیهق: 8/145: «دونكم صاحبكم، لبني عم رسول الله (صلی الله علیه و آله) یعني في غسله وما یكون من أمره، ثم خرج»!

وفي مصنف ابن أبي شیبة: 8/572، عن عروة: «إن أبا بكر وعمر لم یشهدا دفن النبي وكانا في الأنصار، فدفن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل أن یرجعا».

وقد اعترف عمر بغیابهم عن مراسم جنازة النبي (صلی الله علیه و آله)، ففي الطبقات: 2/262: «عن جابر بن عبدالله الأنصاري أن كعب الأحبار قام زمن عمر فقال ونحن

ص: 689

جلوس عند عمر أمیر المؤمنین: ما كان آخر ما تكلم به رسول الله؟ فقال عمر: سل علیاً. قال: أین هو؟ قال هو هنا، فسأله فقال علي: أسندته إلی صدري، فوضع رأسه علی منكبي فقال: الصلاة الصلاة. فقال كعب كذلك آخر عهد الأنبیاء وبه أمروا وعلیه یبعثون. قال: فمن غسله یا أمیر المؤمنین؟ قال: سل علیاً. قال فسأله فقال: كنت أغسله وكان العباس جالساً وكان أسامة وشقران یختلفان إلی بالماء».

وفي غیبة النعماني/100، عن الإمام الصادق (علیه السلام) أن سكك المدینة یومها كانت خالیة قال: «لما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) دخل المدینة رجل من ولد داود علی دین الیهودیة فرأی السكك خالیة، فقال لبعض أهل المدینة: ما حالكم؟ فقیل له: توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فقال الداودي: أما إنه توفي الیوم الذي هو في كتابنا»!

كما تركت عائشة وحفصة جنازة النبي (صلی الله علیه و آله) من حین وفاته، وخالفتا الحداد الواجب علیهما، وانشغلتا بالذهاب الی بیوت الأنصار لإقناعهم ببیعة أبي بكر!

قالت عائشة: «ما علمنا بدفن رسول الله حتی سمعنا صوت المساحي من جوف اللیل». الاستیعاب: 1/47،ابن هشام 4/321، الطبري: 3/213 ودلائل النبوة: 7/256.

ومع ذلك كانت عائشة تتحسر لتجهیز علي (علیه السلام) للنبي (صلی الله علیه و آله) وغیابها فقالت: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه».أحكام الجنائز للألباني/49 وصححه.

18- دفن النبي (صلی الله علیه و آله) في بیته ولیس في حجرة عائشة

كتبنا في جواهر التاریخ: 3/303، بحثاً مستوفیاً تحت عنوان: أین دفن النبي (صلی الله علیه و آله) ؟ وأثبتنا فیه أنه دفن في بیته وفي حجرته الكبیرة، التي كان یستقبل فیها الناس، وكان لها بابان باب الی المسجد وباب الی داخل داره (صلی الله علیه و آله). فقد صلی المسلمون علی جثمانه الشریف (صلی الله علیه و آله)، وكانوا یدخلون من باب ویخرجون من آخر.

أما غرفة عائشة فقد نصوا علی أنه كان لها باب واحد!

الی آخر الأدلة علی أنه لم یدفن فی بیت عائشة، ولا تمرض فیه كما زعموا.

لكن السلطة سیطرت علی بیت النبي (صلی الله علیه و آله) ثم ادعت عائشة أن النبي (صلی الله علیه و آله) أعطاها هذه الحجرة، وأشاعت أن النبي (صلی الله علیه و آله) دفن في حجرة عائشة!

ص: 690

19- حُزن أهل البیت علی النبي (صلی الله علیه و آله) وتعزیة جبرئیل والخضر لهم

روی الكلیني: 1/445، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال:«لما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) بات آل محمد: بأطول لیلة، حتی ظنوا أن لا سماء تظلهم ولا أرض تقلهم! لأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتر الأقربین والأبعدین في الله! فبیناهم كذلك إذ أتاهم آت لا یرونه ویسمعون كلامه، فقال: السلام علیكم أهل البیت ورحمة الله وبركاته،

إن في الله عزاء من كل مصیبة، ونجاة من كل هلكة، ودرَكاً لما فات: كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكمْ یوْمَ الْقِیامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَیاةُ الدُّنْیا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ. إن الله اختاركم وفضلكم وطهركم وجعلكم أهل بیت نبیه، واستودعكم علمه وأورثكم كتابه، وجعلكم تابوت علمه وعصا عزه، وضرب لكم مثلاً من نوره، وعصمكم من الزلل، وآمنكم من الفتن، فتعزوا بعزاء الله، فإن الله لم ینزع منكم رحمته، ولن یزیل عنكم نعمته، فأنتم أهل الله عزوجل الذین بهم تمت النعمة، واجتمعت الفرقة وائتلفت الكلمة، وأنتم أولیاؤه، فمن تولاكم فاز ومن ظلم حقكم زهق.

مودتكم من الله واجبة في كتابه علی عباده المؤمنین، ثم الله علی نصركم إذا یشاء قدیر، فاصبروا لعواقب الأمور، فإنها إلی الله تصیر. قد قبلكم الله من نبیه ودیعة، واستودعكم أولیاء المؤمنین في الأرض، فمن أدی أمانته أتاه الله صدقه، فأنتم الأمانة المستودعة، ولكم المودة الواجبة، والطاعة المفروضة، وقد قبض رسول الله وقد أكمل لكم الدین، وبین لكم سبیل المخرج، فلم یترك لجاهل حجة، فمن جهل أو تجاهل أو أنكر أو نسي أو تناسی، فعلی الله حسابه، والله من وراء حوائجكم. وأستودعكم الله، والسلام علیكم. فسألت أبا جعفر (علیه السلام): ممن أتاهم التعزیة؟ فقال: من الله تبارك وتعالی علی لسان جبریل (علیه السلام)». ونحوه: 3/221 والمناقب: 2/83..

وفي شرح الأخبار: 2/419، أن سفیان بن عیینة قال:«أتینا جعفر بن محمد (علیه السلام) نعزیه بابنه إسماعیل، فتحدث معنا فذكر وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال في الحدیث: فلما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) أتاهم آت یعني أهل بیت رسول الله (صلی الله علیه و آله) یسمعون كلامه

ص: 691

ولا یرون شخصه، فقال: السلام علیكم أهل البیت ورحمة الله وبركاته: كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكمْ یوْمَ الْقِیامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَیاةُ الدُّنْیا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ. إن في الله عزاء من كل مصیبة، وخلفاً من كل هالك، فالله فارجوه، وإیاه فاعبدوه، واعلموا أن المصاب من حرم الثواب، والسلام علكیم ورحمة الله وبركاته.قال سفیان بن عیینة: فقلت لجعفر بن محمد: من كنتم ترون المتكلم؟ قال: كنا نراه جبرائیل (علیه السلام)».

وفي الأصول الستة عشر/122: «فسأله یحیی بن أبي القاسم فقال: جعلت فداك ممن آتاهم التعزیة؟ قال: من الله عزوجل».

وفي أمالی الصدوق/349: «فلما توفي رسول الله صلی الله علی روحه الطیب، جاءت التعزیة، جاءهم آتٍ یسمعون حسه ولا یرون شخصه فقال: السلام علیكم ورحمة الله وبركاته كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكمْ یوْمَ الْقِیامَة. إن في الله عزوجل عزاء من كل مصیبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل ما فات، فبالله فثقوا وإیاه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب، والسلام علیكم ورحمة الله وبركاته. قال علي بن أبي طالب (علیه السلام): هل تدرون من هذا؟ هذا الخضر (علیه السلام)»

ورواه في كمال الدین/392، وقال: «قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه: إن أكثر المخالفین یسلمون لنا حدیث الخضر (علیه السلام) ویعتقدون فیه أنه حي غائب عن الأبصار، وأنه حیث ذكر حضر، ولا ینكرون طول حیاته، ولا یحملون حدیثه علی عقولهم. ویدفعون كون القائم (علیه السلام) وطول حیاته في غیبته وعندهم أن قدرة الله عزوجل تتناول إبقاءه إلی یوم النفخ فیيالصور، وإبقاء إبلیس مع لعنته إلی یوم الوقت المعلوم في غیبته، وأنها لا تتناول إبقاء حجة الله علی عباده مدة طویلة في غیبته، مع ورود الأخبار الصحیحة بالنص علیه بعینه واسمه ونسبه عن الله تبارك وتعالی، وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وعن الأئمة (علیهم السلام)».

ورواه الحاكم وصححه: 3/57 قال: «لما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) عزتهم الملائكة یسمعون الحس ولایرون الشخص فقالت: السلام علیكم أهل البیت ورحمة الله وبركاته. إن في الله عزاء من كل مصیبة وخلفاً من كل فائت، فبالله فثقوا وإیاه فارجوا، فإنما المحروم

ص: 692

من حرم الثواب، والسلام علیكم ورحمة الله وبركاته».

وفي البحار: 43/213 عن علي (علیه السلام) قال: «إن فاطمة (علیها السلام) لما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) كانت تقول: وا أبتاه من ربه ما أدناه، وا أبتاه جنان الخلد مثواه، وا أبتاه یكرمه ربه إذ أتاه، یا أبتاه الرسل تسلم علیه حین تلقاه».

وفي البخاري: 5/144 عن أنس قال: «لما ثقل النبي جعل یتغشاه فقالت فاطمة (علیها السلام) واكرب أباه! فقال لها: لیس علی أبیك كرب بعد الیوم! فلما مات قالت: یا أبتاه، أجاب رباً دعاه. یا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، یا أبتاه إلی جبریل ننعاه. فلما دفن قالت فاطمة (علیها السلام): یاأنس أطابت أنفسكم أن تحثوا علی رسول الله التراب؟!».

وفي كفایة الأثر /198، عن محمود بن لبید قال: «لما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) كانت فاطمة تأتي قبور الشهداء وتأتي قبر حمزة وتبكي هناك، فلما كان في بعض الأیام أتیت قبر حمزة فوجدتها تبكي هناك، فأمهلتها حتی سكتت فأتیتها وسلمت علیها وقلت: یا سیدة النسوان قد والله قطعت أنیاط قلبي من بكائك. فقالت: یا با عمرو یحق لي البكاء، ولقد أصبت بخیر الآباء رسول الله (صلی الله علیه و آله)، واشوقاه لي رسول الله، ثم أنشأت علیها السلام تقول:

إذا مات یوماً میتٌ قلَّ ذكره *** وذكر أبي إذ مات والله أكثر

قلت: یا سیدتي إني سائلك عن مسألة تلجلج في صدري؟ قالت: سل، قلت: هل نص رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل وفاته علی علی بالإمامة؟ قالت: واعجباه أنسیتم یوم غدیر خم؟! قلت: قد كان ذلك، ولكن أخبریني بما أسرَّ إلیك. قالت: أشهد الله تعالی لقد سمعته یقول: علي خیر من أخلفه فیكم، وهو الإمام والخلیفة بعدي، وسبطاي وتسعة من صلب الحسین أئمة أبرار، لئن اتبعتموهم وجدتموهم هادین مهدیین، ولئن خالفتموهم لیكون الإختلاف فیكم إلی یوم القیامة..الخ.».

قال الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «إن أصبت بمصیبة في نفسك أو في مالك أو في ولدك، فاذكر مصابك برسول الله (صلی الله علیه و آله) فإن الخلائق لم یصابوا بمثله قط».الكافي: 3/220.

ص: 693

20- جاؤوا بخبر السقیفة بعد دفن النبي (صلی الله علیه و آله)

في الإرشاد: 1/189: «لما تم لأبي بكر ما تم وبایعه من بایع، جاء رجل إلی أمیر المؤمنین (علیه السلام) وهو یسوي قبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمسحاة في یده، فقال له: إن القوم قد بایعوا أبا بكر ووقعت الخذلة في الأنصار لاختلافهم، وبدر الطلقاء بالعقد للرجل خوفاً من إدراككم الأمر! فوضع طرف المسحاة في الأرض ویده علیها، ثم قال: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ.اَلَم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ یتْرَكوا أَنْ یقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا یفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَیعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِینَ صَدَقُوا وَلَیعْلَمَنَّ الْكاذِبِینَ. أَمْ حَسِبَ الَّذِینَ یعْمَلُونَ السَّیئَاتِ أَنْ یسْبِقُونَا سَاءَ مَا یحْكمُونَ. وقد كان أبو سفیان جاء إلی باب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي والعباس متوفران علی النظر في أمره فنادی:

بنی هاشم لاتُطمعوا الناس فیكمُ *** ولاسیما تَیمُ بن مرةَ أو عَدِي

فما الأمر إلا فیكم وإلیكم *** ولیس لها إلا أبو حسنٍ علي

أبا حسن فاشدد بها كف حازمٍ *** فإنك بالأمر الذي یرتجي ملي

ثم نادی بأعلی صوته: یا بني هاشم یا بني عبدمناف، أرضیتم أن یلي علیكم أبو فصیل«بكر»الرذل بن الرذل! أما والله لئن شئتم لأملأنها خیلاً ورجلاً؟! فناداه أمیر المؤمنین (علیه السلام): إرجع یا أبا سفیان، فوالله ما ترید الله بما تقول، وما زلت تكید الإسلام وأهله، ونحن مشاغیل برسول الله (صلی الله علیه و آله)، وعلی كل امرئ ما اكتسب، وهو ولي ما احتقب! فانصرف أبو سفیان إلی المسجد فوجد بني أمیة مجتمعین فیه، فحرضهم علی الأمر فلم ینهضوا له».

في نهج البلاغة: 1/116: «لما انتهت إلی أمیر المؤمنین (علیه السلام) أنباء السقیفة بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (علیه السلام): ما قالت الأنصار؟ قالوا قالت: منا أمیر ومنكم أمیر! قال (علیه السلام): فهلا احتججتم علیهم بأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وصی بأن یحسن إلی محسنهم ویتجاوز عن مسیئهم! قالوا وما في هذا من الحجة علیهم؟ فقال (علیه السلام): لو كانت الإمارة فیهم لم تكن الوصیة بهم.ثم قال (علیه السلام): فما ذا قالت قریش؟ قالوا: احتجت بأنها

ص: 694

شجرة الرسول (صلی الله علیه و آله)، فقال (علیه السلام): احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة»!

وفي نهج البلاغة: 1/40: «ومن خطبة له (علیه السلام) لما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخاطبه العباس وأبو سفیان بن حرب في أن یبایعا له بالخلافة:

أیها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرجوا عن طریق المنافرة، وضعوا عن تیجان المفاخرة. أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح. هذا ماء آجن، ولقمة یغص بها آكلها! ومجتنی الثمرة لغیر وقت إیناعها كالزارع بغیر أرضه! فإن أقل یقولوا حرص علی الملك، وإن أسكت یقولوا جزع من الموت! هیهات بعد اللتیا والتي والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه.

بل اندمجت علی مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشیة في الطوی البعیدة». أي اضطراب حبل الدلو في البئر العمیقة.

وفي البحار: 22/492، عن الطُّرف، عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «قال (صلی الله علیه و آله): یا علي ما أنت صانع لو قد تأمر القوم علیك بعدي وتقدموا علیك، وبعث إلیك طاغیتهم یدعوك إلی البیعة، ثم لببت بثوبك تقاد كما یقاد الشارد من الإبل مذموماً مخذولاً محزوناً مهموماً، وبعد ذلك ینزل بهذه الذل؟! قال: فلما سمعت فاطمة ما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) صرخت وبكت، فبكی رسول الله (صلی الله علیه و آله) لبكائها وقال: یا بنیة لا تبكي ولا تؤذي جلساءك من الملائكة، هذا جبرئیل بكی لبكائك ومیكائیل وصاحب سر الله إسرافیل! یا بنیة لا تبكي فقد بكت السماوات والأرض لبكائك! فقال علي (علیه السلام)

یا رسول الله أنْقَادُ للقوم وأصبر علی ما أصابني، من غیر بیعة لهم، وما لم أصب أعواناً لم أناجز القوم. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): اللهم اشهد.

فقال: یا علي ما أنت صانع بالقرآن والعزائم والفرائض؟

فقال: یا رسول الله أجمعه، ثم آتیهم به، فإن قبلوه، وإلا أشهدت الله عزوجل وأشهدتك علیهم. قال: اللهم اشهد».

ص: 695

21- ذهول الصحابي البراء بن عازب (رحمة الله) من بیعة الخلسة!

قال الجوهري في كتابه السقیفة/48، وهو من أقدم الكتب في هذا الموضوع: «سمعت البراء بن عازب، یقول: لم أزل لبني هاشم محباً، فلما قبض رسول الله خفت أن تتمالأ قریش علی إخراج هذا الأمر عنهم، فأخذني ما یأخذ الوالهة العجول، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فكنت أتردد إلی بني هاشم وهم عند النبي في الحجرة وأتفقد وجوه قریش. فإنی كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر وعثمان، وإذ قائل یقول: القوم في سقیفة بني ساعدة، وإذ قائل آخر یقول: قد بویع أبو بكر! فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبیدة وجماعة من أصحاب السقیفة، وهم محتجزون بالأزر الصنعانیة لایمرون بأحد إلا خبطوه وقدموه فمدوا یده فمسحوها علی ید أبي بكر یبایعه، شاء ذلك أو أبی!

فأنكرت عقلي! وخرجت أشتد حتی انتهیت إلی بني هاشم والباب مغلق، فضربت علیهم الباب ضرباً عنیفاً وقلت: قد بایع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة، فقال العباس: تربت أیدیكم إلی آخر الدهر، أما إني قد أمرتكم فعصیتموني!

فمكثت أكابد ما في نفسي، ورأیت في اللیل المقداد، وسلمان، وأباذر، وعبادة بن الصامت، وأبا الهیثم بن التیهان، وحذیفة، وعماراً، وهم یریدون أن یعیدوا الأمر شوری بین المهاجرین! فلما كان بلیل خرجت إلی المسجد فلما صرت فیه تذكرت أني كنت أسمع همهمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالقرآن، فامتنعت من مكاني فخرجت إلی الفضاء فضاء بني قضاعة، وأجد نفراً یتناجون فلما دنوت منهم سكتوا فانصرفت عنهم، فعرفوني وما أعرفهم، فأتیتهم فأجد المقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وسلمان الفارسي، وأباذر، وحذیفة، وأبا الهیثم بن التیهان وإذا حذیفة یقول لهم: والله لیكونن ما أخبرتكم به، والله ما كذبت ولا كذبت!

وإذ القوم یریدون أن یعیدوا الأمر شوری بین المهاجرین!

ثم قال: إئتوا أبيّ بن كعب فقد علم كما علمت، قال فانطلقنا إلی أبیّ فضربنا علیه بابه حتی صار خلف الباب فقال: من أنتم؟ فكلمه المقداد فقال: ماحاجتكم؟ فقال له:

ص: 696

ماأنا بفاتح بابي وقد عرفت ما جئتم له كأنكم أردتم النظر في هذا العقد؟ فقلنا: نعم، فقال: أفیكم حذیفة؟ فقلنا: نعم، قال: فالقول ما قال! وبالله ما أفتح عني بابي حتی تجري علی ما هي جاریة، ولمَا یكون بعدها شر منها، والی الله المشتكی!

وبلغ الخبر أبا بكر وعمر، فأرسلا إلی أبي عبیدة والمغیرة بن شعبة، فسألاهما عن الرأي؟ فقال المغیرة: الرأی أن تلقوا العباس فتجعلوا له هذا الأمر نصیباً فیكون له ولعقبه، فتقطعوا به من ناحیة علي، ویكون لكم حجة عند الناس علی علي، إذا مال معكم العباس. فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبیدة والمغیرة، حتی دخلوا علی العباس، وذلك في اللیلة الثانیة من وفاة رسول الله، فحمد أبو بكر الله وأثنی علیه وقال: إن الله ابتعث لكم محمداً نبیاً وللمؤمنین ولیاً، فمن الله علیهم بكونه بین ظهرانیهم، حتی اختار له ما عنده، فخلی علی الناس أمورهم لیختاروا لأنفسهم، متفقین غیر مختلفین فاختاروني علیهم والیاً ولأمورهم راعیاً فتولیت ذلك وما أخاف بعون الله وتسدیده وهناً ولا حیرةً ولا جبناً، وماتوفیقي إلا بالله علیه توكلت والیه أنیب، وما انفك یبلغني عن طاعن یقول بخلاف قول عامة المسلمین، یتخذ لكم لجأ فتكونوا حصنه المنیع وخطبه البدیع، فإما دخلتم فیما دخل فیه الناس، أو صرفتموهم عما مالوا إلیه، فقد جئناك ونحن نرید أن نجعل لك في هذا الأمر نصیباً ولمن بعدك من عقبك، إذ كنت عم رسول الله، وإن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول الله ومكان أهلك، ثم عدلوا بهذا الأمر عنكم! وعلی رسلكم بني هاشم فإن رسول الله منا ومنكم!

فاعترض كلامه عمر، وخرج إلی مذهبه في الخشونة والوعید وإتیان الأمر من أصعب جهاته، فقال: إي والله وأخری أنا لم نأتكم عن حاجة إلیكم، ولكن كرهنا أن یكون الطعن فیما اجتمع علیه المسلمون منكم، فیتفاقم الخطب بكم وبهم فانظروا لأنفسكم وعامتهم، ثم سكت». انتهی.

أقول: البراء بن عازب صحابي كبیر، وبطولاته في معارك الإسلام مشهورة.

قال الذهبي في سیره: 3/194: «البراء بن عازب بن الحارث، الفقیه الكبیر، أبو

ص: 697

عمارة الأنصاري الحارثي المدني، نزیل الكوفة، من أعیان الصحابة. روی حدیثاً كثیراً وشهد غزوات كثیرة مع النبي (صلی الله علیه و آله)».

وتدل شهادته علی أن خلافة أبي بكر كانت خلسة وفلتةً بعیدة عن النص النبوي ومشورة الأمة! وكانت إجباراً وإرهاباً بالطلقاء الذین خرجوا مسلحین یخبطون من رأوه ویجبرونه علی البیعة! وتدل علی أنها كانت متزلزلة أیاماً، حتی غلبت فیها قریش والطلقاء، وانقسم الأنصار وتحاسدوا وتخاذلوا!

22- خطبة سلمان في الیوم الثالث لوفاة النبي (صلی الله علیه و آله)

في الإحتجاج: 1/151، عن الإمام الصادق عن آبائه: قال: «خطب الناس سلمان الفارسي (رحمة الله) بعد أن دفن النبي (صلی الله علیه و آله) بثلاثة أیام فقال فیها:

ألا یا أیها الناس: إسمعوا عني حدیثي ثم اعقلوه عني، ألا وإني أوتیت علماً كثیراً، فلو حدثتكم بكل ما أعلم من فضایل أمیر المؤمنین (علیه السلام) لقالت طائفة منكم هو مجنون، وقالت طائفة أخری اللهم اغفر لقاتل سلمان! ألا إن لكم منایا تتبعها بلایا، ألا وإن عند علي (علیه السلام) علم المنایا والبلایا ومیراث الوصایا، وفصل الخطاب، وأصل الأنساب، علی منهاج هارون بن عمران من موسی إذ یقول له رسول الله (صلی الله علیه و آله):

أنت وصیي فی أهل بیتي، وخلیفتي في أمتي وأنت مني بمنزلة هارون من موسی! ولكنكم أخذتم سنة بنی إسرائیل فأخطأتم الحق، فأنتم تعلمون ولا تعلمون! أما والله لتركبن طبقاً عن طبق، حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة! أما والذي نفس سلمان بیده لو ولیتموها علیاً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أقدامكم، ولو دعوتم الطیر لأجابتكم في جو السماء، ولو دعوتم الحیتان من البحار لأتتكم، ولما عال ولي الله، ولا طاش لكم سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله. ولكن أبیتم فولیتموها غیره فأبشروا بالبلایا، واقنطوا من الرخاء، وقد نابذتكم علی سواء، فانقطعت العصمة فیما بیني وبینكم من الولاء! علیكم بآل محمد فإنهم القادة إلی الجنة، والدعاة إلیها یوم القیامة.

علیكم بأمیر المؤمنین علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فوالله لقد سلمنا علیه بالولایة وإمرة المؤمنین مراراً جمة مع نبینا، كل ذلك یأمرنا به ویؤكده علینا! فما بال القوم عرفوا

ص: 698

فضله فحسدوه، وقد حسد هابیل قابیل فقتله، وكفاراً قد ارتدت أمة موسی بن عمران، فأمر هذه الأمة كأمر بني إسرائیل، فأین یذهب بكم!

أیها الناس: ویحكم ما لنا وأبو فلان وفلان! أجهلتم أم تجاهلتم؟ أم حسدتم أم تحاسدتم؟ والله لترتدن كفاراً یضرب بعضكم رقاب بعض بالسیف، یشهد الشاهد علی الناجي بالهلكة، ویشهد الشاهد علی الكافر بالنجاة!

ألا وإني أظهرت أمري وسلمت لنبیي (صلی الله علیه و آله)، واتبعت مولاي ومولی كل مؤمن ومؤمنة علیاً أمیر المؤمنین، وسید الوصیین، وقائد الغر المحجلین، وإمام الصدیقین، والشهداء والصالحین».

23- خطبة أمیر المؤمنین (علیه السلام) في الیوم السابع لوفاة النبي (صلی الله علیه و آله)

في الكافي: 8/18 عن جابر بن یزید الجعفي (رحمة الله) قال: «دخلت علی أبي جعفر (علیه السلام) فقلت: یا ابن رسول الله قد أرمضني اختلاف الشیعة في مذاهبها فقال:

یا جابر ألم أقفك علی معنی اختلافهم من أین اختلفوا، ومن أي جهة تفرقوا؟ قلت: بلی یا ابن رسول الله قال: فلا تختلف إذا اختلفوا! یا جابر

إن الجاحد لصاحب الزمان كالجاحد لرسول الله (صلی الله علیه و آله) في أیامه! یا جابر إسمع وعِ، قلت: إذا شئت، قال: إسمع وعِ، وبلغ حیث انتهت بك راحلتك:

إن أمیر المؤمنین (علیه السلام) خطب الناس بالمدینة، بعد سبعة أیام من وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وذلك حین فرغ من جمع القرآن وتألیفه فقال (علیه السلام): «مختصراً»:

الحمد لله الذي منع الأوهام أن تنال إلا وجوده، وحجب العقول أن تتخیل ذاته لامتناعها من الشبه والتشاكل، بل هو الذي لا یتفاوت في ذاته، ولا یتبعض بتجزئة العدد في كماله. فارق الأشیاء لا علی اختلاف الأماكن، ویكون فیها لا علی وجه الممازجة، ویعلمها لا بأداة، لا یكون العلم إلا بها، ولیس بینه وبین معلومه علم غیره به. كان عالماً بمعلومه. إن قیل كان، فعلی تأویل أزلیة الوجود وإن قیل لم یزل، فعلی تأویل نفي العدم. فسبحانه وتعالی عن قول من عبد سواه واتخذ إلهاً غیره، علواً كبیراً.

ص: 699

نحمده بالحمد الذي ارتضاه من خلقه، وأوجب قبوله علی نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شریك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، شهادتان ترفعان القول وتضاعفان العمل، خف میزانٌ ترفعان منه، وثقل میزانٌ توضعان فیه، وبهما الفوز بالجنة والنجاة من النار، والجواز علی الصراط. وبالشهادة تدخلون الجنة، وبالصلاة تنالون الرحمة. أكثروا من الصلاة علی نبیكم (صلی الله علیه و آله): إِنَّ اللهَ وَمَلائِكتَهُ یصَلُّونَ عَلَی النبي یا أَیهَا الَّذِینَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَیهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِیمًا.

أیها الناس: إنه لا شرف أعلی من الإسلام، ولا كرم أعز من التقوی، ولا معقل أحرز من الورع، ولا شفیع أنجح من التوبة، ولا لباس أجمل من العافیة، ولا وقایة أمنع من السلامة، ولا مال أذهب بالفاقة من الرضا بالقناعة، ولا كنز أغنی من القنوع، ومن اقتصر علی بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة وتبوأ خفض الدعة، والرغبة مفتاح التعب، والإحتكار مطیة النصب، والحسد آفة الدین، والحرص داع إلی التقحم في الذنوب، وهو داعي الحرمان...

إعلموا أیها الناس أنه من مشی علی وجه الأرض، فإنه یصیر إلی بطنها، واللیل والنهار یتنازعان في هدم الأعمار...

وما تناكرتم إلا لما فیكم من المعاصي والذنوب، فما أقرب الراحة من التعب والبؤس من النعیم، وما شر بشر بعده الجنة، وما خیر بخیر بعده النار، وكل نعیم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافیة، وعند تصحیح الضمائر تبدو الكبائر، تصفیة العمل أشد من العمل، وتخلیص النیة من الفساد أشد علی العاملین من طول الجهاد. هیهات لولا التقی لكنت أدهی العرب.

أیها الناس: إن الله تعالی وعد نبیه محمداً (صلی الله علیه و آله) الوسیلة ووعده الحق، ولن یخلف الله وعده، ألا وإن الوسیلة أعلی درج الجنة، وذروة ذوائب الزلفة، ونهایة غایة الأمنیة، لها ألف مرقاة، ما بین المرقاة إلی المرقاة حضر الفرس الجواد مائة عام، وهو ما بین مرقاة درة إلی مرقاة جوهرة، إلی مرقاة زبرجدة، إلی مرقاة لؤلؤة، إلی مرقاة یاقوتة، إلی مرقاة زمردة، إلی مرقاة مرجانة.. قد أنافت علی كل الجنان ورسول الله (صلی الله علیه و آله) یومئذ

ص: 700

قاعد علیها، مرتدٍ بریطتین: ریطة من رحمة الله وریطة من نور الله، علیه تاج النبوة، وإكلیل الرسالة، قد أشرق بنوره الموقف، وأنا یومئذ علی الدرجة الرفیعة وهي دون درجته، وعلي ریطتان: ریطة من أرجوان النور وریطة من كافور، والرسل والأنبیاء: قد وقفوا علی المراقي، وأعلام الأزمنة وحجج الدهور عن أیماننا، وقد تجللهم حلل النور والكرامة، لا یرانا ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا بهت بأنوارنا، وعجب من ضیائنا وجلالتنا...

ولا مصیبة عظمت ولا رزیة جلت كالمصیبة برسول الله (صلی الله علیه و آله)، لأن الله ختم به الإنذار والإعذار، وقطع به الإحتجاج والعذر بینه وبین خلقه، وجعله بابه الذي بینه وبین عباده، ومهیمنه الذي لا یقبل إلا به، ولا قربة إلیه إلا بطاعته، وقال في محكم كتابه: مَنْ یطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّی فَمَا أَرْسَلْنَاك عَلَیهِمْ حَفِیظًا. فقرن طاعته بطاعته ومعصیته بمعصیته، فكان ذلك دلیلاً علی ما فوض إلیه، وشاهداً له علی من اتبعه وعصاه، وبین ذلك في غیر موضع من الكتاب العظیم فقال تبارك وتعالی في التحریض علی اتباعه، والترغیب في تصدیقه، والقبول لدعوته: قُلْ إِنْ كنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي یحْبِبْكمُ اللهُ وَیغْفِرْ لَكمْ ذُنُوبَكمْ، فاتباعه (صلی الله علیه و آله) محبة الله، ورضاه غفران الذنوب، وكمال الفوز ووجوب الجنة، وفي التولی عنه والإعراض محادة الله وغضبه وسخطه، والبعد منه مسكن النار، وذلك قوله: أُولَئِك یؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ یكفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ، یعني الجحود به والعصیان له...

فإن الله تبارك اسمه امتحن بی عباده وقتل بیدي أضداده، وأفنی بسیفي جحاده وجعلني زلفة للمؤمنین وحیاض موت علی الجبارین، وسیفه علی المجرمین، وشد بي أزر رسوله (صلی الله علیه و آله) وأكرمني بنصره، وشرفني بعلمه وحباني بأحكامه، واختصني بوصیته واصطفاني بخلافته في أمته، فقال (صلی الله علیه و آله) وقد حشده المهاجرون والأنصار، وانغصت بهم المحافل: أیها الناس إن علیاً مني كهارون من موسی إلا أنه لا نبي بعدي! فعقل المؤمنون عن الله نطق الرسول، إذ عرفوني

ص: 701

أني لست بأخیه لأبیه وأمه كما كان هارون أخا موسی لأبیه وأمه، ولا كنت نبیاً فأقتضي نبوة، ولكن كان ذلك منه استخلافاً لي كما استخلف موسی هارون (علیهما السلام) حیث یقول: أُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِیلَ الْمُفْسِدِینَ.

وقوله (صلی الله علیه و آله) حین تكلمت طائفة فقالت: نحن موالي رسول الله فخرج رسول الله إلی حجة الوادع ثم صار إلی غدیر خم، فأمر فأصلح له شبه المنبر ثم علاه، وأخذ بعضدي حتی رئي بیاض إبطیه رافعاً صوته، قائلاً في محفله: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. فكانت علی ولایتي ولایة الله وعلی عداوتي عداوة الله. وأنزل الله عزوجل فی ذلك الیوم: الْیوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِینَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیكمْ نِعْمَتِي. فكانت ولایتي كمالَ الدین ورضا الرب جل ذكره، وأنزل الله تبارك وتعالی اختصاصاً لي وتكرماً نحلنیه وإعظاماً وتفضیلاً من رسول الله (صلی الله علیه و آله) منحنیه، وهو قوله تعالی: ثُمَّ رُدُّوا إِلَی اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكمُ وَهُوَأَسْرَعُ الْحَاسِبِینَ. في مناقب لو ذكرتها لعظم بها الإرتفاع، فطال لها الإستماع.

ولئن تقمصها دوني الأشقیان ونازعاني فیما لیس لهما بحق، وركباها ضلالة واعتقداها جهاله، فلبئس ما علیه وردا ولبئس ما لأنفسهما مهدا، یتلاعنان في دورهما، ویتبرأ كل واحد منهما من صاحبه، یقول لقرینه إذا التقیا: یا لیت بیني وبینك بعد المشرقین فبئس القرین، فیجیبه الأشقی علی رثوثة: یا لیتني لم أتخذك خلیلاً، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِی وَكانَ الشَّیطَانُ للَّإِنْسَانِ خَذُولاً، فأنا الذكر الذي عنه ضل، والسبیل الذي عنه مال، والإیمان الذي به كفر، والقرآن الذي إیاه هجر، والدین الذي به كذب، والصراط الذي عنه نكب.

ولئن رتعا في الحطام المنصرم، والغرور المنقطع، وكانا منه علی شفا حفرة من النار، لهما علی شر ورود، في أخیب وفود، وألعن مورود، یتصارخان باللعنة ویتناعقان بالحسرة، مالهما من راحة، ولا عن عذابهما من مندوحة.

إن القوم لم یزالوا عباد أصنام وسدنة أوثان، یقیمون لها المناسك، وینصبون لها العتائر، ویتخذون لها القربان، ویجعلون لها البحیرة والوصیلة، والسائبة والحام، ویستقسمون

ص: 702

بالأزلام، عامهین عن الله عز ذكره، حائرین عن الرشاد، مهطعین إلی البعاد، وقد استحوذ علیهم الشیطان، وغمرتهم سوداء الجاهلیة، ورضعوها جهالة، وانفطموها ضلالة، فأخرجنا الله إلیهم رحمة، وأطلعنا علیهم رأفة، وأسفر بنا عن الحجب، نوراً لمن اقتبسه، وفضلاً لمن اتبعه، وتأییداً لمن صدقه، فتبوؤوا العز بعد الذلة، والكثرة بعد القلة، وهابتهم القلوب والأبصار، وأذعنت لهم الجبابرة، وطوائفها وصاروا أهل نعمة مذكورة، وكرامة میسورة وأمن بعد خوف، وجمع بعد كوف، وأضاءت بنا مفاخر معد بن عدنان، وأولجناهم باب الهدی، وأدخلناهم دار السلام، وأشملناهم ثوب الإیمان، وفلجوا بنا في العالمین، وأبدت لهم أیام الرسول آثار الصالحین، من حام مجاهد، ومصل قانت، ومعتكف زاهد، یظهرون الأمانة ویأتون المثابة.

حتی إذا دعا الله عزوجل نبیه (صلی الله علیه و آله) ورفعه إلیه، لم یك ذلك بعده إلا كلمحة من خفقة، أو ومیض من برقة، إلی أن رجعوا علی الأعقاب، وانتكصوا علی الأدبار، وطلبوا بالأوتار، وأظهروا الكتاب، وردموا الباب، وفلوا الدیار، وغیروا آثار رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ورغبوا عن أحكامه، وبعدوا من أنواره، واستبدلوا بمستخلفه بدیلاً، اتخذوه وكانوا ظالمین، وزعموا أن من اختاروا من آل أبي قحافة أولی بمقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) ممن اختار رسول الله (صلی الله علیه و آله) لمقامه! وأن مهاجر آل أبي قحافة خیر من المهاجري الأنصاري الرباني، ناموس هاشم بن عبدمناف!

ألا وإن أول شهادة زور وقعت في الإسلام، شهادتهم أن صاحبهم مستخلف رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فلما كان من أمر سعد بن عبادة ما كان، رجعوا عن ذلك وقالوا: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) مضی ولم یستخلف! فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) الطیب المبارك أول مشهود علیه بالزور في الإسلام! وعن قلیل یجدون غب ما یعملون، وسیجد التالون غب ما أسسه الأولون!

ولئن كانوا فی مندوحة من المهل، وشفاء من الأجل، وسعة من المنقلب واستدراج من الغرور، وسكون من الحال، وإدراك من الأمل، فقد أمهل

ص: 703

الله عزوجل شداد بن عاد، وثمود بن عبود، وبلعم بن باعور، وأسبغ علیهم نعمه ظاهرة وباطنة، وأمدهم بالأموال والأعمار، وأتتهم الأرض ببركاتها، لیذكروا آلاء الله، ولیعرفوا الإهابة له، والإنابة إلیه، ولینتهوا عن الإستكبار. فلما بلغوا المدة، واستتموا الأكلة، أخذهم الله عزوجل واصطلمهم، فمنهم من حصب، ومنهم من أخذته الصیحة، ومنهم من أحرقته الظلة، ومنهم من أودته الرجفة، ومنهم من أردته الخسفة: وَمَا كانَ اللهُ لِیظْلِمَهُمْ وَلَكنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ یظْلِمُونَ.

ألا وإن لكل أجل كتاباً، فإذا بلغ الكتاب أجله، فلو كشف لك عما هوی إلیه الظالمون، وآل إلیه الأخسرون، لهربت إلی الله عزوجل مما هم علیه مقیمون وإلیه صائرون!

ألا وإني فیكم أیها الناس كهارون في آل فرعون، وكباب حطة في بني إسرائیل، وكسفینة نوح في قوم نوح. إني النبأ العظیم، والصدیق الأكبر، وعن قلیل ستعلمون ما توعدون، وهل هي إلا كلعقة الآكل، ومذقة الشارب، وخفقة الوسنان، ثم تلزمهم المعرات، خِزْي فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَیوْمَ الْقِیامَةِ یرَدُّونَ إِلَی أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. فما جزاء من تنكب محجته، وأنكر حجته، وخالف هداته، وحاد عن نوره، واقتحم فی ظلمه، واستبدل بالماء السراب وبالنعیم العذاب، وبالفوز الشقاء، وبالسراء الضراء، وبالسعة الضنك، إلا جزاء اقترافه، وسوء خلافه، فلیوقنوا بالوعد علی حقیقته، ولیستیقنوا بما یوعدون: یوْمَ یسْمَعُونَ الصَّیحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِك یوْمُ الْخُرُوجِ. إِنَّا نَحْنُ نُحْیي وَنُمِیتُ وَإِلَینَا الْمَصِیرُ. یوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِك حَشْرٌ عَلَینَا یسِیرٌ. نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا یقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَیهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ یخَافُ وَعِیدِ».

24- احتجاج اثني عشر من شخصیات المهاجرین والأنصار

3- كان كبار الصحابة مذهولین، غاضبین لحركة أهل السقیفة، وأسلوبهم فی الخلسة والعنف لأخذ الخلافة! وقد اعترضوا اعلی أبي بكر وعمر رغم الجو الإرهابي القمعي الذی أوجده الطلقاء لفرض خلیفتهم!

وفي أول جمعة عندما صعد أبو بكر علی منبر النبي (صلی الله علیه و آله) قام اثنا عشر صحابیاً،

ص: 704

وتكلموا بكلام قوي، فأفحموه ومن معه، فانسحبوا من المسجد وظلوا ثلاثة أیام، یحشدون مناصریهم، ثم عادوا بقوة وتهدید!

روی في الإحتجاج: 1/97: «عن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام): جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنكر علی أبي بكر فعله وجلوسه مجلس رسول (صلی الله علیه و آله) ؟ قال: نعم كان الذي أنكر علی أبي بكر اثنا عشر رجلاً. من المهاجرین: خالد بن سعید بن العاص، وكان من بني أمیة، وسلمان الفارسي، وأبوذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعمار بن یاسر، وبریدة الأسلمي. ومن الأنصار: أبو الهیثم بن التیهان، وسهل وعثمان ابنا حنیف، وخزیمة بن ثابت ذو الشهادتین، وأبيّ بن كعب، وأبو أیوب الأنصاري.

قال: فلما صعد أبو بكر المنبر تشاوروا بینهم فقال بعضهم لبعض: والله لنأتینه ولننزلنه عن منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! وقال آخرون منهم: والله لئن فعلتم ذلك إذاً أعنتم علی أنفسكم فقد قال الله عزوجل: ولا تلقوا بأیدیكم إلی التهلكة، فانطلقوا بنا إلی أمیر المؤمنین لنستشیره ونستطلع رأیه، فانطلق القوم إلی أمیر المؤمنین بأجمعهم فقالوا: یا أمیر المؤمنین تركت حقاً أنت أحق به وأولی به من غیرك، لأنا سمعنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) یقول: علي مع الحق والحق مع علي یمیل مع الحق كیفما مال. ولقد هممنا أن نصیر إلیه فننزل عن منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فجئناك لنستشیرك ونستطلع رأیك فما تأمرنا؟ فقال أمیر المؤمنین (علیه السلام): وأیم الله لو فعلتم ذلك لما كنتم لهم إلا حرباً، ولكنكم كالملح في الزاد وكالكحل في العین، وأیم الله لو فعلتم ذلك لأتیتموني شاهرین بأسیافكم مستعدین للحرب والقتال، وإذاً لأتوني فقالوا لي بایع وإلا قتلناك، فلا بد لي من أدفع القوم عن نفسي، وذلك أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أوعز إليَّ قبل وفاته وقال لي: یا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك من بعدي وتنقض فیك عهدي، وإنك مني بمنزلة هارون من موسی، وإن الأمة من بعدي كهارون ومن اتبعه والسامري ومن اتبعه! فقلت: یا رسول الله فما تعهد إليّ إذا كان كذلك؟ فقال: إذا وجدت أعواناً فبادر إلیهم وجاهدهم، وإن لم تجد

ص: 705

أعواناً كف یدك واحقن دمك حتی تلحق بي مظلوماً.

فلما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) اشتغلت بغسله وتكفینه والفراغ من شأنه، ثم آلیت علی نفسي یمیناً أن لا أرتدي برداء إلا للصلاة حتی أجمع القرآن، ففعلت، ثم أخذت بید فاطمة وابني الحسن والحسین فدرت علی أهل بدر وأهل السابقة فناشدتهم حقي ودعوتهم إلی نصرتي، فما أجابني منهم إلا أربعة رهط سلمان وعمار وأبوذر والمقداد! ولقد راودت في ذلك بقیة أهل بیتي، فأبوا علَيَّ إلا السكوت لما علموا من وغارة صدور القوم وبغضهم لله ورسوله ولأهل بیت نبیه! فانطلقوا بأجمعكم إلی الرجل فعرفوه ما سمعتم من قول نبیكم، لیكون ذلك أوكد للحجة وأبلغ للعذر، وأبعد لهم من رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا وردوا علیه.

فسار القوم حتی أحدقوا بمنبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكان یوم الجمعة، فلما صعد أبو بكر المنبر قال المهاجرون للأنصار: تقدموا وتكلموا، فقال الأنصار للمهاجرین: بل تكلموا وتقدموا أنتم فإن الله عزوجل بدأ بكم في الكتاب. فأول من تكلم خالد بن سعید بن العاص، ثم باقي المهاجرین، ثم بعدهم الأنصار.

فقام إلیه خالد بن سعید بن العاص وقال: إتق الله یا أبا بكر، فقد علمت أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال ونحن محتوشوه یوم بني قریظة، حین فتح الله له باب النصر، وقد قتل علي بن أبي طالب یومئذ عدة من صنادید رجالهم وأولي البأس والنجدة منهم: یا معاشر المهاجرین والأنصار إني موصیكم بوصیة فاحفظوها، ومودعكم أمراً فاحفظوه، ألا إن علي بن أبي طالب أمیركم بعدي وخلیفتي فیكم، بذلك أوصاني ربي. ألا وإنكم إن لم تحفظوا فیه وصیتي وتوازروه وتنصروه، اختلفتم في أحكامكم، واضطرب علیكم أمر دینكم وولیكم أشراركم.

ألا وإن أهل بیتي هم الوارثون لأمري والعالمون لأمر أمتي من بعدي. اللهم من أطاعهم من أمتي وحفظ فیهم وصیتي فاحشرهم في زمرتي، واجعل لهم نصیباً من مرافقتي، یدركون به نور الآخرة. اللهم ومن أساء خلافتي في أهل بیتي فأحرمه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض.

ص: 706

فقال له عمر بن الخطاب: أُسكت یا خالد فلست من أهل المشورة، ولا ممن یقتدی برأیه. فقال له خالد: بل أسكت أنت یا ابن الخطاب، فإنك تنطق علی لسان غیرك! وأیم الله لقد علمت قریش أنك من ألأمها حسباً، وأدناها منصباً، وأخسها قدراً، وأخملها ذكراً، وأقلهم غناءً عن الله ورسوله (صلی الله علیه و آله)، وإنك لجبان في الحروب، بخیل بالمال، لئیم العنصر، مالك في قریش من فخر، ولا في الحروب من ذكر، وإنك في هذا الأمر بمنزلة الشیطان: إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمین. فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدین فیها وذلك جزاء الظالمین. فأبلس عمر، وجلس خالد بن سعید».

ثم أورد الإمام الصادق (علیه السلام) خُطَبَهم واحداً واحداً، وقال: «فأفحم أبو بكر علی المنبر حتی لم یحر جواباً، ثم قال: ولیتكم ولست بخیركم أقیلوني أقیلوني! فقال له عمر بن الخطاب: إنزل عنها یا لكع! إذا كنت لا تقوم بحجج قریش لمَ أقمت نفسك هذا المقام؟ والله لقد هممت أن أخلعك وأجعلها في سالم مولی أبي حذیفة. قال: فنزل ثم أخذ بیده وانطلق إلی منزله، وبقوا ثلاثة أیام لا یدخلون مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فلما كان في الیوم الرابع جاءهم خالد بن الولید ومعه ألف رجل فقال لهم: ما جلوسكم فقد طمع فیها والله بنو هاشم؟ وجاءهم سالم مولی أبي حذیفة ومعه ألف رجل، وجاءهم معاذ بن جبل ومعه ألف رجل، فما زال یجتمع إلیهم رجل رجل حتی اجتمع أربعة آلاف رجل، فخرجوا شاهرین بأسیافهم یقدمهم عمر بن الخطاب حتی وقفوا بمسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال عمر: والله یا أصحاب علي لئن ذهب منكم رجل یتكلم بالذي تكلم بالأمس، لنأخذن الذي فیه عیناه. فقام إلیه خالد بن سعید بن العاص وقال: یا بن صهاك الحبشیة أبأسیافكم تهددوننا، أم بجمعكم تفزعوننا، والله إن أسیافنا أحد من أسیافكم، وإنا لأكثر منكم وإن كنا قلیلین لأن حجة الله فینا، والله لو لا أنی أعلم أن طاعة الله ورسوله وطاعة إمامي أولی بي، لشهرت سیفي وجاهدتكم في الله إلی أن أبلط عذري. فقام أمیر المؤمنین وقال: أجلس یا خالد، فقد عرف الله لك

ص: 707

مقامك وشكر لك سعیك، فجلس! وقام إلیه سلمان الفارسي فقال: الله أكبر الله أكبر! سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) بهاتین الأذنین وإلا صُمَّتا یقول: بینا أخي وابن عمي جالس في مسجدي مع نفر من أصحابه إذ تكبسه جماعة من كلاب أصحاب النار یریدون قتله وقتل من معه، فلست أشك إلَّا وإنكم هم! فهمَّ به عمر بن الخطاب، فوثب إلیه أمیر المؤمنین (علیه السلام) وأخذ بمجامع ثوبه ثم جلد به الأرض، ثم قال: یا بن صهاك الحبشیة لولا كتاب من الله سبق وعهد من رسول الله تقدم، لأریتك أینا أضعف ناصراً وأقل عدداً!

ثم التفت إلی أصحابه فقال: إنصرفوا رحمكم الله، فوالله لا دخلت المسجد إلا كما دخل أخواي موسی وهارون، إذ قال له أصحابه: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّك فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ. والله لا دخلته إلا لزیارة رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو لقضیة أقضیها، فإنه لا یجوز بحجة أقامها رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن یترك الناس في حیرة»!

وعن عبدالله بن عبدالرحمن قال:«ثم إن عمر احتزم بإزاره وجعل یطوف بالمدینة وینادي: ألا إن أبا بكر قد بویع له فهلموا إلی البیعة، فینثال الناس یبایعون فعرف أن جماعة في بیوت مستترون، فكان یقصدهم في جمع كثیر ویكبسهم، ویحضرهم المسجد فیبایعون! حتی إذا مضت أیام أقبل في جمع كثیر إلی منزل علي (علیه السلام) فطالبه بالخروج فأبی، فدعا عمر بحطب ونار وقال: والذي نفس عمر بیده لیخرجن أو لأحرقنه علی ما فیه! فقیل له: إن فیه فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وولد رسول الله وآثار رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأنكر الناس ذلك من قوله فلما عرف إنكارهم قال: ما بالكم أتروني فعلت ذلك إنما أردت التهویل، فراسلهم علی أن لیس إلی خروجي حیلة، لأني في جمع كتاب الله الذي قد نبذتموه وألهتكم الدنیا عنه، وقد حلفت أن لا أخرج من بیتي ولا أدع ردائي علی عاتقي حتی أجمع القرآن. قال: وخرجت فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلیهم فوقفت خلف الباب ثم قالت: لا عهد لي بقوم أسوأ محضراً منكم، تركتم رسول الله (صلی الله علیه و آله) جنازة بین أیدینا، وقطعتم أمركم فیما بینكم ولم تؤمرونا، ولم تروا لنا حقاً، كأنكم لم تعلموا ما قال یوم غدیر خم! والله لقد عقد له یومئذ الولاء لیقطع منكم بذلك منها الرجاء، ولكنكم قطعتم الأسباب بینكم وبین نبیكم! والله

ص: 708

حسیب بیننا وبینكم في الدنیا والآخرة».

هذا، وفي الموضوع أحادیث وبحوث، لایتسع لها الكتاب.

25- خطبة أخری لأبي بن كعب (رحمة الله) في إدانة السقیفة

في الإحتجاج 1/153: «لما خطب أبو بكر قام إلیه أبيّ بن كعب وكان یوم الجمعة أول یوم من شهر رمضان، وقال: یا معشر المهاجرین الذین اتبعوا مرضاة الله وأثنی الله علیهم في القرآن. ویا معشر الأنصار الذین تبوؤوا الدار والإیمان، وأثنی الله علیهم في القرآن، تناسیتم أم نسیتم أم بدلتم أم غیرتم أم خذلتم أم عجزتم؟! ألستم تعلمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قام فینا مقاماً أقام في علیاً فقال: من كنت مولاه فهذا مولاه یعني علیاً، ومن كنت نبیه فهذا أمیره؟

ألستم تعلمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: یا علي أنت منی بمنزلة هارون من موسی طاعتك واجبة علی من بعدي كطاعتي في حیاتي غیر أنه لا نبي بعدي؟

ألستم تعلمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: أوصیكم بأهل بیتي خیراً فقدموهم ولا تقدموهم، وأمِّروهم ولا تأمروا علیهم؟

ألستم تعلمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: أهل بیتي منار الهدی والدالون علی الله؟

ألستم تعلمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لعلي (علیه السلام) أنت الهادي لمن ضل؟

ألستم تعلمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: علي المحیي لسنتي ومعلم أمتي، والقائم بحجتي، وخیر من أخلف من بعدي، وسید أهل بیتي، وأحب الناس إليّ طاعته كطاعتي علی أمتي؟

ألستم تعلمون أنه لم یول علی علي أحداً منكم وولاه في كل غیبته علیكم؟

ألستم تعلمون أنه كان منزلهما في أسفارهما واحداً وارتحالهما واحداً؟

ألستم تعلمون أنه قال: إذا غبت فخلفت علیكم علیاً فقد خلفت فیكم رجلاً كنفسي؟

ألستم تعلمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل موته قد جمعنا في بیت ابنته فاطمة فقال لنا: إن الله أوحی إلی موسی بن عمران أن اتخذ أخاً من أهلك فاجعله نبیاً،

ص: 709

واجعل أهله لك ولداً، أطهرهم من الآفات، وأخلصهم من الریب، فاتخذ موسی هارون أخاً، وولده أئمة لبني إسرائیل من بعده، الذین یحل لهم في مساجدهم ما یحل لموسی. وأن الله تعالی أوحی إليّ أن أتخذ علیاً أخاً كما أن موسی اتخذ هارون أخاً، واتخذ ولده ولداً، فقد طهرتهم كما طهرت ولد هارون، إلا أني قد ختمت بك النبیین، فلا نبي بعدك، فهم الأئمة الهادیة!

أفما تبصرون، أفما تفهمون أفما تسمعون! ضربت علیكم الشبهات، فكان مثلكم كمثل رجل في سفر فأصابه عطش شدید، حتی خشی أن یهلك فلقي رجلاً هادیاً في الطریق فسأله عن الماء، فقال له أمامك عینان: إحداهما مالحة والأخری عذبة، فإن أصبت المالحة ضللت، وإن أصبت العذبة هدیت ورویت! فهذا مثلكم أیتها الأمة المهملة كما زعمتم! وأیم الله ما أهملتم، لقد نصب لكم علمٌ یحل لكم الحلال ویحرم علیكم الحرام، ولو أطعتموه ما اختلفتم ولا تدابرتم ولا تقاتلتم ولا برئ بعضكم من بعض، فوالله إنكم بعده لناقضون عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وإنكم علی عترته لمختلفون، وإن سئل هذا عن غیر ما یعلم أفتی برأیه فقد أبعدتم، وتخارستم وزعمتم أن الخلاف رحمة!

هیهات أبی الكتاب ذلك علیكم یقول الله تعالی جَده: وَلا تَكونُوا كالَّذِینَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَینَاتُ وَأُولَئِك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِیمٌ.

ثم أخبرنا باختلافكم فقال سبحانه: وَلا یزَالُونَ مُخْتَلِفِینَ. إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّك وَلِذَلِك خَلَقَهُمْ، أي للرحمة، وهي آل محمد (صلی الله علیه و آله).

سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) یقول: یا علي أنت وشیعتك علی الفطرة، والناس منها براء، فهلا قبلتم من نبیكم؟! كیف وهو خبركم بانتكاصتكم عن وصیه علي بن أبي طالب، وأمینه ووزیره وأخیه وولیه دونكم أجمعین، وأطهركم قلباً، وأقدمكم سلماً، وأعظمكم وعیاً من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، أعطاه تراثه، وأوصاه بعداته، فاستخلفه علی أمته، ووضع عنده سره، فهو ولیه دونكم أجمعین، وأحق به منكم أكتعین، سید الوصیین، ووصي خاتم المرسلین، أفضل المتقین، وأطوع الأمة لرب العالمین، سلمتم علیه بإمرة المؤمنین في حیاة سید النبیین، وخاتم المرسلین، فقد أعذر من أنذر وأدی النصیحة من وعظ

ص: 710

وبصَّر من عمی! فقد سمعتم كما سمعنا، ورأیتم كما رأینا، وشهدتم كما شهدنا!

فقام إلیه عبدالرحمن بن عوف، وأبو عبیدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل فقالوا: یا أبيّ أصابك خبل أم بك جنة؟! فقال: بل الخبل فیكم، والله كنت عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) یوماً فألفیته یكلم رجلاً أسمع كلامه ولا أری شخصه، فقال فیما یخاطبه: ما أنصحه لك ولأمتك وأعلمه بسنتك! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أفتری أمتي تنقاد له من بعدي؟ قال: یا محمد یتبعه من أمتك أبرارها، ویخالف علیهم من أمتك فجارها، وكذلك أوصیاء النبیین من قبلك، یا محمد إن موسی بن عمران أوصی إلی یوشع بن نون، وكان أعلم بني إسرائیل وأخوفهم لله وأطوعهم له، فأمره الله عزوجل أن یتخذه وصیاً كما اتخذت علیاً وصیاً، وكما أمرت بذلك، فحسده بنو إسرائیل، سبط موسی خاصة، فلعنوه وشتموه وعنفوه ووضعوا له! فإن أخذت أمتك سنن بني إسرائیل كذبوا وصیك وجحدوا إمرته وابتزوا خلافته وغالطوه في علمه! فقلت: یا رسول الله من هذا؟

«فقال رسول لله (صلی الله علیه و آله): هذا ملك من ملائكة ربي عزوجل، ینبئني أن أمتي تتخلف علی وصیي علي بن أبي طالب، وإني أوصیك یا أبي بوصیة إن حفظتها لم تزل بخیر: یا أبي علیك بعلي فإنه الهادي المهدي، الناصح لأمتي، المحیي لسنتي، وهو إمامكم بعدي، فمن رضي بذلك لقیني علی ما فارقته علیه. یا أبي، ومن غیر أو بدل لقیني ناكثاً لبیعتي، عاصیاً أمري، جاحداً لنبوتي، لا أشفع له عند ربي، ولا أسقیه من حوضي! فقامت إلیه رجال من الأنصار فقالوا: أقعد رحمك الله یا أبي، فقد أدیت ما سمعت الذي معك ووفیت بعهدك».

أقول: روینا عن النبي (صلی الله علیه و آله) وأهل البیت (علیهم السلام) توثیق أبيّ بن كعب الأنصاري (رحمة الله)، وروی البخاري في صحیحه: 6/102 وروی غیره أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمر الأمة فقال: «خذوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبيَّ بن كعب».

لكنهم لم یأخذوا منه القرآن فكیف یأخذون برأیه في الخلافة؟! وقد كان (رحمة الله) یسمي أصحاب السقیفة: أهل العقدة ویقول: «هلك أصحاب العقدة ورب

ص: 711

الكعبة! یقولها ثلاثاً ثم قال: والله ما علیهم آسی ولكن آسی علی من أضلوا! قال قلت من تعني بهذا؟قال: الأمراء». الحاكم 2/226، أحمد 5/140 وتدوین القرآن للمؤلف/254.

وفي آخر عمره قرر أُبيُّ أن یخطب مرة أخری ویفضحهم فقال: «والله لئن عشت إلی هذه الجمعة لأقولن فیهم قولاً، لا أبالي أستحییتموني علیه أو قتلتموني»!

الطبقات 3/500. فمات (رحمة الله) یوم الأربعاء (رحمة الله) ! راجع: ألف سؤال وإشكال 1/341.

إلفات الی أهمیة الخرائط التوضیحیة لمواقع السیرة

تُبَینُ الخرائط الجغرافیة مواقع أحداث السیرة النبویة، فتساعد في فهم مواضیعها. ومن الممكن تجمیع الكثیر منها من شبكة النت، بالبحث عن أسماء الأماكن الواردة في السیرة. ومن المصادر المفیدة: أطلس السیرة النبویة لشوقي أبو خلیل، وأطلس التاریخ الإسلامي للدكتور حسین یونس. وهذه روابطها:

http: //www.waqfeya.net/search.php

337http: //www.waqfeya.net/book.php?bid =

http: //www.islamichistory.net/forum/showthread.php?p=31938

وتبقی الحاجة قائمة الی عمل دقیق في أطلس السیرة النبویة، لبیان مواقع حركة النبي (صلی الله علیه و آله) طول حیاته الشریفة، من سفراته الی الشام في صباه وشبابه، وحركته في مكة الی حراء وغیرها، ثم حركة الإسراء به من المسجد الحرام في مكة، الی كوفان من العراق حیث نزل وصلی في مسجدها، ثم الی بیت المقدس في فلسطین.

ثم هجرته المباركة الی المدینة، ثم تحركاته الكثیرة الی أكثر من عشرین موقعاً في أنحاء الجزیرة، وصلت غرباً الی تبوك عند حدود الأردن، وشرقاً الی حدود الیمن وداخل نجد، وكان ختامها سفره الی مكة لحجة الوداع. لكن ینبغي تحري الدقة في النص الذي یحدد مكان الحدث، والدقة في الخریطة. وكنا اخترنا مجموعة خرائط لهذا الكتاب، لكن منع مانع من نشرها!

 

«تم المجلد الثاني وبه تمت السيرة النبوية عند أهل البیت (علیهم السلام)

والحمدلله رب العالمین»

ص: 712

فهرس الموضوعات

الفصل الأربعون/سورة الأنفال سورة بدر 5

الأنفال فضحت كثيرًا من الصحابة البدريين! ...................................................................... 5

إختلافهم على الغنائم............................................................................................... 5

المؤمنون حقاً لا يختلفون على غنائم! ................................................................................ 6

صحابة يجادلون نبيهم وكأنهم يساقون إلى الموت!................................................................... 6

الإمداد الإلهي للمسلمين في بدر ..................................................................................... 6

الفرار إلى الصفوف الخلفية كالفرار من المعركة ....................................................................... 7

قاتلَ النبي (صلی الله علیه و آله) ورمى المشركين بكف حصى .......................................................................... 7

أمر الله المسلمين بطاعة الرسول (صلی الله علیه و آله) وذكرهم بنعمه عليهم ........................................................... 8

وحذرهم من خيانة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وخيانة أنفسهم .................................................................. 8

وذكَّر قريشاً بتآمرهم على الرسول (صلی الله علیه و آله) وعملهم لقتله ................................................................. 9

وذكَّر قريشاً بتآمرهم ضد الإسلام وهددهم ........................................................................... 9

وشرَّع الله فريضة الخمس لبني هاشم لأنهم أسسوا الأمة والدولة .................................................... 10

وأمر المسلمين بالثبات في الحرب وأن لا يبطروا كالمشركين .......................................................... 10

وحذرهم من المنافقين ومرضى القلوب في داخلهم .................................................................. 11

وحذرهم من عاقبة أعداء الرسل (علیهم السلام) ............................................................................. 11

ونبه المسلمين إلى شرالدواب الخائنين .............................................................................. 11

وعََّلم المسلمين قواعد التعامل مع أعدائهم ........................................................................ 12

وَّبخ الذين سارعوا إلى أسر القرشيين قبل أن يثخنوا فيهم .......................................................... 13

وأعلن الله وحدة الأمة من المهاجرين والأنصار ..................................................................... 14

كثرة مكذوبات السلطة عن بدر!................................................................................... 15

ص: 713

الصحابة الأبرار الذين اسشتهدوا في بدر............................................................................ 16

سورة الروم بشرت بالنصر في معركة بدر............................................................................. 16

بدأ تدهور الأمبراطورية الفارسية من أيام بدر!...................................................................... 17

الفصل الحادي والأربعون / «الخلافة الإسلامية » تثأر من بني هاشم لقتلى بدر! 19

1- تعصب قريش القبلي أشد من تعصب اليهود القومي ............................................................ 19

2- تأسست الخلافة القرشية على الثأر من بني هاشم!............................................................... 20

3- ودون الرواة صفحات طويلة في حزن قريش على قتلى بدر...................................................... 23

4- الشيخان يشربان الخمر وينوحان على قتلى بدر!................................................................. 25

5- دين قريش القبول بالتناقض! ................................................................................. 29

الفصل الثاني والأربعون/النبی (صلی الله علیه و آله) والعرب من غزوة بدر إلى أحد 33

1- ثلاث غزوات وعدة سرايا في سنة واحدة!....................................................................... 33

2- غزوة بني سَُلي.................................................................................................. 33

3- غزوة ذات السويق............................................................................................. 34

4- غزوة ذي أمر ................................................................................................... 35

5- سرية حارثة بن زيد لاعتراض قافلة قريش...................................................................... 36

6- محاولة قريش قتل النبي (صلی الله علیه و آله) ثأرًا ببدر........................................................................... 37

الفصل الثالث والأربعون/النبی (صلی الله علیه و آله) واليهود من غزوة بدرالى أحد 39

1- حاخامات اليهود في زمن النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................................ 39

2- كعب بن الأشرف رئيس بني النضير.............................................................................. 42

3- غزوة النبي (صلی الله علیه و آله) ليهود بني قينقاع بضاحية المدينة............................................................... 45

4- سارع بنو قينقاع بعد بدر إلى نقض عهدهم..................................................................... 48

5- رئيس بني قينقاع خير بني يهود .................................................................................. 50

6- غزوة بني النضير ................................................................................................ 51

7- حاصر النبي (صلی الله علیه و آله) بني النضير وانتصرعليهم بعلي (علیه السلام) ............................................................. 52

8- غرور بني النضير عند جلائهم!................................................................................. 53

9- بداية حشر اليهود بإجلاء بني النضير............................................................................ 53

المسألة الأولى: معنى حشر اليهود وهو موضوع السورة:.............................................................. 55

المسألة الثانية: هل قطع النبي (صلی الله علیه و آله) نخل بني النضير أو أحرقه؟ ...................................................... 56

المسألة الثالثة: لماذا جع لا للهأرض بني النضير ملكاً خاصاً للنبي (صلی الله علیه و آله) ؟.............................................. 57

تحقيق هذه الأهداف: ................................................................................................ 60

من أين يأ كلون بحق السماء؟! ....................................................................................... 60

المسألة الرابعة: مسجد الفضيخ وتحريم الخمر ....................................................................... 61

ص: 714

الفصل الرابع والأربعون/تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة 62

1- مكة قبل بيت المقدس قبلة آدم ونوح و إبراهيم (علیهم السلام) ........................................................... 62

2- الكعبة والأمة الوسط .......................................................................................... 63

3- ترك بنو أمية الكعبة وحججوا الناس إلى بيت المقدس!......................................................... 65

الفصل الخامس والأربعون/زواج النبی (صلی الله علیه و آله) بعائشة وحفصة 66

زوجات الأنبياء (علیهم السلام) فيهم الصالحات والطالحات................................................................. 66

عائلتا عائشة وحفصة............................................................................................ 67

مبالغة عائشة في فضائل أبيها وثروته ............................................................................. 68

كم كان عمر عائشة لما تزوجها النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................................... 72

ادعت عائشة أنها لم تتزوج قبل النبي (صلی الله علیه و آله) ......................................................................... 73

عائشة أكثر نساء النبي (صلی الله علیه و آله) كلاماً................................................................................. 74

حَ تَمكَْ عائشة في دولة أبيها! ..................................................................................... 75

قطع عثمان مخصصاتهما فثارتا عليه ............................................................................. 75

زعمت أن النبي (صلی الله علیه و آله) جعل الخلافة لأبيها وأولاده!.................................................................... 77

واشتهرت عائشة بجرأتها على النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................................... 77

وكانت معجبة بطلحة التيمي وابنه موسى......................................................................... 78

أدارت عائشة معركة الجمل سبعة أيام............................................................................. 79

قتل معاوية أخويها وسَكَّ اَهت....................................................................................... 79

نقاط عن حفصة زوجة النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................................. 80

اعترف محبوها أنها كانت تؤذي النبي (صلی الله علیه و آله) .......................................................................... 82

نزلت فيها وفي عائشة آية النهي عن السخرية..................................................................... 84

كانت حفصة عنيفة فقتلت امرأتين!.............................................................................. 85

كانت حفصة وعائشة حليفتين ................................................................................... 85

تهديد الله تعالى لعائشة وحفصة! ................................................................................. 86

أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث ر ضي الله عنها..................................................................... 87

أم المؤمنين ميمونة من أهل الجنة.................................................................................. 88

الفصل السادس والأربعون/غزوة أح د 91

1- استعداد قريش لحرب أحُد ....................................................................................... 91

2- رؤيا النبي (صلی الله علیه و آله) واستعداده للدفاع ............................................................................... 93

3- النبي (صلی الله علیه و آله) يختار مكان معسكره ................................................................................ 94

4- انتصار المسلمين الكاسح في الجولة الأولى...................................................................... 95

5- هزيمة المسلمين بعد انتصارهم! ................................................................................ 98

ص: 715

6- ثبت مع النبي (صلی الله علیه و آله) أول الأمر بضعة أشخاص ................................................................... 100

7- بقي النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) وحدهما ............................................................................... 102

أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى!..................................................................................... 103

8- نزل جبرئيل (علیه السلام) وبقي مع النبي (صلی الله علیه و آله) حتى انسحب المشركون...................................................... 104

9- ركز المشركون على قتل النبي (صلی الله علیه و آله) في أحُد فأصابته جراحات ..................................................... 104

10- أشد الأيام على النبي (صلی الله علیه و آله) ..................................................................................... 107

11- أصعب اللحظات في حياة علي (علیه السلام) .......................................................................... 108

12- قميص النبي (صلی الله علیه و آله) الذي أصيب به في أحد ..................................................................... 108

13- لماذا انسحبت قريش ولم تهاجم المدينة؟!..................................................................... 109

14- علي (علیه السلام) بطل أحُد وصاحب انتصاراتها....................................................................... 110

15- حب علي (علیه السلام) فريضة لا رخصة فيها.......................................................................... 112

16- جاءت فاطمة الزهراء (علیها السلام) منقضة كالصقر إلى قلب المعركة!................................................. 113

17- الصحابة الهاربون على جبل أحد ............................................................................ 114

18- نادى النبي (صلی الله علیه و آله) الفارين بأسمائهم ............................................................................. 115

19- ولحقهم علي (علیه السلام) في أول فرارهم ووبخهم! ...................................................................... 115

20- بعض الصحابة الهاربين كفروا وشبعوا كفرًا! ................................................................. 116

21- قالوا كل التقصير من النبي (صلی الله علیه و آله)!............................................................................. 117

22- شهادة حمزة عم النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................................... 117

23- شهادة الحاخام مخيريق أفضل بني إسرائيل................................................................... 120

24- جهاد أبي دجانة الأنصاري (رحمة الله) ................................................................................ 120

25- جهاد نسيبة أم عمارة بنت کعب المازنية .................................................................... 122

26- دخل الجنة ولم يصلِّ ركعة.................................................................................... 124

27- شهادة حنظلة غسيل الملائكة (رحمة الله) .......................................................................... 124

28- جهاد رشَيْد الهَجَري في أحُد ................................................................................ 125

29- أبو عزة الذي أراد اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله) .......................................................................... 125

30- النبي (صلی الله علیه و آله) ُيشفي عين قتادة من أجل عروسه.................................................................. 126

31- عندما اضطرب المسلمون قتلوا والد حذيفة خطأ!........................................................... 126

32- لعن النبي (صلی الله علیه و آله) أبا سفيان يوم أحُد ........................................................................... 126

33- لماذا قرر المشركون أن يبقوا عمر بن الخطاب ولا يقتلوه؟...................................................... 127

34- فداءً لك يا رسول الله!....................................................................................... 127

35- بركة النبي (صلی الله علیه و آله) على تمر جابر الأنصاري........................................................................ 128

36- قزمان مثلٌ لسيئ التوفيق................................................................................... 128

37- عثمان يؤوي عمه المشرك القاتل!........................................................................... 129

ص: 716

38- أسماء شهداء أحُد وقتلى المشركين فيها...................................................................... 131

الفصل السابع والأربعون/آيات معركة أحد كشفت أكثرية الصحابة! 134

ستون آية في معركة أحد .......................................................................................... 134

أهم موضوعات آيات أحد........................................................................................ 138

حقائق مهمة في آيات أحُد ....................................................................................... 142

الفصل الثامن والأربعون/مختارات من شعر أح د 147

أكثرَ القرشيون والمسلمون من الشعر في أحد....................................................................... 147

الفصل التاسع والأربعون/غزوة حمراء الأسد خاصة بجرحى أُحد! 159

التدخل الإلهي في انسحاب قريش ............................................................................... 159

غزوة حمراء الأسد خاصة بالمجروحين في أحُد...................................................................... 159

الفصل الخمسون/أهم الأحداث بين غزوة أحد وغزوة الأحزاب 162

1- سرية جبل قطَن.............................................................................................. 162

2- سرية يوم الرجيع............................................................................................. 163

3- سرية بئر معونة............................................................................................... 164

4- غزوة بدر الموعد .............................................................................................. 165

5- غزوة دومة الجندل............................................................................................ 168

6- غزوة ذات الرقاع............................................................................................. 168

الفصل الحادي والخمسون/غزوة الأحزاب أو الخند ق 172

1- تحالف أحزاب العرب واليهود ضد النبي (صلی الله علیه و آله) .................................................................. 172

2- كانت قريش تجمع الأحزاب والنبي (صلی الله علیه و آله) يحفر الخندق........................................................... 174

3- خَّط النبي (صلی الله علیه و آله) مكان الخندق وقسَّم العمل فيه ............................................................... 175

4- محاصرة الأحزاب للمدينة..................................................................................... 176

5- فرَّ أكثر المسلمين في حرب الخندق!........................................................................... 182

6- مرضى القلوب يتآمرون على النبي (صلی الله علیه و آله) مع الأحزاب............................................................ 185

7- يقين النبي (صلی الله علیه و آله) بالنصر في غزوة الأحزاب وغيرها ............................................................... 187

8- من معجزات النبي (صلی الله علیه و آله) في غزوة الأحزاب ...................................................................... 187

9- جهاد علي (علیه السلام) في غزوة الأحزاب............................................................................... 189

10- شهادة سعد بن معاذ بسهم من المشركين...................................................................... 190

11- عبور فرسان الأحزاب من ثغرة في الخندق ..................................................................... 191

12- علي (علیه السلام) يصف غزوة الأحزاب ومبارزته لعمرو................................................................ 194

13- حذيفة (رحمة الله) يصف مبارزة علي (علیه السلام) لعمرو بن ود................................................................ 195

ص: 717

14- رواية تفسير القمي لمبارزة علي لعمرو ........................................................................ 197

15- أخ عمرو بن ود يواجه علياً (علیه السلام) في مكة!..................................................................... 199

16- شبَّه الإمام الصادق (علیه السلام) يوم الأحزاب بيوم القيامة!.......................................................... 199

17- ضربة علي (علیه السلام) غيَّرت ميزان القوى!.......................................................................... 200

18- رسالة أبي سفيان قبل هروبه بجيش الأحزاب!................................................................. 201

19- إشادات النبي (صلی الله علیه و آله) بعلي (علیه السلام) يوم الأحزاب...................................................................... 201

20- معنى قول النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): و إنك لذو قرنيها.............................................................. 202

21- النبي (صلی الله علیه و آله) يكشف علاقة عمر بقادة الأحزاب.................................................................. 203

22- طعنوا بالنبي (صلی الله علیه و آله) بأنه فاتته أربع صلوات!................................................................... 206

23- من شعر الأحزاب ومبارزة علي (علیه السلام) لابن ود ................................................................... 207

ثمان مسائل من قتل عمرو بن عبدود ............................................................................. 210

الفصل الثاني والخمسون/غزوة بني قريظة 217

1- بنو قريظة آخر من أجلاهم النبي (صلی الله علیه و آله) من يهود المدينة........................................................... 217

2- بعث النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) أمامه فحاصر بني قريظة............................................................. 217

3- بطولة علي (علیه السلام) في قريظة، ونزول جبرئیل بإمره المؤمنین له .................................................... 219

4- قبول قريظة بالنزول على حكم حليفهم سعد بن معاذ........................................................ 220

5- المسلمون الأربعة من بني قريظة............................................................................... 222

6- أبو لبابة يخون النبي (صلی الله علیه و آله) ثم يتوب.............................................................................. 223

7- قصة أبي لبابة دليل على أفضلية التوسل .................................................................... 225

8- حاول اليهود أن يجعلوا من قتلى قريظة ظلامة يهودية ........................................................ 226

9- دراسة عمر عند بني قريظة وعلاقته الوطيدة معهم ........................................................... 226

الفصل الثالث والخمسون/غزوة بني المصطلق أو اُلمريسيع 230

1- خلاصة الغزوة................................................................................................. 230

2- علي (علیه السلام) صاحب الراية في المريسيع وبطل الفتح................................................................ 232

3- أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) لقتال الجن.......................................................................... 233

4- زواج النبي (صلی الله علیه و آله) من جويرية بنت الحارث ...................................................................... 234

5- تنظيم الخمس لبني هاشم، والصدقات والفئ للمسلمين....................................................... 235

6- ابن سلول وسورة المنافقين!.................................................................................. 236

7- هبت ريح عند موت يهودي.................................................................................. 239

8- ضاعت ناقة النبي (صلی الله علیه و آله) فأرجف المنافقون...................................................................... 239

9- شبَّه النبي (صلی الله علیه و آله) علياً بعيسى بن مريم (علیهما السلام) ...................................................................... 240

10- الوليد بن عقبة الفاسق بشهادة القرآن! ...................................................................... 241

ص: 718

11- أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) خالدًا فأفسد، فأرسل علياً (علیه السلام) فأصلح....................................................... 241

12- كان بنو المصطلق يماطلون في دفع زكاتهم!.................................................................... 242

13- قصة تأخر عائشة عن النبي (صلی الله علیه و آله) في غزوة بني المصطلق....................................................... 243

14- نزلت آية البراءة في مارية فجعلتها عائشة لها!............................................................... 245

الفصل الرابع والخمسون/من غزوة بني المصطلق إلى عمرة الحديبية 247

1- ثلاث غزوات، وأكثر من عشر سرايا، وعدد من الأحداث!...................................................... 247

2- تشجيع النبي (صلی الله علیه و آله) سباق الخيل والإبل.......................................................................... 248

3- لم تقع في المدينة زلزلة في عهد النبي (صلی الله علیه و آله) ...................................................................... 248

4- قصة زواج النبي (صلی الله علیه و آله) من زينب بنت حجش................................................................... 249

5- تشديد الحجاب على نساء النبي (صلی الله علیه و آله) ......................................................................... 253

6- غزوة بني يِْحلان............................................................................................... 257

7- غزوة الغابة أو ذي قِرَد........................................................................................ 259

8- سرية علي (علیه السلام) لملاحقة اللصوص العرنيين.................................................................... 260

9- اتهام عائشة للنبي (صلی الله علیه و آله) بأنه قسي القلب ...................................................................... 261

10- ثمامة سيد اليمامة هدية من الله إلى رسوله (صلی الله علیه و آله) ............................................................... 261

11- السنوات العجاف على قريش .............................................................................. 263

12- أبعد أبو بكر ثمامة فاضطهده مسيلمة! ...................................................................... 264

الفصل الخامس والخمسون/غزوة الحديبية والهدنة بين النبي و قريش 265

1- هدف الحديبية فرض الأمر الواقع على قريش.................................................................. 265

2- توجه النبي (صلی الله علیه و آله) بالمسلمين إلى العمرة.......................................................................... 265

3- استنفرت قريش وبعثت طليعةً لصد النبي (صلی الله علیه و آله) .............................................................. 267

4- عسكرت قريش في بْلدَح وعسكر النبي (صلی الله علیه و آله) في الحديبية...................................................... 268

5- هدايا خزاعة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) .................................................................................... 270

6- ابتلى الله المسلمين بالصيد وهم محرمون ...................................................................... 270

7- أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) خراش بن أمية الخزاعي إلى قريش............................................................ 270

8- حاول مسلمون الذهاب إلى مكة فأسرهم المشركون........................................................... 270

9- أمر النبي (صلی الله علیه و آله) عمر بالذهاب فخاف فأرسل عثمان............................................................. 271

10- مبعوثو قريش إلى النبي (صلی الله علیه و آله) .................................................................................. 272

11- بيعة الرضوان بحضور مفاوض قريش....................................................................... 273

12- الإشتباكات مع قريش ودور علي (علیه السلام) فيها................................................................... 274

13- بنود معاهدة الحديبية....................................................................................... 280

14- غضبَ عمر وانشق على النبي (صلی الله علیه و آله)!.......................................................................... 281

ص: 719

15- بقي عمر غاضباً ولم يبايع بيعة الرضوان...................................................................... 284

16- عقدة عمر من شجرة بيعة الرضوان!......................................................................... 285

17- رؤيا النبي (صلی الله علیه و آله) كانت في الحديبية وليس في المدينة .......................................................... 286

18- أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بالإحلال من الإحرام ونحر الضحايا ............................................................ 287

19- نزلت سورة الفتح في عودة النبي (صلی الله علیه و آله) من الحديبية............................................................ 288

20- أهم موضوعات سورة الفتح.................................................................................. 289

21- الصحابة في سورة الفتح وبيعة الرضوان...................................................................... 291

22- ما جرى لأبي جندل وأبي بصير والمستضعفين بمكة........................................................... 292

23- النتائج الكبرى لمعاهدة الحديبية........................................................................... 295

24- لم تشارك قبائل العرب في غزوة الحديبية..................................................................... 296

الفصل السادس والخمسون/بعد الحديبية راسل النبی (صلی الله علیه و آله) ملوك العالم 297

الفصل السابع والخمسون/بعد الحديبية افتروا على النبی (صلی الله علیه و آله) أنه سحر 300

قصة افترائهم أن النبي (صلی الله علیه و آله) مسحور ............................................................................... 300

رد علمائنا لهذه الفرية............................................................................................ 304

رد بعض علماء السنيين لهذه الفرية.............................................................................. 306

الفصل الثامن والخمسون/غزوة خيبر 308

1- محافظة خيبر.................................................................................................. 308

2- بعد عودته من الحديبية بعشرين يوماً توجه (صلی الله علیه و آله) إلى خيبر ..................................................... 309

3- سبب حرب النبي (صلی الله علیه و آله) يهودَ خيبر .............................................................................. 310

4- وصول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى خيبر ..................................................................................... 311

5- نداء النبي (صلی الله علیه و آله) بالأمان لأهل خيبر.............................................................................. 313

6- فتح علي (علیه السلام) كل حصون خيبر؟............................................................................... 313

7- طريقة القتال في فتح النبي (صلی الله علیه و آله) حصون خيبر.................................................................. 315

8- طالت محاصرة حصن خيبر وظهرت هزيمة المسلمين!......................................................... 318

9- مَرِضَ علي (علیه السلام) بالرَّمَد والنبي (صلی الله علیه و آله) بالصداع!................................................................... 320

10- غَضِبَ النبي (صلی الله علیه و آله) من فرار الصحابة وبشرهم بالفتح غدًا!..................................................... 321

11- قال النبي (صلی الله علیه و آله) لأصحابه الفارين: أميطوا عني!................................................................ 322

12- أعطى النبي (صلی الله علیه و آله) الراية لعلي (علیه السلام) ودعا له..................................................................... 323

13- وصل علي (علیه السلام) إلى الحصن قبل الجيش! ..................................................................... 325

14- اليهود يعرفون أن نهايتهم على يد حيدرة..................................................................... 325

15- عَبَر الخندق وقصد مرحباً وفرسانه!......................................................................... 326

16- بعد قتله مرحباً هاجم الحصن وقلع بابه!................................................................... 327

ص: 720

17- الباب الذي تترس به (علیه السلام) غير الباب الذي قلعه............................................................ 330

18- وكان أميرالمؤمنين (علیه السلام) قلع باب حصن ناعم أيضاً!........................................................... 331

19- وتلقاه النبي (صلی الله علیه و آله) وبشره بنزول الوحي فيه!................................................................... 332

20- ثم فتح النبي (صلی الله علیه و آله) حصني السلالم والوطيح.................................................................... 333

21- أوسمة النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) في خيبر............................................................................ 333

22- أّفٍ وُتّف لمن ينكر فضائل علي (علیه السلام)! ....................................................................... 335

23- قريش تفرح لساعات بخبر انتصار اليهود على النبي (صلی الله علیه و آله) .................................................... 336

24- كنوز آل أبي الحقيق......................................................................................... 337

25- زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بصفية بنت حُی بن أخطب ................................................................ 338

26- ما أدري بأيها أنا أسَرّ: بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟........................................................... 338

27- أسلم أبو موسى الأشعري أيام فتح خيبر..................................................................... 339

28- أسلم أبوهريرة أيام فتح خيبر ................................................................................ 340

الفصل التاسع والخمسون/من غزوة خيبر إلى غزوة مؤتة 345

1- فدك خالصةً للنبي (صلی الله علیه و آله) ....................................................................................... 345

2- فدك رمزٌ لظلامة الإمامة...................................................................................... 345

3- غيروا إسم فدك وسموها «الحائط!» ......................................................................... 347

4- فتح النبي (صلی الله علیه و آله) وادي القرى.................................................................................... 349

5- رواية أن النبي (صلی الله علیه و آله) نام عن صلاة الصبح ...................................................................... 350

6- نظر إلى أحُد وقال: هذا جبل يحبنا ............................................................................ 351

7- قضى الله بزوال دولة فارس فقَتَلَ ابنُ كسرى أباه!............................................................. 351

8- هدايا المقوقس ملك مصر إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ....................................................................... 354

9- وفاة النجاشي وصلاة النبي (صلی الله علیه و آله) عليه......................................................................... 356

10- سرايا قبل سفر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى عمرة القضاء ................................................................... 357

11- هل شققت عن قلبه يا أسامة؟ ............................................................................. 358

12- عيينة بن حصن يواصل الغارة على المسلمين................................................................ 359

النبي (صلی الله علیه و آله) يتوجه إلى عمرة القضاء................................................................................. 360

زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بميمونة بنت الحارث.............................................................................. 362

إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص!........................................................................ 363

الفصل الستون/غزوة مؤتة وما بعدها إلى فتح مكة 364

1- موقع مؤتة والكرك والمزار ..................................................................................... 364

2- انحسر خطر الفُرس عن النبي (صلی الله علیه و آله) وتعاظم خطر الروم.......................................................... 365

3- غزوة مؤتة رسالة من النبي (صلی الله علیه و آله) إلى هرقل..................................................................... 367

ص: 721

4- جعفر بن أبي طالب (علیه السلام) قائد جيش مؤتة ..................................................................... 368

5- وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لجيش مؤتة................................................................................. 369

6- واجهتهم سرية رومية في وادي القرى......................................................................... 370

7- ثم فاجأهم الروم فانحازوا إلى مؤتة ............................................................................ 371

8- سبب تحريف السلطة معركة مؤتة............................................................................ 371

9- القتال سبعة أيام في مؤتة كذبة من أجل خالد!.............................................................. 373

10- وصَف النبي (صلی الله علیه و آله) المعركة للمسلمين وصفاً حياً............................................................... 374

11- توبيخ المسلمين لخالد وجيش مؤتة ......................................................................... 376

12- رغم الهز يمة وصلت رسالة النبي (صلی الله علیه و آله) إلى هرقل! .............................................................. 377

13 . من مناقب جعفربن أبي طالب (علیه السلام) ......................................................................... 379

14 . حول جناحي جعفر الطيار (علیه السلام) .............................................................................. 384

15 .حنين الجذع الذي كان يتكئ عليه النبي (صلی الله علیه و آله) ويخطب....................................................... 387

الفصل الحادي والستون/غزوة ذات السلاسل التي حذفوها من السيرة! 389

1- غزوة ذات السلاسل برواية أهل البيت (علیهم السلام) .................................................................. 389

2- ملاحظات على تحريفهم ذات السلاسل....................................................................... 394

الفصل الثاني والستون/غزوة فتح مكة 398

1- قريش تنقض معاهدة الحديبية.............................................................................. 398

2- خزاعة تطالب النبي (صلی الله علیه و آله) بنصرتها وفاءً بحلفهم ................................................................. 401

3- أحست قريش بجر يمتها فحاولت أن تسترضي النبي (صلی الله علیه و آله) ....................................................... 403

4- النبي (صلی الله علیه و آله) يتجهز لغزو مكة ويخفي مقصده..................................................................... 404

5- الَوحْيُ يكشف خيانة بعض الصحابة........................................................................ 405

6- جاءت القبائل إلى المدينة وتحرك النبي (صلی الله علیه و آله) إلى مكة........................................................... 408

7- فاجأ النبي (صلی الله علیه و آله) قريشاً وعسكر قرب مكة...................................................................... 409

8- أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) الأمان إلى أهل مكة مع أبي سفيان ............................................................ 413

9- نصب النبي (صلی الله علیه و آله) خيمته عند قبر خديجة (علیها السلام)!................................................................. 413

10- قريش تسترحم النبي (صلی الله علیه و آله) بشعر ضرار بن الخطاب ............................................................ 414

11- طاف النبي (صلی الله علیه و آله) بالبيت وحَطَّم الأصنام....................................................................... 416

12- جبرئيل يفضح زعماء قريش................................................................................. 417

13- خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) في فتح مكة و إعلانه العفو عن الطلقاء..................................................... 419

14- الذين هدر النبي (صلی الله علیه و آله) دمهم.................................................................................. 420

15- علي (علیه السلام) ينفذ أمر النبي (صلی الله علیه و آله) فتعترضه أخته أم هاني!.......................................................... 426

16- النبي (صلی الله علیه و آله) ينصب حاكماً لمكة ............................................................................... 428

ص: 722

17- بعث النبي (صلی الله علیه و آله) سرايا إلى المناطق القريبة من مكة ........................................................... 428

18- بعث خالد بن الوليد في سرية فغدر بهم ..................................................................... 429

قتل خالد عاشقاً غريباً ولم يرحمه................................................................................. 431

19- قريش تعزل أبا سفيان وتنصب بدله سهيل بن عمرو ........................................................ 431

الفصل الثالث والستون/غزوة حنين والطائف 436

1- أسباب غزوة فتح مكة وغزوة حنين والطائف................................................................ 436

2- أخذ النبي (صلی الله علیه و آله) قريشاً معه إلى حرب هوازن.................................................................... 437

3- دريد بن الصمة ينصح هوازن فلا يقبلون! ................................................................... 438

4- أدلة تآمر طلقاء قريش مع هوازن على النبي (صلی الله علیه و آله) .............................................................. 439

5- فرَّ الجميع وثبت النبي (صلی الله علیه و آله) وبنو هاشم فقط!................................................................... 442

6- نزلت الملائكة والسكينة على الثابتين خاصة!............................................................... 444

7- قاتلَ علي (علیه السلام) وحده ونزلت الملائكة! ........................................................................ 444

رجع المنهزمون فرأوا الأسرى حول النبي (صلی الله علیه و آله) ....................................................................... 447

8- هز يمة هوازن وغنائم المسلمين منها........................................................................... 448

غنائم هوازن الوافرة .............................................................................................. 448

9- النبي (صلی الله علیه و آله) يحاصر قبيلة ثقيف في الطائف...................................................................... 449

10- النبي (صلی الله علیه و آله) يفك الحصار عن الطائف .......................................................................... 451

11- سياسة الإسلام العجيبة مع قريش وثقيف................................................................... 454

12- النبي (صلی الله علیه و آله) في الجعرانة يقسم الغنائم و رُحيم للعمرة.............................................................. 456

13- وفد هوازن والشيماء حاضنة النبي (صلی الله علیه و آله) ...................................................................... 458

14- مالك بن عوف مسلماً!..................................................................................... 459

15- الأنصار يسقطون في امتحان المال........................................................................... 460

16- ولادة الخوارج في الجعرانة..................................................................................... 462

17- اعتمر النبي (صلی الله علیه و آله) من الجعرانة، ثم رجع إلى المدينة............................................................. 463

الفصل الرابع والستون/استكمال فتح اليمن بعد حنين 464

1- ضعف الحكام الفرس في اليمن ............................................................................... 464

2- ضعف سلطة باذان وتفكك اليمن............................................................................ 465

3- فتح علي (علیه السلام) لليمن ......................................................................................... 466

4- أهدى علي (علیه السلام) إلى النبي (صلی الله علیه و آله) أفراساً من اليمن................................................................. 472

5- وأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) قاضياً إلى اليمن.................................................................... 472

6- ثم أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) إلى اليمن ليصلح بينهم .................................................................. 473

7- ثم أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) إلى اليمن عندما ارتد ابن معديكرب...................................................... 473

ص: 723

8- الأسود العنسي يدعي النبوة في اليمن ........................................................................ 476

الفصل الخامس والستون/أزواج النبی (صلی الله علیه و آله) یشاركن ف یالصراع على الخلافة 478

1- نشاط زعماء قريش بعد هز يمتهم............................................................................ 478

2- كانت ولادة ابراهيم بن النبي (صلی الله علیه و آله) كارثة على قريش! ............................................................ 481

3- سورة التحريم كشفت الحزب القرشي في بيت النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................ 482

4- اتهامهم مارية وتبرئة الله لها................................................................................... 484

5- إبراهيم بن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ..................................................................................... 488

6- ساءت علاقة النبي (صلی الله علیه و آله) بزوجاته فهجرهن!................................................................... 491

7- ملاحظات حول سورة التحريم وهجر النبي (صلی الله علیه و آله) لأزواجه........................................................ 491

الفصل السادس والستون/أحداث قبل غزوة تبوك 494

1- توبة كعب بن زهير ومدحه للنبي (صلی الله علیه و آله) .......................................................................... 494

2- انضمام البحرين وعُمَان إلى دولة النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................... 495

3- سرية علي (علیه السلام) لمنع تحويل طیئ إلى قاعدة للروم .............................................................. 496

الفصل السابع والستون/غزوة تبوك لمواجهة الروم 499

1- ملك دومة الجندل أكيدر بن عبد الملك ....................................................................... 499

2- غزوة النبي (صلی الله علیه و آله) لدومة الجندل في السنة الخامسة............................................................... 500

3- الوضع السياسي للروم عند غزوة تبوك......................................................................... 501

4- النبي (صلی الله علیه و آله) يعمل لنقل المعركة إلى الشام وحصرها بالروم........................................................ 503

5- تبوك والثأر لجعفر بن أبي طالب (رحمة الله) ............................................................................ 504

6- هرقل يحرك المنافقين والأ كيدر لحرب النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................... 505

7- أكبر جيش في تاريخ الجزيرة .................................................................................. 506

8- أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) المسلمين بمدة الغزوة ونتيجتها ................................................................. 507

9- عَسْكرَ النبي (صلی الله علیه و آله) في ثنية الوداع ............................................................................... 512

10- استخلف علياً (علیه السلام) وودعه وناجاه ............................................................................ 513

11- أبوذر تأخر به بعيره........................................................................................... 516

12- في ذهابه (صلی الله علیه و آله) إلى تبوك أسَرَ الأ كيدر وأطلقه................................................................... 520

13- راسل النبي (صلی الله علیه و آله) هرقل من تبوك............................................................................... 521

14- انتقم هرقل من يوحنا فقتله ولم ينتقم من الأ كيدر!........................................................... 523

15- مؤامرة الصحابة العدول لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) في عودته من تبوك! ................................................. 524

16- في تلك الفترة حاول المنافقون قتل علي (علیه السلام) في المدينة! ...................................................... 530

17- نهاهم النبي (صلی الله علیه و آله) عن الشرب قبله، فعصْوُه فلعنهم .......................................................... 533

18- نزول سورة التوبة في طريق العودة من تبوك.................................................................. 535

ص: 724

19- عودة النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة .................................................................................. 537

20- المتخلفون الثلاثة الذين تاب الله عليهم .................................................................... 539

21- النبي (صلی الله علیه و آله) يرد على حُسَّاد علي (علیه السلام) في طريق تبوك ............................................................ 540

22- متفرقات من تبوك .......................................................................................... 542

23- تذكير ببعض مكذوبات الحكومات عن تبوك............................................................... 545

24- بعد تبوك مات ابن سلول كبير المنافقين المدنيين ............................................................ 545

25- وفد ثقيف بعد تبوك......................................................................................... 546

26- خضوع العرب للنبي (صلی الله علیه و آله) بعد فتح مكة وتبوك ............................................................... 548

27- بعث النبي (صلی الله علیه و آله) أبابكر بسورة براءة ثم سحبها منه............................................................. 550

الفصل الثامن والستون/السنة التاسعة للهجرة: عام الوفو د 554

1- وفادة قبائل العرب الی رسول الله (صلی الله علیه و آله) .......................................................................... 554

2- ملاحظات حول الوفود الی النبی (صلی الله علیه و آله) .......................................................................... 556

3- عدي بن حاتم الطائي........................................................................................ 557

4- وفد عبد القیس من هَجَر...................................................................................... 559

5- الجارود بن المنذر من عبد القیس.............................................................................. 560

6- أشهر وفود الیمن.............................................................................................. 564

7- السائب الأشعري جد الأشعر ینی القم ینی.................................................................... 566

8- الرجل الیماني المجادل السخي.............................................................................. 566

9- عمرو بن معدي كرب الفارس المشهور....................................................................... 566

10- وفد قبیلة النخع الی النبي (صلی الله علیه و آله) .............................................................................. 567

11- كان النبي (صلی الله علیه و آله) یهدد من یخاف عصیانهم بعلي (علیه السلام) .......................................................... 568

12- مالك بن نویرة (رحمة الله) من وفود بنی تمیم........................................................................... 569

13- صعصعة بن ناجیة جد الفرزدق............................................................................. 570

14- النابغة الجعدي الشاعر المتأله ............................................................................... 571

15- من الوفود المكذوبة وفد تمیم الداري.......................................................................... 572

16- من الوفود المكذوبة وفد أبي رزین............................................................................ 574

الفصل التاسع والستون/مباهلة النبی (صلی الله علیه و آله) مع نصاری نجران 575

1- نجران العاصمة الدینیة للمسیحیة فی الجزیرة.................................................................. 575

2- رسالة النبی (صلی الله علیه و آله) الی أسقف نجران وأهلها ...................................................................... 576

3- أمهل النبي (صلی الله علیه و آله) وفدهم ثلاثاً ثم ناظرهم....................................................................... 577

4- كتاب الصلح مع أهل نجران ................................................................................... 582

5- سمع الیهود بمجیئ وفد النصاری فحضروا معهم................................................................ 582

ص: 725

6- مستحبات یوم المباهلة....................................................................................... 584

7- مسائل في المباهلة ............................................................................................ 585

الفصل السبعون/حجة الوداع 591

1- أجواء حجة الوداع ............................................................................................ 591

2- صفة حج النبی (صلی الله علیه و آله) عند أهل البیت (علیهم السلام) ..................................................................... 593

3- خطب النبي (صلی الله علیه و آله) في حجة الوداع.............................................................................. 597

1- خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) في عرفات...................................................................................... 597

2- من خطب النبي (صلی الله علیه و آله) في منی: .................................................................................. 599

3- ومن مصادر السنیین........................................................................................... 602

4- بشارة النبي (صلی الله علیه و آله) في حجة الوداع بالأئمة الإثني عشر بعده ....................................................... 604

5- تحذیر النبي (صلی الله علیه و آله) لقریش والصحابة أن یطغوا بعده............................................................. 607

6- عقوبة المخالفین لوصیة النبي (صلی الله علیه و آله) في عترته (علیهم السلام) ............................................................. 610

7- قریش تكتب معاهدة لأخذ خلافة النبي (صلی الله علیه و آله) من بني هاشم ................................................... 611

8 - نتیجة حجة الوداع عند قریش وعند النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................... 614

الفصل الحادي والسبعون/بیعة علي 7 یوم الغدیر 616

1- حدیث الغدیر في بیعة علي (علیه السلام) صحیح متواتر عندهم ......................................................... 616

2- جبرئیل ینزل بآیة التبلیغ ویوقف قافلة النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................. 618

3- خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) یوم الغدیر................................................................................... 620

4- أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بنصب خیمة لعلي (علیه السلام) وتهنئته ومبایعته......................................................... 624

5- حجر من سجیل للمعترضین من قریش!..................................................................... 626

6- نزلت ثلاث آیات في بیعة الغدیر............................................................................. 627

7- محاولة قریش اغتیال النبي (صلی الله علیه و آله) بعد یوم الغدیر! ............................................................. 628

الفصل الثاني والسبعون/جیش أسامة وهدف النبی (صلی الله علیه و آله) منه 630

1- عاش النبي (صلی الله علیه و آله) سبعین یوماً بعد حجة الوداع ................................................................. 630

2- عَرَضَ الأنصار علی النبي (صلی الله علیه و آله) ثلث أموالهم .................................................................... 630

3- النبي (صلی الله علیه و آله) یجهر بالحقیقة ویتحدی قریشاً!.................................................................... 633

4- جیش أسامة لإفراغ المدینة من خصوم علي (علیه السلام) ............................................................. 635

5- أمیر المؤمنین (علیه السلام) یصف عملهم لإفشال جیش أسامة........................................................ 636

6- حذیفة یصف تسلل أبي بكر وعمر لیلا الی المدینة............................................................. 640

7- أبو بكر وعمر یظهران الندم علی تركهما جیش أسامة!........................................................ 643

8- الروایة الرسمیة لجیش أسامة.................................................................................. 644

9- رد قولهم إن النبي (صلی الله علیه و آله) نصب أبا بكر للصلاة.................................................................... 645

ص: 726

الفصل الثالث والسبعون/مرض النبی (صلی الله علیه و آله) وشهادته 648

1 - النبي (صلی الله علیه و آله) یزور البقیع ویحذر صحابته! ...................................................................... 648

2- مدة مرض النبي (صلی الله علیه و آله) .......................................................................................... 649

3- مات النبي (صلی الله علیه و آله) شهیدًا بالسُّمّ!................................................................................ 650

4- جاء الأنصار یبكون، فخطب فیهم النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................. 652

5- الأمة تواجه رسولها بالإنقلاب علیه! ......................................................................... 653

6- وصایا النبي (صلی الله علیه و آله) العامة والخاصة.............................................................................. 660

7- تأكیداته الأخیرة علی علي والعترة (علیهم السلام) ....................................................................... 661

8- الوصیة التي نزلت من الله تعالی الی الأئمة (علیهم السلام) .............................................................. 664

9- وصیة النبي (صلی الله علیه و آله) لنسائه وعائشة خاصة....................................................................... 671

10- النبي (صلی الله علیه و آله) یخرج عمه العباس من وصیته ..................................................................... 671

11- قوله (صلی الله علیه و آله) لفاطمة (علیها السلام): أنت أول أهل بیتي لحوقاً بي........................................................... 673

12- وصیة النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) بتجهیزه .......................................................................... 678

13- صفة احتضاره ووفاته (صلی الله علیه و آله) .................................................................................. 680

14- صفة تغسیله وتحنیطه وتكفینه (صلی الله علیه و آله) ....................................................................... 682

15- صفة الصلاة علیه ودفنه (صلی الله علیه و آله) .............................................................................. 684

16- من خصائص النبي (صلی الله علیه و آله) عند موته!......................................................................... 686

17- لم یحضر أهل السقیفة مراسم جنازة النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................... 688

18- دفن النبي (صلی الله علیه و آله) في بیته ولیس في حجرة عائشة ............................................................... 690

19- حُزن أهل البیت علی النبي (صلی الله علیه و آله) وتعزیة جبرئیل والخضر لهم.................................................... 691

20- جاؤوا بخبر السقیفة بعد دفن النبي (صلی الله علیه و آله) ...................................................................... 694

21- ذهول الصحابي البراء بن عازب (رحمة الله) من بیعة الخلسة! ....................................................... 696

22- خطبة سلمان في الیوم الثالث لوفاة النبي (صلی الله علیه و آله) .............................................................. 698

23- خطبة أمیر المؤمنین (علیه السلام) في الیوم السابع لوفاة النبي (صلی الله علیه و آله) ..................................................... 699

24- احتجاج اثني عشر من شخصیات المهاجرین والأنصار ...................................................... 704

25- خطبة أخری لأبي بن كعب (رحمة الله) في إدانة السقیفة.............................................................. 709

ص: 727

ص: 728

المجلد 3

هویة الکتاب

سرشناسه : کورانی، علی، 1944 - م. Kurani,Ali

عنوان و نام پديدآور: سیرة امیرالمومنین (ع)/ علی الکورانی العاملی.

مشخصات نشر: قم:دار النشر المعروف ، 1438 ق. = 2017 م. = 1396

مشخصات ظاهری: ج. شابک : ج.1 9786006612904 :

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ دوم.

مندرجات : ج. 1. حرب الجمل، بدرالثانیه ضد بنی هاشم

موضوع : علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40 ق. — سرگذشتنامه

موضوع : Biography — 661-600 ,Ali ibn Abi-talib, Imam I

رده بندی کنگره : BP37 /ک 85 س 9 1396

رده بندی دیویی : 297 / 951

شماره کتابشناسی ملی : 4794965

سیرة أمیرالمؤمنین (علیه السلام)

حَرب الجَمل، بَدر الثانیة ضد بَني هاشِم

المؤلف: علي الکَوراني

الناشر: دارالمعروف، قم المقدّسة.

الطبعة : الأولی.

تاریخ النشر: ذيقعدة 1438 ه.ق - July 2017

المطبعة : باقری - قم المقدّسة.

عدد المطبوع : 3000 نسخة.

شابک: 4- 90 - 6612 - 600 - 978

دار المعروف

للطباعة و النشر

مرکز النشر والتوزیع:

إيران - قم المقدّسة - شارع مصلّی القدس - رقم الدّار: 682 . ص-ب: 158 - 37156 تلفون: 32926175 25 (0)0098

جمیع الحقوق محفوظة ومسجلة للمؤلف

www.maroof.org

Email: nashremaroof@gmail.com

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

ص: 3

ص: 4

مقدمة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم السلام

على سيد نا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

أول حرب على تأويل القرآن

عندما أكملت كتابة حرب الجمل، اقترح أحد الفضلاء أن أطبعها مستقلةً، ولا أنتظر استكمال بقية سيرة أمير المؤمنين (علیه السلام) . وقد أخذتُ بهذا الرأي، لأن حرب الجمل موضوع مستقل، وهو رفض قريش لخلافة علي (علیه السلام) ، واستنفارها لحربه.

ولأنها الحرب الأولى التي وعدها النبي (صلی الله علیه و آله) بقوله: (إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله، فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا. قال عمر: أنا يا رسول الله؟ قال:لا، لكنه خاصف النعل. وكان أعطى علياً نعله يخصفها). (مجمع الزوائد:5/186، وصححه على شرط الشيخين).

وهي الحرب التي قال عنها النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) : ( إن الله قد كتب عليك جهاد المفتونين كما كتب عليَّ جهاد المشركين، قال: يا رسول الله، ما هذه الفتنة التي كتب عليَّ فيها الجهاد؟ قال: قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وهم مخالفون للسنة. فقلت: يا رسول الله فعلام أقاتلهم وهم يشهدون كما أشهد؟ قال: على الإحداث

في الدين ومخالفة الأمر.

ص: 5

فقلت: يا رسول الله، إنك كنت وعدتني الشهادة، فاسألِ الله أن يعجلها لي بين يديك. قال: فَمَنْ يُقَاتِلُ الناكثين والقاسطين والمارقين! أما إني وعدتك الشهادة وستُستشهد، تُضرب على هذه فتخضب هذه، فكيف صبرك إذاً!

قلت: يا رسول الله، ليس ذا بموطن صبر، هذا موطن شكر.

قال: أجل أصبت، فأعدَّ للخصومة فإنك مخاصم.

فقلت: يا رسول الله لو بينت لي قليلاً! فقال: إن أمتي ستفتن من بعدي فتتأول القرآن وتعمل بالرأي، وتستحل الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والربا بالبيع، وتحرف الكتاب عن مواضعه، وتغلب كلمة الضلال، فكن جليس بيتك حتى تُقلدها، فإذا قُلِّدْتَها جاشت عليك الصدور وقُلِّبَت لك الأمورفقاتِلُ حينئذ على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فليست حالهم الثانية بدون حالهم الأولى.

فقلت: يا رسول الله، فبأي المنازل أنزل هؤلاء المفتونين من بعدك؟ أبمنزلة فتنة أم بمنزلة ردة؟ فقال: بمنزلة فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل. فقلت: يا رسول الله، أيدركهم العدل منا أم من غيرنا؟ قال: بل منا، بنا فتح وبنا يختم، وبنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك، وبنا يؤلف بين القلوب بعد الفتنة. فقلت: الحمد لله على ما وهب لنا من فضله). (شرح النهج:9/207).

تعصبت قريش لقتلى بدر، وعَظَّمت من قاتل علياً (علیه السلام)

أقامت قريش على قتلى بدر مناحة كبرى وما زالت، كمناحة اليهود (الهولكست) بل أشد منها! وجعلت رثاءهم والنوح عليهم ديناً تدين به، ومحاور قصائد شعرائها، وأناشيد وأغاني في حفلاتها، ومجالس خمرها.

وقررت أن يكون ثأرها لقتلى بدرأن تأخذ دولة محمد (صلی الله علیه و آله) وتبعد عترته عن الحكم الى آخر الدهر، فإن عاد بنو هاشم الى الحكم، فقد بطل ثأر قريش!

قال عثمان لعلي (علیه السلام) : «ما أصنع إن كانت قريش لاتحبكم وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين، كأن وجوههم شنوف الذهب »! (نثر الدرر:1/259).

ص: 6

وكانت خالة معاوية زوجة عقيل بن أبی طالب تقول له:(لايحبكم قلبي يا بني هاشم أبداً! أين أخي، أين عمي، أين فلان، أين فلان؟كأن أعناقهم أباريق الفضة، ترد أنوفهم قبل شفاههم). (غريب الحديث للحربي:1/208).

(فيسكت عنها، حتى دخل عليها يوماً وهو برمٌ فقالت له: أين عتبة بن ربيعة؟ فقال: على يسارك في النار إذا دخلت)! ( تفسيرالقرطبي:5/176).

ما أصنع لكم يا بني هاشم، لاتحبكم قريش، لا أنت يا علي، ولا النبي (صلی الله علیه و آله) مع أنا نتشهد الشهادتين، ولا أحداً من بني هاشم، لأن لنا عندكم ثأراً!

يقول ذلك خليفة يجلس على كرسي دولة النبي (صلی الله علیه و آله) وهو يعرف أنه لولا إزاحة السبعين من قريش وقتلهم في بدر، ما وجدت دولة، ولا خلافة، ولاكرسي الخليفة!

على أيٍّ، أبعدت قريش بني هاشم عن الخلافة والدولة، ولم توظف منهم حتى كاتباً عادياً، طوال عهد أبي بكر وعمر وعثمان!

وعلى حين غفلة من قريش وصل بنو هاشم الى الحكم، فهبت قريش هبةً واحدة تماماً كهبتها في بدر، فقد حكم علي، وبطل ثأر قريش كله، وإن دخلت الخلافة في بني هاشم، فلن تخرج منهم الى يوم القيامة!

(لما قدم عبدالله بن عامر بن كريز المدينة لقي طلحة والزبير، فقال لهما: بايعتما علي بن أبی طالب! أما والله لا يزال يُنتظر بها الحبالى من بني هاشم، فمتى تصير إليكما)! (خصائص الأئمة للشريف الرضي/61).

أي لاتخرج الخلافة منهم، وإذا لم يكن فيهم كبير، فسينتظرون المولود أن يولد.

زعمت قريش أن النبي (صلی الله علیه و آله) حرَّم الخلافة على بني هاشم

حَرَّمت قريش الخلافة على بني هاشم، ووضعت في ذلك حديثاً نبوياً، ليكون التحريم حكماً شرعياً قطعياً، صادراً من النبي نفسه (صلی الله علیه و آله) !

لكن حدث خلل في مسار الأحداث فخرجت عن هندسة رجال قريش، وهو أن الوفود الثائرة على عثمان وبعض الأنصار، كسروا التحريم القرشي المشدد وبايعوا

ص: 7

علياً (علیه السلام) ، فصار واجب قريش أن تقاتله، لتعيد الحق الى نصابه!

قال أبو بكر لعلي:قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) :(إنا أهل بيت اصطفانا الله وأكرمنا، واختار لنا الآخرة على الدنيا، وإن الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة.

فقال علي: هل أحد من أصحاب رسول الله شهد هذا معك؟ فقال عمر: صدق خليفة رسول الله، قد سمعته منه كما قال. وقال أبوعبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل: صدق، قد سمعنا ذلك من رسول الله)! (كتاب سليم/154).

فأي حديث أصح من هذا! لقد شهد به كبار الصحابة، فمن يجرؤ أن يخالفه!

ولما جعل عمر علياً (علیه السلام) في الشورى قال له العباس:(أشرت عليك في يوم قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن تمد يدك فنبايعك فإن هذا الأمر لمن سبق إليه، فعصيتني حتى بويع أبو بكر.وأنا أشيرعليك اليوم أن عمرقد كتب إسمك في الشورى وجعلك آخر القوم، وهم يخرجونك منها، فأطعني ولا تدخل في الشورى! فلم يجبه بشئ. فلما بويع عثمان قال له العباس: ألم أقل لك! قال له: يا عم إنه قد خفي عليك أمر، أما سمعت قوله على المنبر: ما كان الله ليجمع لأهل هذا البيت الخلافة والنبوة، فأردت أن يكذب نفسه بلسانه فيعلم الناس أن قوله بالأمس كان كذباً باطلاً، وأنا نصلح للخلافة. فسكت العباس)! (علل الشرائع:1/171).

وقال علي (علیه السلام) :«لَعَمْرُ أبي وأمي، لن تحبوا أن يكون فينا الخلافة والنبوة، وأنتم تذكرون أحقاد بدر وثارات أحد! أما والله لو قلت ما سبق لله فيكم لتداخلت أضلاعكم في أجوافكم، كتداخل أسنان دوارة الرحى)! (الإحتجاج:1/127).

الخارجون على علي (علیه السلام) ليسوا بغاة، بل مجتهدون لهم أجر!

قال ابن رشد في البيان والتحصيل (17/361):(والذي قلناه من أنهم اجتهدوا فأصاب علي، وأخطأ طلحة والزبير، هو الصحيح الذي يلزم اعتقاده، فلعلي أجران لموافقته الحق باجتهاده، ولطلحة والزبير أجر واحد لاجتهادهما).

ومن بغضهم لعلي (علیه السلام) ، قالوا إن الخارجين عليه مأجورون حتى لو كانوا بايعوه! لكن

ص: 8

لو خرجوا على أبي بكر أو عمر أو عثمان، لكانوا بغاة كفاراً من أهل النار!

قال إسحاق بن راهويه في مسنده (2/34و40):(لاريب أن عائشة ندمت ندامة كلية على مسيرها إلى البصرة وحضورها يوم الجمل، وما ظنت أن الأمر يبلغ ما بلغ. على أنها ما فعلت ذلك إلا متأولة قاصدة للخير! كما اجتهد طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وجماعة من الكبار رضي الله عن الجميع).

وقال ابن تيمية (منهاج السنة:4/316): (وأما الحديث الذي رواه وهو قوله لها: تقاتلين علياً وأنت ظالمة له، فهذا لايعرف في شئ من كتب العلم المعتمدة، ولا له إسناد معروف، وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه بالأحاديث الصحيحة، بل هو كذب قطعاً فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال، وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين، وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين! ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها! وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة، والزبير، وعلي، رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في الإقتتال، ولكن وقع الإقتتال بغير اختيارهم!

وأما قوله: وخالفت أمر الله في قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاتَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الآولَى. فهي رضي الله عنها لم تتبرج. والأمر بالإستقرار في البيوت لاينافي الخروج لمصلحة مأمور بها، كما لو خرجت للحج والعمرة. ولهذا كان أزواج النبي يحججن بعده كما كن يحججن معه. وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزاً فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين، فتأولت في ذلك)!

مطلب عائشة أن يخلع علي (علیه السلام) نفسه ويخرج من الخلافة نهائياً

(قدم طلحة والزبيرعلى عائشة فدعواها إلى الخروج فقالت: أتأمراني أن أقاتل؟ فقالا: لا، ولكن تُعْلِمين الناس أن عثمان قتل مظلوماً، وتَدْعيهم إلى أن يجعلوا الأمر شورى بين المسلمين، فيكونوا على الحالة التي تركهم عليها عمر بن الخطاب، وتصلحين بينهم). (البلاذري:2/223).

ص: 9

فكتبت عائشة ذلك الى أم سلمة: (أما ما كنت تعرفيه من رأيي في عثمان فقد كان ولا أجد مخرجاً منه إلا الطلب بدمه.وأما علي فإني آمره برد هذا الأمر شورى بين الناس، فإن فعل، وإلا ضربت وجهه بالسيف حتى يقضي الله ما هو قاض! فأنفذت إليها أم سلمة: أما أنا فغير واعظة لك من بعد، ولا مكلمة لك جهدي وطاقتي. والله إني لخائفة عليك البوار ثم النار!والله ليخيبن ظنك ولينصرن الله ابن أبی طالب على من بغى، وستعرفين عاقبة ما أقول). (الجمل للمفيد/128).

وقالت عائشة في خطبتها في مربد البصرة: (ألاوإن قريشاً رمت غرضها بنبالها وأدمت أفواهها بأيديها، وما نالت بقتلها إياه شيئاً، ولاسلكت به سبيلاً قاصداً. ألا إن عثمان قتل مظلوماً فاطلبوا قتلته، فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم، ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان). تقصد علياً (علیه السلام) . (شرح النهج:9/316)

(لما بايع الناس علياً (علیه السلام) وتخلف عبدالله بن عمر، وكلمه علي (علیه السلام) في البيعة فامتنع عليه، أتاه في اليوم الثاني فقال: إني لك ناصح، إن بيعتك لم يرض بها كلهم، فلو نظرت لدينك ورددت الأمر شورى بين المسلمين!

فقال علي (علیه السلام) :ويحك! وهل ما كان عن طلب مني له! ألم يبلغك صنيعهم؟ قم عني يا أحمق! ما أنت وهذا الكلام)! (شرح النهج:4/12).

ويتضح بذلك أن مطلب القرشيين جميعاً رأس علي (علیه السلام) ، وإبعاده عن الخلافة كلياً!

لماذا انكسر جيش عائشة رغم كثرته وتجهيزه؟

قال أمير المؤمنين (علیه السلام) :(فمنيتُ بأطوع الناس في الناس، عايشة بنت أبي بكر، وبأشجع الناس الزبير، وبأخصم الناس طلحة بن عبيد الله. وأعانهم عليَّ يعلى بن منية بأصوع الدنانير)!(المحجة/173).

فوصف عائشة بأنها أطوع الناس في الناس، لقوة شخصيتها وتأثيرها عليهم وتهافتهم عليها، فقد تربى جيل على تقديسها وترديد مناقبها، ولذلك نراها دخلت البصرة بست

ص: 10

مئة جندي، فجندت منهم في أقل من شهر أكثر من مئة ألف، واستعملت أساليب منها الخطابة وإظهار الظلامة، وقد بكت لكعب بن سور رئيس الأزد فاستجاب لها!وكانت تعطي الجندي ضعفين، فتهافت عليها شباب البصرة.

وقالت عائشة كما في حديث الواقدي (الجمل للمفيد/201): (وكان من معنا فتيان أحداث من قريش لاعلم لهم بالقتال ولم يشهدوا الحرب، فكانوا جَزْراً للقوم، فإني لعلى ما نحن فيه وقد كان الناس كلهم حول جملي، فسكتوا ساعة فقلت: خيراً أم شراً ذا سكوتكم، ضَرُس القتال! وإذا ابن أبی طالب أنظر إليه يباشر القتال بنفسه، وأسمعه يصيح: الجمل الجمل! فقلت: أرادوا والله قتلي! فإذا هو علي بن أبی طالب، ومعه محمد بن أبي بكر أخي، ومعاذ بن عبدالله التميمي، وعمار بن ياسر، وقطعوا البطان واحتملوا الهودج فهوى على أيدي الرجال يرفلون به، وهرب من كان معنا فلم أحس لهم خبراً! ونادى منادي علي بن أبی طالب: لايُتبع مدبر، ولا يُجهز على جريح، ومن طرح السلاح فهو آمن. فرجعت إلى الناس أرواحهم)!

وقال علي (علیه السلام) عند تطوافه على القتلى:(هذه قريش! جدعتُ أنفي، وشفيت نفسي! لقد تقدمت إليكم أحذركم عض السيوف، وكنتم أحداثاً لا علم لكم بما ترون ولكنه الحين وسوء المصرع، فأعوذ بالله من سوء المصرع)! (الإرشاد:1/246).

وقد دعا الإمام (علیه السلام) شباب قريش في المعركة للإنسحاب، ونصب راية لمن أراد ذلك! فلم ينسحب منهم إلا قليل، وكانوا يدفعون موجات الجنود الأغرار والعوام، ويجعلونهم جزراً لسيوف أصحاب علي (علیه السلام) ، كما قالت عائشة، فقتل منهم أكثر من ثلاثين ألفاً، ومن أصحاب علي نحو ألفين.

كتبه: علي الكوراني العاملي - بقم المشرفة في يوم المبعث الأغر- 1439

ص: 11

الفصل الثاني والخمسون: استعداد عائشة لحرب علي (علیه السلام)!

فرح المسلمون بخلافة علي (علیه السلام) واستنفرالأمويون لحربه

1. بدأ هتاف الناس باسم علي (علیه السلام) من أيام عثمان، فكانوا يقولون:ما لها غيرك يا أبا الحسن. وأرسل له عثمان أن يغيب عن المدينة: ( إلى ماله بينبع ليقلَّ هَتْفُ الناس باسمه للخلافة، بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل، فقال (علیه السلام) :يا ابن عباس ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغرب، أقبل وأدبر! بعث إليَّ أن أخرج، ثم بعث إلي أن أقدم، ثم هوالآن يبعث إلي أن أخرج! والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً)! (نهج البلاغة: 2/233).

ولكنه (علیه السلام) استجاب وذهب، ثم أرسل له عثمان لما ضاقت عليه أن يحضر! ولما قتل عثمان تعاظم هتف الناس وطالبوا أن يبايعهم. قال (علیه السلام) : (وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم عليَّ تداكَّ الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها، حتى انقطعت النعل، وسقطت الرداء، ووطئ الضعيف، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها الكعاب). (نهج البلاغة:2/222).

2. وبايع الناس علياً (علیه السلام) وفرحوا بخلافته، إلا الطبقة التي سلطها عثمان على مقدرات الأمة، وأعطاها امتيازات، وأهم شخصياتها:

معاوية بن أبی سفیان، حاكم الشام الذي كان يعمل لبقاء الحكم في بني أمية.

ومروان بن الحكم صهر عثمان ومستشاره وحامل ختمه. وسعيد بن العاص، مستشار

ص: 12

عثمان ووالي الكوفة. والوليد بن عقبة والي الكوفة الذي صلى بالناس صلاة الصبح ثمانياً وقال هل أزيدكم! وعبدالله بن أبي كرز والي البصرة، وعبدالله بن أبي سرح والي مصر.

ومن غير بني أمية: يعلى بن مُنية حليف بني أمية، والي اليمن. وطلحة بن عبيد الله من بني تَيْم، وكان يطمع أن يوصي له أبو بكر بالخلافة. والزبير بن العوام، وقد تغير على علي (علیه السلام) بتأثير ابنه عبدالله، وخالته عائشة، وكانت عائشة تبغض علياً (علیه السلام) أكثر مما أبغضت عثمان لقطعه مخصصاتها!

وأبوموسى الأشعري الذي كان والي البصرة ثم الكوفة، وكان يبغض علياً (علیه السلام) .

وعمرو العاص الذي كان حاكم مصر، وقد جمع ثروة كبيرة، فهو يخاف عليها.

قال اليعقوبي (2/178):(بايعه طلحة والزبير والمهاجرون والأنصار..إلا ثلاثة نفر من قريش: مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، والوليد بن عقبة وكان لسان القوم، فقال:يا هذا إنك قد وترتنا جميعاً، أما أنا فقتلت أبي صبراً يوم بدر، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر، وكان أبوه ثور قريش، وأما مروان فشتمت أباه وعبت على عثمان حين ضمه إليه، فتُبايعنا على أن تضع عنا ما أصبنا، وتعفي لنا عما في أيدينا، وتقتل قتلة صاحبنا.فغضب علي (علیه السلام) وقال: أما ما ذكرت من وِتْري إياكم فالحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله تعالى، وأما إعفائي عما في أيديكم، فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم.

وأما قتلي قتلة عثمان، فلو لزمني قتلهم اليوم لزمني قتالهم غداً، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنة نبيه،فمن ضاق عليه الحق فالباطل عليه أضيق. وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم. فقال مروان:بل نبايعك ونقيم معك فترى ونرى)!

ولما أعلن الإمام (علیه السلام) إلغاء سندات تمليك الأراضي (قطائع عثمان) أعادها الى بيت المال وقال (علیه السلام) : ( ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لايبطله شئ. فبلغ ذلك عمرو بن العاص وكان بأيلة من أرض الشام أتاها حيث وثب الناس على عثمان فنزلها،

ص: 13

فكتب إلى معاوية: ما كنت صانعاً فاصنع، إذ قَشَرَك ابن أبی طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها)! (شرح النهج: 1/270).

وكانت ملكية ابن العاصي في مصر وفلسطين والشام والحجاز، ميزانية دولة!

وفي دعائم الإسلام (1/396): (أنه (علیه السلام) أحضرالأشعث بن قيس وكان عثمان استعمله على أذربيجان، فأصاب مائة ألف درهم، فبعض يقول: أقطعه عثمان إياها، وبعض يقول: أصابها الأشعث في عمله. فأمره علي (علیه السلام) بإحضارها فدافعه وقال: يا أمير المؤمنين، لم أصبها في عملك. قال:والله لئن أنت لم تحضرها بيت مال المسلمين، لأضربنك بسيفي هذا، أصاب منك ما أصاب! فأحضرها وأخذها منه، وصيرها في بيت مال المسلمين، وتتبع عمال عثمان، فأخذ منهم كل ما أصابه قائماً في أيديهم، وضمنهم ما أتلفوا).

 

نشطت عائشة في تجميع أعداء علي (علیه السلام) للخروج عليه

1. في شرح النهج (6/216): (قالت لما بلغها قتله: أبعده الله، قتله ذنبه، وأقاده الله بعمله! يا معشر قريش لايسومنكم قتل عثمان، كما سام أحمر ثمود قومه، إن أحق الناس بهذا الأمر ذو الإصبع. فلما جاءت الأخبار ببيعة علي قالت: تعسوا تعسوا! لايردون الأمر في تيم أبداً)!

2. روى الطبري(3/477): (أن عائشة لما انتهت إلى سَرَف راجعةً في طريقها إلى مكة لقيها عبد بن أم كلاب، وهو عبد بن أبي سلمة ينسب إلى أمه، فقالت له: مهيم؟ قال: قتلوا عثمان فمكثوا ثمانياً. قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: أخذها أهل المدينة بالإجتماع فجازت بهم الأمور إلى خير مجاز، اجتمعوا على

علي بن أبی طالب. فقالت: والله ليت أن هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك! ردوني ردوني! فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قُتِلَ والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبن بدمه! فقال لها ابن أم كلاب: ولم َ، فوالله إن أول من أمال حرفه لأنت، ولقد كنت

ص: 14

تقولين: أقتلوا نعثلاً فقد كفر! قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأول! فقال لها ابن أم كلاب:

فمنك البداءُ ومنك الغِيَر *** ومنك الرياحُ ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الإمام *** وقلت لنا إنه قد كفر

فهبنا أطعناك في قتله *** وقاتلهُ عندنا من أمر

ولم يسقط السقف من فوقنا *** ولم ينكسف شمسنا والقمر

وقد بايع الناس ذا تدرإٍ *** يزيل الشبا ويقيم الصعر

ويلبس للحرب أثوابها *** وما مَن وفى مثل مَن قد غدر

فانصرفت إلى مكة فنزلت على باب المسجد فقصدت للحِجرفسترت(نصبت ستراً) واجتمع إليها الناس فقالت:يا أيها الناس إن عثمان قتل مظلوماً،ووالله لأطلبن بدمه)!

3. في شرح الأخبار للقاضي المغربي (1/342) عن الإمام الباقر (علیه السلام) ، قال: (أرسل إليَّ سعيد بن عبد الملك بن مروان فأتيته فأقبل يسألني، فرأيته رجلاً قد لقي أهل العلم وحادثهم، فإذا هو ليس في يده شئ من أمر عثمان إلا أنه يقول: خرجت عائشة تطلب بدمه. فقلت له: أيُّ رجل كان فيكم مروان بن الحكم؟ فقال: ذاك سيدنا وأفضلنا. قلت: فأي رجل ترون علي بن الحسين؟قال: صدوقاً مرضياً. قلت: فإني أشهد على علي بن الحسين (علیه السلام) أنه حدثني إنه سمع مروان بن الحكم يقول: انطلقت أنا وعبد الرحمان بن عوف إلى عائشة وهي تريد الحج وعثمان قد حُصر، فقلت لها: قد ترين أن هذا الرجل قد حصر، فلوأقمت فنظرت في شأنه وأصلحت أمره! فقالت: قد غرَّبت غرايري وأدنيت ركائبي وفرضت الحج على نفسي، فلست بالتي أقيم، فجهدنا عليها فأبت، فقمت من عندها وأنا أقول، وذكر بيتاً من شعر تمثل به. فقالت: أيها الرجل المتمثل بالشعر إرجع، فرجعت فقالت: لعلك

ص: 15

ترى أني إنما قلت هذا الذي قلت وأنا أشك في عثمان، وددت والله، أنه محاط عليه في بعض غرايري هذه، حتى أكون التي أقذفه في اليم! ثم ارتحلت حتى نزلت ماء يقال له: الصلصل، وبعث الناس عبدالله بن العباس على الموسم وعثمان محصور، فمضى حتى نزل ذلك الماء، فقيل لها: هذا ابن عباس قد بعث به الناس على الموسم، فأرسلت إليه فقالت: ياابن عباس إن الله عز وجل أعطاك لساناً وعلماً، فأناشدك الله أن تخذل الناس عن قتل هذا الطاغية عثمان غداً! ثم انطلقت إلى مكة، فلما أن قضت منسكها وانقضى أمرالموسم بلغها أن عثمان قد قتل، وأن طلحة بن عبيد الله بويع قالت: إيهاً ذا الإصبع، فلما بلغها بعد ذلك أن علياً بويع، قالت: وددت أن هذه تعني السماء وأشارت إليها، وقعت على هذه، وأشارت إلى الأرض)!

4. قال في شرح النهج (1/230):(لما بويع علي (علیه السلام) كتب إلى معاوية: أما بعد فإن الناس قتلوا عثمان عن غيرمشورة مني وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع، فإذا أتاك كتابي فبايع لي، وأوفد إلى أشراف أهل الشام قبلك. فلما قدم رسوله على معاوية وقرأ كتابه، بعث رجلاً من بني عميس وكتب معه كتاباً إلى الزبير بن العوام وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبدالله الزبير أميرالمؤمنين من معاوية بن أبی سفیان: سلام عليك، أما بعد، فإني قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الجلب، فدونك الكوفة والبصرة لايسبقك إليها ابن أبی طالب، فإنه لا شئ بعد هذين المصرين. وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك، فأظهرا الطلب بدم عثمان، وادعوا الناس إلى ذلك، وليكن منكما الجد والتشمير. أظفركما الله وخذل مناوئكما!

فلما وصل هذا الكتاب إلى الزبير سُرَّ به وأعلم به طلحة وأقرأه إياه، فلم يشكا في النصح لهما من قبل معاوية، وأجمعا عند ذلك على خلاف علي (علیه السلام) )!

5. بادرطلحة والزبيرالى استثمار عائشة فكتبا لها وهي بمكة (شرح النهج:6/216): (أن خَذِّلِي الناس عن بيعة علي، وأظهري الطلب بدم عثمان، وحملا الكتاب مع ابن أختها عبدالله بن الزبير، فلما قرأت الكتاب كاشفت وأظهرت الطلب بدم عثمان،

ص: 16

وكانت أم سلمة بمكة في ذلك العام، فلما رأت صنع عائشة قابلتها بنقيض ذلك، وأظهرت موالاة علي (علیه السلام) ونصرته).

ونشطت عائشة في الثورة على علي (علیه السلام) ، لكنها تحولت من مقودة للزبير وطلحة الى قائدة لهما، كما قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) : فبينا هما يقودانها، إذ هي تقودهما!

6. قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (الإرشاد:1/245):(بايعني في أولكم طلحة والزبيرطائعين غير مكرهين، ثم لم يلبثا أن استأذناني في العمرة، والله يعلم أنهما أرادا الغدرة، فجددت عليهما العهد في الطاعة، وأن لا يبغيا للأمة الغوائل، فعاهداني ثم لم يفيا لي، ونكثا بيعتي ونقضا عهدي! فعجباً لهما من انقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما لي، ولست بدون أحد الرجلين، ولو شئت أن أقول لقلت. اللهم احكم عليهما بما صنعا في حقي، وصغرا من أمري، وظَفِّرْني بهما).

وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج (1/ 77): (طلب طلحة والزبير من عليّ (علیه السلام) أن يوليهما المصرين البصرة والكوفة، فقال: حتى أنظر. ثم استشارالمغيرة بن شعبة فقال له: أرى أن توليهما إلى أن يستقيم لك أمر الناس. فخلا بابن عباس وقال: ما ترى؟ قال: يا أميرالمؤمنين إن الكوفة والبصرة عين الخلافة وبهما كنوز الرجال ومكان طلحة والزبير من الإسلام ما قد علمت، ولست آمنهما إن وليتهما أن يحدثا أمراً، فأخذ برأي ابن عباس).

أقول: والصحيح أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) لا يحتاج الى رأي ابن عباس، ولا غيره.

7. قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (الإرشاد:1/249):(نحن أهل بيت النبوة، وأحق الخلق بسلطان الرسالة، ومعدن الكرامة التي ابتدأ الله بها هذه الأمة. هذا طلحة والزبير ليسا من أهل النبوة، ولا من ذرية الرسول (صلی الله علیه و آله) ، حين رأيا أن الله قد رد علينا حقنا بعد أعصر، فلم يصبرا حولاً واحداً ولا شهراً كاملاً حتى وثبا على دأب الماضين قبلهما، ليذهبا بحقي،ويفرقا جماعة المسلمين عني!ثم دعا عليهما).

وقال (علیه السلام) (شرح النهج:1/ 309): (ولقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتاباً

ص: 17

يخدعهما فيه فكتماه عني، وخرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان، والله ما أنكرا عليَّ منكراً، ولا جعلا بيني وبينهم نصفاً، وإن دم عثمان لمعصوب بهما ومطلوب منهما! يا خيبة الداعي إلى مَ دعا، وبما ذا أجيب)!

8. وقد وصف أمير المؤمنين (علیه السلام) عائشة وطلحة والزبير فقال ( المحجة /173): (دعوت الناس إلى بيعتي، فمن بايعني طائعاً قبلت منه ومن أبى تركته، فكان أول من بايعني طلحة والزبير فقالا: نبايعك على أنا شركاؤك في الأمر! فقلت: لا، ولكنكما شركائي في القوة، وعوناي في العجز، فبايعاني على هذا الأمر، ولو أبيا لم أكرههما كما لم أكره غيرهما! وكان طلحة يرجو اليمن، والزبير يرجو العراق، فلما علما أني غير موليهما استأذناني للعمرة يريدان الغدرة، فأتيا عايشة واستخفَّاها مع كل شئ في نفسها علي. وقادهما عبدالله بن عامر إلى البصرة، وضمن لهما الأموال والرجال، فبيناهما يقودانها إذ هي تقودهما، فاتخذاها فئة يقاتلان دونها! فأي خطيئة أعظم مما أتيا، أخرجا زوجة رسول الله (صلی الله علیه و آله) من بيتها فكشفا عنها حجاباً ستره الله عليها، وصانا حلائلهما في بيوتهما، ولا أنصفا الله ولا رسوله (صلی الله علیه و آله) من أنفسهما! فمنيتُ بأطوع الناس في الناس عايشة بنت أبي بكر وبأشجع الناس الزبير، وبأخصم الناس طلحة بن عبيد الله، وأعانهم عليَّ يعلى بن منية بأصوع الدنانير! والله لئن استقام أمري

لأجعلن ماله فيئاً للمسلمين!

ثم أتوا البصرة وأهلها مجتمعون على بيعتي وطاعتي، وبها شيعتي خزان بيت مال الله ومال المسلمين، فدعوا الناس إلى معصيتي وإلى نقض بيعتي وطاعتي، فمن أطاعهم أكفروه ومن عصاهم قتلوه! فناجزهم حكيم بن جبلة فقتلوه في سبعين رجلاً من عُبَّاد أهل البصرة ومخبتيهم، يسمَّوْنَ المثفَّنين، كأن راح أكفهم ثفنات الإبل. وأبى أن يبايعهم يزيد بن الحارث اليشكري فقال: إتقيا الله، إن أولكم قادنا إلى الجنة فلا يقودنا آخركم إلى النار، فلا تكلفونا أن نصدق المدعي ونقضي على الغائب، أما يميني فشغلها علي بن أبی طالب ببيعتي إياه، وهذه شمالي فارغة فخذاها إن شئتما! فخُنق حتى مات (رحمة الله) .

ص: 18

وقام عبدالله بن حكيم التميمي فقال:يا طلحة هل تعرف هذا الكتاب؟ قال: نعم هذا كتابي إليك. قال:هل تدري ما فيه؟ قال:إقرأه عليَّ، فقرأه فإذا فيه عيبُ عثمان ودعاؤه إلى قتله! فسيروه من البصرة!

وأخذوا عاملي عثمان بن حنيف الأنصاري غدراً فمثلوا به كل مثلة، ونتفوا كل شعرة في رأسه ووجهه! وقتلوا شيعتي طائفة صبراً، وطائفة غدراً، وطائفة عضوا بأسيافهم حتى لقوا الله! فوالله لو لم يقتلوا منهم إلا رجلاً واحداً لحلَّ لي به دماؤهم ودماء ذلك الجيش لرضاهم بقتل من قتل! دع أنهم قد قتلوا أكثر من العدة التي قد دخلوا بها عليهم، وقد أدال الله منهم، فبعداً للقوم الظالمين. فأما طلحة فرماه مروان بسهم فقتله، وأما الزبير فذكرته قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) إنك تقاتل علياً وأنت ظالم له! وأما عايشة فإنها كانت نهاها رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن مسيرها، فعضت يديها نادمة على ما كان منها! وقد كان طلحة لما نزل ذا قار قام خطيباً فقال: أيها الناس إنا أخطأنا في عثمان خطيئة مايخرجنا منها إلاالطلب بدمه، وعليٌّ قاتله وعليه دمه! فلما بلغني قوله وقول كان عن الزبير قبيح، بعثت إليهما أناشدهما بحق محمد وآله ما أتيتماني وأهل مصر محاصرو عثمان فقلتما: إذهب بنا إلى هذا الرجل فإنا لا نستطيع قتله إلا بك، لما تعلم أنه سيَّر أبا ذر، وفتق عماراً، وآوى الحكم بن أبي العاص وقد طرده رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأبو بكر وعمر، واستعمل الفاسق على كتاب الله الوليد بن عقبة، وسلط خالد بن عرفطة العذري على كتاب الله يمزقه ويحرقه، فقلت:كل هذا قد علمت، ولا أرى قتله يومي هذا، وأوشك سقاؤه أن يخرج المخض زبدته! فأقرَّا بما قلت! وأما قولكما إنكما تطلبان بدم عثمان، فهذان ابناه عمرو وسعيد، فخلوا عنهما يطلبان دم أبيهما، ومتى كان أسد وتيم أولياء بني أمية، فانقطعا عند ذلك! فقام عمران بن حصين الخزاعي صاحب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال:يا هذان لا تخرجانا ببيعتكما من طاعة علي، ولا تحملانا على نقض بيعته فإنها لله رضى، أما وسعتكما بيوتكما حتى أتيتما بأم المؤمنين! فالعجب لاختلافها وإياكما ومسيرها معكما، فكفَّا عنا

ص: 19

أنفسكما وارجعا من حيث جئتما، فلسنا عبيد من غلب، ولا أول من سبق! فهمَّا به ثم كفَّا عنه!

وكانت عايشة قد شكَّت في مسيرها وتعاظمت القتال، فدعت كاتبها عبيد الله بن كعب النميري فقالت أكتب: من عايشة بنت أبي بكر إلى علي بن أبی طالب، فقال: هذا أمر لايجري به القلم. قالت:ولمَ؟ قال:لأن علي بن أبی طالب في الإسلام أول وله بذلك البدء في الكتاب. فقالت أكتب: إلى علي بن أبی طالب من عايشة بنت أبي بكر، أما بعد فإني لست أجهل قرابتك من رسول الله، ولا قدمك في الإسلام، ولا غَنَاءك عن رسول الله، وإنما خرجت مصلحة بين بنيَّ، لا أريد حربك إن كففت عن هذين الرجلين، في كلام لها كثير).

من كلام أميرالمؤمنين (علیه السلام) في شخصية طلحة والزبير

في نهج البلاغة (2/184): (ومن كلام له (علیه السلام) كلم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة، وقد عتبا من ترك مشورتهما والإستعانة في الأمور بهما: قد نقمتما يسيراً، وأرجأتما كثيراً. ألا تخبراني أي شئ لكما فيه حق دفعتكما عنه، وأي قسم استأثرت عليكما به، أم أي حق رفعه إلى أحد من المسلمين ضعفت عنه، أم جهلته، أم أخطأت بابه. والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة. ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها. فلما أفضت إلي نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا، وأمرنا بالحكم به فاتبعته، وما استسن النبي (صلی الله علیه و آله) فاقتديته. فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلته فأستشيركما، وإخواني المسلمين، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما

ولا عن غيركما.

وأما ما ذكرتما من أمر الأسوة، فإن ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي ولا وليته هوى مني، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد فرغ منه، فلم أحتج إليكما فيما فرغ الله من قسمه وأمضى فيه حكمه.

فليس لكما والله عندي ولا لغيركما في هذا عتبى. أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق،

ص: 20

وألهمنا وإياكم الصبر. ثم قال (علیه السلام) : رحم الله امرأ رأى حقاً فأعان عليه، أو رأى جوراً فرده، وكان عوناً بالحق على صاحبه).

 

وفي نهج البلاغة (2/19): (ومن كلام له (علیه السلام) في معنى طلحة والزبير: والله ما أنكروا عليَّ منكراً، ولاجعلوا بيني وبينهم نصفاً، وإنهم ليطلبون حقاً هم تركوه، ودماً هم سفكوه. فإن كنت شريكهم فيه،فإن لهم نصيبهم منه، وإن كانوا ولوه دوني، فما الطَّلِبة إلا قِبَلهم. وإن أول عدلهم للحكم على أنفسهم. إن معي لبصيرتي، ما لَبَّسْتُ ولا لُبِّسَ عليَّ. وإنها للفئة الباغية فيها الحما والحمة والشبهة المغدفة. وإن الأمر لواضح، وقد زاح الباطل عن نصابه، وانقطع لسانه عن شغبه. وأيم الله لأفرطن لهم حوضاً أنا ماتحه لا يصدرون عنه بري، ولايعبُّون بعده في حِسْي).

وقد فسرالشيخ محمد عبده مفرداته: بأن الطلِبة ما يطالب به من الثأر، والحَما والحِمَّة: كناية عن الزبير وعائشة، وكان النبي أخبر علياً (علیه السلام) أنه ستبغي عليه فئة فيها بعض أحمائه وإحدى زوجاته، وأصل الحِمَّة الحية. ولأفْرُطَن لهم: أي لأملأن لهم حوض المنية وأسقيهم، فلا يشربون بعده ماء عذباً.

 

وفي نهج البلاغة (2/88): (من كلام له (علیه السلام) في معنى طلحة بن عبيد الله: قد كنت وما أهدَّد بالحرب، ولا أُرَهَّبُ بالضرب. وأنا على ما قد وعدني ربي من النصر. والله ما استعجل متجرداً للطلب بدم عثمان إلا خوفاً من أن يطالب بدمه، لأنه مظنته، ولم يكن في القوم أحرص عليه منه، فأراد أن يغالط بما أجلب فيه، ليلبس الأمر ويوقع الشك.

ووالله ما صنع في أمر عثمان واحدة من ثلاث: لئن كان ابن عفان ظالماً كما كان يزعم، لقد كان ينبغي له أن يوازر قاتليه، أو ينابذ ناصريه. ولئن كان مظلوماً لقد كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين عنه، والمعذرين فيه. ولئن كان في شك من الخصلتين لقد كان ينبغي له أن يعتزله ويركد جانباً ويدع الناس معه، فما فعل

ص: 21

واحدة من الثلاث، وجاء بأمر لم يعرف بابه، ولم تسلم معاذيره).

وقال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة(1/73):(بايعاني بالحجاز، ثم خالفاني بالعراق فقاتلتهما على خلافهما، ولو فعلا ذلك مع أبي بكر وعمر، لقاتلاهما).

سارع بنو أمية الى إعلان الخروج على أميرالمؤمنين (علیه السلام)

قال الطبري(3/455):(لما كان يوم الخميس على رأس خمسة أيام من مقتل عثمان، جمعوا أهل المدينة فوجدوا سعداً والزبير خارجين، ووجدوا طلحة في حائط له، ووجدوا بني أمية قد هربوا إلا من لم يطق الهرب، وهرب الوليد وسعيد إلى مكة في أول من خرج وتبعهم مروان، وتتابع على ذلك من تتابع، فلما اجتمع لهم أهل المدينة قال لهم أهل مصر: أنتم أهل الشورى وأنتم تعقدون الإمامة، وأمركم جائز على الأمة، فانظروا رجلاً تنصبونه، ونحن لكم تبع، فقال الجمهور: علي بن أبی طالب، نحن به راضون).

أقول: يظهر أن بني أمية كانوا مختفين بعد مقتل عثمان، ثم اطمأنوا فجاؤوا وفاوضوا علياً (علیه السلام) .قال المؤرخون:(فبينا الناس في المسجد بعد الصبح إذ طلع الزبير وطلحة فجلسا ناحية عن علي (علیه السلام) ، ثم طلع مروان وسعيد وعبدالله بن الزبير فجلسوا إليهما، ثم جاء قوم من قريش فانضموا إليهم، فتحدثوا نجياً ساعة ثم: ( قام الوليد بن عقبة بن أبي معيط فجاء إلى علي فقال:يا أبا الحسن إنك قد وترتنا جميعاً، أما أنا فقتلت أبي يوم بدر صبراً، وخذلت أخي يوم الدار بالأمس، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب وكان ثَوْرَ قريش! وأما مروان فسخفت أباه عند عثمان إذ ضمه إليه، ونحن إخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما أصبناه من المال في أيام عثمان، وأن تقتل قتلته وأنا إن خفناك تركناك، فالتحقنا بالشام.

فقال (علیه السلام) : أما ما ذكرتم من وتري إياكم فالحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم، وأما قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس، ولكن لكم عليَّ إن خفتموني أن أؤمنكم وإن خفتكم

ص: 22

أن أسيركم. فقام الوليد إلى أصحابه فحدثهم وافترقوا على إظهار العداوة وإشاعة الخلاف). (شرح النهج:7/38، وتاريخ اليعقوبي:2/167).

ثم كتب أمير المؤمنين (علیه السلام) الى سهل بن حنيف عامله على المدينة أن لا يمنع من أراد الهروب الى معاوية، قال: ( بلغني أن رجالاً ممن قبلك يتسللون إلى معاوية فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم، ويذهب عنك من مددهم. فكفى لهم غياً، ولك منهم شافياً فرارهم من الهدى والحق، وإيضاعهم إلى العمى والجهل. وإنما هم أهل دنياً مقبلون عليها ومهطعون إليها، قد عرفوا العدل ورأوه وسمعوه ووعوه، وعلموا أن الناس عنده في الحق أسوة فهربوا إلى الأثرة! فبعداً لهم وسحقاً، إنهم والله لم ينفروا من جور ولم يلحقوا بعدل. وإنا لنطمع في هذا الأمر أن يذلل الله لنا صعبه ويسهل لنا حزنه، إنشاءالله). (نهج البلاغة:3/132).

وهذه إحدى ميزات أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه يعطي الحرية لمخالفيه، بعكس غيره.

طلبوا من عبدالله بن عمر أن يخرج معهم فأبى!

قال ابن الأعثم(2/452): (وأقبل طلحة والزبير إلى عبدالله بن عمر وهو يومئذ مقيم بمكة، فقالوا له: أبا عبد الرحمن! إن عائشة قد خافت في هذا الأمر وعزمت على المسير إلى البصرة، فاشخص معنا ولك بنا أسوة، فأنت أحق بهذا الأمر. قال:وكلمه الزبير وقال: أبا عبد الرحمن! لاتنظرن إلى أول أمرنا في عثمان وبيعتنا علياً ولكن انظر إلى آخر أمرنا، إننا ما نريد في مسيرنا هذا إلا علاج الأمة وقد خفَّت عائشة، وليست بك عنها رغبة.

قال: فقال عبدالله بن عمر: أيها الرجلان! أتريدان أن تخدعاني لتخرجاني من بيتي كما يخرج الأرنب من جحره، ثم تلقياني بين لحيي علي بن أبی طالب! مهلاً يا هذان، فإن الناس إنما يخدعون بالوصف والوصيفة والدينار والدرهم ولست من أولئك، إني قد تركت هذا الأمر عياناً وأنا أدعى إليه، فدعوني واطلبوا لأمركم غيري، قال فقال الزبير: يغني الله عنك).

ص: 23

ورواه ابن حبان في الثقات (2/279) وأبو حاتم في أخبار الخلفاء(2/532) وفيه: (فقال طلحة: ما لنا أمر أبلغ في استمالة الناس إلينا من شخوص ابن عمر معنا.

فأتاه طلحة فقال: يا أبا عبد الرحمن إن عائشة قصدت الإصلاح بين الناس، فاشخص معنا فإن لنا بك أسوة. فقال ابن عمر : أتخدعونني لتخرجوني كما تخرج

الأرنب من جحرها..الخ.).

أرادت حفصة أن تخرج معهم فمنعها أخوها

قال ابن حبان في ثقاته (2/280): (كلموا حفصة ابنة عمرأن تخرج معهم فقالت: رأيي تبعٌ لرأي عائشة، فأتاها عبدالله بن عمر فناشدها الله أن تخرج، فقعدت وبعثت إلى عائشة إن أخي حال بيني وبين الخروج. فقالت يغفرالله لابن عمر ). ونحوه تاريخ الطبري (3/470) ونهاية الإرب (20/26).

وصف أميرالمؤمنين (علیه السلام) لخروجهم عليه

قال (علیه السلام) (نهج البلاغة:2/85): (فخرجوا يجرون حرمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما تجر الأمة عند شرائها، متوجهين بها إلى البصرة، فحبسا نساءهما في بيوتهما، وأبرزا حبيس رسول الله (صلی الله علیه و آله) لهما ولغيرهما، في جيش ما منهم رجل إلا وقد أعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة طائعاً غير مكره، فقدموا على عاملي بها وخزان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها، فقتلوا طائفة صبراً وطائفة غدراً. فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلاً واحداً معتمدين لقتله بلا جرم جره، لحل لي قتل ذلك الجيش كله،

إذ حضروه فلم ينكروا ولم يدفعوا عنه بلسان ولا يد. دع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التي دخلوا بها عليهم)!

وفي شرح النهج (9/308):(فيقال:أيجوز قتل من لم ينكر المنكرمع تمكنه من إنكاره؟ والجواب أنه يجوز قتلهم، لأنهم اعتقدوا ذلك القتل مباحاً، فإنهم إذا اعتقدوا إباحته فقد اعتقدوا إباحة ما حرم الله، فيكون حالهم حال من اعتقد أن الزنا مباح، أو أن شرب الخمر مباح. وقال القطب الراوندي: يريد أنهم داخلون في عموم قوله

ص: 24

تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا.

ولقائل أن يقول: فهو عَلَّلَ استحلاله قتلهم بأنهم لم ينكروا المنكر، ولم يعلل ذلك بعموم الآية. وأما معنى قوله: دع ما إنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التي دخلوا بها عليهم، فهو أنه لوكان المقتول واحداً لحل لي قتلهم كلهم، فكيف وقد قتلوا من المسلمين عدة مثل عدتهم التي دخلوا بها البصرة!

وصدق (علیه السلام) فإنهم قتلوا من أوليائه وخزان بيت المال بالبصرة خلقاً كثيراً، بعضهم غدراً، وبعضهم صبراً).

صراع طلحة والزبير وعائشة على الخلافة!

1. لما دعوا عبدالله بن عمر ليخرج معهم على علي (علیه السلام) لم يقبل لأنه عرف أنهم يريدونه واجهة وأن مرشحهم غيره! أما الزبيرفيرى أنه صهر أبي بكر، وأنه أكبر سناً من طلحة، وأشجع منه، وأكثر سابقة في حروب النبي (صلی الله علیه و آله) !

وأما عائشة فمرشحها ابن عمها طلحة،لأنه من عشيرتها تَيْم، وهي مُصِرَّةٌ على إعادة الخلافة الى تيم، الى طلحة ثم الى أخيها عبد الرحمن، فإن لم يمكن فلمحمد بن طلحة، أو لأخيه موسى، الذي ادعوا له أنه المهدي الموعود.

فإن لم يمكن فلابن أختها أسماء عبدالله بن الزبير! وكانت تحبه وتفضله على طلحة والزبير، لكن الخلافة عندها لبني تيم خاصة!

2. يدل كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) على أن تعيين الخليفة كان بيد عائشة، وأن طلحة والزبيركانا يأملان الخلافة لصلتهما بعائشة!

قال (علیه السلام) (الكافئة/19): (قد سارت عائشة وطلحة والزبيركل منهما يدعي الخلافة دون صاحبه! ولايدعي طلحة الخلافة إلا أنه ابن عم عائشة، ولا يدعيها الزبير إلا أنه صهر أبيها! والله لئن ظفرا بما يريدان، ليضربن الزبيرعنق طلحة، وليضربن طلحة عنق الزبير، ينازع هذا على الملك هذا!).

وقال أبو جعفر الإسكافي في المعيار والموازنة/56: (قوله: لئن ظفرا بالأمر يعني

ص: 25

الزبير وطلحة، ليضربن بعضهم بعضاً. وقد كان من تشاحهما على الصلاة وقتالهما عليها، ما يحقق قوله رضي الله عنه).

3. بلغ من جرأة عائشة أنها رفعت عشيرتها بني تيم وادعت لهم الوصية، فزعمت أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أوصى لأبي بكر وابنه عبد الرحمن! مع أن أبا بكر وعمر قالا إن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يوص الى أحد! لكن عائشة تصر على أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لها (البخاري:7/8 و:8/126):(لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت يأبى الله ويدفع المؤمنون).

وروى عنها مسلم (7/110) أنها قالت: (قال لي رسول الله في مرضه: أدعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر).

وقال ابن حجر(فتح الباري:1/186): (اختلف في المراد بالكتاب، فقيل كان أراد أن يكتب كتاباً ينص فيه على الأحكام ليرتفع الإختلاف. وقيل: بل أراد أن ينص على أسامي الخلفاء بعده حتى لايقع بينهم الإختلاف، قاله سفيان بن عيينة، ويؤيده أنه قال في أوائل مرضه وهو عند عائشة: أُدْعِي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر. أخرجه مسلم)!

وقال في فتح الباري (13/177): (قوله: فأعهد، أي أعين القائم بالأمر بعدي، هذا هو الذي فهمه البخاري فترجم به، وإن كان العهد أعم من ذلك، لكن وقع في رواية عروة عن عائشة بلفظ: أُدعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً.

وفي رواية للبزار: معاذ الله أن تختلف الناس على أبي بكر. فهذا يرشد إلى أن المراد الخلافة. وأفرط المهلب فقال: فيه دليل قاطع في خلافة أبي بكر! والعجب أنه قرر بعد ذلك أنه ثبت أن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يستخلف)!

أقول: لم يفرط المهلب في تفسير حديث عائشة بأن النبي (صلی الله علیه و آله) أوصى لأبي بكر وابنه بالخلافة، لكنه رأى أن ذلك كذب صريح، فتراجع ونفى الوصية!

ولئن كان النبي (صلی الله علیه و آله) نصَّ بالخلافة لأبي بكر وابنه، فقد خالفه أبو بكر وأخرجها من بنيه

ص: 26

وعشيرته، الى بني عدي! واضطرت عائشة يومها أن تسكت على مضض!

وإذا صح أن المؤمنين يأبوْنَ إلا أبا بكر، فالذين عارضوه وأدانوه يكونون غيرمؤمنين! وهم أكثر من سبعين صحابياً، فكيف عدوهم مؤمنين عدولاً!

وكيف يصدقون عائشة في زعمها هذا، ثم يصدقون أباها بأن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يوصِ! ثم يصدقون وصف عمر لبيعة أبي بكر بأنها فلتة وخطيئة، يجب قتل من عاد الى مثلها! لكنهم جماعة متناقضة الأقول والأفعال، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

وهل يفسرون العهد الذي أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يكتبه فمنعوه من كتابته، بأنه عهد بالخلافة لأبي بكر! ولو كان كذلك فلماذا منعوا النبي (صلی الله علیه و آله) من كتابته!

ولو كانت خلافة أبي بكرتعصم أمته من الضلال والضعف إلى يوم القيامة، فلماذا اختلفت الأمة وكفَّر بعضها بعضاً، وسفكت دماء مئات الألوف!

4. وتتعجب عندما ترى أن عامة علماء السلطة لم يكذبوا عائشة ولا خطؤوها، بل قبلوا منها النص على الخلافة لبني تيم! قال في إرشاد الساري بشرح البخاري (10/270): (فأعهد: أي أوصي بالخلافه لأبي بكر،كراهية أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون). وهكذا فسره بقية شراحهم، فمن هو الصادق عائشة، أم أبوها!

5. أما الأمويون فرأيهم أن ملك قريش لبني عبد مناف للأمويين أو الهاشميين!

قال الطبري (3/472): (لقي سعيد بن العاص مروان بن الحكم وأصحابه بذات عرق فقال: أين تذهبون وثأركم على أعجاز الإبل! أقتلوهم ثم ارجعوا إلى منازلكم لاتقتلوا أنفسكم. قالوا بل نسيرفلعلنا نقتل قتلة عثمان جميعاً! فخلا سعيد بطلحة والزبير فقال:إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر، أصدقاني؟قالا: لأحدنا أينا اختاره الناس. قال: بل اجعلوه لولد عثمان فإنكم خرجتم تطلبون بدمه. قالا: ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم [لأيتام]!قال: فلا أراني أسعى لأخرجها من بني عبد مناف.. فرجع ومضى القوم، معهم أبان بن عثمان والوليد بن عثمان، فاختلفوا في الطريق فقالوا: من ندعولهذا الأمر)!

ص: 27

وفي نهاية الأرب (20/26): (لما خرجت عائشة من مكة أذَّنَ مروان بن الحكم، ثم جاء حتى وقف على طلحة والزبير فقال:على أيكما أسلِّمُ بالإمرة وأؤذن بالصلاة؟ فقال عبدالله بن الزبير: على أبي عبدالله، يعني أباه. وقال محمد بن طلحة: على أبي محمد، يعني أباه. فأرسلت عائشة إلى مروان فقالت: أتريد أن تفرق أمرنا! ليصل بالناس ابن أختي تعني عبدالله بن الزبير. وقيل بل صلَّى بالناس عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد حتى قتل).

6. يتعجب الإنسان عندما يرى تحاسد طلحة والزبيروعائشة! فقد اختلف طلحة والزبيرعلى إمامة الصلاة وتدافعا بالأيدي عن المحراب أمام الناس حتى صاح الناس كادت الشمس تطلع وتفوت الصلاة! فأمرت عائشة ابن أختها بإمامتهم! ثم اختلفا وتدافعا على بيت مال البصرة، فأراد كل منهما أن يقفل بابه ويأخذ المفتاح،

وتدخلت عائشة فلم ينفع تدخلها، وأقفلوه بثلاثة أقفال، ثالثها لعبدالله بن الزبير نيابة عن عائشة!

وقد هددها الزبير بأن يتركها ويلتحق بمعاوية، إذا لم تؤمره عليهم! وذلك لما سيطروا على بيت المال فقال الزبير للناس: إمضوا فخذوا أعطياتكم، فلما رجع إلى منزله قال له ابنه عبدالله: أمرت الناس أن يأخذوا أعطياتهم ليتفرقوا بالمال قبل أن يأتي علي بن أبی طالب فتضعف، بئس الرأي الذي رأيت! فقال له الزبير: أسكت ويلك ما كان غير الذي قلت! فقال طلحة: صدق عبدالله وما ينبغي أن يسلم هذا المال حتى يقرب منا علي فنضعه في موضعه فيمن يدفعه عنا، فغضب الزبير وقال: والله لو لم يبق إلا درهم واحد لأعطيته، فلامته عائشة على ذلك ووافق رأيها برأي الرجلين فقال الزبير: والله لتَدَعُوني أو ألحق بمعاوية، فقد بايع لي في الشام الناس. فأمسكوا عنه)! (الجمل للمفيد/155).

7. أرسل معاوية الى الزبير يدعوه للحضور الى الشام! يريد أن يغريه بحرب علي (علیه السلام) ، ثم إذا حضر الى الشام استفاد منه وقتله، وأعلن نفسه خليفة بعده!

قال في شرح النهج (1/230): (بعث رجلاً من بنى عميس وكتب معه كتاباً إلى

ص: 28

الزبير بن العوام وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبدالله الزبيرأميرالمؤمنين من معاوية بن أبی سفیان: سلام عليك، أما بعد، فإني قد بايعت لك أهل الشام، فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الجلب، فدونك الكوفة والبصرة لايسبقك إليها ابن أبی طالب، فإنه لا شئ بعد هذين المصرين، وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك، فأظهرا الطلب بدم عثمان، وادعوا الناس إلى ذلك، وليكن منكما الجد والتشمير أظفركما الله وخذل مناوئكما! فلما وصل هذا الكتاب إلى الزبير سُرَّ به، وأعلم به طلحة وأقرأه إياه، فلم يشكا في النصح لهما من قبل معاوية، وأجمعا عند ذلك على خلاف علي (علیه السلام) )!

وروى نحوه في البدء والتاريخ (5/211)وقال الطبري في كامل البهائي(2/215): (ولكن عائشة قالت: لو كان كتب إلى طلحة). وهذا يكشف عن عملها لبني تيم!

وقال البلاذري (2/257): (كتب معاوية إلى الزبير: أن أقبل إلي أبايعك ومن يحضرني. فكتم ذلك عن طلحة وعائشة، ثم بلغها فكبر ذلك عليها، وأخبرت عائشة به ابن الزبير فقال لأبيه: أتريد أن تلحق بمعاوية؟فقال:نعم، ولم لا أفعل وابن - (طلحة) ينازعني في الأمر! ثم بدا له في ذلك، وأحسبه كان حلف ليفعلن فدعا غلاماً له فأعتقه، وعاد إلى الحرب)!

ولم يرجع عن تهديده لهم حتى بايعوه، لكنهم بايعوه أميراً للجند، فقد كتبت عائشة الى أهل المدينة: (فإن الله قد جمع كلمة أهل البصرة وأمَّروا عليهمالزبير بن العوام فهو أميرالجنود، والكافة يجتمعون على السمع والطاعة له، فإذا اجتمعت كلمة المؤمنين على أمرائهم عن ملأ منهم وتشاور، فإنا ندخل في صالح ما دخلوا فيه فإذا جاءكم كتابي هذا فاسمعوا وأطيعوا). (الجمل للمفيد/160).

وروى البلاذري قول عائشة(2/229و262): (لا تبايعوا الزبير على الخلافة، ولكن على الإمرة في القتال، فإن ظفرتم رأيتم رأيكم! فقال عبدالله بن الزبير: إنما تريد هذه أن تجعل حارَّ أمر الناس بك وبارده لابن عمها. قال:ثم كانت تقول: ما أنا وطلحة والزبير وبيعة من بويع وحرب من حورب، يا ليتني قَرَرْتُ في بيتي،

ص: 29

ولكنها بلية جاءت بمقدار »! وهذا يدل على حدة صراعهما.

وروي أن عائشة بايعت بعده طلحة أميراً أيضاً، ولا بد أن طلحة اعترض وغضب، فبايعته أميراً الى جنب الزبير! قال البلاذري (2/227):(فتدافع طلحة والزبير الصلاة، وكانا بويعا أميرين غير خليفتين).

8. قال أبو الأسود الدؤلي: (ولما خرج عثمان بن حنيف من البصرة وعاد طلحة والزبير إلى بيت المال فتأملا إلى ما فيه من الذهب والفضة قالوا: هذه الغنائم التي وعدنا الله بها وأخبرنا أنه يعجلها لنا. قال أبو الأسود الدؤلي: وقد سمعت هذا منهما! ورأيت علياً بعد ذلك وقد دخل بيت مال البصرة، فلما رأى ما فيه قال: يا صفراء يا بيضاء غُري غيري، المال يعسوب الظلمة وأنا يعسوب المؤمنين فلا والله ما التفت إلى ما فيه، ولا فكر فيما رآه منه وما وجدته عنده إلا كالتراب هواناً! فتعجبت من القوم ومنه (علیه السلام) فقلت: أولئك ممن يريد الدنيا، وهذا ممن يريد الآخرة! وقويت بصيرتي فيه). (الجمل للمفيد/154).

تشاوروا هل يخرجون عليه في المدينة أو البصرة أوالشام

تجمعوا في مكة: عائشة، وطلحة، والزبير، وابنه عبدالله، ومروان، والوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص، وعبدالله بن كريز، ويعلى بن منية، والمغيرة بن شعبة، وآل أبي معيط، وغيرهم.وتشاوروا من أين يبدؤون الثورة على علي (علیه السلام) ؟

قال ابن قتيبة في المعارف/208:(فلما تتامُّوا بمكة تشاوروا فيما يريدون من الطلب بدم عثمان، وهمُّوا بالشام لمكان معاوية بها، فصرفهم عبدالله بن عامر عن ذلك إلى البصرة، فتوجهوا إليها فأخذوا عثمان بن حنيف عامل علي بها فحبسوه، وقتلوا خمسين رجلاً كانوا معه على بيت المال، وغير ذلك من أعمالهم).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) :(وقادهما عبدالله بن عامر إلى البصرة وضمن لهما الأموال والرجال، فبيناهما يقودانها إذ هي تقودهما، فاتخذاها فئة يقاتلان دونها).

وكان أصغرهم عبدالله بن كريز، ابن خال عثمان، ولاه البصرة وعمره 25سنة! (الطبري:3/319) ثم عزله علي (علیه السلام) ، ثم ولاه معاوية وكان يفتخر به.(الطبقات:5/48).

ص: 30

وقال المسعودي في مروج الذهب (2/357): (دخل طلحة والزبيرمكة، وقد كانا استأذنا عليّاً في العمرة فقال لهما: لعلكما تريدان البصرة أو الشام، فأقسما أنهما لا يقصدان غير مكة، وقد كانت عائشة بمكة، وقد كان عبدالله بن عامر عامل عثمان على البصرة، هرب عنها حين أخذ البيعة لعلي بها على الناس حارثة بن قدامة السعدي، ومسير عثمان بن حنيف الأنصاري إليها على خراجها من قبل علي رضي الله عنه! وانصرف عن اليمن عامل عثمان وهو يعلى بن منية، فأتى مكة وصادف بها عائشة وطلحة والزبير ومروان بن الحكم في آخرين من بني أمية، فكان ممن حَرَّض على الطلب بدم عثمان، وأعطى عائشة وطلحة والزبير أربع مائة ألف درهم وكُرَاعاً وسلاحاً، وبعث الى عائشة بالجمل المسمى عسكراً وكان شراؤه عليه باليمن مائتي دينار، فأرادوا الشام فصدهم ابن عامر وقال: إن به معاوية ولا ينقاد إليكم ولايطيعكم، لكن هذه البصرة لي بها صنائع وعدد فجهزهم بألف ألف درهم ومائة من الإبل، وغير ذلك. وسار القوم نحو البصرة في ست مائة راكب).

 

وفي خصائص الأئمة للشريف الرضي/61: (لما قدم عبدالله بن عامر بن كريز المدينة لقي طلحة والزبيرفقال لهما: بايعتما علي بن أبی طالب! أما والله لا يزال يُنتظر بها الحبالى من بني هاشم، فمتى تصير إليكما! أما والله ما جئت حتى ضربت على أيدي أربعة آلاف من أهل البصرة كلهم يطلبون بدم عثمان، فدونكما فاستقيلا أمركما. فأتَيَا علياً فقالا له: إئذن لنا في العمرة، فقال: والله إنكما تريدان العمرة وما تريدان نكثاً ولا فراقاً لأمتكما، وعليكما بذلك أشد ما أخذ الله على النبيين من ميثاق؟ قالا: اللهم نعم.قال: اللهم اشهد، إذهبا وانطلقا، والله لا أراكما إلا في فئة تقاتلني)!

ومعنى قول ابن كريز لاتخرج الخلافة من بني هاشم، أنها تكون في ذرية علي (علیه السلام) !

 

ص: 31

وقال ابن الأعثم (2/451): (فخرج الزبير وطلحة إلى مكة، وخرج معهما عبدالله بن عامر بن كريز وهو ابن خال عثمان، فجعل يقول لهما: أبشرا فقد نلتما حاجتكما، والله لأمدنكما بمائة ألف سيف. قال: وقدموا مكة وبها يومئذ عائشة وحرضوها على الطلب بدم عثمان، وكان معها جماعة من بني أمية، فلما علمت بقدوم طلحة والزبير فرحت بذلك واستبشرت وعزمت على ما أرادت من أمرها. قال: وتكلمت بنو أمية ورفعت رؤوسها عند قدوم طلحة والزبيرعلى عائشة، ولم يزالوا يحرضوها على الطلب بدم عثمان، قال: وكتب الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى من كان بالمدينة من بني هاشم أبياتاً مطلعها:

بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم *** ولا تنهبوه لا تحل مناهبه

قال: فأجابه الفضل بن العباس يقول أبياتاً مطلعها:

سلوا أهل مصرعن سلاح ابن أختكم *** فهم سلبوه سيفه وحرائبه

قال: وقدم يعلى بن منية من اليمن، وقد كان عاملاً عليها من قبل، فقدم ومعه أربع مائة بعير، فدعا الناس إلى الحملان، فقال له الزبير: دعنا من إبلك هذه، هات فأقرضنا مما لك ما نستعين به على ما نريد، فأقرضهم ستين ألف دينار، ففرقها الزبير فيمن أحب ممن خف معه، قال: ثم شاوروا في المسيرفقال الزبير: عليكم بالشام! فيها الرجال والأموال وبها معاوية وهو عدو لعلي، فقال الوليد بن عقبة: لا والله ما في أيديكم من الشام قليل ولا كثير! وذلك أن عثمان بن عفان قد كان استعان بمعاوية لينصره وقد حوصر فلم يفعل وتربص حتى قتل، لذلك يتخلص له الشام أفتطمع أن يسلمها إليكم؟ مهلاً عن ذكر الشام وعليكم بغيرها، ثم اعتزلهم الوليد بن عقبة وأنشأ يقول أبياتاً مطلعها:

قولا لطلحة والزبير خطئتما *** بقتلكما عثمان خير قتيل

قال: واتصل الخبر بمعاوية أن طلحة والزبيروعائشة قد تحالفوا على علي رضي الله عنه، وقد اجتمع إليه جماعة من الناس وأنهم يريدون الشام، فكأنه اغتم بذلك، ثم كتب إليهم أبياتاً لا عن لسانه ولا عن لسان غيره، مطلعها:

ص: 32

قل للزبير على ما كان من عَنَدٍ *** والمرءِ طلحةَ قولاً غير ذي أود

قال: فلما وردت الأبيات على طلحة والزبير ونظرا فيها قال الزبير: والله ما هذا إلا من قول معاوية، ولكنه جعله على لسان غيره).

أقول: موقف معاوية منسجم مع موقف بني أمية بأن الخلافة لهم أو لبني هاشم، ولا تحق لطلحة من بني تيم، ولا للزبير من بني أسد عبد العزى.

لهذا قررت عائشة أن تقصد البصرة، وقالت لأم سلمة:(إن ابني وابن أخي أخبراني أن الرجل قتل مظلوماً، وأن بالبصرة مائة ألف سيف يطيعون، فهل لك أن أخرج أنا وأنت لعل الله أن يصلح بين فئتين متشاجرتين؟ فقالت: يا بنت أبي بكر، أبدم عثمان تطلبين؟ فلقد كنت أشد الناس عليه)! (الإختصاص/166).

 

وفي الطبري (3/471): (فاجتمعوا في بيت عائشة فأداروا الرأي فقالوا: نسير إلى علي فنقاتله، فقال بعضهم:ليس لكم طاقة بأهل المدينة، ولكنا نسيرحتى ندخل البصرة والكوفة ولطلحة بالكوفة شيعة وهوى وللزبير بالبصرة هوى ومعونة، فاجتمع رأيهم على أن يسيروا إلى البصرة وإلى الكوفة، فأعطاهم عبدالله بن عامر مالاً كثيراً وإبلاً، فخرجوا في سبع مائة رجل من أهل المدينة ومكة، ولحقهم الناس حتى كانوا ثلاثة آلاف رجل).

أعلن حذيفة تحذير النبي (صلی الله علیه و آله) لأمته من عائشة

روى الحاكم (4/471):(عن خيثمة بن عبد الرحمن قال: كنا عند حذيفة رضي الله عنه فقال بعضنا: حدثنا يا با عبدالله ما سمعت من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟

قال: لو فعلت لرجمتموني! قال قلنا: سبحان الله، أنحن نفعل ذلك! قال: أرأيتكم لو حدثتكم أن بعض أمهاتكم تأتيكم في كتيبة كثيرعددها شديد بأسها صدقتم به؟ قالوا: سبحان الله ومن يصدق بهذا! ثم قال حذيفة: أتتكم الحميراء في كتيبة يسوقها أعلاجها، حيث تسوء وجوهكم، ثم قام فدخل مخدعاً! هذا

ص: 33

حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)!

أقول: لم يخرجه البخاري ومسلم لأنهما ينتقيان من سنة النبي (صلی الله علیه و آله) ما يوافق السلطان، وهذا حديث يخرج عائشة من ملة النبي (صلی الله علیه و آله) ! وقد تجرأ الحاكم ورواه!

وفي أمالي المفيد/58: (حدثنا الأعمش، عن حبة العرني قال: سمعت حذيفة بن اليمان قبل أن يقتل عثمان بن عفان بسنة وهو يقول: كأني بأمكم الحميراء قد سارت، يساق بها على جمل وأنتم آخذون بالشوى والذنب، معها الأزد أدخلهم الله النار، وأنصارها بنوضبة جذ الله أقدامهم.

قال: فلما كان يوم الجمل وبرز الناس بعضهم لبعض نادى منادي أميرالمؤمنين صلوات الله عليه: لايبدأن أحد منكم بقتال حتى آمركم. قال: فرموا فينا فقلنا يا أمير المؤمنين قد رُمينا، فقال: كفوا، ثم رمونا فقتلوا منا، قلنا يا أمير المؤمنين قد قتلونا، فقال: إحملوا على بركة الله.قال فحملنا عليهم فأنشب بعضنا في بعض الرماح حتى لو مشى ماش لمشى عليها، ثم نادى منادي علي: عليكم بالسيوف فجعلنا نضرب بها البيض فتنبو لنا، فنادى منادي أمير المؤمنين (علیه السلام) : عليكم بالأقدام. قال: فما رأينا يوماً كان أكثر قطع أقدام منه. قال: فذكرت حديث حذيفة: أنصارها بنو ضبة جذَّ الله أقدامهم، فعلمت أنها دعوة مستجابة).

أم سلمة رضي الله عنها تقيم الحجة على عائشة

1. كان موقف أم سلمة رضي الله عنها مع عائشة موقفاً تاريخياً، فقد نصحتها وحذرتها، وحاولت أن تثنيها عن السفر الى البصرة، فلم ينفع معها.

قال الشريف المرتضى في رسائله (4/66): (ومن الأخبار الطريفة ما رواه نصر بن مزاحم.. عن عبد الرحمن بن مسعود العبدي قال: كنت بمكة مع عبدالله بن الزبير وبها طلحة والزبير. قال: فأرسلا إلى عبدالله بن الزبيرفأتاهما وأنا معه فقالا له: إن عثمان قتل مظلوماً وإنا نخاف الإنتشار في أمة محمد (صلی الله علیه و آله) ، فإن رأت عائشة أن تخرج معنا، لعل الله يرتق بها فتقاً ويشعب بها صدعاً.

ص: 34

قال: فخرجنا نمشي حتى انتهينا إليها فدخل عبدالله بن الزبير في سمرها وجلست على الباب، فأبلغها ما أرسلا به إليها فقالت: سبحان الله، ما أمرت بالخروج وما تحضرني امرأة من أمهات المؤمنين إلا أم سلمة، فإن خرجت خرجت معها! فرجع إليهما فأبلغهما ذلك فقال: إرجع إليها فلتأتها فإنها أثقل عليها منا، فرجع إليها فبلغها فأقبلت حتى دخلت على أم سلمة فقالت أم سلمة: مرحباً بعائشة، والله ما كنت لي بزوارة فما بدا لك؟ قالت: قدم طلحة والزبير فخبرا أن أميرالمؤمنين عثمان قتل مظلوماً! قال: فصرخت أم سلمة صرخة أسمعت من في الدار فقالت: يا عائشة أنت بالأمس تشهدين عليه بالكفر، وهو اليوم أمير المؤمنين قتل مظلوماً، فما تريدين!

قالت: تخرجين معي فلعل الله أن يصلح بخروجنا أمر أمة محمد (صلی الله علیه و آله)

فقالت: يا عائشة أخرج وقد سمعت من رسول الله ما سمعت!

نشدتك بالله يا عائشة: الذي يعلم صدقك إن صدقت، أتذكرين يومك من رسول الله فصنعت حريرة في بيتي، فأتيته بها وهو يقول: والله لا تذهب الليالي والأيام حتى تتنابح كلاب ماء بالعراق يقال له الحوأب امرأة من نسائي في فتية باغية، فسقط الإناء من يدي، فرفع رأسه إلي فقال: ما بالك يا أم سلمة؟ قلت: يا رسول الله ألايسقط الإناء من يدي وأنت تقول ما تقول، ما يؤمنني أن أكون أنا هي! فضحكت أنت فالتفت إليك فقال: ما يضحكك يا حمراء الساقين، إني لأحسبك هي!

ونشدتك بالله يا عائشة: أتذكرين ليلة أسرى بنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) من مكان كذا وكذا، وهو بيني وبين علي بن أبی طالب يحدثنا، فأدخلت جملك فحال بينه وبين علي، فرفع مرفقة كانت معه فضرب بها وجه جملك وقال: أما والله ما يومك منه بواحد، ولا بليته منك بواحدة، أما إنه لايبغضه إلا منافق أو كذاب!

وأنشدك الله يا عائشة: أتذكرين مرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي قبض فيه فأتاك أبوك يعوده ومعه عمر، وقد كان علي بن أبی طالب يتعاهد ثوب رسول الله ونعله

ص: 35

وخفه ويصلح ماوهَى منها، فدخل قبل ذلك فأخذ نعل رسول الله وهي حضرمية، وهو يخصفها خلف البيت، فاستأذنا عليه فأذن لهما فقالا: يا رسول الله كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أحمد الله تعالى. قالا: ما بد من الموت؟ قال: لا بد منه. قالا: يا رسول الله فهل استخلفت أحداً؟ فقال: ما خليفتي فيكم إلا خاصف النعل، فخرجا فمرا على علي وهو يخصف النعل!

كل ذلك تعرفينه يا عائشة وتشهدين عليه، لأنك سمعته من رسول الله (صلی الله علیه و آله) !

ثم قالت أم سلمة: يا عائشة أنا أخرج على علي بعد هذا الذي سمعته من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فرجعت عائشة إلى منزلها فقالت: يا ابن الزبير أبلغهما أني لست بخارجة بعد الذي سمعته من أم سلمة، فرجع فبلغهما. قال: فما انتصف الليل حتى سمعنا رُغاء إبلها ترتحل، فارتحلت معهما ».

وأضاف المرتضى (قدس سره) : «ومن العجائب أن يكون مثل هذا الخبر الذي يتضمن النص بالخلافة وكل فضيلة غريبة، موجوداً في كتب المخالفين وفيما يصححونه من روايتهم ويصنفونه من سيرتهم ولا يتبعونه! لكن القوم رووا ما سمعوا وأودعوا كتبهم ما حفظوا ونقلوا، ولم يتخيروا ويتبينوا ما وافق مذهبهم وما خالفهم (أحياناً). وهكذا يفعل المسترسل المستسلم للحق »! (ورواه في شرح النهج:2 /78، والعقد الفريد:3 / 96، والبدء والتاريخ:2/109، والفائق:1/190».

 

2. ورواه المفيد في الإختصاص/116، بتفصيل، فقال:(حدثنا أحمد بن يحيى النحوي أبوالعباس ثعلب..عن أبي كيسة ويزيد بن رومان قالا: لما أجمعت عائشة على الخروج إلى البصرة أتت أم سلمة رضي الله عنها وكانت بمكة فقالت: يا بنت أبي أمية كنت كبيرة أمهات المؤمنين، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقمؤ (يجلس) في بيتك، وكان يقسم لنا في بيتك، وكان ينزل الوحي في بيتك.

فقالت لها: يا بنت أبي بكر لقد زرتني وما كنت زوارة، ولأمر ما تقولين هذه المقالة؟ قالت: إن ابني وابن أخي أخبراني أن الرجل قتل مظلوماً، وأن بالبصرة

ص: 36

مائة ألف سيف يطيعون، فهل لك أن أخرج أنا وأنت لعل الله أن يصلح بين فئتين متشاجرتين؟ فقالت: يا بنت أبي بكر، أبدم عثمان تطلبين؟ فلقد كنت أشد الناس عليه! وإن كنت لتدعينه بالتبري. أم أمر ابن أبی طالب تنقضين، فقد بايعه المهاجرون والأنصار! إنك سدة بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين أمته، وحجابةٌ مضروبة على حرمه، وقد جمع القرآن ذيلك فلا تبذخيه، وسكني عقيراك فلا تَضْحَيْ بها، اللهَ من وراء هذه الأمة، قد علم رسول الله (صلی الله علیه و آله) مكانك، ولو أراد أن يعهد إليك فعل، قد نهاك رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن الفراطة في البلاد، إن عمود الإسلام لا ترأبه النساء إن انثلم،ولايشعب بهن إن انصدع. حماديات النساء غَض الأطراف، وقِصَرالوهادة، وما كنت قائلةً لو أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) عرض لك ببعض الفلوات، وأنت ناصَّةٌ قلوصاً،

من منهل إلى آخر!

إن بعين الله مهواك وعلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) تردين، قد وجهت سدافته، وتركت عهيداه. أقسم بالله لو سرت مسيرك هذا ثم قيل لي: أدخلي الفردوس لاستحييت أن ألقى محمداً (صلی الله علیه و آله) هاتكة حجاباً قد ضربه عليَّ. إجعلي حصنك بيتك، وقاعة الستر قبرك، حتى تلقيه وأنت على ذلك أطوع.

ثم قالت: لو ذكرتك من رسول الله (صلی الله علیه و آله) خمساً في علي لنهشتني نهش الحية الرقشاء المطرَّقة ذات الحَبَب! أتذكرين إذ كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقرع بين نسائه إذا أراد سفراً فأقرع بينهن فخرج سهمي وسهمك، فبينا نحن معه وهو هابط من قُدَيْد ومعه علي (علیه السلام) يحدثه فذهبت لتهجمي عليه فقلت لك: رسول الله (صلی الله علیه و آله) معه ابن عمه ولعل له إليه حاجة، فعصيتني ورجعت باكية فسألتك فقلت بأنك هجمت عليهما فقلت له: يا علي إنما لي من رسول الله يوم من تسعة أيام وقد شغلته عني! فأخبرتني أنه قال لك: أتبغضينه؟ فما يبغضه أحد من أهلي ولامن أمتي إلا خرج من الإيمان! أتذكرين هذا يا عائشة؟ قالت: نعم.

ويوم أراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) سفراً وأنا أجشُّ له جَشيشاً (أدق له سويقاً) فقال:

ص: 37

ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تنبحها كلاب الحوأب! فرفعت يدي من الجشيش وقلت: أعوذ بالله أن أكونه، فقال: والله لابد لأحدكما أن تكونه، إتقي الله يا حميرا أن تكونيه! أتذكرين هذا يا عائشة؟ قالت: نعم.

ويوم تبذلنا لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فلبست ثيابي ولبست ثيابك، فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) فجلس إلى جنبك فقال: أتظنين يا حميرا أني لا أعرفك، أما إن لأمتي منك يوماً مراً، أو يوماً حمرا، أتذكرين هذا يا عائشة؟ قالت: نعم.

ويوم كنت أنا وأنت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فجاءك أبوك وصاحبه يستأذنان، فدخلت الخدر فقالا: يا رسول الله إنا لا ندري قدر مقامك فينا، فلو جعلت لنا إنساناً نأتيه بعدك. قال: أما إني أعرف مكانه وأعلم موضعه، ولوأخبرتكم به لتفرقتم عنه كما تفرقت بنوا إسرائيل عن عيسى بن مريم (علیه السلام) .

فلما خرجا خرجت إليه أنا وأنت وكنت جريئة عليه، فقلت له: من كنت جاعلاً لهم؟ فقال: خاصف النعل! وكان علي بن أبی طالب يصلح نعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا تخرقت ويغسل ثوبه إذا اتسخ، فقلتِ: ما أرى إلا علياً، فقال: هو ذاك.

أتذكرين هذا يا عائشة؟ قالت: نعم.

قالت: ويوم جمعنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) في بيت ميمونة فقال: يا نسائي إتقين الله ولا يسفر بكن أحد، أتذكرين هذا يا عائشة؟ قالت: نعم، ما أقبلني لوعظك وأسمعني لقولك، فإن أخرج ففي غير حرج، وإن أقعد ففي غير بأس!

وخرجت فخرج رسولها فنادى في الناس: من أراد أن يخرج فليخرج، فإن أم المؤمنين غير خارجة، فدخل عليها عبدالله بن الزبير فنفث في أذنها وقَلَبَهَا في الذروة، فخرج رسولها فنادى: من أراد أن يسير فليسر فإن أم المؤمنين خارجة، فلما كان من ندمها أنشأت أم سلمة تقول:

لو أن معتصماً من زلة أحد *** كانت لعائشة العتبى على الناس

كم سنة ل تاركة *** وتلو آي من القرآن مدراس

ص: 38

قد ينزع الله من ناس عقولهم *** حتى يكون الذي يقضي على الناس

فيرحم الله أم المؤمنين لقد *** كانت تبدل إيحاشاً بإيناس.

قال أبو العباس ثعلب: قوله: يقمؤ في بيتك: يعني يأكل ويشرب.

وقد جمع القرآن ذيلك فلا تبذخيه: البذخ: النفخ والرياء والكبر.

سكني عقيراك: مقامك، وبذلك سمي العقار لأنه أصل ثابت. وعقر الدار: أصلها. فلا تَضْحَيْ بها: قال الله عز وجل: وَأَنَّكَ لاتَظْمَؤُ فيهَا وَلَا تَضْحَى.لاتبرز للشمس، قال النبي (صلی الله علیه و آله) لرجل محرم: إضح لمن أحرمت له، أي أخرج إلى البراز والموضع الظاهرالمنكشف من الأغطية والسقوف.

الفراطة في البلاد: السعي والذهاب.لا ترأبه النساء: لا تضمه النساء.

حُمَادى النساء: ما يحمد منهن. غض بالأطراف لايبسطن أطرافهن في الكلام.

قِصَرالوِهَادة: جمع وَهْد ووِهاد، والوِهاد الموضع المنخفض.

ناصة قلوصاً: النص: السوق بالعنف ومن ذلك الحديث من رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه كان إذا وجد فجوة نص أي أسرع، ومن ذلك نص الحديث أي رفعه إلى أهله بسرعة. من منهل إلى آخرالمنهل: الذي يشرب فيه الماء. مهواك: الموضع الذي تهوين وتستقرين فيه، قال الله عز وجل: وَالنَّجْم إذَا هَوَى، أي نزل. سدافته من السدفة وهي شدة الظلمة. قاعة الستر قاعة الدار: صحنها. السدة: الباب).

وروى الصدوق بعض هذه المحاورة، في معاني الأخبار/375، وقال إنها رسالة من أم سلمة رضي الله عنها الى عائشة، ويبدو أنها كلمتها ثم كتبت لها، ثم قال الصدوق: (قولها رحمة الله عليها:إنك سدة بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) : أي إنك باب بينه وبين أمته في حريمه وحوزته، فاستبيح ما حماه، فلا تكوني أنت سبب ذلك بالخروج الذي لا يجب عليك لتحوجي الناس إلى أن يفعلوا مثل ذلك.

وقولها: فلا تبذخيه: أي لا تفتحيه فتوسعيه بالحركة والخروج، يقال: ندحت الشئ إذا وسعته، ومنه يقال: أنا في مندوحة عن كذا، أي في سعة.

ص: 39

وتريد بقولها: قد جمع القرآن ذيلك، قول الله عز وجل:وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الآولَى.

وقولها:وسكن عقيراك:من عقر الدار وهو أصلها وأهل الحجاز يضمون العين، وأهل نجد يفتحونها:فعقيرا إسم مبني من ذاك على التصغير، ومثله ماجاء مصغراً الثريا والحميا وهي سَوْرَة الشراب. ولم يسمع بعقيرا إلا في هذا الحديث.

وقولها: فلا تصحريها، أي لاتبرزيها وتباعديها وتجعليها بالصحراء،

يقال: أصحرنا، إذا أتينا الصحراء، كما يقال: أنجدنا، إذا أتينا نجداً.

وقولها: عِلْتُ، أي ملت إلى غير الحق، والعول الميل والجور، قال الله عز وجل: ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا. يقال: عال يعول، إذا جاز.

وقولها: بل قد نهاك عن الفُراطة في البلاد، أي عن التقدم والسبق في البلاد لأن الفُرطة إسم في الخروج والتقدم مثل غُرفة وغَرفة، يقال: في فلان فُرْطة، أي تقدم وسبق، يقال: فَرَطْته في المال أي سبقته. وقولها: إن عمود الإسلام لن يثاب بالنساء إن مال. أي لايرد بهن إلى استوائه، ثُبْتُ إلى كذا، أي عُدت إليه.

وقولها: لن يُرأب بهن إن صدع، أي لايسد بهن يقال: رأبت الصدع ولأمته فانضم. وقولها: حماديات النساء: هي جمع حمادي، ويقال: قصاراك أن تفعل ذلك وحماداك، كأنها تقول: حمدك وغايتك. وقولها: غض الأطراف، معروف.

وقولها:وخفر الأعراض، الأعراض جماعة العرض وهو الجسد، والخفْر: الحياء، أرادات أن محمدة النساء في غض الأبصار وفي التستر، للخفر

الذي هو الحياء.

وقِصَرالوهازة: وهو الخطو، تعني بها أن تقل خطوهن.

وقولها: ناصَّةً قلوصاً من منهل إلى آخر، أي رافعة لها في السير، والنص: سير مرفوع، ومنه يقال: نصصت الحديث إلى فلان إذا رفعته إليه، ومنه الحديث: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يسير العَنَق، فإذا وجد فجوة نَصَّ، تعني زاد في السير. وقولها إن بعين الله مهواك: تعني مرادك لا يخفى عليه.

ص: 40

وقولها: وعلى رسول الله تردين فتخجلي من فعلك وقد وجهت سدافته، أي هتكت الستر، لأن السدافة الحجاب، والستر هو إسم مبني من أسدف الليل إذا ستر بظلمته، ويجوز أن تكون أرادت: وجهت سدافته، تعني: أزلتِها من مكانها الذي أُمرت أن تلزميه، وجعلتِها أمامك.

وقولها: وتركت عهيداه: تعني بالعهيدة التي تعاهده ويعاهدك، ويدل على ذلك قولها: لو قيل لي أدخلي الفردوس لاستحييت أن ألقى رسول الله (صلی الله علیه و آله) هاتكة حجاباً قد ضربه عليَّ. وقولها: إجعلي حصنك بيتك ووقاعة الستر قبرك، فالربع المنزل، والرباعة الستر ما وراء الستر، تعني: إجعلي ما وراء الستر من المنزل قبرك. ومعنى ما يروى: ووقاعة الستر قبرك، هكذا رواه القتيبي وذكرأن معناه ووقاعة الستر موقعة من الأرض إذا أرسلت. وفي رواية القتيبي: لو ذكرت قولاً تعرفينه نهشتني نهش الرقشاء المطرق. فذكر أن الرقشاء سميت بذلك للرقش في ظهرها وهي النقط، وقال غير القتيبي: الرقشاء من الأفاعي التي في لونها سواد وكدورة. قال: والمطرق: المسترخي جفون العين).

أقول: نلاحظ أن الصدوق (قدس سره) أدق في تفسير مفرداتها من ثعلب اللغوي، ويظهر ذلك من تفسيره السدافة، وتصحيحه الوهادة بالوهازة وهي الخَطْوُ.

كما تعجبك العقلانية العالية في منطق أم سلمة رضي الله عنها وقوة حجتها على عائشة وتتعجب من ضعف حجة عائشة، وتبريرها هواها في الخروج على الخليفة الشرعي!

 

3. ورواه ابن أعثم في الفتوح (2/454) وفيه أن عائشة قالت لها:«فهل لك أن تسيري بنا إلى البصرة لعل الله تبارك وتعالى أن يصلح هذا الأمرعلى أيدينا؟ فقالت لها أم سلمة: يا بنت أبي بكر، بدم عثمان تطلبين! والله لقد كنت من أشد الناس عليه وما كنت تسميه إلا نعثلاً، فما لك ودم عثمان، وعثمان رجل من عبد مناف، وأنت امرأة من بني تيم بن مرة!ويحك يا عائشة، أعلى علي وابن عم رسول الله (صلی الله علیه و آله) تخرجين! وقد بايعه المهاجرون والأنصار!

ص: 41

ثم جعلت أم سلمة تذكر عائشة فضائل علي (علیه السلام) ، وعبدالله بن الزبير على الباب يسمع ذلك كله فصاح بأم سلمة وقال: يا بنت أبي أمية إننا قد عرفنا عداوتك لآل الزبير! فقالت أم سلمة:والله لتوردُنَّها ثم لاتصدرُنَّها أنت ولا أبوك! أتطمع أن يرضى المهاجرون والأنصار بأبيك الزبير وصاحبه طلحة، وعلي بن أبی طالب حي، وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة؟! فقال عبدالله بن الزبير:ما سمعنا هذا من رسول الله ساعة قط! فقالت أم سلمة: إن لم تكن أنت سمعته فقد سمعته خالتك عائشة وها هي فاسألها! فقد سمعته يقول: علي خليفتي عليكم في حياتي ومماتي فمن عصاه فقد عصاني! أتشهدين يا عائشة بهذا أم لا؟ فقالت عائشة: اللهم نعم! قالت أم سلمة: فاتقي الله يا عائشة في نفسك واحذري ما حذرك الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ولا تكوني صاحبة كلاب الحوأب، ولا يغرنك الزبير وطلحة، فإنهما لا يغنيان عنك من الله شيئاً!

قال: فخرجت عائشة من عند أم سلمة وهي حنقة عليها، ثم إنها بعثت إلى حفصة فسألتها أن تخرج معها إلى البصرة، فأجابتها حفصة إلى ذلك. قال: فعند ذلك أذن مؤذن طلحة والزبير بالمسير إلى البصرة، فسار الناس في التعبية والآلة والسلاح، وسارت معهم عائشة وهي تقول: اللهم إني لا أريد إلا الإصلاح بين المسلمين، فأصلح بيننا إنك على كل شئ قدير!

وكتبت أم سلمة إلى علي بن أبی طالب: لعبدالله علي أمير المؤمنين، من أم سلمة بنت أبي أمية، سلام عليك ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فإن طلحة والزبير وعائشة وبنيها بني السوء وشيعة الضلال، خرجوا مع ابن الجزار عبدالله بن عامر إلى البصرة، يزعمون أن عثمان بن عفان قتل مظلوماً وأنهم يطلبون بدمه! والله كافيكم، وجاعل دائرة السوء عليهم، إنشاءالله تعالى.

وتالله لولا ما نهى الله عز وجل عنه من خروج النساء من بيوتهن، وما أوصى به رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند وفاته، لشخصت معك، ولكن قد بعثت إليك بأحب الناس إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وإليك ابني عمر بن أبي سلمة. والسلام.

فلما سمع علي ذلك دعا محمد بن أبي بكر وقال له: ألا ترى إلى أختك عائشة كيف

ص: 42

خرجت من بيتها الذي أمرها الله عز وجل أن تقر فيه، وأخرجت معها طلحة والزبير يريدان البصرة، لشقاقي وفراقي!

فقال له محمد: يا أمير المؤمنين لا عليك، فإن الله معك ولن يخذلك، والناس بعد ذلك ناصروك، والله تبارك وتعالى كافيك أمرهم إنشاءالله).

أقول: من المؤكد أن النبي (صلی الله علیه و آله) وعلياً (علیه السلام) يحبان عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه، لكن غيره أحب اليهما منه. وأم سلمة الجليلة صادقة وفصيحة، فكلامها يدل على أن أفعل التفضيل نسبي وليس مطلقاً، أي أحب الناس اليهما من نوعه.

 

4. ولما أصرَّت عائشة على الفتنة، آلت أم سلمة على نفسها أن لا تكلمها كل عمرها! ففي محاسن البيهقي/181، وطبعة/221، ومواقف الشيعة (1/93): «دخَلت على أم سلمة بعد رجوعها من وقعة الجمل، وقد كانت أم سلمة حلفت أن لا تكلمها أبداً، من أجل مسيرها إلى محاربة علي بن أبی طالب (علیه السلام) ، فقالت عائشة: السلام عليك يا أم المؤمنين، فقالت: يا حائط! ألم أنهك، ألم أقل لك؟ قالت عائشة: فإني أستغفرالله وأتوب إليه، كلميني يا أم المؤمنين! قالت: يا حائط! ألم أقل لك ألم أنهك؟ فلم تكلمها حتى ماتت! وقامت عائشة وهي تبكي وتقول: وا أسفاه على ما فرط مني). راجع سيرة أم سلمة في السيرة النبوية عند أهل البيت (علیهم السلام) .

رسائل عائشة وطلحة والزبيرالى زعماء المسلمين

1. تقدمت رسالة طلحة والزبير الى عائشة وهي في مكة، بأن تخذل الناس عن علي (علیه السلام) وتعلن الطلب بدم عثمان! وقول علي (علیه السلام) إن عائشة تحولت من مقودة الى قائدة، قال: فبينا هما يقودانها، إذ هي تقودهما!

2. نشطت عائشة في كتابة الرسائل قبل أن تتحرك من مكة، وعندما اقتربت من البصرة، ولما سيطرت على بيت مال البصرة، الى زعماء المسلمين والبلاد، فكتبت الى أهل المدينة تطمئنهم، والى أهل اليمامة تبشرهم، والى أهل الكوفة

ص: 43

تخذلهم عن علي (علیه السلام) ، والى حفصة تبشرها بقرب النصر، وكانت تكتب إسمها قبل إسم من ترسل اليه، بلقب عائشة بنت أبي بكر أم المؤمنين، وتصف نفسها بأنها حبيبة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فتمدح نفسها لتجمعَ حولها الأنصار!

3. كتبت إلى زيد بن صوحان من سادة عبد القيس في الكوفة (الكامل:2/32): «من عائشة أم المؤمنين، حبيبة رسول الله، إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان، أما بعد: إذا أتاك كتابي هذا فاقدم فانصرنا،فإن لم تفعل فخذِّل الناس عن عليِّ».

فأجابها كما في رواية الطبري (3/492): ( أما بعد: فأنا ابنك الخالص إن اعتزلت هذا الأمر، ورجعت إلى بيتك، وإلا فأنا أول من نابذك!

قال زيد بن صوحان: رحم الله أم المؤمنين، أمرت أن تلزم بيتها، وأمرنا أن نقاتل، فتركت ما أمرت به وأمرتنا به، وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه)!

وفي رواية شرح النهج (6/227): (وقد أتاني كتابك فأمرتني أن أصنع خلاف ما أمرني الله، فأكون قد صنعت ما أمرك الله به، وصنعت ما أمرني الله به، فأمرك عندي غير مطاع، وكتابك غير مجاب، والسلام).

4. وروى المفيد في الجمل/128، آخر رسائل أم سلمة اليها: (ثم أنفذت أم سلمة إلى عائشة فقالت لها: قد وعظتك فلم تتعظي، وقد كنت أعرف رأيك في عثمان وأنه لو طلب منك شربة ماء لمنعتيه، ثم أنت اليوم تقولين إنه قتل مظلوماً، وتريدين أن تثيري لقتال أوْلى الناس بهذا الأمر قديماً وحديثاً، فاتق الله حق تقاته ولا تَعَرَّضي لسخطه. فأرسلت إليها عائشة: أما ما كنت تعرفيه من رأيي في عثمان فقد كان، ولا أجد مخرجاً منه إلا الطلب بدمه.

وأما علي فإني آمره برد هذا الأمر شورى بين الناس، فإن فعل وإلا ضربت وجهه بالسيف، حتى يقضي الله ما هو قاض!

فأنفذت إليها أم سلمة: أما أنا فغير واعظة لك من بعد، ولامكلمة لك جهدي وطاقتي، والله إني لخائفة عليك البوار ثم النار، والله ليخيبن ظنك، ولينصرن الله ابن

ص: 44

أبی طالب على من بغى، وستعرفين عاقبة ما أقول. والسلام).

أقول: يظهر أن أم سلمة عندها خبر بانتصار علي (علیه السلام) على عائشة وجماعتها.

5. وكتبت إلى صعصعة، فأجابها: «من صعصعة بن صوحان صاحب رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى أم المؤمنين عائشة: أما بعد، فقد أتاني كتابك أيتها الأم، تأمريني فيه بما أمرك الله تعالى به من لزوم البيت وترك الجهاد لقوله تعالى:يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ.وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ.وتفعلين أنت بما أمرني به الله من الجهاد، وهذا عجيب،لأني لو قيل لي من أعقل الناس لما عدوتك، فاتقي الله أيتها الأم وارجعي إلى بيتك الذي أمرك رسول الله (صلی الله علیه و آله) بلزومه،فإني في إثركتابي هذا خارج إلى علي (علیه السلام) للبيعة التي في عنقي.والسلام على من اتبع الهدى».(العقد النضيد/136).

6. وأرسلت إلى الأحنف بن قيس أن يأتيها مرتين فأبى، تقول له: يا أحنف ما عذرك في ترك جهاد قتلة أمير المؤمنين، أمن قلَّة عدد، أو أنك لا تطاع في العشيرة! فكتب إليها: إنه والله ما طال العهد بي، ولا نسيت عهدي في العام الأول وأنت تحرضين على جهاده، وتذكرين أن جهاده أفضل من جهاد فارس والروم. وفي رواية:فقالت ويحك يا أحنف، إنهم مَاصُوه مَوْص الإناء (غسلوه) ثم قتلوه. فقال لها الأحنف: إن آخذ برأيك وأنت راضية، أحب إلي من أن آخذ به وأنت ساخطة)! (شرح الأخبار:1/381) أي أنت الآن ساخطة ورأيك عن غضب!

وفي النص والإجتهاد/439، عن محاسن البيهقي(1/35) عن الحسن البصري أن الأحنف قال لها:(يا أم المؤمنين هل عهد إليك رسول الله هذا المسير؟ قالت: اللهم لا. قال: فهل وجدته في شئ من كتاب الله جل ذكره. قالت: ما نقرأ إلا ما تقرأون. قال: فهل رأيت رسول الله استعان بشئ من نسائه إذا كان في قلة والمشركون في كثرة؟ قالت:اللهم لا. قال الأحنف: فإذاً ما هو ذنبنا؟!

وفي رواية: أعندك عهد منه (صلی الله علیه و آله) أنك معصومة من الخطأ؟ قالت:لا.

ص: 45

قال:  صدقت، إن الله رضي لك المدينة فأبيت إلا البصرة، وأمرك بلزوم بيت نبيه فنزلت بيت أحد بني ضبة! ألا تخبريني يا أم المؤمنين أللحرب قدمت أم للصلح؟ أجابت وهي متألمة: بل للصلح. فقال لها:والله لو قدمت وليس بينهم إلا الخفق بالنعال والرمي بالحصى، ما اصطلحوا على يديك، فكيف والسيوف على عواتقهم؟ فقالت: إلى الله أشكو عقوق أبنائي)!

وقال الطبري(3/479):(وكتبت عائشة إلى رجال من أهل البصرة، وكتبت إلى الأحنف بن قيس، وصبرة بن شيمان، وأمثالهم من الوجوه).

وفي الدر النظيم (1/339):(بعث طلحة والزبير إلى الأحنف بن قيس فأتاهما، فقالا له: إخلع علياً وبايعنا. فقال لهما:لا أخلع علياً ولا أبايعكما، ألم آتكما فسألتكما عن عثمان فزعمتما أن الله قتله بذنبه وأقاده بعمله، وسألتكما عن علي فقلتما: بايعه فإنه أحق الناس بها اليوم وفيما قبل اليوم، وأنا قد بايعته وبايعه المهاجرون والأنصار؟ قالا: بلى قد كان ذلك. قال: فما رد اللبن في الضرع)!

7. ومن رسائلها الى حفصة: ما رواه البكري في معجم ما استعجم (2/554): (كتبت عائشة إلى حفصة: إن ابن أبی طالب نزل الدقَاقَة، موضع بالبصرة، وبعث ربيبه ربيب السوء، إلى عبدالله بن قيس يستنفره، تعني محمداً أخاها).

وعبدالله بن قيس هو أبو موسى الأشعري، الذي كان والي الكوفة.

وما رواه المفيد في الكافئة/16:« لما بلغ عائشة نزول أمير المؤمنين (علیه السلام) بذي قار كتبت إلى حفصة بنت عمر: أما بعد، فإنا نزلنا البصرة ونزل علي بذي قار، والله داقٌّ عنقه كدق البيضة على الصفا، إنه بذي قار بمنزلة الأشقر، إن تقدم نحر وإن تأخر عقر! فلما وصل الكتاب إلى حفصة استبشرت بذلك، ودعت صبيان بني تيم وعدي، وأعطت جواريها دفوفاً، وأمرتهن أن يضربن  بالدفوف ويقلن: ما الخبر ما الخبر! [علي في السفر]! عليٌّ كالأشقر! إن تقدم نحر! وإن تأخر عقر! فبلغ أم سلمة اجتماع النسوة على ما اجتمعن عليه من سب أميرالمؤمنين والمسرة بالكتاب الوارد عليهن من عائشة، فبكت وقالت: أعطوني ثيابي حتى أخرج إليهن وأقع بهن!

ص: 46

فقالت أم كلثوم بنت أمير المؤمنين (علیه السلام) : أنا أنوب عنك فإنني أعرف منك، فلبست ثيابها وتنكرت وتخفرت واستصحبت جواريها متخفرات، وجاءت حتى دخلت عليهن كأنها من النظارة، فلما رأت ما هن فيه من العبث والسفه، كشفت نقابها وأبرزت لهن وجهها،ثم قالت لحفصة: إن تظاهرت أنت وأختك على أمير المؤمنين (علیه السلام) فقد تظاهرتما على أخيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) من قبل، فأنزل الله عز وجل فيكما ما أنزل! والله من وراء حربكما! فانكسرت حفصة وأظهرت خجلاً وقالت: إنهن فعلن هذا بجهل، وفرقتهن في الحال،

فانصرفن من المكان»!

أقول:لا بد أن حفصة تأسفت على تعبها في تلحين أغنيتها ضد علي (علیه السلام) ! وما أنفقته على فرقة الغناء من أطفال وجوار! وفي شرح النهج (14/13):

فقال سهل بن حنيف:

عذرنا الرجال بحرب الرجال *** فما للنساء وما للسباب

أما حسبنا ما أتينا به *** لك الخيرمن هتك ذاك الحجاب

ومخرجها اليوم من بيتها *** يعرفها الذنب نبح الكلاب

إلى أن أتانا كتاب لها *** مشومٌ فيا قبح ذاك الكتاب)

8. وكتبت عائشة الى صبرة بن شيمان رئيس الأزد، فاستجاب لها، قال الطبري (3/515): (جاءت عائشة من منزلها التي كانت فيه حتى نزلت في مسجد الحدان في الأزد، وكان القتال في ساحتهم، ورأس الأزد يومئذ صبرة بن شيمان. فنصحه كعب بن سور أن يكون على الحياد فقال:( أتأمرني أن أغيب عن إصلاح بين الناس، وأن أخذل أم المؤمنين وطلحة والزبير إن ردوا عليهم الصلح، وأدع الطلب بدم عثمان، لا والله لا أفعل ذلك أبداً! فأطبق أهل اليمن على الحضور). وقال الطبري(3/508):(وأقبل صبرة بن شيمان فقال:يا طلحة يا زبير انتهزا بنا هذا الرجل، فإن الرأي (أي الغدر) في الحرب خير من الشدة،

ص: 47

فقالا: يا صبرة إنا وهم مسلمون، وهذا أمرلم يكن قبل اليوم فينزل فيه قرآن، أو يكون فيه من رسول الله سنة، إنما هو حدث، وقد زعم قوم أنه لا ينبغي تحريكه اليوم وهم علي ومن معه، فقلنا نحن: لا ينبغي لنا أن نتركه اليوم، ولا نؤخره).

أقول: تدل الرواية التالية على أن نفوذ كعب بن سور في الأزد، كان بعد نفوذ صبرة بن شيمان، فلم يتحركوا حتى تحرك كعب.

9. قال ضامن بن شدقم/37:(رجال البصرة ثلاثة كلهم سيد مطاع: كعب بن سور في اليمن، والمنذر بن ربيعة، والأحنف بن قيس. فكتب طلحة والزبير إلى كعب بن سور:(أما بعد فإنك قاضي عمر بن الخطاب وشيخ أهل البصرة، وسيد أهل اليمن، وقد كنت غضبت لعثمان من الأذى، فاغضب له من القتل).

فأجابهما كعب: (فإن يك عثمان قتل ظالماً فما لكما وله؟وإن كان قتل مظلوماً فغيركما أولى به، وإن كان أمره أشكل على من شهده فهو على من غاب أشكل).

وكتبت عائشة الى كعب بن سور قاضي البصرة ورئيس قبيلة الأزد، فأجابها بأنه على الحياد، ولا يريد أن يدخل في الفتنة، فذهب اليه طلحة والزبيرفاعتذرعن استقبالهما. قال المفيد (رحمة الله) في كتاب الجمل/172: ( وتأخرعنهما الأزد لقعود كعب بن سور القاضي عنهما وكان سيد الأزد وأهل اليمن بالبصرة، فأنفذا إليه رسوليهما يسألانه النصرة لهما والقتال معهما فأبى عليهما، وقال أنا أعتزل الفريقين، فقالا: لئن قعد عنا كعب خذلنا الأزد بأسرها، ولاغنى لنا عنه، فصارا إليه واستأذنا عليه فلم يأذن لهما وحجبهما!

فصارا إلى عائشة فخبراها خبره، وسألاها أن تسير إليه فأبت وراسلته تدعوه إلى الحضور عندها، فاستعفاها من ذلك!

فقال طلحة والزبير: يا أم إن قعد عنا كعب قعدت عنا الأزد كلها، وهي حي البصرة، فاركبي إليه فإنك إن فعلت لم يخالفك وانقاد لرأيك، فركبت بغلاً وأحاط بها نفر من أهل البصرة، وصارت إلى كعب بن سور فاستأذنت عليه فأذن لها ورحب بها فقالت: يا بني أرسلت إليك لتنصرالله عز وجل، فما الذي أخرك عني؟ فقال: يا أماه، لاحاجة لي في خوض هذه الفتنة. فقالت: يا بني أخرج معي وخذ بخطام جملي، فإني

ص: 48

أرجو أن يقربك بي إلى الجنة واستعبرت باكية! فرق لها كعب بن سور وأجابها، وعلق المصحف في عنقه وخرج معها!

قال ابن حجر في الإصابة (5/481): (شهد كعب بن سور الجمل مع عائشة، فلما اجتمع الناس خرج وبيده مصحف، فنشره وجال بين الصفين يناشد الناس في ترك القتال، فأتاه سهم غرب فقتل).

وروى عبد الرزاق في المصنف (6/130)أن كعباً كان يذهب الى كنائس النصارى فيخلع لباسه ويلبس لباس قسيس ويُحلِّفهم في المذبح! قال: ( كان كعب بن سور يحلف أهل الكتاب، يضع على رأسه الإنجيل، ثم يأتي به إلى المذبح، فيُحَلِّفُ بالله)! فهو شيخ مسلم، وقسيس نصراني في نفس الوقت!

قال المفيد في الإرشاد (1/256): (ثم مشى أميرالمؤمنين (علیه السلام) قليلاً فمرَّ بكعب بن سور فقال: هذا الذي خرج علينا في عنقه المصحف، يزعم أنه ناصرأمه، يدعو الناس إلى ما فيه وهو لايعلم ما فيه، ثم استفتح وخاب كل جبار عنيد.

أما إنه دعا الله أن يقتلني فقتلة الله. أجلسوا كعب بن سور،فأجلس، فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : يا كعب، قد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً؟ ثم قال: أضجعوا كعباً).

10. وفي فتح الباري (13/47): (إن عائشة أرسلت إلى أبي بكرة، فقال: إنك لأمٌّ وإن حقك لعظيم، ولكن سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: لن يفلح قوم تملكهم امرأة)!

وكتب طلحة والزبير إلى الأحنف: (أما بعد، فإنك وافد عمر، وسيد مضر، وحليم أهل العراق، وقد بلغك مصاب عثمان، ونحن قادمون عليك، والعيان أشفى لك من الخبر. فأجابهما: أما بعد، فإنه لم يأتنا من قبلكم أمرلانشك فيه إلا قتل عثمان، وأنتم قادمون علينا، فإن يكن في العيان فضل نظرنا فيه ونظرتم، وإلا يكن فيه فضل فليس في أيدينا ولا أيديكم ثقة، والسلام).(الإمامةوالسياسة1/48)

وكتبا إلى المنذر: ( أما بعد، فإن أباك كان رئيساً في الجاهلية، وسيداً في الإسلام

ص: 49

وإنك من أبيك بمنزلة المصلي من السابق، يقال كاد أو لحق، وقد قتل عثمان من أنت خير منه، وغضب له من هو خير منك، والسلام .

فأجابهما: وإنما أوجب حق عثمان اليوم حقه أمس، وقد كان بين أظهركم فخذلتموه، فمتى استنبطتم هذا العلم، وبدا لكم هذا الرأي)!

11. قال ضامن بن شدقم في:وقعة الجمل/29:(كتب الأشتر من المدينة إلى عائشة، وهي بمكة: أما بعد فإنك ظعينة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد أمرك أن تقري في بيتك، فإن فعلت فهو خير لك، وإن أبيت إلا أن تأخذي فسأتك، وتلقي جلبابك، وتبدي للناس شعيراتك، فأقاتلك حتى أردك إلى بيتك، والموضع الذي يرضاه لك ربك .

فكتبت إليه في الجواب: أما بعد، فإنك أول العرب شب الفتنة، ودعا إلى الفرقة وخالف الأئمة، وسعَّر في قتل الخليفة، وقد علمت أنك لن تعجزالله حتى يصيبك منه بنقمة ينتصربها منك للخليفة المظلوم. وقد جاءني كتابك وفهمت ما فيه، وسيكفينك الله، وكل من أصبح مماثلاً لك في ضلالك وغيك).

12.كتبت عائشة إلى أهل المدينة بعد أن غدرت بوالي البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري وأرادت قتله، فهددها بالأنصار في المدينة، فضربته ضرباً شديداً ونتفت شعره، فادعت أنه غدر بها، فعفت عنه ومنَّتْ عليه! كتبت لهم: (من أم المؤمنين عائشة زوجة النبي (صلی الله علیه و آله) وابنة الصديق إلى أهل المدينة، أما بعد، فإن الله أظهرالحق ونصرطالبيه، وقد قال الله عز اسمه: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ. فاتقوا الله عباد الله واسمعوا وأطيعوا، واعتصموا بحبل الله جميعاً وعروة الحق، ولاتجعلوا على أنفسكم سبيلاً فإن الله قد جمع كلمة أهل البصرة وأمَّروا عليهم الزبيربن العوام فهو أمير الجنود والكافة يجتمعون على السمع والطاعة له، فإذا اجتمعت كلمة المؤمنين على أمرائهم عن ملأمنهم وتشاور، فإنا ندخل في صالح ما دخلوا فيه، فإذا جاءكم كتابي هذا فاسمعوا وأطيعوا، وأعينوا على ما سمعتم عليه من أمر الله. وكتب عبيد الله بن كعب لخمس ليال من شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين). (الجمل /160).

ص: 50

13. وكتبت إلى أهل اليمامة: (أما بعد، فإني أذكركم الله الذي أنعم عليكم وألزمكم بالإسلام، فإن الله يقول: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الَّله يَسِيرٌ. فاعتصموا عباد الله بحبله وكونوا مع كتابه، فإن أمكم ناصحة لكم فيما تدعوكم إليه من الغضب له والجهاد لمن قتل خليفة حرمه، وابتز المسلمين أمرهم وقد أظهر الله عليه، وإن ابن حنيف الضال المضل كان بالبصرة يدعو المسلمين إلى سبيل النار، وإنا أقبلنا إليها ندعو المسلمين إلى كتاب الله، وأن يضعوا بينهم القرآن فيكون ذلك رضاً لهم وأجمع لأمرهم، وكان ذلك لله عزوجل على المسلمين فيه الطاعة، فإما أن ندرك به حاجتنا أو نبلغ عذراً، فلما دنونا إلى البصرة وسمع بنا ابن حنيف جمع لنا الجموع وأمرهم أن يتلقونا بالسلاح فيقاتلونا ويطردونا، وشهدوا علينا بالكفر وقالوا فينا المنكر، فأكذبهم المسلمون وأنكروا عليهم، وقالوا لعثمان بن حنيف: ويحك! إنما تابعنا زوج النبي (صلی الله علیه و آله) وأم المؤمنين وأصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأئمة المسلمين، فتمادى في غيه وأقام على أمره، فلما رأى المسلمون أنه قد عصاهم ورد عليهم أمرهم، غضبوا لله عزوجل ولأم المؤمنين، ولم نشعر به حتى أظلنا في ثلاثة آلاف من جهلة العرب وسفهائهم، وصفهم دون المسجد بالسلاح، فالتمسنا أن يبايعوا على الحق ولا يحولوا بيننا وبين المسجد فرد علينا ذلك كله، حتى إذا كان يوم الجمعة وتفرق الناس بعد الصلاة عنه، دخل طلحة والزبير ومعهما المسلمون وفتحوه عنوة، وقدموا عبدالله بن الزبير للصلاة بالناس.

وإنا نخاف من عثمان وأصحابه أن يأتونا بغتة ليصيبوا منا غرة. فلما رأى المسلمون أنهم لايبرحون تحرزوا لأنفسهم. ولم يحرج ومن معه حتى هجموا علينا وبلغوا سدة بيتي، ومعهم هاد يدلهم عليه ليسفكوا دمي، فوجدوا نفراً على باب بيتي فردوهم عني، وكان حولي نفرٌ من القريشيين والأزديين يدفعونهم عني، فقتل منهم من قتل وانهزموا، فلم نعرض لبقيتهم وخلينا ابن حنيف مَنّاً عليه وقد توجه إلى صاحبه، وعرفناكم ذلك عباد الله لتكونوا على ما كنتم عليه

ص: 51

من النية في نصرة دين الله، والغضب للخليفة المظلوم).(الجمل لابن شدقم/35).

14. وروى ابن حبان في الثقات(2/282) رسالتها الى أهل الكوفة، قال: (وقدم زيد بن صوحان من عند عائشة معه كتابان من عائشة إلى أبي موسى والى الكوفة، وإذا في كل كتاب منهما:بسم الله الرحمن الرحيم. من عائشة أم المؤمنين إلى عبدالله بن قيس الأشعري. سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنه قد كان من قتل عثمان ما قد علمت، وقد خرجت مصلحة بين الناس، فمر من قبلك بالقرار في منازلهم والرضا بالعافية، حتى يأتيهم ما يحبون من صلاح أمر المسلمين، فإن قتلة عثمان فارقوا الجماعة وأحلوا بأنفسهم البوار. فلما قرأ الكتابين وثب عمار بن ياسرفقال: أُمرت عائشة بأمر وأمرنا بغيره أمرت أن تقر في بيتها، وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة، فهو ذا تأمرنا بما أمرت وركبت ما أمرنا به! ثم قال: هذا ابن عم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فاخرجوا إليه ثم انظروا في الحق ومن الحق معه.

ثم قام الحسن بن علي (علیهما السلام) فقال: يا أيها الناس أجيبوا دعوة أميركم وسيروا إلى إخوانكم، لعل الله يصلح بينكم.

ثم قام هند بن عمرو البجلي فقال: إن أمير المؤمنين قد دعانا وأرسل إلينا ابنه فاتبعوا قوله وانتهوا إلى أمره.

فقام حجر بن عدي الكندي: فقال أيها الناس أجيبوا أميرالمؤمنين وانفروا خفافاً وثقالاً بأموالكم وأنفسكم.

ثم قال الحسن (علیه السلام) : أيها الناس إني غادٍ فمن شاء منكم فليخرج معي على الظهر ومن شاء فليخرج في الماء، فأجابوه وخرج معه تسعة آلاف نفس، بعضهم على البر وبعضهم على الماء، وساروا حتى بلغوا ذا قار وخرج علي (علیه السلام) من المدينة معه ست مائة رجل، وخلف على المدينة سهل بن حنيف، فالتقى هو وابنه الحسن مع من خرج معه من الكوفة بذي قار، فخرجوا جميعاً إلى البصرة، ولم يدخل علي (علیه السلام) الكوفة، وكتب إلى المدينة إلى سهل بن حنيف أن يقدم عليه ويولي على المدينة أبا حسن المازني.

ص: 52

والتقى مع طلحة والزبير وعائشة بالجلحاء على فرسخين من البصرة، وذلك لخمس خلون من جمادى الآخرة، وكان علي (علیه السلام) كثيراً ما يقول: يا عجباً كل العجب من جمادى ورجب، فكان من أمرهم ما كان، وقتل ابن جرموز الزبير ثم أتى علياً يخبره فقال علي (علیه السلام) : سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: قاتل ابن صفية بالنار، فقال ابن جرموز: إن قتلنا معكم فنحن في النار، وإن قاتلناكم فنحن في النار، ثم بعج بطنه بسيفه فقتل نفسه!

وأما طلحة فرماه مروان بن الحكم بسهم من ورائه، فأثبته فيه وقتله، وحمله إلى البصرة فمات بها، فقبرطلحة بالبصرة، وقُتل الزبير بوادي السباع).

ونذكر هنا رسالة عائشة الثانية الى أهل الكوفة بعد أن غدرت بوالي البصرة ونقضت عهدها معه، فاستعظم المسلمون خبر غدرهم، فكتبت الى الكوفة تصور ما حدث بعكس الواقع لتبرئ نفسها! روى ذلك سيف بن عمر في كتاب الجمل/133، فقال: (وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة مع رسولهم: أما بعد فإني أذكركم الله عز وجل والإسلام، أقيموا كتاب الله بإقامة ما فيه، اتقوا الله واعتصموا بحبله وكونوا مع كتابه. فإنا قدمنا البصرة فدعوناهم إلى إقامة كتاب الله بإقامة حدوده، فأجابنا الصالحون إلى ذلك، واستقبلنا من لا خير فيه بالسلاح وقالوا: لنُتْبِعَنَّكُم عثمان، ليزيدوا الحدود تعطيلاً، فعاندوا فشهدوا علينا بالكفر وقالوا لنا المنكر، فقرأنا عليهم:أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ. فأذعن لي بعضهم واختلفوا بينهم فتركناهم وذلك، فلم يمنع ذلك من كان منهم على رأيه الأول من وضع السلاح في أصحابي. وعزم عليهم عثمان بن حنيف إلا قاتلوني حتى منعني الله عز وجل بالصالحين فرد كيدهم في نحورهم، فمكثنا ستاً وعشرين ليلة ندعوهم إلى كتاب الله وإقامة حدوده، وهو حقن الدماء أن تهراق، دون من قد حل دمه، فأبوا واحتجوا بأشياء فاصطلحنا عليها، فخانوا وغدروا وخانوا، فجمع الله عز وجل لعثمان ثأره فأقادهم، فلم يفلت منهم إلا رجل، وأردأنا الله ومنعنا منهم بعمير بن مرثد ومرثد بن قيس

ص: 53

ونفر من قيس ، ونفر من الرباب والأزد.

فالزموا الرضا إلا عن قتلة عثمان بن عفان حتى يأخذ الله حقه، ولاتخاصموا الخائنين ولا تمنعوهم، ولا ترضوا بذَوْيِ حدود الله فتكونوا من الظالمين.

فكتبتْ إلى رجال بأسمائهم: فثبِّطُوا الناس عن منع هؤلاء القوم ونصرتهم واجلسوا في بيوتكم، فإن هؤلاء القوم لم يرضوا بما صنعوا بعثمان بن عفان رضي الله عنه، وفرقوا بين جماعة الأمة، وخالفوا الكتاب والسنة، حتى شهدوا علينا فيما أمرناهم به، وحثثناهم عليه من إقامة كتاب الله وإقامة حدوده بالكفر وقالوا لنا المنكر، فأنكر ذلك الصالحون وعظموا ما قالوا! وقالوا: ما رضيتم أن قتلتم الإمام حتى خرجتم على زوجة نبيكم أن أمرتكم بالحق، لتقتلوها وأصحاب رسول الله وأئمة المسلمين! فعزموا وعثمان بن حنيف معهم على من أطاعهم من جهال الناس وغوغائهم، على زطهم وسبابجهم، فلذنا منهم بطائفة من الفسطاط، فكان ذلك الدأب ستة وعشرين يوماً، ندعوهم إلى الحق وألا يحولوا بيننا وبين الحق، فغدروا وخانوا فلم نقايسهم، واحتجوا ببيعة طلحة والزبير، فأبردوا بريداً فجاءهم بالحجة، فلم يعرفوا الحق ولم يصبروا عليه، فغادوني في الغلس ليقتلوني، والذي يحاربهم غيري، فلم يبرحوا حتى بلغوا سدة بيتي، ومعهم هاد يهديهم إلي، فوجدوا نفراً على باب بيتي منهم عمير بن مرثد، ومرثد بن قيس، ويزيد بن عبدالله بن مرثد، ونفر من قيس، ونفر من الرباب والأزد، فدارت عليهم الرحى، فأطاف بهم المسلمون فقتلوهم، وجمع الله عز وجل كلمة أهل البصرة على ما أجمع عليه الزبير وطلحة فإذا قتلنا بثأرنا وَسِعَنَا الغدر).

أقول: تقصد بقولها: فأبردوا بريداً فجاءهم بالحجة، أنهم ادعوا أن طلحة والزبير بايعا علياً مكرهين، فاتفقوا مع عثمان بن حنيف وأرسلوا كعب بن سور، ليسأل أهل المدينة هل أكرها على البيعة. هذا قصدها، لكن كعباً لم يأت بنتيجة ولم يقل إنهما أكرها، فلا يصح قول عائشة: جاءهم البريد بالحجة، ولم تذكر توثيق ادعائها.

ثم أخفت في رسالتها الإتفاق بينها وبين عثمان بن حنيف على أن يكون له دار الإمارة والمسجد وبيت المال حتى يصل علي (علیه السلام) ، وأنها نقضته بعد يومين وغدرت وهاجمت دار

ص: 54

الإمارة وبيت المال بعد صلاة الفجر، وقتلت حراسه السبابجة، وسيطرت على بيت المال، واختلفوا على قفله ومفتاحه، فقفلوه بثلاثة أقفال!

وروى الطبري (3/489) رسالتها هذه شبيهاً بما تقدم، وأخطر ما فيها أنها جعلت الغدر مشروعاً، فقالت:(فإذا قتلنا بثأرنا وسعنا الغدر ! ومعناه: إذا أخذنا بثأرنا وهو عثمان بن عفان، حلَّ لنا أن نغدر بابن حنيف، وأن نهاجم مسجده في غلس الليل، وهو يصلي مع أفراد آمنين مطمئنين بصلحنا معهم!

ثم إن عثمان ابن حنيف لم يكن من قتلة عثمان، ولا اتهموه قبل رسالة عائشة!

قال ابن منظور(2/294): (والسَّبَابِجَةُ: قوم ذوو جَلَدٍ من السِّنْدِ والهند، يكونون مع رئيس السفينة البحرية يُبَذْرِقُونها. ودخلت في جمعه الهاء للعجمة والنَّسَب، كماقالوا: البَرابِرةُ، وربما قالوا:السَّابِجَ). أما الزط فقومية مثل السبابجة وقد يسمون بها.

15. قال الطبري (3/488): (وأقام طلحة والزبير ليس لهما بالبصرة ثأر إلا حرقوص. وكتبوا إلى أهل الشام بما صنعوا وصاروا إليه: إنا خرجنا لوضع الحرب، وإقامة كتاب الله عز وجل بإقامة حدوده في الشريف والوضيع والكثير والقليل، حتى يكون الله عز وجل هو الذي يردنا عن ذلك، فبايعنا خيار أهل البصرة ونجباؤهم، وخالفنا شرارهم ونزاعهم، فردونا بالسلاح وقالوا فيما قالوا نأخذ أم المؤمنين رهينة، أن أمرتهم بالحق وحثثتهم عليه، فأعطاهم الله عز وجل سنة المسلمين مرة بعد مرة، حتى إذا لم يبق حجة ولا عذر، استبسل قتلة أمير المؤمنين فخرجوا إلى مضاجعهم، فلم يفلت منهم مخبر، إلا حرقوص بن زهير والله سبحانه مقيده إنشاءالله. وإنا نناشدكم الله في أنفسكم إلا نهضتم بمثل ما نهضنا به، فنلقى الله عز وجل وتلقونه وقد أعذرنا وقضينا الذي علينا.

وكتبوا إلى أهل الكوفة بمثله، مع رجل من بني عمرو بن أسد، يدعى مظفر بن معرض. وكتبوا إلى أهل اليمامة وعليها سبرة بن عمرو العنبري مع الحارث السدوسي.وكتبوا إلى أهل المدينة مع ابن قدامة القشيري فدسه إلى أهل المدينة).

وقال ابن مسكويه في تجارب الأمم(1/481): (وكتبوا إلى أهل الشام بما صنعوا،

ص: 55

وقصوا القصة وأطالوا، وذكروا أنهم أقاموا حد الله، وأنهم قد أعذروا، وقضوا ما عليهم، فنناشدكم الله في أنفسكم إلَّا نهضتم بمثل ما نهضنا به).

 

من خطب أميرالمؤمنين (علیه السلام) ورسائله في حرب الجمل

1. في المعيار والموازنة/60: (كتب (علیه السلام) إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري لما صح عنده مسير طلحة والزبير إلى البصرة ونكثهم بيعته وخروجهم من طاعته:بسم الله الرحمن الرحيم: من عبدالله علي أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف، أما بعد، فإن النَّكَثَة لما عاهدوا الله عليه، نكثوا، ثم توجهوا إلى مصرك، وسائقهم الشيطان يريدون ما لايرضى الله به، والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً، فإن قدموا مصرك فادعهم إلى الحق والرجوع إلى الوفاء بعهد الله والميثاق الذي بايعوا عليه، فإن فعلوا فأحسن جوارهم، ومرهم بالإنصراف إلى المكان الذي أقبلوا منه، وإن أبوا وتمسكوا بحبل النكث، فقاتلهم حتى يحكم الله بينك وبينهم).

2. وفي شرح النهج (9/312): (قال: وكتب علي إلى عثمان لما بلغه مشارفة القوم البصرة. بنحو كتابه الأول وفيه: فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك، وإن أبوا إلا التمسك بحبل النكث والخلاف، فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك، وبينهم وهو خير الحاكمين. وكتبت كتابي هذا إليك من الربذة، وأنا معجل المسير إليك إنشاءالله.وكتبه عبيد الله بن أبي رافع في سنة ست وثلاثين.

قال: فلما وصل كتاب علي (علیه السلام) إلى عثمان، أرسل إلى أبي الأسود الدؤلي وعمران بن الحصين الخزاعي، فأمرهما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم وما الذي أقدمهم فانطلقا حتى إذا أتيا حفر أبي موسى وبه معسكر القوم، فدخلا على عائشة فنالاها ووعظاها، وأذكراها وناشداها الله. فقالت لهما: إلقيا طلحة والزبير. فقاما من عندها ولقيا الزبير فكلماه). وتأتي بقية رسائله (علیه السلام) الى ابن حنيف وغيره.

3. وفي الكافئة/19:(لما اتصل بأميرالمؤمنين صلوات الله عليه مسيرعائشة وطلحة

ص: 56

والزبير من مكة إلى البصرة، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: قد سارت عائشة وطلحة والزبيركل منهما يدعي الخلافة دون صاحبه.. ينازع هذا على الملك هذا، ولقد علمت والله أن الراكبة الجمل لاتحل عقدة ولا تسيرعقبة ولا تنزل منزلة إلا إلى معصية الله، حتى تورد نفسها ومن معها مورداً يقتل ثلثهم، ويهرب ثلثهم ويرجع ثلثهم! والله إن طلحة والزبير ليعلمان أنهما مخطئان وما يجهلان، ولرب عالم قتله جهله وعلمه معه لاينفعه!

والله لتنبحنها كلاب الحوأب! فهل يعتبر معتبر ويتفكر متفكر، لقد قامت الفئة الباغية فأين المحسنون؟ مالي ولقريش! أما والله لأقتلنهم كافرين، ولأقتلنهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس ومالنا إليها من ذنب غير أنا خُيِّرنا عليها فأدخلناهم في خيرنا! أما والله لا أترك الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته إنشاءالله،

فلتضجَّ مني قريش ضجيجاً)!

4. وفي نهج البلاغة (2/81):(ومن خطبة له (علیه السلام) عند مسيرأصحاب الجمل إلى البصرة: إن الله بعث رسولاً هادياً بكتاب ناطق وأمر قائم، لا يهلك عنه إلا هالك. وإن المبتدعات المشبهات هن المهلكات إلا ما حفظ الله منها. وإن في سلطان الله عصمة لأمركم، فأعطوه طاعتكم غير ملومة ولا مستكره بها.

والله لتفعلن أو لينقلن الله عنكم سلطان الإسلام، ثم لا ينقله إليكم أبداً حتى يأرز الأمر إلى غيركم. إن هؤلاء قد تمالؤوا على سخطة إمارتي، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم، فإنهم إن تمموا على فيالة هذا الرأي انقطع نظام المسلمين، وإنما طلبوا هذه الدنيا حسداً لمن أفاءها الله عليه، فأرادوا رد الأمور على أدبارها. ولكم علينا العمل بكتاب الله تعالى، وسيرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، والقيام بحقه، والنعش لسنته).

5. وفي نهج البلاغة (3 /2):( ومن كتاب له (علیه السلام) إلى أهل الكوفة عند مسيره إلى البصرة: من عبدالله علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة، جبهة الأنصار،

ص: 57

وسنام العرب، أما بعد، فإني أخبركم عن أمرعثمان حتى يكون سمعه كعيانه:إن الناس طعنوا عليه، فكنت رجلاً من المهاجرين أكثراستعتابه وأقل عتابه، وكان طلحة والزبير أهون سيرهما فيه الوجيف، وأرفق حدائهما العنيف، وكان من عائشة فيه فلتة غضب، فأتيح له قوم فقتلوه، وبايعني الناس غير مستكرهين ولا مجبرين بل طائعين مخيرين. واعلموا أن دار الهجرة قد قلعت بأهلها وقلعوا بها،

وجاشت جيش المرجل، وقامت الفتنة على القطب، فأسرعوا إلى أميركم وبادروا جهاد عدوكم، إنشاءالله).

6. قال المفيد في كتاب الجمل/130:( دعا هاشم بن عتبة المرقال وكتب معه كتاباً إلى أبي موسى الأشعري وكان بالكوفة من قبل عثمان، وأمره أن يوصل الكتاب إليه ليستنفرالناس منها إلى الجهاد معه، وكان مضمون الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم:من علي أمير المؤمنين إلى عبدالله بن قيس: أما بعد فإني أرسلت إليك هاشم بن عتبة المرقال لتشخص معه من قبلك من المسلمين، ليتوجهوا إلى قوم نكثوا بيعتي وقتلوا شيعتي، وأحدثوا في هذه الأمة الحدث العظيم فأشخص الناس إليَّ معه حين يقدم بالكتاب عليك، فلا تحبسه فإني لم أقرك في المصرالذي أنت فيه إلا أن تكون من أعواني وأنصاري على هذا الأمر. والسلام.

فقدم هاشم بالكتاب على أبي موسى الأشعري فلما وقف عليه دعا السائب إبن مالك الأشعري فأقرأه الكتاب وقال له: ما ترى؟ فقال له السائب: إتبع ما كتب به إليك، فأبى أبو موسى ذلك وكسر الكتاب ومحاه، وبعث إلى هاشم بن عتبة يخوفه ويتوعده بالسجن، فقال السائب بن مالك: فأتيت هاشماً فأخبرته بأمر أبي موسى. فكتب هاشم إلى أمير المؤمنين: أما بعد يا أمير المؤمنين فإني قدمت بكتابك على أمريء شاق عاق بعيد الرحم، ظاهر الغل والشقاق، وقد بعثت إليك بهذا الكتاب مع المُحِل بن خليفة الطائي، وهو من شيعتك وأنصارك، وعنده علم ما قِبَلَنَا، فاسأله عما بدا لك، واكتب إلي برأيك أتبعه. والسلام.

فلما قدم الكتاب إلى علي (علیه السلام) وقرأه دعا الحسن ابنه وعمار بن ياسر وقيس بن سعد،

ص: 58

وبعثهم إلى أبي موسى وكتب معهم:

من عبدالله علي أمير المؤمنين إلى عبدالله بن قيس أما بعد: يا ابن الحايك، والله إني كنت لأرى أن بعدك من هذا الأمر الذي لم يجعلك الله له أهلاً، ولا جعل لك فيه نصيباً، وقد بعثت لك الحسن وعماراً وقيساً، فأخل لهم المصروأهله، واعتزل عملنا مذموماً مدحوراً، فإن فعلت وإلا فإني أمرتهم أن ينابذوك على سواء، إنالله لا يحب الخائنين، فإن ظهروا عليك قطعوك إرباً إرباً. والسلام).

7. قال المسعودي في مروج الذهب (2/359):(وكاتَبَ علي من الربذة أبا موسى الأشعري ليستنفر الناس، فثبطهم أبو موسى وقال: إنما هي فتنة، فنمي ذلك الى علي، فولَّى على الكوفة قَرَظة بن كعب الأنصاري، وكتب الى أبي موسى: إعتزل عملنا يا ابن الحائك، مذموماً مدحوراً، فما هذا أول يومنا منك، وإن لك فينا لهنات وهنيات).

وفي نهج البلاغة (3/121): (ومن كتاب له (علیه السلام) إلى أبي موسى الأشعري وهو عامله على الكوفة، وقد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل:من عبدالله أمير المؤمنين إلى عبدالله بن قيس. أما بعد، فقد بلغني عنك قول هو لك وعليك، فإذا قدم رسولي عليك فارفع ذيلك، واشدد مئزرك، واخرج من جحرك، واندب من معك، فإن حققت فانفذ، وإن تفشلت فابعد. وأيم الله لتؤتين حيث أنت، ولا تترك حتى يخلط زبدك بخاثرك وذائبك بجامدك، وحتى تعجل عن قعدتك، وتحذر من أمامك كحذرك من خلفك. وما هي بالهوينى التي ترجو، ولكنها الداهية الكبرى، يركب جملها ويذل صعبها، ويسهل جبلها. فاعقل عقلك واملك أمرك، وخذ نصيبك وحظك، فإن كرهت فتنح إلى غير رحب ولا في نجاة، فبالحري لتكفين وأنت نائم، حتى لا يقال أين فلان. والله إنه لحق مع محق، وما نبالي ما صنع الملحدون. والسلام).

ص: 59

8. في مناقب آل أبی طالب ( 2/337): (أرسل الحسن وعمارً إلى الكوفة وكتب: من عبدالله ووليه علي أميرالمؤمنين إلى أهل الكوفة جبهة الأنصار وسنام العرب، ثم ذكر فيه قتل عثمان وفعل طلحة والزبير وعائشة ثم قال: إن دار الهجرة قد قلعت بأهلها وقلعوا بها، وجاشت جيش المرجل، وقامت الفتنة على القطب فأسرعوا إلى أميركم، وبادروا عدوكم. فلما بلغا الكوفة قال أبو موسى الأشعري: يا أهل الكوفة اتقوا الله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا. وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا. فسكته عمار، فقال أبو موسى: هذا كتاب عائشة تأمرني أن تكف أهل الكوفة فلا تكونن لنا ولا علينا، ليصل إليهم صلاحهم.

فقال عمار: إن الله تعالى أمرها بالجلوس فقامت وأمرنا بالقيام لندفع الفتنة فنجلس؟

فقام زيد بن صوحان ومالك الأشتر في أصحابهما وتهددوه. فلما أصبحوا قام زيد بن صوحان وقرأ: ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ. ثم قال: أيها الناس سيروا إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) وانفروا إليه أجمعين، تصيبوا الحق راشدين.

ثم قال عمار: هذا ابن عم رسول الله يستنفركم فأطيعوه. في كلام له.

وقال الحسن بن علي (علیهما السلام) : أجيبوا دعوتنا، وأعينونا على ما بلينا به).

(وسار علي بمن معه حتى نزل بذي قار، وبعث بابنه الحسن وعمار بن ياسرالى الكوفة يستنفران الناس، فسارا عنها ومعهما من أهل الكوفة نحو من سبعة آلاف، وقيل ستة آلاف وخمس مائة وستون رجلاً). (مروج الذهب:2/359).

9. وفي نهج البلاغة (3 /111):( ومن كتاب له (علیه السلام) إلى طلحة والزبير: أما بعد فقد علمتما وإن كتمتما أني لم أرد الناس حتى أرادوني، ولم أبايعهم حتى بايعوني، وإنكما ممن أرادني وبايعني، وإن العامة لم تبايعني لسلطان غالب ولا لعرض حاضر، فإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا وتوبا إلى الله من قريب، وإن كنتما بايعتماني كارهيْن فقد جعلتما لي عليكما السبيل بإظهاركما الطاعة وإسراركما المعصية، ولعمري ما كنتما بأحق المهاجرين بالتقية والكتمان، وإن دفعكما هذا الأمر من قبل أن تدخلا فيه، كان

ص: 60

أوسع عليكما من خروجكما منه بعد إقراركما به. وقد زعمتما أني قتلت عثمان، فبيني وبينكما من تخلف عني وعنكما من أهل المدينة، ثم يلزم كل امرئ بقدر ما احتمل. فارجعا أيها الشيخان عن رأيكما، فإن الآن أعظم أمركما العار، من قبل أن يجتمع العار والنار. والسلام).

10. في كشف الغمة في معرفة الأئمة للإربلي (1/240): (وكتب علي (علیه السلام) إلى عايشة: أما بعد فإنك خرجت من بيتك عاصية لله تعالى ولرسوله (صلی الله علیه و آله) تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً، ثم تزعمين أنك تريدين الإصلاح بين الناس، فخبريني ما للنساء وقَوْدُ العساكر!

وزعمت أنك طالبة بدم عثمان، وعثمان رجل من بني أمية، وأنت امرأة من بني تيم بن مرة! ولعمري إن الذي عرضك للبلاء وحملك على المعصية لأعظم إليك ذنباً من قتلة عثمان، وما غضبت حتى أغضبت، ولاهجت حتى هيجت، فاتقي الله يا عايشة وارجعي إلى منزلك، واسبلي عليك سترك. والسلام).

فأجابته عائشة: (يا ابن أبی طالب جل الأمر عن العتاب، ولن ندخل في طاعتك أبداً، فاقض ما أنت قاض. والسلام).

[فأجابه طلحة والزبير: إنك سرت مسيراً له ما بعده، َ راجعاً وفي نفسك منه حاجة، فامض لأمرك، أما أنت فلست راضياً دون دخولنا في طاعتك، ولسنا بداخلين فيها أبداً، فاقض ما أنت قاض].

ثم دعا ابن عباس فقال له: إنطلق إليهم فناشدهم وذكَّرهم العهد الَّذي لي في رقابهم، فجاءهم ابن عباس فبدأ بطلحة فوقع بينهما كلام كثير فأبى طلحة إلَّا إثارة الفتنة، قال ابن عباس: فخرجت إلى عليّ (علیه السلام) وقد دخل البيوت بالبصرة، فقال: ما وراءك؟ فأخبرته الخبر فقال (علیه السلام) : اللَّهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق،

وأنت خير الفاتحين).

11. وفي نهج البلاغة (1/77): (ومن كلام له (علیه السلام) لابن العباس لما أرسله إلى

ص: 61

الزبير يستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل:لاتلقين طلحة فإنك إن تلقه تجده كالثور عاقصاً قرنه، يركب الصعب ويقول هو الذلول! ولكن إلق الزبير فإنه ألين عريكة فقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق فما عدا مما بدا)! أقول: هو أول من سمعت منه هذه الكلمة أعني: فما عدا مما بدا.

12. قال الطبري(3/544): (وكتب علي بالفتح إلى عامله بالكوفة: من عبدالله علي أمير المؤمنين. أما بعد، فإنا التقينا في النصف من جمادى الآخرة بالخريبة، فناء من أفنية البصرة، فأعطاهم الله عز وجل سنة المسلمين، وقتل منا ومنهم قتلى كثيرة، وأصيب ممن أصيب منا ثمامة بن المثنى، وهند بن عمرو، وعلباء بن الهيثم، وسيحان وزيد ابنا صوحان، و[ابن]مخدوج. وكتب عبدالله بن رافع. وكان الرسول زفر بن قيس إلى الكوفة بالبشارة في جمادى الآخرة).

13. ومن رسائله (علیه السلام) بعد النصرعلى أصحاب الجمل (الجمل للمفيد/211): (رجع إلى خيمته واستدعى عبدالله بن رافع وقال: أكتب إلى أهل المدينة:

بسم الله الرحمن الرحيم: من عبدالله علي بن أبی طالب: سلام عليكم، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، فإن الله بمنه وفضله وحسن بلائه عندي وعندكم حَكَمٌ عَدْلٌ، وقد قال سبحانه في كتابه وقوله الحق: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ. وإني مخبركم عنا وعمن سرنا إليه من جموع أهل البصرة، ومن سار إليهم من قريش وغيرهم، مع طلحة والزبير ونكثهما عليَّ ما قد علمتم من بيعتي، وهما طايعان غير مكرهين، فخرجت من عندكم بمن خرجت ممن سارع إلى بيعتي وإلى الحق، حتى نزلت ذا قار، فنفر معي من نفر من أهل الكوفة، وقدم طلحة والزبير البصرة، وصنعا بعاملي عثمان بن حنيف ما صنعا، فقدمت إليهم الرسل وأعذرت كل الإعذار، ثم نزلت ظهر البصرة فأعذرت بالدعاء، وقدمت الحجة وأقلت العثرة والزلة، واستعتبتهما ومن معهما ممن نكث بيعتي ونقض عهدي، فأبوا إلا قتالي وقتال من معي والتمادي في الغي، فلم أجد بداً في مناصفتهم

ص: 62

بالجهاد، فقتل الله من قتل منهم ناكثاً، وولى من ولى منهم، وأغمدتُ السيوف عنهم، وأخذتُ بالعفو فيهم، وأجريت الحق والسنة في حكمهم، واخترت لهم عاملاً واستعملته عليهم وهوعبدالله بن عباس.

وإني سائر إلى الكوفة إنشاءالله تعالى. وكتب عبدالله بن أبي رافع في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين من الهجرة).

14.وكتب أميرالمؤمنين (علیه السلام) إلى أم هاني بنت أبی طالب: سلام عليك، أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإنا التقينا مع البغاة والظلمة في البصرة فأعطانا الله تعالى النصرعليهم بحوله وقوته، وأعطاهم سنة الظالمين فقتل كل من طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عتاب، وجمع لا يحصى، وقتل منا بنومخدوع وابنا صوحان وعلبا وهندٌ وثمامة فيمن يعد من المسلمين رحمهم الله. والسلام).

15. ولما كتب أمير المؤمنين (علیه السلام) بالفتح قام في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد وآله، ثم قال: أما بعد فإن الله غفور رحيم، عزيز ذو انتقام، جعل عفوه ومغفرته لأهل طاعته، وجعل عذابه وعقابه لمن عصاه وخالف أمره، وابتدع في دينه ما ليس منه، وبرحمته نال الصالحون، وقد أمكنني الله منكم يا أهل البصرة، وأسلمكم بأعمالكم، فإياكم أن تعودوا إلى مثلها، فإنكم أول من شرع القتال والشقاق، وترك الحق والإنصاف).

16. وفي رواية الواقدي ( الجمل/215): (لما فرغ من قسمة المال قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس: إني أحمد الله على نعمه. قتل طلحة والزبير وهربت عائشة، وأيم الله لو كانت عايشة طلبت حقاً وهانت باطلاً، لكان لها في بيتها مأوى. وما فرض الله عليها الجهاد. وإن أول خطئها في نفسها. وكانت والله على القوم أشأم من ناقة الصخرة، وما ازداد عدوكم بما صنع الله إلا حقداً، وما زادهم الشيطان إلا طغياناً، ولقد جاؤوا مبطلين وأدبروا ظالمين،

ص: 63

إن إخوانكم المؤمنين جاهدوا في سبيل الله وآمنوا، يرجون مغفرة الله، وإننا لعلى الحق وإنهم لعلى الباطل،ويجمعنا الله وإياهم يوم الفصل.وأستغفر الله لي ولكم.

ثم روى عن عامر الأسدي قال: إن علياً (علیه السلام) كتب بعد فتح البصرة مع عمر بن سلمة الأرحبي إلى أهل الكوفة: من عبدالله علي بن أبی طالب إلى قرضة بن كعب ومن قبله من المسلمين. سلام عليكم، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإنا لقينا القوم الناكثين لبيعتنا المفرقين لجماعتنا الباغين علينا من أمتنا، فحاججناهم إلى الله فنصرنا الله عليهم، وقتل طلحة والزبير، وقد تقدمت إليهما بالنذر، وأشهدت عليهما صلحاء الأمة ومكنتهما في البيعة، فما أطاعا المرشدين ولا أجابا الناصحين، ولاذ أهل البغي بعائشة، فقتل حولها جم لا يحصي عددهم إلا الله، ثم ضرب الله وجه بقيتهم فأدبروا، فما كانت ناقة الحجر بأشأم منها على أهل ذلك المصر، مع ما جاءت به من الحوب الكبير في معصيتها لربها ونبيها (صلی الله علیه و آله) ، واغترار من اغتر بها، وما صنعته من التفرقة بين المؤمنين، وسفك دماء المسلمين،لابينة ولا معذرة ولا حجة لها، فلما هزمهم الله أمرت أن لا يقتل مدبر ولا يجهز على جريح ولا يهتك ستر ولا يدخل دار إلا بإذن أهلها، وقد آمنت الناس.

واستشهد منا رجال صالحون ضاعف الله لهم الحسنات ورفع درجاتهم وأثابهم ثواب الصابرين، وجزاهم من أهل مصر عن أهل بيت نبيهم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته والشاكرين لنعمته، فقد سمعتم وأطعتم، ودعيتم فأجبتم، فنعم الإخوان والأعوان على الحق أنتم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتب عبدالله بن أبي رافع في رجب سنة ست وثلاثين).

ص: 64

الفصل الثالث والخمسون: حركة عائشة الى حرب علي (علیه السلام)

مسير عائشة من مكة الى البصرة

قال المسعودي في مروج الذهب (2/357): (وسارالقوم نحوالبصرة في ست مائة راكب، فانتهوا في الليل الى ماء لبني كلاب يعرف بالحَوْأب، عليه ناس من بني كلاب، فَعَوَتْ كلابهم على الركب، فقالت عائشة: ما اسم هذا الموضع؟ فقال لها السائق لجملها: الحوأب، فاسترجعت وذكرت ما قيل لها في ذلك، فقالت: رُدُّوني الى حرم رسول الله،

لاحاجة لي في المسير!

فقال الزبير: با لله ما هذا الحوأب، ولقد غلط فيما أخبرك به، وكان طلحة في سَاقَةِ الناس، فلحقها فأقسم أن ذلك ليس بالحوأب، وشهد معهما خمسون رجلاً ممن كان معهم، فكان ذلك أول شهادة زور أقيمت في الإسلام!

فأتوا البصرة فخرج إليهم عثمان بن حُنَيْف فمانَعَهم، وجرى بينهم قتال، ثم إنهم اصطلحوا بعد ذلك على كف الحرب الى قدوم علي، فلما كان في بعض الليالي بَيَّتوا عثمان بن حنيف فأسروه وضربوه ونتفوا لحيته، ثم إن القوم استرجعوا وخافوا على مخلَّفيهم بالمدينة من أخيه سهل بن حُنَيف وغيره من الأنصار، فخلوا عنه.

وأرادوا بيت المال فمانعهم الخزان والموكلون به وهم السبابجة، فقُتل منهم سبعون رجلاً غير من جرح، وخمسون من السبعين ضربت رقابهم صبراً من بعد الأسر، وهؤلاء أول من قُتل ظلماً في الإسلام وصبراً.

ص: 65

وقتلوا حكيم بن جَبَلة العبدي، وكان من سادات عبد القيس وزُهَّاد ربيعة ونُسَّاكها، وتشاحَّ طلحة والزبير في الصلاة بالناس، ثم اتفقوا على أن يصلي بالناس عبدالله ابن الزبير يوماً، ومحمد بن طلحة يوماً! في خطب طويل كان بين طلحة والزبير، الى أن اتفقا على ما وصفنا).

أقول: المسافة بين مكة والبصرة أكثر من ألف كيلو متر، مسير نحو عشرين يوماً.

أراد أميرالمؤمنين (علیه السلام) أن يقبض عليهم في الحجاز

1. قال الطبري (3/473): (جاء علياً الخبر عن طلحة والزبير وأم المؤمنين، فأمَّر على المدينة تمام بن العباس وبعث إلى مكة قثم بن العباس، وخرج وهو يرجو أن يأخذهم بالطريق، وأراد أن يعترضهم، فاستبان له بالربذة أن قد فاتوه، وجاءه بالخبر عطاء بن رئاب مولى الحارث بن حزن).

2. وقال ابن الأعثم في الفتوح(2/456):(كتبت أم الفضل بنت الحارث إلى علي رضي الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم: لعبدالله علي أمير المؤمنين، من أم الفضل بنت الحارث، أما بعد فإن طلحة والزبيروعائشة قد خرجوا من مكة يريدون البصرة، وقد استنفروا الناس إلى حربك، ولم يخفَّ معهم إلى ذلك إلا من كان في قلبه مرض، ويد الله فوق أيديهم. والسلام.

قال:ثم دفعت أم الفضل هذا الكتاب إلى رجل من جهينة له عقل ولسان، يقال له ظفر، فقالت: خذ هذا الكتاب وانظرأن تقتل في كل مرحلة بعيراً وعليَّ ثمنه، وهذه مائة دينار قد جعلتها لك، فجدَّ السير حتى تلقى علي بن أبی طالب رضي الله عنه، فتدفع إليه كتابي هذا. قال:فسار الجهني سيراً عنيفاً حتى لحق أصحاب علي رضي الله عنه وهم على ظهر المسير، فلما نظروا إليه نادوه من كل جانب: أيها الراكب: ما عندك؟ قال: فنادى الجهني بأعلى صوته شعراً يخبر فيه قدوم عائشة وطلحة والزبير قال: فلما سمع علي ذلك دعا محمد بن أبي بكر وقال له: ألا ترى إلى أختك عائشة كيف خرجت من بيتها الذي أمرها الله عز وجل أن تقر فيه، وأخرجت معها طلحة

ص: 66

والزبير، يريدان البصرة لشقاقي وفراقي!

فقال له محمد: يا أميرالمؤمنين، لا عليك، فإن الله معك ولن يخذلك، والناس بعد ذلك ناصروك، والله تبارك وتعالى كافيك أمرهم إنشاءالله.

قال: فعندها نادى علي رضي الله عنه في أصحابه فجمعهم ثم قال:أيها الناس! إن الله تبارك وتعالى بعث كتاباً ناطقاً لايهلك عنه إلا هالك، وإن المبتدعات المشتبهات هن المهلكات المرديات، إلا من حفظ الله، وإن في سلطان الله عصمة

أمركم، فأعطوه طاعتكم. ألا، وتهيؤوا لقتال الفرقة الذين يريدون تفريق جماعتكم، فلعل الله تعالى يصلح بكم ما أفسد أهل الشقاق. ألا إن طلحة والزبير قد تمالآعليَّ بسخط إمارتي ودعوا الناس إلى مخالفتي، وأنا سائر إليهم ومنابذهم حتى يحكم الله بيني وبينهم.والسلام. قال: فأجابه الناس إلى ذلك).

3. في الكافئة في رد توبة الخاطئة/18:(ثم نودي من مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) : الصلاة جامعة، فخرج الناس وخرج أمير المؤمنين (علیه السلام) فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى لما قبض نبيه (صلی الله علیه و آله) قلنا: نحن أهل بيته وعصبته وورثته وأوليائه وأحق الخلق به،لاننازع حقه وسلطانه، فبينما نحن كذلك إذ نفرالمنافقون وانتزعوا سلطان نبينا منا وولوه غيرنا! فبكت والله لذلك العيون والقلوب منا جميعاً معاً، وخشنت له الصدور، وجزعت النفوس منا جزعاً أرغم. وأيم الله لولامخافتي الفرقة بين المسلمين، وأن يعود أكثرهم إلى الكفر ويُعَوَّر الدين، لكنا قد غيرنا ذلك ما استطعنا.

وقد بايعتموني الآن وبايعني هذان الرجلان طلحة والزبير على الطوع منهما ومنكم والإيثار، ثم نهضا يريدان البصرة ليفرقا جماعتكم ويلقيا بأسكم بينكم! اللهم فخذهما لغشهما لهذه الأمة، وسوء نظرهما للعامة. ثم قال: إنفروا رحمكم الله

في طلب هذين الناكثين القاسطين الباغيين، قبل أن يفوت تدارك ما جنياه).

4. وقال المسعودي في مروج الذهب (2/358):(وسار علي من المدينة في سبع

ص: 67

مائة راكب منهم أربع مائة من المهاجرين والأنصار، منهم سبعون بدرياً، وباقيهم من الصحابة، وقد كان استخلف على المدينة سهل بن حنيف الأنصاري، فانتهى الى الرَّبَذة بين الكوفة ومكة من طريق الجادة، وفاته طلحة وأصحابه، وقد كان عليٌّ أرادهم، فانصرف حين فاتوه الى العراق في طلبهم).

5. وقال العيني في عمدة القاري(15/49): (خرج في آخر شهر ربيع الآخر في سنة ست وثلاثين من المدينة في تسع مائة مقاتل وقيل.. فيهم أربع مائة ممن بايعوا تحت الشجرة، وثمان مائة من الأنصار ورايته مع ابنه محمد بن الحنفية، وعلى ميمنته الحسن بن علي، وعلى ميسرته الحسين بن علي، وعلى الخيل عمار بن ياسر، وعلى الرجالة محمد بن أبي بكر الصديق، وعلى مقدمته عبدالله بن عباس.

ثم اجتمعوا كلهم عند قصر عبيد الله بن زياد ونزل الناس في كل ناحية وقد اجتمع مع علي رضي الله تعالى عنه عشرون ألفاً، والتفَّت على عائشة رضي الله تعالى عنها ومن معها، نحوٌ من ثلاثين ألفاً).

أقول: الصحيح أن جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) لم يزد على اثني عشر ألفاً، وجيش عائشة كان أكثر من ثلاثين ألفاً.

6. وقال المسعودي في مروج الذهب (2/358):وسار علي من المدينة بعد أربعة أشهر وقيل غير ذلك، في سبع مائة راكب، منهم أربع مائة من المهاجرين والأنصار، منهم سبعون بدرياً، وباقيهم من الصحابة، وقد كان استخلف على المدينة سهل بن حنيف الأنصاري، فانتهى الى الرَّبَذة بين الكوفة ومكة من طريق الجادة، وفاته طلحة وأصحابه وقد كان عليٌّ أرادهم، فانصرف حين فاتوه الى العراق في طلبهم، ولحق بعلي من أهل المدينة جماعة من الأنصار فيهم خُزيمة بن ثابت ذوالشهادتين، وأتاه من طيّئ ست مائة راكب، وكاتَبَ علي من الربذة أبا موسى الأشعرى ليستنفر الناس فثبطهم أبو موسى وقال: إنما هي فتنة، فنمي ذلك الى علي (علیه السلام) ، فولَّى على الكوفة قَرَظة بن كعب الأنصاري، وكتب الى أبي موسى:

ص: 68

اعتزل عملنا يا ابن الحائك مذموماً مدحوراً، فما هذا أول يومنا منك، وإن لك فينا لهناتٍ وهنيات.

وسار علي بمن معه حتى نزل بذي قار، وبعث بابنه الحسن وعمار بن ياسرالى الكوفة يستنفران الناس، فسارا عنها ومعهما من أهل الكوفة نحو من سبعة آلاف، وقيل ستة آلاف وخمس مائة وستون رجلاً).

7. خافت عائشة وطلحة والزبير أن يدركهم علي (علیه السلام) فأغذوا السير أي أسرعوا ولما نبحتهم كلاب الحوأب وتيقنت عائشة أنها صاحبة الحوأب التي حذرها النبي (صلی الله علیه و آله) نزلت عن جملها وقالت: ردوني ردوني، وبقيت يومين ترفض السير.

قال العيني في عمدة القاري (15/49):(فقالت أنا والله صاحبة الحوأب، ردوني ردوني، تقول ذلك! فأناخوا حولها وهم على ذلك وهي تأبى المسير، حتى إذا كانت الساعة التي أناخت فيها من الغد جاءها عبدالله بن الزبير فقال: النجاء النجاء، فقد أدرككم علي بن أبی طالب! فعند ذلك رحلوا)!

ومعناه: أنهم احتالوا عليها، فجاء ابن الزبير مسرعاً وقال لها إركبي ياخالتي جاءنا علي! ومن خوفهم سلكوا غير الطريق العام:(فخرجوا حتى إذا انتهوا إلى جبال أوطاس تيامنوا وسلكوا طريقاً نحو البصرة، وتركوا طريقها يساراً). (الطبري:3/477).

ما أكثر كلاب الحوأب وما أشد نباحها

1. في مناقب آل أبی طالب (2/336):( ذكر ابن الأعثم في الفتوح، والماوردي في أعلام النبوة، وشيرويه في الفردوس، وأبو يعلى في المسند، وابن مردويه في فضايل أمير المؤمنين، والموفق في الأربعين، وشعبة، والشعبي، وسالم بن أبي الجعد في أحاديثهم، والبلاذري والطبري في تاريخيهما: أن عائشة لما سمعت نباح الكلاب قالت أي ماء هذا؟ فقالوا الحوأب، قالت إنا لله وإنا إليه راجعون، إني لهيَهْ! قد سمعت رسول الله وعنده نساؤه يقول:ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب!

ص: 69

وفي رواية الماوردي:أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تخرج فتنبحها كلاب الحوأب [وهي في فئة باغية] يقتل من يمينها ويسارها قتلى كثيرة وتنجو بعد ما كادت تقتل)!

2. شهد الذهبي بصحة حديث الحوأب وارتضى أنه معجزة للنبي (صلی الله علیه و آله) . قال في سيره (2/198): (أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، يقتل حولها قتلى كثيرة، وتنجو بعد ما كادت. قال ابن عبد البر: هذا الحديث من أعلام النبوة، وعصام ثقة).

وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (1/767): أيتكن تنبح عليها كلاب الحوأب.أخرجه أحمد (6/52) عن يحيى وهو ابن سعيد و(6 /97) عن شعبة , وأبو إسحاق الحربي في غريب الحديث (5/78 /1) عن عبدة وابن حبان في صحيحه ( 1831 -موارد) عن وكيع وعلي بن مسهر وابن عدي في الكامل ( ق 223 / 2) عن ابن فضيل , والحاكم (3 /120) عن يعلى بن عبيد , كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم أن عائشة لما أتت على الحوأب سمعت نباح الكلاب فقالت: ما أظنني إلا راجعة , إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لنا.. فذكره. ولفظ يحيى قال: لما أقبلت عائشة بلغت مياه بني عامر ليلاً نبحت الكلاب قالت:أي ماء هذا قالوا:ماء الحوأب , قالت:ما أظنني إلا أني راجعة , فقال بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله ذات بينهم , قالت:إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لها ذات يوم:كيف بإحداكن تنبح...

قلت: وإسناده صحيح جداً , رجاله ثقات أثبات من رجال الستة: الشيخين والأربعة رواه السبعة من الثقات عن إسماعيل بن أبي خالد، وهو ثقة ثبت، كما في التقريب.

ثم رد الألباني كلام من ضعفه وقال: وعلى هذا فالحديث من أصح الأحاديث ولذلك تتابع الأئمة على تصحيحه قديماً وحديثاً. الأول: ابن حبان فقد أخرجه في صحيحه كما سبق. الثاني: الحاكم بإخراجه إياه في المستدرك كما تقدم ولم يقع في المطبوع منه التصريح بالتصحيح منه , ولا من الذهبي, فالظاهرأنه سقط من الطابع أو الناسخ، فقد نقل الحافظ في الفتح (13/45) عن الحاكم أنه صححه , وهو اللائق به لوضوح صحته.

الثالث: الذهبي فقد قال في ترجمة السيدة عائشة من كتابه العظيم سير النبلاء: هذا حديث صحيح الإسناد , ولم يخرجوه. الرابع:الحافظ ابن كثير، فقال في البداية بعد أن عزاه

ص: 70

كالذهبي لأحمد في المسند: وهذا إسناد على شرط الشيخين ولم يخرجوه.

الخامس: الحافظ ابن حجر فقد قال في الفتح بعد أن عزاه لأحمد وأبي يعلى والبزار. وصححه ابن حبان والحاكم وسنده على شرط الصحيح.

فهؤلاء خمسة من كبار أئمة الحديث صرحوا بصحة هذا الحديث وذلك ما يدل عليه النقد العلمي الحديثي كما سبق تحقيقه). ثم انتقد الألباني يحيى بن سعيد القطان لتضعيفه له، وابن العربي في القواصم ومحب الدين الخطيب، لإنكارهما الحديث.

3. في شرح النهج (6/225 و9/310):(نبحتها الكلاب حتى نفرت صعاب إبلها

فقال قائل من أصحابها:ألا ترون ما أكثر كلاب الحواب وما أشد نباحها! فأمسكت زمام بعيرها وقالت:وإنها لكلاب الحوأب!ردوني ردوني فإني سمعت رسول الله يقول..فقال لها الزبير: مهلاً يرحمك الله فإنا قد جزنا ماء الحوأب بفراسخ كثيرة، فقالت: أعندك من يشهد بأن هذه الكلاب النابحة ليست على ماء الحوأب؟ فلفق لها الزبيروطلحة خمسين أعرابياً جعلا لهم جعلاً فحلفوا لها وشهدوا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب! فكانت هذه أول شهادة زور في الإسلام)!

وفي رواية أبي الفداء (1/173) ونهاية الأرب (20/31) وعمدة القاري(15/49): (فصرخت عائشة بأعلى صوتها واسترجعت وقالت: إني لهيه! ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، وقالت: ردوني! أنا والله صاحبة ماء الحوأب! فأناخوا حولها يوماً وليلة! فقال لها عبدالله بن الزبير: إنه كذب، وليس هو ماء الحوأب!

ولم يزل بها وهي تمتنع، حتى قال لها: النجاءَ النجاء، قد أدرككم علي بن أبی طالب! فعند ذلك رحلوا).

وفي فتح الباري(13/45):( يقتل عن يمينها وعن شمالها قتلى كثيرة، وتنجو من بعد ما كادت.. رجاله ثقات). أقول: تنجو من القتل، وليس في الآخرة.

وقال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة (1/60): (فقال لها محمد بن طلحة: تقدمي رحمك الله ودعي هذا القول)! أي لا تهتمي بتحذير النبي (صلی الله علیه و آله) !ويقولون كان محمد بن طلحة عابداً، فأي عابد هذا يقول لعائشة: لاتهتمي بقول النبي (صلی الله علیه و آله) وتقدمي!

ص: 71

4. وقال أبو جعفر الإسكافي في المعيار والموازنة/56:(يقول علي رضي الله عنه وهو بالمدينة: ستنبحها كلاب الحوأب، وتقول هي لما نبحتها كلاب الحوأب: سمعت النبي يقول:كأني بكلاب ماء يدعى الحوأب قد نبحت على امرأة من نسائي، وهي في فئة باغية، ثم قال: لعلك أنت يا حميراء، قالت: ثم دعا علياً فناجاه بما شاء! هل يكون بيان أوضح من هذا بأن علياً لم يقدم ولم يحجم، ولم يقل ولم يسكت، إلا بأمر من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فليعتبر من به حياة، وليذكر من كان له قلب! واعلموا أن مثل هذه الأخبار لا تكون مفتعلة).

5.كان خروج عائشة لحرب الجمل بعد ربع قرن من إخبار النبي (صلی الله علیه و آله) ، ولم تنبح كلاب طريق غيرها، فتعين أن تكون هي صاحبة الحوأب، فهل نكذب الواقع والنبي (صلی الله علیه و آله) والمؤرخين والمحدثين، لنصدق طلحة والزبير وشهودهم بالأجرة!

وكيف نثق بصحابي يستأجر شهود الزور!

لكن القوم أشربوا حب عائشة وطلحة والزبير، وحب كل من أبغض علياً (علیه السلام) !

6.لا تنفر الإبل عادة من نباح الكلاب إلا في حالات استثنائية، والإبل الصعبة أقل تأثراً بنباح الكلاب، وقد نفرت إبل عائشة حتى الصعبة لكثرة كلاب الحوأب وشدة نباحها وهجومها عليهم. (شرح النهج:6/225) وكأن هذه الكلاب جنٌّ جمعهم الله لتحقيق الآية التي أخبر بها رسوله (صلی الله علیه و آله) ! وكانت إبل عائشة

ست مئة ومعنى نفرتها أنها هربت في كل جهة، ولم يسيطروا عليها إلا بصعوبة!

7. قال الصدوق في من لايحضره الفقيه (3/75): (قال الإمام الصادق (علیه السلام) : أول شهادة شهد بها بالزور في الإسلام: شهادة سبعين رجلاً حين انتهوا إلى ماء الحوأب، فنبحتهم كلابها فأرادت صاحبتهم الرجوع وقالت: سمعت رسول الله يقول لأزواجه: إن إحداكن تنبحها كلاب الحوأب، في التوجه إلى قتال وصيي علي بن أبی طالب (علیه السلام) ، فشهد عندها سبعون رجلاً أن ذلك

ص: 72

ليس بماء الحوأب، فكانت أول شهادة شهد بها في الإسلام بالزور).

وفي رسائل المرتضى(4/64): (فكسوهم أكسية، وأعطوهم دراهم).

أقول:معنى قولهم أنها أول شهادة زور في الإسلام، أنها أول قسامة بسبعين رجلاً أو خمسين، وإلا فقد كانت شهادة الزور قبل الحوأب كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (الكافي(8/29): (ألا وإن أول شهادة زور وقعت في الإسلام شهادتهم أن صاحبهم مستخلف رسول الله (صلی الله علیه و آله) ،فلما كان من أمر سعد بن عبادة ما كان، رجعوا عن ذلك وقالوا: إن رسول الله مضى ولم يستخلف، فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) الطيب المبارك أول مشهود عليه بالزور في الإسلام)!

8. في رواية الصدوق أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لها: (تنبحها كلاب الحوأب في التوجه إلى قتال وصيي علي بن أبی طالب).وفي رواية الإسكافي: (في فئة باغية).

وقد حذف رواة السلطة الفقرتين ليبعدوا صفة الفئة الباغية عن مقاتلي علي (علیه السلام) !

9. فسر الخليل حوأب بالمكان المقعر الواسع، قال (3/310): (الحوأب: موضع، وذلك حيث نبحت الكلاب على عائشة مَقْبَلُها إلى البصرة).

وقال ابن فارس (2/145): (الوادي الواسع العرض، والحاء فيه زائدة، وإنما الأصل الوأب، والوأب الواسع المقعر من كل شئ).

10. من تناقضاتهم أنهم قبلوا رواية الحوأب ثم شككوا في تطبيقها على عائشة.

لكن لا حوأب إلا ذلك المكان، ولا صاحبة لكلاب الحوأب إلا عائشة!

11. في مناقب آل أبی طالب (2/335): (شعبة والشعبي والأعثم وابن مردويه وخطيب خوارزم في كتبهم، بالأسانيد عن ابن عباس، وابن مسعود، وحذيفة،وقتادة، وقيس بن أبي حازم، وأم سلمة، وميمونة، وسالم بن أبي الجعد، واللفظ له: أنه ذكر النبي (صلی الله علیه و آله) خروج بعض نسائه فضحكت عائشة فقال: أنظري يا حميراء لاتكونين هي. ثم التفت إلى علي فقال: يا أبا الحسن إن وليت

ص: 73

من أمرها شيئاً فارفق بها. فقال الزاهي:

كم نهيت عن تبرجٍ فعصت *** وأصبحت للخلاف متبعهْ

قال لها الله في البيوت قري *** فخالفته العفيفة الورعهْ

وقال السوسي:

وما للنساء وحرب الرجال *** فهل غلبت قط أنثى ذكر

ولو أنها لزمت بيتها *** ومغزلها لم ينلها ضرر

وقال الحميري:

جاءت مع الأشقيْن في هودج *** تزجي إلى البصرة أجنادها

كأنها في فعلها هرةٌ *** تريد أن تأكل أولادها

وقال الأحنف بن قيس:

حجابك أخفى للذي تسترينه *** وصدرك أوعى للتي لا أقولها

فلا تسلكِن الوعر صعباً مجازُه *** فتغبرُّ من سُحْب الملاء ذيولها)

 

الشبه بين عائشة وصفورة زوجة موسى (علیه السلام)

1. استفاضت الأحاديث بأن صفيراء زوجة موسى حاربت وصيه يوشع (علیه السلام) . فقد روى الطبري في بشارة المصطفى/428: (عن عبد الرزاق، عن أبيه، عن مينا مولى عبد الرحمن بن عوف، عن عبدالله بن مسعود قال: قلت للنبي (صلی الله علیه و آله) : يا رسول الله من يغسلك إذا متَّ؟ قال: يغسل كل نبي وصيه، قلت: فمن وصيك يا رسول الله؟ قال: علي بن أبی طالب. قلت:كم يعيش بعدك يا رسول الله؟ قال: ثلاثين سنة، فإن يوشع بن نون وصي موسى عاش من بعده ثلاثين سنة، وخرجت عليه صفوراء بنت شعيب زوجة موسى فقالت: أنا أحق بالأمر منك فقاتلها فقتل مقاتلها وأسرها فأحسن أسرها، وإن ابنة أبي بكر ستخرج على علي في كذا وكذا ألفاً من أمتي، فيقاتلها فيقتل

ص: 74

مقاتلها ويأسرها فيحسن أسرها! وفيها أنزل الله عز وجل: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، يعني صفراء ابنة شعيب).

أقول: وعاش شمعون الصفا وصي عيسى، بعد عيسى (علیهما السلام) ثلاثين سنة.

وفي إثبات الوصية للطبري (1/66): (خرجت صفورا بنت شعيب امرأة موسى على يوشع و ركبت الزرافة و كان ظهر الزرافة كالسرج فلما حاربت حجة الله و ظفر بها ومن عليها صير الله ظهر الزرافة كالزلاقة و حماه.

فكانت الحرب لها أول النهار الى قبل زوال الشمس، ثم صارت له الى آخر النهار فظفر بها، و أشار عليه بعض من معه بقتلها، فقال لهم: قد عرفني موسى أمرها وخروجها و أمرني أن أحفظه فيها وأحسن صونها، فوكل بها نساء متلثمات أركبهن الخيل في زي الرجال و وجه بهن. فلما صارت هناك جمعت النساء و الرجال

وقالت: إن يوشع بن نون أسرني وبعث بي مع رجال ليس فيهم محرم الى هذا المكان.فكشف النساء اللثام حتى نظر بنو اسرائيل إليهن وكذبنها).

2. في كمال الدين للصدوق/154: (فصاح صائح من السماء: مات موسى كليم الله وأي نفس لا تموت، فحدثني أبي عن جدي عن أبيه (علیهم السلام) أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) سئل عن قبر موسى أين هو؟ فقال:هوعند الطريق الأعظم عند الكثيب الأحمر. ثم إن يوشع بن نون قام بالأمر بعد موسى (علیهما السلام) صابراً من الطواغيت على اللأواء والضراء والجهد و البلاء، حتى مضى منهم ثلاث طواغيت، فقوي بعدهم أمره، فخرج عليه رجلان من منافقي قوم موسى بصفراء بنت شعيب امرأة موسى في مائة ألف رجل، فقاتلوا يوشع بن نون (علیه السلام) فقتلهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وهزم الباقين بإذن الله تعالى ذكره، وأسر صفراء بنت شعيب وقال لها: قد عفوت عنك في الدنيا إلى أن ألقى نبي الله موسى (علیه السلام) فأشكو إليه ما لقيت منك ومن قومك! فقالت صفراء: واويلاه، والله لو أبيحت لي الجنة لاستحييت أن أرى فيها رسول الله وقد هتكت حجابه وخرجت على وصيه بعده! فاستتر

ص: 75

الأئمة بعد يوشع بن نون إلى زمان داود (علیه السلام) أربع مائة سنة، وكانوا أحد عشر، وكان قوم كل واحد منهم يختلفون إليه في وقته ويأخذون عنه معالم دينهم، حتى انتهى الأمر إلى آخرهم فغاب عنهم، ثم ظهرلهم فبشرهم بداود (علیه السلام) ).

3. قال المفيد في مسار الشيعة/41:(وفيه(18ذيالحجة) نصب موسى يوشع بن نون (علیهما السلام) وصيه، ونطق بفضله على رؤوس الأشهاد. وفيه أظهر عيسى بن مريم وصيه شمعون الصفا (علیهما السلام) . وفيه أشهد سليمان بن داود سائر رعيته على استخلاف آصف بن برخيا (علیهما السلام) وصيه، ودل على فضله بالآيات والبينات. وهو يوم عظيم، كثير البركات).

(قال:فمن كان وصي موسى؟ قال (صلی الله علیه و آله) : يوشع بن نون. قال: فمن كان وصى: عيسى؟ قال: شمعون بن حمون الصفا، ابن عم [عمة] مريم (علیها السلام) ). (البصائر /119).

وفي مجمع الزوائد (9/102): (عن ابن عباس عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: السُّبَّقُ ثلاثة: السابق إلى موسى يوشع بن نون، والسابق إلى عيسى صاحب ياسين، والسابق إلى محمد (صلی الله علیه و آله) علي بن أبی طالب. رواه الطبراني وفيه حسين بن حسن الأشقر، وثقه ابن حبان وضعفه الجمهور، وبقية رجاله حديثهم حسن أو صحيح).

أقول: لاعذر لهم في تضعيفه بحسين الأشقر، لأن الحاكم الحسكاني رواه (2/294) عن ابن أبي السري، وقال: فذكرته لحسين الأشقر فقال: سمعناه من ابن عيينة).

4. قال الأنصاري الحلبي في الأعلاق الخطيرة (1/111): (كفر مندة: قرية، قيل إنها مدين شرقي طور سينا. وبهذه القرية قبرصفوراء بنت شعيب زوجة موسى وبها الجب الذي قلع الصخرة من عليه وسقى منها أغنام شعيب. والصخرة باقية هناك. وبها اثنان من أولاد يعقوب، وهما أشير ونفتالي).

وفي النجوم الزاهرة (5/109):(حِطِّين: قرية غربي طبرية، ويقال إن قبر شعيب (علیه السلام) بها، وبنته صفوراء زوجة موسى (علیه السلام) أيضاً بها).

ص: 76

ملاحظات

1. تدل الأحاديث على أن البرنامج الرباني لأوصياء موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليه وآله وعليهم، واحدة في يوم نصب الوصي، ومدة حياته بعد نبيه (علیهم السلام) .فكان نصبهم في الثامن عشر من ذي الحجة، وعاش كل منهم بعد نبيه ثلاثين سنة.

2. كما نلاحظ الشبه التام بين بني إسرائيل والمسلمين، كما قال النبي (صلی الله علیه و آله) :(لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لوسلكوا جحر ضب لسلكتموه! قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال:فمن)؟! (البخاري:4/144).

وقد عزل اليهود وصي موسى يوشع بن نون (علیهما السلام) ، ونصبوا خليفة لموسى منهم من القضاة، ونظام القضاة الذي ابتدعوه نفس نظام الخلفاء في أمتنا!

وبقي يوشع (علیه السلام) معزولاً حتى مضى ثلاثة من القضاة، كما بقي علي (علیه السلام) معزولاً حتى مضى ثلاثة من خلفاء قريش. ولما اضطر بنو إسرائيل لأن يبايعوا يوشع (علیه السلام) خرجت عليه الصفورة أو الصفراء أو الصفيراء زوجة موسى (علیه السلام) ، وكذلك لما اضطروا الى بيعة علي (علیه السلام) خرجت عليه عائشة! فكان ذلك شبراً بشبر، وذراعاً بذراع!

3. لا تجد أحداً من أتباع السلطة القرشية يتعظ بمعجزة النبي (صلی الله علیه و آله) وإخباره بالمغيبات في هذه الأمة! بل تجدهم يتسابقون في إغماض عيونهم وتغميض عيون الناس عنها، وتبرير ما حدث بعد النبي (صلی الله علیه و آله) ومدح المخالفين لعترة النبي (صلی الله علیه و آله) ، بل مدح قاتليهم!

4.كما نلاحظ الشبه شبراً بشبر بين المحدثين المسلمين أتباع سلطة خلفاء قريش، ومحدثي اليهود أتباع سلطة قضاة بني إسرائيل، وشبه صحاح الحديث ونصوص التلمود في التبرير للحكام، وتغييب الحقائق وإخفاء المعارضة!

ص: 77

لاحظ نص قاموس الكتاب المقدس/735،عن نظام القضاة وعلاقتهم بالنبي والوصي.قال:(قام رؤساء للشعب بعد موسى من أبطالهم الغيورين للرب وللشعب، ولُقبوا بالقضاة لأنهم كانوا يقضون للناس. ولكن الله كان مرجعهم الأخير. فكان الملك هوالقاضي العظيم وشيوخ المدينة يقضون تحت يده. وكان يسمح لأحقر شخص أن يصل إلى الملك ليرفع إليه شكواه وليستأنف دعواه. فكانوا يأتون إلى داود من سائر الأسباط (2 صم 15: 2) وكان على الملك أو القاضي الحاكم أن يستشيرالنبي أو الكاهن العظيم. (عد 27: 21و1 صم 22: 15).

فرؤساء الشعب قاموا بعد موسى (علیه السلام) ونصبوا أنفسهم حكاماً، ولم يكن عندهم علم فكانوا يستشيرون النبي والكاهن العظيم، مثل يوشع! وكذلك خلفاء النبي (صلی الله علیه و آله) !

وقال في قاموس الكتاب المقدس/552: (صموئيل: إسم عبري معناه إسم الله أو إسمه إيل أي الله.هو أول أنبياء العبرانيين بعد موسى وآخر القضاة، وكان أبوه القانة لاويا، وينتسب إلى صوفاي أو صوف. (1 صم 1: 1 و1أخبار 6:26و35).

فصموئيل الذي جاء بعد موسى (علیه السلام) هو أبوبكر، أما صفورة فقد أخفوا خروجها على يوشع (علیه السلام) ! قال في قاموس الكتاب المقدس/544: (صفورة:إسم مدياني معناه عصفورة، ابنة يثرون الكاهن المدياني، اقترنت بموسى وولدت له ابنين

(خر 2: 21 و22) ولعلها ذهبت إلى أبيها مع ولديها في ذلك الوقت، ولكن الأرجح أنها رافقت موسى إلى مصر، وبعد الخروج فيما كان قائد بني إسرائيل يدنو من جبل سيناء أرسلت إلى يثرون لتعلمه بما صنع الله لموسى ولبني إسرائيل، وكيف أن الرب أخرجه من مصر(خر 18:1)وقد عاد معهم يثرون إلى رفيديم.

(خر 18: 2- 6).

ص: 78

الفصل الرابع والخمسون: وصول عائشة الى البصرة وسيطرتها عليها

عسكرت عائشة في حفر أبي موسى قرب البصرة

قال في شرح النهج (9/311): ( عن ابن عباس، أن الزبير وطلحة أغذَّا السير بعائشة حتى انتهوا إلى حفر أبي موسى وهو قريب من البصرة (يبعد عنها أربعة أميال، نحو 6 كيلومتر: معجم البلدان:2/277) وكتبا إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وهوعامل علي على البصرة: أن أَخْلِ لنا دار الامارة! فلما وصل كتابهما إليه بعث الى الأحنف بن قيس فقال له:إن هؤلاء القوم قدموا علينا ومعهم زوجة رسول الله (صلی الله علیه و آله) والناس إليها سراع كما ترى! فقال الأحنف: إنهم جاءوك بها للطلب بدم عثمان وهم الذين ألبوا على عثمان الناس وسفكوا دمه! وأراهم والله لا يزايلون حتى يلقوا العداوة بيننا ويسفكوا دماءنا! وأظنهم والله سيركبون منك خاصة مالا قبل لك به إن لم تتأهب لهم بالنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة، فإنك اليوم الوالي عليهم وأنت فيهم مطاع، فسر إليهم بالناس، وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة فيكون الناس لهم أطوع منهم لك! فقال عثمان بن حنيف:الرأي ما رأيت لكنني أكره الشر وأن أبدأهم به، وأرجو العافية والسلامة إلى أن يأتيني كتاب أميرالمؤمنين ورأيه فأعمل به. ثم أتاه بعد الأحنف حكيم بن جبلة العبدي من بني عمرو بن وديعة، فأقرأه كتاب طلحة والزبيرفقال له مثل قول الأحنف، وأجابه عثمان بمثل جوابه للأحنف،

فقال له حكيم: فأذن لي حتى أسير إليهم بالناس فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين (علیه السلام) وإلا نابذتهم على سواء.فقال عثمان: لوكان ذلك رأيي لسرت إليهم بنفسي. قال حكيم: أما

ص: 79

والله إن دخلوا عليك هذا المصر لتنتقلن قلوب كثير من الناس إليهم وليزيلنك عن مجلسك هذا وأنت أعلم. فأبى عليه عثمان! قال: وكتب علي (علیه السلام) إلى عثمان لما بلغه مشارفة القوم البصرة:من عبدالله علي أميرالمؤمنين إلى عثمان بن حنيف: أما بعد، فإن البغاة عاهدوا الله ثم نكثوا، وتوجهوا إلى مصرك، وساقهم الشيطان لطلب ما لايرضى الله به، والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً، فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة والرجوع إلى الوفاء بالعهد والميثاق الذي فارقونا عليه، فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك وإن أبوا إلا التمسك بحبل النكث والخلاف، فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك وبينهم وهو خير الحاكمين. وكتبت كتابي هذا إليك من الربذة، وأنا معجل المسير إليك إنشاءالله. وكتبه عبيد الله بن أبي رافع في سنة ست وثلاثين.

قال: فلما وصل كتاب علي (علیه السلام) إلى عثمان، أرسل إلى أبي الأسود الدؤلي وعمران بن الحصين الخزاعي، فأمرهما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم، وما الذي أقدمهم؟ فانطلقا حتى إذا أتيا حفر أبي موسى وبه معسكر القوم، فدخلا على عائشة فنالاها ووعظاها وأذكراها وناشداها الله، فقالت لهما: إلقيا طلحة والزبير. فقاما من عندها ولقيا الزبيرفكلماه فقال لهما: إنا جئنا للطلب بدم عثمان وندعو الناس إلى أن يردوا أمر الخلافة شورى ليختار الناس لأنفسهم.

فقالا له: إن عثمان لم يقتل بالبصرة ليطلب دمه فيها، وأنت تعلم قتلة عثمان من هم وأين هم، وإنك وصاحبك وعائشة كنتم أشد الناس عليه،

وأعظمهم إغراء بدمه، فأقيدوا من أنفسكم! وأما إعادة أمرالخلافة شورى فكيف وقد بايعتم علياً طائعين غير مكرهين! وأنت يا أبا عبدالله لم يبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل يوم مات رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنت آخذ قائم سيفك، تقول: ما أحد أحق بالخلافة منه ولا أولى بها منه، وامتنعت من بيعة أبي بكر! فأين ذلك الفعل من هذا القول! فقال لهما: إذهبا فالقيا طلحة، فقاما إلى طلحة فوجداه خشن الملمس، شديد العريكة قوي العزم في إثارة الفتنة وإضرام نار الحرب، فانصرفا إلى عثمان بن حنيف فأخبراه، وقال له أبو الأسود:

ص: 80

يا ابن حنيف قد أُتِيتَ فانفرْ *** وطاعن القوم وجالدْ واصبرْ

وابرز لها مستلئماً وشمرْ

فقال ابن حنيف: إي والحرمين لأفعلن، وأمر مناديه فنادى في الناس: السلاح

السلاح! فاجتمعوا إليه، وقال أبو الأسود:

أتينا الزبير فدانى الكلام *** وطلحة كالنجم أو أبعدُ

وأحسن قوليهما فادحٌ *** يضيق به الخطبُ مستنكد

وقد أوعدونا بجهد الوعيد *** فأهون علينا بما أو عدوا

فقلنا ركضتم ولم ترملوا *** وأصدرتم قبل أن توردوا

فإن تلقحوا الحرب بين الرجا *** ل فملقحها حده الأنكد

وإن علياً لكم مصحرٌ *** ألا إنه الأسد الأسود

أما إنه ثالث العابدين *** بمكة والله لا يعبد

فَرَخُّوا الخناق ولا تعجلوا *** فإن غداً لكم موعد).

أقول: الأحنف بن قيس رئيس بني تميم، وحكيم بن جبلة رئيس بني عبد القيس رحمهما الله، وكان رأيهما أن يبادر والي البصرة ويخرج بجنده الى عائشة وجماعتها في حفر أبي موسى، الذي يبعد عن البصرة عدة أميال، ويدعوهم الى طاعة أمير المؤمنين (علیه السلام) والوفاء ببيعتهم، فإن أبوا قاتلهم. وكان رأيه كذلك، لكن أمير المؤمنين (علیه السلام) أمره أن يتركهم ماداموا خارج البصرة، فإذا أرادوا دخولها منعهم وقاتلهم.

قال له في رسالته: (فإذا قدموا عليك، فادعهم إلى الطاعة والرجوع إلى الوفاء بالعهد والميثاق الذي فارقونا عليه، فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك وإن أبوا إلا التمسك بحبل النكث والخلاف، فناجزهم القتال).

وفي رسالة أخرى: (فإن قدموا مصرك، فادعهم إلى الحق والرجوع إلى الوفاء

ص: 81

بعهد الله والميثاق الذي بايعوا عليه، فإن فعلوا فأحسن جوارهم، ومرهم بالإنصراف إلى المكان الذي أقبلوا منه، وإن أبوا وتمسكوا بحبل النكث، فقاتلهم حتى يحكم الله بينك وبينهم، وهو خير الحاكمين).

وفهم ابن حنيف من رسائل علي (علیه السلام) أنهم ما داموا خارج البصرة، في حفر أبي موسى أو في الخريبة، فلا تقاتلهم، وإذا دخلوا الى مربد البصرة وهو ساحة متصلة بالمدينة فلا تقاتلهم، حتى يهاجموك ويقصدوا احتلال المدينة.

وهذا ينسجم مع سياسة أمير المؤمنين (علیه السلام) مع الخوارج عليه بأن يتركهم ولو جمعوا الأنصار ضده، ويترك من أراد أن يلتحق بهم!

وقد فهمت عائشة هذه السياسة، فدعت الناس الى التجمع في مربد البصرة، وكان تجمعاً حاشداً، لأن الناس يريدون رؤية زوجة نبيهم (صلی الله علیه و آله) وسماع كلامها.

واعتبر الأحنف وحكيم ذلك خطأ من الوالي، خاصة أن عائشة بخطبتها قسمت الناس وجذبت كثيراً من أتباع الوالي الى صفها وجندها!

لكن فهم ابن حنيف لسياسة أمير المؤمنين (علیه السلام) كان أصوب، وقد كتب هو (علیه السلام) بهذه السياسة أيضاً الى سهل بن حنيف والي المدينة فقال له: (بلغني أن رجالاً ممن قبلك يتسللون إلى معاوية، فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم، ويذهب عنك من مددهم. فكفى لهم غياً ولك منهم شافياً، فرارهم من الهدى والحق، وإيضاعهم إلى العمى والجهل. وإنما هم أهل دنياً مقبلون عليها ومهطعون إليها، قد عرفوا العدل ورأوه وسمعوه ووعوه، وعلموا أن الناس عنده في الحق أسوة فهربوا إلى الأثرة! فبعداً لهم وسحقاً)!

وقد طبق ابن حنيف سياسة أمير المؤمنين (علیه السلام) بدقة، فأعطى عائشة الحرية، وجمع جنوده بعد المربد على مداخل البصرة، وأفواه سككها، ليمنعها من دخولها.

وأصل سياسة أمير المؤمنين (علیه السلام) قاعدة عمل بها النبي (صلی الله علیه و آله) تقول: دعوا مقادير الله تمضي.أي إصبروا حتى يخرج ما بالقوة فيهم الى ما بالفعل، فيعرفهم الناس!

ص: 82

لماذا لم يقاتلهم ابن حنيف قبل دخولهم البصرة؟

قد يقال: كان الواجب على عثمان بن حنيف أن يأخذ برأي الأحنف بن قيس وحكيم بن جبلة وأبي الأسود الدؤلي، وغيرهم، ويقصد بجيشه عائشة وجماعتها قبل أن يدخلوا البصرة، ويعرض عليهم إما الوفاء ببيعتهم لأمير المؤمنين (علیه السلام) وإما القتال، ولا يسمح لهم بدخول البصرة وخداع الناس وكسبهم الى جيشهم. وقد قال له الأحنف: إنهم جاءوك بها للطلب بدم عثمان، وهم الذين ألبوا على عثمان الناس وسفكوا دمه! وأراهم والله لا يزايلون حتى يلقوا العداوة بيننا ويسفكوا دماءنا! وأظنهم والله سيركبون منك خاصة مالا قبل لك به إن لم تتأهب لهم بالنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة، فإنك اليوم الوالي عليهم وأنت فيهم مطاع، فسر إليهم بالناس وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة، فيكون الناس لهم أطوع منهم لك!

فقال عثمان بن حنيف: الرأي ما رأيت، لكنني أكره الشر وأن أبدأهم به، وأرجو العافية والسلامة إلى أن يأتيني كتاب أميرالمؤمنين (علیه السلام) ورأيه فأعمل به. وقال له حكيم بن جبلة: فأذن لي حتى أسير إليهم بالناس فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين (علیه السلام) وإلا نابذتهم على سواء.

فقال عثمان: لوكان ذلك رأيي لسرت إليهم بنفسي! فلم يبادرهم ابن حنيف، ولا سمح لحكيم بن جبلة أن يبادرهم، وحكيم لا يقل عن الزبير في شجاعته. فقد فهم الوالي من أمير المؤمنين (علیه السلام) أن لايقاتلهم إلا إذا هاجموا دار الإمارة!

فقد يقال: ما بال أمير المؤمنين (علیه السلام) أراد أن يلحق بهم هو في الحجاز ويقاتلهم؟

وجوابه: أن المكان كان الحجاز وطرفهم نفس علي (علیه السلام) الذي نكثوا بيعته، فلو التقى بهم لاحتج عليهم بما لا يستطيع ابن حنيف أن يحتج به عليهم.

وقد يقال: ما الفرق بينهم وبين أهل خَرَبْتَا في مصر، الذين لم يبايعوا أميرالمؤمنين (علیه السلام) فأمر واليه قيس بن سعد أن يناجزهم القتال، فلم يقبل، فعزله.

قال الثقفي في الغارات (1/206): (وثب مسلمة بن مخلد بن صامت الأنصاري،

ص: 83

فنعى عثمان ودعا إلى الطلب بدمه، فأرسل إليه قيس: ويحك أعليَّ تثب.. فأرسل إليه مسلمة أني كافٌّ عنك، ما دمت أنت والي مصر).

وقال الطبري (3/553):«فلما بلغ ذلك علياً اتهم قيساً، وكتب إليه يأمره بقتال أهل خربتا، وأهل خربتا يومئذ عشرة آلاف، فأبى قيس بن سعد أن يقاتلهم وكتب إلى علي: فذرني فأنا أعلم بما أداري منهم، فأبى علي إلا قتالهم وأبى قيس أن يقاتلهم، فكتب قيس إلى علي: إن كنت تتهمني فاعزلني عن عملك، وابعث إليه غيري. فبعث علي الأشتر أميراً إلى مصر).

والجواب: أن عثمان بن حنيف لو هاجمهم خارج البصرة وانتصر عليهم وقتل منهم وأسر، وهرب الباقون، لقال الناس إنه معتدٍ وعائشة وجماعتها مظلومون لم يسمح لهم بدخول البصرة، وقتلهم، وأن هدفهم لم يكن القتال والبغي.

لكن صبر علي (علیه السلام) أظهرهم على واقعهم وكشف أنهم بغاة قتلة، يريدون السيطرة على البصرة والتسلط على أهلها، وقتل من خالفهم!

إن الألف قتيل الذين قتلتهم عائشة في معارك الجمل الصغرى، ومعاملتها الوحشية لعثمان بن حنيف وغيره ممن خالفها، صارت ورقة ظلامة مهمة بيد أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ومبرراً عند الناس لحربه لهم.

أما أهل خربتا فكانوا جيشاً لهم فئة يرجعون اليها هو معاوية، فيجري عليهم حكم الخوارج المسلحين المقاتلين، كما بينا في كتاب: مصر وأهل البيت (علیهم السلام) .

 

ص: 84

حرب الجمل الصغرى والجمل الكبرى

معركة الجمل قسمان: الجمل الصغرى، وكانت ثلاثة أيام بين عائشة وأصحابها وعثمان بن حنيف والي البصرة من قبل أمير المؤمنين (علیه السلام) .

فقد خطبت عائشة في مربد البصرة وحشَّدت الناس، ثم هاجمت دارالإمارة داخل المدينة، فاشتبكت مع المدافعين في أفواه السكك على مدى يومين، ولما كثرت القتلى من الطرفين ولم يتحقق نصرلعائشة، اتفقوا على الصلح، وأن تبقى دار الإمارة وبيت المال وحكم المدينة لعثمان بن حنيف، وأن يكون لعائشة وأصحابها الحرية في التجول في البصرة، وتحشيد الناس معهم.

وبعد أيام قليلة غدروا بابن حنيف وهاجموا المسجد فجراً فاحتلوه، وأسروا ابن حنيف، وأخذوا بيت المال، فكانت يوماً ثالثاً من الحرب.

وبعد أيام جاء حكيم بن جبلة بثلاث مئة من بني عبد القيس، وقاتل عائشة وأصحابها، فغلبوه وقتلوه وأحكموا سيطرتهم على البصرة. فكان هذا اليوم الرابع من الجمل الصغرى. وبلغ القتلى في الأيام الأربعة نحو ألف قتيل.

قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) :(فوالله لو لم يقتلوا منهم إلا رجلاً واحداً لحلَّ لي به دماؤهم ودماء ذلك الجيش لرضاهم بقتل من قتل! دع أنهم قد قتلوا أكثر من العدة التي قد دخلوا بها عليهم).وقد دخلوا البصرة بست مئة مقاتل وقيل سبع مئة.

أما معركة الجمل الكبرى، فبدأت بدخول أميرالمؤمنين (علیه السلام) الى البصرة، وقد أمهلهم ثلاثة أيام، وأرسل الى عائشة وطلحة والزبيرالرسائل والرسل، وطلبهما للحضور بين الصفين للمناقشة فجاءا وناقشهما، فاقتنع الزبير أنه ظالم، وانسحب من المعركة، وفكر طلحة أن ينسحب، فقتله مروان بن الحكم غيلةً.

وأرسل اليهم أميرالمؤمنين (علیه السلام) ابن عباس فناقشهم، ثم أرسل شاباً يدعوهم الى كتاب الله تعالى، فنشر المصحف ودعاهم اليه، فقالت عائشة: أشجروه بالرماح قبحه الله، فقتلوه! ورشقوا جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) بالسهام، فقتل ابن

ص: 85

بديل بن ورقاء الخزاعي وغيره، فأذن أمير المؤمنين (علیه السلام) بقتالهم.

وقال ابن قتيبة إن حرب الجمل استمرت سبعة أيام وهو الصحيح، وفي اليوم السابع نشرأمير المؤمنين (علیه السلام) راية رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأنزل الله عليه النصر، وسقط الجمل وانهزمت عائشة.

وقد روى ابن أبي شيبة أن المعركة كانت نصف يوم، بعد ظهر الخميس، وهذا لايصح، لأن أحداث المعركة وقتلاها لايسعها نصف يوم، ولأن الروايات نصت على أحداث منها في اليوم الثاني والثالث والرابع.

وغرض أتباع السلطة تصغيرالمعركة، بل حاولوا نفيها من أصلها لتبرئة عائشة وطلحة والزبير، فقالوا إنهم ما قصدوا القتال، لكن السبئية أتباع عبدالله بن سبأ والصبيان والأوباش، أنشبوا المعركة، فاضطرت عائشة للدفاع عن نفسها، واضطر طلحة والزبير للدفاع، وكذا علي (علیه السلام) اضطر للدفاع!

خطبت عائشة في المربد ثم هاجمت دار الإمارة !

قال الآبي في نثر الدرر(4/9): (روي أنه لما كان يوم الجمل قامت عائشة فتكلمت فقالت: أيها الناس، إن لي عليكم حق الأمومة وحق الموعظة، لايتهمني إلا من عصى ربه! قبض رسول الله بين سحري ونحري، وأنا إحدى نسائه في الجنة، له ادخرني ربي، وخصني من كل بضع، وبي ميز مؤمنكم من منافقكم، وفيَّ رخص لكم في صعيد الأبواء. وأبي رابع أربعة من المسلمين، وأول مسمىً صديقاً، قبض رسول الله وهو عنه راض، فوقذ النفاق، وأغاض نبع الردة، وأطفأ ما حشت يهود، وأنتم حينئذ جحظ تنتظرون العدوة، وتستمعون الصيحة، فرأب الثأي وأوذم العطلة، وامتاح من المهواة، واجتهر دفن الرواء، فقبضه الله واطئاً على هامة النفاق، مذكياً نار حرب المشركين، يقظان في نصرة الإسلام، صفوحاً عن الجاهلين).

أي: لا يتهمني في عملي إلا عاصٍ كالذين اتهموني في عرضي، وإن رسول الله توفي على صدري، وقد اختارني الله زوجته في الدنيا والآخرة، وإن أباها رتق الفتق، واستقى من

ص: 86

البئر العميقة، وهو رابع المسلمين والصديق، وهو الذي أطفأ الردة وأنتم جالسون تتفرجون! وكلها دعاوى بلا دليل، بل الدليل على عكسها، كما بينا في قراءة جديدة في حروب الردة. وقد أخذت عائشة كلامها من خطبة فاطمة (علیها السلام) بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) !

وروي أن عائشة قالت: تبرأت إلى الله من خطب جمع شمل الفتنة، وفرق أعضاء ما جمع القرآن. أنا نصب المساءلة عن مسيري هذا، ألا وإني لم أجرد إثماً أدرعه،

ولم أدلس فتنة أوطأتكموها. أقول قولي هذا صدقاً وعذراً واعتذاراً وتعذيراً،

وأسأل الله أن يصلي على محمد عبده ورسوله، وأن يخلفه في أمته أفضل خلافة المرسلين قال:فانطلق رجل بمقالتها هذه إلى الأحنف فقال الأحنف أبياتاً فيها:

فلو كانت الأكنان دونكِ لم يجد *** عليك مقالاً ذو أذاة يقولها

فبلغ عائشة مقالته فقالت: لقد استفرغ حلم الأحنف هجاؤه إياي، إليَّ كان يستجم مثابة سفهه؟ إلى الله أشكو عقوق أبنائي)! أي: ذهب هجاء الأحنف لي بحلمه!

قال بعضهم: شهدت عائشة يوم الجمل وقد ثاب إليها الناس فقالوا:يا أم المؤمنين أخبرينا عن عثمان، فقالت: إنا نقمنا على عثمان ثلاثاً: إمرة الفتى، وضرب السوط، وموقع الغمامة المتحاماة، حتى إذا أعتبنا منهن مَصْتُمُوهُ مَوْصَ الثوب بالصابون، ثم عدوتم به الفواقر أو الفقرالثلاث: حرمة الإسلام، وحرمة الخلافة، وحرمة الشهر الحرام. والله لعثمان كان أتقاهم للرب، وأوصلهم للرحم، وأعفَّهم للفرج، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم).

أي: نقمنا عليه تأمير صغار السن من بني أمية، وضربه الناس، وحميه الحمى للرعي، وأنتم غسلتموه بتأنيبكم إياه، ثم قتلتموه ظلماً!

 

وفي رواية الفائق للزمخشري(2/126): (إن لي حرمة الأمومة، وحق الصحبة، لايتهمني منكم إلا من عصى ربه، وقبض رسول الله بين سحري ونحري وحاقنتي وذاقنتي، وأنا إحدى نسائه في الجنة، وبه حصنني ربي من كل وضيع، وبي ميز مؤمنكم من منافقكم.. وإني أقبلت أطلب بدم الإمام المركوبة منه الفقر

ص: 87

الأربع، فمن ردنا عنه بحق قبلناه، ومن ردنا عنه بباطل قاتلناه،فربما ظهرالظالم على المظلوم والعاقبة للمتقين. فأُخبر الأحنف بما قالت، فأنشأ فيها أبياتاً:

فلو كانت الأكنان دونك لم يجد *** عليك مقالاً ذو أذاة يقولها

وقفت بمستنِّ السيول وقلَّ من *** يُثَوِّي بها إلا علاهُ بليلها

مخضتِ سِقائَيْ غدرةٍ وملامةٍ *** وكلتاهما كادت يغولك غولها

أي: لو كنت في حجابك لما وجد أحد عليك سبيلاً ، لكنك وقفت في مسيل الوادي ، وطبيعي أن يصيبك البلل. وغدرتِ ، ففتحت عليك الباب ! فلما بلغتها مقالته قالت: إلى الله أشكو عقوق أبنائي! ثم أنشأت تقول:

بُنَيَّ اتعظْ إن المواعظ سهلة *** ويوشك أن تختار وعراً سبيلها

فلا تنسين في الله حق أمومتي *** فإنك أولى الناس ألا تقولها

[ ولا تنطقن في أمةٍ لي بالخنى *** حنيفية قد كان بعلي رسولها)

أي: إتعظ يا أحنف، ولا تنس حق أمومتي، وأنا زوجة رسول هذه الأمة العظيمة.

وتابع في الفائق:السَّحَر: الرئة، والمراد الموضع المحاذي للسحَر من جسدها. قال الأصمعي: هو الذقن بعينه حيث اشتجر طرفا اللحيين من أسفل. وقيل: هو التشبيك تريد أنها ضمته بيديها إلى نحرها مشبكة بين أصابعها. الحاقنة: النقرة بين الترقوة، وحبل العاتق. الذاقنة: طرف الحلقوم. والمعنى:أنه قبض وهي ملازمته وضامته إلى هذه المواضع من جسدها).

 

وفي جواهر المطالب (2/7): (فلما قدم طلحة والزبير بن العوام وعائشة تلقاهم الناس بأعلى المربد، وازدحموا حتى لو رمي بحجر لما وقع إلا على رأس إنسان. فتكلم طلحة وعائشة وكثر اللغط فجعل طلحة يقول: أيها الناس أنصتوا فجعلوا يرهجون ولا ينصتون، فقال: أف أف! فراشُ نار وذُباب طمع).

وروى المفيد في كتاب الجمل/165، إعجاب موسى بن طلحة بخطبة عائشة: (قال: لقد شهدت عائشة يوم الجمل، وقد سألها الناس عن عثمان، فما رأيت أفصح منها

ص: 88

لساناً، ولا أربط منها جناناً، فاستجلبت الناس بيديها، ثم حمدت الله وأثنت عليه وقالت: أيها الناس إنا نقمنا على عثمان لخصال ثلاثة...)

 

وقال المفيد/149: (لما بلغ عائشة رأي ابن حنيف في القتال ركبت الجمل وأحاط بها القوم، وسارت حتى وقفت بالمربد، واجتمع إليها الناس حتى امتلأ المربد بهم، فقالت وهي على الجمل: صه صه، فسكت الناس وأصغوا إليها، فحمدت الله تعالى وقالت: أما بعد فإن عثمان بن عفان قد كان غير وبدل، فلم يزل يغسله بالتوبة حتى صار كالذهب المصفى، فعدَوْا عليه وقتلوه في داره، وقتل ناس معه في داره ظلماً وعدواناً، ثم آثروا علياً فبايعوه من غيرملاءمة من الناس ولاشورى ولا اختيار، فابتزَّ والله أمرهم، وكان المبايعون له يقولون خذها إليك واحذرن أبا حسن.

إنا غضبنا لكم على عثمان من السوط، فكيف لانغضب لعثمان من الغصب! إن الأمر لايصح حتى يرد الأمر إلى ما صنع عمر من الشورى، فلا يدخل فيه أحد سفك دم عثمان. تقصد علياً (علیه السلام) !

فقال بعض الناس: صدقَتْ، وقال بعض الناس: كَذَبَتْ، واضطربوا بالنعال، وتركتهم وسارت، حتى أتت الدباغين وقد تحيز الناس بعضهم مع طلحة والزبير وعائشة، وبعضهم متمسك ببيعة أميرالمؤمنين (علیه السلام) والرضا به، فسارت من موضعها ومن معها واتبعها على رأيها طلحة والزبير ومروان بن الحكم وعبدالله بن الزبير، حتى أتوا دار الإمارة، فسألوا عثمان بن حنيف الخروج عنها فأبى عليهم ذلك، واجتمع إليه أنصاره وزمرة من أهل البصرة، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى زالت الشمس، وأصيب يومئذ من عبد القيس خاصة خمس مائة شيخ مخضوب من أصحاب عثمان بن حنيف وشيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ، سوى من أصيب من ساير الناس، وبلغ الحرب بينهم التزاحف إلى مقبرة بني مازن، ثم خرجوا على مسناة البصرة حتى انتهوا إلى الزابوقة، وهي ساحة دار الرزق، فاقتتلوا قتالاً شديداً كثر فيه القتلى والجرحى من الفريقين!

ص: 89

ثم إنهم تداعوا إلى الصلح ودخل بينهم الناس، لما رأوا من عظيم ما ابتلوا به، فتصالحوا على أن لعثمان بن حنيف دار الإمارة والمسجد وبيت المال، ولطلحة والزبير وعائشة ما شاؤوا من البصرة ولا يهاجوا، حتى يقدم أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فإن أحبوا عند ذلك الدخول في طاعته وإن أحبوا أن يقاتلوا، وكتبوا بذلك كتاباً بينهم وأوثقوا فيه العهود وأكدوها، وأشهدوا الناس على ذلك، ووضع السلاح، وآمن عثمان بن حنيف على نفسه، وتفرق الناس عنه).

بعد معركة اليوم الأول نزلت عائشة في السبخة

1. قال في شرح النهج (9/318): (قال أبو مخنف: فلما أقبل طلحة والزبير من المربد، يريدان عثمان بن حنيف، فوجداه وأصحابه قد أخذوا بأفواه السكك، فمضوا حتى انتهوا إلى موضع الدباغين، فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف، فشجرهم طلحة والزبير وأصحابهما بالرماح فحمل عليهم حكيم بن جبلة، فلم يزل هو وأصحابه يقاتلونهم حتى أخرجوهم من جميع السكك، ورماهم النساء من فوق البيوت بالحجارة، فأخذوا إلى مقبرة بني مازن، فوقفوا بها ملياً حتى ثابت إليهم خيلهم، ثم أخذوا على مسناة البصرة، حتى انتهوا إلى الزابوقة ثم أتوا سبخة دار الرزق فنزلوها).

2. بعد فشلها في السيطرة على دار الإمارة في اليوم الأول، جمعت عائشة أنصارها في السبخة، وكان اجتماع مناظرة وتجميع قوى، ثم استأنفت القتال في اليوم التالي!

قال في شرح النهج (9/318):(وأتاهما عبدالله بن حكيم التميمي لما نزلا السبخة بكتب كانا كتباها إليه فقال لطلحة: يا أبا محمد، أما هذا كتبك إلينا؟ قال: بلى، قال: فكنت أمس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله، حتى إذا قتلته أتيتنا ثائراً بدمه! فلعمري ما هذا رأيك، لاتريد إلا هذه الدنيا! فهلا إذ كان هذا رأيك فلم قبلت من عليٍّ ما عرض عليك من البيعة، فبايعته طائعاً راضياً، ثم نكثت بيعتك، ثم جئت لتدخلنا في فتنتك! فقال: إن علياً دعاني إلى بيعته بعد ما بايع الناس، فعلمت لو لم أقبل ما عرضه عليَّ لم تتم لي، ثم يغري بي من معه)!

ص: 90

3. وروى المفيد في كتاب الجمل/162، وصف معسكر عائشة في السبخة، فقال: (روى الواقدي عن عبد بن السلام بن حفص قال: حدثني المنهال بن سلم البصري قال: قام طلحة في الناس خطيباً، فنعى إليهم عثمان بن عفان وذكر قاتليه، وأكثر الذم لهم والشتم، وعزا قتله إلى علي بن أبی طالب (علیه السلام) وأنصاره، وذكرأن علياً (علیه السلام) أكره الناس على البيعة له، فقال فيما قال: يا معشر المسلمين إن الله قد منحكم بأم المؤمنين وقد عرفتم حقها ومكانتها من رسول الله، ومكان أبيها من الإسلام، فهذه هي تشهد لنا أنا لم نكذبكم فيما خبرناكم به، ولا غررناكم فيما دعوناكم إليه من قتال ابن أبی طالب وأصحابه، الصادين عن الحق، ولسنا نطلب خلافة ولا ملكاً (!) وإنا نحذركم أن تُغلبوا على أمركم وتقصروا دون الحق، وقد رجونا أن يكون عندكم عون لنا على طاعة الله وصلاح الأمة، فإنا أحق من عناه أمرالمسلمين ومصلحتهم، وإن علياً لو عمل الجد في نصرة أمكم لاعتزل هذا الأمر حتى تختار الأمةلأنفسها من ترضاه!

فقال أهل البصرة:مرحباً وأهلاً وسهلاً بأم المؤمنين والحمد الله الذي أكرمنا بها، وأنتم عندنا رضاً وثقة، وأنفسنا مبذولة لكم ونحن نموت على طاعتكم ورضاكم.ثم انصرفوا وساروا إلى عائشة فسلموا عليها، وقالوا قد علمنا أن أمنا لم تخرج إلينا إلا لثقتها بنا، وأنها تريد الإصلاح وحقن الدماء وإطفاء الفتن والألفة بين المسلمين، وإنا ننتظر أمرها في ذلك، فإن أبى عليها أحد فيه قاتلناه حتى يفئ إلى الحق!

4. بلغ كلام طلحة مع أهل البصرة إلى عبد بن حكيم التميمي فصار إليه وقال له: ياطلحة، هذه كتبك وصلت إلينا بعيب عثمان بن عفان، وخبرك عندنا بالتأليب عليه حتى قتل، وبيعتك علياً في جماعة الناس ونكثك بيعته من غير حدث كان منه فيما بلغني عنك. فبمَ جئت بعد الذي عرفناه من رأيك في عثمان؟ فقال له طلحة: أما عيبي لعثمان وتأليبي عليه فقد كان، فلم نجد لنا من الخلاص منه سبيلاً إلا التوبة فيما اقترفناه من الجرم له، والأخذ بدمه.

فأما بيعتي له، فإني أكرهت على ذلك وخشيت منه أن يؤلب علي إن امتنعت

ص: 91

من بيعته، ويغري بي من أغراه بعثمان حتى قتله! فقال له عبدالله بن حكيم: هذه معاذير يعلم الله باطن الأمر فيها، وهو المستعان على ما نخاف من عاقبة أمرها.

5. وروى عبدالله بن عبيدة قال: لما كان من كلام عبدالله بن حكيم ما كان، قام طلحة فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن رسول الله توفي وهو عنا راض، وكنا مع أبي بكر حتى توفاه الله فمات وهو عنا راض، ثم كان عمر بن الخطاب فسمعناه وأطعناه حتى قبض وهو عنا راض، فأمرنا بالتشاور في أمرالخلافة من بعده واختار ستة نفر ورضيهم للأمر، فاستقام أمرنا على رجل من الستة وليناه واجتمع رأينا عليه وهو عثمان، وكان أهلاً لذلك فبايعناه وسمعنا له وأطعناه، فأحدث بعد ذلك أحداثاً لم تكن على عهد أبي بكر وعمر فكرهها الناس منه، ولم يكن لنا بد مما صنعناه. وأخذ هذا الرجل الأمر دوننا من غير مشورتنا، وتغلب عليه ونحن فيه وهو شرع سواء، فأتى بنا إليه ونحن أكره الناس إليه واللج على أعناقنا، فبايعناه كرهاً!

والذي نطلب منه أيها الناس الآن أن يدفع إلى ورثة عثمان قاتليه، فإنه قتل مظلوماً، ويخلع هذا الأمر ويعتزله، ليتشاورالمسلمون فيمن يكون إماماً كسنة عمر بن الخطاب، فإذا استقام رأينا ورأي أهل الإسلام على رجل بايعناه.

فلما فرغ من كلامه قام عظيم من عظماء عبد القيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس: إنه قد كان والي هذا الأمر وقوامه المهاجرون والأنصار بالمدينة ولم يكن لأحد من أهل الأمصار أن ينقضوا ما أبرموا ولايبرموا مانقضوا، فكانوا إذا رأوا رأياً كتبوا به إلى الأمصار فسمعوا لهم وأطاعوا. وإن عائشة وطلحة والزبير كانوا أشد الناس على عثمان حتى قتل وبايع الناس علياً (علیه السلام) وبايعه في جملتهم طلحة والزبير، فجاءنا نبأهما ببيعتهما له فبايعناه. فوالله لا نخلع خليفتنا ولا ننقض بيعتنا! فصاح عليه طلحة والزبير، وأمرا بقرض لحيته فنتفوها حتى لم يبق منها شئ!

6. وقام رجل من بني جشم فقال: أيها الناس أنا فلان بن فلان فاعرفوني وإنما انتسب لهم ليعلموا أن له عشيرة تمنعه، فلا يعجل عليه من لا يوافقه كلامه، قال: أيها

ص: 92

الناس إن هؤلاء القوم إن كانوا جاؤوكم يطلبون بدم عثمان، فوالله ما نحن قتلنا عثمان، وإن كانوا جاؤكم خائفين فوالله ما جاؤوا إلا من حيث يأمن الطير، فلا تغتروا بهم واسمعوا قولي وأطيعوا أمري، وردوا هؤلاء القوم إلى مكانهم الذي منه أقبلوا، وأقيموا على بيعتكم لإمامكم وأطيعوا أميركم. فصاح عليه الناس من جوانب المسجد، وقذفوه بالحصى!

7. ثم قام رجل آخر من متقدمي عبد القيس فقال: أيها الناس أنصتوا حتى أتكلم فقال له عبدالله بن الزبير: ويلك ما لك وللكلام! فقال: ما لي وله؟ أنا والله للكلام به وفيه، ثم حمد الله وأثنى عليه وذكر النبي فصلى عليه، وقال: يا معاشر المهاجرين كنتم أول الناس إسلاماً، بعث الله محمداً نبيه بينكم فدعاكم فأسلمتم وأسلمنا لإسلامكم، فكنتم فيه القادة ونحن لكم تبع. ثم توفي رسول الله فبايعتم رجلاً منكم لم تستأذنونا في ذلك فسلمنا لكم، ثم إن ذلك الرجل توفي واستخلف عمر بن الخطاب فوالله ما استشارنا في ذلك، فما رضيتم به رضينا وسلمنا، ثم إن عمر جعلها شورى في ستة نفر فاخترتم منهم واحداً، فسلمنا لكم واتبعناكم.

ثم إن الرجل أحدث أحداثاً أنكرتموها فحصرتموه وخلعتموه وقتلتموه وما استشرتمونا في ذلك، ثم بايعتم علي بن أبی طالب وما استشرتمونا في بيعته فرضينا وسلمنا وكنا لكم تبعاً، فوالله ما ندري بماذا نقضتم عليه؟ هل أستأثر بمال، أو حكم بغير ما أنزل الله، أو أحدث منكراً؟ فحدثونا به نكن معكم، فوالله ما نراكم إلا قد ضللتم بخلافكم له! فقال له ابن الزبير: ما أنت وذاك، وأراد أهل البصرة أن يثبوا عليه، فمنعتهم عشيرته.

8. وروى إسرافيل بن يونس عن أبي إسحاق الهمداني قال: جاء جليد بن زهير الجشمي وعبدالله بن عامر التميمي فدخلا على عائشة فسلما عليها فقالت: من هذان الرجلان؟ فقيل لها: هذا زهير بن جليد صاحب خراسان، وهذا عبدالله

ص: 93

بن عامر التميمي. فقالت: هما معنا أم علينا؟ فقالا: لا معك ولا عليك حتى يتبين لنا الأمر، فقالت: كفى بالإعتزال نصرة.

9. وروى عمر بن صباح قال: اجتمع نفر من وجوه البصرة إلى طلحة والزبير فقالوا لهما: فإن ولاة عثمان غيركما فدعوا ولاته يطالبون بدمه، والله ما نراكما أنصفتما رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حبيسته عرضتماها للرياح والشموس والقتال، وقد أمرها الله أن تقر في بيتها، وتركتما نساءكما في الأكنان والبيوت، هلا جئتم بنسائكما معكما؟ فقال لهم طلحة: أعزبوا عنا، قبحكم الله!

10.وجاء عمرو بن حصين إلى عائشة فقال لها:قد كان لك يا عائشة في أخواتك عبرة، وفي أمثالك من أمهات المؤمنين أسوة أما سمعت الله تعالى يقول: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ. فلواتبعت أمرالله كان خيراً لك فقالت: له يا عمرو قد كان ما كان، فهل عندك عون لنا، وإلا فاحبس عنا لسانك. قال: أعتزل علياً.

قالت: رضيت بذلك منك).

11. قال الطبري(3/479):(ونادى عثمان في الناس وأمرهم بالتهيؤ، ولبسوا السلاح واجتمعوا إلى المسجد الجامع.. وأقبلت عائشة فيمن معها حتى إذا انتهوا إلى المربد، ودخلوا من أعلاه أمسكوا ووقفوا.. فتكلمت عائشة وكانت جهورية يعلو صوتها كثرةً، كأنه صوت امرأة جليلة، فحمدت الله عز وجل وأثنت عليه وقالت: كان الناس يتجنون على عثمان ويزرون على عماله، ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم، ويرون حسناً من كلامنا في صلاح بينهم، فننظر في ذلك فنجده برياً تقياً وفياً، ونجدهم فجرة كذبة يحاولون غير ما يظهرون، فلما قووا على المكاثرة كاثروه فاقتحموا عليه داره، واستحلوا الدم الحرام والمال الحرام والبلد الحرام، بلا ترة ولا عذر! ألا إن مما ينبغي لاينبغي لكم غيره أخذ قتلة عثمان وإقامة كتاب الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ. فافترق أصحاب عثمان بن حنيف فرقتين، فقالت فرقة:

ص: 94

صدقت والله وبرت وجاءت والله بالمعروف. وقال الآخرون: كذبتم والله ما نعرف ما تقولون، فتحاثوا وتحاصبوا وأرهجوا. فلما رأت ذلك عائشة انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقين لعثمان حتى وقفوا في المربد في موضع الدباغين، وبقي أصحاب عثمان على حالهم يتدافعون حتى تحاجزوا، ومال بعضهم إلى عائشة وبقي بعضهم مع عثمان، على فم السكة.

وأقبل جارية بن قدامة السعدي فقال: يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح! إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك، إنه من رأى قتالك فإنه يرى قتلك! إن كنت أتيتينا طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتينا مستكرهة فاستعيني بالناس! قال فخرج غلام شاب من بني سعد إلى طلحة والزبير فقال: أما أنت يا زبير فحواري رسول الله، وأما أنت يا طلحة فوقيت رسول الله بيدك، وأرى أمكما معكما، فهل جئتما بنسائكما؟ قالا: لا، قال: فما أنا منكما في شئ، واعتزل، وقال السعدي في ذلك:

صنتم حلائلكم وقدتم أمكمْ *** هذا لعمرك قلة الإنصاف

أمرت بجر ذيولها في بيتها *** فهوت تشق البيد بالإيجاف

غرضاً يقاتل دونها أبناؤها *** بالنبل والخطي والأسياف

هتكت بطلحة والزبير ستورها *** هذا المخبِّرُ عنهم والكافي

وأقبل غلام من جهينة على محمد بن طلحة، وكان محمد رجلاً عابداً فقال:أخبرني عن قتلة عثمان؟ فقال: نعم دم عثمان ثلاث أثلاث: ثلث على صاحبة الهودج يعني عائشة، وثلث على صاحب الجمل الأحمر يعني طلحة، وثلث على علي بن أبی طالب،وضحك الغلام وقال: ألا أراني على ضلال! ولحق بعلي، وقال في ذلك شعراً:

سألت ابن طلحة عن هالك *** بجوف المدينة لم يقبرِ

ص: 95

فقال ثلاثة رهط همُ *** أماتوا ابن عفان واستعبرِ

فثلثٌ على تلك في خدرها *** وثلثٌ على راكب الأحمرِ

وثلثٌ على ابن أبي طالب *** ونحن بِدُويَةٍ قرقرِ

فقلت صدقت على الأوليْن *** وأخطأت في الثالث الأزهرِ.

والأرض الدوية القرقر: الموبوءة الملساء ، يُزلق فيها.

لم تستطع عائشة أن تأخذ دارالإمارة واضطرت للصلح!

قال في شرح النهج (9/318): (ثم أصبحا من غدٍ فصفَّا للحرب، وخرج عثمان بن حنيف إليهما في أصحابه فناشدهما الله والإسلام، وأذكرهما بيعتهما علياً (علیه السلام)

فقالا: نطلب بدم عثمان، فقال لهما: وما أنتما وذاك، أين بنوه؟ أين بنو عمه الذين هم أحق به منكم!

كلا والله ولكنكما حسدتماه حيث اجتمع الناس عليه، وكنتما ترجوان هذا الأمر وتعملان له! وهل كان أحد أشد على عثمان قولاً منكما!

فشتماه شتماً قبيحاً وذكرا أمه! فقال للزبير: أما والله لولا صفية ومكانها من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإنها أدنتك إلى الظل، وأن الأمر بيني وبينك يا ابن الصعبة، يعني طلحة أعظم من القول، لأعلمتكما من أمركما ما يسوؤ كما. اللهم إني قد أعذرت إلى هذين الرجلين! ثم حمل عليهم واقتتل الناس قتالاً شديداً، ثم تحاجزوا واصطلحوا على أن يكتب بينهم كتاب صلح فكُتب:

هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصاري ومن معه من المؤمنين من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبی طالب، وطلحة والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين من شيعتهما، أن لعثمان بن حنيف دار الإمارة والرحبة والمسجد وبيت المال والمنبر، وأن لطلحة والزبير ومن معهما أن ينزلوا حيث شاءوا من البصرة، ولا يضار بعضهم بعضاً في طريق ولا فرضة ولا سوق ولا شرعة ولا مرفق، حتى يقدم أمير المؤمنين

ص: 96

علي بن أبی طالب، فإن أحبوا دخلوا فيما دخلت فيه الأمة، وإن أحبوا لحق كل قوم بهواهم وما أحبوا من قتال أو سلم، أو خروج أو إقامة، وعلى الفريقين بما كتبوا عهد الله وميثاقه، وأشد ما أخذه على نبي من أنبيائه، من عهد وذمة. وخُتم الكتاب.

ورجع عثمان بن حنيف حتى دخل دار الإمارة وقال لأصحابه: إلحقوا رحمكم الله بأهلكم، وضعوا سلاحكم، وداووا جرحاكم، فمكثوا كذلك أياماً).

ثم أفتت لهم عائشة بالغدر ونقض الصلح!

قال في شرح النهج (9/319): (ثم إن طلحة والزبير قالا: إن قدم عليٌّ ونحن على هذه الحال من القلة والضعف، ليأخذن بأعناقنا! فأجمعا على مراسلة القبائل واستمالة العرب، فأرسلا إلى وجوه الناس وأهل الرياسة والشرف، يدعوانهم إلى الطلب بدم عثمان وخلع عليٍّ وإخراج ابن حنيف من البصرة. فبايعهم على ذلك الأزد وضبة وقيس بن عيلان كلها إلا الرجل والرجلين من القبيلة، كرهوا أمرهم فتواروا عنهم، وأرسلوا إلى هلال بن وكيع التميمي فلم يأتهم فجاءه طلحة والزبير إلى داره فتوارى عنهما، فقالت له أمه: ما رأيت مثلك، أتاك شيخا قريش فتواريت عنهما! فلم تزل به حتى ظهر لهما، وبايعهما ومعه بنو عمرو بن تميم كلهم وبنو حنظلة، إلا بني يربوع فإن عامتهم كانوا شيعة علي. وبايعهم بنو دارم كلهم، إلا نفراً من بني مجاشع ذوي دين وفضل).

وقال في شرح النهج (9/320): (فلما استوسق لطلحة والزبيرأمرهما، خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر ومعهما أصحابهما، قد ألبسوهم الدروع وظاهروا فوقها بالثياب، فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر، وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه، وأقيمت الصلاة فتقدم عثمان ليصلي بهم فأخره أصحاب طلحة والزبير، وقدموا الزبير فجاءت السبابجة وهم الشرط حرس بيت المال، فأخرجوا الزبير وقدموا عثمان، فغلبهم أصحاب الزبيرفقدموا الزبيروأخروا عثمان، فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس تطلع، وصاح بهم أهل المسجد: ألا تتقون يا أصحاب محمد وقد طلعت الشمس! فغلب الزبيرفصلى بالناس، فلما

ص: 97

انصرف من صلاته صاح بأصحابه المستسلحين: أن خذوا عثمان بن حنيف فأخذوه بعد أن تضارب هو ومروان بن الحكم بسيفيهما، فلما أُسِرَ ضُرب ضرب الموت، ونتف حاجباه وأشفار عينيه، وكل شعرةٍ في رأسه ووجهه! وأخذوا السبابحة وهم سبعون رجلاً، فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف إلى عائشة، فقالت لأبان بن عثمان: أخرج إليه فاضرب عنقه، فإن الأنصار قتلت أباك وأعانت على قتله. فنادى عثمان: يا عائشة ويا طلحة ويا زبير، إن أخي سهل بن حنيف خليفة علي بن أبی طالب على المدينة، وأقسم بالله إن قتلتموني ليضعن السيف في بني أبيكم وأهليكم ورهطكم فلا يبقي أحداً منكم! فكفوا عنه، وخافوا أن يقع سهل بن حنيف بعيالاتهم وأهلهم بالمدينة، فتركوه!

وأرسلت عائشة إلى الزبيرأن أقتل السبابجة فإنه قد بلغني الذي صنعوا بك. قال: فذبحهم والله الزبيركما يذبح الغنم، وليَ ذلك منهم عبدالله ابنه وهم سبعون رجلاً! وبقيت منهم طائفة مستمسكين ببيت المال، قالوا: لا ندفعه إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين، فسار إليهم الزبير في جيش ليلاً فأوقع بهم، وأخذ منهم خمسين أسيراً، فقتلهم صبراً. قال أبو مخنف:فحدثنا الصقعب بن زهير قال: كانت السبابجة القتلى يومئذ أربع مائة رجل!

قال: فكان غدر طلحة والزبير بعثمان بن حنيف أول غدر كان في الإسلام، وكان السبابجة أول قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبراً!

قال: وخيروا عثمان بن حنيف بين أن يقيم أو يلحق بعلي فاختار الرحيل فخلوا سبيله، فلحق بعلي (علیه السلام) فلما رآه بكى وقال له: فارقتك شيخاً وجئتك أمرد! فقال عليٌّ (علیه السلام) : (إنا لله وإنا إليه راجعون! قالها ثلاثاً). ودعا عليهم:(اللهم إنك تعلم أنهم اجترأوا عليك واستحلوا حرماتك، اللهم اقتلهم بمن قتلوا من شيعتي،وعجل لهم النقمة بما صنعوا بخليفتي).(الجمل/152).

 

قال المسعودي في مروج الذهب(2/358): (ثم إنهم اصطلحوا بعد ذلك على كف الحرب الى قدوم علي. فلما كان في بعض الليالي بَيَّتوا عثمان بن حنيف فأسروه وضربوه

ص: 98

ونتفوا لحيته، ثم إن القوم استرجعوا وخافوا على مخلَّفيهم بالمدينة من أخيه سهل بن حُنَيف وغيره من الأنصار، فخلوا عنه. وأرادوا بيت المال فمانعهم الخزان والموكلون به وهم السبابجة، فقتل منهم سبعون رجلاً غير من جرم، وخمسون من السبعين ضربت رقابهم صبراً، من بعد الأسر، وهؤلاء أول من قُتل ظلماً في الإسلام وصبراً.

وقتلوا حكيم بن جَبَلة العبدي، وكان من سادات عبد القيس وزُهَّاد ربيعة ونُسَّاكها، وتشاحَّ طلحة والزبير في الصلاة بالناس، ثم اتفقوا على أن يصلي بالناس عبدالله بن الزبير يوماً، ومحمد بن طلحة يوماً، في خطب طويل كان بين طلحة والزبير، الى أن اتفقا على ما وصفنا).

وقال المفيد في كتاب الجمل/152:(رجع طلحة والزبير ونزلا دار الإمارة وغلبا على بيت المال، فتقدمت عائشة وحملت مالاً منه لتفرقه على أنصارها، فدخل عليها طلحة والزبير في طائفة معهما واحتملا منه شيئاً كثيراً، فلما خرجا نصبا على أبوابه الأقفال، ووكلا به من قبلهما قوماً، فأمرت عائشة بختمه فبرز لذلك طلحة ليختمه فمنعه الزبير، وأراد أن يختمه الزبير دونه فتدافعافبلغ عائشة ذلك فقالت: يختمها عني ابن أختي عبدالله بن الزبير، فختم يومئذ بثلاثة ختوم!

قال أبو الأسود الدؤلي: ورأيت علياً بعد ذلك وقد دخل بيت مال البصرة، فلما رأى ما فيه قال:ياصفراء بيضاء غري غيري، المال يعسوب الظلمة وأنا يعسوب المؤمنين، فلا والله ما التفت إلى ما فيه، ولا فكر فيما رآه منه،

وما وجدته عنده إلا كالتراب هواناً. فتعجبت من القوم ومنه (علیه السلام) فقلت أولئك ممن يريد الدنيا، وهذا ممن يريد الآخرة وقويت بصيرتي فيه).

وقال الطبري(3/485): (عن سهل بن سعد قال: لما أخذوا عثمان بن حنيف أرسلوا أبان بن عثمان إلى عائشة يستشيرونها في أمره قالت: أقتلوه!فقالت لها امرأة: نشدتك بالله يا أم المؤمنين في عثمان وصحبته لرسول الله! قالت: ردوا أباناً فردوه فقالت: إحبسوه ولا تقتلوه. قال أبان: لوعلمت أنك تدعينني لهذا

ص: 99

لم أرجع! فقال لهم مجاشع بن مسعود: إضربوه وانتفوا شعر لحيته، فضربوه أربعين سوطاً، ونتفوا شعر لحيته ورأسه، وحاجبيه وأشفار عينيه، وحبسوه)!

أقول: حكم عائشة بقتل ابن حنيف بعثمان، حكم الجاهلية، فقد عللته بأن قومه الأنصار قتلوا عثمان! والصحيح أنها حقدت عليه لإعتراضه على بيعة أبيها، فقد كان من الإثني عشر الذين خطبوا في المسجد وأدانوا أبابكر ووبّخوه!

 

وقال الطبري (3/485): (فشهرالزط والسبابجة السلاح ثم وضعوه فيهم، فأقبلوا عليهم فاقتتلوا في المسجد وصبروا لهم، فأناموهم وهم أربعون.. فأخرجوا الحرس الذين كانوا مع عثمان في القصر، ودخلوه).

 

وقال في الدر النظيم (1/338): (ولما حصل طلحة والزبير في البصرة تناقشا في الصلاة بالناس، فخاف كل واحد منهما أن يصلي خلف صاحبه فيصير ذلك له حجة عليه، فأصلحت بينهما على أن يصلي بالناس مرة محمد بن طلحة ومرة عبدالله بن الزبير. فقال العوام بن مالك الأزدي: تالله ما رأيت كاليوم قط شيخان يصلي بهما غلامان، وفارقهما الأزدي ولحق بعلي (علیه السلام) و أنشأ يقول :

تبارى الغلامان إذ صليا *** وشح على الملك محياهما

فصال ابن طلحة وابن الزبير *** لقدِّ الشراك هما ما هما

فكل لابنه يرتضيها *** ولم يضبط الأمر ابناهما

فهذا الإمام وهذا الإمام *** ويعلى بن منية دلاهما

يعلى بن منية هو الذي اشترى جمل عائشة ، وكان جملاً منكراً ، وكان يلقب عسكراً لشدته . قالت امرأة من ضبة قتل أيمها يوم الجمل:

شهدت الحروب فشيبنني *** فلم أر يوماً كيوم الجمل

أشد على مؤمن فتنة *** وأقتل منه لخرق بطل

ص: 100

فليت الظعينة في بيتها *** وليتك عسكر لم ترتحل

وقال بعض الشعراء:

ألا أيها الناس عندي الخبر *** بأن أخاكم زبيراً غدر

وطلحة أيضاً حذا نعله *** ويعلى بن منية فيمن أمر).

حكيم بن جبلة يثأر لعثمان بن حنيف

1. قال في شرح النهج (9/321): (قال أبو مخنف: فلما بلغ حكيم بن جبلة ما صنع القوم بعثمان بن حنيف، خرج في ثلاث مائة من عبد القيس مخالفاً لهم ومنابذاً، فخرجوا إليه وحملوا عائشة على جمل، فسمى ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر، ويوم عليٍّ (علیه السلام) يوم الجمل الأكبر، وتجالد الفريقان بالسيوف، فشد رجل من الأزد من عسكر عائشة على حكيم بن جبلة فضرب رجله فقطعها، ووقع الأزدي عن فرسه، فجثا حكيم فأخذ رجله فرمى بها الأزدي فصرعه، ثم دب إليه فقتله متكئاً عليه خانقاً له حتى زهقت نفسه، فمر بحكيم إنسان وهو يجود بنفسه، فقال: من فعل بك؟قال:وسادي، فنظر فإذا الأزدي تحته، وكان حكيم شجاعاً مذكوراً. قال: وقتل مع حكيم إخوة له ثلاثة، وقتل أصحابه كلهم وهم ثلاث مائة من عبد القيس، والقليل منهم من بكر بن وائل، فلما صفت البصرة لطلحة والزبير بعد قتل حكيم وأصحابه وطرد ابن حنيف عنها، اختلفا في الصلاة وأراد كل منهما أن يؤم بالناس، وخاف أن تكون صلاته خلف صاحبه تسليماً له ورضاً بتقدمه، فأصلحت بينهما عائشة بأن جعلت عبدالله بن الزبير ومحمد بن طلحة يصليان بالناس، هذا يوماً وهذا يوماً!

قال أبومخنف: ثم دخلا بيت المال بالبصرة، فلما رأوا ما فيه من الأموال قال الزبير: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ، فنحن أحق بها من أهل البصرة فأخذا ذلك المال كله، فلما غلب علي (علیه السلام) رد تلك الأموال إلى بيت المال

وقسمها في المسلمين).

ص: 101

2. وقال المفيد في الجمل/152: (واجتمع الناس إلى حكيم بن جبلة فقال للقوم: أما ترون ما صنعوا بأخي عثمان بن حنيف ما صنعوا؟ لست بأخيه إن لم أنصره، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إن طلحة والزبير لم يريدا بما عملا القربة منك، وما أرادا إلا الدنيا. اللهم اقتلهما بمن قتلا ولا تعطهما ما أملا. ثم ركب فرسه وأخذ بيده الرمح واتبعه أصحابه، وأقبل طلحة والزبير ومن معهما، وهم في كثرة من الناس قد انضم إليهم الجمهور، واقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثرت بينهم الجرحى والقتلى. وبرز إلى حكيم بن جبلة رجل من القوم فضربه بالسيف فقطع رجله، فتناولها حكيم بيده ورماه بها فصرعه. ثم صار إلى حكيم أخوه المعروف بالأشرف فقال: مَن أصابك؟ فأشار إلى الذي ضربه فأدركه الأشرف فخبطه بالسيف حتى قتله، وتكاثر الناس عليه وعلى أخيه حتى قتلوهما).

3. قال الطبري في تاريخه (3/487): (فكان حكيم بحيال طلحة، وذريح بحيال الزبير، وابن المحرش بحيال عبد الرحمن بن عتاب، وحرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فزحف طلحة لحكيم وهو في ثلاث مائة رجل، وقتل ذريح ومن معه، وأفلت حرقوص بن زهير في نفر من أصحابه، فلجأوا إلى قومهم، ونادى منادى الزبير وطلحة بالبصرة: ألا من كان فيهم من قبائلكم أحد ممن غزا المدينة (في وفد البصرة الى عثمان) فليأتنا بهم، فجئ بهم كما يجاء بالكلاب فقتلوا، فما أفلت منهم من أهل البصرة جميعاً إلا حرقوص بن زهير، فإن بني سعد منعوه! وكان من بني سعد فمسهم في ذلك أمر شديد، وضربوا لهم فيه أجلاً، وخشنوا صدور بني سعد، وإنهم لعثمانية حتى قالوا: نعتزل)!

معناه أن عائشة قتلت كل الوفد البصري الذين جاؤوا الى المدينة مطالبين عثمان بتغيير والي البصرة! وأن بني سعد حموْا حرقوصاً مع أنه كان من وفد البصرة

الذين حاصروا عثمان، وهددوهم إن أصروا على تسليم حرقوص أن

لا يقاتلوا مع عائشة!

ص: 102

4.قال ابن عبد البر في الإستيعاب (1/367): (لما غدر ابن الزبير بعثمان بن حنيف بعد الصلح الذي كان عقده عثمان بن حنيف مع طلحةوالزبير، أتاه ابن الزبير ليلاً في القصر، فقتل نحو أربعين رجلاً من الزط على باب القصر، وفتح بيت المال، وأخذ عثمان بن حنيف فصنع به ما قد ذكرته في غير هذا الموضع، وذلك قبل قدوم علي رضي الله عنه، فبلغ ما صنع ابن الزبير بعثمان بن حنيف حكيم بن جبلة، فخرج في سبع مائة من ربيعه فقاتلهم حتى أخرجهم من القصر، ثم كروا عليه فقاتلهم حتى قطعت رجله، ثم قاتل ورجله مقطوعة حتى ضربه سحيم الحداني على العنق فقطع عنقه، واستدار رأسه في جلدة عنقه حتى سقط وجهه على قفاه. وقال أبوعبيدة: قطعت رجل حكيم بن جبلة يوم الجمل، فأخذها ثم زحف إلى الذي قطعها، فلم يزل يضربه بها حتى قتله، وقال:

يا نفس لن تراعي *** رعاك خير راعي

إن قطعت كراعي *** إن معي ذراعي

قال أبوعبيدة: وليس يعرف في جاهلية ولا إسلام أحدٌ فعل مثل فعله ).

5. في أسد الغابة (2/40): (وكان رجلاً صالحاً له دين، مطاعاً في قومه وهو الذي بعثه عثمان على السند فنزلها، ثم قدم على عثمان فسأله عنها فقال: ماؤها وشل، ولصها بطل، وسهلها جبل، إن كثر الجند بها جاعوا، وإن قلوا بها ضاعوا! فلم يوجه عثمان أحداً حتى قتل. وقيل إن طلحة والزبير لما قدما البصرة استقر الحال بينهم وبين عثمان بن حنيف أن يكفوا عن القتال إلى أن يأتي علي. ثم إن عبدالله بن الزبير بيَّتّ عثمان فأخرجه من القصر، فسمع حكيم فخرج في سبع مائة من ربيعة فقاتلهم حتى أخرجهم من القصر، ولم يزل يقاتلهم حتى قطعت رجله، فأخذها وضرب بها الذي قطعها فقتله، ولم يزل يقاتل ورجله مقطوعة وهو يقول:يا ساق لن تراعى. إن معي ذراعي، حتى نزفه الدم، فاتكأ على الرجل الذي

ص: 103

قطع رجله وهو قتيل،فقال له قائل:من فعل بك هذا؟ قال وسادتي.فما رؤى أشجع منه).

(كان الذي فتح مكران (بلوشستان) حكيم بن جبلة العبدي).(معجم البلدان:5/179).

6. وفي إمتاع الأسماع للمقريزي (13/236): (وقال لأصحابه: لست في شك من قتال هؤلاء القوم، فمن كان في شك فلينصرف، وتقدم فقاتلهم. فاقتتلوا قتالاً شديداً، ومع حكيم أربعة قواد، فكان حكيم بحيال طلحة، وذريح بحيال الزبير، وابن المحترش بحيال عبد الرحمن بن عتاب، وحرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.. ولما قُتل حكيم أرادوا قتل عثمان بن حنيف فقال لهم: أَمَا إن سهلاً بالمدينة فإن قتلتموني انتصر، فخلوا سبيله فقصد علياً.. وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة بما كان منهم وتأمرهم أن يثبطوا الناس عن علي، وتحثهم على طلب قتلة عثمان، وكتبت إلى أهل اليمامة وإلى أهل المدينة بما كان منهم أيضاً، وسيرت الكتب، وكانت هذه الوقعة لخمس ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين).

7. وفي كتاب الديارات للشابشتي(1/51): (وحكيم هو الشهيد بالبصرة، الذي منع عائشة وطلحة والزبيرالدخول إليها وحاربهم حتى قتل. وكان من خبره ومقتله أنه لما تمكن طلحة والزبيرمن البصرة، وقتلوا حرس بيت المال وهم سبعون رجلاً من غير ذنب ولا سبب، وأخذوا عثمان بن حنيف الأنصاري، عامل أميرالمؤمنين علي بن أبی طالب صلوات الله عليه، ونتفوا لحيته وأرادوا قتله، قام حكيم في قومه خطيباً فقال لهم: يا قوم، إن ابن حنيف دم مصون وأمانة مؤداة. والله لو لم يكن علينا أميراً لمنعناه لحق الجوار ومكانه من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فكيف وله الحق والولاية. ألا إن الحي ميت والميت مسؤول، فإما أن تموتوا كراماً وإما أن تعيشوا أحراراً. فأجابوه إلى ما دعاهم إليه، وقال في ذلك أبو أمية الأصم، وكان فارس القوم:

معاشر عبد القيس موتوا على التي *** تسر علياً واحذروا سُبَّة الغدر

ولا ترهبوا في الله لومة لائم *** وموتوا كراماً فهو أشرفُ للذكر

وغدا حكيم في ثلاث مائة رجل من أصحابه إلى العدو وهو عائشة، فخرج

ص: 104

طلحة والزبير، وحملا عائشة على الجمل، وذلك اليوم يسمى يوم الجمل الأصغر. فقاتل حكيم قتالاً شديداً، وجعل يقول: إنما تريدان أن تصيباً من الدنيا حظاً، اللهم اقتلهما بمن قتلا ولا تعطهما ما سألا، ولا تبلغهما ما أملا، ولا تغفر لهما أبداً. وحمل عليهما وهم في اثني عشرألف وهو في ثلاث مائة، فهزمهم حتى أدخلهم سكة. وشد رجل من الأزد على حكيم وهو غافل، فضربه على ساقه فقطع رجله. فأخذ حكيم رجله فضرب بها الأزدي فصرعه، ثم جاء فقتله، وأنشأ يقول: يا نفس لا تراعي...الخ.وقتل هو وثلاثة إخوة له، ومن شعر يموت بن المزرع في ابنه مهلهل:

مهلهل ساقني صغرك *** وأسبل أدمعي عسرك

لدى أكناف شامهم *** أموت فيمَّحي أثرك

ولو سامحت في عمري *** لجل لديهم خطرك

فوا أسفي على لِمَةٍ *** يطول إليهمُ سفرك

وإن أهلك فإن الله *** دون الخلق لي وزرك

وشعره وشعر ابنه مهلهل كثير في سائر فنون الشعر. وإنما ذكرنا ما احتمله الكتاب، واقتضاه الشرط).

8. وفي تجارب الأمم لابن مسكويه (1/480):(فتكلَّم يومئذ وإنه لقائم على رِجْل، وإن السيوف لتأخذهم فما يُتعتع: إنا خلَّفنا هذين وقد بايعا علياً وأعطياه الطاعة ثم أقبلا مخالفين يطلبان بدم عثمان، وهما كاذبان! وإنما أرادا المال والإمرة ».

9. في الكافئة للمفيد/18:(رووا أنه (علیه السلام) لما بلغه وهو بالربذة خبر طلحة والزبير وقتلهما حكيم بن جبلة ورجالاً من الشيعة وضربهما عثمان بن حنيف وقتلهما السبابجة، قام على الغرائر فقال: إنه أتاني خبر متفظع ونبأ جليل: أن طلحة والزبير وردا البصرة فوثبا على عاملي فضرباه ضرباً مبرحاً، وتُرك لا يُدرى

ص: 105

أحيٌّ هو أم ميت، وقتلا العبد الصالح حكيم بن جبلة في عدة من رجال المسلمين الصالحين، لقوا الله موفين ببيعتهم ماضين على حقهم، وقتلا السبابجة خزان بيت المال الذي للمسلمين، قتلوهم صبراً، وقتلوا غدراً.

فبكى الناس بكاء شديداً ورفع أمير المؤمنين (علیه السلام) يديه يدعو ويقول: اللهم اجز طلحة والزبير جزاء الظالم الفاجر، والخفور الغادر).

10. قال الطبري(3/496):(عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة قالا: ولما نزل علي الثعلبية أتاه الذي لقيَ عثمان بن حنيف وحرسه، فقام وأخبرالقوم الخبر وقال: اللهم عافني مما ابتليت به طلحة والزبيرمن قتل المسلمين، وسلمنا منهم أجمعين،ولما انتهى إلى الأسآد أتاه ما لقيَ حكيم بن جبلة وقتلة عثمان بن عفان فقال:الله أكبرماينجيني من طلحة والزبير إذ أصابا ثأرهما أو ينجيهما وقرأ: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا. وقال:

دعا حكيم دعوة الزماعْ *** حلَّ بها منزلة النزاعْ

(الزميع والزماع: الحكيم الشجاع) ولما انتهوا إلى ذي قار انتهى إليه فيها عثمان بن حنيف وليس في وجهه شعر، فلما رآه عليٌّ نظر إلى أصحابه فقال: إنطلق هذا من عندنا وهو شيخ فرجع إلينا وهوشاب، فلم يزل بذي قار يتلوم (ينتظر رسله الى الكوفة) محمداً ومحمداً، وأتاه الخبر بما لقيت ربيعة وخروج عبد القيس ونزولهم بالطريق، فقال: عبدالقيس خير ربيعة، وفي كل ربيعة خير، وقال:

يا لهف نفسي على ربيعه *** ربيعة السامعة المطيعه

قد سبقتني فيهم الوقيعهْ *** دعا عليٌّ دعوة سميعه

حلوا بها المنزلة الرفيعه).

وقال المسعودي في مروج الذهب (2/369): (واشتد حزن عليٍّ على من قتل من ربيعة قبل وروده البصرة، وهم الذين قتلهم طلحة والزبير من عبد القيس وغيرهم من ربيعة، وجدد حزنه قتل زيد بن صوحان العبدي، قتله في ذلك اليوم عمرو بن سبرة،

ص: 106

وكان علي يكثر من قوله:

يا لهْفَ نفساه على ربيعهْ *** ربيعةُ السامعةُ المطيعه

11. قال البلاذري (2/227): (وركب حكيم بن جبلة العبدي حتى انتهى إلى الزابوقة، وهو في ثلاث مأة، منهم من قومه سبعون، وقال إخوة له وهم الأشرف والحكيم والزعل، فسار إليهم طلحة والزبير فقالا: يا حكيم ما تريد؟ قال: أريد أن تحلُّوا عثمان بن حنيف وتقروه في دار الإمارة وتسلموا إليه بيت المال،وأن ترجعا إلى قدوم علي. فأبوا ذلك واقتتلوا، فجعل حكيم يقول:

أضربهم باليابسْ *** ضرب غلام عابسْ *** من الحياة آيس

فضربت رجله فقطعت، فحبا وأخذها فرمى بها ضاربه فصرعه، وجعل يقول:

يا نفس لن تراعي *** رعاك خير راعي

إن قطعت كراعي *** إن معي ذراعي

وجعل يقول أيضاً:

ليس عليّ في الممات عار *** والعار في الحرب هو الفرار

والمجد أن لا يفضح الذمار

فقتل حكيم في سبعين من قومه، وقتل إخوته الثلاثة).

12. وكان حكيم بليغاً، فقد أرسله عثمان والياً على السند: (سأله عن حال البلاد فقال: يا أمير المؤمنين، ماؤها وَشَل، وتمرها دَقَل، ولصها بطل، إن قل الجيش بها ضاعوا، وإن كثروا جاعوا! فقال عثمان: أخابرٌ، أنت أم تسجع، قال: بل خابر، فلم يُغزها أحداً). (كتاب الخراج لقدامة بن جعفر:1/414)

وقال ابن خلدون (2ق2/142) إن حكيم بن جبلة طرد عبدالله بن سبأ من البصرة، وهذا ردٌّ كافٍ على من يتهم الشيعة بأنهم يثقون بعبدالله بن سبأ، وعلى ما كذبوه من دوره في حرب الجمل.

ص: 107

13.وهوحكيم بن جبلة بن الحصين بن أسود بن كعب بن عامر بن الحارث بن الديل بن عمرو بن غنم بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس.كان رجلاً صالحاً شجاعاً، مطاعاً في قومه عبد القيس. وهو من كبار أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) ، مشهور بولائه والنصح له، وفيهم يقول (علیه السلام) :

يا لهف نفساه على ربيعه *** ربيعة السامعة المطيعه

قد سبقتني فيهم الوقيعه *** دعا حكيمٌ دعوة سميعه

حلوا بها المنزلة الرفيعه).

( أنساب الأشراف:1/234، وأعيان الشيعة:6/214).

14. وقد مدحه أميرالمؤمنين (علیه السلام) مرات، منها قوله (علیه السلام) : (فناجزهم حكيم بن جبلة فقتلوه في سبعين رجلاًمن عباد أهل البصرة ومخبتيهم، يسمَّوْنَ المثفنين كأن راح أكفهم ثفنات الإبل).

 

تزوير رواة السلطة معركة الجمل الأصغر

من أمثلة تزويرهم رواية الطبري(3/480) قال:(وأقبل حكيم بن جبلة وقد خرج وهو على الخيل فأنشب القتال وأشرع أصحاب عائشة رماحهم وأمسكوا ليمسكوا فلم ينته ولم يثن، فقاتلهم وأصحاب عائشة كافون إلا ما دافعوا عن أنفسهم، وحكيم يذمرخيله ويركبهم بها ويقول: إنها قريش ليردينها جبنها والطيش. واقتتلوا على فم السكة، وأشرف أهل الدور ممن كان له في واحد من الفريقين هوى، فرموا باقي الآخرين بالحجارة، وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى انتهوا إلى مقبرة بني مازن، فوقفوا بها ملياً، وثار إليهم الناس فحجز الليل بينهم، فرجع عثمان إلى القصر ورجع الناس إلى قبائلهم، وجاء أبو الجرباء أحد بني عثمان بن مالك بن عمرو بن تميم إلى عائشة وطلحة والزبير، فأشار عليهم بأمثل من مكانهم فاستنصحوه وتابعوا رأيه، فساروا من مقبرة بني مازن، فأخذوا على مسناة البصرة من قبل الجبانة، حتى انتهوا

ص: 108

إلى الزابوقة، ثم أتوا مقبرة بني حصن وهي متنحية إلى دار الرزق، فباتوا يتأهبون وبات الناس يسيرون إليهم، وأصبحوا وهم على رِجْلٍ في ساحة دار الرزق.

وأصبح عثمان بن حنيف فغاداهم وغدا حكيم بن جبلة وهو يبربر وفي يده الرمح فقال له رجل من عبد القيس: من هذا الذي تسب وتقول له ما أسمع؟ قال: عائشة. قال: يا ابن الخبيثة ألأم المؤمنين تقول هذا؟ فوضع حكيم السنان بين ثدييه فقتله. ثم مر بامرأة وهو يسبها يعني عائشة فقالت: من هذا الذي ألجأك إلى هذا؟ قال: عائشة. قالت: يا ابن الخبيثة ألأُم المؤمنين تقول هذا! فطعنها بين ثدييها فقتلها، ثم سار فلما اجتمعوا واقفوهم فاقتتلوا بدار الرزق قتالاً شديداً، من حين بزغت الشمس إلى أن زال النهار، وقد كثر القتلى في أصحاب ابن حنيف وفشت الجراحة في الفريقين، ومنادي عائشة يناشدهم ويدعوهم إلى الكف فيأبون، حتى إذا مسهم الشر وعضهم، نادوا أصحاب عائشة إلى الصلح والمتات، فأجابوهم، وتوعدوا وكتبوا بينهم كتاباً).

ملاحظات

1. هاجمت عائشة دار الإمارة، ومع ذلك صورتها رواية الطبري بأنها معتدى عليها، وأنها كانت كافة عن القتال، وصورت حكيم بن جبلة معتدياً ساباً لعائشة، وأنه قتل رجلاً وامرأة اعترضا عليه لسبه عائشة!

لكن ذهاب عائشة من المربد الى مداخل البصرة وأفواه السكك، يعني أنها أرادت احتلال المدينة بالقوة، فهي المعتدية!

2.صورت بعض روايات الطبري الصلح بأنه كان على إرسال كعب بن سور رئيس الأزد الى المدينة ليعرف هل أكره علي (علیه السلام) طلحة والزبيرعلى بيعته، فتكون غير شرعية ويجب على واليه في البصرة أن يسلمهم المدينة، أم كانت طوعاً فيجب عليهما طاعة علي (علیه السلام) . وتدعي أن كعباً رجع بتصديق قولهم، وأن أسامة بن زيد شهد أن علياً أكرههما، لذلك هاجما دار الإمارة! وهذه كذبة مفضوحة، لأن

ص: 109

مهاجمتهم دار الإمارة وأسرهم الوالي كانت بعد أيام قليلة من الصلح، لا تتسع لرواح أحد الى المدينة ورجوعه!

ثم إن كعب بن سور قرر اعتزال الفريقين، ولم ينقلوا عنه حرفاً عن سفره الى المدينة! وكان مصراً على الإعتزال حتى ذهبت عائشة الى بيته وبكت له! فلو ثبت له إكراه علي طلحة والزبير لما اعتزل.

والصحيح أن الصلح لم يكن على إرسال كعب، بل على أن تبقى البصرة بيد الوالي ابن حنيف حتى يصل علي (علیه السلام) ، ثم نقضوا الصلح والعهد وغدروا بالوالي ليلاً! واخترعوا قصة التحقق في الإكراه على البيعة!

3. ردوا شهادة علي (علیه السلام) المكررة وشهادة غيره من الصحابة بأن طلحة والزبير بايعا مختارين، وتشبثوا بما نسبوه الى أسامة بن زيد بأنه قال إنهما كانا مكرهين، ولو صح ذلك فلماذا لم يُكره علي (علیه السلام) أسامة نفسه وغيره على بيعته، وبقي أسامة غير مبايع. ثم هل تبطل الخلافة بإكراه شخصين على البيعة بعد بيعة كبار المهاجرين والأنصار؟

ثم،ما بالهم لم يطرحوا ملف إكراه عمر لأهل الشورى أن يبايعوا من يختاره ابن عوف تحت التهديد بالقتل بمحمد بن مسلمة وجماعته المسلحين على الباب، ولا ملف إكراه أبي بكر للمسلمين على بيعة عمر، ولا ملف إكراه المسلمين على بيعة أبي بكر، وقول عمر إنها كانت فلتة، فمن فعل مثلها وابتز المسلمين أمرهم فاقتلوه!

فلماذا إذا وصل الأمر الى علي (علیه السلام) صاروا أتقياء يتكلمون في حرية الإنسان، وبيعة الإختيار والإكراه! فالبيعة لعلي يجب أن تكون بكامل الرضا والإختيار، أما لغيره فتصح بالسيف وحرق البيوت، والتهديد؟ لك الله يا علي!

قال إمامهم عبد الرزاق في المصنف (5/456): (حتى إذا قتل عثمان (رحمة الله) بايع الناس علي بن أبی طالب فأرسل إلى طلحة والزبير: إن شئتما فبايعاني وإن شئتما بايعت أحدكما، قالا: بل نبايعك. ثم هربا إلى مكة! وبمكة عائشة زوج النبي تتكلم بما يتكلمان به فأعانتهما على رأيهما، فأطاعهم ناس كثير من قريش، فخرجوا قِبَل البصرة يطلبون بدم ابن عفان، وخرج معهم عبد الرحمن بن أبي بكر،وخرج معهم عبد الرحمن بن

ص: 110

عتاب بن أسيد، وعبدالله بن الحارث بن هشام، وعبدالله بن الزبير، ومروان بن الحكم، في أناس من قريش كلموا أهل البصرة وحدثوهم أن عثمان قتل مظلوماً، وأنهم جاءوا تائبين مما كانوا غلوا في أمر عثمان، فأطاعهم عامة أهل البصرة).

4. ذكر المؤرخون نص كتاب الصلح وأخفاه بعضهم، ففي الإستيعاب (1/367): «لما غدر ابن الزبير بعثمان بن حنيف بعد الصلح الذي كان عقده.. وأن يكفوا عن الحرب ويبقى هو في دار الإمارة خليفة لعلي حتى يقدم علي، فلما كان بعد أيام جاء عبدالله بن الزبير في ليلة ذات ريح وظلمة، فطوقوا عثمان بن حنيف في دار الإمارة، فأخذوه، وأخذوا ما في بيت المال إلى عائشة، فقالت عائشة: أقتلوا عثمان بن حنيف »!

وقال المسعودي في مروج الذهب ( 2/358): (ثم إنهم اصطلحوا بعد ذلك على كف الحرب الى قدوم علي (علیه السلام) ، فلما كان في بعض الليالي بَيَّتوا عثمان بن حنيف فأسروه وضربوه ونتفوا لحيته، ثم إن القوم استرجعوا وخافوا على مخلَّفيهم بالمدينة من أخيه سهل بن حُنَيف وغيره من الأنصار، فخلوا عنه).

(فمزقواكتاب الصلح وغدروا في ليلة مظلمة ذات رياح). (ابن الأعثم:2/457).

«فكتبوا بينهم وبينه كتاباً أنهم لا يحدثون حدثاً إلى قدوم علي، وأن كل فريق منهم آمن من صاحبه). (اليعقوبي:2 /181).

5. نصَّ البلاذري على كتاب الصلح وغَدْر الزبير وطلحة! قال (2/226): (وتأهبوا للقتال فانتهوا إلى الزابوقة، وأصبح عثما بن حنيف فزحف إليهم فقاتلهم أشد قتال، فكثرت منهم القتلى وفشت فيهم الجراح. ثم إن الناس تداعوا إلى الصلح فكتبوا بينهم كتاباً بالموادعة إلى قدوم علي على أن لايعرض بعضهم لبعض في سوق ولا مشرعة، وأن لعثمان بن حنيف دار الإمارة وبيت المال والمسجد، وأن طلحة والزبير ينزلان ومن معهما حيث شاؤوا، ثم انصرف الناس وألقوا السلاح.

ص: 111

وتناظر طلحة والزبيرفقال طلحة: والله لئن قدم علي البصرة ليأخذن بأعناقنا. فعزما على تبييت ابن حنيف وهو لايشعر وواطآ أصحابهما على ذلك، حتى إذا كانت ليلة ريح وظلمة جاؤوا إلى ابن حنيف وهو يصلي بالناس العشاء الآخرة فأخذوه، وأمروا به فوطئ وطئاً شديداً، ونتفوا لحيته وشاربيه..

وبعثا عبدالله بن الزبير في جماعة إلى بيت المال وعليه قوم من السبابجة يكونون أربعين ويقال أربع مائة فامتنعوا من تسليمه دون قدوم علي، فقتلوهم ورئيسهم أبا سلمة الزطي، وكان عبداً صالحاً. وأصبح الناس وعثمان بن حنيف محبوس، فتدافع طلحة والزبير الصلاة، وكانا بويعا أميرين غير خليفتين، وكان الزبير مقدماً، ثم اتفقا على أن يصلِّي هذا يوماً وهذا يوماً)!

ص: 112

الفصل الخامس والخمسون: حركة أميرالمؤمنين (علیه السلام) الى البصرة

كتبت أم سلمة الى علي (علیه السلام) بحركة عائشة

قال ابن الأعثم (2/454): (كتبت أم سلمة إلى علي بن أبی طالب: لعبدالله علي أمير المؤمنين، من أم سلمة بنت أبي أمية، سلام عليك ورحمة الله وبركاته.

أما بعد، فإن طلحة والزبير وعائشة وبنيها بني السوء وشيعة الضلال، خرجوا مع ابن الجزار عبدالله بن عامر إلى البصرة، يزعمون أن عثمان بن عفان قتل مظلوماً وأنهم يطلبون بدمه! والله كافيكهم، وجاعل دائرة السوء عليهم إنشاءالله تعالى. وتالله لولا ما نهى الله عز وجل عنه من خروج النساء من بيوتهن، وما أوصى به رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند وفاته لشخصت معك..وتقدم ذكر رسالتها.

حاول (بعضهم) أن يثنوا علياً (علیه السلام) عن مواجهة عائشة

1. في أمالي الطوسي/716:(فأزمع المسير فبلغه تثاقل سعد وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة، فقال سعد: لا أشهر سيفاً حتى يعرف المؤمن من الكافر، وقال أسامة: لا أقاتل رجلاً يقول:لا إله إلا الله، ولوكنتَ في فم الأسد لدخلت فيه معك! وقال محمد بن مسلمة:أعطاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) سيفاً وقال: إذا اختلف المسلمون فاضرب به عرض أُحُد والزم بيتك. وتخلف عنه عبدالله بن عمر فقال عمار بن ياسر: دع القوم، أما عبدالله فضعيف، وأما سعد فحسود، وأما محمد بن مسلمة فذنبك إليه أنك قتلت قاتل أخيه، مرحباً. ثم قال عمار لمحمد بن مسلمة: أما تقاتل المحاربين؟ فوالله لو مال علي جانباً لملت مع علي!

ص: 113

وقال كعب بن مالك: يا أمير المؤمنين إنه بلغك عنا معشر الأنصار، ما لو كان غيرنا لم يقم معك، والله ما كل ما رأينا حلالاً حلال، ولا كل ما رأينا حراماً حرام، وفي الناس من هو أعلم بعذر عثمان ممن قتله، وأنت أعلم بحالنا منا، فإن كان قتل ظالماً قبلنا، وإن كان قتل مظلوماً فاقبل قولنا، فإن وكلتنا فيه إلى شبهة فعجب ليقيننا وشكك، وقد قلت لنا: عندي نقض ما اجتمعوا عليه، وفصل ما اختلفوا فيه. وقال:

كان أولى أهل المدينة بالنص *** ر علياً وآل عبد مناف

للذي في يديه من حرم الله *** وقرب الولاء بعد التصافي

وكان كعب بن مالك شيعة لعثمان! وقام الأشتر إلى علي (علیه السلام) فكلمه بكلام يحضه على أهل الوقوف فكره ذلك علي (علیه السلام) حتى شكاه، وكان من رأي علي (علیه السلام) ألا يذكرهم بشئ. فقال الأشتر: يا أمير المؤمنين إنا وإن لم نكن من المهاجرين والأنصار فإنا فيهم، وهذه بيعة عامة والخارج منها عاص والمبطئ عنها مقصر، فإن أدبهم اليوم باللسان وغداً بالسيف، وما مَن ثقل عنك كمن خف معك، وإنما أرادك القوم لأنفسهم فأردهم لنفسك. فقال علي (علیه السلام) : يا مالك دعني، وأقبل علي (علیه السلام) عليهم فقال: أرأيتم لوأن من بايع أبا بكر أو عمر أو عثمان ثم نكث بيعته، أكنتم تستحلون قتالهم؟ قالوا: نعم. قال: فكيف تَحَرَّجُونَ من القتال معي وقد بايعتموني؟ قالوا: إنا لا نزعم أنك مخطئ، وأنه لا يحل لك قتال من بايعك ثم نكث بيعتك، ولكن نشك في قتال أهل الصلاة. فقال الأشتر: دعني يا أمير المؤمنين أوقع بهؤلاء الذين يتخلفون عنك. فقال له علي (علیه السلام) : كفَّ عني، فانصرف الأشتر وهو مغضب.

ثم إن قيس بن سعد لقي مالكاً الأشتر في نفرمن المهاجرين والأنصار، فقال قيس للأشتر: يا مالك، كلما ضاق صدرك بشئ أخرجته، وكلما استبطأت أمراً استعجلته، إن أدب الصبر التسليم، وأدب العجلة الأناة، وإن شرالقول ما ضاهى العيب، وشر الرأي ما ضاهى التهمة، وإذا ابتليت فاسأل، وإذا أمرت فأطع، ولاتسأل قبل البلاء، ولا تكلف قبل أن ينزل الأمر، فإن في أنفسنا ما في نفسك، فلا تشق على صاحبك؟ فغضب الأشتر، ثم إن الأنصار مشوا إلى الأشتر في ذلك فرضوه عن غضبه فرضي.

ص: 114

فلما همَّ علي (علیه السلام) بالنهوض قام إليه أبو أيوب خالد بن زيد صاحب منزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا أمير المؤمنين، لوأقمت بهذه البلدة فإنها مهاجر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبها قبره ومنبره، فإن استقامت لك العرب كنت كمن كان قبلك، وإن وكلت إلى المسير فقد أعذرت. فأجابه علي (علیه السلام) بعذره في المسير).

2. (ومن كلام له (علیه السلام) لما أشير عليه بأن لا يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال: والله لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم (الصوت المنتظم)حتى يصل إليها طالبها ويختلها راصدها. ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبداً، حتى يأتي علي يومي. فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقي، مستأثراً عليَّ منذ قبض الله نبيه (صلی الله علیه و آله) حتى يوم الناس هذا). (نهج البلاغة:1/41).

أقول: رد الإمام (علیه السلام) بذلك على كعب بن مالك الأنصاري ومحمد بن مسلمة، وهما عثمانيان، وعلى سعد بن أبي وقاص، وهو حسود كما قال عمار.

أما أبو أيوب فكان فيه بساطة وسذاجة، وكذلك أسامة، هذا إذا لم نسئ الظن في أسامة ونقول إنه وقع تحت تأثير العثمانيين، كما وقع من قبل تحت تأثير عمر.

وقد كانت سياسة أمير المؤمنين (علیه السلام) مع مخالفيه في المدينة وغيرها حكيمة بأن يتركهم ويجاهد الخارجين عليه من أهل الفتنة والضلال. وإنما استشارهم لأنه أراد أن يشرك أصحابه في الرأي، ويكشف بعض المتخلفين والمعادين.

وقد كشفت مواقف المخالفين لعلي (علیه السلام) والذين دعوه الى عدم قتال الناكثين لبيعته، أنهم مع ثورة قريش عليه، أو يقفون على الحياد. وهذا يدلك على مدى فعالية قريش في المدينة لتخذيل الناس عن نصرته (علیه السلام) .

3. وقد ناقش ابن عباس أسامة، ففي كتاب الجمل للمفيد/128: (لما اجتمع القوم على ما ذكرناه من شقاق أمير المؤمنين والتأهب للمسير إلى البصرة، واتصل الخبر إليه، وجاءه كتاب يخبره بخبرالقوم، دعا ابن عباس ومحمد بن أبي

ص: 115

بكر وعمار بن ياسر وسهل بن حنيف، وأخبرهم بذلك وبما عليه القوم من المسير فقال محمد بن أبي بكر:ما يريدون يا أمير المؤمنين؟فتبسم (علیه السلام) وقال يطلبون بدم عثمان! فقال محمد: والله ما قتله غيرهم!

ثم قال علي: أشيروا علي بما أسمع منكم القول فيه، فقال عمار: الرأي أن نسير إلى الكوفة، فإن أهلها لنا شيعة وقد انطلق هؤلاء القوم إلى البصرة. وقال ابن عباس: الرأي عندي يا أميرالمؤمنين أن نقدم رجالاً إلى الكوفة فيبايعوا لك، وتكتب إلى الأشعري أن يبايع لك، ثم بعده المسيرحتى نلحق بالكوفة فنعاجل القوم قبل أن يدخلوا البصرة، وتكتب إلى أم سلمة فتخرج معك فإنها لك قوة.

فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : بل أنهض بنفسي ومن معي في اتباع الطريق وراء القوم فإن أدركتهم بالطريق أخذتهم، وإن فاتوني كتبت إلى الكوفة واستمددت الجند من الأمصار وسرت إليهم. وأما أم سلمة فإني لا أرى إخراجها من بيتها، كما رأى الرجلان إخراج عائشة. فبينما هم في ذلك إذ دخل عليهم أسامة بن زيد وقال لأميرالمؤمنين: فداك أبي وأمي لاتسروحدك، وانطلق إلى ينبع، وخلف على المدينة رجلاً وأقم بمالك، فإن العرب لهم جولة ثم يصيرون إليك. فقال له ابن عباس: إن كان هذا القول منك يا أسامة على غير غِلٍّ في صدرك فقد أخطأت وجه الرأي منه، ليس هذا برأي! يكون والله كهيئة الضبع في مغارتها! فقال أسامة: فما الرأي؟ قال: ما أشرت به إليه ما رأى أمير المؤمنين لنفسه.

ثم نادى أمير المؤمنين (علیه السلام) في الناس: تجهزوا للمسير فإن طلحة والزبيرقد نكثا البيعة ونقضا العهد، وأخرجا عائشة من بيتها يريدان البصرة لإثارة الفتنة وسفك دماء أهل القبلة، ثم رفع يديه إلى السماء فقال: اللهم إن هذين الرجلين قد بغيا عليَّ، ونكثا عهدي، ونقضا عقدي، وشاقاني بغير حق سوغهما ذلك. اللهم خذهما بظلمهما، وأظفرني بهما، وانصرني عليهما. ثم خرج في سبع مائة رجل من المهاجرين والأنصار).

4. وفي الكافئة/19:(لما اتصل بأمير المؤمنين صلوات الله عليه مسيرعائشة وطلحة والزبيرمن مكة إلى البصرة، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: قد سارت عائشة وطلحة

ص: 116

والزبيركل منهما يدعي الخلافة دون صاحبه! ولايدعي طلحة الخلافة إلا أنه ابن عم عائشة، ولايدعيها الزبير إلا أنه صهر أبيها!

والله لئن ظفرا بما يريدان ليضربن الزبيرعنق طلحة، وليضربن طلحة عنق الزبير ينازع هذا على الملك هذا! ولقد علمت والله الراكبة الجمل أنها لاتحل عقدة، ولا تسير عقبة ولا تنزل منزلة، إلا إلى معصية الله، حتى تورد نفسها ومن معها مورداً يقتل ثلثهم، ويهرب ثلثهم، ويرجع ثلثهم! والله إن طلحة والزبير ليعلمان أنهما مخطئان وما يجهلان، ولرب عالم قتله جهله وعلمه معه لاينفعه.

والله لتنبحنها كلاب الحوأب! فهل يعتبر معتبر ويتفكر متفكر، لقد قامت الفئة الباغية، فأين المحسنون؟ مالي ولقريش! أما والله لأقتلنهم كافرين، ولأقتلنهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس. وما لنا إليها من ذنب غيرأنا خُيِّرنا عليها فأدخلناهم في حيزنا! أما والله لا أترك الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته إنشاءالله. فلتضجَّ مني قريش ضجيجاً)!

5. في شرح نهج البلاغة (1/309) عن الكلبي قال: (لما أراد علي (علیه السلام) المسير إلى البصرة قام فخطب الناس، فقال بعد أن حمد الله وصلى على رسوله (صلی الله علیه و آله) : إن الله لما قبض نبيه استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة، فرأيت أن الصبرعلى ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم، والناس حديثو عهد بالإسلام، والدين يمخض مخض الوَطْب يفسده أدنى وهن، ويعكسه أقل خُلف.فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهاداً ثم انتقلوا إلى دار الجزاء، والله ولي تمحيص سيئاتهم والعفوعن هفواتهم. فما بال طلحة والزبير وليسا من هذا الأمر بسبيل! لم يصبرا عليَّ حولاً ولا شهراً حتى وثَبا ومرَقا، ونازعاني أمراً لم يجعل الله لهما إليه سبيلاً، بعد أن بايعا طائعَين غير مكرهَين، يرتضعان أُماً قد فطمت، ويُحييان بدعة قد أُميتت.

أدمَ عثمان زعما! والله ما التبعة إلا عندهم وفيهم، وإن أعظم حجتهم لعلى أنفسهم، وأنا راضٍ بحجة الله عليهم وعمله فيهم، فإن فاءا وأنابا فحظهما

ص: 117

أحرزا وأنفسهما غنما، وأعظِم بها غنيمة! وإن أبَيا أعطيتهما حد السيف وكفى به ناصراً لحقٍّ، وشافياً لباطل. ثمّ نزل).

أقول: هدف أمير المؤمنين (علیه السلام) من هذه الخطبة، إدانة سقيفة قريش وخلفائها، وأنهم طمعوا واستأثروا بما ليس لهم، وغصبوا حق عترة النبي (صلی الله علیه و آله) ، والآن رجع الحق الى نصابه، ومع إدانته لأبي بكر وعمر فقد ليَّنَ القول معهما حتى لايثير أنصارهما! ثم ذكر الطامعيْن الجديدين طلحة والزبير بغصب حق العترة، وأعلن (علیه السلام) أنه لن يتساهل معهما، وسيقاتلهما لأنه مأمور بذلك من النبي (صلی الله علیه و آله) ، وأن الظرف اختلف عن ظرف

سكوته على الحكام السابقين!

6. قال (علیه السلام) في طلحة والزبير: (كل واحد منهما يرجو الأمر له ويعطفه عليه دون صاحبه، لايَمُتَّان إلى الله بحبل، ولا يمدان إليه بسبب.كل واحد منهما حامل ضبٍّ لصاحبه، وعما قليل يكشف قناعه به. والله لئن أصابوا الذي يريدون لينتزعن هذا نفس هذا، وليأتين هذا على هذا.

قد قامت الفئة الباغية فأين المحتسبون! فقد سنت لهم السنن وقدم لهم الخبر، ولكل ضلة علة، ولكل ناكث شبهة. والله لا أكون كمستمع اللدم، يسمع الناعي ويحضرالباكي، ثم لا يعتبر). (نهج البلاغة:2/32).

7. وقال (علیه السلام) لرئيس حاخامات اليهود (الخصال/377): (وأما الخامسة يا أخا اليهود فإن المبايعين لما لم يطمعوا في ذلك مني، وثبوا بامرأة عليَّ أنا ولي أمرها والوصي عليها، فحملوها على الجمل وشدوها على الرحال، وأقبلوا بها تخبط الفيافي وتقطع البراري، وتنبح عليها كلاب الحوأب وتظهر لهم علامات الندم في كل ساعة وعلى كل حال، في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الأولى في حياة النبي (صلی الله علیه و آله) حتى أتت أهل بلدة، قصيرة أيديهم، طويلة لحاهم، قليلة عقولهم، عازبة آراؤهم جيران بدو ووراد بحر، فأخرجتهم يخبطون بسيوفهم بغير علم، يرمون بسهامهم بغير فهم، فوقفت من أمرهم على اثنتين كلتاهما في محلة المكروه، إن كففت لم يرجعوا ولم يقلعوا، وإن أقمت

ص: 118

كنت قد صرت إلى الذي كرهت، فقدمت الحجة بالإعذار والإنذار ودعوت المرأة إلى بيتها والقوم الذين حملوها على الوفاء ببيعتهم لي، والترك لنقضهم عهد الله عز وجل فيَّ، وأعطيتهم من نفسي كل الذي قدرت عليه، وناظرت بعضهم فرجع وذكرته فذكر، ثم أقبلت على الناس بمثل ذلك، فلم يزدادوا إلا جهلاً وتمادياً وغياً، فلما أبوا إلا هي ركبتها منهم، فكانت عليهم الدبرة، وبهم الهزيمة ولهم الحسرة وفيهم الفناء والقتل، وحملت نفسي على التي لم أجد منها بداً، ولم يسعني إذ فعلت ذلك و أظهرته آخراً مثل الذي وسعني فيه أولاً، من الإغضاء والإمساك ورأيتني إن أمسكت كنت معيناً لهم بإمساكي على ما صاروا إليه، وطمعوا فيه من تناول الأطراف وسفك الدماء، وقتل الرعية وتحكيم النساء النواقص العقول والحظوظ على كل حال، كعادة بني الأصفرومن مضى من ملوك سبأ والأمم الخالية، فأصير إلى ما كرهت أولاً وآخراً، وقد أهملت المرأة وجندها يفعلون ما وصفت بين الفريقين من الناس وألقى ما حذرت، ولم أهجم على الأمرإلا بعد ما قدمت وأخرت وتأنيت وراجعت وراسلت وشافهت وأعذرت وأنذرت، وأعطيت القوم كل شئ التمسوه مني، بعد أن عرضت عليهم كل شئ لم يلتمسوه، فلما أبوا إلا تلك أقدمت فبلغ الله بي وبهم ما أراد، وكان لي عليهم بما كان مني إليهم شهيداً. ثم التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين).

 

إنها بدرٌ جديدة فإما القتال وإما الكفر!

1.روى الجميع أحاديث وصححوها بأن النبي (صلی الله علیه و آله) أخبرقريشاً بأن علياً (علیه السلام) سيقاتل بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) على تأويل القرآن، كما قاتلهم هو على تنزيله!

ففي مستدرك الحاكم (2/138):( لما افتتح رسول الله (صلی الله علیه و آله) مكة أتاه ناس من قريش فقالوا: يا محمد إنا حلفاؤك وقومك، وإنه لحق بك أرقاؤنا ليس لهم

ص: 119

رغبة في الإسلام، وإنما فروا من العمل فارددهم علينا! فشاور أبا بكر في أمرهم فقال: صدقوا يا رسول الله! فقال لعمر: ما ترى؟ فقال مثل قول أبي بكر! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : يا معشر قريش ليبعثن الله عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للإيمان، فيضرب رقابكم على الدين! فقال أبو بكر:أنا هو يا رسول الله؟ قال:لا. قال عمر: أنا هو يا رسول الله؟ قال:لا، ولكنه خاصف النعل في المسجد! وقد كان ألقى نعله إلى علي يخصفها. هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه).

أقول: بحثنا ذلك في كتاب: آيات الغدير، وبينا أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما فتح مكة جعل عليها حاكماً أموياً هو عتاب بن أسيد، فغضبت قريش وعزلت أبا سفيان من قيادتها لأنه كان ليناً مع النبي (صلی الله علیه و آله) ، واتهمته أنه اتفق معه لأنهما من عبد مناف! وزعَّمت مكانه سهيل بن عمر، فكان أمره نافذاً في مكة، وأهملوا حاكم النبي (صلی الله علیه و آله) !

وجاء سهيل الى المدينة يطالب النبي (صلی الله علیه و آله) بأن يرجع اليهم أبناءهم وغلمانهم الذين جاؤوه الى المدينة، فنزل سهيل عند عمر وأيد مطلبه هو وأبو بكر، فغضب النبي (صلی الله علیه و آله) وهدد قريشاً، وأخبرهم بما يكون بعده، وأن علياً (علیه السلام)

سيقاتلهم على التأويل!

2. وفي مجمع الزوائد (7/238):(عن علي قال:عهد إليَّ رسول الله (ص) في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين. رواه البزار والطبراني في الأوسط، وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح، غير الربيع بن سعيد ووثقه ابن حبان).

وروى البزار: (عن علي بن ربيعة قال: سمعت علياً على المنبر وأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين ما لي أراك تستحل الناس استحلال الرجل إبله؟ أبعهد من رسول الله أو شيئاً رأيته؟ قال: والله ما كذبت ولا كذبت ولا ضللت ولا ضل بي، بل عهد من رسول الله عهده إليَّ وقد خاب من افترى، عهد إلي النبي أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين. ( البزار، ع). (كنز العمال:11/327).

وفي تاريخ بغداد (13/189): (عن سليمان بن مهران الأعمش قال: حدثنا إبراهيم عن

ص: 120

علقمة والأسود قالا: أتينا أبا أيوب الأنصاري عند منصرفه من صفين، فقلنا له: يا أبا أيوب إن الله أكرمك بنزول محمد وبمجيئ ناقته تفضلاً من الله وإكراماً لك حتى أناخت ببابك دون الناس، ثم جئت بسيفك على عاتقك تضرب به أهل لا إله إلا الله؟ فقال: يا هذا إن الرائد لا يكذب أهله، وإن رسول الله أمرنا بقتال ثلاثة مع علي، بقتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين. فأما الناكثون فقد قاتلناهم أهل الجمل طلحة والزبير، وأما القاسطون فهذا منصرفنا من عندهم يعني معاوية وعمراً، وأما المارقون فهم أهل الطرفاوات، وأهل السعيفات، وأهل النخيلات، وأهل النهروانات، والله ما أدري أين هم ولكن لا بد من قتالهم إنشاءالله، قال: وسمعت رسول الله يقول لعمار: يا عمار تقتلك الفئة الباغية، وأنت إذ ذاك مع الحق والحق معك، يا عمار بن ياسر إن رأيت علياً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي، فإنه لن يدليك في ردى، ولن يخرجك من هدى. يا عمار من تقلد سيفاً أعان به علياً على عدوه قلده الله يوم القيامة وشاحين من در، ومن تقلد سيفاً أعان به عدو علي عليه قلده الله يوم القيامة وشاحين من نار! قلنا: يا هذا حسبك رحمك الله، حسبك رحمك الله)!

3. وفي الأخبار الطوال/188:(فقال علي:يا هذا، إني قد ضربت أنف هذا الأمر وعينيه، فلم أجده يسعني إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد،

إن الله لايرضى من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت لايأمرون بمعروف ولاينهون عن منكر، فوجدت القتال أهون من معالجة الأغلال في جهنم).

4. وقال ابن عبد البر في الإستيعاب(3/1117):(ويروى من وجوه عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر أنه قال: ما آسى على شيئ إلَّا أني لم أقاتل مع عليٍّ الفئة الباغية. وقال الشعبي: ما مات مسروق حتى تاب إلى الله عن تخلَّف عن القتال مع عليّ. ولهذه الأخبار طرق صحاح قد ذكرناها في.

ورويَ من حديث عليّ، ومن حديث ابن مسعود، ومن حديث أبي أيوب

ص: 121

الأنصاري أنه أُمر بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين. وروي عنه أنه قال: ما وجدت إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله).

5. في أنساب الأشراف للبلاذري(2/236):(عن عمرو بن طارق بن شهاب

قال: قال الحسن بن علي لعليّ بالربذة وقد ركب راحلته وعليها رحل له رثّ: إني لأخشى أن تقتل بمضيعة! فقال: إليك عنّي فوالله ما وجدت إلا قتال القوم أو الكفر بما جاء به محمد (صلی الله علیه و آله) ، أو قال: بما أنزل على محمد (صلی الله علیه و آله) ).

6. وفي تاريخ دمشق (42/439و473): (عن يحيى بن عروة المرادي قال: سمعت علي بن أبی طالب قال: قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنا أرى أني أحق الناس بهذا الأمر فاجتمع الناس على أبي بكر فسمعت وأطعت! ثم إن أبا بكر حضر فكنت أرى أن لا يعدلها عني، فولى عمر فسمعت وأطعت! ثم إن عمر أصيب فظننت أنه لايعدلها عني، فجعلها في ستة أنا أحدهم فولاها عثمان فسمعت وأطعت!

ثم إن عثمان قتل فجاؤوني فبايعوني طائعين غيرمكرهين، فوالله ما وجدت إلا السيف أو الكفر بما أنزل على محمد (صلی الله علیه و آله) )!

7. وفي وقعة صفين لابن مزاحم المنقري/474:(ولقد أهمني هذا الأمر وأسهرني، وضربت أنفه وعينيه، فلم أجد إلا القتال أوالكفر بما أنزل الله على محمد (صلی الله علیه و آله) . إن الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون، لا يأمرون بالمعروف ولاينهون عن المنكر، فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة الأغلال في جهنم).

8. وفي المعرفة للفسوي المتوفى277(2/688): (قال علي: إني والله قد ضربت في هذا الأمر رأسه وعينيه، فلم أجد إلا القتال أو الكفر بما أنزل على محمد (صلی الله علیه و آله) ).

الى عشرات المصادر الاخرى كالمعيار للإسكافي/145، وأسد الغابة (4/31).

 

ص: 122

قتال البغاة فريضة مشددة

1. استفاض الحديث عندنا بأن قتال البغاة عهد من النبي (صلی الله علیه و آله) الى علي (علیه السلام) وفريضةٌ مشددة، وأن قريشاً ما أسلمت ولكن استسلمت، وأنها انقلبت بعد النبي (صلی الله علیه و آله) على عترته وأخذت دولته، ولما وصلت رئاسة الدولة الى علي (علیه السلام)  ثارت قريش لإرجاعها!

ففي نهج البلاغة (3 /16): (كان (علیه السلام) يقول لأصحابه عند الحرب:لاتشتدن عليكم فرَّةٌ بعدها كرة، ولاجولة بعدها حملة، وأعطوا السيوف حقوقها، ووطئوا للجنوب مصارعها، واذمروا أنفسكم على الطعن الدعسي والضرب الطلحفي، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل. فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر، فلما وجدوا أعواناً عليه أظهروه)!

والطعن الدعسي: مركز يدعس في القلب. والضرب الطلحفي: شديد قوي.

وكان عمار بن ياسر ينادي: (أيها الناس:والله ما أسلموا ولكنهم استسلموا وأسروا الكفر! فلما وجدوا أعواناً أظهروه)! (علل الشرائع:1/ 222، وشرح الأخبار:2/ 157).

2. في الكافي(5/38):(عن أبي صادق قال: سمعت علياً (علیه السلام) يحرض الناس في ثلاثة مواطن: الجمل وصفين ويوم النهر، يقول: عباد الله اتقوا الله وغضوا الأبصار، واخفضوا الأصوات، وأقلوا الكلام، ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمجادلة والمبارزة والمناضلة والمنابذة والمعانقة والمكادمة، واثبتوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.وَلاتَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَمَعَ الصَّابِرِينَ).

3. قال الصدوق في الإعتقادات/105:(اعتقادنا فيمن قاتل علياً (علیه السلام) قول النبي (صلی الله علیه و آله) : من قاتل علياً فقد قاتلني، ومن حارب علياً فقد حاربني، ومن حاربني فقد حارب الله. وقوله (صلی الله علیه و آله) لعلي وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام) : أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم).

4. في من لا يحضره الفقيه (4 / 419):(عن الأصبغ بن نباتة قال: قال

ص: 123

أمير المؤمنين (علیه السلام) في بعض خطبه: أيها الناس إسمعوا قولي واعقلوه عني، فإن الفراق قريب: أنا إمام البرية ووصي خيرالخليقة،  وزوج سيدة نساء الأمة، وأبوالعترة الطاهرة والأئمة الهادية. أنا أخو رسول الله (صلی الله علیه و آله) ووصيه ووليه، ووزيره وصاحبه وصفيه، وحبيبه وخليله. أنا أمير المؤمنين، وقائد الغرالمحجلين وسيد الوصيين، حربي حرب الله، وسلمي سلم الله، وطاعتي طاعة الله، وولايتي ولاية الله، وشيعتي أولياء الله، وأنصاري أنصار الله. والذي خلقني ولم أك شيئاً، لقد علم المستحفظون من أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) أن الناكثين والقاسطين والمارقين ملعونون على لسان النبي الأمي، وقد خاب من افترى).

5. في شرح نهج البلاغة (14/24):(واختلف المتكلمون في حالها وحال من حضر واقعة الجمل، فقالت الإمامية: كفر أصحاب الجمل كلهم، الرؤساء والأتباع. وقال قوم من الحشوية والعامة: اجتهدوا فلا إثم عليهم، ولا نحكم بخطئهم ولا خطأ علي (علیه السلام) وأصحابه. وقال قوم من هؤلاء: بل نقول أصحاب الجمل أخطأوا ولكنه خطأ مغفور كخطأ المجتهد في بعض مسائل الفروع عند من قال بالأشبه، وإلى هذا القول يذهب أكثر الأشعرية).

وقال في شرح النهج (1/9):(أما أصحاب الجمل فهم عند أصحابنا (المعتزلة) هالكون كلهم إلا عائشة وطلحة والزبير فإنهم تابوا، ولولا التوبة لحكم لهم بالنار لإصرارهم على البغي. وأما عسكر الشام بصفين فإنهم هالكون كلهم عند أصحابنا لا يحكم لأحد منهم إلا بالنار، لإصرارهم على البغي وموتهم عليه، رؤساؤهم والأتباع جميعاً. وأما الخوارج فإنهم مرقوا عن الدين بالخبر النبوي المجمع عليه، ولا يختلف أصحابنا في أنهم من أهل النار.

وجملة الأمر أن أصحابنا يحكمون بالنار لكل فاسق مات على فسقه، ولا ريب في أن الباغي على الإمام الحق والخارج عليه بشبهه أو بغير شبهه فاسق، وليس هذا مما يخصون به علياً (علیه السلام) ، فلو خرج قوم من المسلمين على غيره من أئمة الإسلام العدول لكان حكمهم حكم من خرج على علي صلوات الله عليه).

ص: 124

6. وفي جواهر الكلام (21/325): (وعن علي (علیه السلام) أنه قال: أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، ففعلت ما أمرت. وعن الباقر (علیه السلام) أنه ذكرالذين حاربهم علي (علیه السلام) فقال: أما إنهم أعظم جرماً ممن حارب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، قيل له: وكيف ذلك يا ابن رسول الله؟ قال: لأن أولئك كانوا جاهلية وهؤلاء قرؤوا القرآن وعرفوا فضل أهل الفضل، فأتوا ما أتوا بعد البصيرة)! وفي رواية حرب عليٍّ (علیه السلام) شرٌّ من حرب رسول الله (صلی الله علیه و آله) (الكافي 8/252).

7. قال نصر بن مزاحم في كتاب صفين/215: (كنا مع علي بصفين، فرفع عمرو بن العاص شقة خميصة سوداء في رأس رمح، فقال ناس: هذا لواء عقده له رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلم يزالوا كذلك حتى بلغ علياً (علیه السلام) فقال:هل تدرون ما أمر هذا اللواء؟ إن عدو الله عمرو أخرج له رسول الله (صلی الله علیه و آله) هذه الشقة فقال:من يأخذها بما فيها؟ فقال عمرو:وما فيها يا رسول الله؟ قال:فيها أن لا تقاتل به مسلماً، ولا تفر به من كافر! فأخذها فقد والله فرَّ به من المشركين، وقاتل بها اليوم المسلمين! والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر، فلما وجدوا أعواناً رجعوا إلى عداوتهم لنا، إلا أنهم لم يدعوا الصلاة).

وهكذا كان عليٌّ (علیه السلام) مأموراً من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقتالهم، كما كان النبي (صلی الله علیه و آله) مأموراً من الله تعالى بقتال أولئك!

8. وفي المعيار والموازنة للإسكافي/102، ومطالب السؤول لمحمد بن طلحة/217: (لما انقضت وقعة الجمل وندمت عائشة على ما كان، ورحلت إلى المدينة وسكنت النائرة، ورحل علي (علیه السلام) إلى الكوفة، قام إليه أبو بردة بن عوف الأزدي فقال: يا أمير المؤمنين أرأيت القتلى الذين قتلوا حول الجمل بماذا قتلوا؟ فقال علي (علیه السلام) : قتلوا بما قتلوا من شيعتي وعمالي بلا ذنب كان منهم إليهم، ثم صرت إليهم وأمرتهم أن يدفعوا لي قتلة أصحابي فأبوا عليَّ وقاتلوني وفي أعناقهم

ص: 125

بيعتي ودماء قريب من ألف رجل من أصحابي من المسلمين! أفي شك أنت من ذلك يا أخا الأزد؟ فقال: الآن استبان لي خطؤهم وأنك أنت المحق المصيب).

9. (لما التقى أميرالمؤمنين (علیه السلام) أهل البصرة يوم الجمل..قال له الزبير: أما سمعت حديث سعيد بن عمرو بن نفيل وهو يروي: أنه سمع رسول الله يقول: عشرة من قريش في الجنة؟ قال علي (علیه السلام) :سمعته يحدث بذلك عثمان في خلافته،

فقال الزبير: أفتراه كذب على رسول الله؟ فقال له علي: لست أخبرك بشئ حتى تسميهم. قال الزبير: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبوعبيدة بن الجراح، وسعيد بن عمرو بن نفيل. فقال له علي (علیه السلام) : عددت تسعة فمن العاشر؟ قال له: أنت. قال علي (علیه السلام) : قد أقررت أني من أهل الجنة، وأما ما ادعيت لنفسك وأصحابك فأنا به من الجاحدين الكافرين! قال له: أفتراه كذب على رسول الله؟ قال: ما أراه كذب، ولكنه والله اليقين. فقال علي (علیه السلام) :والله إن بعض من سميته لفي تابوتٍ في شِعْبٍ في جُبٍّ في أسفل دركٍ من جهنم، على ذلك الجب صخرة إذا أراد الله أن يسعر جهنم رفع تلك الصخرة! سمعت ذلك من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإلا أظفرك الله بي وسفك دمي على يديك! وإلا أظفرني الله عليك وعلى أصحابك وسفك دماءكم على يدي وعجل أرواحكم إلى النار! فرجع الزبير إلى أصحابه وهو يبكي). (الإحتجاج:1/237).

فهذه مباهلة من علي (علیه السلام) بأنه إن انتصر على طلحة والزبير وقُتلا، يكونان من أهل النار،

وتكون العشرة المبشرة كما أخبر عنهم (علیه السلام) .

10. في أمالي الصدوق/463،عن الصادق (علیه السلام) قال:(بلغ أم سلمة زوج النبي (صلی الله علیه و آله) أن مولى لها يتنقص علياً (علیه السلام) ويتناوله فأرسلت إليه، فلما أن صار إليها قالت له: يا بنيَّ بلغني أنك تتنقص علياً وتتناوله! قال لها: نعم يا أماه. قالت: أقعد ثكلتك أمك حتى أحدثك بحديث سمعته من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم اخترلنفسك. إلى أن قالت: فدخلتُ وعليٌّ جاثٍ بين يديه وهو يقول: فداك أبي وأمي يا رسول الله، إذا كان كذا وكذا، فما

ص: 126

تأمرني؟ قال: آمرك بالصبر. ثم أعاد عليه القول الثانية، فأمره بالصبر، فأعاد عليه القول الثالثة، فقال له: يا علي يا أخي، إذا كان ذاك منهم فسُلَّ سيفك وضعه على عاتقك واضرب به قُدُماً قدماً، حتى تلقاني وسيفك شاهر يقطر من دمائهم!

ثم التفت (صلی الله علیه و آله) إليَّ فقال لي:ما هذه الكآبة يا أم سلمة؟ قلت: للذي كان من ردك لي يا رسول الله. فقال لي:والله ما رددتك من مَوْجَدة وإنك لعلى خير من الله ورسوله، لكن أتيتني وجبرئيل عن يميني وعليٌّ عن يساري، وجبرئيل يخبرني بالأحداث التي تكون من بعدي، وأمرني أن أوصي بذلك علياً!

يا أم سلمة إسمعي واشهدي: هذا علي بن أبی طالب، أخي في الدنيا وأخي في الآخرة.

يا أم سلمة إسمعي واشهدي: هذا علي بن أبی طالب، وزيري في الدنيا ووزيري في الآخرة. يا أم سلمة إسمعي واشهدي: هذا علي بن أبی طالب، حامل لوائي في الدنيا وحامل لوائي غداً في القيامة. يا أم سلمة إسمعي واشهدي: هذا علي بن أبی طالب وصيي وخليفتي من بعدي، وقاضي عداتي،

والذائد عن حوضي.

يا أم سلمة إسمعي واشهدي:هذا علي بن أبی طالب، سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.

قلت:يا رسول الله من الناكثون؟ قال:الذين يبايعونه بالمدينة وينكثون بالبصرة. قلت: من القاسطون؟قال:معاوية وأصحابه من أهل الشام. قلت:من المارقون؟ قال: أصحاب النهروان. فقال مولى أم سلمة: فرجتِ عني فرج الله عنك، والله لا سببت علياً أبداً)!

11. طاف علي (علیه السلام) على القتلى فمر بكعب بن سور قاضى البصرة وهو قتيل فقال: ويل أمك كعب ابن سور! لقد كان لك علم لو نفعك، ولكن الشيطان أضلك فأزلك، فعجلك إلى النار.

ثم مر بطلحة بن عبيد الله قتيلاً، فقال: ويل أمك طلحة! لقد كان لك قَدم لو نفعك! ولكن الشيطان أضلك فأزلك، فعجلك إلى النار)! (شرح النهج:1/248).

ص: 127

12. وصف قتاله إياهم بأنه جهاد وثوابه عظيم، وأن بقتالهم فقأَ عين الفتنة، فقال (علیه السلام) (كشف الغمة:1/244): (أنا فقأت عين الفتنة، ولولا أنا ما قتل أهل النهروان وأهل الجمل، ولولا أنني أخشى أن تتركوا العمل لأنبأتكم بالذي قضى الله على لسان نبيكم (صلی الله علیه و آله) لمن قاتلهم مستبصراً ضلالهم، عارفاً للهدى الذي نحن عليه. وقال علي (علیه السلام) يوم الجمل: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ. ثم حلف حين قرأها أنه ما قوتل عليها منذ نزلت حتى اليوم)!

13. وفي قرب الإسناد للحميري/96، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (دخل عليَّ أناس من أهل البصرة فسألوني عن طلحة والزبير، فقلت لهم: كانا من أئمة الكفر، إن علياً (علیه السلام) يوم البصرة لما صف الخيول قال لأصحابه:لاتعجلوا على القوم حتى أعذر فيما بيني وبين الله عز وجل وبينهم. فقام إليهم فقال: يا أهل البصرة هل تجدون علي جوراً في حكم؟ قالوا: لا. قال فحيفاً في قسم؟قالوا: لا. قال: فرغبة في دنياً أخذتها لي ولأهل بيتي دونكم، فنقمتم علي فنكثتم بيعتي؟ قالوا: لا. قال: فأقمت فيكم الحدود وعطلتها عن غيركم؟ قالوا: لا.

قال: فما بال بيعتي تنكث وبيعة غيري لاتنكث! إني ضربت الأمر أنفه وعينه فلم أجد إلا الكفر أو السيف. ثم ثنى إلى صاحبه فقال: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ. فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام) :

والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، واصطفى محمداً بالنبوة، إنهم لأصحاب هذه الآية وما قوتلوا منذ نزلت).

14. وقال الفضل بن شاذان الأزدي في الإيضاح/79: ورويتم عن أبي الفضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبدالله بن الحارث قال: سمعت أم هاني بنت أبی طالب تقول: لقد علم من جرت عليه المواسي من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، أن أصحاب الجمل ملعونون على لسان النبي الأمي. وقد خاب من افترى.

ص: 128

ورويتم عن أبي معاوية، عن الأعمش عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري الطائي، عن حذيفة بن اليمان أنه قيل له: حدثنا يا أبا عبدالله قال: أرأيتكم إن حدثتكم عن أمكم تسير إليكم تقاتلكم أكنتم تصدقوني؟ قالوا: سبحان الله ومن يصدق بها! قال: والله ما كذبت، ولتفعلن هذا أو هذه، أو كل هذا.

ورويتم عن جرير، عن يزيد بن أبي داود قال: حلفت عائشة أن لا تكلم عبدالله بن الزبير، لصنيعته حين زين لها الخروج إلى البصرة).

15. قال الإمام الصادق (علیه السلام) (الكافي:8/179) إن مقاتلي علي (علیه السلام) هم الفئة الباغية، قال: (في قول الله عز وجل: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُو َسَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمٌ. قال: نزلت هذه الآية في فلان وفلان، وأبي عبيدة الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وسالم مولى أبي حذيفة، والمغيرة بن شعبة، حيث كتبوا الكتاب بينهم وتعاهدوا وتوافقوا: لئن مضى محمد لا تكون الخلافة في بني هاشم ولا النبوة أبداً، فأنزل الله عز وجل فيهم هذه الآية. قال قلت: قوله عزوجل: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ. أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ. قال: وهاتان الآيتان نزلتا فيهم ذلك اليوم، قال أبو عبدالله (علیه السلام) : لعلك ترى أنه كان يوم يشبه يوم كتب الكتاب إلا يوم قتل الحسين (علیه السلام) وهكذا كان في سابق علم الله عز وجل الذي أعلمه رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه إذا كتب الكتاب قتل الحسين، وخرج الملك من بني هاشم، فقد كان ذلك كله!

قلت: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الآخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِى حَتَّى تَفِيئَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ قال: إنما جاء تأويل هذه الآية يوم البصرة، وهم أهل هذه الآية، وهم الذين بغوا على أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فكان الواجب عليه قتالهم وقتلهم حتى يفيئوا إلى أمر الله، ولو لم يفيئوا لكان الواجب عليه فيما أنزل الله أن لايرفع السيف عنهم حتى يفيئوا ويرجعوا عن رأيهم، لأنهم بايعوا طائعين غير كارهين. وهي الفئة

ص: 129

الباغية كما قال الله تعالى، فكان الواجب على أمير المؤمنين (علیه السلام) أن يعدل فيهم حيث كان ظفر بهم كما عدل رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أهل مكة، إنما منَّ عليهم وعفا، وكذلك صنع أميرالمؤمنين (علیه السلام) بأهل البصرة حيث ظفر بهم، مثلما صنع النبي (صلی الله علیه و آله) بأهل مكة حذو النعل بالنعل. قال قلت: قوله عزوجل: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى؟ قال: هم أهل البصرة، هي المؤتفكة. قلت: وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ؟ قال: أولئك قوم لوط، ائتفكت عليهم: انقلبت عليهم).

أقول: يدل هذا الحديث على أن ائتفاك البصرة معنوياً بمعنى انهزامهم، وانتصار أمير المؤمنين (علیه السلام) عليهم. بينما ائتفاك المؤتفكات مادي ومعنوي.

16. وقال الشيخ الطوسي في الإقتصاد/226:(ظاهر مذهب الإمامية أن الخارج على أمير المؤمنين (علیه السلام) والمقاتل له كافر، بدليل إجماع الفرقة المحقة على ذلك..

وروي عنه (صلی الله علیه و آله) أنه قال لعلي: حربك يا علي حربي وسلمك سلمي، وحرب النبي كفر بلا خلاف. فإن قيل: لو كان ذلك كفراً لجرى عليهم أحكام الكفر من منع الموارثة والمدافنة والصلاة عليهم وأخذ الغنيمة واتباع المدبر والإجازة على المجروح. والمعلوم أنه (علیه السلام) لم يجر ذلك عليهم، فكيف يكون كفراً؟

قلنا: أحكام الكفرمختلفة كحكم الحربي والمعاهد والذمي والوثني، فمنهم من تقبل منهم الجزية ويقرون على دينهم، ومنهم من لا يقبل، ومنهم من يناكح وتؤكل ذبيحته، ومنهم من لا تؤكل عند المخالف. ولايمتنع أن يكون من كان متظاهراً بالشهادتين وإن حكم بكفره حكمه مخالف لأحكام الكفار، كما تقول المعتزلة في المجبرة والمشبهة وغيرهم من الفرق الذين يحكمون بكفرهم، وإن لم تجر هذه الأحكام عليهم.

فأما من خالف الإمامية فمنهم من يحكم عليهم بالفسق، ومنهم من يقول هو خطأ مغفور، ومنهم من يقول إنهم مجتهدون وكل مجتهد مصيب. فمن حكم بفسقهم من المعتزلة وغيرهم منهم من يدعي توبة القوم ورجوعهم.

والذي يدل على بطلان ما يدعونه من التوبة، أن الفسق معلوم ضرورة، وما يدعونه من التوبة طريقه الآحاد، ولا نرجع عن المعلوم إلى المظنون.

ص: 130

وأيضاً فكتاب أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى أهل الكوفة والمدينة بالفتح يتضمن فسق القوم، وأنهم قتلوا على خطاياهم، وأنهم قتلوا على النكث والبغي،

ومن مات تائباً لا يوصف بذلك.

وروى حبة العرني قال: سمعت علياًيقول: والله لقد علمت صاحبة الهودج أن أصحاب الجمل ملعونون على لسان النبي الأمي، وقد خاب من افترى.

وروى محمد بن إسحاق أنها وصلت إلى المدينة راجعة من البصرة ولم تزل تحرض الناس على أمير المؤمنين (علیه السلام) وكتبت إلى معاوية وأهل الشام مع الأسود بن البحتري تحرضهم عليه. فأي توبة مع ما ذكرناه). (الإحتجاج:1/241).

أقول: لم يستطع محبوا عائشة أن يدافعوا عنها في خروجها على علي (علیه السلام) ، فادعوا أنها ندمت وتابت، وقد ألف الشيخ المفيد في الرد عليهم كتاب: الكافئة في رد توبة الخاطئة أورد فيها الأدلة على عدم توبتها، ويكفينا أن توبتها لم تثبت بشكل قطعي.

17. قال المفيد في كتاب الجمل/40: (قد ثبت بتواتر الأخبار وتظاهر الحديث والآثار أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) كان معتزلاً للفتنة بقتل عثمان، وأنه بعد عن منزله في المدينة لئلا لاتتطرق عليه الظنون برغبته في البيعة بالأمر على الناس، وأن الصحابة لما كان من أمرعثمان ما كان التمسوه وبحثوا عن مكانه حتى وجدوه، فصاروا إليه وسألوه القيام بأمرالأمة وشكوا إليه ما يخافونه من فساد الأمة، فكره إجابتهم إلى ذلك على الفور والبدأ، لعلمه بعاقبة الأمور، وإقدام القوم على الخلاف عليه والمظاهرة له بالعداوة له والشنآن، فلم يمنعهم إباؤه من الإجابة عن الإلحاح فيما دعوه إليه ذكروه بالله عز وجل، وقالوا له إنه لا يصلح لإمامة المسلمين سواك، ولا نجد أحداً يقوم بهذا الأمرغيرك، فاتق الله في الدين وكافة المسلمين. فامتحنهم عند ذلك بذكر من نكث بيعته بعد أن أعطاها بيده على الإيثار، وأومأ لهم إلى مبايعة أحد الرجلين، وضمن النصرة لهما متى أراد إصلاح الدين وحياطة الإسلام، فأبى القوم عليه تأمير من سواه والبيعة لمن عداه، وبلغ ذلك طلحة والزبير فصارا إليه راغبين في بيعته، منتظرين للرضا

ص: 131

بتقدمه عليهما وإمامته عليهما، فامتنع فألحا عليه في قبول بيعتهما له، واتفقت الجماعة كلها على الرضا به وترك العدول عنه إلى سواه، وقالوا إن تجبنا إلى ما دعوناك إليه من تقليد الأمر وقبول البيعة، وإلا انفتق من الإسلام ما لايمكن رتقه، وانصدع في الدين ما لايستطاع شعبه.

فلما سمع ذلك منهم بعد الذي ذكرناه من الإباء عليهم والإمتناع لتأكيد الحجة لنفسه، بسط يده لبيعتهم فتداكوا عليه تداك الإبل على حياضها يوم ورودها، حتى شقوا أعطافه ووطأوا ابنيه الحسن والحسين بأرجلهم لشدة ازدحامهم عليه، وحرصهم على البيعة له والصفقة بها على يده، رغبة بتقديمه على كافتهم وتوليته أمر جماعتهم لا يجدون عنه معدلاً ولا يخطر ببالهم سواه لهم موئلاً، فتمت بيعة المهاجرين والبدريين والأنصار العقبيين المجاهدين في الدين والسابقين إلى الإسلام من المؤمنين وأهل البلاء الحسن مع النبي (صلی الله علیه و آله) ، من الخيرة البررة الصالحين، ولم تكن بيعته (علیه السلام) مقصورة على واحد أو اثنين أو ثلاثة ونحوها في العدد، كما كانت بيعة أبي بكر مقصورة عند بعض أصحابه على بشر بن سعد فتمت بها عنده، ثم تابعه عليها من تابعه عليها من الناس. وقال بعضهم: بل تمت ببشر بن سعد وعمر بن الخطاب. وقال بعضهم: بل تمت بالرجلين المذكورين وأبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة: واعتمدوا ذلك على أن البيعة لاتتم بأقل من أربعة نفر من المسلمين. وقال بعضهم: بل تمت بخمسة نفر: بشير بن سعد وأسيد بن خضير من الأنصار، وعمر وأبوعبيدة وسالم من المهاجرين، ثم تابعهم الناس بعدها بالخمسة المذكورين. ومن ذهب إلى هذا المذهب الجبائي وأبوه والبقية من أصحابهما، في هذا الزمان.

وقالوا في بيعة عمر بن الخطاب مثل ذلك، فزعم من يذهب إلى أن البيعة تتم بواحد من الناس، وهم جماعة من المتكلمين، منهم الخياط والبلخي وابومجالد ومن ذهب مذهبهم من أصحاب الإختيار، الى أن الإمامة تمت لعمر بأبي بكر وحده، وعقد له إياها دون من سواه. وكذلك قالوا في عثمان بن عفان والعقد له، أنه تم بعبد الرحمن بن عوف خاصة. وخالفهم على ذلك من أضاف إلى المذكورين غيرهما في العقد وزعم

ص: 132

أن بيعة عمر انفردت من الإختيار له من الإمام، وعثمان إنما تم له الأمر ببيعة بقية أهل الشورى وهم خمسة نفر، أحدهم عبد الرحمن، فاعترفت الجماعة من مخالفينا بما هو حجة عليهم في الخلاف على أئمتهم، وبشذوذ العاقدين لهم، وانحصار عددهم بمن ذكرناه!

وثبتت البيعة لأمير المؤمنين (علیه السلام) بإجماع من حوته مدينة الرسول (صلی الله علیه و آله) من المهاجرين والأنصار وأهل بيعة الرضوان، ومن انضاف إليهم من أهل مصر والعراق في تلك الحال من الصحابة والتابعين بإحسان، ولم يدَّعِ أحد من الناس أنه تمت له بواحد مذكور ولا إنسان مشهور، ولا بعدد يحصى محصور، فيقال تمت بيعته بفلان واحد وفلان وفلان، كما قيل في بيعة أبي بكر وعمر وعثمان. وإذا ثبت بالإجماع من وجوه المسلمين وأفاضل المؤمنين والأنصار والمهاجرين العقد على إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام) والبيعة له على الطوع والإيثار، وكان العقد على الوجه الذي ثبت به إمامة الثلاثة قبله عند الخصوم بالإختيار، وعلى أوكد منه بما ذكرناه في الرغبة إليه في ذلك والإجماع عليه، ممن سميناه من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، حسبما بيناه، ثبت فرض طاعته، وحرم على كل أحد من الخلق التعرض لخلافه ومعصيته، ووضح الحق في الحكم على مخالفيه ومحاربيه بالضلال عن هدايته، والقضاء بباطل مخالفة أمره، وفسقهم بالخروج عن طاعته، لما أوجب الله تعالى من طاعة أولياء أمره في محكم كتابه حيث

يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر مِنْكُمْ، فقرن طاعة الأئمة بطاعته، ودل على أن المعصية لهم كمعصيته على حد سواء في حكمه وقضيته.

وأجمع أهل القبلة مع من ذكرناه على فسق محاربي أئمة العدل وفجورهم، بما يرتكبونه من حكم السمع والعقل، وإذا لم يكن أمير المؤمنين (علیه السلام) أحدث بعد البيعة العامة له بحدث يخرجه عن العدالة، ولا كان قبلها على ظاهر بخيانة في الدين، ولا خرج عن الإمامة، كان المارق عن طاعته ضالاً، فكيف إذا أضاف له بذلك حرباً واستحلالاً لدمه ودماء المسلمين معه،

ص: 133

ويبغي بذلك في الأرض فساداً يوجب عليه التنكيل بأنواع العقاب المذكور في نص من قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. وهذا بيِّنٌ إن لم يحجبه الهوى، ويصده عن فهمه العمى).

18. أورد السيد محمد مهدي الخرسان في موسوعة عبدالله بن عباس (3/170) مجموعة مواقف لعلماء المذاهب في البغاة الخارجين على علي (علیه السلام) ، نوردها ملخصة، قال: (وإلى القارئ شهادات أعلام المسلمين من أئمة المذاهب بأن علياً كان على الحق في قتاله أهل الجمل، ومن حاربه كان باغياً ظالماً له:

1- قال أبو حنيفة: ما قاتل أحد عليّاً إلا وعليٌّ أولى بالحق منه، ولولا ما سار عليّ فيهم ما علم أحد كيف السيرة في المسلمين، ولا شك أن علياً إنما قاتل طلحة والزبير بعد أن بايعاه وخالفاه، وفي يوم الجمل سار عليّ فيهم بالعدل، وهو علَّم المسلمين، فكانت السنة في قتال أهل البغي.

2 - قال سفيان الثوري: ما قاتل عليٌّ أحداً إلاّ كان عليٌّ أولى بالحقّ منه.

3 - قال أحمد بن حنبل:لم يزل عليُّ بن أبی طالب مع الحق والحق معه حيث كان.

4 - قال أبو منصور الماتريدي البغدادي: أجمعوا على أن علياً كان مصيباً في قتال أهل الجمل طلحة والزبير وعائشة بالبصرة، وأهل صفين معاوية وعسكره.

5 - قال النووي: وكان عليّ هو المحق المصيب في تلك الحروب. هذا مذهب أهل السنّة. وقال في حديث عمار تقتله الفئة الباغية: قال العلماء: هذا الحديث حجة ظاهرة في أن علياً كان محقاً مصيباً.

6 - قال الإمام عبد القاهر الجرجاني: أجمع فقهاء الحجاز والعراق من فريقي أهل الحديث والرأي منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والجمهور الأعظم من المسلمين والمتكلمين، على أن علياً مصيب في قتاله لأهل صفين، كما هو مصيب في أهل

ص: 134

الجمل، وأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون لكن لايكفرون ببغيهم.

7 - قال ابن العربي المالكي: فكل من خرج على عليٍّ باغٍ، وقتال الباغي واجب حتى يفيئ إلى الحق وينقاد إلى الصلح.

8 - قال ابن الهمام الحنفي:كان عليٌّ على الحقّ في قتال أهل الجمل وقتال معاوية.

9 - قال ابن حجر العسقلاني: كان الإمام عليّ بن أبی طالب على الحقّ، والصواب في قتال من قاتله في حروبه الجمل وصفين وغيرهما.

10 - قال ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي: وأما القول في البغاة عليه فهو على ما أذكره لك: أما أصحاب الجمل فهم عند أصحابنا.. الى آخر ما تقدم.

11 - وقال ابن تيمية بعد ذكر حديث عمار تقتله الفئة الباغية: وهذا أيضاً يدل على صحة إمامة عليّ ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة، والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار وإن كان متأولاً، وهو دليل على أنه لم يكن يجوز قتال عليٍّ، وعلى هذا فمقاتله مخطئ وإن كان متأولاً، أو باغٍ بلا تأويل وهو أصح القولين لأصحابنا. وهو الحكم بتخطئة من قاتل علياً، وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين.

12 - قال الذهبي: لا نرتاب أن علياً أفضل ممن حاربه، وأنه أولى بالحق.

13 - قال القرطبي: فتقرر عند علماء المسلمين أن علياً كان إماماً وأن كل من خرج عليه باغٍ، وأن قتاله واجب حتى يفيئ إلى الحق، وينقاد إلى الصلح.

14 - قال الآلوسي: وصرح بعض الحنابلة بأن قتال الباغين أفضل من الجهاد، احتجاجاً بأن علياً اشتغل في زمان خلافته بقتالهم دون الجهاد.

15 - قال أبو بكر الجصاص: قاتل عليّ ابن أبی طالب رضي الله عنه الفئة الباغية بالسيف ومعه من كبراء الصحابة وأهل بدر، من قد علم مكانهم، وكان محقاً في قتاله لهم لم يخالف فيه أحد إلاّ الفئة الباغية التي قابلته وأتباعها.

ص: 135

ثم قال السيد الخرسان: فهذه جملة من أقوال أئمة أهل السنة على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، أدانوا مَن حارب الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) سواء أهل الجمل أو صفين أو الخوارج، فكلهم بغاة، وكان الحق معه في قتالهم والضلال معهم في قتاله.

فكان الأحرى بطه حسين ومَن على شاكلته أن يكون متحرراً من رواسب الموروث، وينظر إلى رموز أهل الجمل وإلى عائشة خاصة نظرة جد، ولا تأخذه بهرجة التبرير، وتزييف الأعذار، فهي خاصة تتحمل من مسؤولية الحرب بقدر نشاطها فيها، ومواقفها لا تخفى. وقال عبد الوهاب النجار:أما عائشة أم المؤمنين فما كان لها أن تتولى كبر هذا الأمر ولا أن تطالب كما تزعم بدم عثمان، فإن أولياء دم عثمان كثيرون..

16 - وقال ناصر الدين الألباني: إن الحديث صحيح الإسناد ولا إشكال في متنه.. فإن غاية ما فيه أن عائشة رضي الله عنها لما علمت بالحوأب كان عليها أن ترجع، والحديث يدل أنها لم ترجع، وهذا مما لا يليق أن ينسب إلى أم المؤمنين، وجوابنا على ذلك: أنه ليس كل ما يقع من الكُمّل يكون لائقاً بهم، إذ لا عصمة إلاّ لله وحده، والسني لاينبغي له أن يغالي فيمن يحترمه حتى يرفعه إلى مصاف أئمة الشيعة المعصومين، ولا نشك أن خروج أم المؤمنين كان خطأ من أصله، ولذلك همت بالرجوع حين علمت بتحقيق نبوءة النبيّ عند الحوأب، ولكن الزبير أقنعها بترك الرجوع بقوله: عسى الله أن يصلح بك بين الناس، ولا نشك أنه كان مخطئاً في ذلك، والعقل يقطع بأنه لا مناص من القول بتخطئة إحدى الطائفتين المتقاتلتين اللتين وقع فيهما مئات القتلى ولا شك أن عائشة هي المخطئة لأسباب كثيرة وأدلة واضحة، ومنها ندمها، وذلك هو اللائق بفضلها وكمالها، وذلك مما يدل على أن خطأها من الخطأ المغفور بل المأجور.

ثم قال السيد الخرسان: ولئن جانب الصواب في آخر كلامه لأنه لم يتخلص من عقدة الموروث، فقد كان غيره أشد غيرة على أمه، لكنه أكثر صراحة

وصرامة في لومه لها.

17 - قال عبد الكريم الخطيب:أحصى المحصون عدد قتلى هذه الحرب من المسلمين.

ص: 136

وأياً كان الخلاف في هذه المرويات، فإن دماء غزيرة جرت في هذا الالتحام، وأرواحاً كثيرة طيبة أزهقت في تلك المعركة. وما نريد أن نلقي تبعة كل هذا على أم المؤمنين، فقد كانت دوافع جانبية كثيرة، تحرك هذه الحرب، ولكن الذي لا شك فيه أن زمام الموقف كلّه كان في يد السيدة عائشة، وأنها لو أشارت بيدها إلى الجيش المجتمع حولها إشارة سلام وانصراف، لما بقي أحد في أرض المعركة.

18 - قال سعيد الأفغاني في كتابه عائشة والسياسة: أما السيدة عائشة فنقدها عثمان كان أشد عليه لما لها من الحرمة والإجلال ونفاذ الكلمة، وقد عرف الأمويون وطلحة والزبير ما يكون لدعواهم من القوة إذا نهضت بها معهم عائشة، وعرفوا ما تكنُّ من الكره لخلافة علي، فما زالوا يفتلون لها في الذروة والغارب حتى نهضت لما أنهضوها، وحملت من هذه الفتنة نصيبها.

وقال السيد الخرسان: جميع هذه الأقوال تدفع ما ذكره طه حسين من تبادل الإستغفار بينها وبين علي (علیه السلام) ليسدل الستار على تلك المشاهد المروعة من القتلى والجرحى وما خلفته الحرب من دمار.

19 - وقال محمّد بن إسحاق بن خزيمة:عهدت مشايخنا يقولون: إنا نشهد بأن كل من نازع أمير المؤمنين عليّ بن أبی طالب في خلافته، فهو باغ.

20 - قال أبو منصور عبد القاهر البغدادي: أجمع أهل الحقّ على صحة إمامة عليّ وقت انتصابه لها بعد قتل عثمان، وأنه كان محقاً مصيباً في التحكيم وفي قتال أصحاب الجمل، وأصحاب معاوية بصفين.

21 - وقال أبو إسحاق الشيرازي الشافعي: وقاتل علي أهل البصرة يوم الجمل وقاتل معاوية بصفين والخوارج بالنهروان استدل بذلك على قتال من خرج عن طاعة الإمام.

22 - وقال إمام الحرمين:كان عليّ بن أبی طالب إماماً حقاً، ومقاتلوه بغاة.

ص: 137

23 - وقال الكاساني الحنفي:قاتل سيدنا علي أهل حروراء بالنهروان بحضرة الصحابة تصديقاً لقوله (صلی الله علیه و آله) لسيدنا علي: إنك تقاتل على التأويل كما تقاتل على التنزيل ودل الحديث على إمامة سيدنا عليّ لأن النبي شبه قتال سيدنا عليّ بقتاله على التنزيل، فلزم أن يكون سيدنا عليٌّ محقاً في قتاله بالتأويل.

24 - وقال الزيلعي: كان الحق بيد عليّ في نوبته فالدليل عليه قول النبي لعمّار: تقتلك الفئة الباغية.

25 - وقال ابن مفلح:كان عليّ أقرب إلى الحق من معاوية، وأكثر المصنفين في قتال أهل البغي يرى القتال من ناحية علي، ومنهم من يرى الإمساك.

26 - وقال ابن هبيرة: فأما ما جرى بعده فلم يكن لأحد من المسلمين التخلف عن عليّ. ولما تخلف عنه سعد وابن عمر وأسامة ومحمّد بن مسلمة ومسروق والأحنف ندموا، وكان عبدالله بن عمر يقول عند الموت: إنّي لم أخرج من الدنيا وليس في قلبي حسرة إلاّ تخلفي عن علي، وكذا روي عن مسروق.

27 - وقال محمد بن الحسن الشيباني: لو لم يقاتل معاوية علياً ظالماً له متعدياً باغياً،كنا لا نهتدي لقتال أهل البغي.

28 - وقال الشافعي: السكوت عن قتلى صفين حسن، وإن كان عليٌّ أولى بالحقّ من كل من قاتله ».

 

في الختام: فقد كثرت مكذوباتهم على علي (علیه السلام) في حرب الجمل في مصادرهم! فقالوا إن ولده الحسن (علیه السلام) وبخه لماذا قاتل عائشة، فأقرعلي (علیه السلام) بأنه أخطأ، وتمنى أنه مات قبل ذلك، تماماً كما تمنت عائشة أنها ماتت قبل عشرين سنة!

وقالوا إن علياً (علیه السلام) صلى على القتلى من أصحابه وأصحاب عائشة! وقالوا إنه شهد لهم أنهم في الجنة، وأنه وطلحة والزبير في الجنة على سرر متقابلين!

والصحيح أن علياً (علیه السلام) كان على يقين من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأن الحق معه، وأن مخالفيه

ص: 138

على الباطل، وأن قادتهم من أئمة الدعاة الى النار، وجنودهم بشكل عام ذباب طمع وفراش يتهافت في النار. وما تقدم من النصوص يكفي.

وقد عقدنا فصلاً للحديث عن كثرة مكذوباتهم في حرب الجمل.

أميرالمؤمنين (علیه السلام) يصل الى الربذة

1. قال البلاذري (2/233): (قال أبو مخنف في إسناده: لما بلغ علياً وهو بالمدينة شخوص طلحة والزبيروعائشة إلى البصرة، استنفر الناس بالمدينة ودعاهم إلى نصره فخفت معه الأنصار، وجعل حجاج بن غزية يقول:

سيروا أبابيل وحُثُّوا السيرا *** كي تلحقوا التَّيْمِيَّ والزبيرا

إذ جلبا شراً وعافا خيراً *** يا رب أدخلهم غداً سعيرا

فخرج علي من المدينة في سبع مائة من الأنصار، وورد الربذة).

وقال الطبري(3/494):(وأميرالمؤمنين على ناقة له حمراء يقود فرساً كميتاً، فتلقاهم بفيد غلام من بني سعد بن ثعلبة بن عامر يدعى مرة، فقال:من هؤلاء؟ فقيل: أمير المؤمنين. فقال: سفرة فانية فيها دماء من نفوس فانية! فسمعها علي فدعاه فقال: ما اسمك؟قال: مرة. قال: أمرَّ الله عيشك كاهنٌ سائر اليوم! قال: بل عائف. فلما نزل بفيد أتته أسد وطيئ فعرضوا عليه أنفسهم، فقال: إلزموا قراركم في المهاجرين كفاية. وقال الطبري: خرج علي من المدينة في آخرشهر ربيع الآخر سنة 36، فقالت أخت علي بن عدي من بني عبد العزى بن عبد شمس:

لاهُمَّ فاعقر بعليٍّ جَمَلَهْ *** ولا تبارك في بعير حمله

إلا علي بن عدي ليس له).

وقال الطبري: « كان علي في هم من توجه القوم لايدري إلى أين يأخذون، وكان أن يأتوا البصرة أحب إليه، فلما تيقن أن القوم يعارضون طريق البصرة سُرَّ بذلك وقال: الكوفة فيها رجال العرب وبيوتاتهم. فقال له ابن عباس: إن الّذي يسرّك من ذلك ليسؤوني، إن الكوفة فسطاط فيه أعلام من أعلام العرب، ولا

ص: 139

يحملهم عِدة القوم، ولا يزال فيهم من يسمو إلى أمر لا يناله فإذا كان كذلك، شغب على الذي قد نال حتى يفثأه فيفسد بعضهم على بعض. فقال علي (علیه السلام) : إن الأمر ليشبه ما تقول،ولكن الأثرة لأهل الطاعة).

(وسار مجداً في السيرحتى بلغ الربذة فوجد القوم قد فاتوا فنزل بها قليلاً، ثم توجه نحو البصرة، والمهاجرون والأنصار عن يمينه وشماله محدقون به، مع من سمع بمسيرهم فاتبعهم، حتى نزل بذي قار فأقام بها). (الجمل للمفيد/128).

2. وقال المفيد في الإرشاد(1/247): (ولما توجه أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى البصرة، نزل الربذة فلقيه بها آخر الحاج، فاجتمعوا ليسمعوا من كلامه وهو في خبائه. قال ابن عباس: فأتيته فوجدته يخصف نعلاً فقلت له: نحن إلى أن تصلح أمرنا أحوج منا إلى ما تصنع، فلم يكلمني حتى فرغ من نعله ثم ضمها إلى صاحبتها ثم قال لي: قَوِّمها فقلت: ليس لها قيمة، قال: على ذاك، قلت: كسر درهم، قال: والله لهي أحب إلي من أمركم هذا، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً!

قلت: إن الحاج قد اجتمعوا ليسمعوا من كلامك، فتأذن لي أن أتكلم، فإن كان حسناً كان منك، وإن كان غير ذلك كان مني. قال: لا، أنا أتكلم، ثم وضع يده في صدري، وكان شثن الكف فآلمني، ثم قام فأخذت بثوبه فقلت: نشدتك الله والرحم، قال: لا تنشدني. ثم خرج فاجتمعوا عليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فإن الله بعث محمداً (صلی الله علیه و آله) وليس في العرب أحد يقرأ كتاباً ولا يدعي نبوة، فساق الناس إلى منجاتهم، أمَا والله ما زلت في ساقتها ما غيرت ولا خنت، حتى تولت بحذافيرها. ما لي ولقريش، أمَا والله لقد قاتلتهم كافرين ولأقاتلنهم مفتونين، وإن مسيري هذا عن عهد إلي فيه.

أمَا والله لأبقرن الباطل حتى يخرج الحق من خاصرته. ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيزنا. وأنشد:

أدمت لعمري شربك المحض خالصاً *** وأكلك بالزبد المقشرة البُجرا

ص: 140

ونحن وهبناك العلاء ولم تكن *** علياً وحُطنا حولك الجُرد والسمرا).

3. ثم سار (علیه السلام) الى ذي قار، والمسافة من المدينة الى ذي قار ثمانية أيام، وبقي فيها خمسة عشرة يوماً الى أوائل جمادى الثانية، وجاءه جيشه من الكوفة فتحرك بهم الى البصرة فوصل اليها في عاشرجمادى الآخرة (تاريخ خليفة:1/135).

وفاوض عائشة والزبير وطلحة أياماً فأصروا على الحرب، فبدأت الحرب في نصف جمادى الآخرة وليس في العاشر كما ذكرت بعض المصادر، فالعاشر يوم وصوله (علیه السلام) الى البصرة، وليس بداية المعركة.

أرسل رسله الى الكوفة وعالج عصيان أبي موسى

قال المسعودي في مروج الذهب (2/358): (وسارعلي من المدينة بعد أربعة أشهر، وقيل غير ذلك، في سبع مائة راكب منهم أربع مائة من المهاجرين والأنصار، منهم سبعون بدرياً، وباقيهم من الصحابة، وقد كان استخلف على المدينة سهل بن حنيف الأنصاري، فانتهى الى الرَّبَذة بين الكوفة ومكة من طريق الجادة وفاته طلحة وأصحابه وقد كان عليٌّ أرادهم، فانصرف حين فاتوه الى العراق في طلبهم، ولحق بعلي من أهل المدينة جماعة من الأنصار فيهم خُزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وأتاه من طيّئ ست مائة راكب.

وكاتَبَ علي من الربذة أبا موسى الأشعري ليستنفرالناس، فثبطهم أبوموسى وقال إنما هي فتنة، فنمي ذلك الى علي (علیه السلام) ، فولَّى على الكوفة قَرَظة بن كعب الأنصاري، وكتب الى أبي موسى: إعتزل عملنا يا ابن الحائك مذموماً مدحوراً، فما هذا أول يومنا منك، وإن لك فينا لهنات وهنيات.

وسار علي بمن معه حتى نزل بذي قار، وبعث بابنه الحسن وعمار بن ياسرالى الكوفة يستنفران الناس، فسارا عنها ومعهما من أهل الكوفة نحو من سبعة آلاف، وقيل ستة آلاف وخمس مائة وستون رجلاً، معهم الأشتر، فانتهى علي

ص: 141

الى البصرة، وراسل القوم وناشدهم الله، فأبوا إلا قتاله).

 

وقال المفيد في الجمل/130: (دعا هاشم بن عتبة المرقال وكتب معه كتاباً إلى أبي موسى الأشعري.. وتقدم نصه في رسائل الإمام (علیه السلام) وخطبه.

ثم أرسل ابنه الإمام الحسن (علیه السلام) وعمار بن ياسر مستنفرين لأهلها، وكان في كتابه معهم: بسم الله الرحمن الرحيم. من علي بن أبی طالب إلى أهل الكوفة، أما بعد فإني أخبركم من أمرعثمان حتى يكون أمره كالعيان لكم: إن الناس طعنوا عليه فكنت رجلاً من المهاجرين أكثر استعتابه وأقل عتابه، وكان طلحة والزبير أهون سيرهما إليه الوجيف، وقد كان من عائشة فيه فلتة غضب، فلما قتله الناس بايعاني غير مستكرهين طائعين مختارين، وكان طلحة والزبيرأول من بايعني على ما بايعا به من كان قبلي، ثم استأذناني في العمرة ولم يكونا يريدان العمرة، فنقضا العهد وأذنا بالحرب، وأخرجا عائشة من بيتها يتخذانها فتنة، فسارا إلى البصرة واخترت المسير إليهم معكم. ولعمري ما إياي تجيبون، إنما تجيبون الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ، والله ما قاتلتهم وفي نفسي شك. وقد بعثت إليكم ولدي الحسن وعماراً وقيساً مستنفرين لكم، فكونوا عند ظني بكم. والسلام.

ولما نزل الحسن (علیه السلام) وعمار وقيس الكوفة ومعهم كتاب أميرالمؤمنين (علیه السلام) ، قام فيهم الحسن (علیه السلام) فقال: أيها الناس قد كان من أمير المؤمنين (علیه السلام) ما يكفيكم جملته وقد أتيناكم مستنفرين لكم،لأنكم جبهة الأنصار وسنام العرب، وقد نقض طلحة والزبير بيعتهما، وخرجا بعائشة وهي من النساء وضعف رأيهن كما قال الله تعالى: الرَّجِالُ قَوَّامُونَ عَلى النِّسَاء، أما والله لئن لم تنصروه لينصرنه الله، يتبعه من المهاجرين والأنصار وسائر الناس، فانصروا ربكم ينصركم.

ثم قام عمار بن ياسر فقال: يا أهل الكوفة إن كانت هانت عندكم الدنيا، فقد انتهت إليكم أمورنا وأخبارنا، إن قاتلي عثمان لا يعتذرون إلى الناس من قتله، وقد جعلوا كتاب الله بينهم وبين محاجيهم فيه، وقد كان طلحة والزبير أول من طعن عليه، وأول

ص: 142

من أمر بقتله وسعى في دمه، فلما قتل بايعا علياً طوعاً واختياراً، ثم نكثا على غير حدث كان منه. وهذا ابن رسول الله وقد عرفتم أنه أنفذه إليكم يستنفركم، وقد اصطفاكم على المهاجرين والأنصار.

ثم قام قيس بن سعد فقال: أيها الناس إن هذا الأمر لواستقبلنا به الشورى لكان علي أحق الناس به لمكانه من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكان قتال من أبى ذلك حلالاً، فكيف بالحجة على طلحة والزبير، وقد بايعاه طوعاً ثم خلعا حسداً وبغياً، وقد جاءكم علي في المهاجرين والأنصار،

ثم أنشأ يقول:

رضينا بقسم الله إذ كان قسمنا *** علياً وأبناء الرسول محمدِ

وقلنا لهم أهلاً وسهلاً ومرحباً *** نمد يدينا من هدى وتودد

فما للزبير الناقض العهد حرمة *** ولا لأخيه طلحة من يد

أتاكم سليل المصطفى ووصيه *** وأنتم بحمد الله عارضة الندي

فمن قائم يرجى بخيل إلى الوغى *** وضم العوالي والصفيح المهند

يسود من أدناه غير مدافع *** وإن كان ما نقضيه غير مسود

فإن يك ما نهوى فذاك نريده *** وإن نخط ما نهوى فغير تعمد

فلما فرغ القوم من كلامهم، قام أبو موسى الأشعري فقال: أيها الناس إن تطيعوا الله بادياً وتطيعوني ثانياً، تكونوا جرثومة من جراثيم العرب، يأوي إليكم المضطر ويأمن فيكم الخائف، إن علياً إنما يستنفركم لجهاد أمكم عائشة وطلحة والزبير حواري رسول الله ومن معهم من المسلمين، وأنا أعلم بهذه الفتن، إنها إذا أقبلت شبهت وإن أدبرت أسفرت، وإن هذه الفتنة نافذة كداء البطن تجري بها الشمال والجنوب، وتشتبك أحياناً فلا ندري ما تأتي.

أشيموا سيوفكم وقصروا رماحكم وقطعوا أوتاركم، والزموا البيوت. خلوا قريشاً إذا أبوا إلا الخروج من دار الهجرة وفراق أهل العلم بالأمرة، ترتق فتقها

ص: 143

وتشعب صدعها، فإن فعلت فلنفسها، وإن أبت فعليها ماجنت، سمنها في أديمها. إستنصحوني ولا تستغشوني يسلم لكم دينكم ودنياكم، ويشقى بهذه الفتنة من جناها.

فقام زيد بن صوحان وكانت يده قطعت يوم جلولاء، ثم قال: يا أبا موسى تريد أن ترد الفرات عن أدراجه، إنه لا يرجع من حيث بدأ، فإن قدرت على ذلك فستقدر على ما تريد. ويلك:أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لايُفْتَنُونَ،

ثم قال: أيها الناس سيروا إلى أمير المؤمنين وأطيعوا ابن سيد المرسلين، وانفروا إليه أجمعون، تصيبوا الحق وتظفروا بالرشد، قد والله نصحتكم فاتبعوا رأيي ترشدون.

ثم قام عبد خير وقال لأبي موسى: أخبرني يا أبا موسى هل كان هذان الرجلان بايعا لعلي فيما بلغك وعرفت؟ قال: نعم، قال: فهل جاء علي (علیه السلام) بحدث يحل عقدة بيعته حتى ترد بيعته كما ردت بيعة عثمان؟ قال أبو موسى: لا أعلم. قال له عبد خير: لا دريت! نحن غير تاركيك حتى تدري حينئذ! خبرني يا أبا موسى هل تعلم أحداً خارجاً من هذه الفتنة التي تزعم أنها عمياء تحذر الناس منها؟ أما تعلم أنها أربع فرق: علي (علیه السلام) بظهر الكوفة، وطلحة والزبير بالبصرة، ومعاوية بالشام، وفرقة أخرى بالحجاز لا غناء بها ولا يقاتل بها عدو.

فقال أبو موسى: الفرقة القاعدة عن القتال خير الناس. فقال عبد خير: غلبك عليك غشك يا أبا موسى! فقام رجل من بجيلة فقال شعراً:

وحاجك عبد خير يا ابن قيس *** فأنت اليوم كالشاة الربيض

فلا حقاً أصبت ولا ضلالاً *** فأنت اليوم تهوي بالحضيض

أبا موسى نظرت برأي سوء *** تؤول به إلى قلب مريض

وتهت فليس تفرق بين خير *** ولا شر ولا سود وبيض

وتذكر فتنة شملت وفيها *** سقطت وأنت ترزح بالجريض

قال: وبلغ أمير المؤمنين ما كان من أمر أبي موسى وتخذيله الناس عن نصرته، فقام إليه مالك الأشتر (رحمة الله) فقال: يا أميرالمؤمنين إنك قد بعثت إلى الكوفة رجلاً قبل هذين

ص: 144

فلم أره أحكم شيئاً، وهذان أخلق من بعثت أن ينشب بهم الأمرعلى غير ما تحب، ولست أدري ما يكون، فإن رأيت جعلت فداك أن تبعثني في أثرهم، فإن أهل الكوفة أحسن لي طاعة، وإن قدمت عليهم رجوت أن لا يخالفني أحد منهم، فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام) : إلحق بهم على إسم الله،فأقبل الأشتر حتى دخل الكوفة، وقد اجتمع الناس بالمسجد الأعظم فأخذ لايمر بقبيلة يرى فيها جماعة في مجلس أو مسجد إلا دعاهم وقال لهم: إتبعوني إلى القصر، فانتهى إلى القصر في جماعة من الناس، فاقتحم القصر وأبو موسى في المسجد الأعظم يخطب الناس ويثبطهم عن نصرة علي (علیه السلام) وهو يقول: أيها الناس هذه فتنة عمياء تطأ خطامها، النائم فيها خيرمن القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي فيها خيرمن الساعي والساعي فيها خير من الراكب.

وعمار والحسن وقيس يقولون له: إعتزل عملنا لا أم لك، وتنح عن منبرنا، وأبو موسى يقول لعمار: هذه يدي بما سمعت من رسول الله يقول: ستكون بعدي فتنة، القاعد فيها خيرمن القائم. فقال له عمار: إنما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لك خاصة: ستكون فتنة أنت فيها يا أبا موسى قاعداً خير منك قائماً!

فبينا هم في الكلام إذ دخل غلمان أبي موسى ينادون: يا أبا موسى، هذا الأشتر! أخرج من المسجد. ودخل عليه أصحاب الأشتر فقالوا له: أخرج من المسجد يا ويلك، أخرجَ الله روحك، إنك والله لمن المنافقين! فخرج أبو موسى وأنفذ إلى الأشتر أن أجلني هذه العشية. قال: قد أجلتك ولا تَبِتْ في القصرهذه الليلة واعتزل ناحية عنه، ودخل الناس ينتهبون متاع أبي موسى، فأتبعهم الأشتر بمن أخرجهم من القصروقال لهم: إني أجلته، فكف الناس عنه.

ثم صعد الحسن (علیه السلام) المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وذكر جده النبي (صلی الله علیه و آله) فصلى عليه،ثم ذكر فضل أمير المؤمنين (علیه السلام) وأنه أحق بالأمر من غيره، وأن من خالفه على ضلال. ثم نزل. فصعد عمار فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم قال: أيها الناس إنا لما خشينا على هذا الدين أن يهدم جوانبه،وأن يتعرى أديمه نظرنا

ص: 145

لأنفسنا ولديننا، فاخترنا علياً (علیه السلام) خليفة ورضيناه إماماً، فنعم الخليفة ونعم المؤدب، مؤدب لا يُؤَدَّب وفقيه لايُعَلَّم، وصاحب بأس لا ينكر، وذو سابقة في الإسلام ليس لأحد من الناس غيره،وقد خالفه قوم من أصحابه حاسدون له وباغون عليه، وقد توجهوا إلى البصرة، فاخرجوا إليهم رحمكم الله، فإنكم لو شاهدتموهم وحاججتموهم،

تبين لكم أنهم ظالمون.

ثم خرج الأشتر (رحمة الله) وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إصغوا لي بأسماعكم، وافهموا لي بقلوبكم، إن الله عز وجل قد أنعم عليكم بالإسلام نعمة لا تقدرون قدرها، ولا تؤدون شكرها، كنتم أعداء يأكل قويكم ضعيفكم، وينتهب كثيركم قليلكم، وتنتهك حرمات الله بينكم والسبيل مخوف، والشرك عندكم كثير، والأرحام عندكم مقطوعة، وكل أهل دين لكم قاهرون، فمنَّ الله عليكم بمحمد (صلی الله علیه و آله) فجمع شمل هذه الفرقة، وألف بينكم بعد العداوة، وكثركم بعد أن كنتم قليلين، ثم قبضه الله وحوله إليه، فحوى بعده رجلان ثم ولي بعدهما رجل نبذ كتاب الله وراء ظهره، وعمل في أحكام الله بهوى نفسه، فسألناه أن يعتزل لنا نفسه فلم يفعل، وأقام على إحداثه، فاخترنا هلاكه على هلاك ديننا ودنيانا، ولا يبعد الله إلا القوم الظالمين. وقد جاءكم الله بأعظم الناس مكاناً، وأعظمهم في الإسلام سهماً، ابن عم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأفقه الناس في الدين، وأقرئهم للكتاب، وأشجعهم عند اللقاء يوم البأس، وقد استنفركم فما تنتظرون: أسعيداً أم الوليد؟ الذي شرب الخمر وصلى بكم على سكر وهو سكران، واستباح ما حرمه الله فيكم، أي هذين تريدون قبح الله من له هذا الرأي، ألا فانفروا مع الحسن بن بنت نبيكم،ولا يتخلف رجل له قوة، فوالله ما يدري رجل منكم مايضره وما ينفعه، وإني لكم ناصح شفيق عليكم، إن كنتم تعقلون أو تبصرون.

أصبحوا إنشاءالله غداً عادين مستعدين، وهذا وجهي إلى ما هناك بالوفاء. ثم قام حجر بن عدي الكندي وقال: أيها الناس هذا الحسن بن أميرالمؤمنين وهو من عرفتم، أحد أبويه النبي (صلی الله علیه و آله) والآخر الإمام الرضي، المأمون الوصي صلى الله عليهما،

ص: 146

الذين ليس لهم شبيه في الإسلام، سيد شباب أهل الجنة، وسيد سادات العرب، أكملهم صلاحاً، وأفضلهم علماً وعملاً، وهو رسول أبيه إليكم، يدعوكم إلى الحق ويسألكم النصر.

السعيد من ودهم ونصرهم، والشقي من تخلف عنهم بنفسه عن مواساتهم، فانفروا معه رحمكم الله خفافاً وثقالاً،واحتسبوا في ذلك الأجر، فإن الله لايضيع أجر المحسنين. فأجاب الناس بأجمعهم بالسمع والطاعة.

وسارالإمام (علیه السلام) من الربذة الى فيد قرب جبال طيئ

قال المفيد في كتاب الجمل/140:(ولما سار (علیه السلام) من المدينة انتهى إلى فيد وكان قد عدل إلى جبال طيئ حتى سار معه عدي بن حاتم في ست مئة رجل من قومه).

وقال البلاذري(2/234): (ارتحل علي بن أبی طالب من الربذة حتى نزل بفيد، فأتته جماعة طيئ، ووجه ابنه الحسن بن علي، وعمار بن ياسر إلى الكوفة

لاستنفار أهلها).

 

وكان عدي بن حاتم رضي الله عنه في المدينة لما خرجت عائشة وطلحة والزبير على علي (علیه السلام) ، فبادر إلى طيئ يستنفرهم لنصرة الإمام (علیه السلام) .

قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة (1/55): «ذكروا أن ابن حاتم قام إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، لو تقدمت إلى قومي أخبرهم بمسيرك وأستنفرهم، فإن لك من طيئ مثل الذي معك. فقال علي: نعم فافعل، فتقدم عدي إلى قومه فاجتمعت إليه رؤساء طيئ فقال لهم:يا معشر طيئ، إنكم أمسكتم عن حرب رسول الله في الشرك، ونصرتم الله ورسوله في الإسلام على الردة، وعلي قادم عليكم وقد ضمنت له مثل عدة من معه منكم، فخفوا معه، وقد كنتم تقاتلون في الجاهلية على الدنيا فقاتلوا في الإسلام على الآخرة، فإن أردتم الدنيا فعند الله مغانم كثيرة، وأنا أدعوكم إلى الدنيا والآخرة، وقد ضمنت عنكم الوفاء وباهيت بكم الناس، فأجيبوا قولي فإنكم أعز العرب داراً، لكم فضل معاشكم

ص: 147

وخيلكم، فاجعلوا أفضل المعاش للعيال وفضول الخيل للجهاد.

وقد أظلكم علي والناس معه من المهاجرين والبدريين والأنصار، فكونوا أكثرهم عدداً، فإن هذا سبيل للحي فيه الغنى والسرور، وللقتيل فيه الحياة والرزق، فصاحت طيئ: نعم نعم، حتى كاد أن يصم من صياحهم »!

 

وروى المفيد في الأمالي/295، عن الإمام الحسين (علیه السلام) قال:«لما توجه أميرالمؤمنين من المدينة إلى الناكثين بالبصرة نزل الربذة، فلما ارتحل منها لقيه عبدالله بن خليفة الطائي وقد نزل بمنزل يقال له قديد، فقربه أميرالمؤمنين (علیه السلام)

فقال له عبدالله: الحمد لله الذي رد الحق إلى أهله ووضعه في موضعه، كره ذلك قوم أو سروا به، فقد والله كرهوا محمداً (علیه السلام) ونابذوه وقاتلوه، فرد الله كيدهم في نحورهم، وجعل دائرة السوء عليهم. ووالله لنجاهدن معك في كل موطن حفظاً لرسول الله (صلی الله علیه و آله) . فرحب به أمير المؤمنين (علیه السلام) وأجلسه إلى جنبه وكان له حبيباً وولياً، وأخذ يسائله عن الناس، إلى أن سأله عن أبي موسى الأشعري، فقال: والله ما أنا أثق به، ولا آمن عليك خلافه إن وجد مساعداً على ذلك.

فقال له أمير المؤمنين (علیه السلام) : والله ما كان عندي مؤتمناً ولا ناصحاً، ولقد كان الذين تقدموني استولوا على مودته، وولوه وسلطوه بالإمرة على الناس، ولقد أردت عزله فسألني الأشتر فيه أن أقره فأقررته على كره مني له، وتحملت على صرفه من بعد. قال: فهو مع عبدالله في هذا ونحوه، إذ أقبل سواد كبير من قبل جبال طيئ فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام) : أنظروا ما هذا؟ فذهبت الخيل تركض فلم تلبث أن رجعت فقيل: هذه طيئ قد جاءتك تسوق الغنم والإبل والخيل، فمنهم من جاءك بهداياه وكرامته، ومنهم من يريد النفور معك إلى عدوك. فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : جزى الله طيئاً خيراً: وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا، فلما انتهوا إليه سلموا عليه.

قال عبدالله بن خليفة: فسرني والله ما رأيت من جماعتهم وحسن هيئتهم، وتكلموا فأقروا والله عيني، ما رأيت خطيباً أبلغ من خطيبهم، قام عدي بن حاتم الطائي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني كنت أسلمت على عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأديت

ص: 148

الزكاة على عهده، وقاتلت أهل الردة من بعده. أردت بذلك ما عند الله، وعلى الله ثواب من أحسن واتقى. وقد بلغنا أن رجالاً من أهل مكة نكثوا بيعتك وخالفوا عليك ظالمين، فأتيناك لننصرك بالحق، فنحن بين يديك فمرنا بما أحببت، ثم أنشأ يقول:

ونحن نصرنا الله من قبل ذاكم *** وأنت بحق جئتنا فستنصرُ

سنكفيك دون الناس طراً بأسرنا *** وأنت به من سائر الناس أجدرُ

فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : جزاكم الله من حي عن الإسلام وأهله خيراً، فقد أسلمتم طائعين، وقاتلتم المرتدين، ونويتم نصر المسلمين.

وقام سعيد بن عبيد البحتري، من بني بحتر(بطن من طيئ) فقال: يا أمير المؤمنين إن من الناس من يقدر أن يعبر بلسانه عما في قلبه، ومنهم من لايقدر أن يبين ما يجده في نفسه بلسانه، فإن تكلف ذلك شق عليه، وإن سكت عما في قلبه برح به الهم والبرم. وإني والله ما كل ما في نفسي أقدر أن أؤديه إليك بلساني، ولكن والله لأجهدن على أن أبين لك والله ولي التوفيق: أما أنا فإني ناصح لك في السر والعلانية، ومقاتل معك الأعداء في كل موطن، وأرى لك من الحق ما لم أكن أراه لمن كان قبلك، ولا لأحد اليوم من أهل زمانك، لفضيلتك في الإسلام وقرابتك من الرسول (صلی الله علیه و آله) ، ولن أفارقك أبداً حتى تظفر أو أموت بين يديك.

فقال له أمير المؤمنين (علیه السلام) : يرحمك الله، فقد أدى لسانك ما يجن ضميرك لنا، ونسأل الله أن يرزقك العافية، ويثيبك الجنة. وتكلم نفر منهم، فما حفظت غير كلام هذين الرجلين، ثم ارتحل أمير المؤمنين (علیه السلام) : فاتبعه منهم ست مائة رجل حتى نزل ذا قار، فنزلها في ألف وثلاث مائة رجل ».

 

وقال ابن قتيبة في المعارف (1/56):أقبل شيخ من طيئ قد هرم من الكبر، فرفع له من حاجبيه فنظر إلى علي فقال له: أنت ابن أبی طالب؟قال: نعم. قال: مرحباً بك وأهلاً، قد جعلناك بيننا وبين الله، وعدياً بيننا وبينك، ونحن بينه وبين الناس.

ص: 149

لو أتيتنا غير مبايعين لك لنصرناك، لقرابتك من رسول الله (صلی الله علیه و آله) أيامك الصالحة، ولئن كان ما يقال فيك من الخيرحقاً إن في أمرك وأمر قريش لعجباً، إذ أخرجوك وقدموا غيرك! سِرْ، فوالله لايتخلف عنك من طيئ إلا عبد أو دعي، إلا بإذنك. فشخص معه من طيئ ثلاثة آلاف راكباً ».

أقول: في العبارة الأخيرة تصحيف، لأن مقاتلي طيئ وجديلة في الحروب ثلاثة آلاف وكان جيش علي (علیه السلام) في حرب الجمل كله اثني عشر ألفاً. فرواية أمالي المفيد بأنهم ست مئة هي المعتمدة، ويضاف اليهم طيئ الذين جاؤوا من الكوفة.

ثم سار الإمام (علیه السلام) الى ذي قار وبقي فيها أسبوعين

قال الطبري(3/471):(وخرج فسار حتى نزل ذا قار، وكان مسيره إليها ثمان ليال ومعه جماعة من أهل المدينة).

وقال في شرح النهج (2/187):(فحدث ابن إسحاق قال: نفر إلى علي (علیه السلام) إلى ذي قار من الكوفة في البحر والبر ستة آلاف وخمس مائة وستون رجلاً. وأقام علي بذي قار خمسة عشر يوماً، حتى سمع صهيل الخيل، وشحيح البغال حوله).

ونزل (علیه السلام) في المكان الذي بنوا فيه مقاماً ومسجداً باسمه (علیه السلام) ، ويقع اليوم في منطقة المنصورية غربي مدينة الناصرية، وهو قرب مكان موقعة ذي قار التي كانت بين العرب والفرس، في السنة الثانية للهجرة.

وفي كتاب الجمل للمفيد/156: (ولما صار عثمان بن حنيف إلى ذي قار أقام بها مع أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وهو مريض يعالج حتى ورد على أمير المؤمنين (علیه السلام)

أهل الكوفة).

أشاعوا أنه تأخر بذي قار لأنه خاف من جيش عائشة!

تقدم في رسالة عائشة الى حفصة:(أما بعد، فإنا نزلنا البصرة، ونزل علي بذي قار والله داقٌّ عنقه كدق البيضة على الصفا! إنه بذي قار بمنزلة الأشقر، إن تقدم نحر، وإن تأخر عقر! فلما وصل الكتاب استبشرت ودعت صبيان بني تيم وعدي،وأعطت

ص: 150

جواريها دفوفاً وأمرتهن أن يضربن بالدفوف ويقلن: ما الخبر ما الخبر! عليٌّ كالأشقر! إن تقدم نحر! وإن تأخر عقر! فبلغ أم سلمة.. الخ.

وأصيب الزبير بالغرور ثم أصيب بالتخبط

وفي الجمل للمفيد/154: (أمرت عائشة الزبيرأن يستنفر الناس إليه، فخطبهم الزبير وأمرهم بالجد والإجتهاد، وقال لهم: إن عدوكم قد أظلكم، والله لئن ظفر بكم لا ترك بكم عيناً تطرف، فانهضوا إليه حتى نكبس عليه قبل أن تلحقه أنصاره، وقال لهم: إمضوا فخذوا أعطيتكم، فلما رجع إلى منزله قال له ابنه عبدالله: أمرت الناس أن يأخذوا أعطيتهم ليتفرقوا بالمال قبل أن يأتي علي بن أبی طالب فتضعف، بئس الرأي الذي رأيت! فقال له الزبير: أسكت ويلك ما كان غير الذي قلت. فقال طلحة: صدق عبدالله وماينبغي أن يسلَّم هذا المال حتى يقرب منا علي فنضعه في موضعه فيمن يدفعه عنا. فغضب الزبير وقال: والله لو لم يبق إلا درهم واحد لأعطيته فلامته عائشة على ذلك، ووافق رأيها برأي الرجلين، فقال الزبير: والله لتدَعوني أو ألحق بمعاوية فقد بايع [لي] في الشام الناس. فأمسكوا عنه!

وفي الطبري (3/492) وفتح الباري(12/67): (عن قتادة، عن أبي عمرة مولى الزبير قال: لما بايع أهل البصرة الزبيروطلحة قال الزبير: ألا ألفُ فارس أسير بهم إلى علي، فإما بيتُّه وإما صبحته، لعلي أقتله قبل أن يصل إلينا؟ فلم يجبه أحد فقال: إن هذه لهي الفتنة التي كنا نحدث عنها! فقال له مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها؟ قال: ويحك إنا نبصر ولا نبصر! ما كان أمر قط إلا علمت موضع قدمي فيه غير هذا الأمر، فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر!

فقال له ابنه عبدالله: والله ما بك هذا وإنما تتعامى،فما يحملك على هذا القول إلا أنك أحسست برايات ابن أبی طالب قد أظلت وعلمت أن الموت الناقع تحتها، فقال له: أعزب ويحك، فإنك لا علم لك بالأمور!

وروى الحرث بن الفضل عن أبي عبدالله الأغر، أنالزبير بن العوام قال لابنه

ص: 151

يومئذ: ويلك لا تدعُنا على حال، أنت والله قطعت بيننا وفرقت ألفتنا بما بليت به من هذا المسير. وما كنتُ مبالياً من ولي هذا الأمر وقام به، فما أصنع بهذا المسير وضرْب الناس بعضهم ببعض! فقال عبدالله ابنه: أفتدع علياً يستولي على الأمر؟ [قال]: أنت تعلم أنه كان أحسن أهل الشورى عند عمر بن الخطاب؟ ولقد أشار عمر وهو مطعون يقول لأهل الشورى: ويلكم، أطمعوا علياً فيها لايفتق في الإسلام فتقاً عظيماً، ومنُّوه حتى تُجمعوا على رجل سواه.

وفي الدر النظيم لابن حاتم (1/343):(أقام علي (علیه السلام) بذي قار ينتظرمن يقدم عليه، فأشاع طلحة والزبير أنه إنما أقام للذي بلغه من جدنا وعددنا وعدتنا، وتباشروا بذلك، فكتبت عائشة الى حفصة بنت عمر كتاباً... وقد ذكرنا خبره.

و لما نزل (علیه السلام) بذي قار في قلة من الناس، صعد الزبير منبرالبصرة وقال: ألا ألف فارس أوخمس مائة فارس أسيربهم إلى علي لعلي آتيه بياتاً أو أصبحه صباحاً قبل أن يأتيه مدده من الكوفة. فلم يجبه أحد، فنزل وهو يقول: هذه والله الفتنة التي كنا نتحدث بها! فقال له مولى:رحمك الله أبا عبدالله تسميها الفتنة ثم تقاتل فيها! فقال له الزبير: ويحك والله انا لنبصر ولكنا لا نبصر! فاسترجع المولى، فلما كان من الليل لحق بعلي (علیه السلام) بذي قار فأخبره الخبر، فضحك وقال: اللهم عليك به. ثم إن طلحة أتى الزبير في منزله وعنده مروان بن الحكم، فقال له: يا أبا عبدالله إن علياً رجل مستخف وهولأمرنا محتقر فلوأصبتُ ست مائة فارس القاه فيهم. فضحك مروان وطمع فيها فقال: والله يا أبا محمد لقد استطاب هذا منك، ولو كان علي مكانك لم يبدها حتى ينتهزها منك.قال الزبير: أخرجتم والله الرأي، أمِن ابن أبی طالب تُصاب الفرصة! أو مثلك يصبح مفقوداً يقال فيه الأقاويل! إلقه كما يلقاك.قال طلحة: ما الرأي إلا

رأي مروان.

فخرج طلحة ليلاً فإذا غلام من بني تميم إلى جانب منزله وهو يقول:

يا طلحُ يا ابن عبيد الله ما ظفرت *** كفاك إن رمت في عرنينه أسدا

ص: 152

لا تطمع اليوم مرواناً وصحبته *** في تلك منك ولا تندب لها أحدا

أو قل لمروان رمها من أبي حسن *** إن كنت تطلب منه غِرَّةً أبدا

فإن أجاب فقد تمت نصيحته *** أو لايجبك فقد أبدى لك الحسدا

إني رأيت علياً من يبارزه *** عين اليقين تزايل روحه الجسدا

ليثاً متى ما يزر يوماً بغيطلة *** تلق الأسود له من زأره بددا

قد جاش في الليل من قوم مجاهرة *** والأوس والخزرج البحران قد حشدا

فالْبُد بأرضك حتى تستحلهم *** إن الخمول لهذا الأمر من لبدا ).

وقال المفيد في الجمل/156:(روى الواقدي عن عامر بن كليب، عن أبيه قال: لما قتل عثمان ما لبثنا إلا قليلاً حتى قدم طلحة والزبير البصرة، ثم ما لبثنا بعد ذلك إلا يسيراً حتى أقبل علي بن أبی طالب بذي قار، فقال شيخان من الحي: إذهب بنا إلى هذا الرجل فلننظر ما يدعو إليه. فلما أتيناه قدمنا على أذكى العرب فوالله لدخل على نسب قومي فجعلت أقول هو أعلم به مني وأطوع فيهم، فقال: مَن سيد بني راسب؟فقلت: فلان، قال: فمن سيد بني قدامة؟ قلت: فلان لرجل آخر، فقال: أنت مبلغهما كتابين مني؟قلت:نعم. قال: أفلا تبايعوني؟ فبايعه الشيخان اللذان كانا معي، وتوقفت عن بيعته فجعل رجال عنده قد أكل السجود وجوههم يقولون: بايع بايع، فقال: دعوا الرجل، فقلت: إنما بعثني قومي رائداً وسأنهي إليهم ما رأيت، فإن بايعوا بايعت وإن اعتزلوا اعتزلت. فقال لي: أرأيت لو أن قومك بعثوك رائداً فرأيت روضة وغديراً فقلت يا قومي: النجعة النجعة فأبوا، ما كنت بمستنجع بنفسك؟ فأخذت بإصبع من أصابعه فقلت: أبايع على أن أطيعك ما أطعت الله، فإذا عصيته فلا طاعة لك علينا، فقال: نعم، وطول صوته، فضربت على يده.

ثم التفت إلى محمد بن حاطب وكان من ناحية القوم فقال: إذا انطلقت إلى

ص: 153

قومك فأبلغهم كتبي وقولي. فتحول إليه محمد حتى جلس بين يديه فقال: إن قومي إذا أتيتهم يقولون مايقول صاحبك في عثمان، فسب عثمان الذين حوله فرأيت علياً قد كره ذلك حتى رشح جبينه وقال: أيها القوم كفوا، ما إياكم يسأل ولاعنكم ساءل، قال: فلم أبرح عن العسكر حتى قدم على علي أهل الكوفة فجعلوا يقولون تُرى إخواننا من أهل البصرة يقاتلوننا!

وجعلوا يضحكون ويعجبون ويقولون: والله لو التقينا لتعاطينا الحق،كأنهم يرون أنهم لايقتتلون. وخرجت بكتاب علي (علیه السلام) فأتيت أحد الرجلين فقبل الكتاب وأجابه، ودللت على الآخر وكان متوارياً فلو أنهم قالوا له كليب ما أذن لي، فدخلت عليه ودفعت الكتاب إليه وقلت: هذا كتاب علي وأخبرته الخبر وقلت: إني أخبرت علياً أنك سيد قومك، فأبى أن يقبل الكتاب، ولم يجبه إلى ما سأله وقال: لا حاجة لي اليوم في السؤدد! فوالله إني لبالبصرة ما رجعت إلى علي حتى نزل العسكر، ورأيت الغر الذين مع علي (علیه السلام) وطلع القوم).

ورواه عبد الرزاق (8/703) برواية فيها تصحيف وفي آخرها: (فوالله ما رجعت إلى علي حتى إذا العسكران قد تدانيا فاستبَّ عبدانهم، فركب القراء الذين مع علي حين أطعن القوم. وما وصلت إلى علي حتى فرغ القوم من قتالهم).

 

وفي الدر النظيم لابن حاتم (1/339): (قال عبدالله بن جنادة: أقبلت مع علي من المدينة حتى انتهينا إلى الربذة ونزلنا بها، فلما خرج علي (علیه السلام) منها متوجهاً إلى ذي قار قلت في نفسي: ألا أمضي مع هذا الرجل القريب القرابة من رسول الله (صلی الله علیه و آله) الفقيه في دين الله، الحسن البلاء، لعل الله أن يأجرني، فخرجت معه على غير طمع ولا ديوان، فما سرت يوماً واحداً حتى لحق بنا المحاربي، فسألته عما جاء به، فحدثني أنه جاء به الذي جاء بي،فقلت له:هل لك في الصحبة والمرافقة؟ قال: نعم، فوالله ما صحبت من الناس أحداً قط كان خير صحبة منه ولامرافقة، فانتهينا إلى ماء من مياه العرب فعرضت علينا غنم نشتريها، فاشتريت أنا وصاحبي في رجال معنا كبشاً

ص: 154

سميناً، واشترى طائفة أخرى من تلك الغنم، فوقع لي ولصاحبي كبش ساج، واشترى آخرون من أصحابنا كبشاً سميناً. فقال قائل من القوم لم أعرفه: إن كبشنا هذا طلحة وكبشكم الزبير فاذبحوهما يرح الله منهما الأمة، ثم وثب على كبشه فذبحه، ووثب بعض أصحابنا على كبشنا فذبحه. فقال المحاربي: بالله ما رأيت عجباً كاليوم قط! أي أخي، إسمع مني ما أقول لك، والله ما نرجع من وجهنا هذا حتى يقتل الرجلان. فقال رجل من ناحية القوم: صدق قولك، وسعد طائرك، قُتلا).

وصل اليه خبر شهادة حكيم بن جبلة رضي الله عنه

(وصل خبر مقتل حكيم بن جبلة إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو في ذي قار(والصحيح الربذة) فقرأ قوله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ، ثم قام على غرائرالأحمال فقال: إنه أتاني خبر فظيع ونبأ جليل، أن طلحة والزبير وردا البصرة فوثبا على عاملي فضرباه ضرباً مبرحاً، وتُرك لا يُدرى أهو حيٌّ أم ميِّت! وقتلا العبد الصالح حكيم بن جبلة في عدة من رجال مسلمين صالحين، لقوا الله موفين ببيعتهم ماضين على حقهم، وقتلا السبابجة خزان بيت المال للمسلمين، قتلوا منهم طائفة صبراً وأخرى غدراً! فبكى الناس بكاءاً شديداً.

وأتاه خبر ربيعة وخروج عبد القيس ونزولهم على الطريق ينتظرونه ليلحقوا به فقال (علیه السلام) : عبد القيس خير ربيعة، وفي كل ربيعة خير).(موسوعة اليوسفي:4/548)

أخبر أصحابه بالنصر وبعدد من يأتيه من الكوفة

روى الفضل في الإيضاح/452، والطوسي في الأمالي/113:(عن المنهال بن عمرو الأسدي قال: أخبرني رجل من بني تميم قال: نزلنا مع علي ذا قار ونحن نرى أنا سنختطف من يومنا، فقال:والله لتَظْهَرُن على هذه القرية ولتَقْتُلُن هذين الرجلين يعني طلحة والزبير، ولتستبيحن عسكرهما. فقال التميمي: فأتيت

ص: 155

ابن عباس فقلت: أما ترى ابن عمك ما يقول!والله ما نرى أن نبرح حتى نختطف من يومنا!فقال ابن عباس: لا تعجل حتى ننظرما يكون. فلما كان من أمر البصرة ما كان أتيته فقلت: لا أرى ابن عمك إلا قد صدق، فقال:ويحك إنا كنا نتحدث أصحاب محمد أن النبي (صلی الله علیه و آله) عهد إليه ثمانين عهداً، ولعل هذا مما عهد إليه).

[قال الفضل]: فهذا الدليل على أنه لم يَقتل من قَتل، ولم يجرد السيف في المسلمين إلا بعهد عهده إليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، إلا أنكم أردتم أن تلزموه الخطأ في الأمر العظيم وتصرفون ذلك عن غيره، تعدياً وظلماً وجرأةً على الله! فبعداً للقوم الظالمين).

وقال المفيد في كتاب الجمل/157:( عن الأجلح عن زيد بن علي قال: لما أبطأ على علي (علیه السلام) خبر أهل البصرة وكنا في فلاة، قال عبدالله بن عباس: فأخبرت علياً بذلك فقال لي: أسكت يا ابن عباس فوالله ليأتينا في هذين اليومين من الكوفة ستة آلاف وست مائة رجل، وليُغلبن أهل البصرة، وليُقتلن طلحة والزبير! فوالله إني استشرف الأخبار وأستقبلها حتى أتى راكب فاستقبلته واستخبرته فأخبرني بالعدة التي سمعتها من علي (علیه السلام) لم تنقص برجل واحد)!

وأخرج الطبراني (10/305): « عن الأجلح بن عبدالله..نحوه وفيه: قال ابن عباس: فوقع ذلك في نفسي، فلما أتى أهل الكوفة خرجت فقلت لأنظرن فإن كان كما تقول فهو أمر سمعه، وإلا فهي خديعة حرب. قال ابن عباس: وهو مما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يخبره ».

وفي شرح النهج(2/187): (عن أبي صالح.. قال ابن عباس: فدخلني والله من ذلك شك شديد في قوله، وقلت في نفسي:والله إن قدموا لأعدنهم! فإن كانوا كما قال، وإلا أتممتهم من غيرهم، فإن الناس قد كانوا سمعوا قوله!

قال: فعرضتهم فوالله ما وجدتهم يزيدون رجلاً، ولا ينقصون رجلاً، فقلت: الله أكبر! صدق الله ورسوله! ثم سرنا).

وفي الملاحم لابن طاووس/234: (قال ابن عباس: فأتيت علياً وقلت: ألا ترى أن

ص: 156

الناس قد فشا فيهم هذا الكلام؟ إنما نحن أكلة رأس، نسير إلى مائة ألف كلهم يقاتل عن دم عثمان، فخطب الناس عند ذلك فقال في خطبته: والذي نفسي بيده ليقتلن طلحة والزبير، وليهزمن أهل البصرة، وليخرجن إليكم من أهل الكوفة ستة آلاف وست مائة).

وفي تاريخ الطبري (3/512): (عن أبي الطفيل قال: فقعدت على نجفة ذي قار فأحصيتهم فما زادوا رجلاً، ولا نقصوا رجلاً.

عن أبي ليلى قال: خرج إلى علي اثنا عشرألف رجل وهم أسباع، على قريش وكنانة وأسد وتميم والرباب ومزينة معقل بن يسار الرياحي، وسبع قيس عليهم سعد بن مسعود الثقفي، وسبع بكر بن وائل وتغلب عليهم وعلة بن مخدوج الذهلي، وسبع مذحج والأشعرين عليهم حجر بن عدي، وسبع بجيلة وأنمار وخثعم والأزد، عليهم مخنف بن سليم الأزدي).

أقول: اختلط على الراوي عدد جيش الإمام (علیه السلام) في البصرة، بمن جاء من الكوفة.

وأخبر الإمام (علیه السلام) أنه سيأتيه ألف رجل يبايعونه على الموت

قال المفيد في الإرشاد (1/315): (قال (علیه السلام) لابن عباس: إن الله تعالى سيرد كيدهما ويظفرني بهما. فكان الأمر كما قال. وقال (علیه السلام) بذي قار وهو جالس لأخذ البيعة: يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل، لايزيدون رجلاً ولا ينقصون رجلاً، يبايعوني على الموت! قال ابن عباس: فجزعت لذلك، وخفت أن ينقص القوم عن العدد أو يزيدوا عليه فيفسد الأمر علينا، ولم أزل مهموماً دأبي إحصاء القوم حتى ورد أوائلهم فجعلت أحصيهم،فاستوفيت عددهم تسع مائة رجل وتسعة وتسعين رجلاً، ثم انقطع مجئ القوم، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا حمله على ما قال؟ فبينا أنا مفكر في ذلك إذ رأيت شخصاً قد أقبل حتى دنا فإذا هو راجل عليه قباء صوف معه سيفه وترسه وإداوته، فقرب من أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال له: أمدد يدك أبايعك، فقال له أمير المؤمنين (علیه السلام) : وعلى مَ تبايعني؟ قال: على السمع والطاعة

ص: 157

والقتال بين يديك حتى أموت أو يفتح الله عليك! فقال له: ما اسمك؟ قال: أويس، قال: أنت أويس القرني؟ قال: نعم، قال: الله أكبر، أخبرني حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) أني أدرك رجلاً من أمته يقال له أويس القرني، يكون من حزب الله ورسوله، يموت على الشهادة، يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر. قال ابن عباس: فسُرِّيَ عني).

وفي خصائص الأئمة (علیهم السلام) للشريف الرضي/53: (عن الأصبغ بن نباتة قال: كنت مع أميرالمؤمنين بصفين فبايعه تسعة وتسعون رجلاً، ثم قال: أين تمام المائة؟ فقد عهد إلي رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه يبايعني في هذا اليوم مائة رجل! قال فجاء رجل عليه قباء صوف متقلد سيفين فقال: هلم يدك أبايعك. فقال: على مَ تبايعني؟ قال:على بذل مهجة نفسي دونك! قال: ومن أنت؟ قال: أويس القرني، فبايعه فلم يزل يقاتل بين يديه حتى قتل، فوجد في الرجالة مقتولاً).

ملاحظات

1. هذا يدل على فقه أويس رضي الله عنه، وأنه ملهمٌ من الله تعالى، لأنه قال في بيعته لأمير المؤمنين (علیه السلام) يوم الجمل:(على السمع والطاعة والقتال بين يديك حتى أموت، أو يفتح الله عليك) فكان الفتح. بينما قال يوم صفين:(على بذل مهجة نفسي دونك) ولم يذكر الفتح.(راجع سيرة أويس القرني في أول المجلد الرابع من كتابنا: العقائد الإسلامية).

2. يظهر أن مبايعة الألف على الموت كانت في ذي قار، أما مبايعة المئة فنرجح أنها كانت ليلة السابع من معركة الجمل، يوم نشر راية رسول الله (علیه السلام) ونزل النصر.

3. وقد تفاوتت روايتهم في عدد من أتى من الكوفة، بين اثني عشر ألفاً وخمسة آلاف وست مئة، وستة آلاف وست مئة. ويرجع التفاوت الى ضعف حفظ الرواة.

لكنه لايضر بأصل المطلب وهو أن الإمام (علیه السلام) أخبر بعددهم، فكان الأمر كما أخبر، لأن علمه من علم رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

4. ذكرت الروايات خوف ابن عباس أن لايأتي العدد الذي أخبر به أمير المؤمنين (علیه السلام)

ص: 158

فقال مرة: فدخلني والله من ذلك شك شديد في قوله! وقال: لماذا قال ذلك أمير المؤمنين! وقال مرة: إذا نقص عددهم عما قاله أكملتهم من غيرهم! وهذا من ضعف يقينه، وفي نفس الوقت من حرصه على إنجاح خلافة ابن عمه لأنه من بني هاشم!

وفي الدر النظيم (1/346): ( قال ابن عباس: لما نزلنا بذي قار مع أميرالمؤمنين قلت له: يا أمير المؤمنين ما أقل من يأتيك من أهل الكوفة فما أظن. فقال: والذي بعث محمداً بالحق لتأتيني منهم ستة آلاف وخمس مائة وستون رجلاً لا يزيدون ولاينقصون رجلاً! قال:فدخلني من ذلك شك شديد وعظم عليَّ فقلت في نفسي:والله لئن قدموا لأعدنهم! فلما وردوا قعدت على الجسرلاعتبار ما قاله علي (علیه السلام) فوجدتهم كما قال ستة آلاف وخمس مائة وستين رجلاً لا يزيدون ولا ينقصون، فعجبت من ذلك وذكرته لعلي (علیه السلام) وسألته: من أين علم ذلك؟ فذكر أن النبي (صلی الله علیه و آله) أخبره بذلك ».

وفي شرح النهج (2/187):(حدث ابن إسحاق قال: أقام علي بذي قار خمسة عشر يوماً، حتى سمع صهيل الخيل وشحيح البغال حوله. قال: فلما سار بهم منقلةً قال ابن عباس: والله لأعدنهم، فإن كانوا كما قال وإلا أتممتهم من غيرهم)!

أقول: هذا من ضعف يقينه (رحمة الله) . وقوله: وإلا أتممتهم من غيرهم، حيلة لا يحسن أن تصدر منه، وحرص منه على إنجاح خلافة علي، لأنه من قبيلته بني هاشم!

ولابن عباس كثير أمثالها، ولهذا نعده شيعياً بالمعنى العام وليس الخاص! ولو كان ميثم التمار أو المقداد أو رشيد الهجري وأمثالهم رضوان الله عليهم، لما شكوا في قول أمير المؤمنين (علیه السلام) لأنهم على يقين بأنه معصوم مفترض الطاعة، مؤيد من الله تعالى، وعلمه من النبي (صلی الله علیه و آله) ، ومن عطاء ربه مباشرة.

5. نلاحظ أن أمير المؤمنين (علیه السلام) اهتم بقول بعض أصحابه بأنهم قلة وأعداؤهم كثرة، والقائل ابن عباس! فبادر (علیه السلام) الى الخطبة لتقوية عزيمتهم، وأخبرهم بالنصر،

ثم أخذ منهم البيعة، أي التعهد بطاعته ونصرته والقتال معه.

ص: 159

وصول جيش أميرالمؤمنين (علیه السلام) من الكوفة وخطبته فيهم

قال الطبري (3/501):(تلقاهم عليٌّ في أناس فيهم ابن عباس، فرحب بهم وقال: يا أهل الكوفة، أنتم وليتم شوكة العجم وملوكهم، وفضضتم جموعهم حتى صارت إليكم مواريثهم، فأغنيتم حوزتكم وأعنتم الناس على عدوهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك ما نريد، وإن يَلِجُّوا داويناهم بالرفق وبايناهم حتى يبدأونا بظلم، ولن ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد، إنشاءالله، ولا قوة إلا بالله.

فاجتمع بذي قار سبعة آلاف ومائتان، وعبد القيس بأسرها في الطريق بين علي وأهل البصرة ينتظرون مرور عليٍّ بهم وهم آلاف. وفي الماء ألفان وأربع مائة).

 

قال المفيد في الإرشاد (1/249): (وقد روى عبد الحميد بن عمران العجلي، عن سلمة بن كهيل قال: لما التقى أهل الكوفة وأمير المؤمنين (علیه السلام) بذي قار، رحبوا به وقالوا: الحمد لله الذي خصنا بجوارك وأكرمنا بنصرتك.فقام أمير المؤمنين (علیه السلام) فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:يا أهل الكوفة إنكم من أكرم المسلمين، وأقصدهم تقويماً، وأعدلهم سنة، وأفضلهم سهماً في الإسلام، وأجودهم في العرب مركباً ونصاباً. أنتم أشد العرب وُدّاً للنبي ولأهل بيته. وإنما جئتكم ثقة بعد الله بكم للذي بذلتم من أنفسكم عند نقض طلحة والزبيروخلعهما طاعتي، وإقبالهما بعائشة للفتنة، وإخراجهما إياها من بيتها حتى أقدماها البصرة، فاستغووا طغامها وغوغاءها، مع أنه قد بلغني أن أهل الفضل منهم وخيارهم في الذين قد اعتزلوا، وكرهوا ما صنع طلحة والزبير. ثم سكت (علیه السلام) فقال أهل الكوفة: نحن أنصارك وأعوانك على عدوك، ولو دعوتنا إلى أضعافهم من الناس احتسبنا في ذلك الخير، ورجوناه.

فدعا لهم أمير المؤمنين (علیه السلام) وأثنى عليهم، ثم قال:قد علمتم معاشر المسلمين أن طلحة والزبير بايعاني طائعين راغبين، ثم استأذناني في العمرة فأذنت لهما، فسارا إلى البصرة فقتلا المسلمين وفعلا المنكر. اللهم إنهما قطعاني وظلماني ونكثا بيعتي وألبا

ص: 160

الناس علي، فاحلل ما عقدا، ولا تحكم ما أبرما، وأرهما المساءة فيما فعلا).

 

وقال البلاذري(2 /262):( عن ابن الحنفية..فاستنفرا أهل الكوفة، فنفرمعهما تسعة آلاف وكنا عشرة آلاف إلا مائة، ولحقنا من أهل البصرة من عبد القيس قريب من ألفين، فكنا اثني عشر ألفاً إلا مائة). وهي الرواية الأكثر معقولية.

وقال البلاذري(2/34): (قال أبو مخنف وغيره: وكانوا يدعون في خلافة عثمان وعلي أسباعاً، حتى كان زياد بن أبی سفیان فصيرهم أرباعاً، فكانت همدان وحمير سبعاً، عليهم سعيد بن قيس الهمداني، ويقال بل أقام سعيد بالكوفة وكان على السبع غيره وإقامته بالكوفة أثبت.وكانت مذحج والأشعريون سبعاً، عليهم زياد بن النضر الحارثي، إلا أن عدي بن حاتم، كان على طيئ مفرداً، دون صاحب سبع مذحج والأشعرين. وكانت قيس عيلان وعبد القيس سبعاً، عليهم سعد بن مسعود عم المختار بن أبي عبيد الثقفي. وكانت كندة وحضرموت وقضاعة ومهرة سبعاً، عليهم حجر بن عدي الكندي. وكانت الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار سبعاً، عليهم مخنف بن سليم الأزدي. وكانت بكر بن وائل وتغلب وسائر ربيعة غير عبد القيس سبعاً، عليهم ابن مخدوج الذهلي. وكانت قريش وكنانة وأسد وتميم وضبة والرباب ومزينة سبعاً، عليهم معقل بن قيس الرياحي. فشهد هؤلاء الجمل وصفين والنهر، وهم هكذا).

 

وقال ابن الأعثم في الفتوح (2/461): (ونفر من أهل الكوفة تسعة آلاف ومائتا رجل، فأخذ بعضهم في البر وبعضهم في البحر حتى قدموا على علي بن أبی طالب، فاستقبلهم علي رضي الله عنه ورحب بهم وأدناهم وحياهم..قال: فاجتمع الناس بذي قار مع علي بن أبی طالب ستة آلاف من أهل المدينة وأهل مصر وأهل الحجاز وتسعة آلاف من أهل الكوفة، وجعل الناس يجتمعون حتى صاروا في تسعة عشر ألف رجل من فارس وراجل، وسار علي رضي الله عنه عن ذي قار

ص: 161

يريد البصرة في جميع أصحابه والناس يتلاحقون به من كل أوب).

أقول: تفاوتت الرواية في عدد جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) وعدد جيش عائشة، وعدد قتلى حرب الجمل، بسبب تفاوت دقة الرواة ومصادرهم، وقد ذكرنا أن عدد جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) الذين وزع عليهم العطاء في البصرة كان اثني عشر ألفاً.

أما جيش عائشة فأوصلته بعض الروايات الى مئة وعشرين ألفاً، وقد روى أمير المؤمنين (علیه السلام) عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه يقتل ثلثهم ويهرب ثلثهم ويتوب ثلثهم، وكان القتلى أكثر من عشرين ألفاً، والقتلى من جيش علي (علیه السلام) دون الألفين.

 

من خطب أمير المؤمنين (علیه السلام) وكلماته في ذي قار+

فلم يصبرا حولاً واحداً ولا شهراً كاملاً!

قال المفيد في الإرشاد (1/249): (ولما نزل بذي قار أخذ البيعة على من حضره، ثم تكلم فأكثر من الحمد لله والثناء عليه والصلاة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ثم قال:

( قد جرت أمور صبرنا فيها وفي أعيننا القذى، تسليماً لأمرالله تعالى فيما امتحننا به، رجاء الثواب على ذلك، وكان الصبرعليها أمثل من أن يتفرق المسلمون وتسفك دماؤهم. نحن أهل بيت النبوة، وأحق الخلق بسلطان الرسالة، ومعدن الكرامة التي ابتدأ الله بها هذه الأمة. وهذا طلحة والزبير ليسا من أهل النبوة، ولا من ذرية الرسول، حين رأيا أن الله قد رد علينا حقنا بعد أعصر، فلم يصبرا حولاً واحداً، ولا شهراً كاملاً حتى وثبا على دأب الماضين قبلهما، ليذهبا بحقي، ويفرقا جماعة المسلمين عني! ثم دعا عليهما)!

وإن دم عثمان لمعصوب بهما ومطلوب منهما!

في شرح النهج (1/ 309): (عن زيد بن صوحان، قال: شهدت علياً (علیه السلام) بذي قار وهو معتم بعمامة سوداء، ملتف بساجٍ (أخضر) يخطب فقال في خطبته: الحمد لله على كل أمر وحال، في الغدو والآصال، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله،

ص: 162

ابتعثه رحمةً للعباد، وحياةً للبلاد، حين امتلأت الأرض فتنة، واضطرب حبلها، وعبد الشيطان في أكنافها، واشتمل عدو الله إبليس على عقائد أهلها، فكان محمد بن عبدالله بن عبد المطلب الذي أطفأ الله به نيرانها، وأخمد به شرارها، ونزع به أوتادها، وأقام به ميلها إمام الهدى، والنبي المصطفى (صلی الله علیه و آله) ، فلقد صدع بما أمر به، وبلغ رسالات ربه، فأصلح الله به ذات البين، وآمن به السبل، وحقن به الدماء، وألف به بين ذوي الضغائن الواغرة في الصدور، حتى أتاه اليقين،

ثم قبضه الله إليه حميداً.

ثم استخلف الناس أبا بكر فلم يأل جهده، ثم استخلف أبو بكر عمر فلم يأل جهده، ثم استخلف الناس عثمان فنال منكم ونلتم منه، حتى إذا كان من أمره ما كان، أتيتموني لتبايعوني فقلت:لاحاجة لي في ذلك ودخلت منزلي فاستخرجتموني، فقبضت يدي فبسطتموها، وتداككتم عليَّ حتى ظننت أنكم قاتليَّ وأن بعضكم قاتل بعض، فبايعتموني وأنا غير مسرور بذلك، ولا جذل. وقد علم الله سبحانه أني كنت كارهاً للحكومة، بين أمة محمد (صلی الله علیه و آله) ولقد سمعته يقول: ما من والٍ يلي شيئاً من أمر أمتي إلا أتي به يوم القيامة مغلولةً يداه إلى عنقه على رؤوس الخلائق ثم ينشر كتابه، فإن كان عادلاً نجا، وإن كان جائراً هوى. حتى اجتمع عليَّ ملؤكم وبايعني طلحة والزبير وأنا أعرف الغدر في أوجههما والنكث في أعينهما، ثم استأذناني في العمرة فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان، فسارا إلى مكة واستخفا عائشة وخدعاها، وشخص معهما أبناء الطلقاء، فقدموا البصرة فقتلوا بها المسلمين، وفعلوا المنكر!

ويا عجباً لاستقامتهما لأبي بكر وعمر وبغيهما عليَّ! هما يعلمان أني لست دون أحدهما، ولو شئت أن أقول لقلت، ولقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتاباً يخدعهما فيه فكتماه عني، وخرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان، والله ما أنكرا عليَّ منكراً، ولا جعلا بيني وبينهم نصفاً، وإن دم عثمان لمعصوب بهما ومطلوب منهما! يا خيبة الداعي إلى مَ دعا، وبما ذا أجيب!

ص: 163

والله إنهما لعلى ضلالة صماء، وجهالة عمياء، وإن الشيطان قد ذمر لهما حزبه، واستجلب منهما خيله ورجله، ليعيد الجور إلى أوطانه، ويرد الباطل إلى نصابه.

ثم رفع يديه فقال: اللهم إن طلحة والزبير قطعاني وظلماني وألَّبا عليَّ ونكثا بيعتي، فاحلل ما عقدا، وانكث ما أبرما، ولا تغفر لهما أبداً، وأرهما المساءة فيما عملا وأملا! قال أبو مخنف: فقام إليه الأشتر فقال:الحمد لله الذي منَّ علينا فأفضل، وأحسن إلينا فأجمل، قد سمعنا كلامك يا أمير المؤمنين، ولقد أصبت ووفقت، وأنت ابن عم نبينا وصهره ووصيه، وأول مصدق به ومصل معه، شهدت مشاهده كلها، فكان لك الفضل فيها على جميع الأمة، فمن اتبعك أصاب حظه واستبشر بفلجه، ومن عصاك ورغب عنك، فإلى أمه الهاوية! لعمري يا أمير المؤمنين ما أمر طلحة والزبير وعائشة علينا بمخيل، ولقد دخل الرجلان فيما دخلا فيه، وفارقا على غير حدث أحدثت، ولا جور صنعت، فإن زعما أنهما يطلبان بدم عثمان فليقيدا من أنفسهما فإنهما أول من ألَّب عليه وأغرى الناس بدمه! وأشهد الله لئن لم يدخلا فيما خرجا منه لنلحقنهما بعثمان فإن سيوفنا في عواتقنا وقلوبنا في صدورنا، ونحن اليوم كما كنا أمس. ثم قعد).

من خطبة له (علیه السلام) أجاب فيها طلحة

في المسترشد لمحمد بن جرير الطبري الشيعي/423: قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في خطبة له (وكان طلحة قام خطيباً فقال:يا أيها الناس إنا أخطأنا في أمرعثمان خطيئة لايخرجنا منها إلا الطلب بدمه! وعلي قاتله وعليه القود، وقد نزل ذا قار مع نساجي اليمن وقصابي ومنافقي مصر.

فلما بلغني ذلك كتبت إليه أناشده بحق محمد (صلی الله علیه و آله) : ألست أتيتني في أهل مصر، وقد حصروا عثمان فقلت: إنهض بنا إلى هذا الرجل، فإنا لا نستطيع قتله إلا بك ألا تعلم أنه سيَّر أبا ذر، وفتق بطن عمار، وآوى الحكم بن العاص طريد رسول الله، واستعمل الفاسق في كتاب الله الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقد ضرب في الخمر، وسلط خالد بن الوليد على عرفطة العذري، وأنحى على كتاب الله يحرفه ويحرقه!

ص: 164

فقلت:لا أرى قتله اليوم.وأنت اليوم تطلب بدمه!معكما عمرو وسعيد فخليا عنهما يطلبان بدم أبيهما، متى كانت أسد وتيم أولياء دم بني أمية)!

خطبته (علیه السلام) لما أراد المسير من ذي قار الى البصرة

قال المفيد في كتاب الجمل/144: ( لما أراد (علیه السلام) المسير من ذي قار تكلم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ( إن الله عز وجل بعث محمداً للناس كافة ورحمة للعالمين، فصدع بما أمر به وبلغ رسالات ربه، فلم الله به الصدع ورتق به الفتق، وآمن به السبيل، وحقن به الدماء، وألف به بين ذوي الأحقاد والعداوة الواغرة في الصدور، والضغائن الكامنة في القلوب، فقبضه الله عز وجل إليه حميداً، وقد أدى الرسالة ونصح للأمة، فلما مضى (صلی الله علیه و آله) لسبيله، دَفعنا عن حقنا من دفعنا وولوا من ولوا سوانا، ثم ولاها عثمان بن عفان فنال منكم ونلتم منه، حتى إذا كان من أمره ما كان، أتيتموني فقلتم بايعنا، فقلت لكم لا أفعل، فقلتم بلى لا بد من ذلك، فقبضتم يدي فبسطتموها، وتداككتم عليَّ تداكَّ الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها، حتى لقد خفت أنكم قاتليَّ، أو بعضكم قاتل بعض! فبايعتموني وأنا غير مسرور بذلك ولا جذل. وقد علم الله سبحانه إني كنت كارهاً للحكومة بين أمة محمد، ولقد سمعته يقول: ما من وال يلي شيئاً من أمر أمتي إلا أتي به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه على رؤوس الخلائق، ثم ينشر كتابه، فإن كان عادلاً نجا، وإن كان جائراً هوى!

ثم اجتمع عليَّ ملؤكم وبايعني طلحة والزبير، وأنا أعرف الغدر في وجهيهما، والنكث في عينيهما، ثم استأذناني في العمرة، فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان فسارا إلى مكة واستخفا عائشة وخدعاها،وشخص معها أبناء الطلقاء، فقدموا البصرة، وهتكوا بها المسلمين وفعلوا المنكر!

ويا عجباً لاستقامتهما لأبي بكر وعمر وبغيهما عليَّ، وهما يعلمان أني لست دون أحدهما، ولو شئت أن أقول لقلت، ولقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتابا

ص: 165

يخدعهما فيه فكتماه عني، وخرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان! والله ما أنكرا علي منكراً، ولا جعلا بيني وبينهما نصفاً، وإن دم عثمان لمعصوب بهما ومطلوب منهما. يا خيبة الداعي إلى ما دعى؟وبماذا أجيب!

والله إنهما لفي ضلالة صماء وجهالة عمياء، وإن الشيطان قد دبر لهما حزبه واستجلب منهما خيله ورجله، ليعيد الجور إلى أوطانه، ويرد الباطل إلى نصابه. ثم رفع يديه وقال:اللهم إن طلحة والزبير قطعاني وظلماني ونكثا بيعتي، فاحلل ما عقدا، وانكث ما أبرما، ولا تغفر لهما أبداً، وأرهما المساءة فيما عملا وأملا.

فقام الأشتر رضي الله عنه فقال: خفض عليك يا أميرالمؤمنين فوالله ما أمر طلحة والزبير علينا بمحيل، لقد دخلا في هذا الأمر اختياراً، ثم فارقانا على غير جور عملناه، ولا حدث في الإسلام أحدثناه. ثم أقبلا يثيران الفتنة علينا تائهين جائرين، ليس معهما حجة ترى، ولا أثر يعرف، لقد لبسا العار، وتوجها نحو الديار، فإن زعما أن عثمان قتل مظلوماً فليستقد آل عثمان منهما! فأشهد أنهما قتلاه، وأشهد الله يا أمير المؤمنين لئن لم يدخلا فيما خرجا منه، ولم يرجعا إلى طاعتك وما كانا عليه، لنلحقنّهما بابن عفان.

وقام أبو الهيثم بن التيهان وقال: يا أمير المؤمنين صبحهم الله بما يكرهون، فإن أقبلوا قبلنا منهم، وإن أدبروا لنجاهدنهم، فلعمري ما قوم قتلوا النفس التي حرم الله قتلها، وأخذوا الأموال، وأخافوا أهل الإيمان، بأهل أن يكف عنهم، فأقبل أميرالمؤمنين (علیه السلام) على عدي بن حاتم فقال له: يا عدي أنت شاهد لنا وحاضر معنا وما نحن فيه. فقال عدي: شهدتك أو غبت عنك فأنا عندما أحببت! هذه خيولنا معدة، ورماحنا محددة، وسيوفنا محددة، فإن رأيت أن نتقدم تقدمنا، وإن رأيت أن نحجم أحجمنا، نحن طوع لأمرك، فأمر بما شئت

نسارع إلى امتثال أمرك.

وقام أبو زينب الأزدي فقال: والله إن كنا على الحق إنك لأهدانا سبيلاً وأعظمنا في الخير نصيباً، وإن كنا على الضلال والعياذ بالله أن نكون عليه، لأنك أعظمنا وزراً

ص: 166

وأثقلنا ظهراً، وقد أردنا المسير إلى هؤلاء القوم وقطعنا منهم الولاية وأظهرنا منهم البراءة وظاهرناهم بالعداوة، ونريد بذلك ما يعلمه الله عز وجل، وإنا ننشدك الله الذي علمك ما لم تكن تعلم، ألسنا على الحق وعدونا على الضلال؟ فقال (علیه السلام) :أشهد لئن خرجت لدينك ناصراً صحيح النية، قد قطعت منهم الولاية وأظهرت منهم البراءة كما قلت،أنك لفي رضوان الله فأبشر يا أبا زينب،فإنك والله على الحق فلا تشك فإنك إنما تقاتل الأحزاب فأنشأ أبوزينب:

سيروا إلى الأحزاب أعداءالنبي *** فإن خير الناس أتباع علي

هذا أوان طاب سلُّ المشرفي *** وقَوْدُنا الخيل وهزُّ السمهري

ولما استقرأمر أهل الكوفة على النهوض لأمير المؤمنين (علیه السلام) وخف بعضهم لذلك بادر ابن عباس ومن معه من الرسل فيمن اتبعهم من أهل الكوفة إلى ذي قار للإلتحاق بأمير المؤمنين، وإخباره بما عليه القوم من الجد والإجتهاد في طاعته، وأنهم لاحقون به غير متأخرين عنه، وإنما تقدمهم ليستعد للسفر).

إن الله فرض الجهاد وعظَّمه

روى في الإرشاد (1/251): (من كلامه (علیه السلام) حين نهض من ذي قار متوجهاً إلى البصرة، بعد حمد الله والثناء عليه، والصلاة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) : أما بعد: فإن الله فرض الجهاد وعَظَّمَهُ، وجعله نصرة له، والله ما صلحت دنيا قط ولا دين إلا به. وإن الشيطان قد جمع حزبه، واستجلب خيله، وشبه في ذلك وخدع، وقد بانت الأمور وتمخضت.والله ما أنكروا عليَّ منكراً، ولا جعلوا بيني وبينهم نصفاً، انهم ليطلبون حقاً تركوه، ودماً هم سفكوه، ولئن كنت شركتهم فيه إن لهم لنصيبهم منه، ولئن كانوا ولوه دوني،فما تبعته إلا قبلهم، وإن أعظم حجتهم لعلى أنفسهم، وإني لعلى بصيرتي ما لبست علي، وإنها للفئة الباغية فيها الحمي، ولحمة قد طالت هلبتها وأمكنت درتها، يرضعون أماً فطمت، ويحيون بيعة

ص: 167

تركت ليعود الضلال إلى نصابه. ما أعتذر مما فعلتُ، ولا أتبرأ مما صنعت، فياخيبة الداعي ومن دعا لو قيل له: إلى من دعواك، وإلى من أجبت، ومن إمامك، وما سنته؟ إذاً لزاح الباطل عن مقامه ولصمت لسانه فما نطق. لأفرطن لهم حوضاً أنا ماتحه، لا يصدرون عنه ولا يلقون بعده رياً أبداً، وإني لراض بحجة الله عليهم وعذره فيهم، إذ أنا داعيهم فمعذر إليهم، فإن تابوا وأقبلوا فالتوبة مبذولة والحق مقبول، وليس على الله كفران، وإن أبوا أعطيتهم حد السيف، وكفى به شافياً من باطل، وناصراً لمؤمن).

من أقوى انتقاداته (علیه السلام) لقريش وأهل السقيفة!

(قال عبدالله بن عباس: دخلت على أميرالمؤمنين (علیه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله فقلت له: نحن إلى أن تصلح أمرنا أحوج منا إلى ما تصنع! فلم يكلمني حتى فرغ من نعله ثم ضمها إلى صاحبتها، فقال لي (علیه السلام) : ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها. فقال (علیه السلام) : والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً، أو أدفع باطلاً. ثم خرج أمير المؤمنين (علیه السلام) فخطب الناس فقال:

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الأول قبل كل أول، والآخر بعد كل آخر، وبأوليته وجب أن لا أول له، وبآخريته وجب أن لا آخر له.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بكتاب فصله وأحكمه وأعزه، حفظه بعلمه، وأحكمه بنوره، وأيده بسلطانه، وكلأه من أن يبتزه هوى، أو تميل به شهوة، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. وهو الذي لا يخلقه طول الرد، ولا تزيغ عنه العقول، ولاتلتبس منه الألسن. لا تفنى عجائبه ولاتنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلا به، ولايعلم علم مثله. فيه شفاء لمشتفٍ، وكفاءٌ لمكتف.

هو الذي لما سمعه الجن ولوا إلى قومهم منذرين فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَباً، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ. من قال به صدق، ومن زال عنه عدا، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن خاصم به فلج، ومن قاتل به نصر، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم. وفي

ص: 168

القرآن نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. أنزله بعلمه، وأشهد الملائكة بتصديقه. قال الله جل وجهه: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلأَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً. فجعله نوراً يهدي للتي هي أقوم، فقال: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي للَّتِى هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيراً. وقال: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. وقال: إِتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ. وقال: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

هو الفصل ليس بالهزل، هو الناطق بالعدل، والآمر بالفصل. من تركه من الجبارين قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله. ففي اتباع ما جاءكم من الله الفوز العظيم، وفي تركه الخطأ المبين. وقال تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَاىَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاهُمْ يَحْزَنُونَ. فجعل في اتباعه كل خير يرجى في الدنيا والآخرة.

أما بعد، فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً (صلی الله علیه و آله) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً، ولا يدعي نبوة ولا وحياً، فقاتل بمن أطاعه من عصاه، فساق الناس حتى بوأهم محلتهم، وبلغهم منجاتهم، وبادر بهم الساعة أن تنزل بهم، يحسر الحسير، ويقف الكسير، فيقيم عليه حتى يلحقه غايته، إلا هالكاً لا خير فيه. فاستدارت رحاهم، واستقامت قناتهم، واطمأنت صفاتهم.

وأيم الله، لقد كنت من ساقتها، حتى تولت بحذافيرها، واستوسقت في قيادها، ما عجزتُ ولا ضعفتُ، ولا جبنتُ ولا وهنتُ، ولا خِنت.

وإن مسيري هذا لمثلها، عن عهد إليَّ فيه، وأيم الله لأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته إنشاءالله. فقل لقريش فلتضج مني ضجيجاً!

ما لي ولقريش! أما والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم.

والله ما تنقم منا قريش إلا أنا أهل بيت شيد الله فوق بنيانهم بنياننا، وأعلى فوق رؤوسهم رؤوسنا، واختارنا عليهم، فنقموا على الله أن اختارنا عليهم،

ص: 169

وسخطوا ما رضي الله، وأحبوا ما كره الله.

فلما اختارنا الله عليهم شركناهم في حريمنا، وأدخلناهم في حيزنا، فعرفناهم الكتاب والسنة، وعلمناهم الفرائض والسنن، وديَّناهم الدين والإسلام، فوثبوا علينا، وجحدوا فضلنا، ومنعونا حقنا، فكانوا كما قال الأول:

أدَمْتَ لعَمري شُرْبَك المحضَ صابحاً *** وأكلَك بالزُّبد المَقَشَّرة البُجْرَا

ونحن وهبناك العلاءَ ولم تكنْ *** علياً وحُطْنَا حولك الجُرْدَ والسُّمْرا ».

أليس بنا اهتدوا من متاه الكفر، ومن عمى الضلالة، وغيِّ الجهالة، وبي أنقذوا من الفتنة الظلماء، والمحنة العمياء. ويلهم! ألم أخلصهم من نير الطغاة، وسيوف البغاة، وكره العتاة، ووطأة الأسد. أليس بي تسنموا الشرف، ونالوا الحق والنصف، ألست آية نبوة محمد (صلی الله علیه و آله) ودليل رسالته، وعلامة رضاه وسخطه، وبي كان يبري جماجم البُهَم (الشجعان)وهام الأبطال، إذا فزعت تيمٌ إلى الفرار، وعديٌّ إلى الإنتكاص! ولوأسلمتُ قريشاً للمنايا والحتوف، لحصدتهم سيوف العرازم (الفرسان) ووطأتهم خيول الأعاجم، وطحنتهم سنابك الصافنات، وحوافر الصاهلات، عند إطلاق الأعنة، وبريق الأسنة، ولما بقوا لظلمي، ولا عاشوا لهضمي، ولما قالوا: إنك لحريص متهم.

يا معاشر المهاجرين والأنصار! أين كانت سبقة تيم وعدي إلى سقيفة بني ساعدة خوف الفتنة! ألا كانت يوم الأبواء، إذ تكاثفت الصفوف، وتكاثرت الحتوف، وتقارعت السيوف! أم هلَّا خشيا فتنة الإسلام يوم ابن عبد ود وقد نفخ بسيفه، وشمخ بأنفه، وطمح بطرفه! ولمَ لم يشفقا على الدين وأهله يوم بواط، إذ اسودَّ لون الأفق، واعوج عظم العنق، وانحلَّ سَيْل الغرق!

ولمَ لم يُشفقا يوم رضوى، إذ السهام تطير، والمنايا تسير، والأسد تزير!

وهلا بادرا يوم العشيرة، إذ الأسنان تصطك، والآذان تستك، والدروع تهتك! وهلا كانت مبادرتهما يوم بدر، إذ الأرواح في الصعداء ترتقي، والجياد بالصناديد ترتدي، والأرض بدماء الأبطال ترتوي!

ولمَ لم يُشفقا على الدين يوم بدر الثانية، والدعاس ترعب، والأوداج تشخب،

ص: 170

والصدور تخضب! وهلَّا بادرا يوم ذات الليوث، وقد أمجَّ التَّوْلَب، واصطلم الشَّوْقب، وادلهمَّ الكوكب. ولم َلا كانت شفقتهما على الإسلام يوم الأكدر، والعيون تدمع، والمنية تلمع، والصفائح تنزع. أنا صاحب هذه المشاهد، وأبو هذه المواقف، وابن هذه الأفعال الحميدة). (نقلنا هذه الخطبة من كتاب: تمام نهج البلاغة(1/437) وبيّنا في الملاحظات أنها من عدّة خطب)

ملاحظات حول هذه الخطبة

1. رواها في شرح نهج البلاغة (1/81) الى قوله: وَحُطْنَا حولك الجردَ والسمرا.

ورواها في مناقب آل أبی طالب (2/46) وقال: إلى آخر الخطبة، قال الناشي:

فَلِمْ لم يثوروا ببدر وقد *** تَبِلْتَ من القوم إذ بارزوكا

ولمْ عردوا إذا شجيت العدى *** بمهراس أحد ولمْ نازلوكا

ولم أحجموا يوم سلع وقد *** ثبتَّ لعمرو ولمْ أسلموكا

ولم يوم خيبر لم يثبتوا *** صحابةُ أحمد واستركبوكا

فلاقيت مرحب والعنكبوت *** وأسداً يحامون إذا واجهوكا

فدكدكت حصنهم قاهراً *** وطوحت بالباب إذ حاجزوكا

ولم يحضروا بحنين وقد *** صككت بنفسك جيشاً صكوكا

فأنت المقدم في كل ذاكا *** فلله درُّك لِمْ أخروكا

 

روت مقاطع من هذه الخطبة مصادر اخرى، وأكمل روايتها في العدد القوية/189، لعلي بن يوسف أخ العلامة الحلي، عن كتاب الإرشاد لكيفية طلب أئمة العباد، لمحمد بن الحسن الصفار ، وهو من كبار أصحاب الأئمة (علیهم السلام) توفي سنة290، ولم ينص على أنها في ذي قار. ويكفي نص رواية النهج وشرحه (2/185) على ذلك. وقال المفيد في الإرشاد (1/247) خطبها في الربذة في طريقه الى البصرة، ولعله سهو.

ص: 171

ونورد هنا رواية العُدد أيضاً لأهميتها، وفروقها عن غيرها، قال الصفار (رحمة الله) :

(وقد كفانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه المؤونة في خطبة خطبها، أودعها من البيان والبرهان ما يجلي الغشاوة عن أبصار متأمليه، والعمى عن عيون متدبريه، وحلينا الكتاب بها ليزداد المسترشدون في هذا الأمر بصيرة، وهي مِنَّةُ الله جل ثناؤه علينا وعليهم، يجب شكرها، خطب صلوات الله عليه فقال:

ما لنا ولقريش! وما تنكر منا قريش غير أنا أهل بيت شيد الله فوق بنيانهم بنياننا، وأعلى فوق رؤوسهم رؤوسنا، واختارنا الله عليهم، فنقموا على الله أن اختارنا عليهم، وسخطوا ما رضي الله، وأحبوا ما كره الله. فلما اختارنا الله عليهم شركناهم في حريمنا، وعرفناهم الكتاب والنبوة، وعلمناهم الفرض والدين، وحفظناهم الصحف والزبر، وديَّناهم الدين والإسلام، فوثبوا علينا، وجحدوا فضلنا ومنعونا حقنا، وأَلَتُونا أسباب أعمالنا وأعلامنا.

اللهم فإني أستعديك على قريش، فخذ لي بحقي منها ولا تدع مظلمتي لديها، وطالبهم يا رب بحقي فإنك الحكم العدل، فإن قريشاً صغرت عظيم أمري، واستحلت المحارم مني، واستخفت بعرضي وعشيرتي، وقهرتني على ميراثي من ابن عمي، وأغرَوْا بي أعدائي، ووتروا بيني وبين العرب والعجم، وسلبوني ما مهدت لنفسي من لدن صباي، بجهدي وكدي، ومنعوني ما خلفه أخي وجسمي وشقيقي، وقالوا: إنك لحريص متهم!

أليس بنا اهتدوا من متاه الكفر، ومن عمى الضلالة، وغي الظلماء.

أليس أنقذتهم من الفتنة الصماء، والمحنة العمياء.

ويلهم! ألم أخلصهم من نيران الطغاة، وكرَّة العتاة، وسيوف البغاة، ووطأة الأُسْد، ومقارعة الطماطمة، ومماحكة القماقمة، الذين كانوا عُجْم العرب وغُنْم الحروب، وقُطب الإقدام ، وجبال القتال، وسهام الخطاب، وسلَّ السيوف. أليس بي تسنموا الشرف، وبي نالوا الحق والنصف، ألست آية نبوة محمد، ودليل رسالته، وعلامة رضاه وسخطه. أليس بي كان يَقطع الدروع الدلاص، ويصطلم الرجال الحراص.

ص: 172

وبي كان يفري جماجم البهم، وهام الأبطال، إذا فزعت تيمٌ إلى الفرار، وعديٌّ إلى الإنتكاص.

أما وإني لو أسلمت قريشاً للمنايا والحتوف، وتركتها فحصدتها سيوف الغوانم، ووطأتها الأعاجم، وكَرَّات الأعادي، وحملات الأعالي، وطحنتهم سنابك الصافنات، وحوافر الصاهلات، في مواقف الأزْل والهزْل، في ظلال الأعنة، وبريق الأسنة، مابقوا لهضمي، ولا عاشوا لظلمي، ولما قالوا إنك لحريص متهم. اليوم نتواقف على حدود الحق والباطل.اللهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق، فإني مهدت مهاد نبوة محمد (صلی الله علیه و آله) ، ورفعت أعلام دينك، وأعلنت منار رسولك، فوثبوا علي وغالبوني، ونالوني ووتروني!

 

فقام إليه أبو حازم الأنصاري فقال: يا أميرالمؤمنين أبو بكر وعمر ظلماك أحقك أخذا، وعلى الباطل مضيا، أعلى حق كانا؟ أعلى صواب أقاما؟ أم ميراثك غصبا؟ أفهمنا لنعلم باطلهم من حقك، أو نعلم حقهما من حقك. أبَزَّاك أمرك؟ أم غصباك إمامتك، أم غالباك فيها عزاً، أم سبقاك إليها عجلاً؟ فجرت الفتنة ولم تستطع منها استقلالاً، فإن المهاجرين والأنصار يظنان أنهما كانا على حق، وعلى الحجة الواضحة مضيا.

فقال صلوات الله عليه: يا أخا اليمن لا بحق أخذا، ولا على إصابة أقاما، ولا على دين مضيا، ولا على فتنة خشيا، يرحمك الله! اليوم نتواقف على حدود الحق والباطل، أتعلمون يا إخواني أن بني يعقوب على حق ومحجة كانوا، حين باعوا أخاهم، وعقوا أباهم، وخانوا خالقهم، وظلموا أنفسهم، فقالوا:لا.

فقال: يرحمكم الله أيعلم إخوانك هؤلاء أن ابن آدم قاتل الأخ كان على حق ومحجة وإصابة، وأمره من رضا الله؟ فقالوا: فقال: لا. فقال: أوليس كلٌّ فعل بصاحبه ما فعل، لحسده إياه وعدوانه وبغضانه له؟ فقالوا: نعم.

قال: وكذلك فعلابي ما فعلا حسداً، ثم إنه لم يتب على ولد يعقوب إلا بعد

ص: 173

استغفار وتوبة وإقلاع، وإنابة وإقرار، ولو أن قريشاً تابت إليَّ، واعتذرت من فعلها لاستغفرت الله لها! ثم قال: إنما أُنطق لكم العجماء ذات البيان، وأفصح الخرساء ذات البرهان، لأني فتحت الإسلام، ونصرت الدين، وعززت الرسول، وثبتُّ أركان الإسلام، وبينت أعلامه، وأعليت مناره، وأعلنت أسراره، وأظهرت آثاره وحاله، وصفيت الدولة، ووطأت للماشي والراكب، ثم قدتها صافية، على أني بها مستأثر.

ثم قال (علیه السلام) بعد كلام: ثم سبقني إليه التيمي والعدوي، كسباق الفرس، احتيالاً واغتيالاً، وخدعةً وغلبةً.

ثم قال (علیه السلام) بعد كلام: اليوم أنطق الخرساء ذات البرهان، وأفصح العجماء ذات البيان، فإنه شارطني رسول الله (صلی الله علیه و آله) في كل موطن من مواطن الحروب، وصافقني على أن أحارب لله وأحامي لله، وأنصر رسول الله (صلی الله علیه و آله) جهدي وطاقتي وكدحي وكدي، وأحامي عن حريم الإسلام، وأرفع عن أطناب الدين، وأعز الإسلام وأهله، على أن مافُتحت وبُنيت عليه دعوة الرسول (صلی الله علیه و آله) وقُرئت فيه المصاحف، وعُبد فيه الرحمن، وفُهم به القرآن، فلي إمامته وحله وعقده وإصداره وإيراده، ولفاطمة فدك، ومما خلفه رسول الله (صلی الله علیه و آله) النَّصَف، فسبقاني إلى جميع نهاية الميدان يوم الرهان.

وما شككت في الحق منذ رأيته، هلك قوم أرجفوا عني. إنه لم يوجس موسى في نفسه خيفة، ارتياباً ولا شكاً فيما آتاه من عند الله. ولم أشك فيما آتاني من حق الله، ولا ارتبت في إمامتي، وخلافة ابن عمي ووصية الرسول، وإنما أشفق أخي موسى من غلبة الجهال، ودول الضلال، وغلبة الباطل على الحق.

ولما أنزل الله جل وعز: وَآتِ ذَا القُربى حَقَّه، دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فاطمة فنحلها فدك. وأقامني للناس علماً وإماماً، وعقد لي وعهد إلي، فأنزل الله عز وجل: أطِيعُوا اللهَ وأطيعُوا الرَّسُولَ وأولي الأمر مِنْكُم. فقاتلت حق القتال، وصبرت حق الصبر، على أنه أعز تيماً وعدياً على دين أتت به تيم وعدي، أم على دين أتى به ابن عمي وصنوي وجسمي، على أن أنصر تيماً وعدياً، أم أنصر ابن عمي

وحقي وديني وإمامي.

ص: 174

وإنما قمت تلك المقامات، واحتملت تلك الشدائد، وتعرضت للحتوف، على أن نصيبي من الآخرة موفوراً، وأني صاحب محمد وخليفته، وإمام أمته بعده، وصاحب رايته في الدنيا والآخرة. اليوم أكشف السريرة عن حقي، وأُجلي القذى عن ظلامتي، حتى يظهر لأهل اللب والمعرفة أني مذلل، مضطهد مظلوم، مغصوب مقهورمحقور، وأنهم ابتزوا حقي، واستأثروا بميراثي. اليوم نتواقف على حدود الحق والباطل، من وثق بما لم يضم، من استودع خائناً فقد غش نفسه، من استرعا ذئباً فقد ظلم. من ولَّى غشوماً فقد اضطهد. هذا موقف صدق، ومقام أنطق فيه بحقي، وأكشف الستر والغمة عن ظلامتي.

يا معشر المجاهدين المهاجرين والأنصار، أين سبقت تيم وعدي إلى سقيفة بني ساعدة خوف الفتنة، ألا كانت يوم الأبواء، إذ تكانفت الصفوف، وتكاثرت الحتوف، وتقارعت السيوف! أم هلَّا خشيا فتنة الإسلام يوم ابن عبد ود، وقد نفخ بسيفه، وشمخ بأنفه وطمح بطرفه! وَلِمَ لمْ يشفقا على الدين وأهله يوم بواط، إذ اسودَّ لون الأفق، واعوجَّ عظم العنق، وانحلَّ سيل العرق!

ولم يشفقا يوم رضوى، إذ السهام تطير، والمنايا تسير، والأُسد تزأر!

وهلا بادرا يوم العشيرة، إذ الأسنان تصطك، والآذان تستك، والدروع تهتك! وهلا كانت مبادرتهما يوم بدر، إذ الأرواح في الصعداء ترتقي، والجياد بالصناديد ترتدي، والأرض من دماء الأبطال ترتوي!

وَلِمَ لمْ يشفقا على الدين يوم بدر الثانية، والرعابيب ترعب، والأوداج تشخب، والصدورتخضب! أم هلا بادرا يوم ذات الليوث، وقد أبيح التَّوْلب، واصطلم الشوْقب، وادلهمَّ الكوكب! ولم لا كانت شفقتهما على الإسلام يوم الكد، والعيون تدمع، والمنية تلمع، والصفايح تنزع!

ثم عدد وقائع النبي (صلی الله علیه و آله) كلها على هذا النسق، وقرعهما بأنهما في هذه المواقف كلها كانا مع النظارة والخوالف والقاعدين، فكيف بادرا الفتنة بزعمهما يوم السقيفة، وقد توطأ الإسلام بسيفه، واستقر قراره، وزال حذاره. ثم قال بعد ذلك:

ص: 175

ما هذه الدهماء والدهياء، وردت علينا من قريش. أنا صاحب هذه المشاهد، وأبو هذه المواقف، وابن هذه الأفعال.

يا معشر المهاجرين والأنصار: إني على بصيرة من أمري، وعلى ثقة من ديني. اليوم أنطقتُ الخرساء البيان، وفَهَّهْتُ العجماء الفصاحة، وأتيتُ العمياء بالبرهان. هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم، قد توافقنا على حدود الحق والباطل، وأخرجتكم من الشبهة إلى الحق، ومن الشك إلى اليقين. فتبرؤوا رحمكم الله ممن نكثوا البيعتين، وغلب الهوى بهم فضلوا. وأبعدوا رحمكم الله ممن أخفى الغدر، وطلب الحق من غير أهله فتاه! والعنوا رحمكم الله من انهزم الهزيمتين إذ يقول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ. وقال:وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًاوَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ.

أغضبوا رحمكم الله على من غضب الله عليهم، وتبرؤوا رحمكم الله ممن يقول فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) : ترتفع يوم القيامة ريح سوداء تخطف من دوني قوماً من أصحابي من عظماء المهاجرين، فأقول: أصيحابي فيقال: محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. وتبرؤوا رحمكم الله من النفْس الضالة: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ، فيقولوا: رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ، ومن قبل أن يقولوا: يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ. أو يقولوا: وَمَا أَضَلَّنَا إِلا أَلْمُجْرِمُونَ، أو يقولوا:رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا.

إن قريشاً طلبت السعادة فشقيت، وطلبت النجاة فهلكت، وطلبت الهداية فضلت. إن قريشاً قد أضلت أهل دهرها، ومن يأتي من بعدها من القرون،

إن الله تبارك اسمه وضع إمامتي في قرآنه فقال: الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا للَّمُتَّقِينَ إِمَامًا. وقال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَوةَ وَآتَوُا الزَّكَوةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللَّهِ عَاقِبَةُ الآمُورِ).

ثم قال الصفار (رحمة الله) :وهي خطبة طويلة! وأقول:ليته رواها كاملة، لصراحتها وبلاغتها.

ص: 176

صحيفة النبي (صلی الله علیه و آله) بما يجري على أهل بيته (علیهم السلام)

في الروضة لشاذان بن جبرئيل/140، بإسناده عن سليم بن قيس، وفي كتاب سُليم/434: (لما قتل الحسين بن علي (علیه السلام) بكى ابن عباس بكاء شديداً ثم قال: ما لقيت هذه الأمة بعد نبيها! اللهم إني أشهدك أني لعلي بن أبی طالب وليٌّ ولولده، ومن عدوه وعدوهم برئ، وإني أسلِّم لأمرهم.

لقد دخلت على علي (علیه السلام) بذي قار فأخرج إلي صحيفة وقال لي: يا ابن عباس، هذه صحيفة أملاها عليَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخطي بيدي. فقلت: يا أميرالمؤمنين، إقرأها علي فقرأها، فإذا فيها كل شئ كان منذ قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى مقتل الحسين (علیه السلام) وكيف يُقتل، ومن يقتله ومن ينصره ومن يستشهد معه.

فبكى بكاء شديداً وأبكاني، فكان فيما قرأه علي كيف يصنع به، وكيف تُستشهد فاطمة، وكيف يُستشهد الحسن ابنه، وكيف تغدر به الأمة.

فلما أن قرأ كيف يقتل الحسين ومن يقتله أكثر البكاء، ثم أدرج الصحيفة، وقد بقي ما يكون إلى يوم القيامة. وكان فيها فيما قرأ أمر أبي بكر وعمر وعثمان، وكم يملك كل إنسان منهم، وكيف بويع علي (علیه السلام) ، ووقعة الجمل، وسيرعائشة وطلحة والزبير، ووقعة صفين ومن يقتل فيها، ووقعة النهروان وأمر الحكمين، وملك معاوية ومن يقتل من الشيعة، وما يصنع الناس بالحسن، وأمر يزيد بن معاوية حتى انتهى إلى قتل الحسين.

فسمعت ذلك، ثم كان كل ما قرأ لم يزد ولم ينقص. فرأيت خطه أعرفه في صحيفة لم تتغير ولم تصفر. فلما أدرج الصحيفة قلت: يا أميرالمؤمنين، لوكنت قرأت علي بقية الصحيفة؟ قال (علیه السلام) : لا، ولكني محدثك، ما يمنعني فيها ما نلقى من أهل بيتك وولدك، وهو أمر فظيع من قتلهم لنا وعداوتهم إيانا، وسوء ملكهم وشوم قدرتهم. فأكره أن تسمعه فتغتم ويحزنك.

ولكني أحدثك: أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند موته بيدي ففتح لي ألف باب من العلم، يُفتح كل باب ألف باب، وأبو بكر وعمر ينظران إليَّ، وهو يشير إلى

ص: 177

ذلك. فلما خرجت قالا لي: ما قال لك؟ فحدثتهما بما قال فحركا أيديهما ثم حكيا قولي، ثم وليا يرددان قولي ويخطران بأيديهما.

يا ابن عباس، إن الحسن يأتيك من الكوفة بكذا وكذا ألف رجل، غير رجل. ياابن عباس، إن ملك بني أمية إذا زال كان أول ما يملك من بني هاشم ولدك، فيفعلون الأفاعيل! فقال ابن عباس: لأن يكون نَسَّخَني ذلك الكتاب أحب إلي مما طلعت عليه الشمس).

خطبة له بذي قار يصف فيها القرآن وترك المسلمين له

قال في الكافي (8/386):(خطب أمير المؤمنين (علیه السلام) بذي قار فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى بعث محمداً (صلی الله علیه و آله) بالحق ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته، ومن عهود عباده إلى عهوده، ومن طاعة عباده إلى طاعته، ومن ولاية عباده إلى ولايته، بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، عوداً وبدءً وعذراً ونذراً، بحكم قد فصله، وتفصيل قد أحكمه، وفرقان قد فرقه، وقرآن قد بينه، ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه، وليقروا به إذ جحدوه، وليثبتوه بعد إذ أنكروه، فتجلى لهم سبحانه في كتابه، من غير أن يكونوا رأوه، فأراهم حلمه كيف حلم، وأراهم عفوه كيف عفا، وأراهم قدرته كيف قدر، وخوفهم من سطوته، وكيف خلق ما خلق من الآيات، وكيف محق من محق من العصاة بالمثلات، واحتصد من احتصد بالنقمات، وكيف رزق وهدى وأعطى، وأراهم حكمه كيف حكم وصبر، حتى يسمع ما يسمع ويرى. فبعث الله عز وجل محمداً (صلی الله علیه و آله) بذلك.

ثم إنه سيأتي عليكم من بعدي، زمان ليس في ذلك الزمان شئ أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) ، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبْوَرُ من الكتاب إذا تلي حق تلاوته، ولا سلعة أنفق بيعاً ولا أغلى ثمناً، من الكتاب إذا حُرِّف عن مواضعه، وليس في العباد ولا في البلاد شئ هو أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر، وليس فيها فاحشة أنكر ولا عقوبة أنكى من

ص: 178

الهدى عند الضلال في ذلك الزمان.

فقد نبذ الكتاب حملته، وتناساه حفظته، حتى تمايلت بهم الأهواء، وتوارثوا ذلك من الآباء، وعملوا بتحريف الكتاب كذباً وتكذيباً، فباعوه بالبخس، وكانوا فيه من الزاهدين، فالكتاب وأهل الكتاب في ذلك الزمان طريدان منفيان، وصاحبان مصطحبان في طريق واحد، لايأويهما مؤو، فحبذا ذانك الصاحبان، واهاً لهما ولما يعملان له، فالكتاب وأهل الكتاب في ذلك الزمان في الناس وليسوا فيهم، ومعهم وليسوا معهم، وذلك لأن الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا، وقد اجتمع القوم على الفرقة، وافترقوا عن الجماعة، قد ولوا أمرهم وأمر دينهم من يعمل فيهم بالمكر والمنكر، والرشا والقتل، كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم، لم يبق عندهم من الحق إلا إسمه، ولم يعرفوا من الكتاب إلا خطه وزبره! يدخل الداخل لما يسمع من حكم القرآن، فلايطمئن جالساً حتى يخرج من الدين، ينتقل من دين ملك إلى دين ملك، ومن ولاية ملك إلى ولاية ملك، ومن طاعة ملك إلى طاعة ملك، ومن عهود ملك إلى عهود ملك، فاستدرجهم الله تعالى من حيث لايعلمون، وإن كيده متين، بالأمل والرجاء، حتى توالدوا في المعصية، ودانوا بالجور، والكتاب لم يضرب عن شئ منه صفحاً، ضُلَّالاً، تائهين، قد دانوا بغير دين الله عز وجل، وأدانوا لغير الله. مساجدهم في ذلك الزمان عامرةٌ من الضلالة، خربةٌ من الهدى، فقراؤها وعمارها أخائب خلق الله وخليقته!

من عندهم جرت الضلالة وإليهم تعود، فحضور مساجدهم والمشي إليها كفر بالله العظيم، إلا من مشى إليها وهو عارف بضلالهم، فصارت مساجدهم من فعالهم على ذلك النحو خربة من الهدى عامرة من الضلالة، قد بدلت سنة الله، وتُعديت حدوده.لايدعون إلى الهدى ولا يقسمون الفيئ ولا يوفون بذمة، يدعون القتيل منهم على ذلك شهيداً، قد أتوا الله بالإفتراء والجحود، واستغنوا بالجهل عن العلم، ومن قبل ما مثلوا بالصالحين كل

ص: 179

مثلة، وسموا صدقهم على الله فرية، وجعلوا في الحسنة العقوبة السيئة، وقد بعث الله عز وجل إليكم رسولاً: مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ صلى الله عليه وآله، وأنزل عليه كتاباً عزيزاً: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ. لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ. فلا يلهينكم الأمل ولا يطولن عليكم الأجل، فإنما أهلك من كان قبلكم أمد أملهم، وتغطية الآجال عنهم، حتى نزل بهم الموعود، الذي ترد عنه المعذرة، وترفع عنه التوبة، وتحل معه القارعة والنقمة، وقد أبلغ الله عز وجل إليكم بالوعد، وفصل لكم القول، وعلمكم السنة، وشرح لكم المناهج ليزيح العلة، وحث على الذكر ودل على النجاة، وإنه من انتصح لله واتخذ قوله دليلاً هداه للتي هي أقوم، ووفقه للرشاد، وسدده ويسره للحسنى، فإن جار الله آمن محفوظٌ، وعدوه خائف مغرور.

فاحترسوا من الله عز وجل بكثرة الذكر، واخشوا منه بالتقى، وتقربوا إليه بالطاعة، فإنه قريب مجيب. قال الله عز وجل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ. فاستجيبوا لله وآمنوا به، وعظموا الله الذي لاينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعظم، فإن رفعة الذين يعلمون ما عظمة الله، أن يتواضعوا له، وعز الذين يعلمون ما جلال الله أن يذلوا له، وسلامة الذين يعلمون ما قدرة الله أن يستسلموا له، فلا ينكرون أنفسهم بعد حد المعرفة، ولا يضلون بعد الهدى، فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب، والبارئ من ذي السقم.

واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولم تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه، ولن تتلوا الكتاب حق تلاوته حتى تعرفوا الذي حرفه، ولن تعرفوا الضلالة حتى تعرفوا الهدى، ولن تعرفوا التقوى حتى تعرفوا الذي تعدى، فإذا عرفتم ذلك عرفتم البدع والتكلف، ورأيتم الفرية على الله وعلى رسوله والتحريف لكتابه، ورأيتم كيف هدى الله من هدى، فلا يُجهلنكم الذين لا يعلمون.

إن علم القرآن ليس يعلم ما هو إلا من ذاق طعمه، فعلم بالعلم جهله، وبصر به عماه،

ص: 180

وسمع به صممه، وأدرك به علم ما فات، وحيي به بعد إذ مات، وأثبت عند الله عز ذكره الحسنات، ومحى به السيئات، وأدرك به رضواناً من الله تبارك وتعالى، فاطلبوا ذلك من عند أهله خاصة، فإنهم خاصة نور يستضاء به، وأئمة يقتدى بهم، هم عيش العلم وموت الجهل، هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم، وصمتهم عن منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهد صادق وصامت ناطق، فهم من شأنهم شهداء بالحق ومخبر صادق، لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه، قد خلت لهم من الله السابقة، ومضى فيهم من الله عز وجل حكم صادق، وفي ذلك ذكرى للذاكرين. فاعقلوا الحق إذا سمعتموه عقل رعاية، ولا تعقلوه عقل رواية، فإن رواة الكتاب كثير ورعاته قليل. والله المستعان).

وروى الفقرة الأخيرة في النهج(2/232). وروى منه ابن شعبة في تحف العقول/227.

رسائله (علیه السلام) من ذي قار الى عائشة وطلحة والزبير

قال المفيد في كتاب الجمل/167: (ولما سار أميرالمؤمنين (علیه السلام) من ذي قار، قَدَّمَ صعصعة بن صوحان بكتاب إلى طلحة والزبير وعائشة، يعظم عليهم حرمة الإسلام، ويخوفهم فيما صنعوه، وقبيح ما ارتكبوه، من قتل من قتلوا من المسلمين، وما صنعوا بصاحب رسول الله (صلی الله علیه و آله) عثمان بن حنيف (رحمة الله) ، وقتلهم المسلمين صبراً .

ووعظهم ودعاهم إلى الطاعة.

قال صعصعة (رحمة الله) :فقدمت عليهم فبدأت بطلحة، وأعطيته الكتاب وأديت الرسالة، فقال: الآن حين عضت ابن أبی طالب الحرب تَرَفَّقَ لنا!

ثم جئت إلى الزبير فوجدته ألين من طلحة، ثم جئت إلى عائشة فوجدتها أسرع الناس إلى الشر، فقالت: نعم قد خرجت للطلب بدم عثمان، والله لأفعلن وأفعلن! فعدت إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) فلقيته قبل أن يدخل البصرة، فقال: ما وراءك يا

ص: 181

صعصعة؟ قلت يا أمير المؤمنين، رأيت قوماً ما يريدون إلا قتالك! فقال: الله المستعان).

وأرسل اليهم ابن عباس فأدى الرسالة

وتابع المفيد: (ثم دعا عبدالله بن عباس فقال: إنطلق إليهم فناشدهم وذكرهم العهد الذي لي في رقابهم. قال ابن عباس: جئتهم فبدأت بطلحة فذكرته العهد فقال لي: يا ابن عباس، والله لقد بايعت علياً واللجُّ على رقبتي! فقلت له: أنا رأيتك بايعت طايعاً، أولم يقل لك عليٌّ قبل بيعتك له: إن أحببت أبايعك؟ فقلت: لا بل نحن نبايعك؟ فقال طلحة: إنما قال لي ذلك، وقد بايعه قوم فلم أستطع خلافهم. والله يا ابن عباس إن القوم الذين معه يغرونه وإن لقيناه فسيسلمونه. أما عملت يا ابن عباس أني جئت إليه والزبير ولنا من الصحبة ما لنا مع رسول الله والقدم في الإسلام، وقد أحاط به الناس قياماً على رأسه بالسيف فقال لنا يهزل: إن أحببتما بايعت لكما، فلو قلنا: نعم، أفتراه يفعل؟ وقد بايع الناس له فليخلع نفسه ويبايعنا، لا والله ما كان يفعل، وخشينا أن يغري بنا من لايرى لنا حرمة، فبايعناه كارهين. وقد جئنا نطلب بدم عثمان، فقل لابن عمك: إن كان يريد حقن الدماء وإصلاح أمر الأمة، فليمكننا من قتلة عثمان، فهم معه، ويخلع نفسه ويرد الأمر ليكون شورى بين المسلمين، فيولوا من شاؤوا، فإنما علي رجل كأحدنا. وإن أبى أعطيناه السيف، فما له عندنا غير هذا.

قال ابن عباس: يا أبا محمد لست تنصف! ألم تعلم أنك حصرت عثمان حتى مكث عشرة أيام يشرب ماء بئره وتمنعه من شرب الماء، حتى كلمك علي في أن تخلي الماء له، وأنت تأبى ذلك! ولما رأى أهل مصر فعلك وأنت صاحب رسول الله (صلی الله علیه و آله) دخلوا عليه بسلاحهم فقتلوه، ثم بايع الناس رجلاً له من السابقة والفضل والقرابة برسول الله (صلی الله علیه و آله) ، والبلاء العظيم ما لايدفع، وجئت أنت وصاحبك طائعين غير مكرهين حتى بايعتما ثم نكثتما، فعجب والله إقرارك لأبي بكر وعمر وعثمان بالبيعة، ووثوبك على ابن أبی طالب، فوالله ما علي (علیه السلام) دون أحد منكم. وأما قولك يمكنني من قتلة عثمان فما يخفي عليك من قتل عثمان، وأما قولك إن أبى

ص: 182

علي (علیه السلام) فالسيف فوالله إنك لتعلم أن علياً لا يُخوف. فقال طلحة: إيهاً الآن، دعنا من جدالك.

قال فخرجت إلى علي وقد دخل البيوت بالبصرة فقال: ما وراءك؟ فأخبرته الخبر، فقال اللهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين.

ثم قال: إرجع إلى عائشة واذكر لها خروجها من بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وَخَوِّفْهَا من الخلاف على الله عز وجل، ونبذها عهد النبي (صلی الله علیه و آله) وقل لها إن هذه الأمور لا تصلحها النساء، وإنك لم تؤمري بذلك فلم ترضيْ بالخروج عن أمر الله في تبرجك، وبيتك الذي أمرك النبي بالمقام فيه، حتى سرت إلى البصرة فقتلت المسلمين، وعمدت إلى عمالي فأخرجتهم، وفتحت بيت المال، وأمرت بالتنكيل بالمسلمين، وأبحت دماء الصالحين! فارعي وراقبي الله عز وجل، فقد تعلمين أنك كنت أشد الناس على عثمان، فما عدا مما بدا!

قال ابن عباس فلما جئتها وأديت الرسالة إليها وقرأت كتاب علي (علیه السلام) عليها،

قالت: يا ابن عباس ابن عمك يرى أنه قد تملك البلاد، لا والله ما بيده منها شئ إلا وبيدنا أكثر منه. فقلت: يا أماه إن أمير المؤمنين (علیه السلام) له فضل وسابقة في الإسلام وعظم غَنَاء. قالت: ألا تذكر طلحة وغناءه يوم أحد؟ قال: فقلت لها والله ما نعلم أحداً أعظم غناء من علي (علیه السلام) . قالت: أنت تقول هذا، ومع علي أشياء كثيرة، قلت: الله الله في دماء المسلمين! قالت: وأي دم يكون للمسلمين إلا أن يكون علي يقتل نفسه ومن معه!

قال ابن عباس: فتبسمت، فقالت: ممَّ تضحك يا ابن عباس؟فقلت: والله معه قوم على بصيرة من أمرهم يبذلون مهجهم دونه.قالت:حسبنا الله ونعم الوكيل.

قال: وقد كان أميرالمؤمنين أوصاني أن ألقى الزبير وإن قدرت أن أكلمه وابنه ليس بحاضر. فجئت مرة أو مرتين كل ذلك أجده عنده، ثم جئت مرة أخرى فلم أجده عنده، فدخلت عليه وأمرالزبير مولاه سرجس أن يجلس على الباب ويحبس عنا الناس، فجعلت أكلمه فقال: عصيتم إن خولفتم، والله لتعلمن عاقبة

ص: 183

ابن عمك، فعلمت أن الرجل مغضب، فجعلت ألاينه فيلين مرة ويشتد أخرى! فلما سمع سرجس ذلك أنفذ إلى عبدالله بن الزبير وكان عند طلحة، فدعاه فأقبل سريعاً حتى دخل علينا، فقال: يا ابن عباس دع بنيات الطريق، بيننا وبينكم عهد خليفة ودم خليفة، وانفراد واحد واجتماع ثلاثة وأم مبرورة، ومشاورة العامة. فأمسكت ساعة لا أكلمه، ثم قلت: لو أردت أن أقول لقلت. فقال ابن الزبير: ولم تؤخر ذلك؟ وقد حُمَّ الأمر وبلغ السيل الزبى.

قال ابن عباس: فقلت: أما قولك عهد خليفة، فإن عمر جعل الشورى إلى ستة نفر، فجعل النفر أمرهم إلى رجل منهم يختار لهم منهم ويخرج نفسه منها، فعرض الأمر على علي وعثمان، فحلف عثمان وأبى علي أن يحلف، فبويع عثمان.فهذا عهد خليفة.

وأما دم خليفة، فدمه عند أبيك لايخرج أبوك من خصلتين: إما قتل وإما خذل!

وأما إنفراد واحدٍ واجتماع ثلاثة، فإن الناس لما قتلوا عثمان فزعوا إلى علي فبايعوه طوعاً، وتركوا أباك وصاحبه، ولم يرضوا بواحد منهما!

وأما قولك إن معكم أماً مبرورة، فإن هذه الأم أنتما أخرجتماها من بيتها، وقد أمرها الله تعالى أن تقر فيه، فأبيت أن تدعها! وقد علمت أنت وأبوك أن النبي (صلی الله علیه و آله) حذرها من الخروج، وقال لها: يا حميرا إياك أن تنبحك كلاب الحوأب، وكان منها ما قد رأيت! وأما دعواك مشاورة العامة، فكيف يشاور فيمن قد اجتمع عليه، وأنت تعلم أن أباك وطلحة بايعا طائعين غير كارهين.

فقال ابن الزبير: الباطل والله ما تقول يا ابن عباس. وقد سئل عبد الرحمن بن عوف عن أصحاب الشورى، فكان صاحبكم أخيبهم عنده، وما أدخله عمر في الشورى إلا وهو يقرفه، ولكنه خاف فتقه في الإسلام.

وأما قتل خليفة فصاحبك كتب إلى الآفاق حتى قدموا عليه ثم قتلوه، وهو في داره بلسانه ويده ، وأنا معه في الدار أقاتل دونه، حتى جرحت بضعة عشر جرحاً. وأما قولك إن علياً بايعه الناس طايعين، فوالله ما بايعوه إلا كارهين والسيف على رقابهم، غصبهم أمرهم!

ص: 184

فقال الزبير: دع عنك ما ترى يا ابن عباس، جئتنا لتوفينا. فقال له ابن عباس: أنتم طلبتم هذا، والله ما عددناك قط إلا منا بني هاشم، لأنهم أخوالك ومحبتك لهم، حتى أدرك ابنك هذا فقطع الأرحام! فقال الزبير: دع عنك هذا.

ولما عادت رسل أمير المؤمنين من طلحة والزبير وعائشة، بإصرارهم على خلافه، وإقامتهم على نكث بيعته والمباينة له، والعمل على حربه، واستحلال دماء شيعته، وأنهم لا يتعظون بوعظ،ولاينتهون عن الفساد بوعيد. كتَّب الكتائب، ورتَّب العساكر).

وأرسل اليهم أنس بن مالك فلم يؤد الرسالة

1. في نهج البلاغة (4/74): ( وقال (علیه السلام) :لأنس بن مالك وقد كان بعثه إلى طلحة والزبير لما جاء إلى البصرة يذكرهما شيئاً سمعه من رسول الله (صلی الله علیه و آله) في معناهما، فلوى عن ذلك، فرجع إليه فقال: إني أنسيت ذلك الأمر! فقال (علیه السلام) : إن كنت كاذباً فضربك الله بها بيضاء لامعة لا تواريها العمامة، يعني البرص، فأصاب أنساً هذا الداء فيما بعد في وجهه، فكان لا يرى إلا مبرقعاً).

قال في شرح النهج (19/217):(المشهورأن علياً (علیه السلام) ناشد الناس الله في الرحبة بالكوفة، فقال: أنشدكم الله رجلاً سمع رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول لي وهو منصرف من حجة الوداع: من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه؟ فقام رجال فشهدوا بذلك، فقال (علیه السلام) لأنس بن مالك: لقد حضرتها فما بالك! فقال: يا أمير المؤمنين كبرت سني وصار ما أنساه أكثر مما أذكره، فقال له: إن كنت كاذباً فضربك الله بها بيضاء لا تواريها العمامة، فما مات حتى أصابه البرص. فأما ما ذكره الرضي من أنه بعث أنساً إلى طلحة والزبير فغير معروف، ولو كان قد بعثه ليذكرهما بكلام يختص بهما من رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما أمكنه أن يرجع فيقول إني أنسيته، لأنه ما فارقه متوجهاً نحوهما إلا وقد أقر بمعرفته وذكره، فكيف يرجع بعد ساعة أو يوم فيقول إني أنسيته، فينكر بعد الاقرار! هذا مما لا يقع.

ص: 185

وقد ذكر ابن قتيبة حديث البرص والدعوة التي دعا بها أميرالمؤمنين (علیه السلام) على أنس بن مالك في كتاب المعارف في باب البرص من أعيان الرجال، وابن قتيبة غير متهم في حق علي (علیه السلام) على المشهور من انحرافه عنه).

أقول: يمكن أن يكون أمير المؤمنين (علیه السلام) بعث أنس بن مالك الى طلحة والزبير برسالة فلم يبلغ الرسالة، ثم ناشد في الكوفة من سمع حديث الغدير،

فقال أنس ما قال.

2. وقال في شرح النهج (4/74): (وذكر جماعة من شيوخنا البغداديين أن عدة من الصحابة والتابعين والمحدثين كانوا منحرفين عن علي (علیه السلام) قائلين فيه السوء، ومنهم من كتم مناقبه وأعان أعداءه ميلاً مع الدنيا وإيثاراً للعاجلة، فمنهم أنس بن مالك ناشد علي (علیه السلام) في رحبة القصر:أيكم سمع رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: من كنت مولاه فعلى مولاه؟ فقام اثنا عشر رجلاً فشهدوا بها، وأنس بن مالك في القوم لم يقم...وروى عثمان بن مطرف أن رجلاً سأل أنس بن مالك في آخر عمره عن علي بن أبی طالب فقال: إني آليت ألا أكتم حديثاً سئلت عنه في علي بعد يوم الرحبة، ذاك رأس المتقين يوم القيامة، سمعته والله من نبيكم).

وقد وثق أحمد والهيثمي وغيرهما حديث المناشدة، ولم يذكروا دعاءه عليه بالبرص. قال أحمد (1/88): (حدثني زياد بن أبي زياد: سمعت علي بن أبی طالب ينشد الناس فقال: أنشد الله رجلاً مسلماً سمع رسول الله يقول يوم غديرخم ما قال، فقام اثنا عشر بدرياً فشهدوا). ووثقه في مجمع الزوائد ( 9/106).

وفي الفضائل لشاذان بن جبرئيل/164: ( عن سالم بن أبي جعدة قال:قام إليه رجل فقال: يا صاحب رسول الله ما هذه النمثة التي أراها بك؟ فإني حدثني أبي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: البرص والجذام لايبلو الله تعالى به مؤمناً! قال: فعند ذلك أطرق أنس بن مالك إلى الأرض وعيناه تذرفان بالدمع، ثم قال: دعوة العبد الصالح علي بن أبی طالب نفذت فيَّ، فعند ذلك قام الناس من حوله وقصدوه وقالوا: يا أنس حدثنا ما كان السبب؟ فقال لهم: إلهوا عن هذا)!

ص: 186

3. وروينا أن أنساً كان يكذب في حياة النبي (صلی الله علیه و آله) ، فقد أهدي للنبي (صلی الله علیه و آله) طائر فدعا: اللهم ابعث لي أحب خلقك اليك يأكل معي من هذا الطائر، فجاء علي (علیه السلام) ورده أنس مرات يقول له إن رسول الله مشغول! ولما كشف ذلك النبي (صلی الله علیه و آله) وسأله لماذا، قال: أردت أن يأتي أحد من قومي فيأكل معك!

كما كان أنس يتقرب الى الحكام بالكذب على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! قال الإمام الباقر (علیه السلام) : (إن أول ما استحل الأمراء العذاب، لكذبة كذبها أنس بن مالك على رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه سمَّر يد رجل إلى الحائط،ومن ثم استحل الأمراء العذاب)! (علل الشرائع:2/541).(وفي رواية عن الإمام الصادق (علیه السلام) ثلاثة كانوا يكذبون على رسول الله (صلی الله علیه و آله) : أبوهريرة، وأنس بن مالك،وامرأة.

وفي طريق الإمام الى البصرة نزل عند عبد القيس في الشطرة

تبعد ذو قار عن البصرة مئة وستين كيلو متراً، والظاهر أن منازل عبد القيس كانت في الشطرة بين ذي قار والبصرة، في المكان الذي يعرف بالصديف وأم النخل، وتعرف اليوم بالصديفة، وهي تبعد عن ذي قار نحو40 كيلو متراً، وعن البصرة مئة وعشرين كلم. وقد نزل فيها أمير المؤمنين (علیه السلام) في طريقه من ذي قار الى البصرة. وقد أخبرني أحد الأصدقاء الأسديين أنه يوجد مقام لأمير المؤمنين (علیه السلام) في الشطرة.

قال الطبري (3/501): (عن الشعبي قال: لما التقوا بذي قارتلقاهم علي في أناس فيهم ابن عباس فرحب بهم وقال...فاجتمع بذي قار سبعة آلاف ومائتان، وعبد القيس بأسرها في الطريق بين علي وأهل البصرة، ينتظرون مرور علي بهم وهم آلاف).

وقال الطبري(3/508): (وأصبح عليٌّ على ظهر فمضى الناس حتى إذا انتهى إلى عبد القيس نزل بهم، وبمن خرج من أهل الكوفة وهم أمام ذلك، ثم ارتحل حتى نزل على أهل الكوفة وهم أمام ذلك، والناس متلاحقون به وقد قطعهم).

وروي أن عدد العبديين الذين انضموا الى الإمام (علیه السلام) يوم الجمل كان أربعة آلاف (الغارات:2/785) والرواية الأقوى أنهم ألفان. ( أنساب الأشراف:2 / 262).

ص: 187

وفي مناقب محمد بن سليمان (2/337): (عن منذر الثوري قال: سمعت محمد بن الحنفية يقول: لما أن توجه طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة قال: سمع بذلك علي وهو في المدينة قال: فأقبل وأقبلنا معه في تسع مائة، فلما نزل بذي قار قريباً من البصرة قال: بعث عماراً والحسن إلى الكوفة فاستنفرهم فنفرمعه تسعة آلاف قال: فمنهم من أخذ البر ومنهم من أخذ الماء. قال: ولحق بنا من أهل البصرة من عبد القيس ألفان، فكنا اثني عشرألفاً إلا مائة وكانوا أكثر منا).

وقال الهمداني في البلدان/233: (وقالوا: بالبصرة أربع بيوتات ليس بالكوفة مثلها: بيت بني المهلَّب، وبيت بني مسلم بن عمرو الباهلي من قيس، وبيت بني مسمع من بكر بن وائل، وبيت آل الجارود من عبد القيس).

ولما اصطف الجيشان جعل الإمام (علیه السلام) ربيعة البصرة والكوفة ومنهم عبد القيس في الميمنة، وجعل عليهم علباء بن الهيثم السدوسي، ومضر البصرة والكوفة في الميسرة وعليهم ولده الحسن السبط (علیه السلام) ، وثبت هو بالبقية في القلب، وكان على الخيل عمار بن ياسر، وعلى الرجالة ربيبه محمد بن أبي بكر. (تاريخ خليفة /134).

ولم يبدأهم بقتال فأرسل ابن عباس يناشدهم حقن الدماء، لكنهم أصروا على القتال!

ص: 188

الفصل السادس والخمسون: وصول أميرالمؤمنين (علیه السلام) الى البصرة

وصف دخول أميرالمؤمنين (علیه السلام) وجيشه الى البصرة

قال المسعودي في مروج الذهب (2/359):(عن المنذر بن الجارود قال: لما قدم علي رضي الله عنه البصرة دخل مما يلي الطفَّ فأتى الزاوية، فخرجتُ أنظر إليه فورد موكب في نحوألف فارس يتقدمهم فارس على فرس أشهب، عليه قلنسوة وثياب بيض، متقلد سيفاً ومعه راية، وإذا تيجان القوم الأغلبُ عليها البياضُ والصفرة، مدججين في الحديد والسلاح، فقلت: من هذا؟ فقيل: هذا أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وهؤلاء الأنصار، وغيرهم.

ثم تلاهم فارس آخر عليه عمامة صفراء وثياب بيض، متقلد سيفاً، متنكبٌ قوساً معه راية، على فرس أشقر في نحو ألف فارس، فقلت: من هذا؟ فقيل: هذا خزيمة بن ثابت الأنصاري، ذو الشهادتين.

ثم مر بنا فارسٌ آخر على فرسٍ كُمَيْتٍ معتمٌّ بعمامة صفراء، من تحتها قلنسوة بيضاء، وعليه قَبَاء أبيض مصقول، متقلد سيفاً، متنكب قوساً في نحو ألف فارس من الناس ومعه راية، فقلت: من هذا؟ فقيل لي: أبوقَتَادة بن ربعي.

ثم مر بنا فارس آخر على فرس أشهب، عليه ثياب بيض وعمامة سوداء، قد سَدَلها من بين يديه ومن خلفه، شديد الأدمة عليه سكينة ووقار، رافع صوته بقراءة القرآن، متقلد سيفاً متنكب قوساً، معه راية بيضاء في ألف من الناس مختلفي التيجان، حوله مشيخة وكهول وشباب، كأنما قد أوقفوا للحساب، أثَرُ السجود قد أثر في جباههم، فقلت: من هذا؟ فقيل:

ص: 189

عمار بن ياسر، في عدة من الصحابة من المهاجرين والأنصار وأبنائهم.

ثم مر بنا فارس على فرس أشقر، عليه ثياب بيض، وقلنسوة بيضاء، وعمامة صفراء، متنكب قوساً متقلد سيفاً، تخط رجلاه في الأرض، في ألف من الناس الغالبُ على تيجانهم الصفرة والبياض، معه راية صفراء، قلت: من هذا؟ قيل: هذا قيس بن سعد بن عُبَادة في عدة من الأنصار وأبنائهم وغيرهم من قحطان.

ثم مر بنا فارس على فرس أشهل، ما رأينا أحسن منه، عليه ثياب بيض وعمامة سوداء، قد سَدَلها من بين يديه بلواء، قلت: من هذا؟ قيل: هو عبدالله بن العباس في وفده، وعدة من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

ثم تلاه موكب آخر فيه فارس أشبه الناس بالأولين، قلت: من هذا؟ قيل:عبيد الله بن العباس. ثم تلاه موكب آخر فيه فارس أشبه الناس بالأولين، قلت: من هذا؟ قيل: قُثَم بن العباس، أو معبد بن العباس.

ثم أقبلت المواكب والرايات، يقدم بعضها بعضاً، واشتبكت الرماح.

ثم ورد موكب فيه خلق من الناس عليهم السلاح والحديد، مختلفو الرايات، في أوله راية كبيرة، يقدمهم رجل كأنما كُسِرَ وجُبِرَ- قال ابن عائشة: وهذه صفة رجل شديد الساعدين، نظره الى الأرض أكثر من نظره الى فوق، كذلك تخبر العرب في وصفها إذا أخبرت عن الرجل أنه كسر وجبر- كأنما على رؤوسهم الطير، وعن يمينه شاب حسن الوجه، وعن يساره شاب حسن الوجه، وبين يديه شاب مثلهما، قلت: من هؤلاء؟ قيل: هذا علي بن أبی طالب، وهذان الحسن والحسين (علیهما السلام) عن يمينه وشماله، وهذا محمد بن الحنفية بين يديه معه الراية العظمى، وهذا الذي خَلْفه عبدالله بن جعفر بن أبی طالب، وهؤلاء ولد عقيل وغيرهم من فتيان بني هاشم، وهؤلاء المشايخ هم أهل بدر من المهاجرين والأنصار. فساروا حتى نزلوا الموضع المعروف بالزاوية، فصلى أربع ركعات، وعفر خديه على التراب، وقد خالط ذلك دموعه، ثم رفع يديه يدعو: اللهم رب السموات وما أظلت، والأرضين وما أقلت، ورب العرش العظيم، هذه البصرة أسألك من خيرها، وأعوذ بك من شرها، اللهم أنزلنا

ص: 190

فيها خير منزل وأنت خير المنزلين، اللهم إن هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي، وبغوا علي، ونكثوا بيعتي، اللهم احقن دماء المسلمين).

 

وفي كتاب الجمل للمفيد/158: (وروى إسماعيل بن عبد الملك بن يحيى بن شبل عن أبي جعفر محمد بن علي (علیه السلام) قال: لما سار علي من ذي قار قاصداً البصرة، نزل الخريبة في اثني عشر ألف، وعلى الميمنة عمار بن ياسر في ألف رجل، وعلى الميسرة مالك الأشتر في ألف رجل، ومعه في نفسه عشرة آلاف رجل، وخرج إليه من البصرة ألفا رجل، خرجت إليه ربيعة كلها إلا مالك بن مسمع منها، وجاءته عبد القيس بأجمعها سوى رجل واحد تخلف عنها، وجاءته بنو بكر يرأسهم شقيق بن ثور السدوسي، ورأس عبد القيس عمرو بن جرموز العبدي، وأتاه المهلب بن أبي صفرة فيمن تبعه من الأزد. وبعث إليه الأحنف بن قيس يقول له: إني مقيم على طاعتك في قومي فإن شئت أتيتك في مائتين من أهل بيتي فعلت، وإن شئت حبست عنك أربعة آلاف سيف من بني سعد. فبعث إليه أمير المؤمنين (علیه السلام) : بل احبس وكُفَّ. فجمع الأحنف قومه فقال:يا بني سعد كفوا عن هذه الفتنة واقعدوا في بيوتكم، فإن ظهر أهل البصرة فهم إخوانكم لم يهيجوكم، وإن ظهر علي (علیه السلام) سلمتم، فكفوا وتركوا القتال).

مكذوبات في أصل المعركة ومدتها

الصحيح أن حرب الجمل كانت حرباً شديدة، وكانت مدتها سبعة أيام، لكنهم كذبوا فجعلوها وقعت عن غير قصد ولمدة ساعات!

قال ابن حجر (13/46): (وأخرج أيضاً (ابن أبي شيبة) بسند صحيح عن زيد بن وهب قال: فكف علي يده حتى بدؤوه بالقتال، فقاتلهم بعد الظهر، فما غربت الشمس وحول الجمل أحد).

لكن ابن أبي شيبة نفسه روى في شدة القتال(7/534):(قال فطر بن خليفة:

ص: 191

شهدت يوم الجمل فما دخلت دار الوليد إلا ذكرت يوم الجمل، ووقع السيوف على البيْض قال: كنت أرى علياً يحمل فيضرب بسيفه حتى ينثني، ثم يرجع فيقول: لا تلوموني , ولوموا هذا , ثم يعود فيقومه)! وقد اشتهر قول الشاعر:

شهدت الحروب فشيبنني *** فلم أر يوماً كيوم الجمل

[أشد على مؤمن فتنة *** وأقتل منهم لحرق بطل]

[فليت الظعينة في بيتها *** ويا ليت عسكر لم يرتحلل]

وقال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة (1/72) إنها دامت سبعة أيام قال: (فاقتتل القوم حوله حتى حال بينهم الليل. وكانوا كذلك يروحون ويغدون على القتال سبعة أيام، وإن علياً خرج إليهم بعد سبعة أيام فهزمهم، وأُسرت عائشة، وأسرمروان بن الحكم، وعمرو بن عثمان، وموسى بن طلحة..).

وقد يفهم من قول ابن قتيبة: (وإن علياً خرج إليهم بعد سبعة أيام فهزمهم) أن هزيمتهم كانت في اليوم الثامن،لكن مقصوده اليوم السابع.

أما ما ورد في مصادرنا مما يوهم أنها ليوم واحد، فالمقصود به الحملة الأخيرة التي كان فيها النصر، كقول ابن شهراشوب (المناقب:2/346): (ووقع القتال بعد الظهر وانقضى عند المساء). ويقصد به آخر معارك وقعة الجمل.

بدأت المعركة في النصف من جمادى الآخرة يوم الخميس

ذكرت أكثر المصادر أن معركة الجمل بدأت في العاشر من جمادى الأولى أو الثانية سنة 36، والصحيح أن هذا تاريخ وصول أمير المؤمنين (علیه السلام) الى البصرة، وقد أمهلهم أياماً، وأجرى معهم مراسلات ومفاوضات، وبدأت المعركة يوم الخميس النصف من جمادى الآخرة، كما كتب أميرالمؤمنين (علیه السلام) الى عامله على الكوفة قَرَظة بن كعب الأنصاري (الطبري:3/544): (من عبدالله علي أمير المؤمنين. أما بعد، فإنا التقينا في النصف من جمادى الآخرة بالخريبة، فناء من أفنية البصرة، فأعطاهم الله عز وجل سنة المسلمين، وقتل منا ومنهم قتلى كثيرة، وأصيب ممن أصيب منا ثمامة بن المثنى، وهند بن

ص: 192

عمرو، وعلباء بن الهيثم، وسيحان وزيد ابنا صوحان، ومخدوج. وكتب عبدالله بن رافع. وكان الرسول زفر بن قيس إلى الكوفة بالبشارة، في جمادى الآخرة).

وكذلك ذكرت مصادر أخرى كالطبري(3/514) وعمدة القاري(24/205) والضبي في وقعة الجمل/182، وتاريخ خليفة/138، والأغاني(18/297) والمقريزي في إمتاع الأسماع (13/241) وإرشاد الساري (10/196).

ويؤيده أن العاشر من جمادى الأولى والثانية لم يكن يوم خميس، بل كان الخميس منتصف جمادى الثانية، كما يدل برنامج تحويل التاريخ الهجري.

ويؤيده أن أمير المؤمنين (علیه السلام) بقي بعد الحرب في أرض المعركة ثلاثة أيام، ثم دخل البصرة يوم الإثنين، فتكون بداية الحرب يوم الخميس الى الخميس التالي.

أمهلهم الإمام (علیه السلام) ثلاثة أيام للمفاوضات

قال الطبري (3/513): (فأقاموا ثلاثة أيام لم يكن بينهم قتال، يرسل إليهم عليٌّ ويكلمهم، ويردعهم).

وفي مصنف ابن أبي شيبة (8/710): (ضُرب فسطاط بين العسكرين يوم الجمل ثلاثة أيام، فكان علي والزبير وطلحة يأتونه، فيذاكرون فيه ما شاء الله).

وفي الفصول المهمة لابن الصباغ (1/402): (وأقاموا ثلاثة أيام، لم يكن بينهم شئ إلاّ الصلح وهم يتراسلون).

 

وفي كشف الغمة للإربلي(1/240): (وكتب (علیه السلام) إلى عايشة:أما بعد فإنك خرجت من بيتك عاصية لله تعالى ولرسوله (صلی الله علیه و آله) تطلبين أمراًكان عنك موضوعاً، ثم تزعمين أنك تريدين الإصلاح بين الناس،فخبريني ما للنساء وقَوْدُ العساكر! وزعمت أنك طالبة بدم عثمان، وعثمان رجل من بني أمية، وأنت امرأة من بني تيم بن مرة! ولعمري إن الذي عرضك للبلاء، وحملك على المعصية لأعظم إليك ذنباً من قتله عثمان، وما غضبتِ حتى أُغضبت، ولاهِجْتِ حتى هُيِّجْتِ،

ص: 193

فاتقي الله يا عايشة، وارجعي إلى منزلك، وأسبلي عليك سترك. والسلام.

فجاء الجواب إليه: (يا ابن أبی طالب، جلَّ الأمر عن العتاب، ولن ندخل في طاعتك أبداً، فاقض ما أنت قاض. والسلام). (نهج البلاغة:3/111).

 

وقال المفيد في الجمل/177:(وبلغ أمير المؤمنين (علیه السلام) لغط القوم واجتماعهم على حربه، فقام في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي (صلی الله علیه و آله) ثم قال: أيها الناس إن طلحة والزبير قدما البصرة وقد اجتمع أهلها على طاعة الله وبيعتي، فدعواهم إلى معصية الله تعالى وخلافي، فمن أطاعهما منهم فتنوه، ومن عصاهما قتلوه، وقد كان من قتلهما حكيم بن جبلة ما بلغكم، وقتلهم السبابجة، وفعلهما بعثمان بن حنيف ما لم يخف عليكم، وقد كشفوا الآن القناع وآذنوا بالحرب، وقام طلحة بالشتم والقدح في أديانكم، وقد أرعد وصاحبه وأبرقا، وهذان امرءان معهما الفشل. وقد خرجوا من هدى إلى ضلال، ودعوناكم إلى الرضا ودعوكم إلى السخط، فحل لنا ولكم ردهم إلى الحق، وحل لهم بقصاصهم القتل، وقد والله مشوا إليكم ضراراً، وأذاقوكم أمس من الجمر، فإذا لقيتم القوم غداً فاعذروا في الدعاء، واستعينوا بالله واصبروا، إن الله مع الصابرين. فقام إليه حكيم بن مناف حتى وقف بين يديه، وقال:

أبا حسن أيقظت من كان نائماً *** وما كل من يُدعى إلى الحق يسمعُ

وما كل من يعطى الرضايقبل الرضا *** وما كل من أعطيته الحق يقنع

وأنت امرؤٌ أعطيت من كل وجهة *** محاسنها والله يعطي ويمنع

وما منك بالأمر المؤلم غلظة *** وما فيك للمرء المخالف مطمع

وإن رجالاً بايعوك وخالفوا *** هداك وأجروا في الضلال فضيعوا

لأهل لتجريد الصوارم فيهم *** وسمر العوالي والقنا تتزعزع

فإني لأرجو أن تدور عليهم *** رحى الموت حتى يسكنوا ويصرعوا

ص: 194

وطلحة فيها والزبير قرينه *** وليس لما لا يدفع الله مدفع

فإن يمضيا فالحرب أضيق حلقة *** وإن يرجعا عن تلك فالسلم أوسع

وما بايعوه كارهين لبيعة *** وما بسطت منهم على الكره إصبع

ولا بطيا عنها فراقاً ولا بدا *** لهم أحد بعد الذين تجمعوا

على نقضها ممن له شد عقدها *** فقصراهما منه أصابع أربع

خروجٌ بأم المؤمنين وغدرهم *** وعيبٌ على من كان في القلب أشجع

وذكرهم قتل ابن عفان خدعةً *** وهم قتلوه والمخادع يخدع

فعُودُ عليٍّ نبعةٌ هاشمية *** وعودهما فيما هما فيه خَرْوَعُ

ثم إن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنظرهم وأنذرهم ثلاثة أيام، ليكفوا ويرعووا، فلما علم إصرارهم على الخلاف قام في أصحابه وقال: عباد الله، إنهدوا إلى هؤلاء القوم منشرحة صدوركم، فإنهم نكثوا بيعتي وقتلوا شيعتي، ونكلوا بعاملي وأخرجوه من البصرة، بعد أن آلموه بالضرب المبرح والعقوبة الشديدة، وهو شيخ من وجوه الأنصار والفضلاء، ولم يرعوا له حرمة.وقتلوا السبابجة رجالاً صالحين، وقتلوا حكيم بن جبلة ظلماً وعدواناً لغضبه لله تعالى، ثم تتبعوا شيعتي بعد أن ضربوهم وأخذوهم في كل عايبة، وتحت كل رابية، يضربون أعناقهم صبراً! ما لهم قاتلهم الله أنى يؤفكون!

فانهدوا إليهم عباد الله، وكونوا أسوداً عليهم فإنهم شرار، ومساعدوهم على الباطل شرار، فالقوهم صابرين محتسبين، موطنين أنفسكم أنكم منازلون ومقاتلون، قد وطنتم أنفسكم على الضرب والطعن ومنازلة الأقران، فأي امرئ أحس من نفسه رباطة جأش عند الفزع وشجاعة عند اللقاء، ورأى من أخيه فشلاً أو وهناً، فليذب عن أخيه الذي فضله الله عليه، كما يذب عن نفسه فلو شاء الله لجعله مثله. فقام إليه شداد بن شمرالعبدي، فحمد الله

ص: 195

وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنه لما كثر الخطاؤون وتمرد الجاحدون، فزعنا إلى آل نبينا (صلی الله علیه و آله) الذين بهم ابتدأنا بالكرامة، وهدانا من الضلالة، إلزموهم رحمكم الله، ودعوا من أخذ يميناً وشمالاً، فإن أولئك في غمرتهم يعمهون، وفي ضلالهم يترددون).

وفي كشف الغمة في معرفة الأئمة للإربلي (1/244و240): (عن زر، أنه سمع علياً يقول: أنا فقأت عين الفتنة، ولولا أنا ما قتل أهل النهروان وأهل الجمل، ولولا أنني أخشى أن تتركوا العمل لأنبأتكم بالذي قضى الله على لسان نبيكم (صلی الله علیه و آله) لمن قاتلهم مستبصراً ضلالهم، عارفاً للهدى الذي نحن عليه.وقال علي (علیه السلام)

يوم الجمل:وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ. ثم حلف حين قرأها أنه ما قوتل عليها منذ نزلت حتى اليوم)!

وأرسلت عائشة رجلاً ناصبياً الى علي (علیه السلام)

روى في بصائر الدرجات/263، بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال:( إن عايشة قالت: إلتمسوا لي رجلاً شديد العداوة لهذا الرجل حتى أبعثه إليه. قال: فأُتِيَتْ به فمثُل بين يديها فرفعت إليه رأسها فقالت: ما بلغ من عداوتك لهذا الرجل؟ قال فقال لها:كثيراً ما أتمنى على ربي أنه وأصحابه في وسطي، فضربته ضربة بالسيف فسبق السيف الدم. قالت: فأنت له، فاذهب بكتابي هذا فادفعه إليه ظاعناً رأيته أو مقيماً، أما إنك إن رأيته راكباً على بغلة رسول الله (صلی الله علیه و آله) متنكباً قوسه معلقاً كنانته بقربوس سرجه، وأصحابه خلفه كأنهم طير صواف، فتعطيه كتابي هذا، وإن عرض عليك طعامه وشرابه فلا تناولنَّ منه شيئاً، فإن فيه السحر! قال: فاستقبلته راكباً فناولته الكتاب ففض خاتمه ثم قرأه، فقال: تبلغ إلى منزلنا فتصيب من طعامنا وشرابنا، ونكتب جواب كتابك، فقال هذا والله ما لايكون! قال فسار خلفه فأحدق به أصحابه،ثم قال له: أسألك؟قال: نعم. قال: وتجيبني؟ قال: نعم. قال: فنشدتك الله هل قالت: إلتمسوا لي رجلاً شديداً عداوته لهذا الرجل فأتوها بك فقالت لك: ما بلغ من عداوتك لهذا الرجل؟ فقلت:كثيراً ما أتمنى على ربي أنه وأصحابه في وسطي وأني ضربته ضربة بالسيف يسبق

ص: 196

السيف الدم؟ قال: اللهم نعم. قال: فنشدتك الله، أقالت لك إذهب بكتابي هذا فادفعه إليه ظاعناً كان أو مقيماً، أما إنك إن رأيته راكباً بغلة رسول الله متنكباً قوسه معلقاً كنانته بقربوس سرجه، وأصحابه خلفه كأنهم طير صواف، فتعطيه كتابه هذا. فقال: اللهم نعم. قال: فنشدتك بالله هل قالت لك: إن عرض عليك طعامه وشرابه فلاتناولن منه شيئاً فإن فيه السحر؟ قال: اللهم نعم. قال: فمبلغ أنت عني؟ قال: اللهم نعم، فإني أتيتك وما في الأرض خلق أبغض إليّ منك، وأنا الساعة ما في الأرض خلق أحب إليَّ منك، فمرني بما شئت! قال: إرجع إليها بكتابي هذا، وقل لها: ما أطعت الله ولا رسوله (صلی الله علیه و آله) حيث أمرك الله بلزوم بيتك، فخرجت ترددين في العساكر. وقل لهم: ما أنصفتم الله ولا رسوله حيث خلفتم حلايلكم في بيوتكم، وأخرجتم حليلة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! قال: فجاء بكتابه حتى طرحه إليها، وأبلغها مقالته ثم رجع إليه، فأصيب بصفين، فقالت: ما نبعث إليه بأحد إلا أفسده علينا)!

ورواه في المناقب (2/96) والثاقب/263، والخرائج (2/724) وفيه دلالة على ضغن عائشة، وأن عقيدتها في السحر والجن عقيدة عرب الجزيرة، وأن تهمتها لعلي هي نفس تهمة قريش للنبي (صلی الله علیه و آله) وأبی طالب، ثم اتهموا بها علياً (علیه السلام) .

وأرسل اليه طلحة والزبير رجلاً ناصبياً!

في الكافي (1/343) بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال:(بعث طلحة والزبير رجلاً من عبد القيس يقال له: خداش إلى أميرالمؤمنين صلوات الله عليه، وقالا له: إنا نبعثك إلى رجل طال ما كنا نعرفه وأهل بيته بالسحر والكهانة، وأنت أوثق من بحضرتنا من أنفسنا من أن تمتنع من ذلك، وأن تحاجه لنا حتى تقفه على أمر معلوم، واعلم أنه أعظم الناس دعوى فلا يكسرنك ذلك عنه، ومن الأبواب التي يخدع الناس بها الطعام والشراب والعسل والدهن، وأن يخالي الرجل، فلا تأكل له طعاماً، ولا تشرب له شراباً، ولا تمس له عسلاً ولا دهناً ولا تخل معه

ص: 197

واحذر هذا كله منه، وانطلق على بركة الله فإذا رأيته فاقرأ آية السخرة، وتعوذ بالله من كيده وكيد الشيطان. فإذا جلست إليه فلا تمكنه من بصرك كله ولا تستأنس به. ثم قل له: إن أخويك في الدين وابني عمك في القرابة يناشدانك القطيعة، ويقولان لك: أما تعلم أنا تركنا الناس لك وخالفنا عشائرنا فيك منذ قبض الله عز وجل محمداً (صلی الله علیه و آله) فلما نلت أدنى منال، ضيعت حرمتنا وقطعت رجاءنا، ثم قد رأيت أفعالنا فيك وقدرتنا على النأي عنك، وسعة البلاد دونك.

وإن من كان يصرفك عنا، وعن صلتنا كان أقل لك نفعاً وأضعف عنك دفعاً منا، وقد وضح الصبح لذي عينين، وقد بلغنا عنك انتهاك لنا ودعاء علينا، فما الذي يحملك على ذلك؟ فقد كنا نرى أنك أشجع فرسان العرب، أتتخذ اللعن لنا ديناً، وترى أن ذلك يكسرنا عنك.

فلما أتى خداش أميرالمؤمنين (علیه السلام) صنع ما أمراه، فلما نظر إليه علي (علیه السلام) وهو يناجي نفسه ضحك وقال: هاهنا يا أخا عبد قيس، وأشار له إلى مجلس قريب منه، فقال: ما أوسع المكان، أريد أن أؤدي إليك رسالة، قال: بل تطعم وتشرب وتحل ثيابك وتدهن ثم تؤدي رسالتك. قم يا قنبرفأنزله قال: ما بي إلى شئ مما ذكرت حاجة، قال: فأخلو بك؟ قال: كل سر لي علانية.

قال: فأنشدك بالله الذي هو أقرب إليك من نفسك، الحائل بينك وبين قلبك، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أتقدم إليك الزبير بما عرضت عليك؟ قال: اللهم نعم. قال: لو كتمت بعدما سألتك ما ارتد إليك طرفك، فأنشدك الله هل علمك كلاماً تقوله إذا أتيتني؟ قال: اللهم نعم. قال علي (علیه السلام) : آية السخرة؟ قال: نعم. قال: فاقرأها، وجعل علي (علیه السلام) يكررها ويرددها ويفتح عليه إذا أخطأ حتى إذا قرأها سبعين مرة، قال الرجل: ما يرى أميرالمؤمنين أمره بترديدها سبعين مرة. ثم قال له: أتجد قلبك اطمأن؟قال: إي والذي نفسي بيده. قال: فما قالا لك؟فأخبره. فقال: قل لهما: كفى بمنطقكما حجة عليكما، ولكن الله لايهدي القوم الظالمين، زعمتما أنكما أخواي في الدين وابنا عمي في النسب، فأما النسب فلا أنكره وإن كان النسب مقطوعاً إلا ما

ص: 198

وصله الله بالإسلام، وأما قولكما إنكما أخواي في الدين، فإن كنتما صادقين فقد فارقتما كتاب الله عز وجل، وعصيتما أمره بأفعالكما في أخيكما في الدين، وإلا فقد كذبتما وافتريتما بادعائكما أنكما أخواي في الدين. وأما مفارقتكما الناس منذ قبض الله محمداً (صلی الله علیه و آله) فإن كنتما فارقتماهم بحق، فقد نقضتما ذلك الحق بفراقكما إياي أخيراً، وإن فارقتماهم بباطل فقد وقع إثم ذلك الباطل عليكما مع الحدث الذي أحدثتما، مع أن صفقتكما بمفارقتكما الناس لم تكن إلا لطمع الدنيا، زعمتما وذلك قولكما: ت رجاءنا: لا تعيبان بحمد الله من ديني شيئاً، وأما الذي صرفني عن صلتكما، فالذي صرفكما عن الحق وحملكما على خلعه من رقابكما كما يخلع الحرون لجامه، وهو الله ربي لا أشرك به شيئاً، فلا تقولا: أقل نفعاً وأضعف دفعاً، فتستحقا اسم الشرك مع النفاق! وأما قولكما: إني أشجع فرسان العرب، وهربكما من لعني ودعائي، فإن لكل موقف عملاً إذا اختلفت الأسنة وماجت لبود الخيل،وملأ سحرا كما أجوافكما فثم يكفيني الله بكمال القلب.

وأما إذا أبيتما بأني أدعو الله، فلا تجزعا من أن يدعو عليكما رجل ساحر من قوم سحرة زعمتما! اللهم أقعص الزبير بشر قتلة، واسفك دمه على ضلالة، وعرف طلحة المذلة وادخر لهما في الآخرة شراً من ذلك، إن كانا ظلماني وافتريا علي وكتما شهادتهما، وعصياك وعصيا رسولك فيَّ.قل: آمين، قال خداش: آمين.

ثم قال خداش لنفسه: والله ما رأيت لحية قط أبين خطأ منك، حامل حجة ينقض بعضها بعضاً، لم يجعل الله لها مساكاً، أنا أبرأ إلى الله منهما! قال علي (علیه السلام) : إرجع إليهما وأعلمهما ما قلت، قال:لا والله حتى تسأل الله أن يردني إليك عاجلاً وأن يوفقني لرضاه فيك، ففعل، فلم يلبث أن انصرف وقتل معه يوم الجمل).

أقول: آية السخرة التي أوصياه أن يقرأها هي قوله تعالى في سورة الأعراف:54: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وهي تقرأ لدفع شر السحر، وبعض الر وايات تضيف اليها آيتين هما:أدْعُوا

ص: 199

رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.

واستمرت قريش في اتهام بني هاشم بالسحر

كانت قريش تتهم النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه ساحر، فلما دخلوا في الإسلام توقفوا عن تهمتهم له، لكنهم واصلوا تهمتهم لبيت أبی طالب وعلي (علیه السلام) بأنهم بيت سحر!

وقد وردت هذه التهمة على لسان عائشة وطلحة والزبير كما رأيت، وقبلهما على لسان عمر بن الخطاب! فقد صح عندنا (بصائر الدرجات/294): (عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: إن أميرالمؤمنين (علیه السلام) لقي أبا بكر فاحتج عليه ثم قال له: أما ترضى برسول الله (صلی الله علیه و آله) بيني وبينك؟ قال: فكيف لي به؟ فأخذ بيده وأتى مسجد قُبا فإذا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيه، فقضى على أبي بكر، فرجع أبوبكر مذعوراً، فلقي عمر فأخبره فقال: مالك! أما علمت سحر بني هاشم)!

وفي الخرائج للقطب الراوندي(1/233): (عن سلمان الفارسي أن علياً (علیه السلام) بلغه عن عمر ذكره لشيعته (أنه يريد قتلهم) فاستقبله في بعض طرقات بساتين المدينة وفي يد علي (علیه السلام) قوس عربية، فقال علي: يا عمر بلغني عنك ذكر شيعتي فقال: إربع على ظلعك (أي إقبل وامش بعرجك) قال علي: إنك لها هنا! ثم رمى بالقوس إلى الأرض، فإذا هي ثعبان كالبعيرفاغرٌ فاهُ، وقد أقبل نحو عمر ليبتلعه! فصاح عمر: الله الله يا أبا الحسن لاعدت بعدها في شئ! وجعل يتضرع إليه، فضرب علي يده إلى الثعبان، فعادت القوس كما كانت، فمضى عمر إلى بيته مرعوباً! قال سلمان: فلما كان في الليل دعاني علي (علیه السلام) فقال: صِرْ إلى عمر فإنه حُمل إليه مال من ناحية المشرق ولم يعلم به أحد، وقد عزم أن يحتبسه فقل له: يقول لك علي: أخرج ما حمل إليك من المشرق ففرقه على من جعل لهم، ولا تحبسه فأفضحك! قال سلمان: وأديت إليه الرسالة فقال: حيرني أمر صاحبك، فمن أين علم هو به؟ قلت: وهل يخفى عليه مثل هذا! فقال: يا سلمان إقبل مني ما أقول لك: ما علي إلا ساحر، وإني لمشفق عليك منه،

ص: 200

والصواب أن تفارقه وتصير في جملتنا! قلت: بئسما قلت، لكن علياً قد ورث من آثار النبوة ما قد رأيت منه وما هو أكبر منه. قال: إرجع إليه فقل له: السمع والطاعة لأمرك! فرجعت إلى علي (علیه السلام) فقال: أحدثك بما جرى بينكما؟ فقلت: أنت أعلم به مني، فتكلم بكل ما جرى بيننا، ثم قال: إن رعب الثعبان في قلبه إلى أن يموت)!

أقول: عقيدتنا أن علياً وأئمة العترة (علیهم السلام) عندهم علم الظاهر والباطن، فعندهم الإسم الأعظم، ولكنهم لا يستعملون العلم الباطن إلا إذا أمروا بذلك، بالإلهام، أو تحدثهم الملائكة. وهذه الرواية تعني أن علياً (علیه السلام) استعمل قدرته مع عمر لتخويفه بالثعبان، ليرده عن اضطهاد شيعته وإبادتهم!

وأتم الإمام الحجة فأرسل ابن عباس يدعوهم الى القرآن

قال المفيد في كتاب الجمل/179: (ثم إن أميرالمؤمنين (علیه السلام) رحل بالناس إلى القوم غداة الخميس لعشرمضين من جمادى الأولى، وعلى ميمنته الأشتر، وعلى ميسرته عمار بن ياسر، وأعطى الراية محمد بن الحنفية ابنه، وسار حتى وقف موقفاً، ثم نادى في الناس:لاتعجلوا حتى أعذر إلى القوم.

ودعا عبدالله بن العباس فأعطاه المصحف وقال: إمض بهذا المصحف إلى طلحة والزبير وعائشة وادعهم إلى ما فيه، وقل لطلحة والزبير: ألم تبايعاني مختارين، فما الذي دعاكما إلى نكث بيعتي، وهذا كتاب الله بيني وبينكما!

قال عبدالله بن العباس: فبدأت بالزبير وكان عندي أبقاهما علينا، وكلَّمته في الرجوع وقلت له: إن أميرالمؤمنين (علیه السلام) يقول لك: ألم تبايعني طائعاً، فبمَ تستحل قتالي؟ وهذا المصحف وما فيه بيني وبينك فإن شئت تحاكمنا إليه.قال: إرجع إلى صاحبك فإنا بايعنا كارهين، وما لي حاجة في محاكمته.فانصرفت عنه إلى طلحة والناس يشتدون والمصحف في يدي، فوجدته قد لبس الدرع وهومحتبٍ بحمائل سيفه ودابته واقفة، فقلت له: إن أمير المؤمنين يقول لك: ما حملك على

ص: 201

الخروج وبمَ استحللت نقض بيعتي والعهد عليك؟ قال: خرجت أطلب بدم عثمان، أيظن ابن عمك أنه قد حوى على الأمر حين حوى على الكوفة، وقد والله كتبت إلى المدينة تؤخذ لي بمكة. فقلت له: إتق الله يا طلحة فإنه ليس لك أن تطلب بدم عثمان، وولده أولى بدمه منك، هذا أبان بن عثمان ما ينهض في طلب دم أبيه؟ قال طلحة: نحن أقوى على ذلك منه، قتله ابن عمك وابتز أمرنا! فقلت له: أذكرك الله في المسلمين وفي دمائهم، وهذا المصحف بيننا وبينكم، والله ما أنصفتم رسول الله إذ حبستم نساءكم في بيوتكم وأخرجتم حبيسة رسول الله! فأعرض عني ونادى بأصحابه: ناجزوا القوم فإنكم لاتقومون لحجاج ابن أبی طالب! فقلت: يا أبا محمد أبالسيف تخوف ابن أبی طالب! أما والله ليعاجلنك للسيف! فقال: ذلك بيننا وبينكم!

قال فانصرفت عنهما إلى عائشة وهي في هودج، وقد دفف بالدروع على جملها عسكر، وكعب بن سور القاضي آخذ بخطامه وحولها الأزد وضبة، فلما رأتني قالت: ما الذي جاء بك يا ابن عباس؟والله لاسمعت منك شيئاً! إرجع إلى صاحبك وقل له: ما بيننا وبينك إلا السيف! وصاح مَن حولها: إرجع يا ابن عباس لئلا يسفك دمك. فرجعت إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) فأخبرته الخبر وقلت: ما تنتظر، والله لايعطيك القوم إلا السيف، فاحمل عليهم قبل أن يحملوا عليك. فقال (علیه السلام) : نستظهر بالله عليهم.

قال ابن عباس: فوالله ما رمت من مكاني حتى طلع عليَّ نَشّابهم كأنه جراد منتشر، فقلت: أما ترى يا أمير المؤمنين، إلى ما يصنع القوم! مُرْنا ندفعهم)!

في الكافي (5/53): (أن أمير المؤمنين (علیه السلام) خطب يوم الجمل فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني أتيت هؤلاء القوم و دعوتهم واحتججت عليهم، فدعوني إلى أن أصبر للجلاد وأبرز للطعان، فلأمهم الهبل وقد كنت وما أهدد بالحرب ولا أرهب بالضرب، أنصف القارة من راماها! فلغيري فليبرقوا وليرعدوا، فأنا أبو الحسن الذي فللت حدهم، وفرقت جماعتهم، وبذلك القلب ألقى عدوي، وأنا على ما وعدني ربي من النصر والتأييد والظفر، وإني لعلى يقين من ربي، وغير شبهة من أمري.

أيها الناس: إن الموت لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب، ليس عن الموت محيص،

ص: 202

ومن لم يمت يقتل، وإن أفضل الموت القتل، والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من ميتة على فراش.

واعجباً لطلحة ألب الناس على ابن عفان حتى إذا قتل أعطاني صفقته بيمينه طائعاً، ثم نكث بيعتي! اللهم خذه ولا تمهله. وإن الزبيرنكث بيعتي وقطع رحمي وظاهر علي عدوي، فاكفنيه اليوم بما شئت).

انسحب الزبير وقتل وهو راجع الى المدينة

1. نصت الروايات على أن علياً دعا طلحة والزبير الى مابين الصفين فجاءا وكلمهما، ثم طلب أن يكلم الزبير على حدة فانفردا. وعاد طلحة الى قرب معسكرهم، وبعد أن قرر الزبير ترك المعركة، نادى علي (علیه السلام) طلحة وكلمه مرة ثانية بعد الظهر، فأراد أن ينسحب، فرماه مروان بسهم وقتله.

ففي الإحتجاج (1/237):(عن سليم بن قيس الهلالي قال: لما التقى أميرالمؤمنين (علیه السلام) أهل البصرة يوم الجمل، نادى الزبيرَ يا أبا عبدالله أخرج إليَّ، فخرج الزبير ومعه طلحة، فقال لهما:والله إنكما لتعلمان وأولوا العلم من آل محمد وعائشة بنت أبي بكرأن كل أصحاب الجمل ملعونون على لسان محمد (صلی الله علیه و آله) ، وقد خاب من افترى! قالا:كيف نكون ملعونين ونحن أصحاب بدر وأهل الجنة! فقال (علیه السلام) : لو علمت أنكم من أهل الجنة لما استحللت قتالكم، فقال له الزبير: أما سمعت حديث سعيد بن عمرو بن نفيل، وهو يروي أنه سمع رسول الله يقول: عشرة من قريش في الجنة؟ قال علي (علیه السلام) : سمعته يحدث بذلك عثمان في خلافته! فقال الزبير: أفتراه كذب على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فقال له علي (علیه السلام) : لستُ أخبرك بشئ حتى تسميهم؟ قال الزبير: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبوعبيدة بن الجراح، وسعيد بن عمرو بن نفيل. فقال له علي (علیه السلام) : عددتَ تسعة فمن العاشر؟قال له: أنت! قال علي (علیه السلام) : قد أقررتَ أني من أهل الجنة، وأما ما ادعيت لنفسك وأصحابك

ص: 203

فأنا به من الجاحدين الكافرين! قال له: أفتراه كذب على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! قال (علیه السلام) : ما أراه كذب، ولكنه والله اليقين! فقال علي (علیه السلام) :والله إن بعض من سميته لفي تابوتٍ في شِعْبٍ في جُبٍّ في أسفل دركٍ من جهنم، على ذلك الجُب صخرة إذا أراد الله أن يسعر جهنم رفع تلك الصخرة! سمعت ذلك من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإلا أظفرك الله بي وسفك دمي على يديك! وإلا أظفرني الله عليك وعلى أصحابك وسفك دماءكم على يدي، وعجل أرواحكم إلى النار! فرجع الزبير إلى أصحابه وهو يبكي)!

أقول: هذه مباهلة أن يَقتل الله المبطل منهما، وقد استجاب الله فقُتل طلحة والزبير.

2. قال الطبري(3/514): (فالتقوا عند موضع قصرعبيد الله بن زياد في النصف من جمادى الآخرة سنة 36، يوم الخميس، فلما تراءى الجمعان خرج الزبيرعلى فرس عليه سلاح فقيل لعلي هذا الزبير، قال: أما إنه أحرى الرجلين إن ذُكِّرَ بالله أن يذكر. وخرج طلحة فخرج إليهما علي فدنا منهما حتى اختلفت أعناق دوابهم فقال علي: لعمري لقد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً، إن كنتما أعددتما عند الله عذراً فاتقيا الله سبحانه، ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً.

ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي وأحرم دماءكما،فهل من حدثٍ أحل لكما دمي؟ قال طلحة:ألبت الناس على عثمان. قال علي (علیه السلام) :يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَالْحَقُّ الْمُبِينُ. يا طلحة تطلب بدم عثمان فلعن الله قتلة عثمان! يا زبيرأتذكر يوم مررتُ مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في بني غنم فنظر إليَّ فضحك وضحكتُ إليه فقلتَ:لايدع ابن أبی طالب زهوه! فقال لك رسول الله (صلی الله علیه و آله) : صه إنه ليس به زهو، ولتقاتلنه وأنت له ظالم! فقال: اللهم نعم، ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا. والله لا أقاتلك أبداً! فانصرف علي إلى أصحابه فقال: أما الزبير فقد أعطى الله عهداً ألا يقاتلكم! ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها:ما كنت في موطن منذ عقلت إلاوأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا! قالت: فما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أدعهم وأذهب. فقال له ابنه عبدالله: جمعت بين هذين الغارين (الجمعين) حتى إذا حدد بعضهم لبعض، أردت أن تتركهم وتذهب، أحسست رايات ابن أبی طالب، وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد!

ص: 204

قال: إني قد حلفت ألا أقاتله، وأحفظه ما قال له. فقال: كَفِّر عن يمينك وقاتله، فدعا بغلام له يقال له مكحول فأعتقه، فقال عبد الرحمن بن سليمان:

لم أر كاليوم أخا إخوان *** أعجب من مكفر الأيْمان

بالعتق في معصية الرحمن!

وقال رجل من شعرائهم:

يعتق مكحولاً لصون دينه *** كفارةً لله عن يمينه

والنكث قد لاحَ على جبينه).

3. وقال المسعودي في مروج الذهب (2/362): (وخرج علي بنفسه حاسراً على بغلة رسول الله (صلی الله علیه و آله) لاسلاح عليه فنادى: يا زبير أخرج إليّ، فخرج اليه الزبير شاكياً في سلاحه، فقيل ذلك لعائشة فقالت: وا ثَكْلَكِ يا أسماء! فقيل لها: إن علياً حاسر فاطمأنت، واعتنق كل واحد منهما صاحبه فقال له علي: ويحك يا زبير، ما الذي أخرجك؟ قال: دم عثمان، قال: قتَلَ الله أولانا بدم عثمان! أما تذكر يوم لقيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) في بني بيَاضة وهو راكب حماره فضحك إلي رسول الله (صلی الله علیه و آله) وضحكت اليه وأنت معه، فقلت أنت: يا رسول الله ما يدع عليٌّ زَهْوه فقال لك: ليس به زهو، أتحبه يا زبير؟فقلت: إني والله لأحبه، فقال لك: إنك والله ستقاتله وأنت له ظالم! فقال الزبير:أستغفر الله، والله لو ذكرتها ما خرجت! فقال له: يا زبير إرجع، فقال: وكيف أرجع الآن وقد التقت حَلقَتَا البِطان، هذا والله العار الذي لا يغسل! فقال: يا زبير إرجع بالعار قبل أن تجمع العار والنار! فرجع الزبير وهو يقول:

إخترت عاراً على نار مؤجَّجَةٍ *** ما إنْ يقوم لها خلق من الطين

نادى عليٌّ بأمر لست أجهله *** عارٌ لعمرك في الدنيا وفي الدين

فقلت حسبك من عَذلٍ أبا حسن *** فبَعْض هذا الذي قد قلت يكفيني

فقال ابنه عبدالله: أين تذهب وتدعنا؟ فقال:يا بني أذكرَني أبو الحسن بأمر

ص: 205

كنت قد أنسيته. فقال: لا والله، ولكنك فررت من سيوف بني عبد المطلب، فإنها طوال حِدَاد، تحملها فتية أنجاد! قال: لا والله، ولكني ذكرت ما أنسانيه الدهر فاخترت العار على النار، أبالجبن تعيرني لا أباً لك! ثم أمال سنانه وشدَّ في الميمنة فقال علي (علیه السلام) : أفرجوا له فقد هاجوه، ثم رجع فشد في الميسرة، ثم رجع فشد في القلب، ثم عاد الى ابنه، فقال: أيفعل هذا جبان؟ ثم مضى منصرفاً، حتى أتى وادي السباع والأحنَفُ بن قيس معتزل في قومه من بني تميم، فأتاه آت فقال له: هذا الزبير ماراً، فقال:ما أصنع بالزبير وقد جمع بين فئتين عظيمتين من الناس يقتل بعضهم بعضاً وهو مارٌّ إلى منزله سالماً! فلحقه نفرمن بني تميم، فسبقهم اليه عمرو بن جُرموز وقد نزل الزبير إلى الصلاة، فقال: أتؤُمُّني أو أَؤُمُّك؟ فأمه الزبير فقتله عمرو في الصلاة.

وقتل الزبير وله خمس وسبعون سنة،وقد قيل إن الأحنف بن قيس قتله بإرساله من أرسل من قومه.وقد رثته الشعراء وذكرت غدْرَ عمرو بن جُرْموز به، وممن رثاه زوجته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفَيْل أخت سعيد بن زيد، فقالت:

غدَرَ ابن جرموزٍ بفارس بُهْمةٍ *** يوم اللقاء وكان غير مسدَّدِ

يا عمرو لو نبهته لوجدته *** لا طائشاً رعش الجنان ولا اليد

هَبِلتْك أمك إن قتلت لمسلماً *** حلت عليك عقوبة المتعمد

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله *** فيمن مضى ممن يروح ويغتدي

وأتى عمرو علياً بسيف الزبيروخاتمه ورأسه. وقيل إنه لم يأت برأسه، فقال علي: سيفٌ طالما جلا الكرب عن وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) لكنه الحينُ ومصارع السوء، وقاتل ابن صفية في النار! ففي ذلك يقول عمرو بن جرموز التميمي:

أتيت علياً برأس الزبير *** وقد كنت أرجو به الزلفة

فبشر بالنار قبل العِيان *** وبئس بشارة ذي التحفة

لسيَّان عندي قتل الزبير *** وضرطة عنز بذي الجحفه

4. وفي الدر النظيم (1/346): (وأكثر علي (علیه السلام) مراسلة طلحة والزبير وعائشة مراراً

ص: 206

كثيرة، يدعوهم الى التوبة ويأمرهم بالرجوع إلى الطاعة. وتكلم الزبير بكلام يدل على أنه ينصرف عن القتال فأنكره عليه ابنه عبدالله، وقال له كلاماً معناه: قد جبنت لما رأيت رايات علي، وهِبت سيوف بني عبد المطلب. فحمل الزبير فرسه على العسكر مراراً ليعلم الناس أنه ليس بجبان، ثم انصرف)!

5. ترك الزبير المعركة بعد اصطفاف الصفوف للحرب، لكنه كان وفياً لعائشة أخت زوجته وخالة ابنه عبدالله! فبعد لقائه المؤثر مع علي (علیه السلام) اكتفى بالقول لعائشة إنه يشك ولايرى نفسه على الحق، وإنه قرر الانسحاب والعودة إلى المدينة! ولما سأله ابنه عبدالله كما روى ابن قتيبة:(فما يردُّك؟ قال:يردني ما إن علمته كَسَرَك)! فقد أراد من ابنه وعائشة وطلحة أن يواصلوا المعركة ضد علي! ولذا لم يخبرهم بحديث النبي (صلی الله علیه و آله) الذي ذكَّره به علي (علیه السلام) ، ولا طلب منهم تجنب إراقة دماء المسلمين والصلح مع علي (علیه السلام) !

وقد حاولت عائشة وابنه عبدالله أن يثيروا نخوته فاتهموه بالجبن أمام سيوف بني عبد المطلب! لكنه لم يخضع لذلك، وأجابهم أني سأثبت لكم الآن أني لست جباناً، وركب فرسه وأغار على جيش علي (علیه السلام) فعرف علي (علیه السلام) أنه هجوم لإثبات الشجاعة! فأمر الجيش أن يفتحوا له الطريق ولا يقاتلوه، فشق الزبير الجيش وأكمل طريقه عائداً إلى المدينة! وخسرت عائشة به ركناً من أركانها، ولكنها تعزت بولده عبدالله، فهو أشد بغضاً لعلي وبني هاشم!

6. روى البلاذري(2/251) انسحاب الزبير ومقتل طلحة بشكل آخر، فقال ملخصاً: (فلما تواقفوا قال عليّ لطلحة: خبأت عرسك في خدرها وجئت بعرس رسول الله (صلی الله علیه و آله) تقاتل بها! ويحك أما بايعتني؟ قال بايعتك والسيف على عنقي. ثم قال علي للزبير: يا زبير قف بنا حجزةً، فتواقفا حتى اختلفت أعناق فرسيهما فقال: ويحك يا زبير أما سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول لي: أما إن ابن عمتك هذا سيبغي عليك ويريد قتالك ظالماً؟ قال: اللهم بلى. فرجع عن قتاله وسار

ص: 207

من البصرة ليلة فنزل ماء لبني مجاشع فأتبعه عمرو بن جرموز، وفضيل بن عابس ونفيل بن حابس من بني تميم فركضوا أفراسهم في أثره، وقد كان النعر بن زمام المجاشعي لقيه فأجاره، وأجاره أيضاً رجل من بني سعد يكنى أبا المضرحي، فلما لحقه ابن جرموز وصاحباه خرجا هاربين فقال لهما الزبير: إلى أين؟ إلي إنما هم ثلاثة ونحن ثلاثة. فأسلماه ولحقه القوم فعطف عليهم فحمل عليه ابن جرموز، فنصب له الزبير فانصرف عنه، وحمل عليه الإثنان من ورائه فالتفت إليهما، وحمل عليه ابن جرموز فطعنه فوقع فاعتوروه فقتلوه، واحتز ابن جرموز رأسه فجاء به إلى الأحنف، ثم أتاه علياً فقال قولوا لأمير المؤمنين: قاتل الزبير بالباب. فقال: بشروا قاتل ابن صفية بالنار! وجاءه ابن جرموز بسيفه فقال علي: سيف طال ما جلى به الكرب عن وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولكنه الحين ومصارع السوء. ثم أقبل علي وولده يبكون، فقال ابن جرموز: ظننت أني قتلت عدواً له، ولم أظن أني إنما قتلت له ولياً حميماً)!

7. وروى ابن شعبة عن الإمام الهادي في تحف العقول/480: (وأما قول علي (علیه السلام) : بشر قاتل ابن صفية بالنار، فهو لقول رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وكان ممن خرج يوم النهروان. فلم يقتله أميرالمؤمنين (علیه السلام) بالبصرة، لأنه علم أنه يقتل

في فتنة النهروان).

8. ثم روى البلاذري رواية أخرى، قال: فتواقفا فقال له علي: ما جاء بك؟قال: جاء بي أني لاأراك لهذا الأمرأهلاً ولا أولى به منا. فقال علي:لست أهلاًلها بعد عثمان! قد كنا نعدك من بني عبد المطلب حتى نشأ ابنك ابن السوء ففرق بيننا وبينك! وعظَّم عليه أشياء، وذكره أن النبي (صلی الله علیه و آله) مرَّ عليهما فقال لعلي: مايقول ابن عمتك، ليقاتلنك وهو لك ظالم! فانصرف عنه الزبير وقال: فإني لا أقاتلك!

ثم قال البلاذري: ثم جاء فارسان إلى الأحنف فأكبا عليه يناجيانه، فرفع الأحنف رأسه فقال: يا عمرو بن جرموز، يا فلان، فأتياه فأكبا عليه فناجاهما ساعة ثم انصرفا، ثم جاء عمرو بن جرموز إلى الأحنف فقال: أدركته في وادي السباع فقتلته. فكان قرة

ص: 208

بن الحرث يقول: والذي نفسي بيده، إنْ صاحب الزبير إلا الأحنف. ثم قال البلاذري: وأتى ابن جرموز علياً برأسه، فأمر أن يدفن مع جسده بوادي السباع).

9. وفي كتاب الجمل للمفيد/209: (فاحتز رأسه وجاء به إلى الأحنف فأنفذه إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) فلما رأى رأس الزبير وسيفه قال: ناولني السيف فناوله فهزه وقال: سيف طالما قاتل به بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) !ولكنه الحين ومصارع السوء. ثم تفرس في وجه الزبير وقال: لقد كان لك برسول الله (صلی الله علیه و آله) صحبة، ومنه قرابة، ولكن دخل الشيطان منخرك، فأوردك هذا المورد)!

أقول: ذكر كثير من المؤرخين والمحدثين أن مقتل الزبير كان يوم الجمل في العاشر من جمادى الأولى، لكن المعركة بدأت الخميس منتصف جمادى الثانية، وانسحب الزبير يومها، والمرجح أنه قتل في اليوم الثاني، لأن قبره يبعد عن مكان المعركة مسافة، وقد انسحب في وسط النهار. كما أنه لم يصح عندنا توبة الزبير ولا طلحة قبل موتهما، وما جاء في رواية البلاذري فهو على مذهب الحكومات في مدح طلحة والزبير، وتبريرخروجهما على علي (علیه السلام) .

مقتل طلحة بعد أن فكر بالإنسحاب من المعركة

1. قال المسعودي في مروج الذهب (2/363): (ثم نادى علي رضي الله عنه طلحة حين رجع الزبير:يا أبا محمد، ما الذي أخرجك؟ قال: الطلب بدم عثمان، قال علي: قتل الله أولانا بدم عثمان! أما سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأنت أول من بايعني ثم نكثت، وقد قال الله عز وجل: وَمَنْ نَكَثَ فإنَّما يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ. فقال: أستغفرالله، ثم رجع! فقال مروان بن الحكم: رجع الزبير ويرجع طلحة! ما أبالي رميت هاهنا أم هاهنا، فرماه في أكحلهِ فقتله! فمر به علي (علیه السلام) بعد الوقعة في موضعه في قنطرة قرة، فوقف عليه فقال:إنا لله وإنا اليه راجعون والله لقدكنت كارهاً لهذا.أنت والله كما قال القائل:

ص: 209

فتىً كان يُدنيه الغنى من صديقه *** إذا ما هو استغنى ويُبْعِدُه الفقر

كأن الثريَّا عُلِّقت في يمينه *** وفي خده الشعرى وفي الآخر البدر

وذكر أن طلحة رضي الله عنه لما ولَّى ، سُمع وهو يقول :

ندامة ما ندمت وضل حلمي *** ولهفي ثم لهف أبي وأمي

ندمت ندامة الكُسَعِيِّ لما *** طلبت رضا بني جَرْم بزعمي

وهو يمسح عن جبينه الغبار ويقول: وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَقْدُوراً.وقيل إنه سُمع وهو يقول هذا الشعر وقد جرحه في جبهته عبد الملك، ورماه مروان في أكحله وقد وقع صريعاً يجود بنفسه).

أقول: من البعيد أن يكون أمير المؤمنين (علیه السلام) استشهد بهذا البيت لطلحة.

2. في المناقب للموفق الخوارزمي/181، بسنده عن إياس الضبي قال:(عن مجزأة السدوسي قال: (مررت بطلحة وهو صريع بآخر رمق فقال:من أنت؟ فإني أرى وجهك كالقمرليلة البدر؟قال قلت: رجل من أصحاب أميرالمؤمنين، قال: فمد يدك أبايعك لأمير المؤمنين، فبسطت يدي فبايعني، ثم قضى نحبه، فأتيت علياً فأخبرته بمقالته، فقال: الله أكبر صدق الله ورسوله، أبى الله أن يدخله الجنة إلا وبيعتي في عنقه).

أقول: وهذه الرواية أيضاً على مذهب السلطة، تزعم أن طلحة تاب وأنه في الجنة، ويردها تصريحات أمير المؤمنين (علیه السلام) بهلاكه وهلاك الزبير.

3. قال القاضي المغربي في شرح الأخبار(1/402): عن نافع مولى ابن عمر أن طلحة قال لعلي بعد أن ذكره بحديث النبي (صلی الله علیه و آله) :اللهم وال من والاه وعاد من عاداه؟ قال طلحة: اللهم نعم. قال:لا أقاتلك بعد هذا! ثم روى أن سفيان الثوري كان يقول بأعلى صوته:والله ما أشك، لقد بايع طلحة والزبيرعلياً ولقد نكثا عليه، والله ما وجدا فيه لاعلة في دين،ولاخيانة في مال)!

ص: 210

4. في الإستيعاب(2/766و768):(زعم بعض أهل العلم أن علياً دعاه فذكَّره أشياء من سوابقه وفضله، فرجع طلحة عن قتاله على نحو ما صنع الزبير، واعتزل في بعض الصفوف فرميَ بسهم فقطع من رجله عرق النسا، فلم يزل دمه ينزف حتى مات..ولايختلف العلماء الثقات في أن مروان قتل طلحة يومئذ وكان في حزبه. عن يحيى بن سعيد:

قال طلحة يوم الجمل:

ندمت ندامة الكُسَعَيِّ لما *** شريت رضا بني جرم برغمي

وروى حصين عن عمرو بن جاوان قال: سمعت الأحنف يقول: لما التقوا كان أول قتيل طلحة بن عبيد الله. عن يحيى بن سعيد عن عمه قال: رمى مروان طلحة بسهم، ثم التفت إلى أبان بن عثمان فقال: قد كفيناك بعض قتلة أبيك)!

وروى نحوه الطبري في الرياض النظرة (4/264). وفي الإصابة (3/430) عن مصادر بأسانيد صحيحة. وعن ابن أبي شيبة بسند صحيح (7/256و:8/716).

5. وقال البلاذري (2/246): (أحيط بطلحة عند المساء ومعه مروان بن الحكم يقاتل فيمن يقاتل، فلما رأى مروان الناس منهزمين قال:والله لا أطلب ثاري بعثمان بعد اليوم أبداً، فانتحى لطلحة بسهم فأصاب ساقه فأثخنه، والتفت إلى أبان بن عثمان فقال له: قد كفيتك أحد قتلة أبيك! وجاء مولى لطلحة ببغلة له فركبها وجعل يقول لمولاه: أما من موضع نزول؟فيقول:لاقد رهقك القوم. فيقول:ما رأيت مصرع شيخ أضيع،وأدخل داراً من دور بني سعد فمات فيها).

وقال المفيد في كتاب الجمل/205: (قال لغلامه: إلتمس لي مكاناً أدخل فيه، فقال الغلام: ما أدري أين أدخلك! قال الحسن(البصري): وقد كان قبل ذلك جاهد جهاداً مع رسول الله ووقاه بيده فضيع أمر نفسه، ولقد رأيت قبره مأوى الشقاء فيضع عنده قريبه ثم يقضي عنده حاجته، فما رأيت أعجب من هؤلاء القوم!

وأما الزبير فإنه أتى حياً من أحياء العرب فقال: أجيروني وقد كان قبل ذلك يجير ولا يجار عليه! ثم قال الحسن: وما الذي أخافك والله ما أخافك إلا ابنك!

ص: 211

قال فاتَّبعه ابن جرموز في تلول من أتاليل العرب، والله ما رأيت مثله قط ضاع دمه! وهذا قبره بوادي السباع مخراة للثعالب! فخرجا ولم يدركا ما طلبا، ولم يرجعا إلى ما تركا، فعز عليَّ هذه الشقوة التي كتبت عليهما)!

6. وفي المصابيح لأحمد بن ابراهيم (1/305): (قال الحسن البصري: سمعت بعضهم يقول: واعجباً لطلحة والزبيرالناكثين على علي (علیه السلام) من غيرحدث فقتلا ضيعة، وجعلت قبورهما مخرأة)!

7. وقال ابن الأعثم في الفتوح (2/479): (وجعل طلحة ينادي بأعلى صوته: عباد الله! الصبر الصبر! إن بعد الصبرالنصروالأجر، قال: فنظر إليه مروان بن الحكم فقال لغلام له: ويلك يا غلام! والله إني لا أعلم أنه ما حرض على قتل عثمان يوم الدار أحد كتحريض طلحة، ولا قتله سواه! ولكن أسترني فأنت حر، قال: فستره الغلام ورمى مروان بسهم مسموم لطلحة بن عبيد الله فأصابه به، فسقط طلحة لما به وقد أغمي عليه، ثم أفاق فنظر إلى الدم يسيل منه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أظن والله أننا عنينا بهذه الآية من كتاب الله عز وجل

إذ يقول: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً، قال: ثم أقبل على غلامه وقد بلغ منه الجهد، قال: ويحك يا غلام! أطلب لي مكاناً أدخله فأكون فيه، فقال الغلام :لا والله ما أدري أين أنطلق بك! فقال طلحة:يا سبحان الله! والله ما رأيت كاليوم قط دم قرشي أضيع من دمي، وما أظن هذا السهم إلا سهماً أرسله الله، وكان أمر الله قدراً مقدوراً. فلم يزل طلحة يقول ذلك حتى مات. ثم وضع في مكان يقال له السبخة، ودخل من ذلك على أهل البصرة غم عظيم، وكذلك على عائشة لأنه ابن عمها، وجاء الليل فحجز بين الفريقين).

8. قال الخلال في كتابه السنة (2/425): (وهذا طلحة بن عبيد الله انتزع له مروان بن الحكم سهماً وهو معهم واقف يوم الجمل في الصف وقال: لا أطلب بدم عثمان أحداً غيرك، فرماه بسهم فقتله).

ص: 212

9. أقول: يظهر من بعض هذه النصوص أن طلحة قد انسحب من المعركة أو كاد، وأن قتله كان في آخر اليوم الأول للمعركة، وكان أول قتيل بقول الأحنف، ومعناه أن عائشة وحدها قادت المعركة بعده ستة أيام، حتى قتل جملها وأخذها أخوها محمد الى دار ابن خلف، والذي قُتل في سبيلها في تلك المعركة. والمعتمد عندي رواية ابن الأعثم، وأن طلحة كان يقاتل ويحرض كما يشير اليه قول أميرالمؤمنين (علیه السلام) :(سمعت ذلك من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإلا أظفرك الله بي وسفك دمي على يديك! وإلا أظفرني الله عليك وعلى أصحابك وسفك دماءكم على يدي، وعجل أرواحكم إلى النار)!

بل تدل عليه رواية البلاذري(2/245): (وقاتل طلحة بن عبيد الله يومئذ قتالاً شديداً فشدّ عليه جندب بن عبدالله الأزدي، فلما أمكنه أن يطعنه تركه كراهة لأن يقتله)!

أقول: كان جندب صديق الأشتر وشبيهه رضي الله عنهما، ولعله لم يقتل طلحة لما تمكن منه بوصية أمير المؤمنين (علیه السلام) ، لأنه يعلم أن مروان سيقتله، ويكون دمه برقبته!

قادت عائشة المعركة وحدها ستة أيام!

ما ورد في اليوم الأول والثاني من حرب الجمل

قال المفيد في كتاب الجمل/171: (لما عادت رسل أميرالمؤمنين من طلحة والزبير وعائشة، بإصرارهم على خلافه والعمل على حربه..كتَّب الكتائب ورتَّب العساكر، واستعمل على مقدمته عبدالله بن عباس، وعلى ساقته هند المرادي ثم الجملي، وهو الذي قال فيه عمر بن الخطاب سيد أهل الكوفة إسمه إسم امرأة. واستعمل على كافة الخيل عمار بن ياسر، وعلى جميع الرجالة محمد بن أبي بكر، وفرق الرايات من بعده، فجعل على خيل مذحج خاصة هند الجملي، وعلى رجالتها شريح بن هاني الحارثي، وعلى خيل همدان سعيد بن قيس، وعلى رجالتها زياد بن كعب بن مرة، وعلى خيل كندة حجر بن عدي، وعلى خيل بجيلة ورجالتها رفاعة بن شداد، وعلى خيل قضاعة ورجالتها عدي بن حاتم،

ص: 213

وعلى خيل خزاعة وأفناء اليمن عبدالله بن زيد، وعلى رجالتها عمرو بن الحمق الخزاعي، وعلى خيل الأزد جندب بن زهير، وعلى رجالتها أبا زينب، الذي شهد على الوليد بن عقبة بشرب الخمر وكان سبب صرفه وإقامة الحد عليه، وعلى خيل بكر بن وائل عبدالله بن هاشم السدوسي، وعلى رجالتها حسان بن مخدوع الذهلي، وعلى خيل عبد القيس من أهل الكوفة زيد بن صوحان العبدي، وعلى رجالتها الحرث بن مرة العبدي، وعلى خيل بكر بن وائل من أهل البصرة سفيان بن ثور السدوسي، وعلى رجالتها الحصين بن المنذر، وهوالذي قال فيه أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم صفين:

لمن راية سوداء يخفق ظلها *** إذا قيل قدمها حصينٌ تقدما

وعلى المهازم خاصة جوهر بن جابر الخفر، وعلى الذهليين خالد بن المعمر السدوسي، وعلى خيل عبد القيس من أهل البصرة المنذر بن الجارود العبدي، وعلى خيل أسد قبيصة بن جابر الأسدي، وعلى رجالتها العكبر بن وائل الأسدي، وهو الذي قتل محمد بن طلحة في ذلك اليوم، وعلى خيول أهل الكوفة من بني تميم عمير بن عطارد، وعلى رجالتها معقل بن قيس، وهو الذي سبى بني ناجية، وعلى خيل قيس غيلان من أهل الكوفة عبدالله بن الطفيل البكالي، وعلى رجالتها قرة بن نوفل الأشجعي صاحب النخيلة، وعلى خيل قريش وكنانة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال، وعلى رجالتها هاشم بن هاشم، وعلى من صار إليه من تميم البصرة جارية بن قدامة السعدي، وعلى رجالتها أعين بن ضبيعة،فأحاط العسكر يومئذ من الفرسان المعروفين والرجالة المشهورين على ستة عشر ألف رجل). ولكن رواية الإثني عشرألفٍ، أقوى.

وقال الذهبي في تاريخه (3/484): (قال سعيد بن جبير:كان مع علي يوم وقعة الجمل ثمان مائة من الأنصار،وأربع مائة ممن شهدوا بيعة الرضوان.عن السدي: شهد مع علي يوم الجمل مائة وثلاثون بدرياً وسبع مائة من أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) وقتل بينهما ثلاثون ألفاً، لم تكن مقتلة أعظم منها.

وكان لواء طلحة والزبير مع عبدالله بن حكيم بن حزام، وعلى الخيل طلحة، وعلى

ص: 214

الرجالة عبدالله بن الزبير، وعلى الميمنة عبدالله بن عامر بن كريز، وعلى الميسرة مروان بن الحكم. وكانت الوقعة يوم الجمعة خارج البصرة، عند قصر عبيد الله بن زياد).

أقول: تقدم أن المعركة بدأت يوم الخميس نصف جمادى الثانية. وكانت عائشة وحدها تقود جيشها الجرار من هودجها على الجمل، تعطي الأوامر للقادة المحيطين بجملها، أو تقصد مجموعة مقاتلين هنا أو هناك، وتشجعهم وتضمن لهم الجنة!

فاعجب لأتباعها الذين حرموا على المرأة قيادة السيارة، وأمهم قادت جيشاً جراراً! على أنه روي أن قتل طلحة كان يوم الجمعة أي ثاني أيام الجمل (النهاية:7/275) ولو صح ذلك تكون عائشة قادت الحرب وحدها خمسة أيام لا ستة، لكنه بعيد!

ثم أتم علي (علیه السلام) عليهم الحجة ثانيةً

قال المفيد في كتاب الجمل/181: (قال ابن عباس: فوالله ما رمت من مكاني حتى طلع عليَّ نشابهم كأنه جراد منتشر، فقلت: أما ترى يا أمير المؤمنين إلى ما يصنع القوم! مرنا ندفعهم.فقال (علیه السلام) : حتى أعذر إليهم ثانية،ثم قال: من يأخذ هذا المصحف فيدعوهم إليه وهو مقتول، وأنا ضامن له على الله الجنة؟ فلم يقم أحد إلا غلامٌ عليه قباء أبيض، حدث السن من عبد القيس يقال له مسلم، كأني أراه فقال: أنا أعرضه يا أمير المؤمنين عليهم، وقد احتسبت نفسي عند الله!

فأعرض عنه إشفاقاً، ونادى ثانية: من يأخذ هذا المصحف ويعرضه على القوم وليعلم أنه مقتول وله الجنة، فقام مسلم بعينه وقال: أنا أعرضه.

ونادى ثالثةً ولم يقم غير الفتى، فدفع المصحف إليه وقال: إمض إليهم واعرضه عليهم وادعهم إلى ما فيه، فأقبل الغلام حتى وقف بإزاء الصفوف ونشر المصحف وقال: هذا كتاب الله، وأميرالمؤمنين يدعوكم إلى مافيه.فقالت عائشة: أشجروه بالرماح قبحه الله! فتبادروا إليه بالرماح فطعنوه من كل جانب، وكانت أمه حاضرة فصاحت وطرحت نفسها عليه وجَرَّته من موضعه، ولحقها جماعة من عسكر أمير المؤمنين (علیه السلام) أعانوها على حمله حتى طرحته بين يدي

ص: 215

أمير المؤمنين (علیه السلام) وهي تبكي وتقول:

يا رب إن مسلماً دعاهمُ *** يتلو كتاب الله لا يخشاهمُ

فخضبوا من دمه قناهمُ *** وأمهم قائمةٌ تراهمُ

تأمرهم بالقتل لا تنهاهمُ)!

 

وقال الموفق الخوارزمي /181: (ثم دعا عليٌّ بالدرع فأفرغها عليه وتقلد بسيفه واعتجر بعمامته، واستوى على بغلة النبي (صلی الله علیه و آله) ثم دعا بالمصحف فأخذه بيده وقال: يا أيها الناس من يأخذ هذا المصحف فيدعو هؤلاء القوم إلى ما فيه؟ قال فوثب غلام.. وذكر نحو ما تقدم).

وقال المفيد في كتاب الجمل/182: (ثم رُمِيَ ابن عبدالله بن بديل فقتل، فحمله أبوه عبدالله ومعه عبدالله بن العباس حتى وضعاه بين يدي أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال: عبدالله بن بديل: حتى متى يا أمير المؤمنين ندلي نحورنا للقوم يقتلوننا رجلاً رجلاً، قد والله أعذرت إن كنت تريد الإعذار.

قال محمد بن الحنفية: فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) :رايتَك يا بني قدمها، وبعث في الميمنة والميسرة، ودعا بدرع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلبسه، وحزم بطنه بعصابة أسفل من سرته، ودعا ببغلته الشهباء وهي بغلة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فاستوى على ظهرها، ووقف أمام صفوف أصحابه، فوقفت بين يديه باللواء، وهو للحرب مستعد، فجاء قيس بن عبادة، وأنشأ يقول:

هذا اللواء الذي كنا نحف به *** حول النبي وجبريلٌ لنا مددا

ما ضرمن كانت الأنصار عيبته *** أن لا يكون له من غيرها أحدا

قوم إذا حاربوا طالت أكفهم *** بالمشرفية حتى يفتحوا البلدا).

ص: 216

وانتظر علي (علیه السلام) وعد النبي (صلی الله علیه و آله) ونزول الملائكة !

(قال علي: لقد أنبأني رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنبأ فقال: إن الله تعالى يمدك يا علي يوم الجمل بخمسة آلاف من الملائكة مسومين).(الإحتجاج:1/241)

في أمالي الطوسي/209، عن أبي عبدالله العنزي،قال: (إنا لجلوس مع علي بن أبی طالب (علیه السلام) يوم الجمل إذ جاءه الناس يهتفون به: يا أمير المؤمنين، لقد نالنا النبل والنشاب، فسكت ثم جاء آخرون فذكروا مثل ذلك فقالوا: قد جرحنا! فقال علي (علیه السلام) : يا قوم من يعذرني من قوم يأمروني بالقتال ولم تنزل بعد الملائكة. فقال: إنا لجلوس ما نرى ريحاً ولا نحسها إذ هبت ريح طيبة من خلفنا، والله لوجدت بردها بين كتفيَّ من تحت الدرع والثياب، قال: فلما هبت صب

أمير المؤمنين (علیه السلام) درعه، ثم قام إلى القوم).

وفي الكافي (8/331) قال الإمام الصادق (علیه السلام) :(درع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات الفضول لها حلقتان من ورق في مقدمها، وحلقتان من ورق في مؤخرها،وقال: لبسها علي (علیه السلام) يوم الجمل. شد علي (علیه السلام) على بطنه يوم الجمل بعقال أبرق، نزل به جبرئيل (علیه السلام) من السماء، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يشد به على بطنه إذا لبس الدرع).

 

وفي كتاب الجمل/183: ( وصفَّ أصحاب عائشة صفوفهم، وجاؤا بالجمل وعليه الهودج وفيه عائشة، وخطامه في يد كعب بن سور وقد تقلد بالمصحف، والأزد وبنو ضبة قد أحاطوا بالجمل، وعبدالله بن الزبير بين يدي عائشة، ومروان بن الحكم عن يمينها، والزبير يدبر العسكر (قبل انسحابه) وطلحة على الفرسان (قبل إصابته) ومحمد بن طلحة على الرجالة.

فقال محمد بن الحنفية: قال لي أبي حين رأى القوم قد زحفوا نحونا: قدم اللواء فقدمته، وزحف المهاجرون والأنصار، فلما رأى القوم قد زحفت باللواء بارزاً عن أصحابي رشقوني رشقة رجل واحد، فوقفت مكاني واتقيت منهم وقلت: ينقضي رشقهم في مرة أو مرتين ثم أتقدم، فلم أشعر إلا وأميرالمؤمنين (علیه السلام) قد

ص: 217

ضرب بين كتفي بيده ثم أخذ اللواء مني بيده ونادى: يا منصور أمت، فوالله ما سمعت القوم حتى رأيتهم قد زلزلت أقدامهم، وارتعدت فرائصهم والتقى بعضهم ببعض، وتزايلوا لترى عائشة موضع كل فريق منهم.

وتقدم عمار ومالك الأشتر مصلتين سيفهما نحو القوم، ونادى أميرالمؤمنين (علیه السلام) يامحمد بن أبي بكر إن صرعت عائشة فوارها وتول أمرها! فتضعضع القوم حين سمعوا ذلك واضطربوا، وأميرالمؤمنين (علیه السلام) واقف في موضعه.

ثم تراجعوا بعد تضعضعهم ورجعت إليهم نفوسهم، ونادوا البراز، فتقدم رجل من بني عدي أمام الجمل وبيده السيف، وهو يقول:

أضربكم ولو أرى عليا *** عممته أبيض مشرفيا

أريحُ منه قومنا عديا

فشد عليه رجل من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) يقال له أمية العبدي،وهو يقول:

هذا علي والهدى سبيله *** والرشد فيه والتقى دليله

من يتبع الحق يكن خليله

ثم اختلفت بينهما ضربتان فأخطأه العدوي وضربه العبدي فقتله. فقام مقامه رجل يقال له أبو الجرباء عاصم بن مرة من أصحاب الجمل، وهو يقول:

أنا أبو الجربا وإسمي عاصم *** وأمنا أم لها محارم

فشد عليه رجل من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو يقول:

إليك إني تابع عليا *** وتارك أمكم مليا

إذ عصت الكتاب والنبيا *** وارتكبت من أمرها فريا

وضربه فقتله، فقام مقامه رجل يقال له الهيثم بن كليب الأزدي، وهو يقول:

نحن نوالي أمنا الرضية *** وننصر الصحابة المرضية

فشد عليه رجل من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو يقول:

وليِّكُم عجلُ بني أميه *** وأمكم خاسرةٌ شقيه

هاويةٌ في فتنة عمية

ص: 218

وضربه ففلق هامته، وخر صريعاً إلى الأرض. وبرز من بعده عمرو بن يثربي وكان من شياطين أصحاب الجمل فنادى: هل من مبارز؟ فبرز إليه علباء بن الهيثم ، فاختلفت بينهما ضربتان فقُتل علباء (رحمة الله) ، فقام مقامه هند بن المرادي ، فبادره بالسيف فاتقاه ، وضربه عبدالله بن الزبير وشغله بنفسه، وثناه هند بن يثربي فقتلاه جميعاً . فبرز مقامه زيد بن صوحان العبدي فتضاربا ، وجاء فارس من أصحاب الجمل ووقف بجنب عمرو يحميه ، فطعنه زيد في خاصرته طعنة أثخنه بها ، وبدر إليه عمرو فضربه فقضى منها . وبدأ عمرو يفتخر ويقول:

أنا لمن ينكرني ابن يثربي *** قاتل علباء وهند الجملي

وابنٍ لصوحانٍ على دين علي

فبرز إليه مالك الأشتر فضربه على وجهه ضربة وقع بها على الأرض، وحماه أصحابه فنهض وقد تراجعت نفسه وهو يقول:لابد من الموت فدلوني على علي بن أبی طالب فلئن بصرت به لأملأن سيفي من هامته!

فبرز إليه عمار وهو يقول:

لا تبرح العرصة يا ابن يثربي *** حتى أقاتلك على دين علي

نحن وبيت الله أولى بالنبي

وضربه ضربة هلك منها وخر صريعاً، فأكب قومه عليه فاحتملوه).

أقول: الرواية الأقوى في قتل ابن يثربي رواية ابن عمر الضبي في وقعة الجمل/161، والطبري (3/525): (لما رأت الكماة من مضرالكوفة ومضرالبصرة الصبر تنادوا في عسكرعائشة وعسكرعلي: يا أيها الناس طرفوا إذا فرغ الصبر ونزع النصر: فجعلوا يتوجؤون الأطراف الأيدي والأرجل، فما رؤيت وقعة قط قبلها ولا بعدها ولايسمع بها: أكثر يداً مقطوعة ورجلاً مقطوعة منها، لايدري من صاحبها! وأصيبت يد عبد الرحمن بن عتاب يومئذ قبل قتله. وكان الرجل من هؤلاء وهؤلاء إذا أصيب شئ من أطرافه استقتل إلى أن يقتل.. فقالت عائشة

ص: 219

لمن عن يسارها: مَنِ القومُ؟ قال صبرة بن شيمان: بنوك الأزد، قالت:يا آل غسان حافظوا اليوم جلادكم الذي كنا نسمع به، وتمثلت:

وجالد من غسان أهل حفاظها *** وهنب وأوس جالدت وشبيب

وقالت لمن عن يمينها:من القوم؟قالوا: بكر بن وائل، قالت:لكم يقول القائل:

وجاءوا إلينا في الحديد كأنهم *** من العزة القعساء بكر بن وائل

إنما بازائكم عبدالقيس ، فاقتِلوا أشد من قتالهم قبل ذلك .

وأقبلت على كتيبة بين يديها فقالت : من القوم ؟ قالوا : بنو ناجيه ، قالت : بخٍ بخ سيوف أبطحية ، وسيوف قرشية ، فجالدوا جلاداً يتفادى منه .

ثم أطافت بها بنو ضبة فقالت: ويهاً جمرة الجمرات! حتى إذا رَقُّوا

(قلوا من القتل) خالطهم بنو عدي وكثروا حولها، فقالت: من أنتم؟ قالوا: بنو عدي خالطنا إخواننا، فقالت:ما زال رأس الجمل معتدلاً حتى قتلت بنو ضبة حولي! فأقاموا رأس الجمل، ثم ضربوا ضرباً ليس بالتعذير ولايعدلون بالتطريف، حتى إذا كثر ذلك وظهر في العسكرين جميعاً، راموا الجمل وقالوا:لايزال القوم أو يُصرع، وأرَزَتْ مجنبتا عليٍّ فصارتا في القلب وفعل ذلك أهل البصرة، وكره القوم بعضهم بعضاً وتلاقوا جميعاً بقلبيهم، وأخذ إبن يثربي برأس الجمل وهو يرتجز:

أنا لمن ينكرني ابن يثربي *** قاتل علباء وهند الجملي

وابنٍ لصوحانٍ على دين علي

فناداه عمار: لقد لعمري لُذْتَ بحريز(بعائشة) وما إليك سبيل، فإن كنت صادقاً فاخرج من هذه الكتيبة إليَّ، فترك الزمام في يد رجل من بني عدي، حتى كان بين أصحاب عائشة وأصحاب علي، فزحم الناس عماراً حتى أقبل إليه فاتقاه عمار بدرقته فضربه، فانتشب سيفه فيها فعالجه فلم يخرج، فخرج عمار إليه لا يملك من نفسه شيئاً، فأسفَّ عمار لرجليه فقطعهما فوقع على إسته.. وعمار يومئذ ابن تسعين سنة، عليه فروٌ قد شد وسطه بحبل من ليف).

وفي رواية شرح النهج(1/253):(فاختلفاضربتين فنشب سيف ابن يثربي في حجفة

ص: 220

عمار، فضربه عمار على رأسه فصرعه، ثم أخذ برجله يسحبه حتى انتهى به إلى علي (علیه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين إستبقني أجاهد بين يديك، وأقتل منهم مثلما قتلت منكم! فقال له علي (علیه السلام) : أبعد زيد وهند وعلباء أستبقيك! لاها الله إذاً! قال: فأدنني منك أسارك. قال له: أنت متمرد وقد أخبرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالمتمردين وذكرك فيهم! فقال: أما والله لو وصلت إليك لعضضت أنفك عضة أبنته منك. فأمر به (علیه السلام) فضربت عنقه).

أقول: في الرواية إشارة الى أن مبارزة ابن يثربي لم تكن في اليوم الأول، وهي قول عائشة: ما زال رأس الجمل معتدلاً حتى قتلت بنو ضبة حولي! ويحتمل أنها قالتها بعد ذلك، ورواها الراوي وهو يتحدث عن اليوم الأول.

وقال الطبري(3/526): (ولما أصيب ابن يثربي ترك ذلك العدوي الزمام، ثم خرج فنادى من يبارز؟ وبرز إليه ربيعة العقيلي أشد الناس صوتاً، وهو يقول:

يا أمَّنا أعقُّ أمٍّ نعلمُ *** والأمُّ تغذو ولدها وتَرحمُ

ألا ترين كم شجاع يُكلمُ *** وتُختلى منه يدٌ ومعصمُ

اضطربا، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، فماتا).

 

(وقتل يومئذ ثمامة بن المثنى بن حارثة الشيباني، فقال الأعورالشني:

يا قاتل الله أقواماً هم قتلوا *** يوم الخريبة علباءً وحسَّانا

وابن المثنى أصاب السيف مقتله *** وخير قرائهم زيد بن صوحانا ).

وحسان الذي ذكره: حسَّان بن مخدوج بن بشر بن خوط، كان معه لواء بكر بن وائل، فقتل فأخذه أخوه حذيفة بن مخدوج فأصيب، ثم أخذه بعده عدة من الحوطيين فقتلوا). (البلاذري:2/244).

وفي الفتوح لإبن الأعثم2/474:(فتقدم محمد ثم وقف بالراية لايبرح بها، فصاح به علي: إقتحم لا أم لك، فحمل محمد بالراية وطعن بها في أصحاب الجمل طعناً

ص: 221

منكراً وعلي (علیه السلام) ينظر فأعجبه ما رأى من فعاله، فجعل يقول (علیه السلام) :

إطعن بها طعن أبيك تُحْمَدِ *** لا خير في الحرب إذا لم تُوقد

قال فقاتل بالراية محمد بن الحنفية ساعة، ثم رجع..

ثم تقدم رجل من أصحاب الجمل يقال له عبدالله بن يثربي فجعل يرتجز:

يا رب أني طالبٌ أبا الحسن *** ذاك الذي يُعرف حقاً بالفتن

ذاك الذي نطلبه على الإحن *** ونقضه شريعةً من السنن

قال فخرج إليه علي (علیه السلام) وهو يقول:

إن كنت تبغى أن ترى أبا حسن *** وكنت ترميه بإيثار الفتن

فاليوم تلقاه ملياً فاعلمن *** بالضرب والطعن عليماً بالسنن

قال ثم شد عليه علي بالسيف فضربه ضربة هتك بها عاتقه، فسقط قتيلاً، فوقف عليه علي (علیه السلام) وقال: قد رأيت أبا الحسن فكيف رأيته!

قال وخرج أخوه عبدالله بن يبرى، وهو يرتجز، ويقول:

أضربكم ولو أرى عليا *** عممته أبيض مشرفيا

وأسمراً عطنطناً خطيا *** أبكى عليه الولد والوليا

قال: فخرج إليه علي (علیه السلام) متنكراً وهو يقول: قال :

يا طالباً في حربه عليا *** يمنحه أبيض مشرفيا

أثبت لتلقاه بها عليا *** مهذباً سميدعاً كميا

ثم حمل عليه علي فضربه ضربه على وجهه فرمى بنصف رأسه).

 

ووصف الطبري قتالهم في اليوم الأول والثاني فقال (3/524): (كان القتال الأول يستحر إلى انتصاف النهار، وأصيب فيه طلحة وذهب فيه الزبير، فلما أووا إلى عائشة وأبى أهل الكوفة إلا القتال، ولم يريدوا إلا عائشة ذمرتهم عائشة (حثتهم بشدة) فاقتتلوا حتى تنادوا فتحاجزوا، فرجعوا بعد الظهر فاقتتلوا، وذلك يوم الخميس في جمادى الآخرة. فاقتتلوا

ص: 222

صدر النهار مع طلحة والزبير وفي وسطه مع عائشة، وتزاحف الناس فهزمت يمن البصرة يمن الكوفة وربيعة البصرة ربيعة الكوفة، ونهد علي بمضرالكوفة إلى مضر البصرة، وقال إن الموت ليس منه فوت، يدرك الهارب، ولا يترك المقيم)!

فقد خرج طلحة والزبير من المعركة في اليوم الأول، لكنهما قاتلا الى الظهر، ثم ذمرت عائشة الجيش أي حثتهم وشجعتهم فقاتلوا بعد الظهر أيضاً!

هذا، وقد تضمنت روايات المفيد (رحمة الله) وغيره مشاهد من أيام حرب الجمل السبعة، ولم يميزوا أحداث كل يوم عن غيرها. لكن المؤكد أن قتلهم الشاب الذي حمل القرآن وابن بديل الخزاعي في اليوم الأول، ثم كان ما دل عليه السياق. أما سقوط الجمل فكان في اليوم السابع.

ما ورد في اليوم الثاني من حرب الجمل

في شرح النهج (1/262): (قالوا: استدار الجمل كما تدور الرحا، وتكاثفت الرجال من حوله، واشتد رغاؤه واشتد زحام الناس عليه، ونادى الحتات المجاشعي: أيها الناس، أمكم أمكم! واختلط الناس فضرب بعضهم بعضاً، وتقصد أهل الكوفة قصد الجمل والرجال دونه كالجبال كلما خف قوم جاء أضعافهم، فنادى علي (علیه السلام) : ويحكم! أرشقوا الجمل بالنبل، أعقروه لعنه الله! فرشق بالسهام، فلم يبق فيه موضع إلا أصابه النبل، وكان متجفجفاً فتعلقت السهام به فصار كالقنفذ. ونادت الأزد وضبة: يالثارات عثمان فاتخذوها شعاراً.ونادى أصحاب علي: يا محمد فاتخذوها شعاراً، واختلط الفريقان ونادى علي (علیه السلام) بشعار رسول الله (صلی الله علیه و آله) : يا منصور أمت. وهذا في اليوم الثاني من أيام الجمل، فلما دعا بها تزلزلت أقدام القوم، وذلك وقت العصر بعد أن كانت الحرب من وقت الفجر. قال الواقدي..ثم تحاجز الفريقان والقتل فاشٍ فيهما، إلا أنه في أهل البصرة أكثر، وأمارات النصر لائحة لعسكر الكوفة).

 

ص: 223

وفي شرح النهج (1/262):(خرج عبدالله بن خلف الخزاعي، وهو رئيس البصرة وأكثر أهلها مالاً وضياعاً، فطلب البراز وسأل ألا يخرج إليه إلا علي (علیه السلام) وارتجز فقال:

أبا ترابٍ ادنُ مني فِتْرا *** فإنني دانٍ إليك شِبْرا

وإنَّ في صدري عليك غَمرا

فخرج إليه علي (علیه السلام) ، فلم يمهله أن ضربه ففلق هامته).

وفي مناقب الخوارزمي/188: (وانصرف علي يريد إلى أصحابه، فصاح به صائح من ورائه، والتفت فإذا بعبدالله بن خلف الخزاعي وهو صاحب منزل عائشة بالبصرة، فلما رآه علي (علیه السلام) عرفه فنادى: ما تشاء يا ابن خلف؟ قال هل لك في المبارزة؟ قال علي (علیه السلام) :ما أكره ذلك ولكن ويحك يا ابن خلف، ما راحتك في القتل، وقد علمت من أنا! فقال عبدالله بن خلف: ذرني من بذخك يا ابن أبی طالب، وادنُ مني لترى أينا يقتل صاحبه! فثنى إليه علي (علیه السلام) عنان فرسه، قال: والتقيا للضراب فبدره عبدالله بن خلف بضربة دفعها علي (علیه السلام) بجحفته، ثم ضربه ضربة رمى بيمينه، ثم ثناه بأخرى، فأطار قِحْفَ رأسه)!

وروي أن مقتل ابن خلف كان يوم الجمعة أي اليوم الثاني.(تجارب الأمم:1/504).

ما ورد في اليوم الثالث من حرب الجمل

قال ابن أبي الحديد (1/263): (ثم تواقفوا في اليوم الثالث، فبرز أول الناس عبدالله بن الزبير، ودعا إلى المبارزة فبرز إليه الأشتر فقالت عائشة: من برز إلى عبدالله؟ قالوا: الأشتر، فقالت: وا ثكل أسماء! فضرب كل منهما صاحبه فجرحه، ثم اعتنقا فصرع الأشتر عبدالله، وقعد على صدره، واختلط الفريقان: هؤلاء لينقذوا عبدالله وهؤلاء ليعينوا الأشتر. وكان الأشترطاوياً ثلاثة أيام لم يطعم وهذه عادته في الحرب، وكان أيضاً شيخاً عالي السن، فجعل عبدالله ينادي: أقتلوني ومالكاً، فلو قال: أقتلوني والأشتر لقتلوهما، إلا أن أكثر من كان يمر بهما لا يعرفهما، لكثرة من وقع في المعركة صرعى بعضهم فوق بعض، وأفلت ابن الزبير من تحته أو لم يكد، فذلك قول الأشتر:

ص: 224

أعائش لولا أنني كنت طاوياً *** ثلاثاً لألفيت ابن أختك هالكا

غداة ينادى والرجال تحوزه *** بأضعف صوت أقتلوني ومالكا

فلم يعرفوه إذ دعاهم وغمه *** خدب عليه في العجاجة باركا

فنجاه مني أكله وشبابه *** وأني شيخ لم أكن متماسكا

وروى أبو مخنف عن الأصبغ بن نباتة قال: دخل عمار بن ياسر ومالك بن الحارث الأشتر على عائشة بعد انقضاء أمر الجمل، فقالت عائشة: يا عمار، من معك؟ قال: الأشتر، فقالت:يا مالك، أنت الذي صنعت بابن أختي ما صنعت؟ قال: نعم، ولولا أني كنت طاوياً ثلاثة أيام لأرحت أمة محمد منه! فقالت: أما علمت أن رسول الله قال: لا يحل دم مسلم إلا بأحد أمور ثلاث: كفر بعد إيمان أو زناً بعد إحصان، أو قتل نفس بغيرحق! قال الأشتر: على بعض هذه الثلاثة قاتلناه يا أم المؤمنين، وأيم الله ما خانني سيفي قبلها ولقد أقسمت ألايصحبني بعدها. قال أبومخنف: ففي ذلك يقول الأشتر من جملة هذا الشعر الذي ذكرناه:

وقالت على أي الخصال صرعته *** بقتل أتى أم ردة لا أبا لكا

أم المحصن الزاني الذي حل قتله *** فقلت لها لا بد من بعض ذلكا

قال أبو مخنف:وانتهى الحارث بن زهيرالأزدي من أصحاب علي (علیه السلام) إلى الجمل ورجل آخذ بخطامه لا يدنو منه أحد إلا قتله، فلما رآه الحارث بن زهير مشى إليه بالسيف وارتجز، فقال لعائشة:

يا أمنا أعق أم نعلمُ *** والأمُّ تغذو وُلْدها وترحمُ

أما ترين كم شجاع يُكْلَم *** وتختلى هامته والمعصم !

فاختلف هو والرجل ضربتين فكلاهما أثخن صاحبه. قال جندب بن عبدالله الأزدي: فجئت حتى وقفت عليهما وهما يفحصان بأرجلهما حتى ماتا.

قال: فأتيت عائشة بعد ذلك أسلم عليها بالمدينة فقالت: من أنت؟ قلت:

ص: 225

رجل من أهل الكوفة، قالت: هل شهدتنا يوم البصرة؟ قلت: نعم، قالت: مع أي الفريقين؟ قلت: مع علي، قالت: هل سمعت مقالة الذي قال: يا أمنا أعق أم نعلم؟ قلت: نعم وأعرفه، قالت: ومن هو؟ قلت: ابن عم لي. قالت:وما فعل؟ قلت:قُتل عند الجمل وقَتَل قاتله، قال: فبكت حتى ظننت والله أنها لا تسكت ثم قالت: لوددت والله أنني كنت مت قبل ذلك اليوم بعشرين سنة)!

وقال البلاذري (2/245): (قال:جعل جندب بن زهير يرتجز يومئذ، ويقول:

قلنا لها وهي على مهواة *** إن لنا سواك أمهات

في مسجد الرسول ثاويات).

أقول: معنى طاوياً ثلاثاً: أنه كان لا يأكل إلا السوائل والعسل مثلاً، ففي الدر النظيم لابن حاتم/353:(وقد روي عن ابن الزبيرأنه قال: كان الأشتر طاوياً ثلاثاً، وكذلك كانت تفعل فرسان العرب إذا أرادوا القتال، لأنهم كانوا يكرهون الشبع في الحرب، كراهة أن يطعن أحدهم في بطنه، فيظهر منه شئ يكرهه)!

 

وفي كتاب الجمل للمفيد/185: (ولما رأى أمير المؤمنين (علیه السلام) جرأة القوم على القتال وصبرهم على الهلاك، نادى أصحاب ميمنته أن يميلوا على ميسرة القوم، ونادى أصحاب ميسرته أن يميلوا على ميمنتهم، ووقف (علیه السلام) في القلب. فما كان بأسرع من أن تضعضع القوم،وأخذت السيوف من هاماتهم مآخذها فانكشفوا وقد قتل منهم ما لا يحصى كثرةً، وأصيب من أصحاب أميرالمؤمنين نفر كثير، وأحاطت الأزد بالجمل يقدمهم كعب بن سور وخطام الجمل بيده، واجتمع إليهم من كان انفتل بالهزيمة ونادت عائشة:

يا بَنِيَّ الكرةَ الكرةَ، إصبروا فإني ضامنة لكم الجنة!

فحفوا بها من كل جانب، واستقدموا حتى دنوا من عسكر أمير المؤمنين (علیه السلام) ولَفَّتْ عائشة نفسها ببردة كانت معها، وقلبت يمينها على منكبها الأيسروالأيسر إلى الأيمن

ص: 226

كما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يفعل عند الإستسقاء، ثم قالت: ناولوني كفاً من تراب فناولوها فحثت به وجوه أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) وقالت: شاهت الوجوه، كما فعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأهل بدر! قال: وجَرَّ كعب بن سور بالخطام وقال: اللهم إن أردت أن تحقن الدماء وتطفي هذه الفتنة فاقتل علياً. فقال (علیه السلام) :وما رميت إذ رميت ولكن الشيطان رمى! وليعودن وباله عليك إنشاءالله. وأنشدت أم ذريح العبدية:

عائش إن جئت لتهزمينا *** وتنثري البر لتغلبينا

وتقذفي بالحصبات فينا *** تصادفي ضرباً وتنكرينا

بالمشرفيات إذا غزينا *** نسفك من دمائكم ماشينا)

ما ورد في اليوم الرابع من حرب الجمل

قال ابن حاتم في الدر النظيم(1/348): (ثم إن علياً (علیه السلام) لما رأى القوم قد حادُّوه القتال، وصمدوا للحرب بعث إلى محمد بن الحنفية وكانت الراية بيده،أن أقدم يا ابن خولة واقتحم على القوم. قال: نعم. فأرسل إليه ثانية أن أقحم يا ابن خولة، قال: نعم، وكان بإزاء محمد قوم من الرماة فرموه وحادُّوه، فتأخرمحمد وقال لأصحابه: إن القوم قد رموكم فجرحوكم وإنهم يبددون نبلهم في رشق آخر، ثم احملوا عليهم. فبعث علي (علیه السلام) إليه ثالثة فقال له: يا ابن خولة أقحم لا أم لك. قال: نعم. فلما أبطأ عليه تحول من بغلته إلى فرسه وسل سيفه وركض نحوه، فأتاه من خلفه فوضع يده اليسرى على منكبه اليمنى، ثم رفعه حتى أشاله من سرجه وقال: لا أم لك. قال محمد: والذي لا إله إلا هو ما ذكرت ذلك منه قط إلا كأني أجد ريح نفسه! فيأخذ الراية من يديه، ثم حمل على القوم وذلك عند زوال الشمس من يوم الأحد، فأنشأ وهو يطعنهم ويقول:

إطعن بها طعن أبيك تحمد *** لا خير في الحرب إذا لم تُوقد

بالمشرفي والقنا المبدد *** والضرب بالخطيِّ والمهند

ثم حمل عليهم حتى توسطهم وغاص فيهم، فاقتتل الناس قتالاً شديداً، ثم

ص: 227

خرج من ناحية القوم وقد انحنى سيفه فأقامه بركبته، واجتمع حوله أصحابه فقالوا: نحن نكفيك يا أمير المؤمنين، فما يجيب أحداً منا، فإنه لطامح ببصره نحوهم، ثم حمل الثانية حتى توسطهم وغاب فيهم، فسمعنا له تكبيرة بعد حين وله همهمة كزئير الأسد، ثم تكشف الناس عنه وانقشعوا حوله، فوصلنا إليه وإنه لواقف قد أزبد كالجمل الهائج والأسد الحامي، وقد وقعت الرؤوس والسواعد والجيف حوله أعكاماً! فقلنا: يا أمير المؤمنين نحن نكفيك، فقال: والله ما أريد بما ترون إلا وجه الله والدار الآخرة!

ثم انصرف وأعطى محمداً الراية وقال: هكذا فاصنع يا ابن خولة. قال محمد: فحملت وحمل أصحابي معي، فما زلت أطعنهم برمحي وأضربهم بسيفي حتى انقشع الناس من حولي، فانتهيت إلى رجل لأطعنه فلما برزت له بالرمح قال: فأنشدك الله فإني على دين علي بن أبی طالب (علیه السلام) ! فعرفت أنه إنما يرد بذلك عن نفسه، فرفعت عنه الرمح حتى نجا، فنظرت فإذا هو محمد بن طلحة!

قال محمد: خرج محمد بن خلف الخزاعي فأخذ بخطام الجمل ونادى بعلي (علیه السلام) فبرز إليه وشد علي عليه فضربه بذي الفقار ضربة على بيضته ففلق به البيضة والهامة والعنق والصدر، حتى وصلت ظبة السيف إلى قربوس سرجه، لم ينهْنِهْهُ سلاح، ولم تثبت عليه جُنَّة)!

أقول: محمد بن خلف هذا أخ عبدالله الذي طلب مبارزة علي (علیه السلام) فضربه وأطار قحف رأسه. ومحمد بن طلحة طلب المبارزة فبرز اليه الأشتر فهرب منه، فلحقه ليقتله فاستغاث به، فعفا عنه وأركبه على فرسه وأرسله، لكنه مات من طعنة الأشتر.

وفي مناقب محمد بن سليمان (2/337): (عن منذر الثوري قال: سمعت محمد بن الحنفية يقول.. وحملت يومئذ على رجل من أهل البصرة، فلما غشيته بالرمح قال: أنا على دين [عمر] بن أبی طالب، فلما عرفت الذي أراد كففت عنه).

 

وفي شرح النهج (1/257): (زحف علي (علیه السلام) نحوالجمل بنفسه في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار، وحوله بنوه: حسن وحسين ومحمد (علیهم السلام) ، ودفع الراية إلى محمد،

ص: 228

وقال: أقدم بها حتى تركزها في عين الجمل، ولا تقفن دونه! فتقدم محمد فرشقته السهام فقال لأصحابه: رويداً حتى تنفد سهامهم، فلم يبق لهم إلا رشقة أو رشقتان. فأنفذا إليه علي (علیه السلام) يستحثه ويأمره بالمناجزة، فلما أبطأ عليه جاء بنفسه من خلفه، فوضع يده اليسرى على منكبه الأيمن، وقال له: أقدم لا أم لك! فكان محمد رضي الله عنه إذا ذكر ذلك بعد يبكي ويقول: لكأني أجد ريح نفسه في قفاي، والله لا أنسى ذلك أبداً. ثم أدركت علياً (علیه السلام) رقة على ولده، فتناول الراية منه بيده اليسرى، وذو الفقار مشهور في يمنى يديه ثم حمل فغاص في عسكر الجمل، ثم رجع وقد انحنى سيفه فأقامه بركبته. فقال له أصحابه وبنوه والأشتر وعمار: نحن نكفيك يا أمير المؤمنين، فلم يجب أحداً منهم ولا رد إليهم بصره.. ثم حمل حملة ثانية وحده، فدخل وسطهم فضربهم بالسيف قدماً قدماً، والرجال تفرمن بين يديه وتنحاز عنه يمنة ويسرة، حتى خضب الأرض بدماء القتلى، ثم رجع وقد انحنى سيفه فأقامه بركبته، فاعصوصب به أصحابه، وناشدوه الله في نفسه وفي الإسلام، وقالوا: إنك إن تصب يذهب الدين، فأمسك ونحن نكفيك. فقال: والله ما أريد بما ترون إلا وجه الله والدار الآخرة! ثم قال لمحمد ابنه: هكذا تصنع يا ابن الحنفية، فقال الناس:من الذي يستطيع ماتستطيعه يا أميرالمؤمنين)!

أقول: لا يبعد أن أمير المؤمنين (علیه السلام) مر بحملاته من قرب الجمل، لكنه لا يريد أن يضربه هو.

ما ورد في اليوم الخامس من حرب الجمل

قال ابن حاتم في الدر النظيم/354: (وانفلق عمود الصبح ليلة الإثنين فصلى علي (علیه السلام) بأصحابه ثم قال: يا قنبر علي بدرعي فأتاه بها فصبها عليه، وهي درع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات الفضول وتقلد ذا الفقار، وتعمم بعمامة رسول الله (صلی الله علیه و آله) السحاب، ثم خرج من فسطاطه وركب بغلة رسول الله (صلی الله علیه و آله) الدلدل، ثم سل سيفه وهزه ونادى: يا معشر المهاجرين والأنصار أبرزوا لله، وجِدُّوا في قتال عدوكم رحمكم الله. ثم دعا محمداً إبنه وقال له: إركب فرسك فركبها، ودفع إليه

ص: 229

الراية من يده وهي العقاب راية رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم بدر، وقال له: يا محمد تقدم أمام الكتيبة، فتقدم محمد والراية بيده تخفق فوق رأسه وكانت سوداء.

ثم سار علي (علیه السلام) بالناس والحسن عن يمينه والحسين عن يساره، وعبدالله بن جعفر الطيار في الجنة أمامه، ومحمد وعون ابنا جعفر من ورائه، وعبدالله والفضل وعبيد الله وقثم بنو العباس بن عبد المطلب بعضهم عن يمينه وبعضهم عن يساره، والمهاجرون والأنصار قد احتوشوه وأحدقوا به. وأمرهم ألا يبدؤوهم بقتال حتى يبدؤوهم به، وأنشأ عدي بن حاتم يقول:

يا ربنا سلم لنا عليا *** سلم لنا المبارك التقيا

المؤمن المسترشد الرضيا *** و اجعله هادي أمة مهديا

لا خطل الرأي ولا غويا *** و احفظه ربي واحفظ البنيا

فيه فقد كان لنا وليا *** ثم ارتضاه بعده وصيا

وقال هذا لكم وليا *** من بعد إذ كان بكم حفيا

وأرسل علي (علیه السلام) الى الأشتر فقال له: يا مالك لا تبدأ القوم بقتال حتى يبدؤوك، واعذر إليهم واجعل الحجة عليهم. فوقفوا ساعة من النهار يهللون ويكبرون وينظرون أي الفريقين يكون البادئ ، فتقدم محمد بن طلحة فأخذ الخطام فقبَّله فقالت له عائشة: من أنت؟ قال: أنا محمد بن طلحة فما تأمريني يا أمه؟ قالت: آمرك أن تكون خير ابني آدم . فخرج بسيفه يدعو للبراز، فخرج إليه المعكبر بن حدير فاختلفا ضربتين ، فضربه محمد بن طلحة على هامته فقتله ، وعاد الى الخطام فقبَّله ، ثم تقدم فدعا للبراز ، فثار إليه الأشترمسرعاً كأنه أسد حُلَّ من رباطه، فلما نظرطلحة أن الأشتر قد أقبل نحو ابنه دنا منه وأخذه بيده وقال: إرجع يا بني عن هذا الأسد الضاري، أما سمعت

قول الله: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً، فلم يطعه، وبرز الى الأشتر فلما غشيه الأشتر بالرمح ولى هارباً، فتبعه الأشتر حتى لحقه فطعنه في صلبه طعنة أكبه بها لوجهه ، ونزل إليه ليضرب عنقه فقال له محمد: أذكرك الله يا مالك ، فرفع عنه

ص: 230

السيف وحمله على دابته ووجهه الى عسكره ، فمات من يومه ، ورجع الأشترالى موقفه وهويقول:

وأشعث قوام بآيات ربه *** قليل الكرى مما ترى العين مسلم

يذكرني حاميم والرمح شاجر *** فهلا تلا حاميم قبل التقدم

هتكت له بالرمح جيب قميصه *** فخر صريعاً لليدين وللفم

على غير شئ غير أن ليس تابعاً *** علياً ومن لايتبع الحق يندم ) .

مكذوباتهم في محمد بن طلحة التيمي !

زعموا أن محمد بن طلحة كان شاباً صالحاً عابداً، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) سماه محمداً، وأنه كان يسمى السجاد، وكان يسجد كل يوم ألف سجدة! وأن الصحابة كانوا يتبركون به لصلاحه! وكان يلبس البرنس علامة الزهد والإنقطاع عن الدنيا، وقال بعضهم كان هواه مع علي (علیه السلام) لكنه جاء طاعة لأبيه فقتله بره بأبيه. وقالوا إن علياً (علیه السلام) نهى عن قتله فقال:لا تقتلوا صاحب البرنس.

وقال النووي في المجموع (19/202) إن علياً (علیه السلام) أظهر الندم وتمنى أنه مات قبل حرب الجمل، كما تمنت عائشة تماماً،لأنه قُتل فيها مثل محمد بن طلحة!

قال: (فأبصرالحسن بن علي قتيلاً مكبوباً على وجهه فأكبه على قفاه، فقال إنا لله وإنا إليه راجعون. هذا فرع قريش والله، فقال له أبوه: ومن هو يا بني، فقال: محمد بن طلحة، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن كان ما علمته لشاباً صالحاً،

ثم قعد كئيباً حزيناً! فقال له الحسن: يا أبت، قد كنت أنهاك عن هذا المسير فغلبك على رأيك فلان وفلان، قال قد كان ذلك يا بني، فلوددت أني مت قبل

هذا بعشرين سنة)!

أقول: المفروض أن يكون ابن طلحة هذا ملتزماً بدين وشرع، لكن لما وصلت عائشة الى الحوأب ونبحتها كلابه، فقالت ردوني الى حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى لا

ص: 231

تكون قائدة الفئة الباغية، وامتنعت يومين عن المسير. قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة (1/60): (فقال لها محمد بن طلحة: تقدمي رحمك الله، ودعي هذا القول! أي لا تهتمي بتحذير النبي (صلی الله علیه و آله) ! فأي عابد هذا يقول لعائشة: دعي قول النبي (صلی الله علیه و آله) وتقدمي!

 

وأي عابد يقاتل طلباً بدم عثمان، وهو يشهد أن ثلثي دمه على من يقاتل معهم!

قال عمر بن شبة في تاريخ المدينة (4/1174): (قال له عبدالله بن أذينة: فأخبرني عن قتل عثمان. قال: أخبرك: إن دم عثمان ثلاثة أثلاث، ثلث على صاحبة الخدر يعني عائشة، فلما سمعته يقول ذلك شتمته وأساءت له القول، فقال: يغفر الله لك يا أمتاه! وثلث على علي بن أبی طالب. وثلث على صاحب الجمل الأحمر ميمنة القوم يعني أباه طلحة، فلما سمعه أبوه أقبل إليه سريعاً وقال: ويحك هل تاب رجل بأشد من أن جاد بنفسه).

يعني هل تريد توبة من شراكتي بدم عثمان أكثر من أني بذلت نفسي في طلب ثأره!

وفي الإمامة والسياسة (1/62): (فضحك الجهيني، ولحق بعلي بن أبی طالب، وبلغ طلحة قول ابنه محمد، وكان محمد من عباد الناس فقال له: يا محمد، أتزعم عنا قولك إني قاتل عثمان، كذلك تشهد على أبيك؟ كن كعبدالله بن الزبير، فوالله ما أنت بخير منه، ولا أبوك بدون أبيه،كف عن قولك، وإلا فارجع فإن نصرتك نصرة رجل واحد، وفسادك فساد عامة! فقال محمد: ما قلت إلا حقاً، ولن أعود)!

وفي رواية الطبري(3/482) (ضحك الغلام وقال: ألا أراني على ضلال! ولحق بعلي. وفي أمالي محمد بن المبارك اليزيدي(1/25) المتوفى سنة310:(فسمعت ذلك عائشة فأقبلت عليه تشتمه وهو يقول: يغفر الله لك يرحمك الله. وسمع أبوه كلامه فأقبل إليه على بعيره فقال:ويحك فهل تاب رجل بأشد من أن جاد بنفسه)!

 

ثم رأى هذا العابد أن المعسكرين وقفا عن الشروع في القتال لئلا يكون أحدهما البادئ، فقام وتقدم يطلب المبارزة، وقتل مؤمناً من الفئة المبغي عليها. ثم لما حمل عليه الأشتر هرب منه كالجارية، ثم توسل اليه أن لا يقتله فعفا عنه، فصار عبداً للأشتر!

ص: 232

فكيف نفسر سلوكه إلا أنه صاحب شخصيه بدوية تفكر بغريزة القبيلة، وبفهم الخوارج للدين، فقد رفض الإلتزام بالنص النبوي، ورفض سماع نصيحة عائشة، فقد قالت له كما زعموا :كن كخير ولدي آدم أي لا تبدأ بقتال، وكن كهابيل الذي قال: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ،

وبعد أن سمع كلامها قبَّلَ خطام جملها وكسر توقف الحرب، وبرز، فلم تنهه! فأي عابد هذا؟ وهل تكون عبادته إلا لإثبات الذات!

قال في أسد الغابة (4/322):(وكان محمد بن طلحة يلقب السجاد لكثرة صلاته وشدة اجتهاده في العبادة. وقتل يوم الجمل مع أبيه سنة ست وثلاثين، وكان هواه مع علي، إلا أنه أطاع أباه. فلما رآه علي قتيلاً قال: هذا السجاد قتله بره بأبيه، وكان سيد أولاد طلحة،ونهى علي عن قتله ذلك اليوم فقال:إياكم وصاحب البرنس. قيل إن أباه أمره بالقتال وكان كارهاً للقتال فتقدم ونثل درعه بين رجليه، وقام عليها (انفرط درعه فوقف عليه) وجعل كلما حمل عليه رجل قال: نشدتك بحاميم، حتى شد عليه رجل فقتله) وفسر ابن حجر مناشدته بالحواميم فقال (فتح الباري:8/426): (يقال كان مراد محمد بن طلحة بقوله:أذكرك حم، أي قوله تعالى في حم عسق:قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى.كأنه يذكره بقرابته ليكون ذلك دافعاً له عن قتله.

ومعناه أنه ناشده بأنه من قربى الرسول (صلی الله علیه و آله) ! ومعناه أنه كان يزعم أن آية المودة في القربى تشمله، ويدعي ما لم يدعه أحد من بني تيم. فأي عابد هذا؟!

كان محمد بن طلحة من أصحاب البرانس الذين قال فيهم حذيفة:(أرأيتم لو أخبرتكم أن أصحاب البرانس أصحاب الأساطير شراركم،كنتم تصدقوني؟ قالوا: سبحان الله! قال: أرأيتم لو أخبرتكم أن أمكم الحميراء عائشة تقاتلكم كنتم تصدقوني؟ قالوا: سبحان الله! قال:كأني سأنظر إليهم مستمسكون بالسوابير والذنب كأني أراكم صرعى حولها، لا تغني عنهم من الله شيئاً)!(مناقب ابن سليمان:2/349).

قد يقال: إن هذه الرواية تفترض وجود طلحة يوم الإثنين، أي اليوم الخامس من

ص: 233

الحرب، وقد قتل في اليوم الأول عصراً.لكن القرائن توجب الإطمئنان بصحة الرواية فلا بد أن يكون المقصود بأن الأشتر أرسله الى أبيه أي الى معسكره. وأن حواره مع أبيه في شراكته في دم عثمان كان في أول الحرب قبل قتل طلحة. راجع:المغني لابن قدامه:10/55، والإصابة:6/16،والحاكم: 3/374. وسير الذهبي:1/40.

في اليوم السابع نشر أميرالمؤمنين (علیه السلام) راية رسولالله (صلی الله علیه و آله)

كان جيش عائشة أضعاف جيش أميرالمؤمنين (علیه السلام) ، فجيشه (علیه السلام) اثنا عشر ألفاً، وجيش عائشة ومشجعوهم مئة وعشرون ألفاً.

وكانت قتلى جيش عائشة ستة أضعاف قتلى جيش علي (علیه السلام) لكن النقص كان يظهرعلى جيش الإمام (علیه السلام) بمن يقتل منهم لقلة عددهم نسبياً، بينما لايظهر النقص في جيش عائشة، لكثرتهم. وقد روي عن بداية الحرب أن أمير المؤمنين (علیه السلام) أعطى الراية لابنه محمد وقال له: هذه راية رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، والظاهر أنه لم ينشرها قبل اليوم السابع، فقد كان مأموراً بما يفعله من النبي (صلی الله علیه و آله) ، وكأنه أمره إن لم ينتصرعلى عائشة في ستة أيام، أن ينشر رايته في اليوم السابع.

فقد تقدم قوله (علیه السلام) في جواب المتمرد ابن يثربي: يا أمير المؤمنين إستبقني أجاهد بين يديك وأقتل منهم مثلما قتلت منكم. فقال له علي (علیه السلام) : أبعد زيد وهند وعلباء أستبقيك! لاها الله إذاً! وقال له: أنت متمرد، وقد أخبرني رسول الله (صلی الله علیه و آله)

بالمتمردين وذكرك فيهم). (شرح النهج:1/253).

فإذا كان أخبره بابن يثربي فلا بد أنه أخبره بشدة المعركة ومدتها ومتى ينشر الراية فيها. بل يدل كلامه (علیه السلام) على أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخبره بكل ما يجري معه ووجهه. قال (علیه السلام) : (أخبرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) بما الأمة صانعة بي بعده، فلم أكُ بما صنعوا حين عاينته بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك، بل أنا بقول رسول الله (صلی الله علیه و آله) أشد يقيناً مني بما عاينت وشهدت).(كتاب سليم بن قيس/215).

قال الإمام الصادق (علیه السلام) (غيبة النعماني/319): (لما التقى أمير المؤمنين (علیه السلام) وأهل البصرة

ص: 234

نشر الراية راية رسول الله (صلی الله علیه و آله) فزلزلت أقدامهم، فما اصفرت الشمس حتى قالوا: آمنا يا ابن أبی طالب! فعند ذلك قال:لاتقتلوا الأسرى، ولاتجهزوا على جريح، ولاتتبعوا مولياً، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. ولما كان يوم صفين سألوه نشر الراية فأبى عليهم، فتحملوا عليه بالحسن والحسين (علیهما السلام) وعمار بن ياسر فقال للحسن: يا بنيَّ إن للقوم مدةً يبلغونها، وإن هذه رايةٌ لا ينشرها بعدي إلا القائم صلوات الله عليه).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام) :(لايخرج القائم (علیه السلام) حتى يكون تكملة الحلقة. قلت: وكم الحلقة؟ قال: عشرة آلاف، جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، ثم يهز الراية ويسير بها، وهي راية رسول الله (صلی الله علیه و آله) نزل بها جبرئيل يوم بدر.

ثم قال: يا أبا محمد وما هي والله قطن ولا كتان ولا قز ولا حرير، قلت: فمن أي شئ هي؟ قال: من ورق الجنة، نشرها رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم بدر، ثم لفها ودفعها إلى علي (علیه السلام) فلم تزل عند علي حتى إذا كان يوم البصرة نشرها أمير المؤمنين (علیه السلام) ففتح الله عليه، ثم لفها. وهي عندنا هناك، لاينشرها أحد حتى يقوم القائم، فإذا هو قام نشرها فلم يبق أحد في المشرق والمغرب إلا لعنها، ويسير الرعب قدامها شهراً ووراءها شهراً وعن يمينها شهراً وعن يسارها شهراً).

وقال الباقر (علیه السلام) (غيبة النعماني/321):(كأني بقائم أهل بيتي قد أشرف على نجفكم هذا، وأومأ بيده إلى ناحية الكوفة، فإذا هو أشرف على نجفكم نشر راية رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فإذا هو نشرها انحطت عليه ملائكة بدر. قلت: وما راية رسول الله؟ قال: عمودها من عمد عرش الله ورحمته، وسائرها من نصر الله، لا يهوي بها إلى شئ إلا أهلكه الله. قلت: فمخبوءة عندكم حتى يقوم القائم (علیه السلام) فيجدها أم يؤتى بها؟ قال: لا، بل يؤتى بها. قلت: من يأتيه بها؟ قال: جبرئيل (علیه السلام) ).

وفي رواية: (يأتيه بها جبرائيل، عمودها من عمد عرش الله، وسائرها من نصر الله، لا يهوي بها إلى شئ إلا أهلكه الله، يهبط بها تسعة آلاف ملك وثلاث مائة وثلاثة

ص: 235

عشر ملكاً. فقلت له: جعلت فداك، كل هؤلاء معه؟ قال: نعم، هم الذين كانوا مع نوح (علیه السلام) في السفينة، والذين كانوا مع إبراهيم (علیه السلام) حيث القي في النار، وهم الذين كانوا مع موسى (علیه السلام) لما فلق له البحر، والذين كانوا مع عيسى (علیه السلام) لما رفعه الله إليه، وأربعة آلاف مسومين كانوا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وثلاث مائة وثلاثة عشر ملكاً كانوا معه يوم بدر).

وإنما يلعنها أهل المشرق والمغرب، لأنهم يعرفون أن المهدي (علیه السلام) يريد تحرير المشرق والمغرب من الظلم. وقوله (علیه السلام) :يأتيه بها جبرئيل (علیه السلام) :لاينافي أنها عند أهل البيت (علیهم السلام) مع مواريث الأنبياء (علیهم السلام) ، والمعنى يسلمه إياها جبرئيل (علیه السلام) ويأمره بنشرها.

وقد روى الجميع أن جبرئيل يكون مع المهدي (علیهما السلام) ، قال ابن حماد في الفتن (1/356): (عن كعب قال: قادة المهدي خير الناس، أهل نصرته وبيعته من أهل كوفان واليمن وأبدال الشام، مقدمته جبريل وساقته ميكائيل، محبوب في الخلائق، يطفئ الله تعالى الفتنة العمياء، وتأمن الأرض حتى إن المرأة لتحج في خمس نسوة ما معهن رجل، لا تتقي شيئاً إلا الله، تعطي الأرض زكاتها والسماء بركتها).

وقال القرطبي في التذكرة (2/700):عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال:(فلو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يأتيهم رجل من أهل بيتي، تكون الملائكة بين يديه).

 

وقال المفيد في كتاب الجمل/190: (وروى الواقدي عن هشام بن سعد عن شيخ من مشايخ أهل البصرة قال: لما صف علي بن أبی طالب (علیه السلام) صفوفه أطال الوقوف والناس ينتظرون أمره، فاشتد عليهم ذلك فصاحوا: حتى متى؟ فصفق بإحدى يديه على الأخرى، ثم قال: عباد الله لا تعجلوا فإني كنت أرى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يستحب أن يحمل إذا هبت الرياح. قال: فأمهل حتى زالت الشمس وصلى ركعتين، ثم قال: أدعوا ابني محمداً فدعي له محمد بن الحنفية فجاء، وهو يومئذ ابن تسع عشرة سنة، فوقف بين يديه ودعا بالراية فنصبت، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما هذه الراية لم ترد قط ولا ترد أبداً، وإني واضعها اليوم في أهلها. ودفعها إلى ولده محمدٍ وقال: تقدم يا بني،فلما رآه القوم قد أقبل والراية بين يديه تضعضعوا، فما هو إلا أن التقوا

ص: 236

ونظروا إلى غرة أمير المؤمنين (علیه السلام) ووجدوا مس السلاح، حتى انهزموا).

 

وقد وصف ابن قتيبة في الإمامة والسياسة (1/96) المعركة فقال: (وأقبل علي وعمار والأشتر والأنصار معهم يريدون الجمل فاقتتل القوم حوله، حتى حال بينهم الليل! وكانوا كذلك يروحون ويغدون على القتال سبعة أيام.

وإن علياً خرج إليهم بعد سبعة أيام فهزمهم.. ثم تقدم عليٌّ فنظر إلى أصحابه يهزمون ويقتلون، فلما نظر إلى ذلك صاح بابنه محمد ومعه الراية أن اقتحم فأبطأ وثبت، فأتى عليٌّ من خلفه فضربه بين كتفيه، وأخذ الراية من يده ثم حمل فدخل عسكرهم، وإن الميمنتين والميسرتين تضطربان، في إحداهما عمار، وفي الأخرى عبدالله بن عباس ومحمد بن أبي بكر، قال: فشق عليٌّ في عسكرالقوم يطعن ويقتل، ثم خرج وهو يقول: الماء الماء، فأتاه رجل بإداوة فيها عسل فقال له: يا أمير المؤمنين أما الماء فإنه لايصلح لك في هذا المقام، ولكن أذوقك هذا العسل فقال: هات، فحسا منه حسوة ثم قال: إن عسلك لطائفي! قال الرجل: لعجباً منك والله يا أميرالمؤمنين لمعرفتك الطائفي من غيره في هذا اليوم، وقد بلغت القلوب الحناجر! فقال له علي:إنه والله يا ابن أخي ما ملأ صدر عمك شئ قط [من أمر الدنيا] ولا هابه شئ!

ثم أعطى الراية لابنه وقال: هكذا فاصنع، فتقدم محمد بالراية، ومعه الأنصار حتى انتهى إلى الجمل والهودج وهزم ما يليه، فاقتتل الناس ذلك اليوم قتالاًشديداً حتى كانت الواقعة والضرب على الركب).

وفي شرح النهج (2/244): (دفع أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم الجمل رايته إلى محمد ابنه وقد استوت الصفوف وقال له:إحمل فتوقف قليلاً، فقال له: إحمل فقال: يا أمير المؤمنين، أما ترى السهام كأنها شآبيب المطر! فدفع في صدره فقال: أدركك عرق من أمك، ثم أخذ الراية فهزها، ثم قال:

ص: 237

أطعن بها طعن أبيك تحمدِ *** لا خير في الحرب إذا لم توقد

بالمشرفي والقنا المسدد

ثم حمل وحمل الناس خلفه، فطحن عسكر البصرة!

وقيل لمحمد: لمَ يُغرِّر بك أبوك في الحرب ولا يغرر بالحسن والحسين؟ فقال: إنهما عيناه وأنا يمينه، فهو يدفع عن عينيه بيمينه)!

قال البلاذري (2/240): (ثم أمر علي محمد بن الحنفية أن يحمل فحمل وحمل الناس فانهزم أهل البصرة، وقتلوا قتلاً ذريعاً وذلك عند المساء، فكانت الحرب من الظهر إلى غروب الشمس). لابد أن البلاذري يقصد آخر معارك حرب الجمل.

 

وفي كتاب الجمل للمفيد/196: (وروى محمد بن عبدالله بن عمر بن دينار قال: قال أمير المؤمنين (علیه السلام) لابنه محمد خذ الراية وامض، وعلي (علیه السلام) خلفه فناداه يا أبا القاسم؟ فقال لبيك يا أبهْ، فقال: يا بني لايستفزنك ما ترى، قد حملت الراية وأنا أصغر منك فما استفزني عدوِّي، وذلك أني لم أبارز أحداً إلا حدثتني نفسي بقتله، فحدث نفسك بعون الله تعالى بظهورك عليهم، ولا يخذلك ضعف النفس من اليقين، فإن ذلك أشد الخذلان. قال: قلت يا أبَهْ، أرجو أن أكون كما تحب إنشاءالله. قال فالزم رايتك فإن اختلفت الصفوف قف في مكانك وبين أصحابك، فإن لم تَبَيَّنْ من أصحابك فاعلم أنهم سيرونك.

قال محمد: والله إني لفي وسط أصحابي فصاروا كلهم خلفي وما بيني وبين القوم أحد يردهم عني، وأنا أريد أن أتقدم في وجوه القوم فما شعرت إلا بأبي خلفي قد جرد سيفه وهو يقول لا تَقَدَّمْ حتى أكونَ أمامك، فتقدم بين يديَّ يهرول ومعه طائفة من أصحابه (الذين بايعوه على الموت) فضرب الذين في وجهه حتى نهضوهم، ولحقتهم بالراية فوقفوا وقفة، واختلط الناس وكدَّت السيوف ساعة، فنظرت إلى أبي يفرج الناس يميناً وشمالاً، ويسوقهم أمامه).

أقول: ورد أنه يومها وجه ابنه محمدا رضي الله عنه بكلامه المشهور.

ص: 238

ففي نهج البلاغة (1/43): (ومن كلام له (علیه السلام) لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل: تزول الجبال ولا تزل. عَضَّ على ناجذك. أَعِرِ الله جمجمتك. تِدْ في الأرض قدمك. إرمِ ببصرك أقصى القوم. وغُض بصرك، واعلم أن النصر من عند الله سبحانه).

أما قوله (علیه السلام) : قد حملت الراية وأنا أصغر منك فما استفزني عدوُّي، فأول ما حمل علي (علیه السلام) الراية يوم بدر، وكان عمره على الأقل خمساً وعشرين سنة، لأنه عند البعثة ابن عشر سنين، وكانت بدر بعد البعثة بنحو خمس عشرة سنة، فقوله (علیه السلام) لمحمد: وأنا أصغر منك، يدل على أن عمر محمد كان يوم الجمل أكثر من خمس وعشرين سنة. فيكون مولد محمد سنة وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) أو في حياته.

وقد أشاع محبوا أبي بكر أن أمه خولة الحنفية من سبي اليمامة وان علياً أخذ من سبي في عهد أبي بكر فهو اعتراف بخلافته! لكن روى البلاذري وغيره أنه سباها بنو أسد وباعوها في المدينة فاشتراها علي (علیه السلام) . وقد تكون الزهراء أجازت له (علیهما السلام) فأعتقها وتزوج بها، وولدت محمداً في حياة النبي (صلی الله علیه و آله) .

كما روي أنه أخذها سبية في اليمن في حياة النبي (صلی الله علیه و آله) ، وهذا هو الصحيح عندي. ولا يتعارض هذا مع ما صحَّ عندنا من أن الله حرّم على عليٍّ (علیه السلام) النساء مادامت فاطمة (علیها السلام) حيَّة لأنه تسرِّن بإذنها.

ص: 239

الفصل السابع والخمسون: هزيمة جيش عائشة وسُمُوُّ علي (علیه السلام) ونُبله

سقط جمل عائشة فانتهت الحرب!

1. قال في شرح النهج (1/265): (فلما رأى علي (علیه السلام) أن الموت عند الجمل، وأنه ما دام قائماً فالحرب لا تطفأ، وضع سيفه على عاتقه وعطف نحوه، وأمرأصحابه بذلك، ومشى نحوه والخطام مع بني ضبة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، واستحر القتل في بني ضبة فقتل منهم مقتلة عظيمة، وخلص علي (علیه السلام) في جماعة من النخع وهمدان إلى الجمل، فقال لرجل من النخع إسمه بجير: دونك الجمل يا بجير، فضرب عجز الجمل بسيفه فوقع لجنبه، وضرب بجرانه الأرض وعجَّ عجيجاً لم يسمع بأشد منه، فما هو إلا أن صرع الجمل حتى فرَّت الرجال كما يطير الجراد في الريح الشديدة الهبوب، واحتملت عائشة بهودجها، فحملت إلى دار عبدالله بن خلف. وأمر علي (علیه السلام) بالجمل أن يحرق ثم يذرى في الريح وقال (علیه السلام) : لعنه الله من دابة! فما أشبهه بعجل بني إسرائيل، ثم قرأ: وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً).

وقال في شرح النهج (6/228):(قال علي (علیه السلام) لما فني الناس على خطام الجمل وقطعت الأيدي وسالت النفوس: أدعوا لي الأشتر وعماراً، فجاءا فقال: إذهبا فاعقرا هذا الجمل فإن الحرب لايبوخُ ضرامها ما دام حياً، إنهم قد اتخذوه قبلة! فذهبا ومعهما فتَيَان من مراد يعرف أحدهما بعمر بن عبدالله، فما زالا يضربان الناس حتى خلصا إليه فضربه المرادي على عرقوبيه فأقعى وله رغاء، ثم وقع لجنبه وفر الناس من حوله! فنادى علي (علیه السلام) :إقطعوا أنساع الهودج،ثم قال لمحمد بن أبي بكر: إكفني أختك فحملها محمد حتى أنزلها دار عبدالله بن

ص: 240

خلف). أقول: لا تنافي بين الروايتين، والصحيح أن علياً (علیه السلام) قاد المجموعة التي عقرت الجمل وقد قالت ذلك عائشة، ووصفت المشهد بأحسن وصف، كما يأتي.

2. في كتاب الجمل للمفيد/196: (قال محمد بن الحنفية رضي الله عنه: فما شعرت إلا بأبي خلفي قد جرد سيفه وهو يقول:لا تَقَدَّمْ حتى أكون أمامك، فتقدم بين يديَّ يهرول ومعه طائفة من أصحابه.. فنظرت إلى أبي يفرج الناس يميناً وشمالاً ويسوقهم أمامه، فأردت أن أجول فكرهت خلافه ووصيته لي لاتفارق الراية، حتى انتهى إلى الجمل وحوله أربعة آلاف مقاتل من بني ضبة والأزد وتميم وغيرهم وصاح: إقطعوا البطان، فأسرع محمد بن أبي بكر فقطعه، واطَّلع على الهودج فقالت عائشة: من أنت؟قال: أبغض أهلك إليك! قالت: ابن الخثعمية؟ قال: نعم، ولم تكن دون أمهاتك! قالت: لعمري بل هي شريفة، دع عنك هذا الحمد لله الذي سلمك. قال قد كان ذلك ما تكرهين! قالت: يا أخي لو كرهته ما قلتُ ما قلت! قال: كنت تحبين الظفر وأني قتلت. قالت: قد كنت أحب ذلك، لكنه لما صرنا إلى ما صرنا لقرابتي منك، فاكفف ولا تعقب الأمور، وخذ الظاهر ولا تكن لَوَمة ولا عَذَلة. قال وجاء علي (علیه السلام) فقرع الهودج برمحه، وقال: يا شعيراء! بهذا وصاك رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ قالت: يا ابن أبی طالب، قد ملكت فاسجح.

وجاءها عمار فقال لها:يا أماه كيف رأيت ضرب بنيك اليوم دون دينهم بالسيف؟ فصمتت ولم تجبه. وجاءها مالك الأشتر وقال لها: الحمد لله الذي نصر وليه وكبت عدوه:جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا، كيف رأيت صنع الله بك يا عائشة؟ فقالت: من أنت ثكلتك أمك؟ فقال: أنا ابنك الأشتر، قالت: كذبت لستُ بأمك. قال: بلى وإن كرهت! فقالت: أنت الذي أردت أن تثكل أختي أسماء بابنها، فقال: المعذرة إلى الله وإليك، والله لولا أنني كنت طاوياً ثلاثاً لأرحتك منه، وأنشأ يقول بعد الصلاة على الرسول:

أعائش لولا أنني كنت طاوياً *** ثلاثاً لألفيت ابن أختك هالكا

غداة ينادي والرجال تحوزه *** بأضعف صوت أقتلوني ومالكا

ص: 241

فركبت وقالت: فَخِرتم وغلبتم: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُوراً. ونادى أمير المؤمنين محمد بن أبي بكر فقال: سلها هل وصل إليها شئ من الرماح والسهام؟ فسألها قالت: نعم، وصل إليَّ سهم خدش رأسي وسلمت من غيره. الله بيني وبينكم. فقال محمد: والله ليحكمن عليك يوم القيامة ما كان بينك وبين أمير المؤمنين (علیه السلام) حين تخرجين عليه وتؤلبين الناس على قتاله، وتنبذين كتاب الله وراء ظهرك! فقالت: دعنا يا محمد، وقل لصاحبك يحرسني! وكان الهودج كالقنفذ من النبل، فرجعتُ إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) وأخبرته بما جرى بيني وبينها وما قلت وما قالت. فقال (علیه السلام) :هي امرأة والنساء ضعاف العقول، فتول أمرها واحملها إلى دار عبدالله بن خلف حتى ننظر في أمرها. فحملتها إلى الموضع، وإن لسانها لايفتر من السب لي ولعلي (علیه السلام) ، والترحم على أصحاب الجمل)!

وفي أمالي المفيد/59: (حدثنا الأعمش، عن حبة العرني قال: سمعت حذيفة بن اليمان قبل أن يقتل عثمان بن عفان بسنة وهو يقول: كأني بأمكم الحميراء قد سارت يساق بها على جمل وأنتم آخذون بالشوى والذنب، معها الأزد أدخلهم الله النار، وأنصارها بنوضبة جذَّ الله أقدامهم. قال: فلما كان يوم الجمل وبرز الناس بعضهم لبعض نادى منادي أمير المؤمنين صلوات الله عليه: لا يبدأن أحد منكم بقتال حتى آمركم. قال: فرموا فينا فقلنا يا أمير المؤمنين قد رمينا، فقال: كفوا، ثم رمونا فقتلوا منا، قلنا يا أمير المؤمنين قد قتلونا، فقال: إحملوا على بركة الله. قال: فحملنا عليهم فأنشب بعضنا في بعض الرماح حتى لو مشى ماش لمشى عليها، ثم نادى منادي علي (علیه السلام) :عليكم بالسيوف فجعلنا نضرب بها البيض فتنبو لنا، فنادى منادي أمير المؤمنين (علیه السلام) : عليكم بالأقدام.

قال: فما رأينا يوماً كان أكثر قطع أقدام منه. قال: فذكرت حديث حذيفة: أنصارها بنو ضبة جذَّ الله أقدامهم، فعلمت أنها دعوة مستجابة.

ثم نادى منادي أميرالمؤمنين (علیه السلام) : عليكم بالبعير فإنه شيطان. قال: فعقره رجل برمحه، وقطع إحدى يديه رجل آخر فبرك ورغا، وصاحت عائشة صيحة شديدة، فولى الناس منهزمين، فنادى منادي أمير المؤمنين (علیه السلام) : لاتجيزوا على جريح، ولاتتبعوا

ص: 242

مدبراً، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن).

وفي بشارة المصطفى للطبري/281: (فلما نزلت جاءها عمار بن ياسرفقال لها: يا أم كيف رأيت ضرب بنيك دون دينهم بالسيف؟ فقالت: إستبصرت يا عمار من أجل أنك غلبت، قال أنا أشد استبصاراً من ذلك، أما والله لو ضربتمونا حتى تبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنكم على الباطل! فقالت له عائشة: هكذا يخيل إليك، إتق الله يا عمار فإن سنك قد كبر، ودق عظمك، وفني أجلك وأذهبت دينك لابن أبی طالب! فقال عمار: إني والله اخترت لنفسي في أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فرأيت علياً أقرأهم لكتاب الله عز وجل، وأعلمهم بتأويله، وأشدهم تعظيماً لحرمته، وأعرفهم بالسنة، مع قرابته من رسول الله وعظم عنائه وبلائه في الإسلام. فسكتت).

3. وفي كتاب الجمل/198: (وروى الواقدي قال: حدثنا هشام بن سعد عن عباس بن عبدالله بن معبد عن معاذ بن عبدالله التميمي قال: لما قدمنا البصرة مع عائشة وأقمنا ما أقمنا ندعو الناس إلى نصرتنا والقيام معنا، فالقابل لما ندعوا إليه والآبي له، ونحن على ما نحن عليه نقول، لا نقاتل علي بن أبی طالب أبداً، إلى أن قيل قد نزل علي فما أدري حتى نشبت الحرب أنشبها الصبيان وأوقدها العبيد، وإذا الجمل رحل والناس يهوون إلى القتال، وإذا عسكر علي قد تحرك، فبادر أصحابنا فرموا وجلبوا وصيحوا وأكثروا، فسمعت عائشة تقول: هذا أول الفشل، وعلي (علیه السلام) وعسكره لا يثنون، ثم صف علي أصحابه وولى الرايات مواضعها، وأعطى ابنه محمداً الراية العظمى راية بيضاء تملأ الرمح، ثم وقف علي (علیه السلام) في القلب وحمل سرعان الميمنة والميسرة، وحمل سرعان القلب فأسمع علياً ينادي محمداً: تقدم بالراية وتوسط القلب، فيكر من تقدمك وإن جالوا أو دفعوا يلحقك من خلفك، ثم سمعته يقول: أصحابك أمامك تقدم تقدم. وتقدم علي والراية بين كتفيه وجرد سيفه وضرب رجلاً فأبان زنده، ثم انتهى

ص: 243

إلى الجمل، وقد اجتمع الناس حوله واختلطوا،وأحدقوا به من كل جانب واستجن الناس تحت بطان الجمل، فأنظر والله إلى علي (علیه السلام) يصيح بمحمد بن أبي بكر: إقطع البطان، وأرى علياً قد قتل ممن أخذ بخطام الجمل عشرة بيده، وكلما قتل رجلاً مسح سيفه في ثيابه! ثم جاوزه حتى صرنا في أيديهم كأننا أغنام نساق، فانصرفنا حينئذ وتلاومنا وندمنا)!

أقول: إن قول هذا التميمي وهو من جماعة عائشة: أنشبها الصبيان وأوقدها العبيد، هو الرواية الرسمية التي ترددها عائشة وأنصارها. وقد تناسوا رعدهم وبرقهم وتهديدهم لعلي (علیه السلام) وإصرارهم على الحرب،وتخيلهم أنهم يقتلونه أو يأخذونه أسيراً!

4. وفي كتاب الجمل/199: (روى الواقدي: قال عبد الرحمن بن الحرث بن هشام: كنت أنا والأسود ابن أبي البختري وعبدالله بن الزبير قد تواعدنا وتعاهدنا بالبصرة، لئن لقينا القوم لنموتن أو لنقتلن علياً. وأصحاب علي لم يكونوا عَدَّلُوا صفوفهم، ثم نظرنا إليهم وقد عدلوا صفوفهم ميمنة وميسرة.

قال عبد الرحمن: كنت واقفاً عند عبدالله بن الزبير والأسود بن البختري فقلت: ما وراءكما؟ قالا نحن على ما كنا عليه إلى أن مالت ميسرته على ميمنتنا فهزموهم، ومالت ميمنته على ميسرتنا ففعلوا مثل ذلك ورأيت علياً وراء ابنه محمد، وقد تقدم يحمل علماً أسود عظيماً وعلي شاهر سيفه، فلقى رجلاً من ضبة فقتله ثم ضرب آخر فقتله، ثم خلص إلينا ووقف عند رجلين، فلاذ كلٌّ منا بصاحبه، وجعل الأسود يقول: هل من مهرب!

وتقدم ابن الزبير فأخذ الجمل فكان آخر من أخذه، فأنظرُ إلى علي وقد انتهى إلى الجمل والسيف يرعف دماً، وهو واضعه على عاتقه وهو يصيح بحمد بن أبي بكر: إقطع البطان فكانت الهزيمة).

5. وفي الأخبار الطوال/150: ( قالوا: ولما رأى علي لَوْثَ أهل البصرة بالجمل، وأنهم كلما كشفوا عنه عادوا فلاثوا به، قال لعمار وسعيد بن قيس وقيس بن سعد بن

ص: 244

عبادة والأشتر وابن بديل ومحمد بن أبي بكر، وأشباههم من حماة أصحابه: إن هؤلاء لا يزالون يقاتلون ما دام هذا الجمل نصب أعينهم، ولو قد عقر فسقط لم تثبت لهم ثابتة، فقصدوا بذوي الجد من أصحابه قصد الجمل حتى كشفوا أهل البصرة عنه، وأفضى إليه رجل من مراد الكوفة، يقال له أعين بن ضبيعة فكشف عرقوبه بالسيف، فسقط وله رغاء، فغرق في القتلى، ومال الهودج بعائشة، فقال علي لمحمد بن أبي بكر: تقدم إلى أختك فدنا محمد فأدخل يده في الهودج، فنالت يده ثياب عائشة فقالت: إنا لله، من أنت ثكلتك أمك، فقال: أنا أخوك محمد! ونادى علي رضي الله عنه في أصحابه: لا تتبعوا مولياً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تنتهبوا مالاً، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. قال: فجعلوا يمرون بالذهب والفضة في معسكرهم والمتاع فلا يعرض له أحد إلا ما كان من السلاح الذي قاتلوا به، والدواب التي حاربوا عليها! فقال له بعض أصحابه: يا أمير المؤمنين كيف حلَّ لنا قتالهم ولم يحلَّ لنا سبيهم وأموالهم؟ قال علي: ليس على الموحدين سبي، ولا يغنم من أموالهم إلا ما قاتلوا به وعليه، فدعوا مالا تعرفون، والزموا ما تؤمرون).

6. وفي الدر النظيم (1/355): (فقصد الأشتر نحوه أول الناس فضربه على عرقوبيه وعنقه سبع ضربات فلم يصنع شيئاً، فانصرف وقال: إن الله قد أعد لقتل هذا غيري. ثم حمل عمار بن ياسرعلى الجمل فلم يصنع شيئاً، وجعل الناس يضربونه فلا يصنعون شيئاً، حتى حمل عمر بن عبدالله المرادي فضربه على عرقوبه الأيمن فأبانه، ثم ضرب عرقوبه الأيسر فأقعى، وقام على يديه وله رغاء وعجيج شديد، ثم ضرب يديه فأبانهما حتى صرعه لجنبه وله عجيج ورغاء، فضربه على عنقه ورأسه وعينيه حتى قتله)!

7. وفي الكافئة في رد توبة الخاطئة/34:(عن الأصبغ بن نباته قال: لما عقر الجمل وقف علي (علیه السلام) على عائشة فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: ذَيْتَ

ص: 245

وذيت! (أي كذا وكذا، وكيت وكيت) فقال: أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لقد ملأتِ أذنيك من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يلعن أصحاب الجمل وأصحاب النهروان! أما أحياؤهم فيقتلون في الفتنة، وأما أمواتهم ففي النار على ملة اليهود)!

8. قال البلاذري (2/249): (عن ابن حاطب قال: أقبلت مع علي يوم الجمل إلى الهودج وكأنه شوك قنفذ من النبل، فضرب الهودج ثم قال: إن حميراء إرم هذه أرادت أن تقتلني كما قتلت عثمان بن عفان! فقال لها أخوها محمد: هل أصابك شئ؟ فقالت:مشقص في عضدي، فأدخل رأسه ثم جرها إليه فأخرجه.

قال لي علي: يا ابن حاطب هل في قومك جراح؟ قلت: إي والله. قال: مرهم بالسمن، فإني لم أر علولاً مثل السمن للجرح).

أقول: يبدو أن أمير المؤمنين (علیه السلام) سمع من النبي (صلی الله علیه و آله) مداواة الجراح بالسمن، وهو بقوله ذلك يريد تغيير الموضوع. أما وصفه (علیه السلام) لعائشة بأنها حميراء إرم، وأخت إرم، فروي أنها امرأة من ثمود شجعت عاقر ناقة صالح (علیه السلام) وأعطته بنتها، والعرب تسمي ثموداً عاداً. وروي أنها امرأة إسمها الكلبة.

قال في معجم البلدان (1/157): (إرم الكلبة بلفظ الأنثى من الكلاب: موضع قريب من النباج بين البصرة والحجاز. والكلبة اسم امرأة ماتت ودفنت هناك، فنسب إليها الإرم وهو العلم. ويوم إرم الكلبة من أيام العرب، قتل فيه بجير بن عبدالله بن سلمة بن قشير القشيري، قتله قعنب الرياحي).

وفي العمدة لابن رشيق/202: (يوم المَرُوت: وهو يوم إرم الكلبة، قريب من النباج).

والغريب في هذا النص أن الإمام (علیه السلام) اتهم عائشة بأنها قتلت عثمان، ومعناه أنها كانت أشد المحرضين عليه الذين سببوا قتله! وقد تكون لها صلة بمن شاركوا في قتله!

وفي تاريخ الطبري (3/538): (أمر علي نفراً بحمل الهودج من بين القتلى، وقد كان القعقاع وزفر بن الحارث أنزلاه عن ظهر البعير، فوضعاه إلى جنب البعير فأقبل محمد بن أبي بكر إليه ومعه نفر فأدخل يده فيه فقالت: من هذا؟قال: أخوك البر. قالت: عقوق! وأبرزوها بهودجها من القتلى ووضعوها ليس قربها أحد وكأن هودجها فرخ

ص: 246

مقضب مما فيه من النبل. وجاء أعين بن ضبيعة المجاشعي حتى اطلع في الهودج فقالت: إليك لعنك الله! فقال: والله ما أرى إلا حميراء! قالت: هتك الله سترك وقطع يدك وأبدى عورتك. فقتل بالبصرة وسلب وقطعت يده، ورمي به عرياناً في خربة من خربات الأزد. فانتهى إليها علي فقال: إي أمه يغفر الله لنا ولكم. قالت: غفر الله لنا ولكم).

أقول: يريدون إثبات كرامة لعائشة، وأن الله انتقم ممن استهزأ بها وقال حميراء! وأنها عفت عنه بكرمها! وزعموا أن القضية سويت بينها وبين علي (علیه السلام) بالإستغفار، وكأن الإستغفار يساوي دفع دية ثلاثين ألف قتيل!

9. وفي الكافئة/36:(قال أبو رافع: سأحدثكم بحديث سمعته أذناي لا أحدثكم عن غيري: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول لعلي: قاتل الله من قاتلك وعادى الله من عاداك. فقالت عائشة: يا رسول الله من يقاتله ومن يعاديه؟ قال:أنتِ ومن معك، أنتِ ومن معك).

بقي أميرالمؤمنين (علیه السلام) ثلاثة أيام في أرض المعركة

1. في نهج البلاغة (2/203): (ومن كلام له (علیه السلام) لما مر بطلحة وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وهما قتيلان يوم الجمل: لقد أصبح أبو محمد بهذا المكان غريباً! أمَا والله لقد كنت أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب. أدركت وتري من بني عبد مناف، وأفلتتني أعيان بني جمح، لقد أتلعوا أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله فوُقِصوا دونه). أي ماتوا ولم يبلغوه!

2. وفي شرح النهج (1/248):(الأصبغ بن نباتة: لما انهزم أهل البصرة ركب علي بغلة رسول الله (صلی الله علیه و آله) الشهباء وكانت باقية عنده، وسار في القتلى يستعرضهم، فمر بكعب بن سور القاضي قاضي البصرة وهو قتيل فقال: أجلسوه فأجلس، فقال له: ويل أمك كعب بن سور! لقد كان لك علم لو نفعك، ولكن الشيطان أضلك فأزلك فعجلك إلى النار، أرسلوه. ثم مر بطلحة بن عبيد الله قتيلاً،

ص: 247

فقال: أجلسوه، فأجلس، قال أبو مخنف في كتابه: فقال: ويل أمك طلحة! لقد كان لك قدم لو نفعك! ولكن الشيطان أضلك فأزلك، فعجلك إلى النار).

3. قال العيني في عمدة القاري بشرح البخاري(15/50):(ثم إن علياً رضي الله تعالى عنه أقام بظاهر البصرة ثلاثة أيام وصلى على القتلى من الفريقين. وقال ابن الكلبي: قتل من أصحاب عائشة ثمانية آلاف وقيل ثلاثة عشر ألفاً، ومن أصحاب علي ألف.. وكان في جملة القتلى طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة.

عليٌّ البصرة يوم الإثنين).

أقول: لم يصلِّ علي (علیه السلام) على قتلى عائشة لأنهم خوارج، ولما التقى بطلحة والزبير بين الصفين وذكرا حديث العشرة المبشرة، كذَّب علي (علیه السلام) هذا الحديث بضرس قاطع!

4. قال ابن الأثير في الكامل (3/255): (فأقام علي بظاهر البصرة ثلاثاً، وأذن للناس في دفن موتاهم فخرجوا إليهم فدفنوهم، وطاف علي في القتلى، فلما أتى علي كعب بن سور قال: أزعمتم أنه خرج معهم السفهاء وهذا الحبر قد ترون!

وأتى على عبد الرحمن بن عتاب فقال: هذا يعسوب القوم، يعني أنهم كانوا يطيفون به، واجتمعوا على الرضا به لصلاتهم. ومر على طلحة بن عبيد الله وهو صريع فقال: لهفي عليك يا أبا محمد، إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لقد كنت أكره أن أرى قريشاً صرعى! أنت والله كما قال الشاعر:

فتىً كان يدنيه الغنى من صديقه *** إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر).

أقول: كل ما روي في أن علياً (علیه السلام) مدح طلحة والزبير وعائشة فهو موضوع عليه .

5. قال المفيد في الإرشاد(1/246): (ومن كلامه (علیه السلام) عند تطوافه على القتلى:هذه قريش!جدعتُ أنفي وشفيت نفسي، لقد تقدمت إليكم أحذركم عض السيوف وكنتم أحداثاً لا علم لكم بما ترون، ولكنه الحين وسوء المصرع، فأعوذ بالله من سوء المصرع! ثم مر على معبد بن المقداد فقال: رحم الله أبا هذا، أما إنه لو كان حياً لكان رأيه أحسن من رأي هذا، فقال عمار بن ياسر:الحمد لله الذي أوقعه

ص: 248

وجعل خده الأسفل، إنا والله يا أمير المؤمنين ما نبالي من عند عن الحق من ولد ووالد. فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : رحمك الله، وجزاك عن الحق خيراً.

ومرَّ بعبدالله بن ربيعة بن دراج وهو في القتلى فقال: هذا البائس ماكان أخرجه، أدين أخرجه أم نصر لعثمان! والله ما كان رأي عثمان فيه ولا في أبيه بحسن.

ثم مر بمعبد بن زهير بن أبي أمية، فقال: لوكانت الفتنة برأس الثريا لتناولها هذا الغلام، والله ماكان فيها بذي نحيزة (أي لم يكن من أهل في الحرب) ولقد أخبرني من أدركه وإنه ليولول فرقاً من السيف!

ثم مر بمسلم بن قرظة فقال:البرأخرج هذا! والله لقد كلمني أن أكلم له عثمان في شئ كان يدعيه قبله بمكة، فأعطاه عثمان وقال: لولا أنت ما أعطيته، إن هذا ما علمت بئس أخو العشيرة، ثم جاء المشوم للحين ينصرعثمان!

ثم مر بعبدالله بن حميد بن زهير فقال: هذا أيضاً ممن أوضع في قتالنا، زعم يطلب الله بذلك، ولقد كتب إلي كتباً يؤذي فيها عثمان فأعطاه شيئاً فرضي عنه.

ومر بعبدالله بن حكيم بن حزام فقال: هذا خالف أباه في الخروج، وأبوه حيث لم ينصرنا قد أحسن في بيعته لنا، وإن كان قد كف وجلس حيث شك في القتال، وما ألوم اليوم من كف عنا وعن غيرنا، ولكن المليم الذي يقاتلنا.

ثم مر بعبدالله بن المغيرة بن الأخنس فقال: أما هذا فقتل أبوه يوم قتل عثمان في الدار، فخرج مغضباً لمقتل أبيه، وهو غلام حدث حين قتله.

ثم مر بعبدالله بن أبي عثمان بن الأخنس بن شريق فقال: أما هذا فإني أنظر إليه وقد أخذ القوم السيوف هارباً يعدو من الصف، فنهنهت عنه فلم يَسمع من نهنهت حتى قتله. وكان هذا مما خفي على فتيان قريش، أغمارٌ لاعلم لهم بالحرب، خُدعوا واستُزلوا، فلما وقفوا وقعوا فقتلوا.

ثم مشى قليلاً فمر بكعب بن سور فقال: هذا الذي خرج علينا في عنقه المصحف، يزعم أنه ناصر أمه، يدعو الناس إلى ما فيه وهو لايعلم ما فيه، ثم استفتح وخاب كل جبار عنيد! أما إنه دعا الله أن يقتلني فقتلة الله. أجلسوا كعب

ص: 249

بن سور فأجلس، فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : يا كعب، قد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً؟ ثم قال:أضجعوا كعباً. ومر على طلحة بن عبيد الله فقال: هذا الناكث بيعتي، والمنشئ الفتنة في الأمة، والمجلب عليَّ، الداعي إلى قتلي وقتل عترتي. أجلسوا طلحة، فأجلس، فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) :يا طلحة بن عبيد الله، قد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدت ما وعد ربك حقاً؟ ثم قال: أضجعوا طلحة وسار. فقال له بعض من كان معه:يا أمير المؤمنين، تُكلم كعباً وطلحة بعد قتلهما؟ قال: أمَا والله، إنهما لقد سمعا كلامي، كما سمع أهل القليب كلام رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم بدر).

6. وقال البلاذري في أنساب الأشراف (2/264): (وقال أبو مخنف وغيره: قتل مع عائشة عبد الرحمان بن عتاب بن أسيد، وعلي بن عدي بن ربيعة بن عبد شمس، ومسلم بن قرظة من بني نوفل بن عبد مناف، وعبدالله بن حكيم بن حزام، ومعبد بن المقداد بن الأسود، وأمه ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وهو الذي مرَّ به علي فقال: لا جزاك الله من ابن أخت خيراً).

بنا تسنمتم الشرف

من كلامه (علیه السلام) حين قتل طلحة، وانفض أهل البصرة (الإرشاد:1/254): (بنا تسنمتم الشرفاء، وبنا انفجرتم عن السرار، وبنا اهتديتم في الظلماء؟ وَقَرَ سَمْعٌ لم يفقه الواعية، كيف يراع للنبأة من أصمته الصيحة، رُبِطَ جنانٌ لم يفارقه الخفقان ما زلت أتوقع بكم عواقب الغدر، وأتوسمكم بحلية المغترين، سترني عنكم جلباب الدين، وبصرنيكم صدق النية، أقمت لكم الحق حيث تعرفون ولا دليل، وتحتفرون ولا تميهون.

اليوم أُنطِقُ لكم العجماء ذات البيان، عزب فهم امرئ تخلف عني، ما شككت في الحق منذ رأيته.كان بنو يعقوب على المحجة العظمى حتى عقوا أباهم وباعوا أخاهم، وبعد الإقرار كانت توبتهم، وباستغفار أبيهم وأخيهم غفر لهم).

أقول: يبدو أنها فقرة من خطبته صلوات الله عليه في ذي قار، التي رواها في العدد القوية عن كتاب الصفار رضي الله عنهم، وقد أوردنا ما وجدناه منها في محله.

ص: 250

عدد الجيشين وعدد القتلى من الطرفين

تفاوتت الرواية في عدد الجيشين والقتلى، لكنها اتفقت على أن عدد جيش عائشة كان ضعفي جيش علي (علیه السلام) أو أضعافه وكذلك عدد قتلاها. فقد وصلت رواية سُليم بجيش عائشة الى مئة وعشرين ألفاً، روى ذلك عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في جوابه للأشعث بن قيس لما سأله: ما دمت وصي النبي (صلی الله علیه و آله) وصاحب الحق، فلماذا لم تقاتل أبا بكر وعمر؟ فقال (علیه السلام) : (أخبرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) بما الأمة صانعة بي بعده! فلم أك بما صنعوا حين عاينته بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك، بل أنا بقول رسول الله (صلی الله علیه و آله) أشد يقيناً مني بما عاينت وشهدت. فقلت:يا رسول الله فما تعهد إليَّ إذا كان ذلك؟ قال: إن وجدتَ أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن دمك، حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعواناً...

ويلك يا ابن قيس، كيف رأيتني صنعت حين قتل عثمان إذ وجدت أعواناً؟ هل رأيت مني فشلاً أو تأخراً أو جبناً أو تقصيراً في وقعتي يوم البصرة، وهم حول جملهم الملعون من معه، الملعون من قتل حوله، الملعون من رجع بعده لا تائباً ولا مستغفراً، فإنهم قتلوا أنصاري ونكثوا بيعتي ومثلوا بعاملي وبغوا عليَّ! فسرت إليهم في اثني عشرألفاً وهم نيفٌ على عشرين ومائة ألف! فنصرني الله عليهم، وقتلهم بأيدينا، وشفى صدور قوم مؤمنين)!

وكذا في كتاب سليم (رحمة الله) /325:(قال أبان: سمعت سليم بن قيس يقول: شهدت يوم الجمل علياً (علیه السلام) وكنا اثني عشر ألفاً وكان أصحاب الجمل زيادةً على عشرين ومائة ألف! وكان مع علي (علیه السلام) من المهاجرين والأنصار نحو من أربعة آلاف ممن شهد مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) بدرا والحديبية ومشاهده، وسائر الناس من أهل الكوفة إلا من تبعه من أهل البصرة والحجاز ليست له هجرة ممن أسلم بعد الفتح. وجل الأربعة آلاف من الأنصار. ولم يكره أحداً من الناس على البيعة ولا على القتال، إنما ندبهم فانتدب من أهل بدر سبعون ومائة رجل، وجلهم من الأنصار ممن شاهد أُحُداً والحديبية، ولم يتخلف عنه أحد. وليس

ص: 251

أحد من المهاجرين والأنصار إلا وهواه معه، يتولونه ويدعون له بالظفر والنصر).

 

وروى الحضيني في الهداية/141، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (ومسيرها من مكة إلى البصرة، وإشعالها حرباً قتل فيه طلحة والزبير وخمسة وعشرون ألفاً من المسلمين، وقد علمتم أن الله عز وجل يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مؤمناً متعمداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عذاباً عَظِيماً).

وفي الإرشاد (1/247) الكافئة/19، والمعيار والموازنة/53، وشرح النهج (1/233)، عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: (وقد والله علمت أنها الراكبة الجمل لا تحل عقدة ولا تسير عقبة ولا تنزل منزلاً إلا إلى معصية، حتى تورد نفسها ومن معها مورداً يقتل ثلثهم، ويهرب ثلثهم، ويرجع ثلثهم. والله إن طلحة والزبير ليعلمان أنهما مخطئان وما يجهلان، ولرب عالم قتله جهله وعلمه معه لا ينفعه. والله لتنبحنها كلاب الحوأب، فهل يعتبر معتبر، أو يتفكر متفكر! ثم قال: قد قامت الفئة الباغية فأين المحسنون؟).

هذا هو المرجح عندنا، فيكون عدد القتلى أربعين ألفاً وأكثر من جيش عائشة، وروي أنه قتل ألف وكسر من جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وتكون الروايات التي تقلل عدد الجيشين متأثرة بسياسة الحكومات التي أرادت أن تهون من أمر حرب الجمل وتقول إنها كانت معركة واحدة أنشبها الصبيان والأوباش، وكان القتلى فيها قليلين! فكل رواية تقلل من شأن المعركة ومن عدد قتلاها، محل شك.

لاحظ ما رواه الطبري (3 /543): ( كان قتلى الجمل حول الجمل عشرة آلاف، نصفهم من أصحاب علي ونصفهم من أصحاب عائشة).

فقد ساوى بينهم حتى في عدد القتلى، لأنهم كلهم سواء مرضيون عند الراوي!

 

وقال في العقد الفريد/74:(عن قتادة قال: قتل يوم الجمل مع عائشة عشرون ألفاً، منهم ثمان مائة من بني ضبة. وقتل من أصحاب علي خمس مائة رجل).

وهي أقرب الى الصحة من رواية الطبري. ونحوها رواية البلاذري (2/264): (وكان

ص: 252

جميع من قتل من الناس من أهل البصرة عشرون ألفاً).

لكن البلاذري روى أن جيشها مئة وعشرين ألفاً، وروينا أنه يقتل ثلثهم.

وفي تاريخ خليفة/139، عن جدة المعلى أبي حاتم قالت:(خرجنا إلى قتلى الجمل فعددناهم بالقصب عشرين ألفاً..عن خالد بن العاص عن أبيه قال: قتل ثلاثة عشر ألفاً. من أصحاب علي ما بين الأربع مائة إلى الخمس مائة).

ولو كانوا عدوهم بالقصب لاشتهر ذلك ورواه غير جدة المعلى! ولا نطيل في سرد رواياتهم المتناقضة، بعد أن رجحنا أن جيش عائشة نحو مئة وعشرين ألفاً قتل ثلثهم.

أما جيش علي (علیه السلام) فكانوا اثني عشر ألفاً إلا مئة، كما قال ابن الحنفية (البلاذري:2/262) وقد قسموا بينهم بيت مال البصرة، فأصاب الواحد خمس مئة.

قال المسعودي في مروج الذهب (2/370): (ودخل عليٌّ بيت مال البصرة في جماعة من المهاجرين والأنصار، فنظر الى ما فيه من العين والورق فجعل يقول: يا صفراء غُرِّي غيري، ويا بيضاء غُري غيري، وأدام النظر الى المال مفكراً ثم قال: إقسموه بين أصحابي ومن معي خمس مائة خمس مائة، ففعلوا فما نقص درهم واحد، وعدد الرجال اثنا عشر ألفاً).

وفي الدر النظيم (1/357): (وأخذ علي لنفسه خمس مائة، فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أعطني من الفئ، فأعطاه الخمس مائة ». فالذين أخذوا العطاء اثنا عشر ألفاً، والمرجح أن الشهداء من ضمنهم، أخذوا لهم سهمهم.

سبب كثرة القتلى من جيش عائشة

قال أمير المؤمنين (علیه السلام) عن فتيان قريش (الإرشاد:1/246): (أغمار لاعلم لهم بالحرب خُدعوا واستُزلوا، فلما وقفوا وقعوا فقتلوا).

وقالت عائشة كما في حديث الواقدي عن كبشة بنت كعب (الجمل للمفيد/201): (وكان من معنا فتيان أحداث من قريش،لاعلم لهم بالقتال، ولم يشهدوا الحرب فكانوا جَزْراً للقوم، فإني لعلى ما نحن فيه وقد كان الناس كلهم حول جملي،

ص: 253

فسكتوا ساعة فقلت: خيراً أم شراً ذا سكوتكم، ضَرُس القتال! وإذا ابن أبی طالب أنظر إليه يباشرالقتال بنفسه، وأسمعه يصيح: الجمل الجمل! فقلت: أرادوا والله قتلي! فإذا هو علي بن أبی طالب، ومعه محمد بن أبي بكر أخي، ومعاذ بن عبدالله التميمي، وعمار بن ياسر، وقطعوا البطان واحتملوا الهودج فهوى على أيدي الرجال يرفلون به،وهرب من كان معنا فلم أحس لهم خبراً! ونادى منادي علي بن أبی طالب: لا يُتبع مدبر، ولا يُجهز على جريح، ومن طرح السلاح فهو آمن. فرجعت إلى الناس أرواحهم)!

أقول: كان القرشيون مع عائشة قادة الحرب، وكانوا قلة، وعندما يقود المعركة أغرار يغررون بألوف الجنود ويطعمونهم للسيوف! أما سبب زيادة عدد جنود عائشة فهو أنها أحدثت موجة نصرة زوجة النبي (صلی الله علیه و آله) أم المؤمنين، وكانت تعطي الجندي ضعفين، فتهافت شباب البصرة ومحيطها على الجندية معها.

رسالة من قتيل من بني ضبة الى عائشة!

قال المسعودي في مروج الذهب (2/370): (وقد ذكر المدائني أنه رأى بالبصرة رجلاً مصطلم الأذن، فسأله عن قصته فذكر أنه خرج يوم الجمل ينظر الى القتلى، فنظر الى رجل منهم يخفض رأسه ويرفعه وهو يقول:

لقد أوردتنا حومة الموتِ أمُّنا *** فلم تنصرف إلا ونحن رِوَاءُ

أطعنا بني تَيمٍ لشقوة جِدنا *** وما تيمُ الا أعبُدٌ وإماء

فقلت: سبحان الله أتقول هذا عند الموت؟قل لا إله الا الله، فقال:يا ابن اللخناء إياي تأمر بالجزع عند الموت؟ فوليت عنه متعجباً منه، فصاح بي:أدْنُ مني ولقِّنِّي الشهادة، فصرت اليه فلما قربت منه استدناني، ثم التقم أذني فذهب بها فجعلت ألعنه وأدعو عليه، فقال: إذا صرت الى أمك فقالت من فعل هذا بك؟ فقل: عمير بن الأهلب الضبي، مخدوع المرأة التي أرادت أن تكون أميرالمؤمنين)!

وروت هذه القصة مصادر عديدة، وفي الفتوح لابن الأعثم(2/485): (وانفلت الهمداني بغير أذن، ثم انْكَرَّ عليه بسيفه حتى قطعه إرباً إرباً).

ص: 254

رسالة أميرالمؤمنين (علیه السلام) الى أهل الكوفة بالنصر

1. في الكافئة/29): (عن أبي مخنف لوط بن يحيى، عن عبدالله بن عاصم، عن محمد بن بشير الهمداني، قال: ورد كتاب أميرالمؤمنين (علیه السلام) مع عمرو بن سلمة الأرحبي إلى أهل الكوفة، فكبر الناس تكبيرة سمعها عامة الناس، واجتمعوا لها في المسجد ونودي: الصلاة جمعاً، فلم يتخلف أحد وقرئ الكتاب فكان فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبدالله أميرالمؤمنين إلى قرظة بن كعب ومن قِبَله من المسلمين: سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو.

أما بعد، فإنا لقينا القوم الناكثين لبيعتنا، والمفارقين لجماعتنا، الباغين علينا في أمتنا، فحججناهم فحاكمناهم إلى الله، فأدالنا عليهم، فقتل طلحة والزبير، وقد تقدمت إليهما بالمعذرة، وأقبلت إليهما بالنصيحة، واستشهدت عليهما صلحاء الأمة، فما أطاعا المرشدين، ولا أجابا الناصحين.

ولاذ أهل البغي بعائشة، فقتل حولها من أهل البصرة عالم جم، وضرب الله وجه بقيتهم فأدبروا. فما كانت ناقة الحجر بأشأم عليهم منها على أهل ذلك المصر، مع ما جاءت به من الحوب الكبير في معصيتها ربها ونبيها، واغترارها في تفريق المسلمين وسفك دماء المؤمنين، بلا بينة ولا معذرة، ولا حجة ظاهرة. فلما هزمهم الله أمرت أن لا يتبع مدبر، ولا يجهز على جريح، ولا تكشف عورة، ولا يهتك ستر، ولا يدخل دار إلا بإذن، وآمنت الناس.

وقد استشهد منا رجال صالحون ضاعف الله حسناتهم ورفع درجاتهم وأثابهم ثواب الصادقين الصابرين. وجزاكم الله من أهل مصرعن أهل بيت نبيكم (صلی الله علیه و آله) أحسن جزاء العاملين بطاعته، والشاكرين لنعمته، فقد سمعتم وأطعتم وأجبتم إذا دعيتم، فنعم الإخوان والأعوان على الحق أنتم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.كتب عبيد الله بن أبي رافع في رجب سنة ست وثلاثين).

ص: 255

2. وأرسل الإمام (علیه السلام) رسالة الى أهل الكوفة يشرح فيها لهم الوضع، ويبدو أنها بعد رسالته الى عامله قرظة بن كعب. قال المفيد في الإرشاد(1/258): (ثم كتب (علیه السلام) بالفتح إلى أهل الكوفة: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبدالله علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة: سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الله حكم عدل: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ. أخبركم عنا وعمن سرنا إليه من جموع أهل البصرة،ومن تأشب إليهم من قريش وغيرهم مع طلحة والزبير، ونكثهم صفقة أيمانهم، فنهضت من المدينة حين انتهى إلي خبر من سار إليها وجماعتها، وما صنعوا بعاملي عثمان بن حنيف..وتقدمت في رسائله (علیه السلام) .

دخول أميرالمؤمنين (علیه السلام) مدينة البصرة

1. قال الطبري (3/543): (دخل علي البصرة يوم الإثنين، فانتهى إلى المسجد فصلى فيه، ثم دخل البصرة فأتاه الناس، ثم راح إلى عائشة على بغلته، فلما انتهى إلى دار عبدالله بن خلف وهي أعظم دار بالبصرة، وجد النساء يبكين على عبدالله وعثمان ابني خلف مع عائشة، وصفية ابنة الحارث مختمرة تبكي، فلما رأته قالت: يا علي يا قاتل الأحبة، يا مفرق الجمع، أيتم الله بنيك منك كما أيتمت ولد عبدالله منه! فلم يرد عليها شيئاً، ولم يزل على حاله حتى دخل على عائشة فسلم عليها وقعد عندها وقال لها: جبهتنا صفية! أما إني لم أرها منذ كانت جارية حتى اليوم. فلما خرج علي أقبلت عليه فأعادت عليه الكلام، فكفَّ بغلته وقال: أمَّا لهممتُ، وأشار إلى الأبواب من الدار أن أفتح هذا الباب وأقتل من فيه، ثم هذا فأقتل من فيه، ثم هذا فأقتل من فيه! وكان أناس من الجرحى قد لجؤوا إلى عائشة فأُخبر علي بمكانهم عندها فتغافل عنهم.فسكتت.

فخرج علي فقال رجل من الأزد: والله لا تفلتنا هذه المرأة! فغضب وقال: صَهْ لا تهتكن ستراً، ولا تدخلن داراً، ولاتهيجن امرأة بأذى، وإن شتمن أعراضكم وسفهن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهن ضعاف، ولقد كنا نؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات، وإن الرجل ليكافئ المرأة ويتناولها بالضرب فيعير بها عقبه من بعده، فلايبلغني عن أحد عَرَضَ لامرأة، فأُنَكِّلُ به شرار الناس.

ص: 256

ومضى علي (علیه السلام) فلحق به رجل فقال: يا أمير المؤمنين قام رجلان ممن لقيت على الباب، فتناولا من هو أمضُّ لك شتيمة من صفية. قال: ويحك لعلها عائشة؟ قال: نعم، قام رجلان منهم على باب الدار، فقال أحدهما: جزيت عنا أمنا عقوقاً، وقال الآخر: يا أمنا توبي فقد خطيتِ..هما رجلان من أزد الكوفة يقال لهما عجل وسعد ابنا عبدالله , فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب فأقبل بمن كان عليه، فأحالوا على رجلين فقال: أضربُ أعناقهما، ثم قال: لأنهكنهما عقوبة فضربهما مائة مائة، وأخرجهما من ثيابهما).

أقول:كثرت مكذوباتهم في أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) دافع عنها، ولوصحت هذه الرواية، وأنه عاقب هذين، فعقابهما ليس لذمهما عائشة، بل لأنهما تصرفا بدون إذنه، في ذلك الظرف الإستثنائي.

كما أن أمير المؤمنين (علیه السلام) لم يزر عائشة ابتداء منه، بل كان ذلك بطلبها كما تأتي روايته.

2. وفي الكامل(3/256):(ثم دخل عليٌّ البصرة يوم الإثنين فبايعه أهلها على راياتهم حتى الجرحى والمستأمنة، وأتاه عبد الرحمن بن أبي بكرة في المستأمنين أيضاً، فقال له علي: ما عمل المتربص المتقاعد بي أيضاً، يعني أباه أبا بكرة؟ فقال: والله إنه لمريض وإنه على مسرتك لحريص. فقال علي: إمش أمامي فمشى معه إلى أبيه فلما دخل عليه عليٌّ قال له:تقاعدت بي وتربصت!ووضع يده على صدره وقال: هذا وجعٌ بين، واعتذر إليه فقبل عذره، وأراده على البصرة فامتنع وقال: رجل من أهلك يسكن إليه الناس، وسأشيرعليه فاتفقا على ابن عباس، وولى زياداً على الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس أن يسمع منه ويطيع، وكان زياد معتزلاً). أقول: أبو بكرة بن عبيد أخ زياد بن عبيد، وأمهما سمية الفارسية التي أعطاها كسرى للحارث بن كلدة لما عالجه من السم، فزوجها غلامه عبيد.

وكانا يجيدان الفارسية من أمهما، وقد نجح زياد في التعامل مع الفرس في البصرة وفارس، فكان والياً ناجحاً، وكذلك أخوه أبو بَكَرة، وسمي بهذا لأن النبي (صلی الله علیه و آله) لما حاصر الطائف أعلن أن من جاءه مسلماً من

ص: 257

العبيد فهو حر، فنزل هذا عن سور الطائف بحبل وبكرة، فسمي أبا بكرة، وأسلم وأعتقه النبي (صلی الله علیه و آله) .

3. قال المفيد في الإرشاد(1/258): (ومن كلامه (علیه السلام) بالبصرة حين ظهر على القوم بعد حمد الله والثناء عليه. أما بعد: فإن الله ذو رحمة واسعة، ومغفرة دائمة، وعفو جم، وعقاب أليم، قضى أن رحمته ومغفرته وعفوه لأهل طاعته من خلقه، وبرحمته اهتدى المهتدون، وقضى أن نقمته وسطواته وعقابه على أهل معصيته من خلقه، وبعد الهدى والبينات ما ضل الضالون.

فما ظنكم يا أهل البصرة وقد نكثتم بيعتي، وظاهرتم عليَّ عدوي؟فقام إليه رجل فقال: نظن خيراً، ونراك قد ظفرت وقدرت، فإن عاقبت فقد اجترمنا ذلك، وإن عفوت فالعفو أحب إلى الله. فقال (علیه السلام) : قد عفوت عنكم فإياكم والفتنة، فإنكم أول الرعية نكث البيعة، وشق عصا هذه الأمة.

قال:ثم جلس للناس فبايعوه).

 

ص: 258

الفصل ثامن و الخمسون

إسكان عائشة ثم ترحيلها الى المدينة

أنزل علي عائشة في أكبر قصر في البصرة

وصف البخاري (83/1) والمفيد (الجمل /83) بيت ابن خلف بالبصرة بأنه قصر. وقال الطبري (543/3): (دخل علي البصرة يوم الإثنين فانتهى إلى المسجد فصلى فيه ، ثم دخل البصرة فأتاه الناس ثم راح إلى عائشة على بغلته ، فلما انتهى إلى دار عبدالله بن خلف وهي أعظم دار بالبصرة، وجد النساء يبكين على عبدالله وعثمان ابني خلف قتلامع عائشة، وصفية ابنة الحارث.. الى آخر ما تقدم.

م اللّهُ آلِ

وصفية هذه أم طلحة الطلحات بنت الحارث بن طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار (تهذيب التهذيب :380/12) . وقد أجابها أمير المؤمنين الله بقوله : ( إني لا ألومك أن تبغضيني يا صفية، وقد قتلت جدك يوم بدر، وعمك يوم أحد، وزوجك الآن، ولو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذه البيوت (مناقب آل أبي طالب (98/2) . وقد قتل علي عال جدها طلحة في بدر بأمر النبي وكان أسيراً. وقتل عمها طلحة بن أبي

السَّلام

طلحة يوم أحد وكان حامل لواء المشركين وقتل زوجها ابن خلف الخزاعي لما تحداه وأراد قتله : ففي كشف الغمة (422/1) : فسمع صائحاً من ورائه فالتفت فرأى ابن أبي خلف الخزاعي من أصحاب الجمل فقال : هل لك في المبارزة يا علي ؟ فقال علي الله : ما أكره ذلك، ولكن ويحك يا ابن أبي خلف ما راحتك في القتل وقد علمت من أنا ؟ فقال : ذرني يا ابن أبي طالب

من بذخك بنفسك، وادن مني ل- أينا يقتل صاحبه ! فثنى على الله عنان فرسه إليه، فبدره

ص: 259

ابن خلف بضربة فأخذها علي في جحفته، ثم عطف عليه بضربة أطار بها يمينه، ثم ثنى بأخرى أطار بها قحف رأسه)!

وقيل كان أخوه عثمان مع علي @، والصحيح أنه كان مع عائشة فبرز الى على @ فقتله أيضاً، وكانت النسوة تبكيانهما معاً.

وقال القاضي المغربي في دعائم الإسلام (394/1) إن أمير المؤمنين الله قال لعائشة: (ألا تبعدين هؤلاء الكلبات عني! يزعمن أني قاتل الأحبة، ولو قتلت الأحبة لقتلت من في هذه الحجرة، ومن في هذه الحجرة، وأومى إلى ثلاث حجرات، فما بقي في الدار صائحة إلا سكتت، ولا قائمة إلا جلست ! قال الأصبغ وكان في إحدى الحجر عائشة ومن معها من خاصتها، وفي الأخرى مروان بن حكم وشباب من قريش وفي الأخرى عبد الله بن الزبير وأهله فقيل له : فهلا بسطتم أيديكم على هؤلاء فقتلتموهم؟ أليس هؤلاء كانوا أصحاب القرحة فلم استبقاهم ؟ قال الأصبغ : قد ضربنا والله بأيدينا على قوائم السيوف، وحددنا أبصارنا نحوه لكي يأمرنا فيهم بأمر فما فعل، ووسعهم عفوه)

وجمعت عائشة جرحاها والهاربين ، وزارها الناس

1 . قال الطبري (542/3) : (وتسلل الجرحى في جوف الليل ودخلوا البصرة، مَن كان يطيق الإنبعاث منهم، وسألت عائشة يومئذ عن عدة من الناس منهم كان معها ومنهم من كان عليها. وقد غشيها الناس وهي في دار عبدالله بن خلف، فكلما نعي لها منهم واحد قالت يرحمه الله فقال لها رجل من أصحابها كيف ذلك؟ قالت كذلك قال رسول الله فلان في الجنة وفلان في الجنة وقال علي بن أبي طالب يومئذ: إني لأرجو ألا يكون أحد من هؤلاء نقى قلبه، إلا أدخله الله الجنة).

أقول : لم يقل رسول الله % إن القاتل والمقتول في الجنة ! لكن عائشة تريد أن تساوي قتلاها البغاة بشهداء أمير المؤمنين @ ، وهذا ادعاء باطل، وكل ما يروونه من ندم علي @ أو شهادته بالجنة لأصحاب عائشة فهو مكذوب. بل صح عنه العكس.

ص: 260

2 . قال العيني في عمدة القاري (15 / 50): (ولما كان آخر الليل خرج محمد بعائشة فأدخلها البصرة، وأنزلها في دار عبدالله بن خلف الخزاعي، وبكت عائشة بكاءً شديداً وقالت: وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة ! وجاء وجوه الناس من الأمراء والأعيان يسلمون عليها).

3 . وقال ابن الأعثم (485/2): (فقالت عائشة لأخيها : يا أخي، أنشدك بالله . إلا طلبت لي ابن أختك عبدالله بن الزبير، فقال لها محمد ولم تسألين عن عبد الله؟ فوالله ما سامك أحد سواه فقالت عائشة: مهلاً يا أخي فإنه ابن أختك وقد كان ما ليس إلى رده سبيل، فأقبل محمد إلى موضع المعركة فإذا هو بعبدالله بن الزبير جريحاً لما به، فقال له محمد أجلس يا ميشوم أهل بيته أجلس لا أجلسك الله !

قال : فجلس ابن الزبير وحمله محمد بين يديه وركب من خلفه، وجعل يمسكه وهو يميل من الجراح التي به حتى أدخله على عائشة ، فلما نظرت إليه على تلك الحالة بكت، ثم قالت لأخيها محمد يا أخي، استأمن له علياً وتمم إحسانك، فقال لها محمد : لا بارك الله لك فيه ! ثم سار إلى علي وسأله ذلك، فقال علي @ قد آمنته، وآمنت جميع الناس).

وفي مناقب آل أبي طالب (346/2) : ( أقسمت عليك أن تطلب عبدالله بن الزبير جريحاً كان أو قتيلاً . فقال : إنه كان هدفاً للأشتر. فوجده فقال: أجلس يا مشؤوم أهل بيته ! فأتاها به فصاحت وبكت ثم قالت: يا أخي إستأمن له....)

4 . لكن الطبري (541/3) روى أن رجلاً آواه فكتم مكانه وأخبر به عائشة فبعثت أخاها محمداً فأتى بها، قال: فخرج عبدالله ومحمد وهما يتشاتمان! فذكر محمد عثمان فشتمه، وشتم عبدالله محمداً، حتى انتهى إلى عائشة في دار عبدالله بن خلف وأرسلت عائشة في طلب من كان جريحاً فضمت منهم منهم ناساً وضمت مروان فیمن ،ضمت فكانوا في بيوت الدار).

وروى المفيد في كتاب الجمل / 192، عن عروة، عن عبد الله قال : ( لم يأخذ

ص: 261

بزمام جمل عائشة يوم الجمل أحد إلا قتل ، وكان كلما جاء إنسان يأخذ بخطام جملها قالت من أنت؟ حتى أتيتها وكنت آخر من أخذه حين لم أجد أحداً يأخذه، فقالت: من أنت؟ فقلت : ابن أختك. فقالت: واشكل أسماء! فأقبل الأشتر إلي قتصار عنا فجعلت أقول : أقتلوني ومالكاً معي ، وجعل يقول: أقتلوني وعبد الله، ولو قال ابن الزبير لقتلت، ولو قلت الأش-تر لقتلنا جميع--اً، فأثقلتني الجراح حتى سقطت وأنا مجروح مطروح في القتلى، فأتاني الأسود بن أبي البختري فوجدني صريعاً، فأخذني بالعَرْض على فرسه وسار بي، فجعل إذا أبصر إنساناً من أصحاب علي ألقاني وإذا لم ير أحداً حملني، حتى مر به رجل يعرفني فحمل عليه فأخطأه وأصاب رجل فرسه، ثم حملني فانطلق بي حتى أنزلني على رجل من بني ضبة له امرأتان تميمية وبكرية من شيعة عثمان، فغسلت جراحتي وحش-تها كافوراً). :أقول مهما يكن أمر ابن الزبير، فإن تصرف محمد بن أبي بكر يدل على أن أمير المؤمنين الله أمره أن يتحمل من أخته عائشة سبها وشتمها ويلبي طلباتها وبهذا السلوك أجبرها على أن تحب محمداً، وقد بكته لما قتل في مصر ولعنت معاوية وابن العاص، وضمت أولاده اليها لترعاهم وتنفق عليهم !

5 . وقال سيف بن عمر الضبي في وقعة الجمل / 175 : ( وخرج عتبة بن أبي سفيان وعبد الرحمن ويحيى ابنا الحكم يوم الهزيمة، قد شُجّجُوا (جُرحوا ) في البلاد، فلقوا عصمة بن أبير التيمي فقال: هل لكم في الجوار قالوا من أنت؟ قال عصمة بن أبير. :قالوا نعم قال فأنتم في جواري إلى الحول، فمضى بهم ثم حماهم وأقام عليهم حتى برئوا، ثم قال: إختاروا أحب بلد إليكم أبلغكموه، قالوا: الشام، فخرج بهم في أربع مائة راكب من تيم الرباب، حتى إذا وغلوا في بلاد كلب بدومة قالوا: قد وفيت ذمتك ،وذممهم وقضيت الذي عليك فرجع.

وأما ابن عامر فإنه خرج أيضاً مشججاً، فتلقاه رجل من بني حرقوص يدعى مريا فدعاه للجوار فقال نعم فأجاره وأقام عليه وقال: أي البلدان أحب إليك؟ قال: دمشق. فخرج به في ركب من بني حرقوص حتى بلغوا به دمشق. وقال حارثة بن

ص: 262

بدر وكان مع عائشة، وأصيب في الوقعة ابنه أو أخوه زراع:

الله

الله

أتاني من الأنباء أن ابن عامر أناخ وألقى في دمشق المراسيا إعداد عائشة لحرب علي وأوى مروان بن الحكم إلى أهل بيت من عنزة يوم الهزيمة فقال لهم: أعلموا حركة عائشة إلى البصرة

مالك بن مسمع بمكاني ، فأتوا مالكاً فأخبروه بمكانه ، فقال لأخيه مقاتل: كيف نصنع بهذا الرجل الذي قد بعث إلينا يعلمنا بمكانه؟ قال: إبعث ابن أخي وصول عائشة إلى البصرة فأجره ، والتمسوا له الأمان من علي ، فإن آمنه فذاك الذي نحب ، وإن لم يؤمنه حركة الإمام إلى البصرة خرجنا به وبأسيافنا ، فإن عرض له جالدنا دونه بأسيافنا ، فإما أن نسلم ، وإما أن نهلك كراماً . وقد استشار غيره من أهله من قبل في الذي استشار فيه مقاتلاً وصوله إلى البصرة فنهاه فأخذ برأي أخيه ، وترك رأيهم ، فأرسل إليه فأنزله داره ، وعزم على منعه هزيمة جيش عائشة إن اضطر إلى ذلك ، وقال : الموت دون الجوار وفاء ، وحفظ لهم بنو مروان ذلك إسكان عائشة وإرجاعها بعد ، وانتفعوا به عندهم وشرفوهم بذلك . ثم قال: ( وغشي الوجوه عائشة (أي زارها الوجهاء) وعلي في عسكره، من أخبار عائشة وجملها ودخل القعقاع بن عمرو على عائشة في أول من دخل فسلم عليها فقالت: إني الإمام اله في البصرة رأيت رجلين بالأمس اجتلدا بين يدي وارتجزا بكذا، فهل تعرف كوفيك منهما ؟ مشاهد من حرب الجمل

قال: نعم، ذاك الذي قال: أعقُّ أمّ نعلم ! وكذب والله إنك لأبر أم نعلم، ولكن

لم تطاعي، فقالت: والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وخرج فأتى علياً فأخبره أن عائشة سألته فقال: ويحك من الرجلان؟ قال: ذلك أبو هالة الذي يقول : كيما أرى صاحبه عليا فقال : والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة، فكان قولهما واحداً). أقول : كل ما يدعونه من ندم علي الله وأنه شهد بالجنة لمن قاتله، فغير صحيح، من شعر حرب الجمل

بل الصحيح أنه شهد لهم بالنار .

!

أرسل لها ابن عباس وأمرها بالرجوع الى المدينة ، فأبت !

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

الإمام له واصل الفتوحات

الإمام ينقل العاصمة 1. قال ابن الأعثم (2/ 486): (ثم دعا علي رضي الله عنه بعبدالله بن عباس

فقال له: إذهب إلى عائشة فقل لها أن ترتحل إلى المدينة كما جاءت ولا تقيم

263

ص: 263

بالبصرة، فأقبل إلى عائشة فاستأذن عليها فأبت أن تأذن له، فدخل عبدالله بغير إذن، ثم التفت فإذا راحلة عليها وسائد، فأخذ منها وسادة وطرحها ثم جلس عليها، فقالت عائشة : يا ابن عباس أخطأت السنة ! دخلت منزلي بغير إذني ! فقال ابن عباس: لوكنت في منزلك الذي خلفك فيه رسول الله له لما دخلت عليك إلا بإذنك وذلك المنزل الذي أمرك الله عز وجل أن تقري فيه فخرجت منه عاصية الله عز وجل ولرسوله محمد

علك

،وبعد فهذا أمير المؤمنين يأمرك بالإرتحال إلى المدينة فارتحلي ولا تعصي ، فقالت عائشة : رحم الله أمير المؤمنين ذاك عمر بن الخطاب فقال ابن عباس: وهذا والله أمير المؤمنين وإن رغمت له الأنوف واربدت له الوجوه ! فقالت عائشة: أبيتُ ذلك علیکم یا ابن عباس! فقال ابن عباس: لقد كانت أيامك قصيرة المدة ظاهرة الشؤم، بينة النكد وما كنت في أيامك إلا كقدر حلب شاة حتى صرت ما تأخذين وما تعطين، ولا تأمرين ولا تنهين، وما كنت إلا كما قال أخو بني أسد حيث يقول:

ما زال إهداء القصائد بيننا شتم الصديق وكثرة الألقاب

حتى تركت كأن قولك عندهم في كل محتفل طنين ذباب قال : فبكت عائشة بكاء شديداً ، ثم قالت : نعم والله أرحل عنكم ! فما خلق الله بلداً هو أبغض إليَّ من بلد أنتم به يا بني هاشم ! فقال ابن عباس: ولم ذلك؟ فوالله ما هذا بلاؤنا عندك يا بنت أبي بكر ! فقالت عائشة : وما بلاؤكم عندي يا ابن عباس ؟ فقال: بلاؤنا عندك أننا جعلناك أم المؤمنين وأنت بنت أم رومان ، وجعلنا أباك صديقاً وهو ابن أبي قحافة، وبنا سميت أم المؤمنين لا بتيم وعدي! فقالت عائشة: يا ابن عباس ! أتمنون علي برسول الله ؟ فقال : ولم لانمن عليك بمن لو كانت فيك شعرة منه أو ظفر لمننت بها وفخرت ، ونحن منه وإليه لحمه ودمه ، وإنما أنت حشية من تسع حشيات خلفهن لست بأرشحهن عَرَقاً، ولا بأنضر هن وَرَقاً ، ولا بأمَدَّهن ظلاً ، وإنما أنت كما قال أخو بني أسد:

264

ص: 264

إعداد عائشة لحرب علي

مننت على قوم فأبدوا عداوة فقلت لهم كفوا العداوة والشكرا

ففيه رض-ا م-ن مثلكم لصديقه وأحرى بكم أن تظهروا البغي والكفرا حركة عائشة إلى البصرة

قال: فسكتت . وانصرفت إلى علي صلوات الله عليه ، فأخبرته بما جرى بيني

وبينها، فقال: أنا كنت أعلم بك إذ بعثتك . وتثاقلت عائشة بعد ذلك عن الخروج إلى بيتها ، فأرسل إليها علي صلوات الله حركة الإمام إلى البصرة

وصول عائشة إلى البصرة

عليه : والله لترجعن إلى بيتك أو لألفظن بلفظة لا يدعوك بعدها أحد من المؤمنين أماً ! فلما جاءها ذلك قالت : أرحلوني أرحلوني، فوالله لقد أذكرني شيئاً لو ذكرته وصوله له إلى البصرة من قبل ما سرت مسيري هذا. فقال لها بعض خاصتها : ما هو يا أم المؤمنين؟ هزيمة جيش عائشة قالت: إن رسول الله قد جعل طلاق نسائه إليه ، وقَطَّعَ عصمتهن منه -ه حياً وميتاً، وأنا أخاف أن يفعل ذلك إن خالفته ) !

إسكان عائشة وإرجاعها

للاي

من أخبار عائشة وجملها 2. وقال الفضل بن شاذان الأزدي في الإيضاح/ 79: (ورويتم عن مقاتل بن حيان قال: كانت عمتي خادمة لعائشة فحدثتني قالت: بعث علي بن أبي طالب الإمام له في البصرة كرم الله وجهه ابنه الحسن إلى عائشة فقال : إرتحلي إلى المدينة إلى البيت الذي مشاهد من حرب الجمل خلفك رسول الله له وأمرك أن تقري فيه فقالت: لا أستطيع الخروج حتى أنظر إلى ما يصير حال المسلمين إليه ! فأرسل إليها الحسين الله فقال : قل لها والله شهداء مع الإمام لترحلن أو لأبعثن إليك بالكلمات ! فلما جاء الحسين الله بالباب يستأذن قالت: جاء والله بكلام غير كلام الأول، فلما دخل رحبت به وأجلسته إلى جنبها فقال الكذب في حرب الجمل

لها: إن أبي يقول لك: إرجعي إلى بيتك الذي أمرك رسول الله له أن تقري فيه وخلفك فيه رسول الله الله ، وإلا بعثت إليك بالكلمات ! فقالت : يا بني قل من شعر حرب الجمل

6

من

خطب علي

لأبيك: إني أذكرك الله أن تذكر الكلمات أو تقول شيئاً، نعم أرتحل، ولكن أحتاج الإمام في واصل الفتوحات إلى جهاز وأريد أن يدخل عليَّ وألقاه ، قال : فأصبح أمير المؤمنين الله وجهزها،

ووجه معها خمسين امرأة يؤدينها).

وفي تاريخ اليعقوبي (183/2): (فوجه معها سبعين امرأة من عبد القيس في ثياب

الإمام ينقل العاصمة

265

ص: 265

،الرجال، حتى وافوا بها المدينة).

. وفي الكافئة / 29: (فقالت : لا أفعل. فقال لها : لئن لم تفعلي لأرسلن إليك نسوة من بكر بن وائل بشفار حداد يأخذنك بها .. فقال لها : يا شعيرا، إرتحلي وإلا تكلمت بما تعلمينه. فقالت: نعم أرتحل. ثم قال أمير المؤمنين الله : يا معشر عبد القيس أندبوا إليَّ الحرة الخيرة من نسائكم، فإن هذه المرأة قد أبت أن تخرج لتحملوها احتمالاً. فلما علمت بذلك قالت لهم قولوا له فليجهزني ! فأتوا أمير المؤمنين الله فذكروا له ذلك،

فجهزها وبعث معها بالنساء).

أقول: الشعيرا: كثيرة الشعر، وهو وصف ذم للمرأة. وكانت عائشة عالية الصوت

خشنته، وهذا يناسب أن تكون شعيراء كثيرة الشعر، بما لا يناسب المرأة.

4. في مصنف ابن أبي شيبة الكوفي (720/8) : (سمعت الأحنف بن قيس يقول : لما

ظهر علي على أهل البصرة أرسل إلى عائشة : إرجعي إلى المدينة وإلى بيتك، قال: فأبت قال: فأعاد إليها الرسول : والله لترجعن أو لأبعثن إليك نسوة من بكر بن وائل معهن شفار حداد يأخذنك بها، فلما رأت ذلك خرجت. أقول: تدل هذه النصوص على اضطراب رأيها، وأنها كانت تقبل ثم ترفض، حتى

هددها بالطلاق من النبي فقبلت !

ه . قالت رواية إن الإمام الثالية خطب في مسجد البصرة ثم زارها والصحيح أنها طلبت لقاء الإمام الله فقالت كما في رواية الفضل بن شاذان : نعم أرتحل، ولكن أحتاج إلى جهاز، وأريد أن يدخل على وألقاه).

.6 . وقال ابن الأعثم (483/2): (فدعا علي الالة ببغلة رسول الله فاستوى عليها وأقبل إلى منزل عائشة، ثم استأذن ودخل، فإذا عائشة جالسة وحولها نسوة من نساء أهل البصرة وهي تبكي وهن يبكين معها، قال ونظرت صفية بنت الحارث الثقفية امرأة عبدالله بن خلف الخزاعي إلى علي، فصاحت هي ومن كان معها هناك من النسوة وقلن بأجمعهن يا قاتل الأحبة...

266

ص: 266

قال: فأقبل علي على عائشة فقال: ألا تنحين كلباتك هؤلاء عني..

ثم أقبل على عائشة فجعل يوبخها ويقول : أمرك الله أن تقري في بيتك إعداد عائشة لحرب علي وتحتجبي بسترك ولا تبرجي، فعصيته وخضت الدماء، تقاتليني ظالمة وتحرضين حركة عائشة إلى البصرة عليَّ الناس، وبنا شرفك الله وشرف آباءك من قبلك، وسماك أم المؤمنين،

وصول عائشة إلى البصرة

وضرب عليك الحجاب. قومي الآن فارحلي واختفي في الموضع الذي خلفك فيه رسول الله ، إلى أن يأتيك فيه أجلك، ثم قام علي الله فخرج من عندها. حركة الإمام إلى البصرة

قال : فلما كان من الغد بعث إليها ابنه الحسن، فجاء الحسن فقال لها : يقول لك

وصوله إلى البصرة

أمير المؤمنين أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لئن لم ترحلي الساعة لأبعثن عليك بما تعلمين قال: وعائشة في وقتها ذلك قد ضفرت قرنها الأيمن وهي هزيمة جيش عائشة تريد أن تضفر الأيسر، فلما قال لها الحسن ما قال، وثبت من ساعتها وقالت: إسكان عائشة وإرجاعها رحلوني فقالت لها امرأة من المهالبة : يا أم المؤمنين ! جاءك عبدالله بن عباس

من أخبار عائشة وجملها

فسمعناك وأنت تجاوبيه حتى علا صوتك، ثم خرج من عندك وهو مغضب، ثم جاءك الآن هذا الغلام برسالة أبيه فأقلقك، وقد كان أبوه جاءك فلم نرمنك هذا الإمام في البصرة القلق والجزع ! فقالت عائشة: إنما أقلقني لأنه ابن بنت رسول الله، فمن أحب أن

مشاهد من حرب الجمل

من

خطب علي

في

ينظر إلى رسول الله فلينظر إلى هذا الغلام وبعد فقد بعث إلي أبوه بما قد علمت ولا بد من الرحيل، فقالت لها المرأة سألتك بالله وبمحمد إلا أخبرتني بماذا بعث شهداء مع الإمام إليك علي،فقالت عائشة : ويحك ! إن رسول الله أصاب من مغازيه نفلاً فجعل يقسم ذلك في أصحابه، فسألناه أن يعطينا منه شيئاً وألححنا عليه في ذلك، فلامنا علي وقال: حسبكن أضجر تن رسول الله فتجهمناه وأغلظنا له في القول، فقال: الكذب في حرب الجمل عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ، فأغلظنا له أيضاً في القول وتجهمناه، من شعر حرب الجمل فغضب النبي من ذلك وما استقبلنا به علياً، فأقبل عليه ثم قال: يا علي إني قد الإمام في واصل الفتوحات

جعلت طلاقهن إليك، فمن طلقتها منهن فهي بائنة، ولم يوقت النبي في ذلك وقتاً في حياة ولا موت، فهي تلك الكلمة وأخاف أن أبين من رسول الله الإمام ينقل العاصمة

267

ص: 267

ملاحظات

1 . رووا عن عائشة الضد والنقيض، فقد ظهر بغضها لأمير المؤمنين الله ورفضت أن تسميه أمير المؤمنين، وأرادت البقاء في البصرة لتجمع أنصاراً وتحاربه مرة أخرى ! فقالت: لا أستطيع الخروج حتى أنظر إلى ما يصير حال المسلمين إليه!

ورووا عنها في المقابل ليونة، وقالت جهزوني حتى أرحل وقالت في خطبتها وهي تودع أهل البصرة: والله ما كان بيني وبين عليّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها وإنه عندي على معتبتي لمن الأخيار فهي تبغض عليا الالة وبني هاشم، لكن الجو العام وإحسان علي الله اليها، ألزمها

بإخفاء بغضها وإظهار شكرها.

. كما ظهر منها حبها الشديد لابن الزبير ، ثم غضبها عليه ومقاطعته، لأنه سبب مجيئها الى البصرة وهزيمتها ! وهذا التقلب في مواقفها يتبع الجو السياسي، فهي تحب أن تبقى وتجمع الأنصار ، لكن تهديدات علي الله ألزمتها بالرجوع.

وهي تحب ابن أختها عبدالله بن الزبير، لكنها تحب نفسها أكثر وتراه أخطأ في حقها. وقد ساءت علاقتها بعد هزيمتهما في البصرة، ثم ساءت أكثر لما حكم عليها ابن الزبير بأنها سفيهة وأراد أن يحجر عليها التصرف في مالها ! فقد كان ابن الزبير بخيلاً ممسكاً وكانت عائشة تنفق بالآلاف، فحكم بأنها سفيهة

قال النووي في مجموعه (379/13) : (كانت تنفق نفقة كثيرة ، فقال ابن الزبير لتنتهين عائشة، أو لأحجرن عليها فبلغها ذلك فحلفت أن لا تكلمه، فأتاها ابن الزبير واعتذر

إليها، فكفرت عن يمينها وكلمته، فلم ينكر عليه أحد !

لم يطلق عائشة ، لكن طلقها الحسين السَّلَاةِ

. تقدم قول عائشة ( ابن الأعثم: 483/2 ) إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي الشاليه : (يا علي، إني قد جعلت طلاقهن إليك، فمن طلقتها منهن فهي بائنة، ولم يوقت النبي في ذلك وقتاً في حياة ولا موت، فهي تلك الكلمة، وأخاف أن أبين من رسول الله).

268

ص: 268

وقد روينا أن النبي أوصى عليا الله بنسائه فقال : ( إرفق بهن ماكان الرفق

بهن ،أمثل، فمن عصتك منهن فطلقها براءة من الله ورسوله في الدنيا والآخرة). إعداد عائشة لحرب علي وفي المسترشد للطبري الشيعي / 354 ، والإحتجاج (2001) : نشدتكم الله ، أفيكم حركة عائشة إلى البصرة

أحد جعله رسول الله له في طلاق نسائه مثل نفسه، غيري؟ قالوا: اللهم لا).

وصول عائشة إلى البصرة

2 . وفي شرح الأخبار (1 / 210 و 392): (إرجعي إلى بيتك فأبت، ثم أرسل حركة الإمام إلى البصرة

إليها ثانية فأبت، ثم أرسل إليها ثالثة لترجعن أو لأتكلم بكلمة يبرأ الله بها منك ورسوله .. والله لترجعن إلى بيتك أو لألفظن بلفظة لايدعوك بعدها وصوله إلى البصرة أحد من المؤمنين أماً. فقالت أرحلوني أرحلوني).

الله

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

3. وفي كمال الدين / 459 ، والمناقب (271/2) عن الإمام المهدي الله قال: (جعل طلاق نسائه بيد أمير المؤمنين الله حتى أرسل يوم الجمل إلى عائشة: إنك قد أرهجت على الإسلام وأهله بفتنتك، وأوردت بنيك حياض الهلاك بجهلك، من أخبار عائشة وجملها فإن كففت عني غربك وإلا طلقتك.. قلت: فأخبرني يا ابن مولاي عن معنى الإمام في البصرة الطلاق الذي فوض رسول الله له حكمه إلى أمير المؤمنين الله ؟ قال : إن الله مشاهد من حرب الجمل

تقدس إسمه عظم شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم فخصهن بشرف الأمهات ، فقال : يا

له : أبا الحسن إن هذا الشرف باق لهن ما دمن الله على الطاعة، فأيتهن عصت الله بعدي شهداء مع الإمام بالخروج عليك، فأطلق لها في الأزواج، وأسقطها من شرف أمومة المؤمنين !

د الله

من

خطب علي

.4 . وفي الإحتجاج (1 / 241) عن الإمام الباقر الله قال: (لما كان يوم الجمل وقد الكذب في حرب الجمل

رشق هودج عائشة بالنبل، قال أمير المؤمنين الله : والله ما أراني إلا مطلقها، فأنشد الله رجلاً سمع من رسول الله له يقول: ياعلي أمر نسائي بيدك من من شعر حرب الجمل بعدي لما قام فشهد ؟ فقام ثلاثة عشر رجلاً فيهم بدريان فشهدوا أنهم سمعوا الإمام واصل الفتوحات رسول الله يقول: يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي . قال : فبكت عائشة عند ذلك الإمام ينقل العاصمة

حتى سمعوا بكاءها، فقال علي : لقد أنبأني رسول الله صله بنبأ فقال : إن الله تعالى يمدك يا علي يوم الجمل بخمسة آلاف من الملائكة مسومين).

269

ص: 269

أي أنبأه بخروج عائشة عليه . لكن لم يثبت عندي أنه صدر من أمير المؤمنين الله أكثر من التهديد، لكن ثبت أن النبي أخبر أن من نسائه من لاتراه في الآخرة، وهي التي يطلقها الأوصياء. وهذا إخبار بأن من أوصيائه عله من يطلقها، فالمتعين أن يكون ما روي من أن الحسين الله طلقها، صحيحاً.

ه. قال المسعودي في إثبات الوصية (163/1): (وكان الحسين الله قد على دفنه (أي الحسن الله ) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعت عائشة من ذلك، وركبت بغلة لها وخرجت تؤلب الناس عليه وتحرضهم فلما رأى الحسين الله ذلك دفنه بالبقيع مع أمه فاطمة (أي بنت أسد ) . وروي أن ابن عباس لقيها منصرفة الى منزلها فقال لها : أما كفاك أن يقال يوم الجمل حتى يقال يوم البغل! يوماً على جمل ويوماً على بغل، بارزة عن حجاب رسول الله لا تريدين إطفاء نورالله والله متم نوره ولو كره المشركون، إنا لله وإنا إليه راجعون. فقالت له: إليك عني أف لك وروي أن الحسين الله عندما فعلت عائشة وج-ه إليه-ا بطلاقها، وكان رسول الله الله جعل طلاق أزواجه بعده الى أمير المؤمنين التالية وجعله أمير المؤمنين بعده الى الحسن وجعله الحسن الى الحسين عالي . وقال النبي الله : إن في نسائي من لاتراني يوم القيامة وتلك من يطلقها الأوصياء بعدي

.

6 . قال الخصيبي في الهداية / 186 ( وافى مروان مسرعاً على بغلته إلى عائشة.. ونزل مروان عن بغلته وركبتها عائشة ولحقت القوم وقد وصلوا إلى حرم النبي فرمت بنفسها عن البغلة، وأخذت بناصيتها (أخرجت شعرها ومدته!) ووقفت بينهم وبين القبر وقالت : والله لا يدفن الحسن مع جده أو تُجز ناصيتي هذه ! فأراد بنو هاشم الكلام فقال الحسين الله : الله الله لا تضيعوا وصية أخي، واعدلوا به إلى البقيع، فإنه أقسم عليَّ إن منعت من دفنه مع جده رسول الله لا أخاصم أحداً، وأن أدفنه في البقيع،

له فعدلوا به إليه فدفنوه فيه. فقال عبد الله بن عباس : كم لنا منكم يا حميراء ! يوم على جمل ويوم على بغل ! فقالت : يا ابن عباس ليس قتالي لعلي بعجيب، وقد رويتم أن صفراء

270

ص: 270

حركة عائشة إلى البصرة

ابنة شعيب زوجة موسى بن عمران قاتلت بعده وصيه يوشع بن نون على زارفة ! فقال لها ابن عباس : هي والله صفراء وأنت حميراء ، إلا أنها بنت شعيب وأنت إعداد عائشة لحرب علي بنت عتيق بن عبد العزى قالت: إن لنا عندك يا ابن العباس ثاراً بثأر، والمعاد لا تق-ول ب--ه ! فقال لها ابن عباس : والله أنت ومن أنت منه، وحزبكم الضالون).

وصول عائشة إلى البصرة

يقصد ابن عباس أنكم أنتم لا تؤمنون بالمعاد! وهذا تصرف عجيب من عائشة أن تتمدد وتخرج شعرها أمام الألوف ! وقال اليعقوبي (225/2) : (قالت : بيتي لا آذن حركة الإمام إلى البصرة فيه لأحد ! فأتاها القاسم بن محمد بن أبي بكر، فقال لها : يا عمة ! ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر ، أتريدين أن يقال يوم البغلة الشهباء)

وصوله إلى البصرة

هزيمة جيش عائشة 7. قال ابن عبد البر في بهجة المجالس / 34: ( لما مات الحسن أرادوا أن يدفنوه في بيت رسول الله الله فأبت ذلك عائشة وركبت بغلة وجمعت الناس ! فقال لها إسكان عائشة وإرجاعها ابن عباس: كأنك أردت أن يقال: يوم البغلة كما قيل يوم الجمل! قالت: رحمك من أخبار عائشة وجملها الله ذاك يوم نسي! قال: لا يومَ أذكرُ منه على الدهر). وقال البلاذري (106/10) : ( بعثت عائشة إلى ابن أبي عتيق تسأله أن يعيرها بغلة الإمام له في البصرة له لترسل عليها رسولاً في حاجة لها، فقال لرسولها قل لها والله ما غسلنا رؤسنا مشاهد من حرب الجمل من عار يوم الجمل أفمن رأيك أن تأتينا بيوم البغلة ! شهداء مع الإمام الله

وأخذه الشاعر ابن الحجاج البغدادي فقال فيه بيتين، وزاد عليهما الصقر البصري:

أيا بنت أبي بكر فلا كان ولا كنتِ

تجَمَّلتِ تبغَلَتِ ولو عشت تفيَّلتِ

لك التسع من الثمن فبالکل تحکمتِ

ويوم الحسن الهادي على بغلك أسرعتِ

ومايَستِ ومانعت وخاصمت وقاتلت

وفي بيت رسول الله بالظلم تحكمت

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

الإمام واصل الفتوحات

الإمام ينقل العاصمة

271

ص: 271

هل الزوجة أولى بالمواريث من البنت

( راجع مناقب آل أبي طالب : 204/3)

.7 ورد عندنا أن زوجات الأئمة الله يجري عليهن شبيه هذا الحكم ! ففي الكافي (181/3) أن الإمام الرضاء الله طلق زوجة أبيه بعد وفاته قال: (طلقت أم فروة بنت إسحاق في رجب بعد موت أبي الحسن بيوم ! قلت: طلقتها وقد علمت بموت أبي الحسن ؟ قال : نعم. قلت: قبل أن يقدم عليك سعيد؟ قال: نعم.

8 واستعظم الآلوسي كبقية المخالفين ذلك فنقل في تفسيره رواية طلاقها (152/21)

ثم قال : ( وهذا العمري من السفاهة والوقاحة والجسارة على الله تعالى ورسوله بمكان وبطلانه أظهر من أن يخفى ، وركاكة ألفاظه تنادي على كذبه بأعلى صوت، ولا أظنه

قولاً مرضياً عند من له أدنى عقل، فلعن الله تعالى من اختلقه وكذا من يعتقده)! أقول : كلام الآلوسي انفعالي غير علمي، وأحاديث الموضوع ليس في ألفاظها ركاكة ولا وقاحة، بل يحق للنبي ويصح منه أن يوكل علياً له بأن يرفع الحصانة عمن

الله تعصيه من نسائه، وينزع عنها صفة أم المؤمنين، ومن اعتقد أن النبي فعل ذلك فلاضير عليه. والظاهر أن الحسين عله فعل ذلك.

رواياتهم عن تجهيز عائشة وتوديعها

سم الله الله

لما قبلت عائشة أن ترجع الى المدينة طلبت أن يجهزها أمير المؤمنين الله فجهزها،

وأعجبها الجهاز فأكثروا من روايته !

قال الطبري (547/3) : (وجهز علي عائشة بكل شئ ينبغي لها من مركب أو زاد أو متاع) ! وقال البلاذري (249/2): (فسرحها إلى المدينة في جماعة من رجال ونساء، وجهزها بإثني عشر ألفاً).

وقال ابن الجوزي في المنتظم (94/5) : (وجهز علي عائشة بكل شيئ ينبغي لها من مركب وزاد و متاع ، وأخرج معها كل من نجا ممن خرج معها إلا من أحب المقام

272

ص: 272

واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وقال: تجهز يا محمد فبلغها، فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه جاءها حتى وقف لها وحضر الناس، إعداد عائشة لحرب علي فخرجت وودعوها وودعتهم وقالت: والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا حركة عائشة إلى البصرة ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه عندي على معتبتي لمن الأخيار !

6

وقال علي رضي الله عنه : يا أيها الناس صدقت والله وبرت ما كان بيني وبينها وصول عائشة إلى البصرة

إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة!

حركة الإمام إلى البصرة

وخرجت يوم السبت لغرة رجب سنة ست وثلاثين، وشيعها علي أميالاً، وصوله إلى البصرة

وسرَّح بنيه معها يوماً. وقصدت عائشة مكة، فأقامت بمكة إلى الحج، ثم رجعت

إلى المدينة.

هزيمة جيش عائشة

وقال المقريزي في إمتاع الأسماع (249/13) : ( وخرجت يوم السبت غرة رجب.. إسكان عائشة وإرجاعها

وقال لها عمار حين ودعها : ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عهد إليك! قالت:

من أخبار عائشة وجملها

والله إنك ما علمت لقوال بالحق، قال: الحمد لله الذي قضى على لسانك لي)!

وقال العيني في عمدة القاري (50/15) ومروج الذهب (370/2) : ( وشيعها علي

الإمام في البصرة

مشاهد من حرب الجمل

أميالاً، وسرح بنيه معها يوماً. وقد بعث معها علي أخاها عبد الرحمن بن أبي

من

خطب علي

الله

بكر وثلاثين رجلاً وعشرين امرأة من ذوات الدين من عبد القيس و همدان شهداء مع الإمام وغيرهما، ألبسهن العمائم وقلدهن السيوف، وقال لهن: لا تُعلمْنَ عائشة أنكن نسوة وتلشَّمْنَ كأنكن رجال، وكن اللاتي تلين خدمتها وحملها. وسارت عائشة على تلك الحالة حتى دخلت مكة وأقامت حتى حجت واجتمع إليها نساء أهل الكذب في حرب الجمل مكة يبكين وهي تبكي، وسئلت عن مسيرها فقالت: لقد أعطى علي فأكثر، وبعث معي رجالاً وبلغ النساء فأتينها وكشفن عن الإمام في واصل الفتوحات

وجوههن وعرفنها الحال فسجدت وقالت والله ما يزداد ابن أبي طالب إلا كرماً، وددتُ أني لم أخرج وإن أصابتني كيت وكيت من أمور ذكرتها شاقة، وإنما الإمام ينقل العاصمة قيل لي تخرجين فتصلحين بين الناس، فكان ما كان

من شعر حرب الجمل

273

ص: 273

استهبال عائشة للعوام !

وفي تاريخ الطبري (547/3): (فخرجت على الناس وودعوها وودعتهم وقالت : يا بَنِيَّ، تَعتُبُ بعضنا على بعض استبطاء واستزادة، فلا يَعْتَدنَّ أحد منكم على أحد بشئ بلغه من ذلك، إنه والله ما كان بيني وبين عليّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه عندي على معتبتي من الأخيار)!

و معنى كلامها يا أولادي نحن الصحابة قد يعتب بعضنا على بعض، لأنه يستبطئ منه ما يراه لازماً، أو لأنه يريد منه المزيد من الخير الذي فعله، فإن بلغكم من بعضنا غضب على بعض فلا تجعلوه سبباً للنزاع والحرب وأنا رغم عتبي على علي فهو عندي من الأخيار، ولم يكن بيني وبينه إلا ما يكون بين الزوجة وأقارب زوجها من أمور عائلية صغيرة! وقد سببت هذه الأمور الصغيرة حرباً قتلت منكم ثلاثين ألفاً، لكن لا بأس، فهم جميعاً في الجنة، وأنا وعلي أيضاً في الجنة!

هكذا

ذا كلمت أم المؤمنين أولادها وبسطت لهم الصراع وحرب الجمل، وكأنهم بهل! أما علي الله فكان يرى أن عائشة لاترى النبي في الآخرة ولا يراها، وأن القتلى من

أنصارها بغاة تهافتوا الى النار، وأنها والقادة معها من أئمة الدعاة الى النار !

وقد ودعها أمير المؤمنين الله ، لكن لم يرسل معها الحسن والحسين الله كما رووا ! ولا

محمد بن أبي بكر ، بل أرسل أخاها عبد الرحمن فرافقها كما روى المسعودي.

274

ص: 274

الفصل التاسع والخمسون

من أخبار عائشة وجملها

من أخبار عائشة وقوة شخصيتها !

1 كانت عائشة رجل العرب، ولو كان لأبيها ذكر مثلها ما خرجت منه الخلافة أبداً! قال أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة (399/1) : (سأل الوزير: هل يقال في النساء رجلة؟ فكان الجواب: حدثنا أبو سعيد السيرافي قال: كان يقال في عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما : كانت رجلة العرب. وإنما ضاعت هذه الصفة على مر الأيام بغلبة العجمان. فقال : إنها و الله لكذلك ، لقد سمعت من يقول : كان يقال لو كان لأبيها ذكر مثلها لما خرج الأمر منه !

2. كانت عائشة أقدر من زليخا على تصوير الأمور لمصلحتها ! فقد قصَّ الله تعالى كيف

راودت زليخا يوسف له عن نفسه فهرب منها ، فركضت وراءه وشقت قميصه. ولما تفاجأت بزوجها لدى الباب عكست الموضوع بلمح البصر واشتكت على يوسف الثالة بأنه

راودها عن نفسها فهربت منه !

قال تعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَاىَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَمَا بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ. وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءً إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا . وكانت عائشة أقوى من زليخا، فهي أول المحرضين على عثمان لما قطع مخصصاتها، فقد كانت تقف في طريقه الى المسجد وترفع قميص النبي وتقول: هذا قميص رسول الله لم يَبْلَ

اعلم

ص: 275

وقد أبلى عثمان سنته ! وتقول له: سماك رسول الله نعثلاً، أقتلوا نعثلاً فقد كفر ! ولما كان محاصراً شجعت محاصريه وأولهم طلحة، وكانت تتصور أن الناس سيبايعونه بعد عثمان ! وطلب منها مروان أن تؤخر حجها وتساعد عثمان فقالت: (قد فرغت من جهازي وأنا أريد الحج. قال: فيدفع إليك بكل درهم أنفقته در همين! قالت: لعلك ترى أني في شك من صاحبك؟ أما والله لوددت أنه مُقَطَّعُ في غرارة من غرائري، وأني أطيق حمله فأطرحه في البحر ) ! (تاريخ اليعقوبي (175/2).

ولما بلغها قتل عثمان فرحت وقالت: «بعداً لنعثل وسحقاً، يا معشر قريش لا يسومنكم مقتل عثمان كما سام أحمر ثمود قومه ودعت الناس إلى بيعة طلحة، وكانت تتوقع أن يتم ذلك ! وقالت إن أحق الناس بهذا الأمر ذو الإصبع، ثم أقبلت مسرعة إلى المدينة وهي لا تشك في أن طلحة صاحب الأمر ! ثم خرجت من مكة تريد المدينة، فلما كانت بسَرَف لقيها رجل من أخوالها من بني ليث يقال له عبيد بن أبي، فأخبرها بقتل عثمان واجتماع المسلمين على علي فقالت ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك، ردوني ردوني ! قتل والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبن بدمه فقال لها ابن أم كلاب ولم؟ فوالله إن أول من أمال حرفه لأنت! ولقد كنت تقولين أقتلوا نعثلاً فقد كفر ! قالت إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا وقولي الأخير خير من قولي الأول الى آخره !

وقد أعدت عائشة تصويراً لمقتل عثمان لتقنع به العوام فقالت: (إن الغوغاء من أهل الأمصار ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله ، وأحدثوا فيه الأحداث وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر ، فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، وأحلوا البلد الحرام، والشهر الحرام، فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم، وما فيه الناس وراءنا وما ينبغي لهم إن يأتوا في إصلاح هذا.

وأخفت عائشة موقفها في التحريض على عثمان والدعوة الى قتله! وأخفت أن المسلمين جاؤوا من الأمصار يشكون ظلم عماله، وأنه مكر بهم فأرسل معهم الوالي الجديد الى

276

ص: 276

مصر، وأرسل الى واليه الأموي أن يقتله ومن معه وأخفت أن الناس بايعوا علياً،

بأفضل مما بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان!

إعداد عائشة لحرب علي

و من سرعتها في تغيير الأمر أخذها آيات براءة مارية، وزعمها أنها نزلت في حركة عائشة إلى البصرة

براءتها، مع أن قصتها التي اتهمت فيها وقعت في غزوة بني المصطلق في شعبان وصول عائشة إلى البصرة سنة خمس للهجرة (إعلام الورى 196/1) والآيات في براءة مارية نزلت في سنة ثمان للهجرة لما ولدت مارية إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم فاتهمتها قريش : ( قالوا: من حركة الإمام إلى البصرة حاجته إلى الولد ادعى ولد غيره» ! (الحاکم: 39/4) فنزلت آيات براءة مارية، فقالت وصوله إلى البصرة

عائشة نزلت في براءتي من تهمتهم لي قبل ثلاث سنوات! مع أن الآيات تصف المبرأة بأنها ساذجة غافلة : إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا هزيمة جي--ش عائش---ة

وَالآخِرَةِ. وعائشة ليست غافلة، بل الغافلة مارية، لكن عائشة سارعت وجعلت الآيات لها. فهي التي اتهمت مارية، ثم أخذت آيات براءتها وجعلتها لها ! راجع في قصة مارية السيرة النبوية عند أهل البيت: 73/3).

.3.

م الله الله

إسكان عائشة وإرجاعها

من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة

. وصف النبي مع عائشة بأنها رجلة وبأنها كالصفراء زوجة موسى اللة التي خرجت على وصيه يوشع الله فحاربته بجيش وانهزمت فأسرها وعفا عنها ! مشاهد من حرب الجمل

قال القطب الراوندي في الخرائج (924/2): (قال النبي صلى الله عليه وسلم : ماجرى في أمم شهداء مع الإمام الله

الأنبياء قبلي شئ إلا ويجري في أمتي مثله، وذكر خروج الصفراء بنت شعيب على يوشع وصي موسى، ثم قال لأزواجه وإن منكن من تخرج على وصيي من خط---ب عليه وهي ظالمة، ثم قال: يا حميراء لا تكونيها ! فأخبر بذلك قبل كونه).

الكذب في حرب الجمل

وروى الصدوق في كمال الدين / 26 ، عن عبد الرزاق، عن أبيه، عن مينا مولى عبد الرحمن بن عوف، عن عبد الله بن مسعود قال قلت للنبي : من شعر حرب الجمل (یارسول ( يا رسول الله من يغسلك إذا مت ؟ قال : يغسل كل نبي وصيه . قلت : فمن الإمام واصل الفتوحات

الله

وصيك يا رسول الله؟ قال: علي بن أبي طالب. قلت: ك--م يعيش بعدك يا الإمام ينقل العاصمة

رسول الله؟ قال: ثلاثين سنة، فإن يوشع بن نون وصي موسى عاش بعد

موسى

ثلاثين سنة، وخرجت عليه صفراء بنت شعيب زوجة موسى فقالت:

277

ص: 277

أنا أحق منك بالأمر، فقاتلها فقتل مقاتليها، وأسرها فأحسن أسرها، وإن ابنة أبي بكر ستخرج على علي في كذا وكذا ألفاً من أمتي، فيقاتلها فيقتل مقاتليها، ويأسرها فيحسن أسرها، وفيها أنزل الله عز وجل : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولى.

یعنی صفراء بنت شعیب).

وروى في كمال الدين 153 ، عن الإمام الصادق الله قال: (ثم إن يوشع بن نون عالية قام بالأمر بعد موسى الله صابراً من الطواغيت على اللأواء والضراء والجهد والبلاء، حتى مضى منهم ثلاث طواغيت، فقوي بعدهم ، أمره ، فخرج عليه رجلان من منافقي قوم موسى الله بصفراء بنت شعيب امرأة موسى عليه في مائة ألف رجل، فقاتلوا يوشع بن نون الله فقتلهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وهزم الباقين بإذن الله تعالى ذكره، وأسر صفراء بنت شعيب وقال لها : قد عفوت عنك في الدنيا إلى أن ألقى نبي الله موسى الله فأشكو إليه ما لقيت منك ومن قومك ! فقالت صفراء واويلاه، والله لو أبيحت لي الجنة لاستحييت أن أرى فيها رسول الله وقد هتكت حجابه، وخرجت على

وصيه بعده

وفي الهداية الكبرى / 124: (وكانت صفراء ابنة شعيب النبي الله زوجة موسى بن عمران الله تقاتل يوشع بن نون عله مع المارقين من بني إسرائيل على زرافة، كما قاتلت عائشة ابنة أبي بكر زوجة رسول الله له وصيه أمير المؤمنين الله مع المارقين من أمته، على جمل)

وفي تاج العروس (263/14): ويُقال لِلْمَرْأَةِ رَجُلَة إِذا كانتْ مُتَشَبِّهَةً بِالرَّجُل في بعض أحوالها. قلت: ويُؤيّده الحديث : إِنَّ عائشةَ كانتْ رَجُلَةَ الرَّأْيِ، أي كانَ رَأْيها رَأْيَ الرّجالِ). قال المناوي في فيض القدير (343/5) : ( لعن الله الرّجُلة من النساء، أي المترجلة التي تتشبه بالرجال في زيهم أو مشيهم أو رفع صوتهم، أو غير ذلك. أما في العلم والرأي فمحمود ، ويقال : كانت عائشة رجُلَة الرأي) . والحميدي (132/1) .

وفي الروض المعطار للحميري (206/1) : وكانت عائشة جهيرة الصوت.

278

ص: 278

وناداها رسول الله مرة يا عويش قال: يا عويش يا حميراء، إن شر الناس

عند الله يوم القيامة من يكرم اتقاء شره ) . (تفسير الإمام العسكري × / 354)

6

إعداد عائشة لحرب علي

.4 وصفها أمير المؤمنين الله بحميراء إرم وأخت إرم وأخت الحجر، حركة عائشة إلى البصرة وشعيراء وأنها أشأم من ناقة الحجر. قال البلاذري (250/2) : (انتهى علي إلى وصول عائشة إلى البصرة الهودج فضربه برمحه وقال: كيف رأيت صنيع الله بك يا أخت إرم؟ فقالت: حركة الإمام إلى البصرة

ملكت فاسجح ثم قال لمحمد بن أبي بكر: إنطلق بأختك فأدخلها البصرة فأنزلها محمد في دار صفية بنت الحرث بن طلحة بن أبي طلحة العبدري، وهي وصوله إلى البصرة أم طلحة الطلحات بن عبدالله بن خلف الخزاعي، فمكثت بها أياماً، ثم أمرها هزيمة جيش عائشة

علي بالرحلة فاستأجلته أياماً فأجلها، فلما انقضى الأجل أزعجها، فخرجت إلى المدينة في نساء من أهل البصرة ورجال من قبله، حتى نزلت المدينة، إسكان عائشة وإرجاعها

وكانت تقول إذا ذكرت يوم الجمل: وددت أني مت قبله بكذا وكذا عاماً. من أخبار عائشة وجملها

عن ابن حاطب قال: أقبلت مع علي يوم الجمل إلى الهودج وكأنه شوك قنفذ

من النبل، فضرب الهودج ثم قال: إن حميراء إرم هذه أرادت أن تقتلني كما قتلت الإمام في البص----رة ثمان بن عفان. فقال لها أخوها محمد هل أصابك شي؟ فقالت: مشقص في مشاهد من حرب الجمل

عضدي. فأدخل رأسه ثم جرها إليه فأخرجه). شهداء مع الإمام الله وفي الجمل للمفيد/ 196 : (قال محمد : والله ليحكمن عليك يوم القيامة ما كان

بينك وبين أمير المؤمنين حين تخرجين عليه وتؤلبين الناس على قتاله، وتنبذين من خطب علي كتاب الله وراء ظهرك ! فقالت: دعنا يا محمد، وقل لصاحبك يحرسني)! ويقصد الإمام الله بحميراء إرم وأخت إرم ، أنها جعلت جَعْلاً لمن قتله، كما جعلت حميراء ثمود ابنتها جعلاً لمن قتل ناقة صالح الله ، ويسمى أحيمر ثمود، من شعر حرب الجمل وأحيمر عاد. ويظهر أن حمراء ثمود، إسم للمرأة التي دفعته الى ذلك.

السلام

الكذب في حرب الجمل

الإمام له واصل الفتوحات

وروى النسائي (153/5) وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا أحدثكم بأشقى الإمام ينقل العاصمة

الناس؟ قلنا : بلى يا رسول الله قال : أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك

279

ص: 279

يا علي على هذه، ووضع يده على قرنه، حتى يبل منها هذه، وأخذ بلحيته). وروى المفسرون في قوله تعالى : فتعاطى فعقر، أن إسم المرأة التي دفعته الى ذلك عنيزة بنت غنيم. فشبهها الإمام الثلاة بها، والعرب تسمي ثموداً عاداً، لأنهم بقيتهم.

وتشبيه الإمام اللة لعائشة بها لقوة قوم عاد وشدتهم، أما تشبيه النبي لها بالصفراء

ماعلي

بنت شعيب التي خرجت على وصي موسى ، فلأنهم أقرب زمناً، ولأن شبهها بها أوضح لعامة الناس.

وقال العيني (274/15) : (عاقر الناقة هو قدار بن سالف ، وذكر السهيلي: أنه كان ولد زنا وهو أحمر ثمود الذي يضرب به المثل في الشؤم، وكان أحمر أشقر أزرق سناطاً قصيراً، وقال الثعلبي : إسمه قديرة، وقال الجوهري: إسمه قدار بالدال المهملة وهو الأصح. وقال وهب وكان في المدينة ثمانية رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فانضاف إليهم قدار فصاروا تسعة. وقال وهب: وكانت الثمانية حاكة وكان الذي تولى عقرها قدار بن سالف، ورماها مصدع بن ،مهرج، وذكرهم ابن دريد في الوشاح :فقال قدار بن سالف بن جدع ومصدع بن مهرج بن هزيل بن المحيا. وهزيل بن عنز بن غنم بن ميلع . وسبيع بن مكيف بن سيحان وعرام بن نهبى بن لقيط. ومهرب بن زهير بن سبيع. وسبيع بن رغام بن ملدع، وعريد بن نجد ابن مهان، ورعين بن

عمر بن داعر.

كما وصفها أمير المؤمنين اللة بالشعيراء : ( فقرع الهودج برمحه وقال: يا شعيراء بهذا وص--اك رسول الله ! و لما أبت أن ترتحل من البصرة قال لها: (يا شعيرا ارتحلي، وإلا تكلمت بما تعلمينه. فقالت نعم أرتحل) ! (الكافئة للمفيد /31). والشعيرا كثيرة الشعر، وهو وصف ذم .للمرأة. وكانت عائشة عالية الصوت خشنته،

وهذا يناسب أن تكون شعيراء كثيرة الشعر، على خلاف حالة المرأة.

ه . قال في شرح النهج (17 / 254): (ولو كانت فعلت بعمر ما فعلت به، وشقت عصا

الأمة عليه، ثم ظفر بها، لقتلها ومزقها إربا إرباً، ولكن عليا الله كان حليماً كريماً).

280

ص: 280

6 . كانت عائشة مفرطة في ثقتها بنفسها، ومغالية في حقها الذي يعطيها إياه

كونها زوجة النبي ما فكانت ترى أن لها حق الطاعة على جميع المسلمين كحق إعداد عائشة لحرب علي الأم على أولادها، تأمرهم وتنهاهم وعليهم الطاعة، فقد سألها أبو الأسود حركة عائشة إلى البصرة الدولي عن مسيرها فقالت : ( أطلب بدم عثمان ! قال: إنه ليس بالبصرة من قتلة

عثمان أحد، قالت صدقت، ولكنهم مع علي بن أبي طالب بالمدينة، وجئت وصول عائشة إلى البصرة أستنهض أهل البصرة لقتاله. أنغضب لكم من سوط عثمان ولا نغضب لعثمان حركة الإمام إلى البصرة من سيوفكم ! فقال لها ما أنت من السوط والسيف ! إنما أنت حبيس رسول الله وصوله فيه إلى البصرة

أمرك أن تقري في بيتك وتتلي كتاب ربك، وليس على النساء قتال، ولا لهن الطلب بالدماء، وإن علياً لأولى بعثمان منك وأمس رحماً، فإنهما ابنا عبد مناف ! هزيمة جيش عائشة :فقالت لست بمنصرفة حتى أمضى لما قدمت له، أفتظن يا أبا الأسود أن أحداً إسكان عائشة وإرجاعها يقدم على قتالي! قال: أما والله لتقاتلن قتالاً أهونه الشديد)! (شرح النهج:226/6).

من أخبار عائشة وجملها

7 كانت عائشة عنيفة، فكانت تضرب الطفل اليتيم حتى يفقد الوعي الإمام في البصرة كلياً قال في الفائق في غريب الحديث (118/2) : ( عائشة رضي الله عنها كانت تضرب اليتيم يكون في حجرها حتى يسبط ، أي يمتد على وجه الأرض. مشاهد من حرب الجمل يقال: دخلت على المريض فتركته مسبطاً، أي لقى لا يتكلم ولا يتحرك).

وقال في (186/3): (كانت تضرب اليتيم وتلبط-ه). ولسان الع-رب (311/7)

والزبيدي (274/10).

شهداء مع الإمام

من

خطب علي

وقتلت رجلاً وقالت إنه جان ! قال ابن عبد البر في التمهيد (118/11): (عن الكذب في حرب الجمل

عائشة أم المؤمنين أنها قتلت جاناً فأوتيت فيما يرى النائم فقيل لها : أما والله لقد قتلت مسلماً ! فأصبحت فزعة فأمرت باثني عشر ألفاً فجعلت في سبيل الله) ! من شعر حرب الجمل وقال النووي في المجموع (39/20) : (وأخرج مالك عن عائشة أنها قطعت يد الإمام واصل الفتوحات :

عبد لها، وأخرج أيضاً أن حفصة قتلت جارية لها سحرتها ». وقتلت مع حفصة

الله

الإمام ينقل العاصمة جواري، وزعمتا أن الجواري الثلاث كتبن لهما سحراً ! (المحلى: 395/11)

:أقول : وكان عادياً عندها أن تصدر أوامرها بالقتل ! فقد أمرت ببدء القتال في

281

ص: 281

البصرة لأخذ دار الإمارة وقاتلت ثلاثة أيام، وأمرت بمهاجمة بيت المال وأمرت الزبير بذبح السبابجة حراس بيت المال، لأنهم امتنعوا عن تسليم بيت المال لهم. واسرت عثمان بن حنيف والي البصرة وأمرت بقتله!

وقبل حربها مع علي الله أمرت بقتل الفتى الذي رفع القرآن ودعاهم اليه وقالت:

أشجروه بالرماح قبحه الله !

وكانت تتجول في المعركة وتحرض على القتال وسفك الدم وتضمن لهم الجنة ! ولما فقدت ركنيها الزبير وطلحة في أول يوم من المعركة قادت الحرب وحدها بجيش كبير ستة أيام من غرفة قيادتها على ظهر الجمل، وقد نصبت علي--ه ه-ودج--اً ألبس-ت-ه الدروع وصفائح الح-دي-د! وكان--ت تص--در أمرها الى القادة والجنود من الهودج بصوتها الجهوري ،العالي، وكان أركان حربها يحيطون بالجمل، ويتبركون ببعره فيفتونه ويشمونه ويقولون رائحة بعر جمل أمنا أطيب من رائحة المسك ! وكان الشجاع يتقدم فيأخذ خطامه هنيهة ويقبله، ثم يتركه لآخر ويبرز الى جيش علي السلام

وكانت تأذن لمن تراه أهلاً أن يأخذ الخطام، ولما أخذه عزيزها عبد الله بن الزبير قالت: (والكل أسماء ! أقسمت عليك لما تنحيت ففعل، فأخذ الخطام بعض بني ضبة فقتل). (أنساب الأشراف: 243/2).

قال السيد شرف الدين في النص والإجتهاد / 448 ، ملخصاً: (وبرزت ربة الجمل والهودج إلى المعركة، وقد عصفت في رأسها النخوة فأدركتها حمية منكرة، وكانت أجرأ من ذي لبدة، قد جمعت ثيابها على أسد، تلهب حماسها في جيشها، فتدفعهم به إلى الموت دون جملها ، وقد نظرت عن يسارها فقالت : من القوم عن يساري؟ فأجابها صبرة بن شيمان: نحن بنوك الأزد. فقالت: يا آل غسان حافظوا اليوم على جلادكم الذي كنا نسمع به فكان الأزد يأخذون بعر الجمل يشمونه ويقولون: بعر جمل أمنا

ريحه ريح المسك !

وقالت لمن على يمينها من القوم عن يميني ؟ قالوا : بكر بن وائل..

282

ص: 282

وأقبلت على كتيبة بين يديها فقالت من القوم؟ قالوا: بنو ناجية قالت بخ بخ سيوف أبطحية قرشية، فجالدوا جلاداً يتفادى منه ! فكأنها أشعلت فيهم من إعداد عائشة لحرب علي

حركة عائشة إلى البصرة

الحماسة ناراً تلظى وتتابع حملة اللواء على خطام جملها مستميتين.. وما زالت تستفز حميتهم حتى عقر الجمل وكانت الهزيمة بإذن الله. ولولا عناية أمير المؤمنين اللي ساعتئذ في حفظها، ووقوفه بنفسه على صونها، وصول عائشة إلى البصرة لكان ما كان مما أعاذها الله منه في هذه الفتنة العمياء التي شقت عصا المسلمين حركة الإمام إلى البصرة إلى يوم الدين وعلى أسسها كانت صفين والنهروان ومأساة كربلا وما بعدها.

حتى نكبة فلسطين، في عصرنا هذا.

وصوله إلى البصرة

لكن أخا النبي وأبا سبطيه الله وقف على الجمل بنفسه، حين أطفئت هزيمة جيش عائشة

الفتنة بعقره، وما أن هوى بالهودج حتى آواه وفيه عائشة إلى وارف من ظله إسكان عائشة وإرجاعها منيع، وجعل معها أخاها محمداً ليقوم بمهامها في نسوة من الصالحات،

خطب علي

الله

ومَنَّ على محاربيه وتفضل عليهم ، وأطلق الأسرى من أعدائه الألداء، من أخبار عائشة وجملها واختص عائشة من الكرامة بكل ما يناسب خلقه الكريم، وفضله العميم الإمام في البصرة وحكمته البالغة. وهذا كله معلوم بحكم الضرورة من كتب السير والأخبار. مشاهد من حرب الجمل

هذا، وقد كانت أم المؤمنين من أعلم الناس بأن علياً الله أخو رسول الله الله ووليه ووارثه ووصيه، وأنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وأنه منه بمنزلة شهداء مع الإمام هارون من موسى إلا في النبوة، وقد سمعت رسول الله له يقول: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله. اللهم ارحم علياً، اللهم أدر الحق معه حيث دار. وقد شهدت حجة الوداع مع رسول الله الله فرأته يوم الموقف يشيد بفضله من شعر حرب الجمل

آمراً أمته بالتمسك بثقليه تارة، وبخصوص على أخرى، منذراً بضلال من لم الإمام له واصل الفتوحات

يأخذ بهما معاً. ويوم الغدير رأته وقد رقى منبر الحدائج يعهد إلى علي عهده ويوليه على الأمة بعده، بمسمع ومنظر من تلك الألوف المؤلفة قافلة من حجة الإمام ينقل العاصمة

الوداع، حيث تفترق

بهم الطرق إلى بلادهم.

من

الكذب في حرب الجمل

283

ص: 283

. كتبت عائشة الى معاوية (الطبري: 489/3): (فمكثنا ستاً وعشرين ليلة ندعوهم إلى كتاب الله وإقامة حدوده، وهو حقن الدماء أن تهراق دون من قد ح-ل دم-ه، فأبوا واحتجوا بأشياء فاصطلحنا عليها، فخافوا وغدروا وخانوا وحشروا، فجمع الله عز وجل لعثمان ثأرهم ،فأقادهم، فلم يفلت منهم إلا رجل)! تصف بذلك حربها لأخذ المدينة، ولم تذكر أنها عجزت و اصطلحت مع عثمان بن

حنيف، ثم نقضت الصلح وهو يصلي الفجر، وأخذته أسيراً..الخ. وتصف حملتها بعد أن سيطرت على البصرة لتقتيل الوفد الذي كان ذهب الى المدينة يطالب عثمان بتغيير الوالي، فجعلتهم قتلة عثمان، وقتلتهم كلهم، فلم يفلت منه إلا

حرقوص بن زهير رئيس الخوارج، حيث حمته عشيرته.

9 . في شرح النهج (1/ 264) : (انتهى الحارث بن زهير الأزدي من أصحاب علي إلى الجمل، ورجل آخذ بخطامه، لا يدنو منه أحد إلا قتله، فلما رآه الحارث بن زهير مشی إليه بالسيف وارتجز ، فقال لعائشة : يا أمنا أعتُ أمّ نعلم...الخ.). وفي شرح النهج (265/1) : (وأخذ خطام الجمل سبعون من قريش قتلوا كلهم، ولم يكن

يأخذ بخطام الجمل أحد إلا سالت نفسه، أو قطعت يده.

وجاءت بنو ناجية فأخذوا بخطام الجمل، ولم يكن يأخذ الخطام أحد إلا سألت عائشة : من هذا؟ فسألت عنهم فقيل : بنو ناجية، فقالت عائشة: صبراً يا بني ناجية، فإني أعرف فيكم شمائل قريش. قالوا: وبنو ناجية مطعون في نسبهم إلى قريش، فقتلوا حولها جميعاً)!

وقال في الغارات (770/2) : (بنو ناجية ينسبون أنفسهم إلى قريش وقريش تدفعهم !

وجعلتهم عائشة من قريش فتحمس المساكين وقتلوا كلهم في سبيلها !

10 . في الطبري (528/3) : (عن عبدالله بن الزبير قال : مشيت يوم الجمل وبي سبع وثلاثون جراحة من ضربة وطعنة، وما رأيت مثل يوم الجمل قط ! ما ينهزم منا أحد، وما نحن إلا كالجبل الأسود، وما يأخذ بخطام الجمل أحد إلا قتل، فأخذه عبد

284

ص: 284

الرحمن بن عتاب فقتل، فأخذه الأسود بن أبي البختري فصرع، وجئت فأخذت

6

بالخطام فقالت عائشة: من أنت؟ قلت عبدالله بن الزبير قالت والكل أسماء! إعداد عائشة لحرب علي ومربي الأشتر فعرفته فعانقته فسقطنا جميعاً وناديت: أقتلوني ومالكاً. فجاء حركة عائشة إلى البصرة

ناس منا ومنهم فقاتلوا عنا، حتى تحاجزنا وضاع الخطام. ونادى علي : أُعق--روا الجمل فإنه إن عقر تفرقوا ، فضربه رجل فسقط، فيما وصول عائشة إلى البصرة سمعت صوتاً قط أشد من عجيج الجمل، وأمر علي محمد بن أبي بكر فضرب حركة الإمام إلى البصرة عليها قبة، وقال أنظر هل وصل إليها شئ) وصوله إلى البصرة وروى الطبري ( 3 / 529) : وانتهى إلى الجمل الأشتر وعدي بن حاتم، فخرج عبدالله بن حكيم بن حزام إلى الأشتر، فمشى إليه الأشتر فاختلفا ضربتين هزيمة جيش عائشة فقتله». وقاتل عدي بن حاتم حتى فقئت إحدى عينيه». (الأخبار الطوال/ 150). إسكان عائشة وإرجاعها

وقتل ابنه طريف . ( الجمل للمفيد / 196) وقال عدي بن حاتم هذا على بالكتاب عالم

أنا عدي ونماني حاتم لم يعصه في الناس إلا ظالم.

(المناقب : 2 / 643) .

من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة

مشاهد من حرب الجمل

من

11 . في شرح النهج (253/1) عن المدائني والواقدي: (ما حفظ رجز قط أكثر شهداء مع الإمام الله

من رجز قيل يوم الجمل، وأكثره لبني ضبة و الأزد، الذين كانوا حول الجمل يحامون عنه، ولقد كانت الرؤوس تندر عن الكواهل، والأيدي تطيح من خطب علي المعاصم، وأقتاب البطن تندلق من الأجواف، وهم حول الجمل كالجراد الثابتة الكذب في حرب الجمل لا تتحلحل ولا تتزلزل، حتى لقد صرخ الثلة بأعلى صوته: ويلكم أُعقروا الجمل من شعر حرب الجمل

فإنه شيطان! ثم قال: أعقروه وإلا فنيت العرب، لا يزال السيف قائماً وراكعاً من شد هذا البعير إلى الأرض، فصمدوا له حتى عقروه، فسقط وله رغاء شديد، فلما الإمام واصل الفتوحات

برك كانت الهزيمة).

الإمام ينقل العاصمة

285

ص: 285

12 . قال العيني في عمدة القاري (15 / 50) : ( وقال الواقدي: كان زمام الجمل بيد كعب بن س--ور، وما كان يأخذ زمام الجمل إلا من هو معروف بالشجاعة ما أخذه أحد إلا قتل، وحمل عليه عدي بن حاتم ولم يبق إلا عقره، ففقئت عين عدي، واجتمع بنو ضبة عند الجمل وقاتلوا دونه قتالاً لم يسمع مثله، فقطعت عنده ألف يد، وقتل

عليه ألف رجل منهم.

وقال ابن الزبير : جرحتُ على زمام الجمل سبعة وثلاثين جراحة، وما أحد أخذ برأسه إلا قتل أخذه عبد الرحمن بن عتاب فقتل، ثم أخذه الأسود بن البحتري فقتل، وعد جماعة، وغلب ابن الزبير من الجراحات فألقى نفسه بين القتلى. ثم وصلت النبال إلى هودج أم المؤمنين فجعلت تنادي: الله الله يا بني أذكروا يوم الحساب، ورفعت يديها تدعو على أولئك القوم من قتلة عثمان، فضج الناس معها بالدعاء، وأولئك النفر لا يقلعون عن رشق هودجها بالنبال حتى بقي مثل القنفذ فجعلت الح-رب تأخذ وتعطي، فتارة لأهل البصرة وتارة لأهل الكوفة وقتل خلق كثير. ولم تر وقعة أكثر من قطع الأيدي والأرجل فيها من هذه الوقعة، ثم حملت عليه السائبة والأشتر يقدمها. وحمل بجير بن ولجة الضبي الكوفي وقطع بطانه وعقره، وقطع ثلاث قوائم من قوائمه، فبرك ووقع الهودج على الأرض). ثم حل العيني المشكلة على مذهبهم في حب عائشة ، فقال : ( ووقف عليها علي رضي الله تعالى عنه فقال: السلام عليك يا أماه فقالت: وعليك السلام يا بني، فقال: يغفر الله لك، فقالت: ولك. وانهزم من كان حوله من الناس، وأمر علي رضي الله تعالى عنه أن يحملوا الهودج من بين القتلى، وأمر محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر أن يضربا عليه قبة، ولما كان آخر الليل خرج محمد بعائشة فأدخلها البصرة، وأنزلها في دار عبدالله بن خلف الخزاعي، وبكت عائشة بكاء شديداً وقالت: وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة، وجاء وجوه الناس من الأمراء والأعيان يسلمون عليها)! وهكذا زعموا أن الخلاف بين علي الله وعائشة انتهى باستغفار أحدهما للآخر! ولو

صح قولهم فما ذنب الألوف التي قتلت، وهل تذهب دماؤهم هدراً!

286

ص: 286

والصحيح أن الحجة تمت على جيش الجمل قادةً وجنوداً، وسماهم النبي صلى الله عليه وسلم الفئة

الباغية ولعنهم، وحذرهم من الخروج على على الله، ولا بد أن يلاقوا جزاءهم. إعداد عائشة لحرب علي

13 . انكسرت روحية عائشة لما نبحتها كلاب الحواب وأيقنت أنها قائدة حركة عائشة إلى البصرة الفئة الباغية التي حذر منها النبي ، وبقيت يومين في الحوأب تفكر بين الرجوع وصول عائشة إلى البصرة وترك ما بيدها من مكانة وقيادة أو تمضي الى هدفها الذي تراه في متناول اليد ولو

حركة الإمام إلى البصرة

نهاها عنه النبي ! فقد تخيلت أنها تصل الى البصرة وتخطب فيلتف حولها الناس ثم يأتي علي فيقبضون عليه ويخلعونه أو يقتلونه، وتنصب للمسلمين خليفة مكانه! وصوله في إلى البصرة

عاشت أزمة داخلية عنيفة في الحوأب، ثم تجاوزتها وعادت الى عنفوانها، والى ما هزيمة جيش عائشة

كتبته لأم سلمة : ( أما ما كنت تعرفينه من رأيي في عثمان فقد كان، ولا أجد مخرجاً منه إلا الطلب بدمه. وأما علي فإني آمره برد هذا الأمر شورى بين الناس، فإن فعل إسكان عائشة وإرجاعها وإلا ضربت وجهه بالسيف، حتى يقضي الله ما هو قاض)! (الجمل للمفيد/ 128). من أخبار عائشة وجملها

فهي تأمر علياً فهو ابنها ولها أن تأمره وتنهاه وعليه أن يطيع ! أما شخصية علي الإمام في البصرة

وتاريخه والآيات وأقوال النبي فيه وكل الوحي، فيجب أن يخضع لحق عائشة!

الله

علك

مشاهد من حرب الجمل

وتجاوزت عائشة حديث الحوأب ، كما تجاوزت من قبل قول النبي إن شهداء مع الإمام الله بيتها منبع الفتنة ! قال البخاري (46/4) : « قام النبي خطيباً فأشار نحو مسكن عائشة فقال: هاهنا الفتنة ثلاثاً، من حيث يطلع قرن الشيطان ».

من

خطب علي

نعم قال النبي إن الشيطان الذي له قرون يخرج من غرفتها ! لكنها تخرج الكذب في حرب الجمل

على علي وتنتصر إن شاء الله ، ثم تتصدق وتستغفر، فيغفر الله لها !

14 . أمير الشعراء احمد شوقى ينتقد عائشة بذكاء

من شعر حرب الجمل

له

لأمير الشعراء أحمد شوقي كتاب باسم : دول العرب وعظماء الإسلام، نظم فيه الإمام واصل الفتوحات عدداً من قضايا تاريخ الإسلام في أراجيز ، ومنها قصة حرب الجمل/54، قال: الإمام ينقل العاصمة

287

ص: 287

يا جبلاً تأبى الجبال ما حمل ماذا رمت عليك ربِّةُ الجَمل

13

أثأر عثمان الذي شجاها أم غُصَّةٌ لم يُنتزع شجاها

قضيةٌ من دمه تبنيها هبت لها واستنفرت بنيها

ذلك فتق لم يكن بالبال كيد النساء موهن الجبال

وإنّ أم المؤمنين لامرأة وإن تك الطاهرة المبرأة

أخرجها من كنّها وسيّها ما لم يُزل طول المدى من ضغنها

وشر من عداك من تقيه ومُلقي السلاح تلتقيه

جهزها طلحة والزبير ثلاثة فيهم هدى وخير

صاحبة الهادي وصاحباه فكيف يمضون لما يأباه

يا ليت شعري هل تعدوا وبغوا أم دم ذي النورين بالحق بغوا

جاءت إلى العراق بالبنينا قضاء حق الأم محسنينا

فانصدعت طائفتين البصرة فريقُ خَذْلٍ وفريق نصره

أو ذادة البيعة والدمام وقادة والزمام

وانتهك الحي دماء الحيّ من أجل مي-ت غ-اب-ر وح-ي وجاء في الأُشد أب--و ت-رابِ على متون الضمّر العراب

يرجو لصدع المؤمنين رأبا وأمّهم تدفعه وتأبى وعجز الرأي وأعي-ا الحِلْ-مُ وخُطبت بالمرهفات السلم من كلّ يوم سافك الدماء تعوذ منه الأرض بالسماء

تجرّ ذات الطهرفيه عسكرا وتذمر الخيل وتغري العسكرا

ظل الخطام من يد إلى يدٍ کالتاج للأصيد بعد الأصيد

الفتنة

288

ص: 288

حتى

مستلما توهى الغيوث دونه وبالدماء أنهراً يفدونه أراد الله إمساك الدمِ في كرم لسيفه المقدّم وظفرت ألوية الإمام وألقت البصرة بالزمام فرُدّت الأم إلى مقرها مبالغاً في نقلها وبرها).

.15 أمير الشعراء الشيخ الأزري يصف عائشة

وقال الشاعر الشيخ كاظم الأزري في منظومته البليغة (الأزرية / 141) :

يوم جاءت تقود بالجمل العسكر لا تتقى ركوب خطاها فألحت كلاب حوأب نبحاً فاستدلَّت به علی حوباها

يا ترى أي أمة لنبي جاز في شرعها قتال نساها أي أم للمؤمنين أساءت ببنيها وفرقتهم سواها شتتتهم في كل شعب وواد بئس أم عتت على أبناها نسيت آية التبرج أم لم تدر أن الرحمن عنه نه-اه-ا

حفظت أربعين ألف حديثاً ومن الذكر آية تنساها

إذ سعت بعد فقده مسعاها

ذكرتنا بفعلها زوج موسى

قاتل-ت ي-وش-ع-اً كم-ا قاتلت-ه تخالف حمراؤها صفراها

واستمرت تجر أردية اللهو الذي عن إلاهها ألهاها

لا تلمني يا سعد في مقت قوم ما وفت حق أحمد إذ وفاها أوما قال عترتي أهل بيتي إحفظوني في برها وولاها؟

نازعوه حياً وخانوه ميتاً يا لتلك الحظوظ ما أشقاها

وقد عقدنا فصلاً لشعر حرب الجمل، أوردنا فيه القصيدة المذهبة للسيد الحميري.

إعداد عائشة لحرب علي

حركة عائشة إلى البصرة

وصول عائشة إلى البصرة

حركة الإمام إلى البصرة

وصوله إلى البصرة

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة

مشاهد من حرب الجمل

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

الإمام له واصل الفتوحات

الإمام ينقل العاصمة

289

ص: 289

16 . وضعت عائشة خطة عسكرية للسيطرة على البصرة ، ثم نصب خليفة فكانت تتصور أن الناس يطيعونها ولا يجرؤ أحد منهم على قتالها، فإذا تجرأ علي قتلته، أو قبضت عليه وخلعته، ونصبت خليفة بدله . ولهذا كانت تأمره بخلع نفسه من الخلافة، فتقول: وأما علي فإني آمره برد هذا الأمر شورى بين الناس، فإن فعل وإلا ضربت وجهه بالسيف وهذا ما فهمه من خطتها كل الناس فلا قيمة لادعائها أنها

قصدت الإصلاح، والنصيحة ولم تقصد الحرب.

قال أبو الهذيل العلاف: (أقول : إن عايشة وطلحة والزبير إن كانوا قصدوا بقتالهم علي بن أبي طالب وأصحابه منعه من الإستبداد بالأمر من دون رضا العلماء به، وأرادوا الطلب بدم عثمان والإقتصاص له من ظالميه برد الأمر شورى ليختار المسلمون من يرون، فهم بذلك هداة أبرار مستحقون للثواب. وإن كانوا أرادوا بذلك الدنيا والعصبية والإفساد في الأمر، وتولي الأمر بغير رضا

العلماء فهم بذلك ضلال مستحقون اللعنة والخلود في النار.

غير أنه لا دليل لي على أغراضهم فيه ولا حجة تظهر في معناه من أعمالهم، ولذلك وقفت فيهم، كما وقفت في علي وأصحابه كما بينت وإن كان طلحة والزبير أحسن

من علي فيما أتاه). (الجمل للمفيد 27).

حالا

17 . عسكرت عائشة في ضاحية البصرة، في حفر أبي موسى، وأرسلت الى والي البصرة عثمان بن حنيف أخل لنا دار الإمارة وسلمنا بيت المال فأرسل لهم رسولين فرأيا شدة كلامهم، فرجعا وقالا له: إستعد للحرب فعائشة تريد أخذ البصرة ولو

بقتالك ! وخاضت ثلاث معارك حتى سيطرت على البصرة، وسميت هذه المعارك: الجمل الصغرى، وكانت قبل وصول أمير المؤمنين الله .

290

ص: 290

18 . سبب موجة التأييد والحب والطاعة لعائشة

إعداد عائشة لحرب علي

قال أمير المؤمنين الله : ( فمنيتُ بأطوع الناس في الناس عايشة بنت أبي بكر، وبأشجع الناس الزبير، وبأخصم الناس طلحة بن عبيد الله). (كشف المحجة / 173). حركة عائشة إلى البصرة فوصف عائشة بأنها أطوع الناس في الناس، بسبب قوة شخصيتها وتأثيرها وصول عائشة إلى البصرة

عليهم وتهافتهم عليها، فقد تربوا ربع قرن في ظل أنظمة الحكم السابقة على تمجيدها في المساجد وعند الكتاتيب، و حفظ فضائلها على أنها جزء من حركة الإمام إلى البصرة

السلاةِ

المَوالِم

الله

الله

إسكان عائشة وإرجاعها

الدين ومنها عشق النبي الله لها وهيامه بها، و نزول جبرئيل بصورتها الى وصوله إلى البصرة النبي الله على فوطة حرير ، ونزول جبرئيل بمدائحها، وأنها زوجة النبي له في هزيمة جيش عائشة

الدنيا والآخرة، ووجوب احترامها وطاعتها، ورعاية حقها، وأنها أم المؤمنين وحدها، فلا يستعملون هذا اللقب لغيرها من أزواج النبي ، الى سلسلة طويلة من الفضائل المكذوبة وكلها عن لسان عائشة ومقولاتها، كان يروج لها من أخبار عائشة وجملها إعلام السلطة ويكررها ،رواتهم، ويعادون من يكذبها أو يردها أو لا يقبل بها! لذلك نرى أن عائشة دخلت البصرة بست مئة جندي، فأحدثت موجة في الإمام في البصرة أغلبية أهلها، وجندت منهم في أقل من شهر عشرات الألوف، يموتون في مشاهد من حرب الجمل سبيلها، واستعملت لذلك أساليب، منها البكاء ! شهداء مع الإمام الله قال المفيد له في كتاب الجمل / 172): وتأخر عنهما الأزد لقعود كعب بن سور القاضي عنهما ، وكان سيد الأزد وأهل اليمن بالبصرة ، فأنفذا إليه رسوليها من خطب عليه يسألانه النصرة لهما والقتال معهما، فأبى عليهما، وقال أنا أعتزل الفريقين، فقالا: لئن قعد عنا كعب خذلنا الأزد بأسرها، ولا غنى لنا عنه، فصارا إليه واستأذنا عليه فلم يأذن لهما وحجبهما، فصارا إلى عائشة فخبراها خبره، وسألاها أن تسير من شعر حرب الجمل إليه فأبت وراسلته تدعوه إلى الحضور عندها، فاستعفاها من ذلك. فقال طلحة الإمام في واصل الفتوحات والزبير: يا أم إن قعد عنا كعب قعدت عنا الأزد كلها وهي حي البصرة، فاركبي الإمام ينقل العاصمة

إليه فإنك إن فعلت لم يخالفك وانقاد لرأيك، فركبت بغلاً وأحاط بها نفر من أهل البصرة، وصارت إلى كعب بن سور، فاستأذنت عليه فأذن لها ورحب بها،

.

الكذب في حرب الجمل

291

ص: 291

فقالت: يا بني أرسلت إليك لتنصر الله عز وجل، فما الذي أخرك عني؟ فقال: يا أماه، لا حاجة لي في خوض هذه الفتنة. فقالت: يا بني أخرج معي وخذ بخطام جملي، فإني أرجو أن يقربك بي إلى الجنة واستعبرت باكية فرق لها كعب بن سور وأجابها، وعلق المصحف في عنقه وخرج معها !

فلما خرج والمصحف في عنقه قال غلام من بني وهب، وقد كان عرف امتناعه

وتأنيه عن خوض هذه الفتنة، يقول:

أيا كعب رأيك ذاك الجميل أمثل

أمثل من رأيك الخاطل

أتاك الزبير يدير الأمور وطلحة بالنقل الثاكل

ليستدرجاك بما زخرفا وأمك تهوي إلى ن-------ازل

وقد كانت الأم معصومة فأضحت فرائس للآكل

تخط بها الأرض مرحولها ترد الجواب على السائل

فألفيتها بين حي بين حي السباع وعرضتها للشجى الشاكل بح--رب علي وأصح--اب-ه فقد أزم الدهر بالكاهل

فأبديت للقوم ما في الضمير وقلت له------م ق-ول-----ة الخ-اذل

فأخطاهما منك ما أملاه وقد أخلفا أمل الآمل

وما لك من مضر نسبة وما لك في الحي من وائل

فلا تجزعن على هالك من القوم حاف ومن ناعل ولما نهض كعب بن سور مع عائشة في الأزد اجتمع رأي طلحة والزبير على تكتيب الكتائب، واستقر الأمر معهما على أن الزبير أمير العسكر خاصة ومديره، وطلحة في القلب واللواء مع عبدالله بن حزام بن خويلد، وكعب بن سور مع الأزد، وعلى خيل الميمنة مروان بن الحكم، وعلى رجالة الميمنة عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، وعلى

خيل الميسرة وهم بنو تميم وسائر قبائل قضاعة وهوازن هلال بن وكيع الدارمي

292

ص: 292

وعلى رجالة الميسرة عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، وقد ضم إليه الحباب يزيد، وعلى خيل قيس غيلان مجاشع بن مسعود، وعلى رجالتهم جابر بن إعداد عائشة لحرب علي النعمان الباهلي، وعلى خيل الرباب عمرو بن يثربي ، وعلى رجالتهم خرشنة بن حركة عائشة إلى البصرة عمر و العتبي، وعلى من انحاز إليهم من ثقيف عبد الله بن عامر بن كريز، وعلى أفناء أهل المدينة عبدالله بن خلف الخزاعي، وعلى رجالة مذحج الربيع بن زياد وصول عائشة إلى البصرة الحارثي، وعلى رجالة قضاعة عبد الله بن جابر الراسبي، وعلى من انحاز إليهم حركة الإمام إلى البصرة من ربيعة مالك بن مسمع). وصوله إلى البصرة وقال المفيد في الإرشاد (256/1): (ثم مشى أمير المؤمنين الله قليلاً فمرَّ بكعب بن سور (قتيلاً) فقال : هذا الذي خرج علينا في عنقه المصحف هزيمة جيش عائشة يزعم أنه ناصر أمه يدعو الناس إلى ما فيه، وهو لا يعلم ما فيه ، ثم استفتح إسكان عائشة وإرجاعها وخاب كل جبار عنيد! أما إنه دعا الله أن يقتلني فقتله الله. أجلسوا كعب

من أخبار عائشة وجملها

بن سور ور، فأجلس فقال أمير المؤمنين الله : يا كعب، قد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً؟ ثم قال: أضجعوا كعباً. الإمام في البصرة

19 . وصف عائشة لمعركة الجمل !

مشاهد من حرب الجمل

من

خطب علي

قال المفيد في كتاب الجمل / 200 ، وضامن بن شدقم في كتابه / 48 : روى الواقدي شهداء مع الإمام

عن رجاله العثمانية عن حميدة بنت بن رفاعة عن أمها كبشة بنت كعب قالت: كان أبي لقي على عثمان حزناً عظيماً وبكاه، ولم يمنعه من الخروج إلا أن بصره ذهب. ولم يبايع علياً ولم يقر به بغضاً له ومقتاً! وخرج علي من المدينة فلما قدمت الكذب في ح--رب الجمل عائشة منصرفة من البصرة، جاءها أبي فسلم على الباب، ثم دخل وبينها وبينه من شعر حرب الجمل حجاب، فذكرت له بعض الأمر ولم تشرحه له، فلما أمسينا بعثنا إلى عائشة

الإمام له واصل الفتوحات

نستأذن عليها فأذنت لنا، قالت كبشة فدخلت في نسوة من الأنصار فحدثتنا بخروجها، وأنها لم تظن الأمر يبلغ إلى ما بلغ ، ثم قالت: لقد عمل لي على هودج الإمام ينقل العاصمة على جملي ثم ألبس الحديد ودخلت فيه، وقمت في وسط الناس أدعو إلى

293

ص: 293

الصلح وإلى الكتاب والسنة، فليس أحد يسمع من كلامي حرفاً، وعجل من لقينا القتال فرموا النبل ، وصرعهم القوم حتى قتل من أصحاب علي رجل ورجلان، ثم تقارب الناس ولَحَمَ الشر وصار القوم ليس لهم همة إلا جملي، ولقد دخلت علي سهام فجرحتني، فأخرجت ذراعها وأرتنا جرحاً على عضدها، فبكت وأبكتنا ! قالت: وجع--ل ك-ل-م-ا أخذ بخطام جملي رجل قتل، حتى أخذه ابن أختي عبدالله فصحت به وناشدته بالرحم أن يتجافاني، فقال : يا أم هو الموت يقتل الرجل وهو عظيم الغنى عن أصحابه على نيته خير من أن يدرك وقد فارقته نيته، فصحت: واثكل أسماء! فقال يا أم الزمي الصمت وقد لحم ما ترين فأمسكت! وكان من معنا فتيان أحداث من قريش لا علم لهم بالقتال، ولم يشهدوا الحرب فكانوا جزراً للقوم، فإني لعلى ما نحن فيه وقد كان الناس كلهم حول جملي فسكتوا ساعة، فقلت: خيراً أم شراً ذا سكوتكم ، ضَرُسَ القتال ! وإذا ابن أبي طالب أنظر إليه يباشر القتال بنفسه، وأسمعه يصيح الجمل الجمل، فقلت أرادوا والله قتلي فإذا هو علي بن أبي طالب ومعه محمد بن أبي بكر أخي، ومعاذ بن عبدالله التميمي، وعمار بن ياسر، وقطعوا البطان واحتملوا الهودج ، فهوى على أيدي الرجال يرفلون به، وهرب من كان معنا، فلم أحس لهم خبراً! ونادى منادي علي بن أبي طالب: لا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح، ومن طرح السلاح فهو آمن فرجعت إلى الناس أرواحهم !

فمشوا على الناس واستحيوا من السعي مشوا على الجثث حول الجمل ولم يسرعوا) فأدخلت منزل عبدالله بن خلف الخزاعي، وإنه منزل رجل قد قتل وأهله مستعبرون عليه، ودخل معي كل من خاف علياً ممن نصب له، واحتمل ابن أختي عبدالله جريحاً. فو الله إني لعلى ما أنا عليه وأنا أسأل ما فعل أبو محمد طلحة، إذ قال قائل قتل، فقلت: ما فعل أبو سليمان فقيل قد قتل، فلقد رأيتني تلك الساعة جمدت عيناي فانقطعت من الحزن، وأكثرت من الإسترجاع والندامة، وذكر من قتل فبكيت لقتلهم، فنحن على ما نحن عليه وأنا أسأل عن عبد الله فقيل قتل، فازددت غماً وهماً، حتى كاد ينصدع قلبي، فوالله لقد بقيت ثلاثة أيام بلياليهن ما دخل في فمي طعام ولا شراب، وإني

294

ص: 294

عند قوم ما قصروا في ضيافتي، وإن الخبز في منازلهم لكثير، لكني أذهب أعالج الشبع من الطعام فما أقدر !

هي كانت

إعداد عائشة لحرب علي

وصول عائشة إلى البصرة

فنعوذ بالله من الفتنة. ولقد كنت ألبت على عثمان حتى نيل منه ما نيل، فلما حركة عائشة إلى البصرة

قتل ندمت وعلمت أن المسلمين لا يستخلفون مثله أبداً، كان والله أجلهم حلماً وأعبدهم عبادة، وأبذلهم عند النائبة وأوصلهم للرحم! قالت كبشة بنت كعب فرجعت إلى أبي فقال : ما حدثتكم به عائشة ؟ فأخبرته حركة الإمام بته إلى البصرة

بما قالت فقال: يرحم الله عائشة ويرحم الله أمير المؤمنين عثمان، هي وصوله إلى البصرة

أشد الناس عليه، ولقد نزعت وتابت وأرادت أن تأخذ بثاره، فجاء خلاف ما أرادت، فرحمهم الله جميعاً)! وروى المفيد في الجمل / 199 ، عن عروة بن الزبير قال: خرجت عائشة يوم إسكان عائشة وإرجاعها

البصرة وهي على جملها عسكر قد اتخذت عليه خدرا ودقته بالدروع، خشية أن يخلص إليها النبل، وسار إليهم علي بن أبي طالب حتى التقوا فاقتتلوا قتالاً من أخبار عائشة وجملها شديداً، وأخذ بخطام الجمل يومئذ سبعون رجلاً من قريش كلهم قتل. وخرج الإم---امه في البص----رة مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير ورأيتهما جريحين، فلما قتلت تلك العصابة

هزيمة جيش عائشة

مشاهد من حرب الجمل

من قريش، أخذ رجال كثير من بني ضبة بخطام الجمل فقتلوا عن آخرهم، ولم يأخذ بخطامه أحد إلا قتل، حتى غرق الجمل بدماء القتلى وتقدم محمد بن أبي شهداء مع الإمام بكر فقطع بطان الجمل و احتمل الخدر ، ومعه أصحاب له وفيه عائشة، حتى أنزلوها بعض دور البصرة، وولى الزبير منهزماً فأدركه ابن جرموز فقتله).

()

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

20 . كانت عائشة تصيح وهي تحتضر : إني أحدثت بعد رسول الله فلا تدفنوني

عنده! يا ليتني لم أخلق ! لوددت أني كنت مدرة، ولم أكن شيئاً مذكوراً!

وفي البخاري (10/6) : وددت أني كنت نسياً منسياً وقال إسحاق بن راهويه (40934/2) : (لاريب أن عائشة ندمت ندامة كلية على الإمام ينقل العاصمة

مسيرها إلى البصرة وحضورها يوم الجمل، وما ظنت أن الأمر يبلغ ما بلغ...

و تابت من ذلك. على أنها ما فعلت ذلك إلا متأولة قاصدة للخير ! كما اجتهد طلحة

الإمام له واصل الفتوحات

295

ص: 295

بن عبيد الله والزبير بن العوام وجماعة من الكبار رضي الله عن الجميع. وكانت إذا قرأت الآية : وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ. بكت حتى تبل دموعها خمارها. وجاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إذا مر ابن عمر فأرونيه فلما مر بها قيل لها هذا ابن عمر فقالت: يا أبا عبد الرحمن : ما منعك أن تنهاني عن مسيري؟ قال: رأيت رجلاً قد غلب عليك يعني ابن الزبير . فكل هذه الروايات تدل على ندامة عائشة رضي الله عنها ندامة كاملة، وحتى اعتبرت مسيرها حدثاً في حياتها، وكان من نيتها أولاً أن تدفن في بيتها، ثم انصرفت ذلك فقال : إني أحدثت ! فأوصت أن تدفن في البقيع رضي الله عنها. ومن خشيتها وشدة خوفها أنها كانت تقول: ليتني كنت شجرة، وفي رواية أخرى عن عمرو بن سلمة قال : قالت عائشة : والله لوددت أني كنت شجرة ، والله لوددت أني كنت مدرة، والله لوددت أن الله لم يكن خلقني شيئاً قط !

عن

وكذا جاء عنها أنها قالت: يا ليتني كنت ورقة من هذه الشجرة، وقالت: وددت أني إذا مت كنت نسيا منسياً. وكانت تحدث أولاً نفسها أن تدفن في بيتها فقالت: إني أحدثت بعد رسول الله حدثاً! أدفنوني مع أزواجه، فدفنت بالبقيع. وقال الذهبي: وتعني بالحدث مسيرها يوم الجمل، فإنها ندمت ندامة كلية وتابت

من ذلك، على أنها ما فعلت ذلك إلا متأولة، قاصدة للخير).

21 . روى ابن قتيبة في عيون الأخبار / 202: دخلت أم أو فى العبدية على عائشة فقالت: يا أم المؤمنين ما تقولين في امرأة قتلت ابناً لها صغيراً؟ قالت: وجبت لها النار ! قالت : فما تقولين في امرأة قتلت من أولادها الأكابر عشرين ألفاً! قالت: خذوا بيد

عدوة الله » !

أقول : اتصل بي وهابي في برنامج مباشر وقال إنكم تسبون عائشة، فقلت له: لانسبها لكن نقول إنها عصت ربها ونبيها وخرجت على إمامها الخليفة الشرعي، وسببت قتل أكثر من عشرين ألف مسلم، ونريد منكم أنتم محبيها أن تعطوا دية هؤلاء الذين قتلتهم وأنتم في السعودية ميسورون ، فاجمعوا دياتهم، لتساعدوا في حل المشكلة ومنهم سعوديون من الشريقة من ربيعة من بني عبد القيس

!

296

ص: 296

فهم أولى من غيرهم! فسكت الوهابي، ولا بد أنه أخذ جوابي الى زملائه الشيوخ، وأنهم سمعوه. إعداد عائشة لحرب علي

22. قال الباقلاني في التمهيد 552 ، عن طلحة والزبير وعائشة : ( ومنهم حركة عائشة إلى البصرة من يقول إنهم تابوا من ذلك ويستدل برجوع الزبير وندم عائشة إذا ذكروا وصول عائشة إلى البصرة لها يوم الجمل وبكائها حتى تبل خمارها وقولها وددت أن لو كان لي عشرون حركة الإمام إلى البصرة

ولداً من رسول الله كلهم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأني ثكلتهم ولم يكن ما كان مني يوم الجمل وقولها لقد أحدقت بي يوم الجمل الأسنة وصوله إلى البصرة حتى صرت على البعير في مثل اللجة. وإن طلحة قال لشاب من عسكر

هزيمة جيش عائشة

علي وهو يجود بنفسه أمدد يدك أبايعك لأمير المؤمنين، وما هذا نحوه لاحظ قول الباقلاني : ومنهم من يقول إنهم تابوا، فهو قول لبعضهم، وأمر لم يثبت إسكان عائشة وإرجاعها لكن جزم به ابن رشد في البيان والتحصيل (361/17) فقال : (ومن الناس من من أخبار عائشة وجملها

يقول إن من خالف علياً كان على الخطأ والعصيان، إلا أنهم تابوا ورجعوا إلى موالاة علي رضي الله عنه قبل أن يموتوا، واستدلوا على ذلك برجوع الزبير، الإمام في البصرة وندم عائشة وبكائها إذ ذكر لها يوم الجمل، وقول طلحة لشاب من عسكر مشاهد من حرب الجمل علي وهو يجود بنفسه: أمدد يدك أبايعك لأمير المؤمنين. والذي قلناه من أنهم شهداء مع الإمام الله

اجتهدوا فأصاب علي و أخطأ طلحة والزبير، هو الصحيح الذي يلزم اعتقاده، فلعلي أجران لموافقته الحق باجتهاده، ولطلحة والزبير أجر واحد لاجتهادهما).

من . خطب علي

23 . من اعترافات عائشة، ما رواه الزمخشري في ربيع الأبرار (2/ 167) عن الكذب في حرب الجمل جميع بن عمير دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت لها : مَن كان أحب من شعر حرب الجمل الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت فاطمة. قلت: إنما أسألك عن الرجال ؟ قالت زوجها، وما يمنعه فو الله إن كان لصواماً قواماً، ولقد سالت الإمام في واصل الفتوحات نفس رسول الله في يده فردها إلى فيه . قلت : فما حملك على ما كان؟ فأرسلت

خمارها على وجهها وبكت وقالت: أمر قُضِيَ عليَّ)!

الإمام ينقل العاصمة

297

ص: 297

24 . قال ابن حجر (48/13): (أخرج ابن أبي شيبة بسند جيد عن عبد الرحمن بن أبزى (المصنف: 719/8) قال: انتهى عبدالله بن بدیل بن ورقاء الخزاعي إلى عائشة يوم الجمل وهي في الهودج ، فقال : يا أم المؤمنين أتعلمين اني أتيتك عندما قتل عثمان فقلت : ما تأمريني ؟ فقلت: إلزم علياً؟ فسكتَتْ ! فقال: أعقروا الجمل فعقروه، فنزلت أنا وأخوها محمد فاحتملنا هودجها فوضعناه بين يدي علي، فأمر بها فأدخلت منزل عبدالله بن بديل، قال جعفر بن أبي المغيرة وكانت عمتي عند عبد الله بن بديل فحدثتني عمتي أن عائشة قالت لها : أدخليني قالت: فأدخلتها وأتيتها بطشت وإبريق وأجفت عليها الباب، قالت: فاطلعت عليها من خلل الباب وهي تعالج شيئاً في رأسها، ما أدري شجة أو رمية.

وأخرج أيضاً بسند صحيح عن زيد بن وهب قال: فكف علي يده حتى بدؤه

بالقتال، فقاتلهم بعد الظهر فما غربت الشمس وحول الجمل أحد!

25. من المؤكد أن ندم عائشة اختلط بالغيظ والتأسف على هزيمتها في البصرة قال

في المعيار والموازنة 62 : ( وهذه عائشة وما تظهر من ندامتها وبكائها، وقولها: لوددت أن الله أماتني قبل ذلك بعشرين سنة. هذا مع قولها في عمار : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الجنة تشتاق إلى أربعة أحدهم عمار بن ياسر . فقال لها رجل من ثقيف : كيف كنت صانعة يا أم المؤمنين لو أنه قتل عند جملك !

و في المناقب للموفق الخوارزمي بسنده 181): (قالت عائشة : إذا ذكرت يوم الجمل أخذ مني هاهنا، وتشير بيدها إلى حلقها عن عروة قال : ما ذكرت عائشة مسيرها إلا بكت حتى تبل خمارها، وتقول: يا ليتني كنت نسياً منسياً).

26 . وكانت عائشة قدرية، ترمي فعلها على القدر عن مطلب بن زياد عن كثير النوا قال : قال ابن عباس لعائشة : السلام عليك يا أمة ألسنا ولاة بعلك؟ أو ليس قد ضرب الله الحجاب عليك؟ أو ليس قد أوتيت أجرك مرتين ؟ قالت: بلى. قال: فما أخرجك علينا مع منافقي قريش ! قالت: كان قدراً يا ابن عباس قال: وكانت أمنا تؤمن بالقدر !

298

ص: 298

وقال رجل لعائشة: يا أم المؤمنين لم خرجت على علي؟ قالت له: أبوك لم تزوج

بأمك ! قدر الله عز وجل. عن أبي إسحاق قال: كانت عائشة إذا سئلت عن إعداد عائشة لحرب علي خروجها على أمير المؤمنين قالت: كان شي قدره الله علي) ! (البحار: 276/32). حركة عائشة إلى البصرة

وإذا قدره الله فقد أجبرها عليه، فهي غير مسؤولة عن دماء من قتل بسبب

خروجها!

وصول عائشة إلى البصرة

الله

حركة الإمام إلى البصرة .27 عقيدتنا أن عائشة مسؤولة عن عملها، ولو صح قولها بالقدر لاحتج به إبليس وعقيدتنا أنها لم تتب، بل ظلت على عداوتها لعلي الله الى آخر عمرها وصوله إلى البصرة وقد ألف في رد توبتها الشيخ المفيد كتاب الكافئة في رد توبة الخاطئة. هزيمة جيش عائشة وقال الشيخ الطوسي في الإقتصاد 228 : ( وروى الطبري في تاريخه أنه لما انتهى

قتل أمير المؤمنين الله إلى عائشة قالت :

فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قرعينا بالإياب المسافر

ثم قالت من قتله ؟ فقيل : رجل من مراد ، فقالت

فإن يك ناعياً فلقد نعاه

غلام ليس في فيه التراب

إسكان عائشة وإرجاعها

من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة

وهذا كله صريح بالإصرار وفقد التوبة. وروى محمد بن إسحاق أنها وصلت مشاهد من حرب الجمل

إلى المدينة راجعة من البصرة ولم تزل تحرض الناس على أمير المؤمنين عالية ، شهداء مع الإمام الله

وكتبت إلى معاوية وأهل الشام مع الأسود بن البحتري تحرضهم عليه ! ونظائر ذلك كثيرة ذكرنا منها في كتاب تلخيص الشافي، فأي توبة مع ما ذكرناه)!

من

خطب علي

28. في الاحتجاج / 241) (روي أن عمرو بن العاص قال لعائشة : لوددت الكذب في حرب الجمل أنك قتلت يوم الجمل ! فقالت: ولم ، لا أباً لك! قال : كنت تموتين بأجلك من شعر حرب الجمل

وتدخلين الجنة، ونجعلك أكبر التشنيع على علي المالية )

الإمام له واصل الفتوحات

الإمام ينقل العاصمة

299

ص: 299

1

من أخبار جمل عائشة

1 . قال رسول الله له لأزواجه ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها وشمالها خلق كثير كلهم في النار، وتنجو بعد ما كادت). وقعة الجمل لضامن بن شدقم 41) . ورواه الصدوق في معاني الأخبار / 304 . والمعنى أنها تنجو بعدما كادت تقتل أي نجاتها في الدنيا . وروى نحوه ابن أبي شيبة في مصنفه (711/8) . والحموي في معجم البلدان (314/2) ، وغيرهم.

2 . قالوا في صفة جمل عائشة (الإستيعاب : 4 / 1587): (لما عزمت عائشة على الخروج إلى البصرة طلبوا لها بعيراً أيداً قوياً ) يحمل هودجها، فجاءهم يعلى بن منية ببعيره المسمى عسكراً، وكان عظيم الخلق شديداً، فلما رأته أعجبها، وأنشأ الجمال يحدثها بقوته وشدته، ويقول في أثناء كلامه عسكر، فلما سمعت هذه اللفظة استرجعت وقالت:

ردوه لا حاجة لي فيه، وذكرت حيث سئلت أن رسول الله الله ذكر لها هذا الإم ونهاها عن ركوبه، وأمرت أن يطلب لها غيره فلم يوجد لها ما يشبهه، فغُيَّرَ لها بجلال غير جلاله ، وقيل لها قد أصبنا لك أعظم منه خلقاً وأشد قوة، وأتيت به، فرضيت)!

: وفي المناقب (340/2) : (وألبست عائشة درعاً، وضُربت على هودجها صفايح الحديد، وأُلبس الهودج درعاً، وكان الهودج لواء أهل البصرة، وهو على جمل يدعى عسكراً). وفي شرح النهج (227/6) : (قد ألبس الرفرف، ثم ألبس جلود النمر، ثم ألبس فوق ذلك دروع الحديد. كان الجمل لواء وعسكر البصرة، لم يكن ل--واء غيره) والرفرف كساء أخضر. (العين: 255/8) .

وفي مروج الذهب (362/2) : ( وعائشة على جَمل في هودج من دفوف الخشب قد

ألبسوه المسوح وجلود البقر وجعلوا دونه اللبود، وقد غشي على ذلك بالدروع). وفي مصنف عبد الرزاق (457/5) : (وهي في هودج قد ألبسته الدفوف يعني جلود البقر ، فقالت: إنما أريد أن يحجز بين الناس مكاني.. وكان القتال فقتل يومئذ سبعون من قريش كلهم يأخذ بخطام جمل عائشة حتى يقتل ، ثم حملوا الهودج حتى أدخلوه

ص: 300

منزلاً من تلك المنازل، وجرح مروان جراحاً شديدة).

وقال المفيد في الجمل 200 : ( عن أبي علقمة قال: جعلنا الهودج من خشب، فيه إعداد عائشة لحرب علي مفاتيح الحديد، وفوقه دروع من حديد وفوقها طيالسة من خز أخضر، وفوق حركة عائشة إلى البصرة ذلك أدم أحمر ، وجعلنا لعائشة منه منظر العين، فما أغنى ذلك عنها من القوم).

وفي شرح الإستيعاب 4 / 1587: (أعان يعلى بن أمية الزبير بأربع مائة ألف وصول عائشة إلى البصرة وحمل عائشة على جمل يقال له عسكر، كان اشتراه بمائتي دينار. قال أبو عمر : حركة الإمام إلى البصرة كان يعلى بن أمية سخياً، معروفاً بالسخاء). وصوله فيه إلى البصرة وفي تاريخ الطبري (475/3) : ( عن العربي صاحب الجمل قال: بينما أنا أسير على جمل إذ عرض لي راكب فقال : يا صاحب الجمل تبيع جملك ؟ قلت: نعم، قال: هزيمة جيش عائشة بكم؟ قلت: بألف درهم ! قال : مجنون أنت ! جمل يباع بألف درهم ! قال قلت : نعم

29

إسكان عائشة وإرجاعها

من

خطب علي

الله

جملي هذا ! قال: وممَّ ذلك ؟ قلت: ما طلبت عليه أحداً قط إلا أدركته ولا طلبني وأنا عليه أحد قط إلا فته. قال: لو تعلم لمن نريده لأحسنت بيعنا. قال قلت: ولمن من أخبار عائشة وجملها تریده؟ قال: لأمك. قلت: لقد تركت أمي في بيتها قاعدة ما تريد براحاً ! قال: إنما الإمام له في البصرة أريده لأم المؤمنين عائشة . قلت : فهو لك فخذه بغير ثمن ! قال: لا، ولكن إرجع مشاهد من حرب الجمل

معنا إلى الرحل فلنعطك ناقة مهرية ونزيدك دراهم. قال: فرجعت فأعطوني ناقة لها مهرية وزادوني أربع مائة أو ست مائة درهم فقال لي: يا أخا عرينة هل لك شهداء مع الإمام دلالة بالطريق ؟ قال :قلت نعم أنا من أدرك الناس. قال: فسر معنا فسرت معهم، فلا أمرُّ على واد ولا ماء إلا سألوني عنه، حتى طرقنا ماء الحوأب فنبحتنا كلابها ! قالوا: أي ماء هذا ؟ قلت: ماء الحوأب ! قال: فصرخت عائشة بأعلى صوتها، الكذب في حرب الجمل ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته ثم قالت أنا والله صاحبة كلاب الحوأب، من شعر حرب الجمل طروقاً ردوني ! تقول ذلك ثلاثاً ! فأناخت وأناخوا حولها، وهم على ذلك وهي الإمام في واصل الفتوحات

تأبى حتى كانت الساعة التي أناخوا فيها من الغد، فجاءها ابن الزبير فقال: النجاء النجاء، فقد أدرككم والله علي بن أبي طالب ! قال فارتحلوا وشتموني، الإمام ينقل العاصمة فانصرفت، فما سرت إلا قليلاً، وإذا أنا بعلي وركب معه نحو من ثلاث مائة).

301

ص: 301

ولعل العربي هذا، دليل استأجروه مع عائشة، فادعى كاذباً أنه صاحب الجمل!

.. وصار الجمل كعجل بني إسرائيل ! قال الطبري (530/3): (أطافت ضبة والأزد بعائشة يوم الجمل ، وإذا رجال من الأزد يأخذون بعر الجمل فيفتونه ويشمونه ويقولون: بعرُ جمل أمنا ريحه ريح المسك !

وقال ابن الأعثم (481/2) : (وجعلت بنو ضبة يأخذون بعر الجمل فيشمونه ويقول

بعضهم لبعض : ألا ترون إلى بعر جمل أمنا كأنه المسك الأذفر).

وفي أخلاق الوزيرين للتوحيدي (153/1) : ( وبشيعتها الذين فتوا بعر جملها وتشافوا

به، وتحاثوا عليه.

(قال عبد الرزاق: 721/8) : (قال إسحاق بن سويد العدوي: قتل منا (بني عدي خمسون

رجلاً حول الجمل).

4 . قال في شرح النهج (1/ 262): ( استدار الجمل كما تدور الرحا، وتكاثفت الرجال من حوله، واشتد رغاؤه، واشتد زحام الناس عليه، ونادى الحتات المجاشعي: أيها الناس أمكم أمكم واختلط الناس فضرب بعضهم بعضاً، وتقصد أهل الكوفة قصد الجمل والرجال دونه كالجبال، كلما خف قوم جاء أضعافهم ، فنادى علي الله : ويحكم ! أرشقوا الجمل بالنبل أعقروه لعنه الله ! فرشق بالسهام فلم يبق فيه موضع إلا أصابه النبل، وكان متجفجفاً (مدرعاً) فتعلقت السهام به فصار كالقنفذ).

وصفت عائشة سقوط جملها مناقب ابن سليمان: 2/ 345) : (قال أبو عبدالله الجدلي: فأذنت لي بالدخول فدخلتُ وسلمت عليها فانتحبت حينما رأتني حتى رحمتها، ثم أنشأت تحدثني قالت: وزلق الجمل فبرك، وجاء رجل حتى أدخل يده فقلت: ويلك من أنت؟ فقال: أبغض أهلك إليك. قلت: محمد؟ قال: نعم. قالت: فلا تسأل عن عذل. قالت: ثم جاء عمار وجاء الأشتر فقلت لهما فلا تسألا عن عذلٍ وشَتْم)! أي

لا تلوموني وتوبخوني.

302

ص: 302

6 . تقدمت رواية ابن أبي شيبة (المصنف :719/8) عن عبدالله بن بديل، وأنه

لما سقط الجمل، ناقش عائشة وأفحمها ، فقال : إعقروا الجمل فعقروه، قال: إعداد عائشة لحرب علي فنزلت أنا وأخوها محمد بن أبي بكر ، واحتملنا الهودج حتى وضعناه بين يدي حركة عائشة إلى البصرة علي فأمر به علي فأدخل في منزل عبدالله بن خلف.

وصول عائشة إلى البصرة

7. من أصح الروايات في سقوط الجمل ما تقدم من شرح النهج (262/1): (عن حبة العربي قال : فلما رأى علي الله أن الموت عند الجمل، وأنه ما دام قائماً حركة الإمام به إلى البصرة فالحرب لا تطفأ، فوضع سيفه على عاتقه وعطف نحوه وأمر أصحابه بذلك، وصوله إلى البصرة ومشى نحوه والخطام مع بني ضبة فاقتتلوا قتالاً شديداً، واستحر القتل في بنى هزيمة جيش عائشة

ضبة فقتل منهم مقتلة عظيمة، وخلص علي الشالية في جماعة من النخع وهمدان

الله

إلى الجمل فقال لرجل من النخع إسمه بجير : دونك الجمل يا ،بجير فضرب إسكان عائشة وإرجاعها عجز الجمل بسيفه فوقع لجنبه، وضرب بجرانه الأرض، وعج عجيجاً لم يسمع من أخبار عائشة وجملها بأشد منه، فما هو إلا أن صرع الجمل حتى فرت الرجال كما يطير الجراد في الريح

خلف

الإمام في البصرة

الشديدة الهبوب واحتملت عائشة بهو دجها، فحملت إلى دار عبد الله بن وأمر علي الله بالجمل أن يحرق ثم يذرى في الريح ! وقال الله : لعنه الله من دابة ! مشاهد من حرب الجمل فما أشبهه بعجل بني إسرائيل، ثم قرأ: وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرَقَنَّهُ ثُمَّ لَتَنْسِفَنَّهُ في اليَمَ نَسْفاً).

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

وفي شرح الأخبار 388/11) : ( عن سلام قال: فنظرت إلى هودج عائشة ما شبهته

إلا بقنفذ من النبل الواقعة عليه، وهو يميل بها مرة ها هنا ومرة ها هنا، حتى أحيط بها، ولما أحيط بعائشة وانصرف الزبير وقتل طلحة، وانهزم أهل البصرة ونادى منادي علي صلوات الله عليه لا تتبعوا مدبراً، ولا من ألقى سلاحه، ولا من شعر حرب الجمل تجهزوا على جريح، فإن القوم قد ولوا وليست لهم فئة يلجؤون إليها. فجرت الإمام واصل الفتوحات السنة بذلك في المسلمين في قتال أهل البغي، وأخذ بذلك فقهاؤهم وأن أهل الإمام ينقل العاصمة

البغي إذا انهز م--وا ولم تكن لهم فئة يلجؤون إليها لم يجهز على جريحهم ولم يتبع مدبرهم، وإن كان لهم فئة أجهز على جريحهم واتبع مدبر هم وقتلوا وبهذا حكم

الله

303

ص: 303

علي صلوات الله عليه في أصحاب معاوية، فأخذ فقهاء العامة ذلك عنه وأوجبوا أن حزبه حزب أهل العدل، وحزب من حاربه حزب أهل البغي).

.8. قال الحسين اللة لعائشة لما منعت دفن الحسن الثالية عند جده (الهداية/ 198): (تالله لقد أخبرك جدي رسول الله له أنك تموتين بالداء والدبيلة! فقالت: يا حسين متى قال هذا ؟ قال : أخبرك بعد لومك أمير المؤمنين الله وإنشائك حرماً تجرين فيه عن بيتك متأمرة على جمل أحمر ممسوخ، من مردة الجن يقال له عسكر تسفكين دم خمسة وعشرين ألفاً من المؤمنين، الذين يزعمون أنك أمهم ! قالت له : جدك أخبرك بذلك أم هذا من غيبك؟ قال: هذا من علم الله وعلم رسوله وعلم أمير المؤمنين، فأعرضت عنه بوجهها، وقالت بنفسها والله لأتصدقن بأربعين ديناراً، ونهضت ! فقال لها الله : والله لو تصدقت بأربعين قنطاراً، ما كان ثوابك إلا النار !

. قال الشريف المرتضى في رسائله (4 / 62): (الحسين بن الضحاك قال: ذاكر ني مروان بن أبي حفصة أمر السيد بعد موت السيد، وأنا أحفظ لشعر بشار والسيد فأنشدته قصيدته المذهبة، التي منها:

أين التطرب بالولاء وبالهوى أإلى الكواذب م-ن ب-روق الخل-بِ

أإلى أمية ، أم إلى شِيَع التي جاءت على الجمل الخِدَتِ الشَّوْقِبِ حتى أتيت على آخرها ، فقال :مروان ما سمعت قط شعراً أفصح وأغزر معاني ولا أحسن من هذا الشعر. وأما الخِدَبُّ فهو الضخم، يقولون: رجل خدب إذا كان عظيماً، ورجل في خِدَب أي هوج، وهو رجل أخدب. والشوقب: الطويل يقولون: حافر شوقب، إذا كان واسعاً.

وقيل إن إسم هذا الجمل عسكر، وشوهد من هذا الجمل في ذلك اليوم كل عجب كلما انْبَتَتْ منه قائمة من قوائمه ثبت على أخرى! حتى روي أن أمير المؤمنين له نادى: أقتلوا الجمل فإنه شيطان. وإن محمد بن أبي بكر وع---ماراً رحم--ة الله عليه---ا توليا عقره بعد طول زمانه. وروي أن هذا الجمل بقي باركاً ضارباً بجرانه سنة لا يأكل

304

منه سبع ولا طائر)!

ص: 304

أقول: المرجح عندي أن أمير المؤمنين الله أمر بحرق جثة الجمل، وتذرية رماده إعداد عائشة لحرب علي في الهواء لأنه شبيه عجل بني إسرائيل! كما روى في شرح النهج (266/1) ولعل حركة عائشة إلى البصرة الأمر بحرقه كان بعد أيام من قتله. ولعل وصفه بأنه شيطان على استعمال العرب:

وصول عائشة إلى البصرة

(والعرب تسمي كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب، شيطاناً).

البلدان : 384/3) .

.(معجم

وفي رجال الكشي 1/ 58 عن الإمام الباقر الله قال: (إشتروا عسكراً بسبعمائة

درهم وكان شيطاناً).

حركة الإمام له إلى البصرة

وصوله إلى البصرة

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة

مشاهد من حرب الجمل

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

الإمام في واصل الفتوحات

الإمام ينقل العاصمة

305

الفصل الستون

ص: 305

من أخبار أمير المؤمنين في البصرة

-

أمضى شهراً في البصرة وقام بأعمال عظيمة

-1 العفو العام عن جيش عائشة وعامة الناس.

-2 ترحيل عائشة الى المدينة المنورة.

-3- تولية ابن عباس وأبي الأسود وزياد بن عبيد. -4 - إرسال جيش لاستكمال فتح خراسان

-5 إرسال جيش لمواصلة فتح الهند.

6 - وضع علم النحو وعلم أبي الأسود أن يكمله. 7 - علم كميل بن زياد الدعاء المعروف باسمه

- كتب رسائله وبعث رسله الى الأمصار.

9 - قتل الزط الوثنيين الذين ألهوه ولم يتوبوا.

10 - حرص على توعية الأمة على مقام عترة نبيها وتعريفها بالظالمين لهم.

أمضى الإمام الله شهراً في البصرة ثم غادر الى الكوفة

1. قال ابن حاتم في الدر النظيم / 358 : (وكان مقام علي السلام في البصرة شهراً، وأمر مالك

بن الحارث الأشتر أن يتقدمه في الخيل إلى الكوفة.

قال : فقدم علي الله إلى الكوفة يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة س--ت وثلاثين من الهجرة. وخرج قوم من أشياخ الكوفة مع قرظة بن كعب الأنصاري يتلقون

ص: 306

عليا الله في يوم ذي قر وهو يتصبب عرقاً وكسوته خفيفة. وقد روي أن النبي دعا له ألا يصيبه حرّ ولا قرّ. وكان مقام علي الله في حرب الجمل إعداد عائشة لحرب علي

خمسة عشر يوماً).

السلاةِ

حركة عائشة إلى البصرة

أقول: خمسة عشر يوماً منها ثلاثة أيام أو أربعة مهلة قبل المعركة، راسلهم فيها وفاوضهم. ومنها سبعة أيام المعركة. ومنها ثلاثة أيام بعد المعركة، أصدر فيها العفو وصول عائشة إلى البصرة العام، وطاف على القتلى، ورتب ما يجب ترتيبه.

حركة الإمام له إلى البصرة

ثم دخل الى البصرة، وعالج امتناع عائشة عن الرجوع الى المدينة، فأرسل لها ابن وصوله إلى البصرة

عباس ثم الحسن والحسين ، ثم قبلت بالرحيل، وطلبت أن يزورها فزارها.

هزيمة جيش عائشة .2. قال في مناقب آل أبي طالب (346/2): (فقال الله لمحمد بن أبي بكر :

شأنك وأختك، فلا يدنُ منها أحد سواك. فقال فقلت لها : ما فعلت إسكان عائشة وإرجاعها

بنفسك ؟ عصيت ربك، وهتكت سترك، ثم أبحت حرمتك، وتعرضت من أخبار عائشة وجملها للقتل . فذهب بها إلى دار عبدالله بن خلف الخزاعي فقالت: أقسمت عليك أن تطلب عبد الله بن الزبير جريحاً كان أو قتيلاً. فقال : إنه كان هدفاً الإمام اللي في البص---رة للأشتر! فانصرف محمد إلى العسكر فوجده فقال : أجلس يا ميشوم أهل مشاهد من حرب الجمل بيته، فأتاها به، فصاحت وبكت ثم قالت: يا أخي استأمن له م--ن علي، شهداء مع الإمام الله

فأتى أمير المؤمنين الله فاستأمن له منه ، فقال الله : أمنته وأمنت جميع الناس)! وكتب الله في رسالته الى أهل الكوفة : ( فلما هزمهم الله، أمرت أن لا يقتل مدبر، ولا يجهز على جريح ، ولا يهتك ستر، ولا يدخل دار إلا بإذن أهلها، وقد آمنت الناس). (كتاب الجمل للمفيد / 215) .

من . خطب علي

الكذب في حرب الجمل

الله

من شعر حرب الجمل .3. قال ابن الأعثم في الفتوح (485/2): (فقالت عائشة لأخيها : يا أخي، أنشدك بالله إلا طلبت لي ابن أختك عبدالله بن الزبير .. ثم قالت لأخيها محمد : يا الإمام واصل الفتوحات أخي، استأمن له علياً وتمم إحسانك، فقال لها محمد : لا بارك الله لك فيه ! الإمام ينقل العاصمة ثم سار إلى علي وسأله ذلك، فقال علي قد آمنته وآمنت جميع الناس.

307

ص: 307

.4. وحرم أموال أعدائه وأعراضهم ولم يقبل بغنيمتها ، وأحل ما حواه معسكرهم فقط. قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة (72/1) : ( فهزمهم.. وأسرت عائشة، وأسر

مروان بن الحكم، وعمرو بن عثمان، وموسى بن طلحة، وعمرو بن سعيد بن العاص، فقال عمار لعلي يا أمير المؤمنين أقتل هؤلاء الأسرى. فقال علي: لا أقتل أسير أهل القبلة إذا رجع ونزع.. ثم أمر المنادي فنادى : لا يقتلن مدبر، ولا يجهز على جريح، ولكم ما في عسكرهم ، و على نسائهم العدة، وما كان لهم من مال في أهليهم فهو ميراث على فرائض الله.

فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين كيف تحل لنا أموالهم ولا تحل لنا نساؤهم ولا أبناؤهم ؟ فقال : لا يحل ذلك لكم. فلما أكثروا عليه قال: إقترعوا هاتوا سهامكم، ثم قال : أيكم يأخذ أمكم عائشة في سهمه؟ فقالوا: نستغفر الله).

مشى الإمام الله في سكك البصرة بدون سلاح ولا حماية !

روى الصدوق في التوحيد / 374 ، عن الإمام زين العابدين الله قال: (دخل الحسين بن علي على معاوية فقال له: ما حمل أباك على أن قتل أهل البصرة، ثم دار عشياً في طرقهم في ثوبين ! فقال الله : حمله على ذلك علمه أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ! قال: صدقت.

وقيل لأمير المؤمنين الله لما أراد قتال الخوارج: لواحترزت، فقال: أي ي-وم-ي م---ن الم--وت أف---ر يوم لم يُقدر أم يوم قدر

يوم ما قُدِرَ لا أخشى الردى وإذا قُدِّرَ لم يُغن الحذر)

ولى على البصرة ابن عباس وزياد بن عبيد

1 . أشار أبو بكرة بن عبيد على أمير المؤمنين الله أن يولي على البصرة ابن عباس فولاه،

م اللّهُ

وكان عمر ابن عباس يومها تسعاً وثلاثين سنة، لأن عمره لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم نحو اثنتي عشرة سنة (الإستيعاب : 934/3) وتوفي في الطائف وله إحدى وسبعون سنة (مجمع الزوائد: 285/9). وكان طويلاً مشرباً ،صفرةً، جسيماً وسيماً، صبيح الوجه، له ضفيرتان.

308

ص: 308

.

(المعجم الكبير (233/10) . وقيل له جُمة، وعليه إزار فيه بعض الإسبال وقيل إنه

النبي سنة ونصفاً. (سيرالذهبي:332/3).

إعداد عائشة لحرب علي

أقول: الصحيح أنه كان ذكياً نابغاً، وكان يسمع من الصحابة ويكتب. لذلك فإن حركة عائشة إلى البصرة

قول ابن عباس سمعت رسول الله ، معناه : سمعت من أثق به من الصحابة

2 واشتهر ابن عباس في خلافة عمر فقرَّبه على صغر سنه، واتخذه مشاوراً،

وصول عائشة إلى البصرة

حركة الإمام إلى البصرة

ومفتياً وكاتباً ووزيراً. وكان محترماً في زمن عثمان، لكنه فقد أكثر مكانته. وقد بالغ عمر في مدح علمه لأنه أعلم منه ، وسماه حَبر الأمة، لأنه متأثر بألقاب وصولهم إلى البصرة

اليهود لأنه كان يحضر دروسهم وسماه ترجمان القرآن، وتبعه الرواة والناس. هزيمة جيش عائشة

وقال له عمر : ( إني رأيت رسول الله دعاك يوماً فمسح رأسك، وتَفَلَ في فيك

إسكان عائشة وإرجاعها

وقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل). (سيرالذهبي:337/3). ولم يقل عمر متى رأى النبي له تفل في فمه ودعا له! فعندما ولد ابن عباس من أخبار عائشة وجملها

في الشَّعب، كان عمر كافراً، ثم بقي ابن عباس في مكة مع أبيه ولم يهاجر. الإمام الله في البصرة

والصحيح أن أصل حديث عمر أن أم عبدالله زعمت أنها لما ولدته أخذته الى

النبي، فتفل في فمه ودعا له، وهو بعيد لأن العباس لم يكن مسلماً. قال الذهبي في سيره (331/3): (عبدالله بن عباس البحر، حبر الأمة، وفقيه

العصر، وإمام التفسير .. مولده بشعب بني هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين. صحب النبي و نحواً من ثلاثين ،شهراً، وحدث عنه بجملة صالحة)!

م الله الله

مشاهد من حرب الجمل

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

والصحيح في علم ابن عباس ما رواه ابن سعد (371/2) قال: ( رأيت عبدالله الكذب في حرب الجمل

بن عباس معه ألواح يكتب عليها عن أبي رافع شيئاً من فعل رسول الله . من شعر حرب الجمل

سمعت ابن عباس يقول : كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله له من المهاجرين والأنصار، فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم و ما نزل من القرآن الإمام واصل الفتوحات

صله

في ذلك. وكنت لا آتي أحداً منهم إلا سُر بإتياني لقربي من رسول الله .

فجعلت أسأل أبي بن كعب يوماً، وكان من الراسخين في العلم، عما نزل من

الإمام ينقل العاصمة

309

ص: 309

القرآن بالمدينة، فقال: نزل بها سبع وعشرون سورة، وسائرها بمكة). وفي سنن الدارمي (147/1، و146) : ( عن ابن عباس قال: لما توفي رسول الله قلت صل لرجل من الأنصار يا فلان هلم فلنسأل أصحاب النبي فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجب-اً ل--ك ي--ا ابن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب النبي له من ترى فتركت ذلك وأقبلت على المسألة، فإنه كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل (من القيلولة) فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح على وجهي التراب ، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك ألا أرسلت إليَّ فآتيك. فأقول: أنا أحق أن آتيك. فأساله عن الحديث قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليَّ ، فقال : كان هذا الفتى أعقل مني).

3. كان ابن عباس مستبصراً في حق بني هاشم، متعصباً لهم، قوي الحجة في أمرهم، وكان يداري عمر بن الخطاب، ويناقشه أحياناً باحترام فيفحمه، وكان عمر يتحمل منه لأنه يعرف أنه مخلص له. ثم كان عثمان يعتمد عليه في أمور كبيرة وقضايا خاصة، ولما حوصر عثمان بعث ابن عباس أمير الحاج.

4 . ولما بايع المسلمون علي الله كان ابن عباس إلى جنبه، وكان معه في حروبه لكنه لم يكن مقاتلاً بل سياسياً. وولاه علي الله البصرة، وولى أخاه عبيد الله اليمن، وأخاه

قثم مكة والطائف. (الطبري: 69/4). قال ابن حجر في الإصابة (89/1): (قال أبو بكرة: ق-دم علين-ا الب-صرة،

وما في العرب مثله، حشماً، وعلماً، وبياناً، وجمالاً).

ه. ابن عباس عالم كبير، وهاشمي أصيل، وصاحب موهبة في التعامل ومداراة الناس. وهو متعصب لبني هاشم، خبير بظلامتهم ونقاط قوتهم، ونقاط ضعف خصومهم، ومتعصب بشكل خاص لأبيه العباس وأسرته ونفسه. وله مناظرات مهمة جداً في الدفاع عن العترة النبوية عال وإدانة خصومهم. فهو بالمعنى العام محب لعلي الله و متعصب له، وفي نفس الوقت ليس عنده يقين

ص: 310

بعصمته، فقد أخبر علي السلة بعدد من يأتيه من جيش الكوفة مثلاً فشك ابن عباس، وخاف أن لا يكون العدد كما أخبر علي الله ! وله أمثالها.

إعداد عائشة لحرب علي

6. وقد اتهم في آخر خلافة علي السلام بأنه سرق بيت مال البصرة فبعث اليه حركة عائشة إلى البصرة أمير المؤمنين الله برسالة توبيخ وتهديد والظاهر أنه تاب وأصلح الأمر، وجاء وصول عائشة إلى البصرة الى الكوفة في أيام شهادة أمير المؤمنين الله . وقد كتب صديقنا الباحث السيد حركة الإمام منه إلى البصرة

جعفر مرتضى دفاعاً عن ابن عباس، وأنكر الرسالة، وشكك في دلالتها! كما كتب صديقنا الباحث السيد محمد مهدي الخرسان، موسوعة ابن عباس وصوله إلى البصرة

رضي الله عنه، وأجاد فيها وأفاض في مدح ابن عباس. هزيمة جيش عائشة

وعندما أرى تعصبه وتعصبهما أقول: هذان السيدان الهاشميان من ذرية علي والزهراء عليها فما بالهما يتعصبان لابن عباس تعصب قثم وعبيد الله ابني العباس ! إسكان عائشة وإرجاعها وقد كتبت في ابن عباس بعنوان: العباسيون وأهل البيت الله . ولم أنشره. من أخبار عائشة وجملها

وخلاصة رأيي : أن ابن عباس مجمع على توثيقه، لكني أتوقف في أحاديثه التي موضوعها بين العباسيين والعلويين، ولا أرى أنه كان شيعياً بالمعنى الخاص، الإمام عالية في البصرة بل بالمعنى العام. ولا يمكن الدفاع عنه كلياً في قضية أموال بيت مال البصرة. مشاهد من حرب الجمل

.7 فسر السيد الخرسان خطبة أمير المؤمنين الله عند توليته ابن عباس على شهداء مع الإمام

البصرة بأنها لتجليل ابن عباس، والظاهر أنها لضبط الحكم في البصرة، فقد

من

خطب علي

كانت البصرة غير صافية للإمام الله ، ولم يكن في الخطبة مدح لابن عباس بل تحذير له، خاصة مع سلب سلطته على بيت المال، فقد جعل الوالي على بيت المال الكذب في حرب الجمل

زياداً، وأمر ابن عباس أن يطيعه ! ثم قال إنه يأمل فيه، لكن إن ظهرت منه خيانة من شعر حرب الجمل أو انحراف فسيعزله ! وفيه إشارة الى أنه سيصدر منه شيئ!

خطبة أمير المؤمنين الله لما ولى ابن عباس البصرة

الإمام له واصل الفتوحات

الإمام ينقل العاصمة قال المفيد في كتاب الجمل / 224 : ( لما استعمل أمير المؤمنين الله عبدالله بن العباس

على البصرة، خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال:

311

ص: 311

معاشر الناس قد استخلفت علیکم عبد الله بن العباس، فاسمعواله وأطيعوا أمره ما أطاع الله ورسوله ، فإن أحدث فيكم أو زاغ عن الحق فاعلموا أني أعزله عنكم، فإني أرجو أن أجده عفيفاً تقياً ورعاً، وإني لم أوله عليكم إلا و أنا أظن ذلك به، غفر الله لنا ولكم ».

وقال الطبري (546/3) : (وأمر ابن عباس على البصرة، وولى زياداً الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس أن يسمع منه، فكان ابن عباس يقول : استشرته عند هنة كانت من الناس فقال : إن كنت تعلم أنك على الحق وأن من خالفك على الباطل، أشرت عليك بما ينبغي، وإن كنت لا تدري أشرت عليك بما ينبغي كذلك، فقلت: إني على الحق وإنهم على الباطل ، فقال : إضرب بمن أطاعك من عصاك ومن ترك أمرك، فإن كان أعز للإسلام وأصلح له أن يضرب عنقه فاضرب عنقه ! فاستكتبته فلما ولى رأيت ما صنع وعلمت أنه قد اجتهد لي رأيه).

وقد مدح السيد الخرسان ابن عباس في موسوعته (30/4) فقال إن أمير المؤمنين بقي نحو شهرين في البصرة فعايش العامل الجديد إمامه وخليفته، وهي فترة كافية للإفادة والاستفادة. وهذا اشتباه بسبب حبه لابن عباس، لأن المعركة كانت يوم الخميس منتصف جمادى الثانية ودامت أسبوعاً، وبقي الإمام اللي بعدها ثلاثة أيام في أرض المعركة، ثم دخل البصرة يوم الإثنين سابع وعشرون جمادى الثانية، وبقي فيها نحو أسبوع، ودخل الكوفة في الثاني عشر من رجب.

رسالة أمير المؤمنين الله لابن عباس حول بني تميم

1 . في نهج البلاغة (3/ 18) : ( ومن كتاب له الله إلى عبدالله بن عباس وهو عامله على البصرة: إعلم أن البصرة مهبط إبليس ومغرس الفتن، فحادث أهلها بالإحسان إليهم ، واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم، وقد بلغني تنمرك لبني تميم، وغلظتك عليهم ، وإن بني تميم لم يغب لهم نجم إلا طلع لهم آخر، وإنهم لم يسبقوا بوغم في جاهلية ولا إسلام. وإن لهم بنا رحماً ماسة وقرابة خاصة، نحن مأجورون على صلتها ومأزورون على قطيعتها. فاربع أبا العباس رحمك الله فيما جرى على لسانك ويدك من

312

ص: 312

خير وشر، فإنا شريكان في ذلك، وكن عند صالح ظني بك، ولا يفيلن رأيي

فيك. والسلام).

إعداد عائشة لحرب علي

أقول : الظاهر أن قوله الله : إعلم أن البصرة مهبط إبليس ومغرس الفتن، أنها مهبط حركة عائشة إلى البصرة

الشيطان حقيقة لما نزل مع آدم . وقد يكون معناه مجازياً لقوله الله : ومغرس

وصول عائشة إلى البصرة

الفتن، أي أن أهلها في عصره الله كانوا مرتعاً للشيطان، فيجب الحذر منه فيها.

حركة الإمام إلى البصرة .2. وقال ابن ميثم في شرح النهج (395/4) : (روي أن ابن العباس كان قد أضر ببني تميم حين ولي البصرة من قبل علي الله للذي عرفهم به من العداوة وصوله إلى البصرة يوم الجمل، لأنهم كانوا من شيعة طلحة والزبير وعايشة، فحمل عليهم ابن

هزيمة جيش عائشة

عباس فأقصاهم، وتنكّر عليهم وعيرهم بالجمل حتى كان يسميهم شيعة الجمل

إسكان عائشة وإرجاعها

وأنصار عسكر، وهو اسم جمل عايشة، وحزب الشيطان! فاشتد ذلك على نفر من شيعة علي عليه من بني تميم منهم جارية بن قدامة من أخبار عائشة وجملها

وغيره، فكتب بذلك جارية إلى علي يشكو إليه ابن عباس، فكتب الله إلى ابن عباس: أما بعد فإن خير الناس عند الله غداً أعملهم بطاعته فيما عليه وله الإمام المالية في البصرة وأقولهم بالحق وإن كان مراً. ألا وإنه بالحق قامت السماوات والأرض فيما بين مشاهد من حرب الجمل العباد، فلتكن سريرتك فعلاً، وليكن حكمك واحداً وطريقك مستقيماً. واعلم أن البصرة مهبط إبليس .. الخ.).

3. وقال في شرح النهج ( 125/15) : (فحادث أهلها: أي تعهدهم بالإحسان،

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

من قولك: حادثت السيف بالصقال والتنمر للقوم : الغلظة عليهم، والمعاملة الكذب في حرب الجمل لهم بأخلاق النمر من الجرأة والوثوب والوغم : الترة، أي لم يهدر لهم دم في من شعر حرب الجمل جاهلية ولا إسلام ، يصفهم بالشجاعة والحمية. ومأزورون، كان أصله الإمام واصل الفتوحات

موزورون، ولكنه جاء بالألف ليحاذي به ألف مأجورون؟ فاربع أبا العباس: أي قف وتثبت، فإني شريكك فيه، إذ أنت عاملي والنائب عني، ويعني بالشر الإمام ينقل العاصمة هاهنا الضرر فقط لا الظلم والفعل القبيح فال الرأي يفيل: أي ضعف وأخطأ).

313

ص: 313

.4. ثم تكلم ابن أبي الحديد في فضائل بني تميم، وقد روي في مدحهم أحاديث،

منها في الخصال 227 ، عن الإمام الرضاء الله قال : « إن رسول الله كان يحب أربع قبائل كان يحب الأنصار، وعبد القيس، وأسلم، وبني تميم . وكان يبغض: بني أمية، وبني حنيفة، وبني ثقيف، وبني هذيل . وكان يقول : لم تلدني أم بكرية ولا ثقفية. وكان يقول: في كل حي نجيب، إلا في بني أمية ..

. وفي شرح النهج (15 / 133 ) عن المبرد قال: (إن معاوية قال للأحنف بن قيس وجارية بن قدامة ورجال من سعد معهما، ك-لام--اً أحفظهم (أغضبهم) فردوا عليه بجواب مقذع ( مؤلم له) وكانت امرأة معاوية في دار قريبة فسمعت كلامهم، فلما خرجوا جاءت إلى معاوية فقالت له : لقد سمعت من هؤلاء الأجلاف كلاماً تلقوك به فلم تنكر، فكدت أن أخرج إليهم فأسطو به--م ! فقال معاوية: إن مضر كاهل العرب، وتمي-اً كاهل مضر ، وسعداً كاهل تميم، وهؤلاء كاهل سعد). وأهم هذه الأحاديث في مدح بني تميم: حديث أمير المؤمنين عالية المتقدم، وقصده

بالرحم خؤولتهم لبني هاشم.

الرسالتان اللتان اشتهر أنهما الى ابن عباس

1 . قال في نهج البلاغة (64/3) ( ومن كتاب له الله إلى بعض عماله : أما بعد فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وعصيت إمامك، وأخزيت أمانتك! بلغني أنك جردت الأرض، فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت

يديك، فارفع إلي حسابك، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس !

2. ومن كت-اب ل--ه الله إلى بعض عماله : ( أما بعد فإني كنت أشركتك في أمانتي، وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن رجل من أهلي أوثق منك في نفسي لمواساتي وموازرتي، وأداء الأمانة إلي . فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كَلب، والعدو قد حرب، وأمانة الناس قد خُزيت، وهذه الأمة قد فنكت وشغرت، قلبت لابن عمك

ظهر المجن، ففارقته مع المفارقين، وخذلته مع الخاذلين، وخنته مع الخائنين. فلا ابن

314

ص: 314

عمك آسيت، ولا الأمانة أديت. وكأنك لم تكن الله تريد بجهادك. وكأنك لم تكن

على بينة من ربك ! وكأنك إنما كنت تكيد هذه الأمة عن دنياهم، وتنوي غرتهم إعداد عائشة لحرب علي عن فيئهم، فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة أسرعت الكرة، وعاجلت الوثبة، حركة عائشة إلى البصرة واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأرامله--م وأيتامهم، اختطاف الذئب الأزل دامية المعزى الكسيرة فحملته إلى الحجاز، رحيب الصدر بحمله وصول عائشة إلى البصرة غير متأثم من أخذه ! كأنك لا أباً لغيرك حدرت إلى أهلك تراثاً من أبيك وأمك! حركة الإمام إلى البصرة فسبحان الله ! أما تؤمن بالمعاد، أوما تخاف نقاش الحساب؟ أيها المعدود كان

وصوله إلى البصرة

عندنا من ذوي الألباب! كيف تسيغ شراباً وطعاماً، وأنت تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً؟ هزيمة جيش عائش---ة و تبتاع الإماء وتنكح النساء، من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين إسكان عائشة وإرجاعها الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال، وأحرز بهم هذه البلاد. فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك، لأعذرن إلى الله من أخبار عائشة وجملها فيك، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار.

الإمام الله في البصرة

ووالله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة مشاهد من حرب الجمل

ولاظفرا مني بإرادة، حتى آخذ الحق منهما، وأزيح الباطل من مظلمتهما.

وأقسم بالله رب العالمين، ما يسرني أن ما أخذت من أموالهم حلال لي، أتركه شهداء مع الإمام

ميراثاً لمن بعدي. فضح رويداً، فكأنك قد بلغت المدى، ودفنت تحت الثرى، وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادي الظالم فيه بالحسرة، ويتمنى المضيع الرجعة، ولات حين مناص).

من

خطب علي

في

الكذب في حرب الجمل

قال الشيخ محمد عبده: ألصقت بأمانتك خَزْيةً بالفتح أي رزية أفسدتها. وكأن هذا من شعر حرب الجمل

العامل أخذ ما عنده من مخزون بيت المال. وقال إن العامل في الخطبتين هو ابن عباس ! وروى الكشي (279/1) والطوسي هذه التهمة ولم يثبتاها ولم يرداها، فرواها الإمام واصل الفتوحات

الله

في

الكشي عن الزهري عن الحارث قال: (استعمل على الله على البصرة عبد الله بن الإمام ينقل العاصمة عباس فحمل كل مال في بيت المال بالبصرة ولحق بمكة، وترك عليا الله وكان

315

ص: 315

مبلغه ألفي ألف درهم، فصعد علي الله المنبر حين بلغه ذلك فبكى فقال : هذا ابن عم رسول الله له في علمه وقدره يفعل مثل هذا، فكيف يؤمن من كان دونه ! اللهم إني قد مللتهم فأرحني منهم، واقبضني إليك غير عاجز ولاملول. ثم روى عن الشعبي قال: لما احتمل عبدالله بن عباس بيت مال البصرة وذهب به إلى الحجاز كتب إليه علي بن أبي طالب : من عبد الله علي بن أبي طالب إلى عبدالله بن عباس أما بعد، فاني قد كنت أشركتك في أمانتي.. الخ. وفيه : أردد إلى القوم أموالهم، فوالله لئن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لأعذرن الله فيك، وليس فيه تهديد بالسيف. فكتب إليه عبد الله بن عباس : أما بعد، فقد أتاني كتابك تعظم على إصابة المال الذي أخذته من بيت مال البصرة، ولعمري إن لي في بيت مال الله، أكثر مما أخذت. والسلام. قال: فكتب إليه علي بن أبي طالب الله : أما بعد، فالعجب كل العجب من تزيين نفسك أن لك في بيت مال الله أكثر مما أخذت، وأكثر مما الرجل من المسلمين، فقد أفلحت إن كان تمنيك الباطل، وادعاؤك مالا يكون ، ينجيك من الإثم ويحل لك ما حرم الله عليك، عمرك الله أنك لأنت العبد المهتدي إذاً. فقد بلغني أنك اتخذت مكة وطناً، وضربت بها عطناً، تشتري مولدات مكة والطائف، تختارهن على عينك، وتعطي فيهن مال غيرك، وإني لأقسم بالله ربي وربك رب العزة: ما يسرني أن ما أخذت من أموالهم لي حلال أدعه لعقبي ميراثاً، فلا غرو أشد باغتباطك تأكله رويداً رويداً، فكأن قد بلغت المدى وعرضت على ربك، والمحل الذي يتمنى الرجعة المضيع للتوبة، ولات حين مناص. والسلام.

قال : فكتب إليه عبدالله بن عباس : أما بعد فقد أكثرت عليَّ، فوالله لأن ألقى الله

بجميع ما في الأرض من ذهبها وعقيانها أحب إلي أن ألقى الله بدم رجل مسلم)!

ملاحظة

قبل بعضهم هذه الرواية وردها البعض، وقد ترجم له السيد الخوئي في رجاله (245/11) :

وأورد الروايات المادحة له وضعفها، ثم قال:

316

ص: 316

(ونحن وإن لم نظفر برواية صحيحة مادحة ، وجميع ما رأيناه من الروايات في إسنادها ضعف، إلا أن استفاضتها أغنتنا عن النظر في إسنادها ، فمن المطمأن به إعداد عائشة لحرب علي صدور بعض هذه الروايات عن المعصومين إجمالاً.

حركة عائشة إلى البصرة

ثم أورد الرويات الذامة لابن عباس وضعفها أيضاً، وقال: (والمتحصل مما ذكرنا أن عبدالله بن عباس كان جليل القدر، مدافعاً عن أمير المؤمنين والحسنين عال وصول عائشة إلى البصرة كما ذكره العلامة وابن داود روی عن رسول الله له الفقيه : الجزء 4 ، باب حركة الإمام إلى البصرة النوادر وهو آخر أبواب الكتاب الحديث .852 . وروى عنه عبدالله بن جعفر

وصوله إلى البصرة

الطيار. الكافي: الجزء 1 ، كتاب الحجة 4 ، باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم ) .

وقد رد لتهمة ابن عباس باحثون معاصرون كالسيد جعفر مرتضى في رسالته ابن هزيمة جيش عائشة

عباس وأموال البصرة، والسيد الخرسان في موسوعة ابن عباس، وساقوا لذلك إسكان عائشة وإرجاعها

الإمام الله في البصرة

أدلة عديدة منها : ضعف أسانيد التهمة. ومنها : جلالة قدر ابن عباس . ومنها : وجود مكذوبات قطعية رافقت التهمة. ومنها : أن بيت مال البصرة لم تجتمع فيه من أخبار عائشة وجملها ملايين الدراهم، ومنها : أن ابن عباس لم يظهر عليه الغنى ولا على أولاده. ومنها : أن وقت التهمة قرب شهادة أمير المؤمنين الله ، وقد كان ابن عباس

موجوداً في الكوفة عند شهادته وبيعة الإمام الحسن الله ومنها : كثرة الدواعي من خصوم علي الله و ابن عباس لاتهامه، حتى أن معاوية شهداء مع الإمام

السلامة

كان يقنت في صلاته بلعن علي والحسنين وابن عباس والأشتر !

مشاهد من حرب الجمل

من

خطب علي

لكن تبقى أقوى مواد التهمة أن رسالة أمير المؤمنين الثلة من نوع كلامه بالصميم ولا يمكن القول إنها موضوعة. وتبقى أمور مؤيدة للتهمة مثل غياب ابن عباس الكذب في حرب الجمل عن البصرة في فتنة ابن الحضر مى سنة ،38 ، وتوكيله نائبه زياد بن عبيد فقد كانت مراسلات الإمام الله في معالجة الفتنة مع زياد وأرسل الصحابي البطل جارية بن قدامة السعدي، فأخمد الفتنة، ولم يرجع ابن عباس الى البصرة !

من شعر حرب الجمل

الإمام له واصل الفتوحات

كل هذا يرجح القول بأن المعصية وقعت من ابن عباس، ويرجح ما نقله سبط الإمام ينقل العاصمة

ابن الجوزي في تذكرة الخواص (141/1) عن أبي أراكة قال: ( ث-م ن--دم ابن عباس

317

ص: 317

واعتذر الى عليه وعاد الى مولاه أمير المؤمنين وجاء من مكة معتذراً اليه، وأخبره أنه فرق الأموال في أهلها، وقبل أمير المؤمنين الله عذره).

ومعناه أن ابن عباس خرج من المشكلة، ورضي عنه أو سكت أمير المؤمنين السلام

ولى الإمام الله أبا الأسود الدولي قضاء البصرة

في طرائف المقال (72/2) : (إسمه ظالم بن عمرو، أو ظالم بن ظالم، أو عمرو بن ظالم، هو قاضي البصرة ثقة ابتكر النحو.. من الطبقة الأولى من شعراء الإسلام، ومن شيعة أمير المؤمنين علي السلام )

وقد ولاه قضاء البصرة ثم عزله فقال له: (لم عزلتني وما جنيتُ، وما خنتُ؟

فقال له : إني رأيت كلامك يعلو على كلام الخصم) . (عوالي اللئالي: 343/2) . ومعناه: أن شخصية أبي الأسود وأسلوبه يخوفان الخصم فيضعف عن حقه، وهذا

يضر بعدالة القضاء، ولا يمكن معالجته في أبي الأسود لأنه تكويني فعزله.

ولم يبحث الفقهاء والحقوقيون هذا الشرط في القاضي. وأصله قول النبي : (لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع). أي غير معنف ولا خائف، وقد جاء ذلك في عهد الإمام الله الى مالك الأشتر.

وفي أخبار القضاة لوكيع (288/1) : ( وزعم المدائني أن أبا الأسود الدولي ولي أيام علي بن أبي طالب الله فاختصم إليه رجلان فكان أحدهما نحيف الجسم وكان جدلاً فهما، والآخر ضخماً جهيراً فدماً، فاستعلاه النحيف، فقال أبو الأسود:

ترى المرء النحيف فتزدريه وفي أثواب-ه رج--ل م-ري-ر

ويعجبك الطرير فتختبره فيخلف ظنك الرجل الطرير

وما عظم الرجال لهم بزين ولكن زينها مجد وخير

قال : وقضى أبو الأسود على رجل فشکاه ، فبلغه فقال: إذا كنت مظلوماً فلا تلف راضياً عن القوم حتى تأخذ النصف واغضب وإن كنت أنت الطالب القوم فاطرح مقالتهم واشعب بهم كل مشعب

318

ص: 318

وقارب بذي عقل وباعد بجاهل جلوب عليك الشر من كل مجلب

ولا ترمني بالجور واصبر على التي بها كنت أقضى للبعيد على الأب

فإني امرؤ أخشى إلهي وأت-ق عقابي وقد جربت مالم (تجرب

علم أبا الأسود الدؤلي أن يضع علم النحو

إعداد عائشة لحرب علي

حركة عائشة إلى البصرة

وصول عائشة إلى البصرة

الله

أوردنا فقرات عن أبي الأسود، في فصل مسؤولي الدولة عند الإمام الشالية حركة الإمام إلى البصرة وذكرنا في مقدمة نقد مفردات الراغب، كيف علمه أمير المؤمنين الله أن يضع وصوله فيه إلى البصرة علم النحو. قال السيوطي في تاريخ الخلفاء/ 199 : قال أبو القاسم الزجاجي في هزيمة جيش عائشة

أماليه حدثنا أبو جعفر محمد بن رستم الطبري، حدثنا أبو حاتم السجستاني، حدثني يعقوب بن إسحاق الحضر، مي، حدثنا سعيد بن مسلم الباهلي، حدثنا إسكان عائشة وإرجاعها أبي عن جدي، عن أبي الأسود الدؤلي، أو قال عن جدي أبي الأسود، قال: من أخبار عائشة وجملها

دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فرأيته مطرقاً مفكراً، فقلت: فيم تفكر يا أمير المؤمنين؟ قال : إني سمعت ببلدكم هذا لحناً، فأردت الإمام الشالية في البص--رة أن أصنع كتاباً في أصول العربية. فقلت: إن فعلت هذا أحييتنا، وبقيت فينا مشاهد من حرب الجمل هذه اللغة، ثم أتيته بعد ثلاث فألقى إلى صحيفة فيها : بسم الله الرحمن الرحيم. الكلمة إسم وفعل وحرف، فالإسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن شهداء مع الإمام حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس بإسم ولا فعل. ثم قال: تتبعه وزد فيه ما وقع لك، واعلم يا أبا الأسود أن الأشياء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، وشئ ليس بظاهر ولا مضمر . وإنما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر . قال أبو الأسود: فجمعت منه أشياء وعرضتها عليه ، فكان من من شعر حرب الجمل ذلك حروف النصب فذكرت منها: إن وأن وليت ولعل وكأن، ولم أذكر لكن

من

خطب علي

الله

الكذب في حرب الجمل

الإمام في واصل الفتوحات

فقال لي: لم تركتها؟ فقلت: لم أحسبها منها ، فقال : بل هي منها، فردها فيها ! أقول: هكذا تم وضع علم النحو ، بأصول كتبها أمير المؤمنين التالية واختار لها الإمام ينقل العاصمة

من يكملها، وعلمه حتى أتم وضع هذا العلم. فكم يا ترى خسرت الأمة والعالم

319

ص: 319

بإعراضها عن علي والعترة الله وتقتيلهم ، واتباعها جهلاء اتخذتهم أنداداً لهم !

لماذا ولى الإمام الله زياد بن عبيد على البصرة وفارس ؟

1 . ترجمنا لزياد بن عبيد في فصل مسؤولي دولة الإمام الله وقد عرف بزياد بن أبيه، ثم استلحقه معاوية فعرف بزياد بن أبي سفيان، وفعل ذلك معاوية لوصية أبيه وادعائه

م الله اله

أن زياداً ابنه لأنه زنى بأمه! ولا قيمة شرعاً لدعواه لأن النبي قال : الولد للفراش

وللعاهر الحجر. فأبو سفيان عاهر وزياد هو ابن عبيد شرعاً، لأنه الزوج الشرعي وقد قضى معاوية لجماعة بقول النبي : الولد للفراش وللعاهر الحجر ! فقالوا نُسَوّغ لك ما فعلت في زياد، ولا تسوّغ لنا ما فعلنا في صاحبنا! فقال: قضاء رسول الله خير لكم من قضاء معاوية ) ! (الطبري: 365/6 ، وفتح الباري: 33/12). لكن البخاري ومقلديه ظلوا مطيعين لمعاوية وقالوا زياد بن أبي سفيان رضي الله عنه !

2 . قال الطبري (129/4): (كتب معاوية حين قُتل علي إلى زياد يتهدده فقام خطيباً فقال العجب من ابن آكلة الأكباد وكهف النفاق ورئيس الأحزاب، كتب إليَّ يتهددني وبيني وبينه ابنا عم رسول الله له أي ابن عباس والحسن بن علي في تسعين ألفاً، واضعي سيوفهم على عواتقهم لا ينثنون ! ولئن خلص إليَّ ليجدنني أحمر ضراباً! فلم يزل زياد بفارس والياً حتى صالح الحسن الله معاوية وقدم معاوية الكوفة، فتحصن زياد في القلعة التي يقال لها قلعة زياد ! ومعنى قوله : ليجدنني أحمر ضراباً، أي فارسياً مقاتلاً، وقد جرت أحداث أخرى بينه

وبين معاوية، ثم ضعف زياد أمام إغراء معاوية فأطاعه !

3. قد يشكل على تعيين أمير المؤمنين الشاليه زياداً والياً على بيت المال وغيره، والجواب: أولاً: أن المعصومين عالم لا يشكل على عملهم لأنهم منزهون عن الخطأ والهوى. وثانياً: أن زياداً ولد شرعي لعبيد، وكان ظاهره الصلاح والإخلاص حتى غلبه الشيطان فخضع لمعاوية، وقتل بأمره ألوف الشيعة، ثم قتله معاوية لأنه طمع بخلافته! وبعده ابنه عبيد الله بن زياد قتل الحسين الله فكلاهما سيئ الأب والابن !

320

ص: 320

وثالثاً: أن أمير المؤمنين الله كان يدير الأمور بأصلح الموجودين وأكفئهم، وزياد

وأخوه أبو بكرة، من الكفاءات الإدارية النادرة.

إعداد عائشة لحرب علي

ورابعاً: أن أغلب إيران كانت مفتوحة جديداً ، وتحتاج إدارة الفرس الى من يجيد حركة عائشة إلى البصرة

لغتهم وكانت الفارسية اللغة الأم لزياد وإخوته من أمهم سمية، وهي فارسية

أهداها كسرى للحارث بن كلدة، لأنه عالجه من السم.

في البصرة علم الإمام الله كميل بن زياد دعاء كميل

وصول عائشة إلى البصرة

حركة الإمام إلى البصرة

الله

قال السيد ابن طاووس في الإقبال (331/3): (قال) کمیل بن زیاد كنت جالساً وصوله إلى البصرة

مع مولاي أمير المؤمنين الله في مسجد البصرة، ومعه جماعة من أصحابه فقال هزيمة جيش عائشة

بعضهم: ما معنى قول الله عز وجل : فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ؟ قال السلام : ليلة

النصف من شعبان، والذي نفس علي بيده إنه ما من عبد إلا وجميع ما يجري إسكان عائشة وإرجاعها عليه من خير وشر مقسوم له في ليلة النصف من شعبان، إلى آخر السنة في مثل من أخبار عائشة وجملها تلك الليلة المقبلة. وما من عبد يحييها ويدعو بدعاء الخضر الله إلا أجيب له. فلما انصرف طرقته ليلاً فقال الله : ما جاء بك يا كميل؟ قلت: يا أمير المؤمنين الإمام علي في البص----رة دعاء الخضر الله ، فقال : أجلس يا كميل، إذا حفظت هذا الدعاء فادع به كل مشاهد من حرب الجمل ليلة جمعة، أو في الشهر مرة، أو في السنة مرة، أو في عمرك مرة، تُكْفَ وتُنصر

وترزق، ولن تعدم المغفرة.

يا كميل أوجب لك طول الصحبة لنا أن نجود لك بما سألت

شهداء مع الإمام الله

من .

خطب علي

ثم قال: أكتب اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شئ، وبقوتك التي الكذب في حرب الجمل

قهرت بها كل شيء، وخضع لها كل شيء.. الى آخر الدعاء). وقد اهتم الشيعة بهذا الدعاء الشريف، فهم يعقدون المجالس في بلادهم من ش-ع-ر ح--رب الجمل المختلفة ليالي الجمعة لقراءته. وقد شرحه وترجمه عدد من علمائهم ومثقفيهم. الإمام له واصل الفتوحات

الإمام ينقل العاصمة

321

ص: 321

دعا الإمام الله أهل البصرة الى التوبة

في الكافي (256/8) : ( عن الإمام الباقر الله قال : إن أمير المؤمنين الله لما انقضت القصة فيما بينه وبين طلحة والزبير وعائشة بالبصرة، صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسول الله الله ثم قال :

يا أيها الناس إن الدنيا حلوة خضرة، تفتن الناس بالشهوات، وتزين لهم بعاجلها.

وأيم الله إنها لتغر من أملها، وتخلف من رجاها، وستورث أقواماً الندامة والحسرة بإقبالهم عليها وتنافسهم فيها، وحسدهم وبغيهم على أهل الدين والفضل فيها، ظلماً وعدواناً وبغياً وأشراً وبطراً.

وبالله إنه ما عاش قوم قط في غضارة من كرامة نعم الله في معاش دنيا، ولا دائم تقوى، في طاعة الله والشكر النعمه، فأزال ذلك عنهم، إلا من بعد تغيير من أنفسهم وتحويل عن طاعة الله والحادث من ذنوبهم، وقلة محافظة وترك مراقبة الله عز وجل، وتهاون بشكر نعمة الله، لأن الله عز وجل يقول في محكم كتابه : إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ. ولو أن أهل المعاصي وكسبة الذنوب إذا هم حذروا زوال نعم الله وحلول نقمه وتحويل عافيته، أيقنوا أن ذلك من الله جل ذكره بما كسبت أيديهم، فأقلعوا وتابوا، وفزعوا إلى الله جل ذكره بصدق من نياتهم وإقرار منهم بذنوبهم وإساءتهم، لصفح لهم عن كل ذنب، وإذاً لأقالهم كل عثرة، ولرد عليهم كل كرامة نعمة، ثم أعاد لهم من صلاح أمرهم، ومما كان أنعم به عليهم كل ما زال عنهم وأفسد عليهم . فاتقوا الله أيها الناس حق تقاته، واستشعروا خوف الله جل ذكره، وأخلصوا اليقين وتوبوا إليه من قبيح ما استفزكم الشيطان من قتال ولي الأمر، وأهل العلم بعد رسول الله ، و ما تعاونتم عليه من تفريق الجماعة وتشتيت الأمر، وفساد صلاح ذات البين، إن الله عز وجل: يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ). وفي أمالي الصدوق/170 : ( عن مسعدة بن صدقة ، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه له : أن أمير المؤمنين الله خطب بالبصرة، فقال بعد ما حمد الله

322

ص: 322

عز وجل وأثنى عليه، وصلى على النبي وآله المدة وإن طالت قصيرة، والماضي للمقيم عبرة، والميت للحي عظة، وليس لأمس إن مضى عودة، ولا المرء من غد إعداد عائشة لحرب علي على ثقة، الأول للأوسط رائد، والأوسط للآخر ،قائد، وكل لكل مفارق، وكل حركة عائشة إلى البصرة بكل لاحق، والموت لكل غالب، واليوم الهائل لكل آزف، وهو اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. ثم قال الله : معاشر شيعتي، إصبروا على عمل لاغنى بكم عن ثوابه، واصبروا حركة الإمام له إلى البصرة

عن عمل لاصبر لكم على عقابه. إنا وجدنا الصبر على طاعة الله أهون من الصبر

على عذاب الله عز وجل.

وصول عائشة إلى البصرة

وصوله فيه إلى البصرة

إعلموا أنكم في أجل محدود، وأمل ممدود، ونفس معدود، ولا بد للأجل أن هزيمة جيش عائشة يتناهى، وللأمل أن يطوى، وللنفس أن يحصى، ثم دمعت عيناه الله وقرأ: وَإِنَّ إسكان عائشة وإرجاعها عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ).

وليمة الأحنف بن قيس لأمير المؤمنين

من أخبار عائشة وجملها

الإمام الله في البصرة في كتاب صفات الشيعة للصدوق/ 39 : ( عن محمد بن الحنفية قال: لما قدم أمير المؤمنين السلالة البصرة بعد قتال أهل الجمل، دعاه الأحنف بن قيس، واتخذ مشاهد من حرب الجمل له طعاماً، فبعث إليه صلوات الله عليه والى أصحابه، فأقبل ثم قال: يا أحنف شهداء مع الإمام الله

أدع لي أصحابي، فدخل عليه قوم متخشعون كأنهم شنان بوال، فقال الأحنف بن قيس يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي نزل بهم ؟ أمن قلة الطعام، أو من هول من خ-ط--ب عليه الحرب؟ فقال صلوات الله عليه: لا يا ،أحنف إن الله سبحانه أحب أقواماً

الكذب في حرب الجمل

تنسكوا له في دار الدنيا تنسك من هجم على ما علم من قربهم من يوم القيامة من قبل أن يشاهدوها، فحملوا أنفسهم على مجهودها، وكانوا إذا ذكروا صباح من ش-ع-ر ح--رب الجمل يوم العرض على الله سبحانه، توهموا خروج عنق يخرج من النار يَحْشُرُ الخلائق الإمام واصل الفتوحات إلى ربهم تبارك وتعالى، وكتاب يبدو فيه على رؤس الأشهاد فضايح ذنوبهم، الإمام ينقل العاصمة

فكادت أنفسهم تسيل سيلاناً، أو تطير قلوبهم بأجنحة الخوف طيراناً، وتفارقهم

الله

323

ص: 323

عقولهم إذا غلت بهم من أجل المحشر إلى الله سبحانه غلياناً، فكانوا يحِنُّونَ حنين الواله في دجى الظلم، وكانوا يُفجعون من خوف ما أوقفوا عليه أنفسهم، فمضوا ذبل الأجسام حزينةً قلوبهم، كالحة وجوههم ذابلة شفاههم، خامصةً بطونهم تراهم

29

سكارى، سُمارُ وحشة الليل، يتخشعون كأنهم شِنَانُ بَوَالٍ ، قد أخلصوا الله أعمالهم سراً

وعلانية، فلم تأمن من فزعه قلوبهم، بل كانوا كمن جرسوا قباب خراجهم. فلو رأيتهم ليلتهم وقد نامت العيون، وهدأت الأصوات، وسكنت الحركات من الطيور في الوكور ، قد نهنههم خوف يوم القيامة والوعيد، كما قال سبحانه وتعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ. فاستيقظوا لها فزعين، وقاموا إلى صلاتهم معولين، باكين تارة وأخرى مسبحين، يبكون في محاريبهم ويرنون، يصطفون ليلة مظلمة بهماء يبكون.

فلو رأيتهم يا أحنف في ليلتهم قياماً على أطرافهم، منحنيةً ظهورهم، يتلون أجزاء القرآن الصلاتهم، قد اشتد إعوالهم ونحيبهم وزفيرهم، إذا زفروا خلت النار قد أخذت منهم إلى حلاقيمهم ، وإذا أعولوا حسبت السلاسل قد صفدت في أعناقهم، فلو رأيتهم في نهارهم إذاً لرأيت قوماً يمشون على الأرض هون--اً، ويقولون للناس حسناً، فإذا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا. وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا. قد قيدوا أقدامهم عن التهمات، وأبكموا ألسنتهم أن يتكلموا في أعراض، وسجموا أسماعهم أن يلجها خوض خائض،وكحلوا أبصارهم بغض النظر إلى المعاصي، وانتحوا دار السلام، من

دخلها كان آمناً من الريب والأحزان.

فلعلك يا أحنف شغلك نظرك إلى الدنيا عن الدار التي خلقها الله سبحانه من لؤلؤة بيضاء، فشقق فيها أنهارها ، ودارٍ قد أشغلت بنقش رواقها، وستور قد علقتها، والريح والآجام موكلة بثمرها، وليست دارك هذه دار البقاء، فاحمتك الدار التي خلقها الله سبحانه، لؤلؤة بيضاء، فشقق فيها أنهارها وغرس فيها أشجارها، وظلل عليها بالنضج من ثمارها، وكبسها بالعواتق من حورها، ثم أسكنها أولياءه وأهل طاعته.

324

ص: 324

فلو رأيتهم يا أحنف وقد قدموا على زيادات ربهم سبحانه، صوتت رواحلهم بأصوات، لم يسمع السامعون بأحسن منها، وأظلتهم غمامة، فأمطرت عليهم إعداد عائشة لحرب علي المسك والزعفران وصهلت خيولها بين أغراس تلك الجنان، وتخللت بهم حركة عائشة إلى البصرة نوقهم بين كبث الزعفران، ويتطامن تحت أقدامهم اللؤلؤ والمرجان، واستقبلتهم قهار متها بمنابر الريحان، وهاجت لهم ريح من قبل العرش، فنشرت عليهم وصول عائشة إلى البصرة الياسمين والأقحوان، وذهبوا إلى بابها فيفتح لهم الباب ،رضوان ، ثم يسجدون الله حركة الإمام إلى البصرة في فناء الجنان ، فقال لهم الجبار : إرفعوا رؤسكم، فإني قد رفعت عنكم مؤنة العبادة، وأسكنتكم جنة الرضوان فإن فاتك يا أحنف ما ذكرت لك في صدر كلامي لتتركن في سرابيل هزيمة جيش عائشة القطران، ولتطوفن بينها وبين حميم ،آن ولتسقين شراباً حار الغليان في إنضاجه ! إسكان عائشة وإرجاعها

وصوله إلى البصرة

فكم يومئذ في النار من صلب محطوم، ووجه مهشوم، ومشوه مضروب على الخرطوم، قد أكلت الجامعة كفه ، والتحم الطوق بعنقه، فلو رأيتهم يا أحنف من أخبار عائشة وجملها ينحدرون في أوديتها، ويصعدون جبالها، وقد ألبسوا المقطعات من القطران الإمام الله في البصرة وأقرنوا مع فجارها وشياطينها، فإذا استغاثوا من حريق شدت عليهم عقاربها مشاهد من حرب الجمل

وحياتها. ولو رأيت منادياً ينادي وهو يقول : يا أهل الجنة ونعيمها، ويا أهل حليها وحللها، خلود فلا ،موت، فعندها ينقطع رجاؤهم، وتغلق الأبواب، شهداء مع الإمام وتنقطع بهم الأسباب ! فكم يومئذ من شيخ ينادي وا شيبتاه! وكم من شاب

من

خطب علي

ينادي واشباباه! وكم من امرأة تنادي وا فضيحتاه! هتكت عنهم الستور ! فكم يومئذ من مغموس بين أطباقها محبوس ، يا لك غمسة ألبستك بعد لباس الكذب في حرب الجمل الكتان، والماء المبرد على الجدران، وأكل الطعام ألواناً بعد ألوان، لباساً لم يدع من شعر حرب الجمل لك شعراً ناعماً كنت مطعمه إلا بيَّضَه، ولا عيناً كنت تبصر بها إلى حبيب إلا

.فقأها. هذا ما أعد الله للمجرمين، وذلك ما أعد الله للمتقين).

الإمام يواصل الفتوحات

الإمام ينقل العاصمة

325

ص: 325

الدنيا دار صدق لمن صدقها

في تحف العقول لابن شعبة الحراني / 186): (قال جابر بن عبد الله الأنصاري: كنا مع أمير المؤمنين الله بالبصرة فلما فرغ من قتال من قاتله أشرف علينا من آخر الليل فقال : ما أنتم فيه ؟ فقلنا في ذم الدنيا. فقال: على مَ تذم الدنيا يا جابر ؟ ثم حمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فما بال أقوام يذمون الدنيا؟ انتحلوا الزهد فيها الدنيا منزل صدق لمن صدقها، ومسكن عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، مسجد أنبياء الله ، ومهبط وحيه ، ومصلى ملائكته، ومسكن أحبائه، ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا منها الجنة، فمن ذا يذم الدنيا یا جابر وقد آذنت ببینها و نادت بانقطاعها، ونعت نفسها بالزوال، ومثلت

ببلائها البلاء، وشوقت بسرورها إلى السرور، وراحت بفجيعة، وابتكرت بنعمة وعافية، ترهيباً وترغيباً، يذمه-ا ق-وم عند الندامة، خدمتهم جميعاً فصدقتهم، وذكرتهم فذكروا ، ووعظتهم فاتعظوا، وخوفتهم فخافوا. وشوقتهم فاشتاقوا . فأيها الذام للدنيا، المغتر بغرورها، متى استذمت إليك بل متى غرتك بنفسها؟ بمصارع آبائك من البلى ؟ أم بمضاجع أمهاتك من الثرى؟ كم مرضت بيديك، وعللت بكفيك، تستوصف لهم الدواء، وتطلب لهم الأطباء، لم تدرك فيه طلبتك، ولم تسعف فيه بحاجتك، بل مثلت الدنيا به نفسك، وبحاله حالك، غداة لا ينفعك أحباؤك، ولا يغني عنك نداؤك، حين يشتد من الموت أعالين المرض، وأليم لوعات المضض، حين لا ينفع الأليل، ولا يدفع العويل، يحفز بها الحيزوم، ويغص بها الحلقوم لا يسمعه النداء، ولا يروعه الدعاء.

فياطول الحزن عند انقطاع الأجل، ثم يراح به على شرجع، تنقله أكف أربع، فيضجع

في قبره في لبث، وضيق ،جدث، فذهبت الجدة، وانقطعت المدة، ورفضته العطفة وقطعته اللطفة لا تقاربه الأخلاء، ولا يلم به الزوار، ولا اتسقت به الدار انقطع دونه الأثر، واستعجم دونه الخبر، وبكرت ،ورثته فاقتسمت ،ترکته، ولحقه الحوب وأحاطت به الذنوب. فإن يكن قدم خيراً طاب مكسبه ، وإن يكن قدم شراً تب منقلبه! وكيف

326

ص: 326

إعداد عائشة لحرب علي

ينفع نفساً فرارها، والموت قصارها، والقبر مزارها. فكفى بهذا واعظاً، كفى.

يا جابر، إمض معي. فمضيت معه حتى أتينا القبور، فقال:

معي. يا أهل التربة ويا أهل الغربة، أما المنازل فقد سكنت، وأما المواريث فقد قسمت حركة عائشة إلى البصرة

وأما الأزواج فقد نكحت، هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟ ثم أمسك ملياً، ثم رفع رأسه فقال: والذي أقل السماء فعلت، وسطح الأرض فدحت وصول عائشة إلى البصرة لو أذن للقوم في الكلام لقالوا: إنا وجدنا خير الزاد التقوى. ثم قال: يا جابر، حركة الإمام إلى البصرة

إذا شئت فارجع .

عني

وصولهم إلى البصرة

أقول: هذا الحديث مع جابر في البصرة، شبيه بحديث الإمام الله المشهور مع كميل لما أخذ بيده الى وادي السلام بظهر الكوفة. وهو أسبق زمناً من حديث هزيمة جيش عائشة

کمیل الله

أبو أيوب الأنصاري يصارح المسلمين بالحقيقة !

إسكان عائشة وإرجاعها

من أخبار عائشة وجملها

في كفاية الأثر للخزاز القمي /116 : ( ونزل أبو أيوب في بعض دور الهاشمين فجمعنا إليه ثلاثين نفساً من شيوخ أهل البصرة، فدخلنا الإمام عالية في البصرة إليه وسلمنا عليه وقلنا: إنك قاتلت مع رسول الله له ببدر وأح--د مشاهد من حرب الجمل المشركين، والآن جئت تقاتل المسلمين فقال: والله لقد سمعت من شهداء مع الإمام الله

رسول الله يقول لعلي : إنك تقاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين. قلنا الله إنك سمعت من رسول الله الله في علي ! قال: سمعته يقول علي مع من خطب عليه الحق والحق معه، وهو الإمام والخليفة بعدي ، يقاتل على التأويل كما قاتلت على الكذب في حرب الجمل التنزيل، وابناه الحسن والحسين سبطاي من هذه الأمة، إمامان إن قاما أو قعدا

من شعر حرب الجمل

وأبوهما خير منهما، والأئمة بعد الحسين تسعة من صلبه، ومنهم القائم الذي يقوم في آخر الزمان كما قمت في أوله، ويفتح حصون الضلالة.

الإمام واصل الفتوحات

قلنا: فهذه التسعة من هم؟ قال : هم الأئمة بعد الحسين، خلف بعد خلف. قلنا: الإمام ينقل العاصمة

فكم عهد إليك رسول الله الله أن يكون بعده من الأئمة؟ قال: إثنا عشر. قلنا:

327

ص: 327

فهل سماهم لك؟ قال: نعم، إنه قال : لما عرج بي إلى السماء نظرت إلى ساق العرش فإذا هو مكتوب بالنور: لا إله إلا الله محمد رسول الله أيدته بعلي، ونصرته بعلي، ورأيت أحد عشر إسماً مكتوباً بالنور على ساق العرش بعد علي، منهم الحسن والحسين وعلياً علياً علياً ومحمداً ومحمداً، وجعفراً وموسى والحسن والحجة. قلت: إلهي من هؤلاء الذين أكرمتهم وقرنت أسماءهم باسمك ؟ فنودیت یا محمد هم الأوصياء بعدك والأئمة، فطوبى لمحبيهم، والويل لمبغضيهم. قلنا: فما لبني هاشم؟ قال: سمعته يقول لهم: أنتم المستضعفون من بعدي قلنا فمن القاسطين والناكثين والمارقين؟ قال: الناكثين الذين قاتلناهم، وسوف نقاتل القاسطين والمارقين، فإني والله لا أعرفهم غير أني سمعت رسول الله الله يقول : في الطرفات بالنهروانات.

:قلنا فحدثنا ما سمعته من رسول الله له . قال : سمعته يقول : مثل مؤمن عند الله عز وجل مثل ملك مقرب، فإن المؤمن عند الله تعالى أعظم من ذلك، وليس شئ أحب إلى الله عز وجل من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة. قلنا زدنا يرحمك الله قال : نعم سمعته يقول : من قال لا إله إلا الله مخلصاً فله الجنة . قلنا : زدنا يرحمك الله . قال : نعم سمعته له يقول : من كان مسلماً فلا يمكر ولا يخدع ، فإني سمعت جبرئيل الله يقول : المكر والخديعة في النار . قلنا: جزاك الله عن نبيك وعن الإسلام خيراً).

أقول: كتبنا رسالة في حديث البشارة النبوية بالأئمة الإثني عشر عا ، ولا يمكن

تطبيقه إلا على الأئمة من العترة النبوية الطاهرة علم

فتنة ابن الحضرمي في البصرة ورسالة الإمام الى أهلها

لما أرسل أمير المؤمنين له ابن عباس الى عائشة بأن ترحل الى المدينة، رفضت وقالت إنها تريد البقاء في البصرة، وقصدها أن تجمع أنصاراً وتحارب عليا الله مرة ثانية لعلها تنتصر عليه ! وكان اعتمادها على مارأته من سرعة تجاوب أهل البصرة معها، لكن الإمام الله تشدد معها وهددها، فرحلت. وكان ظن عائشة في أهل البصرة مصيباً، فبعد سنتين أرسل اليهم معاوية ابن

328

ص: 328

الحضرمي وثاروا معه على علي الله فأرسل اليهم الصحابي جارية بن قدامة السعدي التميمي، فقمع ثورتهم، وقتل ابن الحضرمي

إعداد عائشة لحرب علي

قال الطبري (84/4): (لما قتل محمد بن أبي بكر بمصر خرج ابن عباس من حركة عائشة إلى البصرة

البصرة إلى علي بالكوفة، واستخلف زياداً، وقدم ابن الحضرمي من قبل معاوية فنزل في بني تميم، فأرسل زياد إلى حصين بن المنذر ومالك بن مسمع فقال: أنتم وصول عائشة إلى البصرة يا معشر بكر بن وائل من أنصار أمير المؤمنين وثقاته، وقد نزل ابن الحضرمي حركة الإمام إلى البصرة

حيث ترون، وأتاه من أتاه فامنعوني حتى يأتيني رأي أمير المؤمنين. فقال حصين: وصوله فيه إلى البصرة نعم. وقال مالك وكان رأيه مائلاً إلى بني أمية وكان مروان لجأ إليه يوم الجمل:

هذا أمر لي فيه شركاء أستشير وأنظر فلما رأى زياد تثاقل مالك خاف أن تختلف هزيمة جيش عائشة ربيعة، فأرسل إلى نافع أن أشر عليَّ فأشار عليه نافع بصبرة بن شيمان الحداني، إسكان عائشة وإرجاعها فأرسل إلي--ه زياد فقال: ألا تجيرني وبيت مال المسلمين فإنه فيؤك---م، وأنا أمين أمير المؤمنين؟ قال بلى: إن حملته إليَّ ونزلت داري . قال: فإني حامله، فحمله من أخبار عائشة وجملها وخرج زياد حتى أتى الحدان ، ونزل في دار صبرة بن شيمان، وحَوَّل بيت المال الإمام الله في البصرة والمنبر فوضعه في مسجد الحدان، وتحول مع زياد خمسون رجلاً، منهم أبو أبي

مشاهد من حرب الجمل

من

خطب علي

حاضر ، وكان زياد يصلي الجمعة في مسجد الحدان ويطعم الطعام، فقال زياد لجابر بن وهب الراسبي : يا أبا محمد إني لا أرى ابن الحضرمي يكف، ولا أراه شهداء مع الإمام إلا سيقاتلكم، ولا أدري ما عند أصحابك فآمرهم وانظر ما عندهم؟ فلما صلى زياد جلس في المسجد واجتمع الناس إليه فقال جابر : يا معشر الأزد، تميم تزعم أنهم هم الناس وأنهم أصبر منكم عند البأس، وقد بلغني أنهم يريدون الكذب في حرب الجمل أن يسيروا إليكم حتى يأخذوا جاركم، ويخرجوه من المصر قسراً، فكيف أنتم من شعر حرب الجمل إذا فعلوا ذلك، وقد أجرتموه وبيت مال المسلمين ؟ فقال صبرة بن شيمان وكان مفخماً: إن جاء الأحنف جئت، وإن جاء الحتات جئت، وإن جاء شبّان ففينا الإمام واصل الفتوحات شبان، فكان زياد يقول إنني استضحكت و نهضت ، وما كدت مكيدة قط كنت الإمام ينقل العاصمة إلى الفضيحة بها أقرب مني للفضيحة يومئذ، لما غلبني من الضحك !

329

ص: 329

قال: ثم كتب زياد إلى عليه أن ابن الحضر مي أقبل من الشأم فنزل في دار بني تميم ونعى عثمان، ودعا إلى الحرب وبايعته تميم، وجل أهل البصرة ولم يبق معي من أمتنع به، فاستجرت لنفسي ولبيت المال صبرة بن شيمان، وتحولت فنزلت معهم، فشيعة عثمان يختلفون إلى ابن الحضرمي فوجَّهَ عليَّ أعين بن ضبيعة المجاشعي ليفرق قومه عن ابن الحضرمي فانظر ما يكون منه فإن فرق جمع ابن الحضرمي فذلك ما تريد، وان ترقت بهم الأمور إلى التمادي في العصيان فانهض إليهم فجاهدهم، فإن رأيت ممن قبلك تثاقلاً وخفت أن لا تبلغ ما تريد فدارهم وطاولهم. ثم تسمع وأبصر فكأن جنود الله قد أظلتك تقتل الظالمين فقدم أعين فأتى زياداً فنزل عنده، ثم أتى قومه وجمع رجالاً ونهض إلى ابن الحضرمي، فدعاهم فشتموه وناوش--وه فانصرف عنهم. و دخل عليه قوم فقتلوه فلما قتل أعين بن ضبيعة، أراد زياد قتالهم فأرسلت بنو تميم إلى الأزد: إنا لم نعرض الجاركم، ولا لأحد من أصحابه، فماذا تريدون إلى جارنا وحربنا ؟ فكرهت الأزد القتال وقالوا إن عرضوا الجارنا منعناهم، وإن يكفوا عن جارنا كففنا عن جارهم، فأمسكوا.

وكتب زياد إلى علي أن أعين بن ضبيعة قدم فجمع من أطاعه من عشيرته، ثم نهض بهم بجد وصدق نية إلى ابن الحضر مي فحثهم على الطاعة ودعاهم إلى الكف والرجوع عن شقاقهم ، ووافقهم عامة قومه، فها لهم ذلك وتصدع عنهم كثير ممن كان معهم يمنيهم ،نصرته، وكانت بينهم مناوشة ثم انصرف إلى أهله فدخلوا عليه فاغتالوه فأصيب . رحم الله أعين ، فأردت قتالهم عند ذلك فلم يخف معي من أقوى به عليهم، وتراسل الحيان فأمسك بعضهم عن بعض. فلما قرأ علي الله كتابه دعا جارية بن قدامة السعدي فوجهه في خمسين رجلاً من بنى تميم، وبعث معه شريك بن الأعور ، ويقال بعث جارية في خمس مائة رجل وكتب إلى زياد كتاباً يصوب رأيه فيما صنع، وأمره بمعونة جارية بن قدامة والإشارة عليه، فقدم جارية البصرة فأتى زياداً فقال له احتفز واحذر أن يصيبك ما أصاب صاحبك، ولا تثقن بأحد من القوم!

330

ص: 330

ة

فسار جارية إلى قومه فقرأ عليهم كتاب علي الله ووعدهم فأجابه أكثرهم، فسار إلى ابن الحضرمي فحصره في دار سنبيل ثم أحرق عليه الدار ، وعلى من إعداد عائشة لحرب علي معه وكان معه سبعون رجلاً، ويقال أربعون وتفرق الناس.

ورجع زياد إلى دار الإمارة، وكتب إلى علي مع ظبيان بن عمارة، وكان ممن قدم

حركة عائشة إلى البصرة

وصول عائشة إلى البصرة

مع جارية: وإن جارية قدم علينا فسار إلى ابن الحضرمي فتلتله حتى اضطره إلى دار من دور بنى تميم في عدة رجال من أصحابه، بعد الإعذار والإنذار والدعاء حركة الإمام إلى البصرة

إلى الطاعة، فلم ينيبوا ولم يرجعوا، فأضرم عليهم الدار فأحرقهم فيها، وهدمت عليهم، فبعداً لمن طغى وعصى ، فقال عمرو بن العرندس العودي: رددنا زياداً إلى داره وج-ار تميم دخاناً ذه-ب

لحى الله قوم--ا ش--ووا جارهم وللشاء بالدرهمين الشصب

ينادي الخناق وخمانها وقد سمطوا رأسه باللهب

ونحن أناس لنا عادة نحامي عن الجارأن يغتصب

حميناه إذ حل أبياتنا ولا يمنع الجار إلا الحسب

ولم يعرفوا حرمة للجوار إذا أعظم الج--ار ق-وم نجب

كفعلهم قبلنا بالزبير عشية إذ بزه يستلب

وقال جرير بن عطية بن الخطفي

غدرتم بالزبير فم-ا وف-يم وفاء الأزد إذ منعوا زيادا

فأصبح جارهم بنجاة ع-ز وجار مجاشع أمسى رمادا

فلو عاقدت حبل أبي سعيد لذاد القوم ما حمل النجادا

وأدنى الخيل من رهج المنايا وأغشاها الأسنة والصعادا)

الله

وصوله إلى البصرة

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

من أخبار عائشة وجملها

الإمام السلام في البصرة

مشاهد من حرب الجمل

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

الإمام يواصل الفتوحات

الإمام ينقل العاصمة

331

ص: 331

وروى الثقفي في الغارات (403/2) أن أمير المؤمنين الله أرسل الى أهل البصرة: (من عبدالله علي أمير المؤمنين إلى من قريء عليه كتابي هذا من ساكني البصرة من المؤمنين والمسلمين سلام عليكم ، أما بعد فإن الله حليم ذو أناة لا يعجل بالعقوبة قبل البينة، ولا يأخذ المذنب عند أول وهلة، ولكنه يقبل التوبة ويستديم الأناة ويرضى بالإنابة، ليكون أعظم للحجة وأبلغ في المعذرة، وقد كان من شقاق جلكم أيها الناس ما استحققتم أن تعاقبوا عليه فعفوت عن مجرمكم، ورفعت السيف عن مدبركم وقبلت من مقبلكم، وأخذت بيعتكم ، فإن تفوا ببيعتي وتقبلوا نصيحتي وتستقيموا على طاعتي أعمل فيكم بالكتاب والسنة وقصد الحق، وأقم فيكم سبيل الهدى، فوالله ما أعلم أن والياً بعد محمد له أعلم بذلك مني ولا أعمل. أقول قولي هذا صادقاً، غير ذام لمن مضى ولا منتقصاً لأعمالهم. فإن خطت بكم الأهواء المردية، وسفه الرأي الجائر، إلى منابذتي تريدون خلافي، فها أنا ذا قد قربت جيادي، ورحلت ركابي! وأيم الله لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم، لأوقعن بكم وقعة لا يكن يوم الجمل إليها إلا كلعقة لاعق وإني لظان ألا تجعلوا إن شاء الله على أنفسكم سبيلا، وقد قدمت

! هذا الكتاب إليكم حجة عليكم، ولن أكتب إليكم من بعده كتاباً إن أنتم استغششتم نصيحتي ونابذتم ،رسولي، حتى أكون أنا الشاخص نحوكم إن شاء الله تعالى. والسلام).

28

ورواها في نهج البلاغة (36/3) بالنص التالي، ولعلها غيرها : (ومن كتاب له الله إلى

أهل البصرة: وقد كان من انتشار حبلكم وشقاقكم، ما لم تغبوا عنه، ا عنه، فعفوت عن مجرمكم، ورفعت السيف عن مدبركم، وقبلت من مقبلكم. فإن خَطَت بكم الأمور المردية، وسفه الآراء الجائرة إلى منابذتي وخلافي فها أنا ذا قد قربت جيادي ورحلت ركابي، ولئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعن بكم وقعة، لا يكون يوم الجمل إليها إلا كلعقة لاعق مع أني عارف لذي الطاعة منكم فضله ولذي النصيحة حقه، غير متجاوز متهماً إلى برئ ولا ناكثاً إلى وفي). وقال ابن أبي الحديد في شرحه (6/16): (ما لم تغبوا عنه ، أي لم تسهوا عنه ولم تغفلوا

332

ص: 332

هزيمة جيش عائشة

يقال غبيت عن الشئ أغبى غباوة: إذا لم يفطن ، وغبي الشئ علي كذلك إذا لم تعرفه يقول لهم قد كان من خروجكم يوم الجمل عن الطاعة، ونشركم حبل إعداد عائشة لحرب علي الجماعة، وشقاقكم لي ما لستم أغبياء عنه فغفرت ورفعت السيف، وقبلت التوبة حركة عائشة إلى البصرة والإنابة. فإن خَطَت بكم الأمور: خطا فلان خطوة يخطو .. قوله: قربت جيادي أي أمرت بتقريب خيلي إلي لأركب وأسير إليكم ورحلْتُ ركابي: الركاب وصول عائشة إلى البصرة الإبل. كلعقة لاعق مثل يضرب للشئ الحقير التافه، ويروى بضم اللام وهي حركة الإمام إلى البصرة ما تأخذه الملعقة. ثم عاد فقال مازجاً الخشونة باللين: مع أني عارف فضل ذي وصوله إلى البصرة

الطاعة منكم ، وحق ذي النصيحة، ولو عاقبت لما عاقبت البرئ بالسقيم، ولا أخذت الوفي بالناكث). ثم قال ابن أبي الحديد وخطب زياد بالبصرة الخطبة المسماة بالغراء، وقال فيها: إسكان عائشة وإرجاعها

والله لأخذن البرئ بالسقيم، والبر باللئيم، والوالد بالولد، والجار بالجار، أو تستقيم إلى قناتكم. وفي رواية الرياشي: لآخذن الولي بالولي، والمقيم بالظاعن من أخبار عائشة وجملها والمقبل بالمدبر، والصحيح بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول : أنج الإمام المالية في البصرة سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم . فقام أبو بلال مرداس ابن أدية وهو مشاهد من حرب الجمل

حينئذ شيخ كبير فقال: أيها الأمير، أنبأنا الله بخلاف ما قلت، وحكم بغير ما حکمت قال سبحانه: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى . فقال زياد: يا أبا بلال إني لم أجهل ما شهداء مع الإمام الله

.

علمت، ولكنا لا نخلص إلى الحق منكم حتى نخوض إليه الباطل خوضاً). أقول: لم يكن زياد يجرؤ أن يتكلم بهذه الخطبة وهو عامل لعلي الله ، لكن لما استلحقه معاوية وصار والي البصرة، صارت سياسته أموية، وعقوبته الكذب في حرب الجمل

من

خطب علي

من شعر حرب الجمل

اله

على الظن والتهمة! :أقول ذكر الطبري أن ابن عباس في مدة فتنة ابن الحضرمي بالبصرة، كان بالكوفة عند أمير المؤمنين الله ، فلماذا لم يعد الى البصرة مع جارية بن قدامة الذي أرسله الإمام واصل الفتوحات أمير المؤمنين الثانية لمعالجة الفتنة؟ بل إن غيابه يرجح أن يكون في مكة، بعد أن أخذ من الإمام ينقل العاصمة بيت مال البصرة، ثم سويت مشكلته ورجع الى الكوفة، ولم يرجع الى البصرة أبداً!

333

ص: 333

بنى أعداء علي مساجد على بغضه في البصرة !

قال في شرح النهج (94/4و103): (روی صاحب کتاب الغارات، عن إسماعيل بن حکیم، عن أبي مسعود الجريري قال: كان ثلاثة من أهل البصرة يتواصلون على بغض على الشلة : مطرف بن عبدالله بن الشخير والعلاء بن زياد، وعبدالله بن شفيق. قال صاحب كتاب الغارات وكان مطرف عابداً ناسكاً، وقد روى هشام بن حسان عن ابن سيرين أن عمار بن ياسر دخل على أبي مسعود وعنده ابن الشخير، فذكر علياً بما لا يجوز أن يذكر به فقال عمار يا فاسق وإنك لهاهنا فقال أبو مسعود: أذكرك الله يا أبا اليقظان في ضيفي :قال وأكثر مبغضيه الله أهل البصرة كانوا عثمانية، وكانت في أنفسهم أحقاد

يوم الجمل، وكان هو الله قليل التألف للناس، شديداً في دين الله لا يبالي مع

،بالدين واتباعه الحق من سخط سخط ومن رضى. قال: وقد روى يونس بن أرقم ، عن يزيد بن أرقم ، عن أبي ناجية مولى أم هانئ قال: كنت عند عليه ، فأتاه رجل عليه زي السفر فقال : يا أمير المؤمنين، إني أتيتك من بلدة ما رأيت لك بها محباً، قال: من أين أتيت؟ قال: من البصرة، قال: أما إنهم لو يستطيعون أن يحبوني ،لأحبوني إني وشيعتي في ميثاق الله لا يزاد فينا رجل ولا ينقص إلى يوم القيامة.

علمه

وروى أبو غسان البصري، قال: بنى عبيد الله بن زياد أربعة مساجد بالبصرة تقوم على بغض علي بن أبي طالب والوقيعة فيه : مسجد بني عدي، ومسجد بني مجاشع، ومسجد كان في العلافين على فرضة البصرة، ومسجد في الأزد

وقال شيخنا أبو جعفر الإسكافي: كان أهل البصرة كلهم يبغضونه، وكثير من أهل الكوفة، وكثير من أهل المدينة، وأما أهل مكة فكلهم كانوا يبغضونه قاطبة وكانت قریش كلها على خلافه، وكان جمهور الخلق مع بني أمية عليه.

وروى عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال : سمعت عليا التالي وهو يقول: ما لقي أحد من الناس ما لقيت ثم بكى الله . وروى الشعبي عن شريح

334

ص: 334

بن هانئ قال: قال علي الله : اللهم إني أستعديك على قريش، فإنهم قطعوا رحمي، وأصغوا إنائي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي). إعداد عائشة لحرب علي

الزط الوثنيون الذين ألهوه ولم يتوبوا

حركة عائشة إلى البصرة

الله

إسكان عائشة وإرجاعها

1 . روى الكليني في الكافي (259/7) عن الباقر الله قال: ( إن أمير المؤمنين الله لما وصول عائشة إلى البصرة

فرغ من أهل البصرة أتاه سبعون رجلاً من الزط، فسلموا عليه وكلموه بلسانهم فرد عليهم بلسانهم ، ثم قال لهم: إني لست كما قلتم أنا عبدالله مخلوق، فأبوا عليه حركة الإمام إلى البصرة وقالوا: أنت هو ! فقال لهم : لئن لم تنتهوا وترجعوا عما قلتم في وتتوبوا إلى الله وصوله له إلى البصرة عز وجل لأقتلنكم، فأبوا أن يرجعوا ويتوبوا ، فأمر أن تحفر لهم آبار فحفرت، ثم هزيمة جيش عائشة

خرق بعضها إلى بعض، ثم قذفهم ثم خمر رؤوسها، ثم ألهبت النار في بئر منها ليس فيها أحد منهم ، فدخل الدخان عليهم فيها، فماتوا). أقول: ضعفوا أصل هذا الحديث بإرساله، وبصالح بن سهل المتهم بالكذب. من أخبار عائشة وجملها

لكن له عدة مؤيدات توجب الإطمئنان بأصله، ويكفي لذلك أن الصدوق نسبه في الفقيه (150/3) الى الإمام الباقر الله على نحو القطع، فقال : وقال أبو جعفر إن عليا الله لما فرغ من أهل البصرة أتاه سبعون رجلاً من الزط.. الخ. ثم رد الصدوق قول القائلين: لو لم يكن علي رباً لما عذبهم بالنار، فقال لو كان رباً شهداء مع الإمام الله

لما احتاج الى حفر الحفر ، فلا ينحصر من يعذب بالنار بالله تعالى. وذكر أن النار حرام على الموحدين، وقد عذبهم بها ليقول لهم إنهم غير موحدين، فهم كمن عبد وثناً!

السلايةِ

الإمام الله في البصرة

مشاهد من حرب الجمل

من

خطب علي

كما يكفي لتأييده صحيحة هشام بن سالم، عن الصادق الثاني (الكافي: 257/7) قال: الكذب في حرب الجمل

( أتى قوم أمير المؤمنين الله فقالوا: السلام عليك يا ربنا ! فاستتابهم فلم يتوبوا، فحفر لهم حفيرة وأوقد فيها ناراً وحفر حفيرة إلى جانبها أخرى وأفضى بينهما، من شعر حرب الجمل فلما لم يتوبوا ألقاهم في الحفيرة، وأوقد في الحفيرة الأخرى، حتى ماتوا ». الإمام يواصل الفتوحات

وما رواه في المناقب (228/1) قال : ( وروي أن سبعين رجلاً من الزط أتوه الثانية بعد الإمام ينقل العاصمة

قتال أهل البصرة يدعونه إلهاً [ فكلمهم] بلسانهم وسجدوا له قال لهم: ويلكم لا

335

ص: 335

تفعلوا إنما أنا مخلوق مثلكم، فأبوا عليه فقال : فإن لم ترجعوا عما قلتم في وتتوبوا إلى الله لأقتلنكم، قال: فأبوا فخد لهم أخاديد، وأوقد ناراً، فكان قنبر يحمل الرجل بعد الرجل على منكبه فيقذفه في النار، ثم قال:

إني إذا أبصرت أمراً منكرا أوقدت ناراً ودعوت قنبرا

ثم احتف-رت حفراً فحفرا وقنبر يخطم خطماً منكرا

وقال السيد الحميري :

قوم غلوا في علي لا أباً لهم وجشموا أنفساً في حبه تعب-ا

قالوا هو الله جل الله خالقنا من أن يكون ابن أم أو يكون أبا

فمن أدار أمور الخلق بينهم إذ كان في المهد أو في البطن محتجبا).

كما يؤيده ما رواه غيرنا، وصححه الألباني في إرواء الغليل (125/8) قال: (إن علياً أتي بناس من الزط يعبدون وثناً فأحرقهم، أخرجه النسائي وأحمد (322/1) والطبراني في الكبير(90/3)

والبيهقي (202/8) وإسناده صحيح على شرط الشيخين ).

أقول : ما تقدم كاف للحكم بأن هذه الحادثة وقعت في البصرة. ويظهر أنهم هنود عباد أوثان، سمعوا علياً الله كلمهم بلغتهم قالوا: أنت الله فأنكر عليهم ووعظهم فلم يتوبوا، ثم وضعهم في حفرة ودخن عليهم، وفي بعض الروايات أن بعضهم رجع، وبعضهم أصر فأخرجهم وقتلهم، وقد يكون أحرق جثثهم.

2 . توجد روايات أخرى مشابهة ذكرها في مسند الإمام علي الله (323/6) وفي فقه

الحدود والتعزيرات (23/4) وهي بضع روايات، ومنها روايات عبدالله بن سبأ: فقد روى في دعائم الإسلام (48/1) قال: وأتاه صلوات الله عليه قوم غلوا فيه ممن قدمنا وصفهم، واستزلال الشيطان إياهم فقالوا أنت إلهنا وخالقنا ورازقنا ومنك مبدؤنا وإليك معادنا، فتغير وجهه صلوات الله عليه وارْفَضَّ عَرَقاً، وارتعد كالسعفة، تعظيماً لجلال الله عز جلاله وخوفاً منه، وثار مغضباً ونادى بمن حوله وأمرهم بحفير فحفر ، وقال لأشبعنك اليوم لحماً وشحماً، فلما علموا أنه قاتلهم قالوا: لئن قتلتنا

336

ص: 336

فأنت تحيينا، فاستتابهم فأصروا على ما هم عليه، فأمر بضرب أعناقهم، وأضرم ناراً في ذلك الحفير فأحرقهم فيه، وقال صلوات الله عليه:

إعداد عائشة لحرب علي

حركة عائشة إلى البصرة

لما رأيت الأمر أمراً منكرا أضرمت ناري ودعوت قنبرا وهذا من مشهور الأخبار عنه الله ، وكان في أعصار الأئمة عالم من ولده مثل ذلك ما يطول الخبر بذكرهم ، كالمغيرة بن سعيد لعنه الله ، وكان من أصحاب وصول عائشة إلى البصرة أبي جعفر محمد بن علي صلوات الله عليه ودعاته، فاستزله الشيطان فكفر وادعى حركة الإمام إلى البصرة النبوة وزعم أنه يحيي الموتى، وزعم أن أبا جعفر صلوات الله عليه إله ، تعالى الله وصوله فيه إلى البصرة

رب العالمين ، وزعم أنه بعثه رسولاً! وتابعه على قوله كثير من أصحابه سموا المغيرية باسمه ، وبلغ ذلك أبا جعفر محمد بن علي صلوات الله عليه ولم يكن هزيمة جيش عائشة له سلطان كما كان لعلي فيقتلهم كما قتل علي صلوات الله عليه الذين ألحدوا إسكان عائشة وإرجاعها فيه ، فلعن أبو جعفر صلوات الله عليه المغيرة وأصحابه ، وتبرأ منه ومن قوله ومن أصحابه ، وكتب إلى جماعة أوليائه وشيعته ، وأمرهم برفضهم والبراءة من أخبار عائشة وجملها إلى الله منه-م ول-ع-ن-ه ولعنهم ، ففعلوا، فسماهم المغيرية الرافضة لرفضهم إياه الإمام الله في البصرة . وكانت بينه وبينهم وبين أصحابه مناظرة وخصومة واحتجاج ، يطول

مشاهد من حرب الجمل

من

خطب علي

ذكرها ، واستحل المغيرة وأصحابه المحارم كلها وأباحوها ، وعطلوا الشرائع وتركوها ، وانسلخوا من الإسلام جملة ، وبانوا من جميع شيعة الحق كافة وأتباع شهداء مع الإمام الأئمة ، وأشهر أبو جعفر محمد بن علي صلوات الله عليه لعنهم والبراءة منهم . ثم كان أبو الخطاب في عصر جعفر بن محمد صلوات الله عليه من أجل دعاته، فأصابه ما أصاب المغيرة ، فكفر وادعى أيضاً النبوة، وزعم أن جعفر بن محمد الكذب في حرب الجمل صلوات الله عليه إلهُ تعالى الله عن قوله، واستحل المحارم كلها ورخص فيها، من شعر حرب الجمل وكان أصحابه كلما ثقل عليهم أداء فريضة أتوه وقالوا: يا أبا الخطاب خفف

الإمام في واصل الفتوحات

علينا فيأمرهم بتركها حتى تركوا جميع الفرائض، واستحلوا جميع المحارم وارتكبوا المحظورات، وأباح لهم أن يشهد بعضهم لبعض بالزور، وقال: من الإمام ينقل العاصمة عرف الإمام فقد حل له كل شئ كان حرم عليه، فبلغ أمره جعفر بن محمد الشلة

337

ص: 337

فلم يقدر عليه بأكثر من أن لعنه وتبرأ منه، وجمع أصحابه فعرفهم ذلك، وكتب إلى البلدان بالبراءة منه، وباللعنة عليه...الخ.).

أقول : إن ظاهرة تأليه علي والأئمة المعصومين ع تدل على تفوقهم ، وأن الناس

رأوا منهم معجزات لم يروها من غيرهم، فضاقت عقولهم فألهوهم!

وكذا

روى الحسين بن عبد الوهاب في كتاب عيون المعجزات / 11: (عن عمار الساباطي قال: قدم أمير المؤمنين عالية المدائن فنزل بإيوان كسرى وكان معه دلف ابن منجم کسرى، فلما ظل الزوال فقال لذلف قم معي، وكان معه جماعة من أهل ساباط فما زال يطوف في مساكن كسرى، ويقول :لدلف: كان لكسرى هذا المكان لكذا فيقول : هو والله كذلك، فما زال على ذلك حتى طاف المواضع بجميع من كانوا معه، وذلف يقول ومولاي كأنك وضعت الأشياء في هذه الأمكنة ! ثم نظر الله إلى جمجمة نخرة فقال لبعض أصحابه خذ هذه الجمجمة وكانت مطروحة وجاء الله إلى الإيوان

وجلس فيه وجاء بطست وصب فيه ماء وقال له : دع هذه الجمجمة في الطست ثم قال : أقسمت عليك يا جمجمة أخبريني من أنا ومن أنت؟ فنطقت الجمجمة بلسان فصيح فقالت: أما أنت فأمير المؤمنين وسيد الوصيين وإمام المتقين في الظاهر والباطن، وأعظم من أن توصف. وأما أنا فعبدالله وابن أمة الله كسرى أنوشيروان! فانصرف القوم الذين كانوا معه من أهل ساباط إلى أهاليهم وأخبروهم بما كان وبما سمعوه من الجمجمة، فاضطربوا واختلفوا في معنى أمير المؤمنين الله وحضروه وقال بعضهم: قد أفسد هؤلاء قلوبنا بما أخبروه عنك، وقال بعضهم فيه مثل ما قال النصارى في المسيح، ومثل ما قال عبد الله بن سبأ وأصحابه ! فأحضرهم وقال: ما حملكم على ما قلتم؟ قالوا: سمعنا كلام الجمجمة النخرة ومخاطبتها إياك، ولا يجوز ذلك إلا لله تعالى، فمن ذلك قلنا ما قلنا ! فقال الله : إرجعوا عن كلامكم وتوبوا إلى الله . فقالوا: ما كنا نرجع عن قولنا فاصنع ما أنت صانع ! فأمر الله أن تضرم لهم النار فحرقهم، فلما احترقوا قال: إسحقوهم وذروهم في الريح فسحقوهم وذروهم في الريح ، فلما كان اليوم الثالث من

338

ص: 338

إحراقهم دخل إليه أهل الساباط وقالوا: الله الله في دين محمد! إن الذين أحرقتهم بالنار قد رجعوا إلى منازلهم بأحسن ما كانوا ! فقال له : أليس إعداد عائشة لحرب علي قد أحرقتموهم بالنار وسحقتموهم وذريتموهم في الريح؟ قالوا: بلى. حركة عائشة إلى البصرة

قال: أحرقتهم والله أحياهم. فانصرف أهل الساباط متحيرين، وقالوا مثل ما

حركة الإمام إلى البصرة

وصول عائشة إلى البصرة

قال عبد الله بن سبأ وأصحابه، وانتهى أمرهم إلى ما كان انتهى إليه أمر عبد الله بن سبأ وأصحابه، والى ما أخبر عنهم). أقول : لم يصحح النقاد هذه الرواية لأن في سندها مجاهيل، وإن صحت فهي

امتحان للناس بأمير المؤمنين الله كما امتحنوا في عيسى ويظهر أنها صحيحة عند العالم الجليل الفضل بن شاذان، فقد أكمل روايتها هزيمة جيش عائشة

وصوله فيه إلى البصرة

في الإيضاح / 77 ، فقال : ( واختلفوا في معنى أمير المؤمنين الله فقال المخلصون إسكان عائشة وإرجاعها منهم إن أمير المؤمنين الثالة عبد الله ووليه ووصي رسول الله ، وقال بعضهم: بل هو النبي ! وقال بعضهم : بل هو الرب، وهم مثل عبد الله بن سبأ من أخبار عائشة وجملها وأصحابه، وقالوا: لولا أنه الرب وإلا كيف يحيي الموتى! قال: فسمع بذلك الإمام الشالية في البصرة أمير المؤمنين فضاق صدره وأحضرهم وقال: يا قوم غلب عليكم الشيطان،

28

الله الله

مشاهد من حرب الجمل

من

خطب علي

إن أنا إلا عبد الله أنعم علي بإمامته وولايته ووصية رسوله ، فارجعوا عن الكفر فأنا عبدالله و ابن عبده، ومحمد خير مني وهو أيضاً عبد الله، وإن شهداء مع الإمام لله نحن إلا بشر مثلكم، فخرج بعض من الكفر وبقي قوم على الكفر ما رجعوا فألح عليهم أمير المؤمنين عالية بالرجوع فما رجعوا فأحرقهم بالن--ار ! وتفرق منهم قوم في البلاد وقالوا: لولا أن فيه من الربوبية، وإلا فما كان أحرقنا بالنار الكذب في حرب الجمل فنعوذ بالله من الخذلان

من شعر حرب الجمل

4 . وروى في مسند الإمام علي الله (7 / 357): (عن عبيد بن شريك العامري، الإمام واصل الفتوحات

عن أبيه قال: أتي علي بن أبي طالب الله فقيل إن هاهنا قوماً على باب المسجد الإمام ينقل العاصمة

يزعمون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟ قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا، فقال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم، آكل الطعام كما تأكلون

339

ص: 339

وأشرب مما تشربون، إن أطعته أثا بني إن شاء، وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا فطردهم، فلما كان من الغد غدوا عليه، فجاء قنبر، فقال: والله رجعوا يقولون ذلك الكلام !

فقال : أدخلهم علي، فقالوا له مثل ما قالوا وقال لهم مثل ما قال، إلا أنه قال: إنكم ضالون مفتونون، فأبوا، فلما كان اليوم الثالث أتوه فقالوا له مثل ذاك القول فقال: والله لئن قلتم لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا أن يتموا على قولهم، فخد لهم أُخدوداً بين باب المسجد والقصر، وأوقد فيه ناراً وقال : إني طارحكم فيها أو ترجعون، فأبوا،

بهم فيها).

فقذف

ه . قال ابن عبد البر في التمهيد (317/5): (روينا من وجوه أن علياً إنما أحرقهم بعد قتلهم ذكر العقيلي قال: حدثنا محمد بن إسماعيل قال: حدثنا شبابة وذكره أبو زید عمر بن شبة قال: حدثني محمد بن حاتم :قال حدثنا شبابة بن سوار قال حدثنا خارجة بن مصعب عن سلام بن أبي القاسم، عن عثمان بن أبي عثمان الأنصاري قال: جاء ناس من الشيعة إلى علي فقالوا: يا أمير المؤمنين أنت هو ! قال: من أنا؟ قالوا: أن--ت ه--و ! قال: ويلكم من أنا؟ قالوا: أنت ربنا ! قال: ويلكم إرجعوا فتوبوا فأبوا فضرب أعناقهم، ثم قال يا قنبر ائتني بحزم الحطب فحفر لهم في الأرض أخدوداً، فأحرقهم بالنار، ثم قال:

لما رأيت الأمر أمراً منكرا ضرمت ناري ودعوت قنبرا

6 . وفي طبقات المحدثين بأصبهان (343/2): (عن عيسى بن أبي عثمان قال: جاء نفر من الشيعة (!) إلى علي فقالوا: أنت هو . قال: من أنا؟ قالوا: أنت هو. قال: ويلكم من أنا ؟ قالوا : أنت ربنا ! قال: إرجعوا وتوبوا، فأبوا فضرب أعناقهم، ثم خد لهم في الأرض أخدوداً فقال: يا قنبر إيتني بحزم الحطب، فأتاه بحزم الحطب، فأحرقهم بالنار، ثم قال : لما رأيت اليوم أمراً منكراً أضرمت ناري ودعوت قنبرا

ونحوه في تاريخ دمشق (475/42) وتاريخ الذهبي (643/3)

340

ص: 340

هذا، وسيأتي ذكر عبد الله بن سبأ في فصل المكذوبات في حرب الجمال

النساء نواقص الإيمان نواقص العقول

إعداد عائشة لحرب علي

في خصائص الأئمة للشريف الرضي 100: (قال الله وقد فرغ من حرب الجمل: حركة عائشة إلى البصرة معاشر الناس إن النساء نواقص الإيمان، نواقص العقول، نواقص الحظوظ وصول عائشة إلى البصرة فأما نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام في أيام حيضهن . وأما نقصان عقولهن، فلا شهادة لهن إلا في الدين وشهادة امرأتين برجل . وأما حركة الإمام إلى البصرة نقصان حظوظهن ، فمواريثهن على الأنصاف من مواريث الرجال.

وقال الله : إتقوا شرار النساء، وكونوا من خيارهن على حذر، ولا تطيعوهن

في المعروف، حتى لا يطمعن في المنكر).

وصوله فيه إلى البصرة

هزيمة جيش عائشة

أقول: قد يكون قصده بالنساء هنا فلانة فهو يكني عنها، وإن صح أنه ذم للنساء، إسكان عائشة وإرجاعها فسببه أن شخصيتهن مبنية على العاطفة أكثر من العقل، ومثلهن كثير من الرجال. من أخبار عائشة وجملها

الإمام السلام في البصرة

مشاهد من حرب الجمل

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

الإمام في واصل الفتوحات

الإمام ينقل العاصمة

341

ص: 341

الفصل الحادي والستون

مشاهد من حرب الجمل

من أخبار المعركة والقتال وغيرها

1 . في الدر النظيم لابن حاتم (1 / 250) : (وتقدم عمار بن ياسر رضي الله عنه على فرس له ذنوب، يجب عليها أمام الكتيبة، ولما دنا عمار في كتيبته نظر إليها الزبير فقال : كتيبة من هذه؟ قالوا كتيبة عمار. فدعا الزبير فتى من الأزد يقال له الضحاك بن عدس، على فرس له جواد فقال له : أدن من القوم فانظر هل ترى فيهم عماراً ؟ فدنا الفتى ونادى: ألا كفوا فإني رسول، فكفوا عنه حتى دنا، فنظر إلى عمار ثم رجع فقال : يا أبا عبدالله هذا عمار صاحب الفرس الأدهم قد استثبته. فقال له الزبير : هل رأيت بأنفه خرماً؟ فعاد الفتى إليهم، وعرف عماراً أنه رسول، فهدر عن لثامه وحسر عن رأسه، فنظر الفتى إلى خرمه، ثم رجع إلى الزبير فأخبره، فأهوى الزبير إلى حقوه وجعل يقول : واجليل مصيبتاه، واقطع ظهراه، واسو الوقوف بين يدي الله عز وجل غداً ؟! فقال له الفتى مالك يا أبا عبدالله؟ فقال: خير يا ابن عم. فقلب الفتى ترسه وركض على فرسه حتى لحق بعلي الله فأخبره بذلك، ثم أنشأ يقول:

قال الزبير ولم أعلم بفتنته الله درك هل في القوم عمار فانظ-رف--داً لك نفسي هل ترى خرماً في الأنف منه وفي الحوباء إضمار

فاعتمت جمعهم حتى وقعت به ثم استبنت وللخيلين إعصار خرم بأنف أبي اليقظان فانكشفت عنه الغمامة إذ مخ الفتى رَارُ لما رأيت الفتي أبدت ندامته حولت ترسي وفي تركيه إعذار قالوا لبست بها عاراً فقلت لهم سيان ذا العار بعد الموت والنار

ءتاه من

ص: 342

.2. في الدر النظيم (350/1) : ( وحمل مالك بن الحارث الأشتر، ثم تقدم عدي :

بن حاتم الطائي رضي الله عنه، وتقدم شريح بن هاني في بني الحارث بن كعب، إعداد عائشة لحرب علي وكان إذا قاتل قاتل بهم وبأهل نجران يتقلب كالفحل المزبد، وهو يقول: حركة عائشة إلى البصرة

قدماً بني الحارث قدماً لا شلل لا يعش إلا ضرب أصحاب الجمل

بالبيض والطعن بأطراف الأسل إن التراخي في الوغى من الفشل

وصول عائشة إلى البصرة

حركة الإمام إلى البصرة

والقولُ لا ينفع إلا بالعمل والغزو لا ينفع إلا بالفعل

خوضوا سريعاً تدركوا عظم الأمل مالكم بعد علي من بدل وصوله إلى البصرة

إذا قضيتم ما عليكم فبجل شدوا عليهم شدة الليث الأزل هزيمة جيش عائشة

ثم تقدم زجر بن قيس الجعفي في جعف وقضاعة ، وهو يقول: أضربكم حتى تقروا لعلي خير قريش كلها بعد النبي

بَعَدِي

إسكان عائشة وإرجاعها

من أخبار عائشة وجملها

من عز بالعلم وسماه الوصي تبدأ بالأزد ونثني بعدي الإمام خير في البصرة 3. وفي مناقب الخوارزمي / 186): (وجال الأشتر بين الصفين وقتل من شجعان أهل الجمل جماعة واحداً بعد واحد مبارزة ، وكذلك عمار بن ياسر، ومحمد بن مشاهد من حرب الجمل أبي بكر، واشتبكت الحرب بين العسكرين واقتتلوا قتلاً شديداً لم يسمع بمثله، شهداء مع الإمام الله وقطعت على خطام الجمل ثماني وتسعون يداً ، وصار الهودج كأنه القنفذ مما فيه من النبل ،والسهام، واحمرت الأرض بالدماء، وعقر الجمل من ورائه، فعج ورغا فقال علي : عرقبوه فإنه شيطان، ثم التفت إلى محمد بن أبي بكر وقال: أنظر الكذب في حرب الجمل إذا عُرقب الجمل فأدرك أختك فوارها، وقد عُرقب الجمل فوقع لجنبه وضرب من شعر حرب الجمل

بجرانه الأرض، ورغا رغاء شديداً، وبادر عمار بن ياسر فقطع أنساع الهودج.

من

خطب علي

الله

وأقبل على الله على بغلة رسول الله فقرع الهودج برمحه، ثم قال: يا عائشة الإمام واصل الفتوحات أهكذا أمرك رسول الله ؟ فقالت عائشة : أبا الحسن قد ظفرت فأحس---ن

الإمام ينقل العاصمة

و ملكت فاسجح، وقال علي الله لمحمد بن أبي بكر: شأنك بأختك فلا يدنو

343

ص: 343

أحد سواك، فأدخل محمد يده إلى عائشة فاحتضنها، ثم قال: أصابك شي؟ قالت لا، ولكن من أنت ويحك فقد مسست مني ما لا يحل لك؟ فقال محمد: أسكتي فأنا محمد أخوك، فعلت بنفسك ما فعلت، وعصيت ربك وهتكت سترك، وأبحت حرمتك، وتعرضت للقتل، ثم أدخلها البصرة ، وأنزلها في دار عبدالله بن خلف الخزاعي).

4 . وتقدم عامر بن شداد الأزدي فأسره الأشتر ومضى به الى علي الله فبايعه . وحمل فروة بن نوفل الأشجعي صاحب النخيلة. وكان للأشتر ، وهو مالك بن

الحارث، غناء عظيم.

ه . في الدر النظيم (352/1) : (ثم تقدم يزيد بن محنفة الجعفي، وتقدم عبدالله بن

الحارث أخو الأشتر، وحمل الأفوه بن قدامة الأزدي، وهو يقول:

إني إذا الحرب تعالى أمرها لم يعدني ضحضاحها وغمرها

باشرتها حتى يبوخ جمرها

الى علي حلبها ودرها

الى علي نفعها وضرها الى علي خيرها وشرها

حتى تقروا أنه أبرها

6 . وتقدم أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري، ثم تقدم عقبة بن عامر الأنصاري وكان بدرياً عقبياً. ثم تقدم خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين، فتكلم بكلام طويل يحض فيه على قتال الفئة الباغية.

وتقدم الحجاج بن غزية الأنصاري. وحمل زياد بن لبيد الأنصاري. ثم تقدم زيد بن

أرقم الأنصاري، وتقدم خالد بن أبي خالد.

7. وفي كتاب الجمل للمفيد / 194 : (وروی محمد بن عبدالله بن عبید الله عن عمر بن دينار عن صفوان قال لما تصاف الناس يوم الجمل صاح صايح من أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الله : يا معاشر شباب قريش، أراكم قد لججتم وغلبتم على أمركم هذا، وإني أنشدكم الله أن تحقنوا دماءكم، ولا تقتلوا أنفسكم، إتقوا الأشتر

344

ص: 344

النخعي وجندب بن زهير العامري، فإن الأشتر يشمر درعه حتى تتبعوا أثره،

وإن جندباً يخرم درعه حتى يشمر عنه وفي رايته علامة حمراء. فلما التقى الناس إعداد عائشة لحرب علي أقبل الأشتر وجندب قبال الجمل يرفلان في السلاح، حتى قتلا عبد الرحمن بن حركة عائشة إلى البصرة عتاب بن أسيد، ومعبد بن زهير بن خلف بن أمية. وعمد جندب لابن الزبير فلما عرفه قال : أتركك لعائشة !

الرحمن،

وصول عائشة إلى البصرة

وروی محمد بن عبد الله بن عبيد بن وهب قال : قطعت يوم الجمل يد عبد حركة الإمام إلى البصرة

وفيها الخاتم، فأخذه نسر فطرحه باليمامة ، فأخذه أهل اليمامة واقتلعوا وصوله إلى البصرة

-ره وكان ياقوتاً، فابتاعه رجل منهم بخمس مائة دينار، فقدم به مكة فباعه بربح عظيم. وروى محمد بن موسى عن محمد بن إبراهيم عن أبيه قال سمعت هزيمة جيش عائشة معاذ بن عبد الله التميمي وكان قد حضر الجمل يقول : لما التقينا واصطففنا إسكان عائشة وإرجاعها نادى منادي علي بن أبي طالب الله : يا معاشر قريش إتقوا الله على أنفسكم فإني أعلم أنكم قد خرجتم وظننتم أن الأمر لا يبلغ إلى هذا فالله الله في أنفسكم من أخبار عائشة وجملها فإن السيف ليس له بقيا فإن أحببتم فانصرفوا حتى نُحاكم هؤلاء القوم، الإمام له في البصرة وإن أحببتم فإليَّ إنكم آمنون بأمان الله . قال فاستحيينا أشد الحياء وأبصرنا ما

مشاهد من حرب الجمل

نحن فيه ، ولكن الحفاظ حملنا على الصبر مع عائشة، حتى قتل من قتل منا ! فو الله لقد رأيت أصحاب علي الله وقد وصلوا إلى الجمل، وصاح منهم شهداء مع الإمام

صايح: أعقروه وه فعقروه، ونادى عليه : من طرح السلاح فهو آمن، ومن

دخل بيته فهو آمن! فوالله ما رأيت أكرم عفواً منه).

من

خطب علي

الله

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

اله

وروى الطبري (547/3): (قال أُعْلِمَ أهل المدينة بيوم الجمل يوم الخميس قبل أن تغرب الشمس من نسر مر بما حول المدين-ة مع-ه ش-ئ متعلق-ه فتأمل-ه الن-اس ف-وق-ع ف-إذا ك-ف فيها خاتم نقشه عبد الرحمن بن عتاب الإمام واصل الفتوحات وجفل من بين مكة والمدينة من أهل البصرة من قرب من البصرة أو الإمام ينقل العاصمة بعد، وقد علموا بالوقعة مما ينقل إليهم النسور من الأيدي والأقدام).

345

ص: 345

. وروى الطبري (538/3) : ( عن الأعمش عن عبد الله بن سنان الكاهلي قال : لما كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى فنيت، وتطاعنا بالرماح حتى تشبكت في

صدورنا وصدورهم حتى لو سيرت عليها الخيل ،لسارت، ثم قال علي: السيوف يا أبناء المهاجرين.. فما دخلت دار الوليد قط فسمعت أصوات القصارين يضربون إلا

ذكرت قتالهم!

9 . وتقدم الحارث بن حسان الذهلي فنادى: يا بني ثعلبة أشيفوا نحوي واسمعوا قولي، فاجتمع إليه بكر بن وائل وأهل الكوفة فقال : يا قوم إني لما قدمت على رسول الله و رأيت أصحابه، لم أر أحداً من الناس عنده بمنزلة صاحبكم، أعني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الله . كان أدنى إليه منهم مجلساً وأمس-ه-م ب-ه رحم-اً، وأفضلهم عنده مكاناً، وكان وزيره وأمينه ،ووصيه ، فمن كان ناصراً لرسول الله له في حياته فلينصر هذا الرجل اليوم، فوالله إن ناصر هذا اليوم كناصر رسول الله قبل اليوم !

10 . وتقدم أبوأمية الأصم وهو يقول:

ه-ذا ع-لي قائد يرضى به مولى رسول الله من أصحابه

من عوده الباقي ومن نصابه ومن مواسيه ومن إينابه

11 . قال في الدر النظيم / 352: ( وحمل عبد الرحمن الكندي وهو من أولاد الملوك وكانت الراية مع حجر بن عدي، وعبد الرحمن يرتجز ويقول: قد حمل الراية خير كنده حجز وحجر لعلي عُدَّه متوج في قومه بالنج-ده قد قاتل الشرك وأهل الرده

12 . وخرج رجل من الأزد من أصحاب الجمل يضرب بسيفه بين الصفين ويقول:

أقتلهم ولو أرى أبا الحسن ضربته بصارم مثل اللبن

ذاك الذي في الحادثات قد قرن ذاك الذي يطلب فينا بالإحن

ص: 346

فحمل عليه حجر بن عدي وهو يقول :

يا أيها السائل ما علي أثبت فأنت رجل شقي

ه-ذا ع-ل-ي وه-و ال-وصي آخ-اه

يوم الحرة النبي

وقال هذا بعدي الولي وع--اه واع ونسي الشقي

ثم شد عليه حجر بن عدي فضربه ضربة خر منها منكساً .

13 . قال البلاذري (2 / 244) : ( وجعل بعض بني ضبة يقول: نحن بنوضبة لا نفرّ حتى نرى جماجماً تخرّ

صبراً فما يصبر إلا الحر

وقتل يومئذ ثمامة بن المثنى بن حارثة الشيباني ، فقال الأعور الشني: یا قاتل الله أقواماً هم قتلوا يوم الخريبة علباء وحسانا

وابن المثنى أصاب السيف مقتله وخير قرائهم زيد بن صوحانا

إعداد عائشة لحرب علي

حركة عائشة إلى البصرة

وصول عائشة إلى البصرة

حركة الإمام له إلى البصرة

وصوله إلى البصرة

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة

14 . قال البلاذري (245/2) : ( حدثني الواقدي، عن هشام بن ،بهرام حدثنا مشاهد من حرب الجمل

وكيع عن سفيان ، عن محول بن راشد عن العيزار بن حريث قال: قال زيد بن صوحان يوم الجمل: لا تغسلوا عني دماً ولا تنزعوا عني ثوباً، وانزعوا الخفين، شهداء مع الإمام وارمسوني في الأرض رمساً، فإني محاج أحاج. قاتل طلحة بن عبيد الله يومئذ قتالاً شديداً، فشدّ عليه جندب بن عبدالله

الأزدي، فلما أمكنه أن يطعنه تركه، كراهة لأن يقتله !

وقال الهيثم بن عدي: جعل جندب بن زهير يرتجز يومئذ ويقول: يا أمّنا أعقُّ أمّ نعلمُ والأم تغذو وُلدَه-ا وترحم

وجعل أيضاً يرتجز أو غيره ويقول:

قلنا لها وهي على مهواة إن لنا سواك أمهات

في مسجد الرسول ثاويات.

من

خطب علي

الله

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

الإمام له واصل الفتوحات

الإمام ينقل العاصمة

347

348

ص: 347

15 . وفي شرح النهج (253/1) ملخصاً: (قال أبو الحسن علي بن محمد بن سيف المدائني، ومحمد بن عمر الواقدي: ما حفظ رجز قط أكثر من رجز قيل يوم الجمل، وأكثره لبني ضبة والأزد، الذين كانوا حول الجمل يحامون عنه. ولقد كانت الرؤوس تندر عن الكواهل، والأيدي تطيح من المعاصم، وأقتاب البطن تندلق من الأجواف، وهم حول الجمل كالجراد الثابتة لا تتحلحل ولا تتزلزل، حتى لقد صرخ الله بأعلى صوته : ويلكم أعقروا الجمل فإنه شيطان! ثم قال: أعقروه وإلا فنيت العرب، لا يزال السيف قائماً وراكعاً حتى يهوي هذا البعير إلى الأرض،

فصمدواله حتى عقروه، فسقط وله رغاء شديد، فلما برك كانت الهزيمة . ومن الأراجيز المحفوظة قول بعضهم: نحن بنو ضبة أصحاب الجمل ننازل الموت إذا الم-وت نزل

ننعى ابن عفان بأطراف الأسل ردوا علينا شيخنا ثم بجل

الموت أحلى عندنا من العسل لا عار في الموت إذا حان الاجل

إن علياً هو من شر البدل إن تعدلوا بشيخنا لا يعتدل

أين الوهاد وشماريخ القلل

فأجابه رجل من عسكر الكوفة من أصحاب أمير المؤمنين المثالية : نحن قتلنا نعثلاً فيمن قتل أكثر من أكثر فيه أو أقل

أنى

يرد نعثل وقد قحل نحن ضربنا وسطه حتى انجدل

الحكمه حكم الطواغيت الأول آثر بالف وجافي في العمل

فأبدل الله به خير بدل إني امرؤ مستقدم غير وكل

مشمر للحرب معروف بطل

ومن الرجز المشهور المقول يوم الجمل قاله أهل البصرة:

ص: 348

يا أمنا عائش لا تراعي كل بنيك بطل المصاع

ينعى ابن عفان إليك ناعي كعب بن سور كاشف القناع

فارضي بنصر السيد المطاع والأزد فيها كرم الطباع

إعداد عائشة لحرب علي

حركة عائشة إلى البصرة

وصول عائشة إلى البصرة

قالوا: وخرج من أهل البصرة شيخ صبيح الوجه يحض الناس على الحرب ويقول : حركة الإمام الله إلى البصرة

يا معشر الأزد عليكم أمكم فإنها صلاتكم وصومكم

والحرمة العظمى التي تعمكم فأحضروها جدكم وحزمكم

وصولهم إلى البصرة

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

لا يغلبن سم العدو سمكم إن العدو إن علاكم زمكم

وخصكم بجوره وعمكم لا تفضحوا اليوم فداكم قومكم قال المدائني والواقدي: وهذا الرجز يصدق الرواية أن الزبير وطلحة قاما في الناس، من أخبار عائشة وجملها

فقالا : إن علياً إن يظفر فهو فناؤكم يا أهل البصرة فاحموا حقيقتكم، فإنه لا يبقي حرمة

الإمام في البصرة

إلا انتهكها ، ولا حرياً إلا هتكه ، ولا ذريةً إلا قتلها ، ولا ذوات خدر إلا سباهن ، فقاتلوا مقاتلة من يحمي عن حريمه ، ويختار الموت على الفضيحة يراها في أهله مشاهد من حرب الجمل وقال أبو مخنف : لم يقل أحد من رجاز البصرة قولاً كان أحب إلى أهل الجمل شهداء مع الإمام الله

من قول هذا الشيخ ! استقتل الناس عند قوله، وثبتوا حول الجمل وانتدبوا، فخرج عوف بن قطن الضبي، وهو ينادي: ليس لعثمان ثأر إلا علي وولده، فأخذ خطام

الجمل، وقال:

يا أم يا أم خلامني الوطن لا أبتغي القبر ولا أبغي الكفن

من هاهنا محشر عوف بن قطن إن فاتنا اليوم على فالغبن

أو فاتنا ابناه حسين وحسن إذا أمت بطول هم وحزن

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

الإمام في واصل الفتوحات

الإمام ينقل العاصمة

ثم تقدم فضرب بسيفه حتى قتل . وتناول عبد الله بن أبزى خطام الجمل ، وكان

كل من أراد الجد في الحرب وقاتل قتال مستميت يتقدم إلى الجمل فيأخذ بخطامه

،

349

ص: 349

ثم شد على عسكر على الله، وقال:

أضربهم ولا أرى أبا حسن ها إن هذا حزن من الحزن فشد عليه على أمير المؤمنين بالرمح فطعنه فقتله، وقال: قد رأيت أبا حسن فكيف رأيته ! وترك الرمح فيه).

16 . في كتاب الجمل للمفيد/ 199: وروى الواقدي عن ابن الزبير قال خرجت عائشة يوم البصرة وهي على جملها قد اتخذت عليه خدراً، ودقته بالدروع خشية أن يخلص إليها النبل ، وسار إليهم علي بن أبي طالب حتى التقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، وأخذ بخطام الجمل يومئذ سبعون رجلاً من قريش كلهم قتل، وخرج مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير ورأيتهما جريحين ، فلما قتلت تلك العصابة من قريش أخذ رجال كثير من بني ضبة بخطام الجمل فقتلوا عن آخرهم، ولم يأخذ بخطامه أحد إلا قتل، حتى غرق الجمل بدماء القتلى، وتقدم محمد بن أبي بكر فقطع بطان الجمل واحتمل الخدر ومعه أصحاب ل--ه، وفيه عائشة حتى أنزلوها بعض دور البصرة، وولى الزبير منهزماً، فأدركه ابن جرموز فقتله.

17

17 . وفي شرح النهج (258/1): (ومن كلماته الفصيحة الثلاه في يوم الجمل، ما رواه الكلبي عن رجل من الأنصار قال بينا أنا واقف في أول الصفوف يوم الجمل، إذ جاء علي الشلالة فانحرفت إليه فقال: أين مَثْرَى القوم؟ فقلت: هاهنا، نحو عائشة. قال الكلبي: يريد أين عددهم، وأين جمهورهم وكثرتهم؟ والمال الثري على فعيل هو الكثير، ومنه رجل ثروان وامرأة ثروى، وتصغيرها ثريا والصدقة مثراة للمال، أي مكثرة له. قال أبو مخنف وبعث علي الله إلى الأشتر : أن احمل على ميسرتهم ، فحمل عليها وفيها هلال بن وكيع، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وقُتل هلال قتله الأشتر، فمالت الميسرة إلى عائشة فلاذوا بها، وعظمهم بنو ضبة وبنو عدي، ثم عطفت الأزد وضبة وناجية وباهلة إلى الجمل فأحاطوا به، واقتتل الناس حوله قتالاً شديداً، وقتل كعب بن

سور قاضى البصرة، جاءه سهم غرب فقتله وخطام الجمل في يده، ثم قتل عمرو بن

350

ص: 350

يثربي الضبي، وكان فارس أصحاب الجمل وشجاعهم، بعد أن قتل كثيراً من أصحاب علي ال .. وقال قوم: إن عمراً لما قتل من قتل، وأراد أن يخرج لطلب إعداد عائشة لحرب علي البراز، قال للأزد : يا معشر الأزد، إنكم قوم لكم حياء وبأس، وإني قد وترت حركة عائشة إلى البصرة القوم وهم قاتلي، وهذه أمكم نصرها دين، وخذلانها عقوق، ولست أخشى أن أقتل حتى أصرع، فإن صرعت فاستنقذوني. فقالت له الأزد: ما في هذا الجمع وصول عائشة إلى البصرة أحد نخافه عليك إلا الأشتر قال: فإياه أخاف. قال أبو مخنف فقيضه الله له، حركة الإمام إلى البصرة وقد أعلما جميعاً، فارتجز الأشتر إني إذا ما الحرب أبدت نابها وأغلقت يوم الوغى أبوابه--ا

ومزقت من حَنَقٍ أثوابها كنا قداماها ولا أذنابها

ليس العدو دوننا أصحابها من ها به-ا ال-ي-وم ف-ل--ن أهابها

لا طعنها أخشى ولا ضرابها

وصوله إلى البصرة

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

من أخبار عائشة وجملها

ثم حمل عليه فطعنه فصرعه، وحامت عنه الأزد فاستنقذوه، فوثب وهو وقيذُ الإمام خير في البصرة

ثقيل ، فلم يستطع أن يدفع عن نفسه.. وحضره الموت فقالوا له: دمك عند أي الناس؟ فقال: أما الأشتر فلقيني وأنا كالمهر الأرن فعلا حده حدي ، ولقيت مشاهد من حرب الجمل رجلاً يبتغي له عشرة أمثالي ، وأما البكري فلقيني وأنا لما بي، وكان يبتغى لي شهداء مع الإمام الله عشرة أمثاله، وتولى أسرى أضعف القوم وصاحبي الأشتر. قال أبو مخنف فلما انكشفت الحرب، شكرت ابنة عمرو بن يثربي الأزد، من خطب عليه

وعابت قومها، فقالت:

يا ضب إنك قد فجعت بفارس حامي الحقيقة قاتل الأقران

عمرو بن يثرب الذي فجعت به كل القبائل من بني عدنان

لم يحمه وسط العجاجة قومه وحن-ت عليه الأزد أزد عمان

فلهم على بذاك حادث نعمة

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

الإمام في واصل الفتوحات

الإمام ينقل العاصمة

ولحبهم أحببت كل يمان

351

ص: 351

لو كان يدفع عن منية هالك طول الأكف بذابل المران

أو معشر وصلوا الخطا بسيوفهم وسط العجاجة والحتوف دواني

مانيل عم-ر والح-وادث جم-ة حتى ينال النجم والقمران

لو غير الأشتر ناله لندبته وبكيته ما دام هضب أبان

لكنه

من لا يعاب بقتله أسد الأسود وفارس الفرسان أقول : يبدو أنه اشترك عدة في قتل المجرم ابن يثربي، وأنه استعاد قوته ولاذ بجمل عائشة فأمر علي الله عماراً فدعاه الى المبارزة، فنشب سيف ابن يثربي في درقة عمار فضرب رجليه وساعده آخرون على أسره، وجاء به الى أمير المؤمنين الله كما ذكرت رواية المفيد في كتاب الجمل / 184): (فنهض وقد تراجعت نفسه وهو يقول: لابد من الموت فدلوني على علي بن أبي طالب، فلئن بصرت به لأملأن سيفي من هامته، فبرز إليه عمار وهو يقول : لا تبرح العرصة يا ابن يثربي..الخ.).

18 . وفي شرح النهج (1/ 264) : ( وخرج خباب بن عمرو الراسبي، فارتجز فقال:

أضربهم ولو أرى عليا عممته أبيض مشرفيا

أربح منه معشراً غويا

فصمد له الأشتر فقتله. ثم تقدم عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن

أمية بن عبد شمس من أشراف قريش وكان إسم سيفه وَلْوَل، فقال:

أنا ابن عتاب وسيق ولول والموت دون الجمل المجلل

فحمل عليه الأشتر فقتله . ثم خرج عبدالله بن حكيم بن حزام ، من بني أسد بن عبد العزى بن قصي ، من أشراف قريش أيضاً ، فارتجز وطلب المبارزة ، فخرج إليه الأشتر فضربه على رأسه فصرعه ، ثم قام فنجا بنفسه

قالوا: وأخذ خطام الجمل سبعون من قريش قتلوا كلهم، ولم يكن يأخذ بخطام

الجمل أحد إلا سالت نفسه أو قطعت يده. وجاءت بنو ناجية فأخذوا بخطام الجمل

352

ص: 352

حركة عائشة إلى البصرة

ولم يكن يأخذ الخطام أحد إلا سألت عائشة: من هذا؟ فسألت عنهم، فقيل:بنو ناجية فقالت عائشة : صبراً يا بنى ناجية، فإني أعرف فيكم شمائل قريش إعداد عائشة لحرب علي قالوا: وبنو ناجية مطعون في نسبهم إلى قريش، فقتلوا حولها جميعاً. قال أبو مخنف وقام رجل إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين، أي فتنة أعظم من هذه إن البدرية ليمشي بعضها إلى بعض بالسيف ! فقال علي الثانية : ويحك وصول عائشة إلى البصرة أتكون فتنة أنا أميرها وقائدها ! والذي بعث محمداً بالحق وكرم وجهه، ما كذبت حركة الإمام قد إلى البصرة ولا كذبت ولا ضللت ولا ضُلَّ بي، ولا زلل-ت ولا زُل بي، وإني لعلى بينة من وصوله في إلى البصرة

ربي، بينها الله لرسوله وبينها رسوله لي ، وسأدعى يوم القيامة ولا ذنب لي، ولو كان لي ذنب لكفر عني ذنوبي ما أنا فيه من قتالهم).

هزيمة جيش عائشة

.19 . وفي أنساب الأشراف (248/2): (فمال الناس بعد مقتل طلحة إلى عائشة إسكان عائشة وإرجاعها فاقتتلوا حول الجمل، فكان أول من أخذ زمامه زفر بن الحرث الكلابي، واشتد من أخبار عائشة وجملها القتال فقتل من الأزد ألفان وخمس مائة واثنان وخمسون رجلاً، ومن بكر بن

مائة !

الإمام في البصرة

وائل ثمان مأة، ومن ضبة خمس مائة، ومن بني تميم سبع ولما رأى على أن القتال حول الجمل قد اشتد قال: أعقروا الجمل، فشد نحوه مشاهد من حرب الجمل

عدي بن حاتم الطائي أبو طريف، ومالك الأشتر ، وعمار بن ياسر، والمثنى بن شهداء مع الإمام الله

مخرمة العبدي، وعمرو بن دلجة الضبي، وأبو حية بن غزية الأنصاري..

قالوا وجاء أعين بن ضبيعة أبو النوار امرأة الفرزدق إلى الهودج وكأنه فرخ من خطب عليه مقصب مما فيه من النبل فاطلع فيه فقال : والله ما أرى إلا حميراء. فقالت: الكذب في حرب الجمل

هتك الله سترك وأبدى عورتك وقطع يدك. وانتهى علي إلى الهودج فضربه برمحه وقال : كيف رأيت صنيع الله بك يا أخت من ش--ع--ر ح-رب الجمل ارم! فقالت ملكت فاسجح. ثم قال لمحمد بن أبي بكر : إنطلق بأختك فأدخلها الإمام واصل الفتوحات البصرة. فأنزلها محمد في دار صفية بنت الحرث بن طلحة ابن أبي طلحة العبدري الإمام ينقل العاصمة

وهي أم طلحة الطلحات بن عبدالله بن خلف الخزاعي، فمكثت بها أياماً، ثم أمرها علي بالرحلة فاستأجلته أياماً فأجلها فلما انقضى الأجل أزعجها، فخرجت

353

ص: 353

إلى المدينة في نساء من أهل البصرة ورجال من قِبَله حتى نزلت المدينة وكانت تقول إذا ذُكِر يوم الجمل: وددت أني مت قبله بكذا وكذا عاماً.

وفقد علي طلحة والزبير فقال : ما أراه يقاتلكم غير هذا الهودج. فكشف عمار عرقوب الجمل فقال علي لمحمد بن أبي بكر : أدخل رأسك وانظر أحيّة هي؟ وهل

أصابها شيئ؟ ففعل ثم أخرج رأسه فقال: خموش في عضدها أو جسدها).

2 . في كتاب الجمل للمفيد / 187): (ولما قتل كعب بن سور، تقدم غلام من الحدان

يقال له وائل بن عمر، وهو يبكي، ويقول:

يا رب فارحم سيد القبائل كعب بن سور غرة القبائل

وخير حاف منهم وناعل وخير مقتول وخير قاتل

أبشر بخيريا كعيب كامل بنصرك الحق وترك الباطل

فخرج إليه رجل يقال له عبد الرحمن بن هاشم، وهو يقول:

لا رحم الله بن سور إذ مضى ولا تولاه بعفو ورضی

فقد قضى بالجور فيما قد قضى ودان بالكفر ولم يعص الهوى

واتبع الضلال من أهل العمى فصار بالفتنة مع من قد هوى

ثم ضرب وائل بن عمر فقتله. وبرز حنتمة بن الأسود وهو يقول: نحن صحاب الجمل المكرم ومانعوا هودجه المعظم

وناصروا زوج النبي الأكرم ذلك دين الله فينا الأقدم

فخرج إليه رجل من شيعة أمير المؤمنين الله يقال له عبيد الله بن سالم وهو يقول:

نحن مطيعون جميعاً لعلي إذ أنت ساع في الفساد يا شقي

إن الغوي تابع أمر الغوي قد خالفت زوج النبي للنبي

وخرجت من بيتها مع من هوي

ثم ضرب يده فقطعها ووقع لجنبه فرام أصحابه تخليصه وازدحموا عليه فوطؤوه.

354

ص: 354

21 . في الإحتجاج (248/1): عن الأصبغ بن نباتة قال: كنت واقفاً مع

وصول عائشة إلى البصرة

أمير المؤمنين عالشلة يوم الجمل فجاء رجل حتى وقف بين يديه فقال يا أمير المؤمنين إعداد عائشة لحرب علي كبَّر القوم وكبرنا ، وهَلَّل القوم وهللنا، وصلى القوم وصلينا، فعلى مَ تقاتلهم؟ حركة عائشة إلى البصرة فقال أمير المؤمنين الله : على ما أنزل الله جل ذكره في كتابه !فقال: يا أمير المؤمنين ليس كل ما أنزل الله في كتابه أعلمه فعلمنيه. فقال على الله : ما أنزل الله في سورة البقرة. فقال: يا أمير المؤمنين ليس كل حركة الإمام به إلى البصرة

ما أنزل الله في سورة البقرة أعلمه فعلمنيه . فقال علي الله هذه الآية : تِلْكَ الرُّسُلُ وصوله إلى البصرة

فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا افْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ هزيمة جيش عائشة الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا إسكان عائشة وإرجاعها يُرِيدُ. فنحن الذين آمنا وهم الذين كفروا . فقال الرجل : كفر القوم ورب الكعبة، ثم حمل فقاتل حتى قتل الله .

من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة 22. عن المبارك بن فضالة عن رجل ذكره قال : أتى رجل أمير المؤمنين الله بعد الجمل، فقال: يا أمير المؤمنين رأيت في هذه الواقعة أمراً هالني من روح قد مشاهد من حرب الجمل بانت وجثة قد زالت ونفس قد فاتت لا أعرف فيهم مشركاً بالله تعالى، فالله شهداء مع الإمام الله

الله مما يجللني من هذا إن يك شراً فهذا نتلقى بالتوبة، وإن يك خيراً ازددنا منه. أخبرني عن أمرك هذا الذي أنت عليه، أفتنة عرضت لك فأنت تنفع الناس من خطب علي بسيفك ، أم شي خصك به رسول الله ؟ . فقال الله : إذن أخبرك ، إذن أنبئك ، إذن أحدثك، إن ناساً من المشركين أتوا

رسول الله وأسلموا ثم قالوا لأبي بكر : استأذن لنا على رسول الله نأتي قومنا فنأخذ أموالنا ثم نرجع. فدخل أبو بكر على رسول الله له فاستأذن

الله

حتى

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

الإمام واصل الفتوحات

لهم، فقال عمر: یا رسول الله أنرجع من الإسلام إلى الكفر ؟ فقال : وما الإمام ينقل العاصمة

علمك يا عمر أن ينطلقوا فيأتوا بمثلهم معهم من قومهم، ثم إنهم أتوا أبا بكر في العام المقبل فسألوه أن يستأذن لهم على النبي فاستأذن لهم، وعنده

355

ص: 355

عمر فقال: مثل قوله فغضب رسول الله له ثم قال: والله ما أراكم تنتهون حتى يبعث الله عليكم رجلاً من قريش يدعوكم إلى الله فتختلفون عنه اختلاف الغنم الشرود، فقال له أبو بكر: فداك أبي وأمي يا رسول الله أنا هو ؟ قال : لا. قال عمر : فمن هو يا رسول الله ؟ فأومأ إلي وأنا أخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ه--و خاص-ف النعل عندك--ا، ابن عمي، و أخي، وصاحبي، ومبرئ ذمتي، والمؤدي عني ديني، وعداتي، والمبلغ عني رسالاتي، ومعلم الناس من بعدي، ومبينهم من تأويل القرآن ما لا يعلمون. فقال الرجل: أكتفي منك بهذا يا أمير المؤمنين ما بقيت. فكان ذلك الرجل أشد أصحاب علي عالية فيما بعد على من خالفه).

23. لما أظفره الله بأصحاب الجمل قال له بعض أصحابه وددت أن أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك . فقال الله : أهوى أخيك معنا قال : نعم. قال: فقد شهدنا، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا قوم في أصلاب الرجال وأرحام

عف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان) (النهج : 44/1) .

،النساء، سير

سیر عف

24. في الطبري (534/3) : ( عن عطية قال: لما أمسى الناس وتقدم علي وأحيط بالجمل ومن حوله وعقره بجير بن دلجة قال: إنكم آمنون، فكف الناس عن بعض، وقال على في ذلك حين أمسى وانخنس عنهم

القتال

إليك أشكو عجري وبحري ومعشراً غَشَوْا عليّ بصري

قتلت منهم مضراً بمضري شفيت نفسي وقتلت معشري

وقتل من بني عدي يومئذ سبعون شيخاً كلهم قد قرأ القرآن سوى الشباب ومن لم يقرأ القرآن . وقالت عائشة : ما زلت أرجو النصر حتى خفيت أصوات بني عدي ) .

25 . قال الطبري (522/3) : ( عن الشعبي قال: حملت ميمنة أمير المؤمنين على ميسرة أهل البصرة فاقتتلوا، ولاذ الناس بعائشة رضي الله عنها أكثر هم ضبة والأزد، وكان قتالهم من ارتفاع النهار إلى قريب من العصر ، ويقال إلى أن زالت الشمس ، ثم انهزموا

356

ص: 356

فنادى رجل من الأزد كروا، فضربه محمد بن علي فقطع يده فنادى يا معشر الأزد فروا واستحر القتل بالأزد، فنادوا: نحن على دين علي بن أبي طالب إعداد عائشة لحرب علي فقال رجل من بني ليث بعد ذلك:

سائل بنا يوم لقينا الأزدا والخيل تعدو أشقراً ووردا

لما قطعنا كبدهم والزن-دا سحقاً لهم في رأيهم وبعدا).

حركة عائشة إلى البصرة

وصول عائشة إلى البصرة

حركة الإمام له إلى البصرة 26 . عن موسى بن طلحة بن عبد الله وكان فيمن أسر يوم الجمل وحبس مع من حبس من الأسارى بالبصرة، قال: كنت في سجن علي بالبصرة حتى سمعت وصوله إلى البصرة المنادي ينادي: أين موسى بن طلحة بن عبيد الله ؟ فاسترجعت واسترجع أهل

هزيمة جيش عائشة

السجن، وقالوا: يقتلك ! فأخرجني إليه ، فلما وقفت بين يديه قال لي: يا موسى. قلت: لبيك يا أمير المؤمنين . قال : قل أستغفر الله وأتوب إليه ثلاث مرات. فقلت: إسكان عائشة وإرجاعها أستغفر الله وأتوب الله ثلاث مرات. فقال لمن كان معي من رسله خلوا عنه! من أخبار عائشة وجملها وقال لي : إذهب حيث شئت، وما وجدت لك في عسكرنا من سلاح أو كراع الإمام في البصرة

فخذه واتق الله فيما تستقبله من أمرك واجلس في بيتك، فشكرت له وانصرفت.

وكان علي صلوات الله عليه قد غنم أصحابه ما أجلب به أهل البصرة إلى قتاله مشاهد من حرب الجمل

وأجلبوا به يعني: أتوا به في عسكرهم ولم يعرض لشئ غير ذلك من أموالهم، شهداء مع الإمام الله وجعل ما سوى ذلك من أموال من قتل منهم لورثتهم. وخمس ما أغنمه مما

أجلبوا به عليه، فجرت أيضاً بذلك السنة، وأخذ به فقهاء العامة وأثروه عنه، من خط---ب ع-لي ليه وجعلوه حكماً فيما يغنم من أهل البغي). (شرح الأخبار /389) .

الكذب في حرب الجمل

27 . قال ابن عبد البر في الإستيعاب (4 / 1586) : (كان) يعلى بن أمية على الجند من شعر حرب الجمل

فبلغه قتل عثمان، فأقبل لينصره فسقط عن بعيره في الطريق فانكسرت فخذه

الإمام في واصل الفتوحات

فقدم مكة بعد انقضاء الحج، فخرج إلى المسجد وهو كسير على سرير واستشرف إليه الناس واجتمعوا فقال: من خرج يطلب بدم عثمان فعلي جهازه. وذكر عن مسلمة عن عوف قال: أعان يعلى بن أمية الزبير بأربع مائة ألف.

الإمام ينقل العاصمة

357

ص: 357

قال أبو عمر : كان يعلى بن أمية سخياً معروفاً بالسخاء، وقتل يعلى بن أمية سنة ثمان وثلاثين بصفين مع علي بعد أن شهد الجمل مع عائشة ، وهو صاحب الجمل أعطاه عائشة، وكان الجمل يسمى عسكراً، ويقال : إنه تزوّج بنت الزبير وبنت أبي لهب). أقول : إن صحت رواية ابن عبد البر بأن يعلى استشهد مع علي الله في صفين فهذا عجيب وفي كتاب غرر الخصائص للوطواط 225 ، أن قومه فروا في صفين فوبخهم

وثبت وقاتل حتى استشهد !

28. أما عدي بن حاتم فقد فقئت عينه في حرب الجمل، واستشهد ابنه طريف وخرج ابنه زيد مع الخوارج فاتبعه أبوه عدي بن حاتم ، ففاته فلم يقدر عليه، فانصرف عدي إلى علي بخبرهم). ( البلاذري : 364/2).

29 . قال البلاذري (10 / 175) : (وكان عبد الرحمن بن الحارث بن هشام من

سادة قريش وخيارهم وله دار بالمدينة، وزوجه عثمان بن عفان ابنته، وكانت فيمن حضر جمع القرآن في المصحف وإقامته على لغة قريش ، ثم شهد يوم الجمل مع عائشة، فكان أول منهزم حتى أتى المدينة فقال لهم: إني سمعت الله يقول : اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ . فالزموا مسجد رسول الله ولا يخلون من بعضكم، وكان يكنى أبا محمد).

30. ( خرج كعب بن عميرة فاشترى فرساً وسلاحاً وقال: يا معشر الأزد أطيعوني واعبروا هذه النطفة وخلوا بين هذين الغارين، تنجلي عنكم الفتنة وأنتم أوفر العرب، إجعلوها بي وخلوا بني نزار يقتل بعضهم بعضاً، فأي أميري قريش غلب احتاج إليكم فشتمه صبرة بن شيمان الحداني وكان مفخماً. وقال سنان بن عائد شتمه الجلد بن سابور الجرموزي وقال: أسكت إنما أنت نصراني صاحب ناقوس وصليب وعصا. عن أبي حبيش الجرموزي قال: رأيت كعب بن سور يومئذ آخذاً بخطام الجمل فقال لي: يا أبا حبيش أنا والله كما قالت القائلة: فأنا بني لانفر ولا نقاتل، فقتل يومئذ (أخبار القضاة لوكيع:282/1).

358

ص: 358

فقد كان كعب بن سور في أول أمره يدعو الى الحياد، ثم أثرت عليه عائشة!

إعداد عائشة لحرب علي

31. في كتاب التوحيد للصدوق / 83 : ( عن شريح بن هانئ، قال: إن أعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين الله ، فقال : يا أمير المؤمنين أتقول إن الله واحد؟ حركة عائشة إلى البصرة قال: فحمل الناس عليه، قالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم وصول عائشة إلى البصرة القلب ، فقال أمير المؤمنين الله : دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده حركة الإمام إلى البصرة

من القوم، ثم قال : يا أعرابي إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عز وجل، ووجهان يثبتان فيه، فأما اللذان لا يجوزان وصوله له إلى البصرة عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأن ما لا ثاني هزيمة جيش عائشة

له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه كفر من قال: ثالث ثلاثة. وقول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز عليه لأنه تشبيه إسكان عائشة وإرجاعها وجل ربنا عن ذلك وتعالى.

من أخبار عائشة وجملها

مشاهد من حرب الجمل

وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء

الإمام في البصرة

شبه، كذلك ربنا، وقول القائل: إنه عز وجل أحدي المعنى، يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا عز وجل. قال مصنف هذا الكتاب: سمعت من أثق بدينه ومعرفته باللغة والكلام شهداء مع الإمام الله

يقول: إن قول القائل: واحداً واثنين وثلاثة إلى آخره، إنما وضع في أصل اللغة للإبانة عن كمية ما يقال عليه ، لا لأن له مسمى يتسمى به بعينه، أو لأن له

من . خطب علي

معنى سوى ما يتعلمه الانسان بمعرفة الحساب ويدور عليه عقد الأصابع الكذب في حرب الجمل

عند ضبط الآحاد والعشرات والمئات والألوف، وكذلك متى أراد مريد أن يخبر غيره عن كمية شئ بعينه سماه باسمه الأخص، ثم قرن لفظ الواحد به من شعر حرب الجمل وعلقه عليه يدل به على كميته لا على ما عدا ذلك من أوصافه، ومن أجله يقول الإمام عليه واصل الفتوحات القائل: درهم واحد، وإنما يعني به أنه در هم فقط، وقد يكون الدرهم در هماً الإمام ينقل العاصمة

بالوزن و درهماً بالضرب، فإذا أراد المخبر أن يخبر عن وزنه قال : درهم واحد بالوزن، وإذا أراد أن يخبر عن عدده و ضربه قال: درهم واحد بالعدد ودرهم

359

ص: 359

واحد بالضرب، وعلى هذا الأصل يقول القائل : هو رجل واحد، وقد يكون الرجل واحداً بمعنى أنه إنسان وليس بإنسانين، ورجل وليس برجلين، وشخص وليس بشخصين، ويكون واحداً في الفضل واحداً في العلم واحداً في السخاء واحداً في الشجاعة، فإذا أراد القائل أن يخبر عن كميته قال: هو رجل واحد، فدل ذلك من قوله على أنه رجل وليس هو برجلين ، وإذا أراد أن يخبر عن فضله قال : هذا واحد عصره، فدل ذلك على أنه لا ثاني له في الفضل ، وإذا أراد أن يدل على علمه قال: إنه واحد في علمه فلودل قوله : واحد بمجرده على الفضل والعلم كما دل بمجرده على الكمية لكان كل من أطلق عليه لفظ واحد أراد فاضلا لا ثاني له في فضله وعالما لا ثاني له في علمه وجوادا لا ثاني له في جوده، فلما لم يكن كذلك صح أنه بمجرده لا يدل إلا على كمية الشئ دون غيره وإلا لم يكن لما أضيف إليه من قول القائل : واحد عصره و دهره ، معنى ولا كان لتقييده بالعلم والشجاعة معنى، لأنه كان يدل بغير تلك الزيادة وبغير ذلك التقييد على غاية الفضل وغاية العلم والشجاعة، فلما احتيج معه إلى زيادة لفظ و احتيج إلى التقييد بشئ صح ما قلناه، فقد تقرر أن لفظة القائل : واحد إذا قيل على الشئ دل بمجرده على كميته في اسمه الأخص

ويدل بما يقترن به على فضل المقول عليه وعلى كماله وعلى توحده بفضله وعلمه وجوده، وتبين أن الدرهم الواحد قد يكون درهماً واحداً بالوزن، ودرهماً واحداً بالعدد ودرهماً وحداً بالضرب، وقد يكون بالوزن در همین وبالضرب در هم--اً واحداً، وقد يكون بالدوانيق ستة دوانيق، وبالفلوس ستين فلساً ويكون بالأجزاء كثيراً، وكذلك يكون العبد عبداً واحداً ولا يكون عبدين بوجه، ويكون شخصاً واحداً ولا يكون شخصين بوجه، ويكون أجزاء كثيرة وأبعاضاً كثيرة، وكل بعض من أبعاضه يكون جواهر كثيرة متحدة اتحد بعضها ببعض، وتركب بعضها مع بعض، ولا يكون العبد واحداً وإن كان كل واحد منا في نفسه إنما هو عبد واحد، وإنما لم يكن العبد واحداً لأنه ما من عبد إلا وله مثل في الوجود أو في المقدور، وإنما صح أن يكون للعبد مثل لأنه لم يتوحد بأوصافه التي من أجلها صار عبداً مملوكاً، ووجب

360

ص: 360

لذلك أن يكون الله عز وجل متوحداً بأوصافه العلى وأسمائه الحسنى، ليكون إلهاً واحداً ولا يكون له مثل، ويكون واحداً لا شريك له ولا إله غيره، فالله تبارك إعداد عائشة لحرب علي وتعالى واحد لا إله إلا هو، وقديم واحد لا قديم إلا هو، وموجود واحد ليس حركة عائشة إلى البصرة بحال ولا محل ولا موجود كذلك إلا هو، وشئ واحد لا يجانسه شي، ولا يشاكله شئ، ولا يشبهه شئ، ولا شئ كذلك إلا هو، فهو كذلك موجود غير منقسم وصول عائشة إلى البصرة في الوجود ولا في الوهم، وشئ لا يشبهه شئ بوجه، وإله لا إله غيره بوجه حركة الإمام له إلى البصرة وصار قولنا : يا واحد يا أحد في الشريعة إسماً خاصاً له دون غيره لا يسمى به إلا

هو عزوجل ، كما أن قولنا الله إسم لا يسمى به غيره).

وصوله إلى البصرة

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة

مشاهد من حرب الجمل

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

الإمام واصل الفتوحات

الإمام ينقل العاصمة

361

ص: 361

الفصل الثاني والستون

شهداء مميزون في حرب الجمل

من

كثرة شخصيات حرب الجمل

شخصيات حرب الجمل عديدة وأخبارها كثيرة، ولا يتسع المجال لترجمتها، وهم قادة الصف الأول: علي الله وعائشة وطلحة والزبير والصف الثاني الحسن

6

والحسين الله و عبد الله بن جعفر وأولاده، وعبد الله بن عباس، وبقية بني هاشم، ومالك الأشتر، وعمار بن ياسر، وعدي بن حاتم الطائي ، والأحنف بن قيس، وعشرات الصحابة البدريين وأهل بيعة الشجرة والتابعين.

لذلك اقتصر نا على أهمهم، وذكرنا نقاطاً عن شخصية عائشة، وجملها، وتقدم في فصول

الكتاب كثير من النقاط عن الزبير وطلحة، وبعض القادة. و نترجم في هذا الفصل للشهداء الذين ذكرهم أمير المؤمنين الله في رسالته الى أهل الكوفة بعد المعركة (الطبري: 544/3) قال الله : ( وقتل منا ومنهم قتلى كثيرة ، وأصيب ممن أصيب منا: ثمامة بن المثنى، وهند بن عمرو، وعلباء بن الهيثم، وسيحان وزيد ابنا صوحان، و[ابن] مخدوج).

مديح أمير المؤمنين الله للشهداء المميزين

1 . أخبر النبى الله علياً الله عن الناكثين جيش الجمل، وبين له ثواب من قاتلهم! فقد روى . النسائي في سننه (165/5) وفي خصائص على الله /146 ، ورواه عبدالله بن أحمد في السنة : (عن زر بن حبيش، أنه سمع علياً رضي الله عنه يقول: أنا فقأت عين الفتنة، ولولا أنا ما قوتل أهل النهروان وأهل الجمل، ولولا أني أخشى أن تتركوا العمل لأخبرتكم بالذي قضى الله على

ص: 362

الله الله لسان نبيكم ما لمن قاتلهم مبصراً ضلالتهم، عارفاً للهدى الذي نحن فيه !

إعداد عائشة لحرب علي

.2. وفي كتاب الجمل / 187 : ( وضرب علي الله بيده إلى سيفه فأسله، ثم حمل على القوم فضرب فيهم يميناً وشمالاً، ثم رجع وقد انحنى سيفه، فجعل يسويه حركة عائشة إلى البصرة بركبته، فقال له أصحابه: نحن نكفيك ذلك يا أمير المؤمنين، فلم يجب أحداً وصول عائشة إلى البصرة حتى سَوَّاه، ثم حمل ثانية حتى اختلط فيهم فجعل يضرب فيهم قدماً حتى حركة الإمام إلى البصرة

انحنى سيفه، ثم رجع إلى أصحابه ووقف يسوي السيف بركبته، وهو يقول: والله ما أريد بذلك إلا وجه الله، والدار الآخرة).

وصوله إلى البصرة

. قال الله في رسالته لأهل الكوفة ( نهج البلاغة : 2/ 202) : ( فقدموا على عمالي هزيمة جيش عائشة

وخزان بيت مال المسلمين الذي في يدي، وعلى أهل مصر كلهم في طاعتي وعلى إسكان عائشة وإرجاعها بيعتي فشتتوا كلمتهم وأفسدوا علي جماعتهم ووثبوا على شيعتي فقتلوا طائفة

منهم

من أخبار عائشة وجملها

غدراً، وطائفة عضوا على أسيافهم فضار بوا بها حتى لقوا الله صادقين).

.4 . قال أمير المؤمنين الثانية (الجمل للمفيد / 152 والمحجة / 173): (فناجزهم حكيم الإمام شاه في البصرة بن جبلة فقتلوه في سبعين رجلاً من عُبَّاد أهل البصرة ومخبتيهم، يسمَّوْنَ المثفّنين مشاهد من حرب الجمل كأن راح أكفهم ثفنات الإبل ! وأبى أن يبايعهم يزيد بن الحارث اليشكري شهداء مع الإمام السلالة

فقال : إتقيا الله إن أولكم قادنا إلى الجنة، فلا يقودنا آخر كم إلى النار، فلا تكلفونا أن نصدق المدعي ونقضي على الغائب، أما يميني فشغلها علي بن أبي طالب من خطب علي ببيعتي إياه، وهذه شمالي فارغة فخذاها إن شئتما ! فخنق حتى مات !

رجاله

الكذب في حرب الجمل

وقام عبدالله بن حكيم التميمي فقال: يا طلحة هل تعرف هذا الكتاب؟ قال: نعم هذا كتابي إليك. قال: هل تدري ما فيه ؟ قال : إقرأه عليَّ . فقرأه فإذا فيه عيب من شعر حرب الجمل عثمان ودعاؤه إلى قتله ! فسيروه من البصرة. وأخذوا عاملي عثمان بن حنيف الإمام يواصل الفتوحات الأنصاري غدراً فمثلوا به كل مثلة، ونتفوا كل شعرة في رأسه ووجهه اللهم الإمام ينقل العاصمة

إنك تعلم أنهم اجترؤوا عليك واستحلوا حرماتك. اللهم اقتلهم بمن قتلوا من شيعتي، وعجل لهم النقمة بما صنعوا بخليفتي

363

ص: 363

. وفي الجمل / 125 ، عن الواقدي واستشهد منا رجال صالحون ضاعف الله الحسنات ورفع درجاتهم، وأثابهم ثواب الصابرين، وجزاهم من أهل مصر عن أهل بيت نبيهم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته، والشاكرين لنعمته).

6 . وقال الله (الجمل للمفيد / 177) : (إنهدوا إلى هؤلاء القوم منشرحة صدوركم فإنهم نكثوا بيعتي وقتلوا شيعتي، ونكلوا بعاملي وأخرجوه من البصرة، بعد أن الموه بالضرب المبرح والعقوبة الشديدة، وهو شيخ من وجوه الأنصار والفضلاء، ولم يرعوا له حرمة وقتلوا السبابجة رجالاً صالحين، وقتلوا حكيم بن جبلة ظلماً وعدواناً لغضبه الله تعالى، ثم تتبعوا شيعتي بعد أن هربوا منهم وأخذوهم في كل عابية وتحت كل رابية يضربون أعناقهم ص ! ما لهم قاتلهم الله أنى يؤفكون)!

.. فى الكافئة للمفيد/ 18: (لما بلغه الله وهو بالربذة خبر طلحة والزبير ..

وقد تقدم ..

.. وروى في شرح النهج (266/1): (قال أبو مخنف وقام رجل إلى علي الله فقال: يا أمير المؤمنين أي فتنة أعظم من هذه ؟ إن البدرية ليمشي بعضها إلى بعض بالسيف! فقال علي الشاليه : ويحك ! أتكون فتنة أنا أميرها وقائدها ! والذي بعث محمداً بالحق وكرم وجهه ما كذبت ولا كذبت، ولا ضللت ولا ضُلَّ بي، ولا زللت ولا زُلَّ بي، وإني لعلى بينة من ربي بينها الله لرسوله وبينها رسوله لي، وسأدعى يوم القيامة ولا ذنب لي، ولو كان لي ذنب لكفر عني ذنوبي ما أنا فيه من قتالهم. أقول: كفى بهذا المديح من أمير المؤمنين عليه فخراً وذخراً لهؤلاء الشهداء الأبرار.

.1 ثمامة بن المثنى بن الحارث الشيباني رضي الله عنه

1 . كتبنا في: قراءة جديدة في الفتوحات (2/ 193) تحت عنوان فاتح العراق المثنى بن حارثة رضي الله عنه، بن سلمة بن ضمضم بن سعد... (الإصابة: 568/5) وكان بنو شیبان حلفاء بني عجل بن لجيم، وقد زارهم النبي الله في موسم الحج ودعاهم

364

ص: 364

الى الإسلام وتلا عليهم القرآن فأعجبهم ذلك، وطلب منهم أن يذهب معهم

إلى العراق ويحموه من قريش ليبلغ رسالة ربه فاعتذروا له بأنهم مجاورون إعداد عائشة لحرب علي لكسرى. قال له المثنى: (إنا نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى لانحدث حدثاً حركة عائشة إلى البصرة ولانؤي محدثاً، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعو إليه مما تكرهه الملوك، فإن

وصول عائشة إلى البصرة

أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا فقال له رسول الله له : ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من أحاطه الله حركة الإمام إلى البصرة من جميع جوانبه. أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وصوله فيه إلى البصرة

وأموالهم ، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟ فقال النعمان بن شريك : اللهم نعم .

سم الله الله

فقد عرض عليه المثنى أن يحميه من العرب دون الفرس، فشكرهم النبي وبشرهم بأنهم سيرثون كسرى. وفي رواية أنه الله قال : (آية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض». (ابن حبان: 80/1).

6

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة .2 . وبعد سنوات قليلة كانت معركة ذي قار بين بني شيبان ومعهم بنو عجل، وبين الفرس، فقال شيخهم إجعلوا شعاركم إسم الرجل القرشي الذي دعاكم مشاهد من حرب الجمل في مكة، فجعلوا شعارهم: يا محمد يا محمد فنصر هم الله بالنبي ، وذلك

سم الله اليه

بعد بدر بأربعة أشهر، وأرسلوا خمس الغنائم إلى النبي ، فشكرهم.

شهداء مع الإمام السلالة

من

خطب علي

.3. بدأ المثنى فعاليته بتحرير العراق من زمن النبي وواصلها بعد وفاته، قال ابن عبد البر في الإستيعاب (1456/4) : «كان المثنى شجاعاً شهما بطلاً ميمون الكذب في حرب الجمل النقيبة، حسن الرأي والإمارة، أبلى في حروب العراق بلاء لم يبلغه أحد. قدم من شعر حرب الجمل على أبي بكر فقال: يا خليفة رسول الله إبعثني على قومي فإن فيهم إسلاماً، أقاتل بهم أهل فارس وأكفيك أهل ناحيتي من العدو. ففعل ذلك أبو بكر، فقدم الإمام واصل الفتوحات المثنى العراق فقاتل وأغار على أهل فارس ونواحي السواد حولاً مُجرَّماً (كاملا) الإمام ينقل العاصمة ثم بعث أخاه مسعود بن حارثة إلى أبي بكر يسأله المدد، ويقول له: إن أمددتني

365

ص: 365

وسمعت بذلك العرب، أسرعوا إليَّ وأذل الله المشركين. مع أني أخبرك يا خليفة رسول الله أن الأعاجم تخافنا وتتقينا).

.4 . توفي المثنى في ظرف يوجب الشك كما بينا في قراءة جديدة في الفتوحات. وكان وأسرته وعشيرته من شيعة علي الله وقد شارك أبناؤه في حرب الجمل، واستشهد فيها ابنه ثمامة، وقد ذكره أمير المؤمنين الله في رسالته أول الشهداء. قال البلاذري

(244/1) : وقتل يومئذ ثمامة بن المثنى بن حارثة.

وكانت وقعة الجمل بالخريبة، وحسان الذي ذكره: حسان بن مخدوج بن بشر بن خوط الذهلي، كان معه لواء بكر بن وائل، فقتل فأخذه أخوه حذيفة بن مخدوج فأصيب، ثم أخذه بعده عدة من الحوطيين فقتلوا، حتى تحاموه ». وفي مصنف ابن أبي شيبة (1393) أن مصعب بن المثنى بن حارثة، قد استشهد أيضاً: وقال يوم الجمل : أدفنونا وما أصاب الثرى من دمائنا » !

:أقول : يظهر من الروايات أن مصعب بن المثنى هذا عبدي، وليس الشيباني.

ه . قدم الذهليون والشيبانيون شهداء مع علي الله في حياته، وبعد شهادته، حتى قتل معاوية رئيسهم عبد الرحمن بن حسان بن مخدوج ، مع حجر بن عدي رضي الله عنهم ، لأنه رفض أن يسب علياً صلوات الله عليه.

وذكر المؤرخون أن أخاهما عبد الرحمن بن المثنى كان رئيس بني شيبان فزوج بنت عامر بن عبد الأسود بن حنظلة بن ثعلبة بن سيار إلى عبيد الله بن زياد، والبنت حفيدة

حليفهم حنظلة رئيس بني عجل بن لجيم قائد معركة ذي قار، فغضب عليه عمر بن الخطاب، وضرب ابن المثنى وحبسه، لأن ابن زياد بزعمه ليس كفؤاً لهم، فهو عبد

للحارث بن كلدة ( إكمال الكمال : 4 / 436 ) .

لكن السبب الحقيقي لبغض عمر للمثنى وعشيرته تشيعهم، فقد قال في زمن أبي بكر إنه سيعزله إن تولى الخلافة، ولما ولي أمره بالإنسحاب من المناطق التي حرره-ا م-ن الع-راق! وعزل-ه فل-م ينعزل! ث-م م-ات المثنى في ظرف غامض

ص: 366

وترجح أنه قتل مسموماً !

كما غضب عمر على العلاء بن الحضرمي والي البحرين لأنه حرر قسماً من إيران إعداد عائشة لحرب علي

ووصل الى شيراز، فأمره عمر بالإنسحاب، فأبى فغضب عليه فمات!

حركة عائشة إلى البصرة

كان عمر يفكر أن شيعة علي إذا فتحوا العراق وفارس، فسيقوى علي الله ضده. كما غضب عمر على بلال وجماعته، وكان يدعو عليهم على المنبر، فماتوا جميعاً وصول عائشة إلى البصرة قبل أن تدور السنة، وقيل كانوا ثلاثين صحابياً ونرجح أن معاوية سمهم حركة الإمام إلى البصرة لاعتراضهم عليه !

2 . زيد بن صوحان رضي الله عنه

وصولهم إلى البصرة

هزيمة جيش عائشة 1. قال الطوسي في رجاله / 64: زيد بن صوحان ، وكان من الأبدال، قتل

يوم الجمل ، وقيل : إن عائشة استرجعت حين قتل)!

إسكان عائشة وإرجاعها

وقال العلامة في خلاصة الأقوال / 147: (كان) من الأبدال، قتل يوم الجمل. من من أخبار عائشة وجملها

أصحاب أمير المؤمنين عليه . قال له أمير المؤمنين المثالية عندما صرع يوم الجمل:

رحمك الله يا زيد كنت خفيف المؤونة، عظيم المعونة).

الإمام في البصرة

وقال السيد شرف الدين في المراجعات / 137 ملخصاً: (صعصعة بن صوحان مشاهد من حرب الجمل

بن حجر بن الحارث العبدي، ذكره الإمام ابن قتيبة / 206 ، من المعارف في سلك

شهداء مع الإمام السلالة

المشاهير من رجال الشيعة، وقال ابن سعد في طبقاته كان من أصحاب الخطط

بالكوفة، وكان خطيباً، وكان من أصحاب علي ، وشهد معه الجمل هو وأخواه الجمل هو وأخواه من خطب

زید وسیحان ابنا صوحان وكان سيحان الخطيب قبل صعصعة، وكانت الراية يوم الجمل في يده فقتل، فأخذها زيد فقتل، فأخذها صعصعة.

علي

الكذب في حرب الجمل

وذكره ابن عبد البر في الإستيعاب فقال: كان سيداً من سادة قومه عبد القيس من شعر حرب الجمل

وكان فصيحاً خطيباً، عاقلاً لسناً، دَيناً فاضلاً بليغاً.

الإمام في واصل الفتوحات

ولا غرو فإن بني صوحان من هامات العرب، وأقطاب الفضل والحسب الإمام ينقل العاصمة

ذكر هم ابن قتيبة في باب المشهورين من الأشراف، وأصحاب السلطان من المعارف، فقال: بنو صوحان هم زید بن صوحان، وصعصعة بن صوحان،

367

ص: 367

م

وسيحان ابن صوحان، من بني عبد القيس. فأما زيد فكان من خيار الناس، روي في الحديث أن النبي الله : قال : زيد الخير الأجذم ، وجندب ما جندب، فقيل يا رسول الله أتذكر رجلين؟ فقال: أما أحدهما فتسبقه يده إلى الجنة، وأما الآخر فيضرب ضربة يفصل بها بين الحق والباطل . قال : فكان أحد الرجلين زيد بن صوحان شهد يوم جلولاء فقطعت يده، وشهد مع علي الله يوم الجمل. فقال: يا أمير المؤمنين ما أراني إلا مقتولاً. قال: وما علمك بذلك يا أبا سلمان؟ قال: رأيت يدي نزلت من السماء وهي تستشيلني ! فقتله عمرو بن يثربي.

:قلت: لا يخفى أن إخبار النبي بتقدم يد زيد على سائر جسده، وسبقها إياه إلى الجنة، معدود عند المسلمين كافة، من أعلام النبوة، وآيات الإسلام، وأدلة أهل الحق، وكل من ترجم زيداً ذكر هذا. والمحدثون أخرجوه بطرقهم المختلفة فزيد على

تشيعه مبشر بالجنة.

وذكره العسقلاني في إصابته : له رواية عن عثمان وعلي. وروى عنه أيضاً أبو إسحاق السبيعي، والمنهال بن عمرو، وعبد الله بن بريدة، وغيرهم. قال: وذكر العلائي في أخبار زياد: أن المغيرة نفى صعصعة بأمر معاوية من الكوفة إلى الجزيرة، أو إلى

البحرين، وقيل إلى جزيرة ابن كافان.

2 . كتبت عائشة الى زيد بن صوحان (الطبري: 492/3) : من عائشة أم المؤمنين، حبيبة رسول الله، إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان، أما بعد: إذا أتاك كتابي هذا فأقدم فانصرنا، فإن لم تفعل فخذل الناس عن علي».

فأجابها من زيد بن صوحان صاحب رسول الله له إلى أم المؤمنين عائشة: أما بعد، فأنا ابنك الخالص إن اعتزلت هذا الأمر، ورجعت إلى بيتك، وإلا فأنا أول من نابذك ! قال زيد بن صوحان رحم الله أم المؤمنين، أمرت أن تلزم بيتها، وأمرنا أن نقاتل، فتركت ما أمرت به وأمرتنا به وصنعت ما أمرنا به و نهتنا عنه !

3. كان أبو موسى الأشعري والي الكوفة يخذل الناس عن علي الشلة فواجه-

ص: 368

إعداد عائشة لحرب علي

شخصيات الكوفة، وكان منهم زيد بن صوحان، فرد عليه وخطب محرضاً المسلمين أن يستجيبوا للإمام الله ، واستنفر قومه وذهب بهم اليه.

ا قال الطبري (498/3) : (وأقبل زيد على حمار حتى وقف باب المسجد ومعه حركة عائشة إلى البصرة

الكتابان من عائشة رضي الله عنها إليه وإلى أهل الكوفة، وقد كان طلب الكتاب العامة فضمه إلى كتابه، فأقبل بهما معه كتاب الخاصة وكتاب العامة، أما بعد وصول عائشة إلى البصرة فثبطوا أيها الناس واجلسوا في بيوتكم، إلا عن قتلة عثمان بن عفان رضي الله حركة الإمام إلى البصرة عنه، فلما فرغ من الكتاب قال: أمِرَتْ بأمر ، وأُمرنا بأمر : أُمرت أن تقرّ في بيتها، وصوله إلى البصرة

وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة ، فأمرتنا بما أمرت به وركبت ما أمرنا به ! فقام إليه شبث بن ربعي فقال : يا عماني - وزيد من عبد القيس عمان وليس من هزيمة جيش عائشة

أهل البحرين - سرقت بجلولاء فقطعك الله ، وعصيت أم المؤمنين فقتلك الله ! إسكان عائشة وإرجاعها ما أَمَرَتْ إلا بما أمر الله عز وجل به بالإصلاح بين الناس. وتهاوى الناس (أي قاموا الى شبث ليضربوه) وقام أبو موسى فقال : أيها الناس أطيعوني تكونوا من أخبار عائشة وجملها جرثومة من جراثيم العرب يأوي إليكم المظلوم، ويأمن فيكم الخائف، إنا الإمام في البصرة أصحاب محمد أعلم بما سمعنا، إن الفتنة إذا أقبلت شبهت، وإذا أدبرت بينت،

مشاهد من حرب الجمل

من

خطب علي

وإن هذه الفتنة باقرة كداء البطن تجري بها الشمال والجنوب والصبا والدبور فتسكن أحياناً فلا يدري من أين تؤتى، تذر الحليم كابن أمس. شيموا سيوفكم، شهداء مع الإمام التالي وقصدوا رماحكم، وأرسلوا سهامكم، واقطعوا أوتاركم ، والزموا بيون ا بيوتكم. خلوا قريشاً إذا أبوا إلا الخروج من دار الهجرة، وفراق أهل العلم بالإمرة، ترتق فتقها، وتشعب صدعها، فإن فعلت فلأ نفسها سعت، وإن أبت فعلى أنفسها الكذب في حرب الجمل جنت، سمنها تهريق في أديمها. استنصحوني ولا تستغشوني، وأطيعوني يسلم من شعر حرب الجمل لكم دينكم ودنياكم، ويشقى بحر هذه الفتنة من جناها. فقام زيد فشال يده المقطوعة فقال : يا عبد الله بن قيس رد الفرات عن دراجه الإمام واصل الفتوحات أردده من حيث يجئ حتى يعود كما بدأ، فإن قدرت على ذلك فستقدر على ما الإمام ينقل العاصمة تريد، فدع عنك ما لست مدركه، ثم قرأ: ألم أحب الناس أن يتركوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا

369

ص: 369

وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ. سيروا إلى أمير المؤمنين وسيد المسلمين، وانفروا إليه أجمعين تصيبوا الحق). وفي رواية مناقب آل أبي طالب (336/2) : (فقام زيد بن صوحان ومالك الأشتر في أصحابهما وتهددوه. فلما أصبحوا قام زيد بن صوحان وقرأ: ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ... ثم قال: أيها الناس سيروا إلى أمير المؤمنين وانفروا إليه أجمعين تصيبوا الحق راشدين). فتحرك الناس نحو أمير المؤمنين الالم

ادات

وقال الطبري (502/3) : ( وكان رؤساء النّقار : زيد بن صوحان والأشتر مالك بن

الحارث، وعدي بن حاتم والمسيب بن نجبة، ويزيد بن قيس، ومعهم أتباعهم وأمثال لهم ليسوا دونهم، إلا أنهم لم يؤمروا ، منهم حجر بن عدي، وابن مخدوج البكري، وأشباه .لهما.

وفي البصرة أرسله الإمام الله الى عائشة مع ابن عباس، فناقشاها واحتجا عليها.

4. لما صرع زيد بن صوحان يوم الجمل، جاء أمير المؤمنين الشالية حتى جلس عند رأسه

فقال: رحمك الله يا زيد قد كنت خفيف المؤونة عظيم المعونة :قال فر ، فرفع زيد رأسه إليه ثم قال: وأنت يا أمير المؤمنين فجزاك الله خيراً ، فوالله ما علمتك إلا بالله عليماً وفي أم الكتاب لعلياً حكيماً ، وأن الله في صدرك لعظيم والله ما قاتلت معك على جهالة ولكني سمعت أم سلمة زوج النبي له تقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من کنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، فكرهت والله أن أخذلك فيخذلني الله. ويكفي في جلالة الرجل وعظمته، مضافاً إلى شهادته بين يدي أمير المؤمنين الله شهادة الشيخ بأنه من الأبدال.

(السيد الخوئي (354/8) .

.5 . خلاصة ما قاله ابن سعد (123/6) : (كان صعصعة أخاه لأبيه وأمه.. كان رسول الله في سفر فقال رجلان يكونان في هذه الأمة يضرب أحدهما ضربة تفرق بين الحق والباطل، والآخر تقطع يده في سبيل الله ثم يتبع الله آخر جسده بأوله! قال

370

ص: 370

الأجلح: أما جندب فقتل الساحر عند الوليد بن عقبة، وأما زيد فقطعت يده

يوم جلولاء وقتل يوم الجمل.. ذكر الأعمش أن يد زيد قطعت يوم نهاوند.. إعداد عائشة لحرب علي عن عبدالله بن أبي الهذيل أن وفد أهل الكوفة قدموا على عمر وفيهم زيد بن حركة عائشة إلى البصرة صوحان، وجعل عمر يُرحل لزيد فضفنه على الرحل كما تضف-ن-ون أمراءكم رتب له راحلته وأركبه) ثم التفت إلى الناس فقال : إصنعوا هذا بزيد وأصحاب وصول عائشة إلى البصرة زيد. كان في جيش عليهم سلمان الفارسي فكان يؤمهم زيد بن صوحان يأمره حركة الإمام به إلى البصرة بذلك سلمان ( لأنه أفصح منه كان يقول لزيد بن صوحان يوم الجمعة قم وصوله إلى البصرة

فذكر قومك . قال قام زيد بن صوحان إلى عثمان بن عفان فقال: يا أمير المؤمنين ملت فمالت أمتك إعتدل تعتدل أمتك ثلاث مرار.

صو

هزيمة جيش عائشة

عن زيد بن صوحان قال: لا تغسلوا عني دماً ولا تنزعوا عني ثوباً إلا الخفين إسكان عائشة وإرجاعها

وارمسوني في الأرض رمساً فإني رجل مخاصم، أحاج يوم القيامة. قال: أدفنوني وابن أمي في قبر، ولا تغسلوا عنا دماً، فإنا قوم مخاصمون دفن مع أخيه زيد بن من أخبار عائشة وجملها

حان في قبر .. أوصى أن يدفن معه مصحفه. وكان ثقة معه مصحفه. وكان ثقة قليل الحديث). الإمام في البصرة

وقال الطبري (529/3): (وكانت راية عبد القيس من أهل الكوفة مع القاسم بن مسلم فقتل وقتل معه زيد بن صوحان وسيحان بن صوحان وأخذ الراية

،

عدة منهم فقتلوا، منهم عبد الله بن رقية وراشد، ثم أخذها منقذ بن النعمان شهداء مع الإمام الشالية فدفعها إلى ابنه مرة بن منقذ، فانقضى الأمر وهي في يده).

مشاهد من حرب الجمل

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

.6. وقال ابن حجر (الإصابة : 532/2): عبد الرحمن بن مسعود العبدي قال: سمعت علياً يقول: قال رسول الله له : من سره أن ينظر إلى من يسبقه بعض أعضائه إلى الجنة، فلينظر إلى زيد بن صوحان.. قال: وطاً عمر لزيد بن صوحان من شعر حرب الجمل راحلته وقال: هكذا فاصنعوا بزيد. قال: كان زيد بن صوحان يحب سلمان، الإمام واصل الفتوحات فمن شدة حبه له اكتنى أبا سلمان، وكان يكنى أبا عبدالله، ويقال أبا عائشة). الإمام ينقل العاصمة وفي تاريخ بغداد (440/8) : (كان زيد بن صوحان يقوم الليل ويصوم النهار

وإذا كانت ليلة الجمعة أحياها ، فإن كان ليكرهها إذا جاءت مما كان يلقى

الله

371

ص: 371

فيها، فبلغ سلمان ما كان يصنع فأتاه فقال :این زید؟ قالت امرأته ليس هاهنا قال فإني أقسم عليكِ لما صنعت طعاماً، ولبست محاسن ثيابك، ثم بعثت إلى زيد، قال فجاء زيد فقرب الطعام فقال سلمان كل يا زيد قال إني صائم ! قال : كل يا زيد لا ينقص دينك، إن شر السير الحقحقة (العنيف) إن لعينك عليك حقاً، وإن لبدنك عليك حقاً، وإن لزوجتك عليك حقاً، كل يا زيد فأكل، وترك ما كان يصنع). ولعل قوله إنه كان يكره ليلة الجمعة لما يلقى فيها، أي من زوجته وأقاربه، يريدونه أن

يرتاح قليلاً من العبادة

7 رووا أن زيد بن صوحان احتج مع صلحاء الكوفة على تصرفات والي عثمان سعيد بن العاص، فغضب عثمان ونفاهم إلى الشام منهم مالك بن الحارث الأشتر، وكميل بن زياد، وعمرو بن زرارة، وشريح بن أوفى، وزيد وصعصعة ابنا صوحان ) تاريخ المدينة: 3 / 1141) وبقوا منفيين إلى أن أخرج أهل الكوفة سعيد بن العاص، وكتبوا إليهم فعادوا إلى مصرهم.

ورووا أن زيداً مع ذلك كان مطيعاً لعثمان ، قال ابن سعد (125/6) : (فقال يا أمير المؤمنين مِلْتَ فمالت أمتك، إعتدل تعتدل أمتك. ثلاث مرار. قال: أسامع مطيع أنت؟ قال: نعم. قال: إلحق بالشام . قال فخرج من فوره ذلك، فطلق امرأته ثم لحق بحيث أمره! وكانوا يرون الطاعة عليهم حقاً)!

ملاحظات على ترجمة زيد بن صوحان

1 . كذبوا على زيد بأنه اعترف بأنه كان في قتاله في حرب الجمل على الباطل ! فقد روى ابن سعد (125/6) : ( عن غيلان بن جرير قال: ارتث زيد بن صوحان يوم الجمل، قال فدخل عليه ناس من أصحابه فقالوا : أبشر أبا سلمان بالجنة، فقال تقولون قادرين؟ أو النار، فلا تدرون! إنا غزونا القوم في بلادهم، وقتلنا أميرهم، فليتنا إذ ظلمنا صبرنا). يقصد قتلنا عثمان ! ويرد هذه الرواية بشارة النبي الله له بأنه من أهل الجنة، وأن حربه

جهاد. وأنه أوصى أن يدفن بدمائه، لأنه يخاصم قاتليه الظلمة البغاة.

من

372

ص: 372

إعداد عائشة لحرب علي

.2. في بعض الروايات أن يده تسبقه الى الجنة ثلاثين سنة، وهذا لا يصح، لأن

الفاصلة بين جلولاء أو نهاوند وحرب الجمل نحو عشرين سنة. كما يظهر أنه استعجل شهادته رضي الله عنه، فقد قرر مبارزة ابن يثربي ولم حركة عائشة إلى البصرة

يستأذن أمير المؤمنين الله وكان ابن يثربي فاتكاً معروفاً، وكان زيد بيد واحدة! وقد استدل على أنه مدعو للمبارزة بمنام رآه أن يده جاءته تستشيله، أي وصول عائشة إلى البصرة تدعوه لأن يرفعها من الأرض، وأخبر بمنامه أمير المؤمنين الله ولم يستشره ! حركة الإمام إلى البصرة

وكان صعصعة أفضل منه رضي الله عنهما، قال الإمام الصادق الله : ( ماكان وصوله فيه إلى البصرة

مع أمير المؤمنين من أصحابه من يعرف حقه إلا صعصعة وأصحابه).

(معجم الخوئي : 378/9).

.. جندب بن زهير الأزدي رضي الله عنه

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

1. قال السيد الخوئي في معجمه (5/ 145) : جندب بن عبدالله الأزدي من من أخبار عائشة وجملها

أصحاب علي الله ، وروى المفيد قدرة في الإختصاص عن أبي جعفر الله قال: الإمام في البصرة

شهد مع علي بن أبي طالب الله من التابعين ثلاثة نفر بصفين شهد لهم رسول الله بالجنة ولم يرهم أويس القرني، وزيد بن صوحان العبدي، وجندب مشاهد من حرب الجمل الخير الأزدي رحمة الله عليهم . وذكر في الإرشاد في فصل خوارق عادات شهداء مع الإمام السلالة

أمير المؤمنين الله وإخباره عن الغائبات: أن الرجل كان في جيش أمير المؤمنين

بنهروان، فعرض له الشك في جواز قتاله قراء القرآن، ثم استيقن واستقر، لما رأى من أمير المؤمنين الله من إخباره عن الغيب ومطابقته للواقع).

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

الله

وفي مناقب آل أبي طالب (104/2) : (أصحاب التفسير عن جندب بن عبدالله من شعر حرب الجمل الأزدي : لما نزل أمير المؤمنين الله النهروان فانتهينا إلى عسكر القوم، فإذا لهم الإمام واصل الفتوحات دوي كدوي النحل من قراءة القرآن، وفيهم أصحاب البرانس ، فلما أن رأيتهم الإمام ينقل العاصمة

دخلني من ذلك، فتنحيت وقمت أصلي وأنا أقول: اللهم إن كان قتال هؤلاء

373

ص: 373

القوم لك طاعة، فأذن فيه، وإن كان ذلك معصية فأرني ذلك، فأنا في ذلك إذ أقبل علي السلاية فلما حاذاني قال : نعوذ بالله يا جندب من الشك ! ثم نزل يصلي إذ جاءه فارس فقال: يا أمير المؤمنين قد عبر القوم وقطعوا النهر ، فقال الله : كلا ما عبروا، فجاء آخر فقال قد عبر القوم، فقال: كلا ما فعلوا ، قال : والله ما جئت حتى رأيت الرايات في ذلك الجانب والأثقال، فقال له : والله ما فعلوا وانه لمصرعهم ومهراق دمائهم. وفي رواية لا يبلغون إلى قصر بوري بنت كسرى، فدفعنا إلى صفوف فوجدنا الرايات والأثقال كما هي. قال: فأخذ بقفاي ودفعني ثم قال: يا أخا الأزد ما تبين لك الأمر ؟ فقلت: أجل يا أمير المؤمنين)!

2 . قال السيوطي في الخصائص (2 140): (فلما ولي الوليد بن عقبة الكوفة في زمن عثمان أجلس رجلاً يَسْحَر ، يُريهم أنه يُحيى ويميت، فأتى جندب بسيف فضرب به عنق الساحر، وقال: أحي نفسك الآن!

وفي تاريخ البخاري (222/2) : (فذبح إنساناً وأبان رأسه، فعجبنا، فأعاد رأسه)! وفي شرح النهج (241/17 و 20/2) : فدخل على الوليد بن عقبة وعنده ساحر يقال له : أبو شيبان، يأخذ أعين الناس فيخرج مصارين بطنهم ثم يردها، فجاء من خلفه فضربه فقتله، وقال: إلعن وليداً وأبا شيبان. وقد روي أن هذا الساحر كان يدخل عند الوليد في جوف بقرة حية ثم يخرج منها ، فرآه جندب فذهب إلى بيته فاشتمل على سيف فلما دخل الساحر في البقرة قال :جندب أَفَتَأْتُونَ السَحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ! ثم ضرب وسط البقرة فقطعها وقطع الساحر معها، فذعر الناس فسجنه الوليد، وكتب بأمره إلى عثمان). فقتله وقال له : أحي نفسك إن كنت صادقاً، وأن الوليد أراد أن يقتله بالساحر

حتى أنكر الأزد ذلك عليه، فحبسه وطال حبسه حتى هرب من السجن). قال ابن عبد البر في الإستيعاب (259/1) : (الصحيح عندنا أنه جندب بن كعب).

3 . وفي كتاب الجمل للمفيد / 194 : (وروی محمد بن عبدالله بن عبيد الله، عن عمر بن دينار عن صفوان قال لما تصاف الناس يوم الجمل صاح صايح من

374

ص: 374

أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الله : يا معاشر شباب قريش، أراكم قد لججتم وغلبتم على أمركم هذا، وإني أنشدكم الله أن تحقنوا دماءكم، إعداد عائشة لحرب علي ولا تقتلوا أنفسكم، إتق--وا الأشتر النخعي وجندب بن زهير العامري، فإن حركة عائشة إلى البصرة الأشتر يشمر درعه حتى تتبعوا أثره، وإن جندباً يخرم درعه حتى يشمر عنه، وفي رايته علامة حمراء. فلما التقى الناس أقبل الأشتر وجندب قبال الجمل وصول عائشة إلى البصرة يرفلان في السلاح حتى قتلا عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، ومعبد بن زهير حركة الإمام به إلى البصرة بن خلف بن أمية. وعمد جندب لابن الزبير فلما عرفه قال: أتركك لعائشة !

وصوله إلى البصرة

وقال البلاذري (245/2) : ( وقاتل طلحة بن عبيد الله يومئذ قتالاً شديداً، فشد هزيمة جيش عائشة عليه جندب بن عبدالله الأزدي، فلما أمكنه أن يطعنه تركه كراهة لأن يقتله! إسكان عائشة وإرجاعها

وقال الهيثم بن عدي: جعل جندب بن زهير يرتجز يومئذ ويقول: يا أمنا أع-قُ أمّ نعلمُ والأم تغذو وُلدَها وترحمُ

وجعل أيضاً يرتجز أو غيره ويقول:

قلنا لها وهي على مهواة إن لنا سواك أمهات

من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة

مشاهد من حرب الجمل

ملاحظات

في

مسجد الرسول ثاويات

شهداء مع الإمام السلالة

1 . استشهد جندب رضي الله عنه في صفين، ولم يستتشهد في حرب الجمل. وقد من خطب عليه

ترجمنا له هنا لأن النبي الله ذكره مع زيد بن صوحان رضي الله عنهما .

الكذب في حرب الجمل

.2 يظهر من روايته أنه كان مميزاً بقوته وفروسيته، فقد كان جيش عائشة يهربون من شعر حرب الجمل

منه في المعركة، وقرنوه بالأشتر ، وقد وصف الكلاعي الأشتر بأنه من أبطال العالم.

.3. ذكر المؤرخون أن جندباً عفا عن عدة تمكن من قتلهم، وهذا من أخلاق

فروسیته وليته لم يعفُ عن ابن الزبير وطلحة، وأراح المسلمين منها!

الإمام في واصل الفتوحات

الإمام ينقل العاصمة

375

ص: 375

4 . مدح النبي زيد بن صعصعة وجندباً قبل أن يراهما بقوله: ( أما أحدهما فتسبقه

يده إلى الجنة، وأما الآخر فيضرب ضربة يفصل بها بين الحق والباطل).

وهذا مقام عظيم لزيد و جندب رضي الله عنها. فقد سبقت زيداً يده بسنين طويلة، وهذا يدل على مشروعية معارك فتح العراق التي شارك فيها زيد فقطعت يده ومشروعية

حرب الجمل التي استشهد فيها .

أما ضربة جندب فكانت في زمن عثمان لما ولى الوليد بن عقبة الأموي على العراق، وهو معروف بالوليد الفاسق، لأنه نزل فيه قول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ.. وقد جاء الوليد بساحر هندي وكان يقيم له العروض في الكوفة فيعمل الأعاجيب ويضلل الناس ولعل غرض الوليد أن يصدق الناس بقدرة السحرة ثم يقول لهم إن محمداً ساحر ! فيكون الساحر مشروعاً أموياً للتشكيك بالنبوة! ولهذا كانت ضربة جندب فاصلة بين حق النبوة وباطل السحر. ومعنى أن النبي ذكر ضربة جندب قبل أن يراه أن جبرئيل الله أخبره بذلك، وأن ضربته للساحر خطة ربانية لإبطال سحر الوالي الأموي.

ه . تقول رواية إن الساحر دخل في بقرة (الأغاني : 5 / 98) فضرب جندب البقرة وقطعها وقتل الساحر في جوفها، وهذا لا يصح، لأن دخول الساحر في جوف البقرة لا حقيقة له، بل سحر أعين الناس وصور لهم ذلك، فلا بد أن يكون واقفاً الى جنب البقرة. فالصحيح أن جندباً ضربه وهو يقوم بعملية سحر ولم يضرب البقرة، لأن مافصل بين الحق والباطل ضربة واحدة ضربها جندب رضي الله عنه للساحر.

.4 . هند بن عمرو الجملي المرادي رضي الله عنه

1 . في مكاتيب الأئمة عال للأحمدي (169/1) ملخصاً: (أدرك الجاهلية، وولاه عمر

على نصارى بني تغلب سنة

سبع

عشرة، وقتله ابن يثربي الضبي، وقال:

إن تقتلوني فأنا ابن يثربي قاتل علب-اء وه-ن-د الجملي

قال الطبري : فقال علي : من رجل يحمل على الجمل ؟ فانتدب له هن--د بن عمرو

376

ص: 376

المرادي ، فاعترضه ابن يثربي ، فاختلفا ضربتين ، فقتله ابن يثربي .

وعدَّ الطبري هنداً من رؤساء النافرين من الكوفة إلى حرب الجمل، قال: إعداد عائشة لحرب علي فكان رؤساء الجماعة : القعقاع بن عمرو، وسعر بن مالك، وهند بن عمرو. وفي حركة عائشة إلى البصرة الإمامة والسياسة أن أمير المؤمنين التالية استعمله على ساقته.

وهو الذي قال فيه عمر : سيد أهل الكوفة، إسمه إسم امرأة. وقد شهد فتح وصول عائشة إلى البصرة الري وقومس . ولما بعث أمير المؤمنين الحسن الله إلى الكوفة لاستنفار الناس إلى حركة الإمام له إلى البصرة الجمل، فخطبهم وحضهم على الجهاد .. فقام هند بن عمرو فقال: إن أمير المؤمنين وصوله إلى البصرة

قد دعانا، وأرسل إلينا رسله حتى جاءنا ابنه فاسمعوا إلى قوله وانتهوا إلى أمره، وانفروا إلى أميركم، فانظروا معه في هذا الأمر، وأعينوه برأيكم.

قال البلاذري وكان هند الجملي يقول وهو يقاتل، حتى قتل : أضربهم جهدي بحد المنصل والموت دون الجمل المجلل

إن تحملوا قدماً علي أحمل.

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة 2. روى الذهبي في رسالته في طرق حديث من كنت مولاه 95 ، عن سعيد بن وهب قال: (كنا عند علي في الرحبة إذ أقبل عمرو بن هند المرادي ثم الجملي مشاهد من حرب الجمل وكان أبوه قتل يوم الجمل فقال : يا أمير المؤمنين حديث حدثنيه عمار بن ياسر شهداء مع الإمام السلام

قال فقال : لا تكذبوا على عمار، قال: فرددها عليه مراراً فقال علي أرنا حديثك

فقال: حدثني هند الجملي أنهم لما بلغهم مسير طلحة والزبير إلى البصرة، وأقبل من خطب عليه علي إليهم اجتمع الناس في هذا المسجد فقالوا: يا هند إن الرائد لا يكذب أهله الكذب في حرب الجمل وأنت لنا ثقة، فاخرج فاستقبل هذا الرجل فانظر ما الذي عليه، فخرجت حتى من شعر حرب الجمل

إذا كنت بين السيلحين والقادسية إذا أنا بسبعة ركب يوضعون على النجائب، فسلمت فردوا السلام ووقفوا وقالوا ممن الرجل؟ فقلت: أنا هند بن عمرو الإمام يواصل الفتوحات المرادي فرحبوا وقالوا خيراً. قلت: ومن أنتم ؟ فقال رجل خفيف اللحم:

أنا عمار بن ياسر، وهذا خزيمة بن ثابت، وهذا أبو أيوب الأنصاري، وهذا

الإمام ينقل العاصمة

377

ص: 377

قاتلت

معي

الحسن بن علي . قال : وإذا ستة من أصحاب النبي السابعهم الحسن فقلت: يا

. أصحاب رسول الله شهدتم وغبنا، وجئتمونا بأمر عظيم، يضرب بعضكم بعضاً ! فقال عمار : أقصر أو أطل ؟ قال لي رسول الله : يا عمار تقاتل مع علي على تأويل القرآن كما على تنزيله، وقد سمع هؤلاء فشهدوا له بذلك، قال: فأقبلت إلى الناس هاهنا وقلت : دعيتم دعوة حق فأجيبوها . قال : فاستوى على الشالية قاعداً فقال: صدق هند وصدق عمار، والله إنها لفي ألف حديث حدثنيه رسول الله له ما فش-ا منه غير هذا، فأنشد الله عبداً سمع قول رسول الله له في إلا قام ؟ قال أبو إسحاق: فحدثني هؤلاء النفر قالوا: عددنا اثني عشر من أصحاب النبي ع مما بيننا ومن رووا ذلك لا نحصيه. قالوا: سمعنا رسول الله الله يوم غدير خم يقول : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبه ، وانصر من نصره، وأعن من أعانه حديث منكر غريب و مخول وإن كان رافضياً فهو صدوق، ولكن موسى متروك، ولا نشك أن أبا إسحاق السبيعي سمعه من جماعة ، وقد رواه كل وقت عن بعض ) .

وقول الذهبي إن الحديث منكر ، لأنه يُدين كل من خالف عليا السلام

ونرجح أن يكون سؤال هند الجملي عن وجه القتال لتفهيم الآخرين، خاصة أنه ذهب بعده الى المسجد وخطب، ثم تحرك الى علي الله . والجملي : نسبة الى جدهم جمل بن ناجية.

.5 . عِلباء بن الهيثم السدوسي رضي الله عنه

قال الزركلي في الأعلام (247/4): (شجاع من الفصحاء ، وأدرك الجاهلية والإسلام. وشهد الفتوح في عهد عمر . وسكن الكوفة وكان سيداً بها. وهو أول من دعا فيها إلى علي بن أبي طالب. واستشهد في وقعة الجمل. وقال الأحمدي في مكاتيب الأئمة الملخصاً (169/1) : (إن أهل الكوفة أو فدوا علباء بن الهيثم السدوسي إلى عمر ، فرأى هيئة رثة ، فلما تكلم في حاجته أحسن فقال عمر : لكل أناس في جملهم خبر والمعنى: أن خبره فوق منظره. وكان علباء من

378

ص: 378

الذين ثاروا على عثمان. وقال علي الله في معركة الجمل: من يحمل على الجمل؟

فانتدب له هند بن عمرو الجملي المرادي فاعترضه عمار بن يثربي فقتله. ثم حمل إعداد عائشة لحرب علي علباء بن الهيثم فاعترضه ابن يثربي فقتله. وقال الطبري: إن علياً قال: من رجلٌ حركة عائشة إلى البصرة

الله

يحمل على الجمل ؟ فحمل هند بن عمرو، ثم سيحان بن صوحان، ثم علباء بن الهيثم . وقال ابن أعثم خرج عمرو بن يثربي من أصحاب الجمل ، حتى وقف وصول عائشة إلى البصرة بين الصفين قريباً من الجمل، ثم دعا إلى البراز وسأل النزال، فخرج إليه علباء حركة الإمام إلى البصرة بن الهيثم من أصحاب علي رضي الله عنه فشد عليه عمرو فقتله). وصوله فيه إلى البصرة وقال البلاذري (244/2) : (قتل عمرو بن يثربي الضبي ثلاثة من أصحاب علي: زيد بن صوحان العبدي، وكان يكنى أبا عائشة، وعلياء بن الهيثم السدوسي من هزيمة جيش عائشة ربيعة، وهند بن عمرو بن جدراة الجملي من مراد، وهو الذي يقول: إني لمن أنكرني ابن يثربي قاتل علب-اء وه-ن-د الجملي

ثم ابن صوحان على دين علي

وكان هند الجملي يقول وهو يقاتل حتى قتل: أضر بهم جهدي بحد المنصل والموت دون الجمل المجلل إن تحملوا قدماً على أحمل.

إسكان عائشة وإرجاعها

من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة

مشاهد من حرب الجمل

شهداء مع الإمام السلالة

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

ورى ابن أبي الحديد عن خالد بن معمر السدوسي خالد بن معمر السدوسي أنه قال لعلباء بن الهيثم وهو يحمله على مفارقة علي واللحاق بمعاوية : إتق الله يا علباء في عشيرتك، وانظر لنفسك ولرحمك، ماذا تؤمل عند رجل أردته على أن يزيد في عطاء الحسن والحسين دريهمات يسيرة، ريثما يرأبان بها ظلف عيشهما، فأبى وغضب! وقال الأحمدي: وهذه القضية إن صحت إنما تدل على عظم إخلاص الذين من شعر حرب الجمل اتبعوا عليا الله و وازروه ونصروه حتى قتلوا دونه، ومنهم علباء بن الهيثم الإمام واصل الفتوحات السدوسي رضي الله عنه. أما القول بأن علباء قتل في حرب الجمل ولحوق الإمام ينقل العاصمة

المنافقين بمعاوية كان بعد الجمل وصفين؟ فجوابه: أن بعض المنافقين قد التحقوا بمعاوية من المدينة والكوفة والبصرة وغيرها، قبل حرب الجمل).

الله

379

ص: 379

أقول رفض علباء دعوة خالد الى النفاق والخيانة، وتوفق للشهادة، بينما التحق خالد

بن معمر السدوسي بمعاوية وقد روت المصادر نفاقه وقتل معاوية له !

ففي مناقب آل أبي طالب (357/2) : (ونادى خالد السدوسي: م---ن يبايعن-ي على الموت؟ فأجابه تسعة آلاف فقاتلوا حتى بلغوا فسطاط معاوية، فهرب معاوية فنهبوا فسطاطه، وأنفذ معاوية إليه فقال: يا خالد لك عندي إمرة خراسان متى ظفرت فأقصر ويحك عن فعالك هذا. فنكل عنها فتفل أصحابه في وجهه وحاربوا إلى الليل وفيه يقول النجاشي :

وفرابن حرب غير الله وجهه وذاك قليل من عقوبة قادر) وكانت عاقبة خالد الموت رخيصاً، فقد ولاه معاوية وقتله قبل أن يصير أميراً! قال في إكمال الكمال (270/7) : ( وفد على معاوية فولاه أرمينية فوصل إلى نصيبين فيقال إنه احتيل له شربة فمات ، فقبره بها.

وقال اليعقوبي في البلدان/46 : (فدس إليه زياد سماً، فمات ولم يصل).

6 . سيحان بن صوحان رضي الله عنه

1 . أخ زيد وصعصعة، وهو مثلهما في التقوى والزهد، والشجاعة والإخلاص لأمير المؤمنين الله . وقد طلب ابن عباس من صعصعة أن يصف أخويه زيداً وسيحان ابني صعصعة، فقال: أما زيد فكما قال أخو غنى(قبيلة):

فتى لايبالي أن يكون بوجهه إذا س--دت خلات الكرام شحوب

إذا ما ترا آه الرجال تحفظوا فلم ينطقوا العوراء وهو قريب

حليف الندى يدعو الندى فيجيبه إليه ، ويدعوه الندى فيجيب

كأن بيوت الحي ما لم يكن بها بسابس ما يلفى بهن غريب ثم قال : كان والله يا ابن عباس عظيم المروة ، شريف الأخوة ، جليل الخطر، بعيد الأثر ، كميش العروة ، أليف البدوة ، سليم جوانح الصدر، قليل وساوس الدهر، ذاكراً الله طرفي النهار وزلفاً من الليل، الجوع والشبع عنده سيان لا ينافس في دنياً

380

ص: 380

وأقل أصحابه من ينافس فيها، يطيل السكوت ويحفظ الكلام، إن نطق نطق بعَقَام (كلام عقام بليغ لا يعرفه الناس يهرب منه الدعار الأشرار، ويألفه إعداد عائشة لحرب علي الأحرار الأخيار . فقال ابن عباس : ما ظنك برجل من أهل الجنة، رحم الله زيداً! حركة عائشة إلى البصرة

فأين كان عبد الله منه (سيحان)؟ قال: كان عبد الله سيداً شجاعاً، مألفاً ،مطاعاً،

وہ

المقادة

خيره وساع وشره دفاع قلبي النحيزة، أحوزي الغريزة، لا ينهنهه منهنه عما وصول عائشة إلى البصرة أراده، ولا يركب من الأمر إلا عتاده، سمام عداً، وباذل قرى صعب جزل الرفادة أخو إخوان وفتى فتيان وهو كما قال البرجمي عامر بن سنان:

سمامُ عدى بالنبل يقتل من رمى وبالسيف والرمح الرديني مشغب

29

حركة الإمام إلى البصرة

وصوله إلى البصرة

هزيمة جيش عائشة

مهیب مفيد للنوال مُعَوَّدٌ بفعل الندى والمكرمات مجرب فقال له ابن عباس : أنت يا ابن صوحان باقر علم العرب) . ( مروج الذهب : 3 / 46) . إسكان عائشة وإرجاعها

2. وقد استشهد سيحان مع أخيه زيد يوم الجمل، وذكر المؤرخون أن الذين من أخبار عائشة وجملها

خطبوا في الكوفة يحثون الناس على نصرة أمير المؤمنين الله في حرب الجمل

الإمام في البصرة

من

خطب علي

هم: الإمام الحسن الله وعمار بن ياسر ، والأشتر، وزيد بن صوحان، وأخوه سيحان. قال الطبري (498/3) : ( وقال سيحان: أيها الناس إنه لابد لهذا الأمر مشاهد من حرب الجمل وهؤلاء الناس من والٍ يدفع الظالم ويعز المظلوم ويجمع الناس، وهذا واليكم شهداء مع الإمام السلام يدعوكم لينظر فيما بينه وبين صاحبيه، وهو المأمون على الأمة، الفقيه في الدين

فمن نهض إليه، فإنا سائرون معه. وحضر المعركة مع أخويه، ولما دعا أمير المؤمنين الثانية أصحابه ليحملوا على الكذب في حرب الجمل

الجمل ويعقروه ويخلصوا الناس من شره، كان بنو صوحان في مقدمة من استجاب، فحمل زيد وقاتل حتى استشهد فأخذ الراية أخوه سيحان، وتقدم نحو الجمل فاستشهد). والمروي أن زيداً برز من نفسه مستقلاً.

من شعر حرب الجمل

الإمام في واصل الفتوحات

.3 . قال في الغارات (788/2): ( وشأن عبد القيس عجيب، وذلك أنهم الإمام ينقل العاصمة

بعد محاربة إياد تفرقوا فرقتين ففرقة وقعت بعمان وشق عمان، وفيهم خطباء

381

ص: 381

العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين وشق بحرين وهم أشعر قبيلة في العرب، ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية وفي معدن الفصاحة، وهذا عجب! ومن

خطبائهم المشهورين صعصعة بن صوحان وزيد بن صوحان، وسيحان بن صوحان

ومنهم صحار بن عياش، وصحار من شيعة عثمان، وبنو صوحان من شيعة علي).

4. وسيحان صحابي روى عن النبي ، روايات منها في فضل علي الليلة وشيعته . قال ابن حجر في الإصابة (195/3) : ( عن القاسم بن محمد أنه كان أحد الأمراء في قتال أهل الردة، وقد تقدم أنهم كانوا لا يؤمرون إلا الصحابة).

وقال ابن سعد (178/6) : (وهو الذي دفن مع أخيه زيد بن صوحان في قبر).

ه . وقال السيد الخوئي (378/9) : (ولا يبعد استفادة مدحه من قول الصادق

(ما كان مع أمير المؤمنين الله من يعرف حقه إلا صعصعة وأصحابه).

7 . حسان بن مخدوج بن بشر الذهلي رضي الله عنه

1 . قال أمير المؤمنين الله في رسالته الى أهل الكوفة: (وأصيب ممن أصيب منا: ثمامة

بن المثنى، وهند بن عمرو، وعلباء بن الهيثم، وسيحان وزيد ابنا صوحان ومخدوج). يقصد الله حسان بن مخدوج ، الذي قال فيه الشاعر (البلاذري:245/2):

يا قاتل الله أقواماً هم

قتلوا يوم الخريبة علباءً وحسّانا

وابن المثنى أصاب السيف مقتله وخیر قرائهم زيد بن صوحانا .

وحسان الذي ذكره حسان بن مخدوج بن بشر بن خوط ، كان معه لواء بكر بن وائل فقتل ، فأخذه أخوه حذيفة بن مخدوج فأصيب ، ثم أخذه بعده عدة من الحوطيين فقتلوا ، حتى تحاموه).

وفي نسب معد واليمن (58/1) : (حسان بن مخدوج بن بشر بن خوط .. كان معه اللواء يوم الجمل فقتل، فأخذه أخوه حذيفة بن مخدوج فأصيب، فأخذه عمهما الأسود بن بشر بن خوط فقتل، فأخذه عبد هند بن بشر بن خوط فقتل، فأخذه عميس بن

382

ص: 382

الحارث بن حسان بن حوط فقتل، فأخذه زهير بن عمرو بن حوط فقتِل، ثم تحاماه القوم وكانوا مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الله )

إعداد عائشة لحرب علي

2 . وسماه الطبري (3 (529) الحارث بن حسان: (وكانت راية بكر بن وائل من حركة عائشة إلى البصرة أهل الكوفة في بني ذهل كانت مع الحارث بن حسان بن حوط الذهلي فقال أبو وصول عائشة إلى البصرة العرفاء الرقاشي : أبق على نفسك وقومك فأقدم وقال يا معشر بكر بن وائل إنه لم حركة الإمام إلى البصرة

يكن أحد له من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل منزلة صاحبكم فانصروه،فأقدم فقتل وقتل ابنه وقتل خمسة إخوة له، فقال له يومئذ بشر بن حسان بن حوط وهو يقاتل وصوله إلى البصرة

أنا ابن حسان بن حوط وأبي رسول بكر كلها إلى النبي

وقال ابنه

أنعى الرئيس الحارث بن حسان لآل ذهل ولآل شيبان

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

وقتل رجال من بني مخدوج، وكانت الرئاسة لهم من أهل الكوفة، وقتل من أخبار عائشة وجملها

من بني ذهل خمسة وثلاثون رجلاً، فقال رجل لأخيه وهو يقاتل : يا أخي ما أحسن قتالنا إن كنا على حق. قال: فإنا على الحق، إن الناس أخذوا يميناً وشمالاً الإمام في البصرة وإنما تمسكنا بأهل بيت نبينا ، فقاتلا حتى قتلا، وكانت رئاسة عبد القيس من مشاهد من حرب الجمل أهل البصرة وكانوا مع علي لعمرو بن مرحوم. ورئاسة بكر بن وائل لشقيق بن ثور والراية مع رشراشة مولاه.

شهداء مع الإمام السلالة

علي

ورئاسة الأزد من أهل البصرة، وكانوا مع عائشة ، لعبد الرحمن بن جشم من خطب بن أبي حنين الحمامي، ويقال لصبرة بن شيمان الحداني، والراية مع عمرو بن الكذب في حرب الجمل الأشرف العتكي، فقتل وقتل معه ثلاثة عشر رجلاً من أهل بيته). فالشهداء من بني مخدوج عدة، منهم حسان وابنه الحارث رضي الله عنهما وآخرون، من ش-ع-ر ح--رب الجمل وقد يكون الوارد في رسالة أمير المؤمنين الله : وبني مخدوج بدل مخدوج رضي الله الإمام واصل الفتوحات عنهم، لأنه ليس في الشهداء مخدوج . وقد كان الذهليون العنزيون من شيعة علي الشالية وقد قدَّموا ، معه شهداء في حياته وبعد مماته، فقد قتل ابن رئيسهم عبد الرحمن بن حسان بن مخدوج العنزي، مع حجر بن عدي رضي الله عنه وأصحابه، الذين رفضوا

الله

الإمام ينقل العاصمة

383

ص: 383

أن يسبوا عليا الله . قال ابن عساكر في تاريخ دمشق (301/34): (عبد الرحمن بن حسان بن مخدوج العنزي الكوفي، تابعي ممن قدم مع حجر بن عدي إلى عذراء فلما قتل حجر وأصحابه حمل عبد الرحمن إلى معاوية، وكلمه بكلام أغلظ له فيه فبعثه إلى زياد، وأمره بمعاقبته، فدفنه حياً بقس الناطف !

.3. وقال ابن ماكولا في إكمال الكمال (1983): (وحوط بن الحارث بن حسان

الذهلي، قتل هو وأبوه يوم الجمل، وكان أبوه الحارث بن حسان صحابياً).

4. وسماه ابن حجر في الإصابة (57/2) : الحسين بن مخدوج، قال: (حسان بن

حوط.. كان شريفاً في قومه وكان وافد بكر بن وائل إلى النبي وعاش حتى ا شهد الجمل مع علي ومعه ابناه الحارث وبشر وأخوه بشر بن خوط وأقاربه. وكان لواء علي مع حسين بن مخدوج بن بشر بن خوط فقتل، فأخذه أخوه حذيفة فقتل، فأخذه عمهما الأسود بن بشر بن خوط، فقتل فأخذه عنبس بن الحارث بن حسان بن خوط، فقتل فأخذه وهيب بن عمرو بن خوط فقتل. وأخرج عمرو بن شبة في وقعة الجمل من طريق قتادة قال كانت راية بكر بن وائل في بني ذهل مع الحارث بن حسان فقتل وقتل معه ابنه، وخمسة من إخوته وكان الحارث يقول : أنا الرئيس الحارث بن حسان،

لآل ذهل ولآل شيبان).

ه . وسماه ابن خلدون (2ق 2 / 164) قال : ( وكانت راية بكر بن وائل في بني ذهل مع الحرث بن حسان فقتل في خمسة من بني أهله ورجال من بني مخدوج وخمسة وثلاثين

من بني ذهل. والمرجح حسان الذي ورد اسمه في أراجيز حرب الجمل.

6 . واشتهر منهم مخدوج بن زيد، ويظهر أنه غير الذين استشهدوا، وقد روت عنه مصادر السنة والشيعة أحاديث مهمة جداً ! منها في أمالي الطوسي/485: (حدثنا سعد بن طريف الحنظلي، عن عطية بن سعد العوفي، عن مخدوج بن زيد الذهلي، وكان في وفد قومه إلى النبي ، تلا هذه الآية : لا يَسْتَوى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ

م الله الله

384

ص: 384

الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ. قال فقلت: يا رسول الله من أصحاب الجنة؟ قال: من أطاعني

وصول عائشة إلى البصرة

وسلم لهذا من بعدي. قال: وأخذ رسول الله له بكف علي الله وهو يومئذ إعداد عائشة لحرب علي إلى جنبه فرفعها، وقال: ألا إن علياً مني وأنا منه، فمن حاده فقد حادني، ومن حركة عائشة إلى البصرة حادني فقد أسخط الله عز وجل ثم قال: يا علي حربك حربي وسلمك سلمي، وأنت العلم بيني وبين أمتي. قال عطية: فدخلت على زيد بن أرقم في منزله، فذكرت له حديث مخدوج ابن حركة الإمام إلى البصرة

زيد، فقال: ما ظننت أنه بقي ممن سمع رسول الله له يقول هذا غيري، أشهد لقد حدثنا به رسول الله . ثم قال : لقد حاده رجال سمعوا رسول الله صله قوله هذا وقد رَدُوا). أي: تردوا في الهاوية!

وصوله إلى البصرة

هزيمة جيش عائشة

ومنها حديث أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة (662/2) : (بسنده عن عطية إسكان عائشة وإرجاعها

العوفي، عن مخدوج بن زيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين المسلمين ثم قال: يا من أخبار عائشة وجملها

علي، أنت أخي، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي، أما علمت يا علي أنه أول من يدعى به يوم القيامة يدعى بي، فأقوم عن يمين العرش الإمام في البصرة في ظله، فأكسى حلة خضراء من حلل الجنة ، ثم يدعى بالنبيين بعضهم على أثر مشاهد من حرب الجمل

يوم

من

خطب علي

بعض، فيقومون سماطين عن يمين العرش ويكسون حللاً خضراء من حلل الجنة، ألا وإني أخبرك يا علي أن أمتي أول الأمم يحاسبون يوم القيامة، ثم أبشر شهداء مع الإمام الشالية أول من يدعى بك لقرابتك مني، ومنزلتك عندي، ويدفع إليك لوائي، وهو لواء الحمد، فتسير به بين السماطين ، آدم الله وجميع خلق الله يستظلون بظل لوائي القيامة، وطوله مسيرة ألف سنة ، سنانه ياقوتة حمراء، قضبه فضة بيضاء، الكذب في حرب الجمل زجه درة خضراء، له ثلاث ذوائب من نور، ذوابة في المشرق، وذوابة في المغرب، من شعر حرب الجمل والثالثة وسط الدنيا، مكتوب عليه ثلاثة أسطر الأول: بسم الله الرحمن الرحيم. الإمام واصل الفتوحات

والثاني : الحمد لله رب العالمين، والثالث: لا إله إلا الله محمد رسول الله، طول كل سطر ألف سنة، وعرضه مسيرة ألف سنة، فتسير باللواء والحسن عن يمينك، الإمام ينقل العاصمة

و الحسين عن يسارك، حتى تقف بيني وبين إبراهيم في ظل العرش ، ثم تكسى حلة

385

ص: 385

خضراء من الجنة، ثم ينادي مناد من تحت العرش: نعم الأب أبوك إبراهيم، ونعم الأخ أخوك علي أبشر يا علي إنك تكسى إذا كسيت، وتدعى إذا دعيت، وتحيا إذا حييت).

6

ورواه المحب الطبري في الرياض النضرة (3 (171) وفيه: (قيل يا رسول الله وكيف يستطيع علي أن يحمل لواء الحمد؟ فقال رسول الله: وكيف لايستطيع ذلك وقد أعطي خصالاً شتى، صبراً كصبري، وحسناً كحسن يوسف الله ، وقوة كقوة جبريل المالية ) . ورواه ابن عساكر (53/42) وأسد الغابة (306/4) والدمشقي في جواهر المطالب (181/1). وابن كثير في النهاية (371/7) وضعفه طبعاً لأنه ناصبي !

.8. الشهيد الحي عثمان بن حنيف رضي الله عنه

1 . عثمان بن حنيف من كبار الصحابة ونقباء الأنصار، قال السيد الخوئي(117/12): عثمان بن حنيف الأنصاري عربي، من أصحاب أمير المؤمنين الله وعده البرقي من

شرطة الخميس.. وكذلك الشيخ المفيد في الإختصاص.

وذكر ابن شهر آشوب أنه شهد وقعة الجمل مع أمير المؤمنين الله وقال :

شهدت الحروب فشيبنني فلم أر يوماً كيوم الجمل

أشد على مؤمن فتنة وأقتل منهم لحرق بطل]

فليت الظعينة في بيتها ويا ليت عسكر لم يرتحلل]

وتقدم في ترجمة البراء بن مالك قول الفضل بن شاذان: إنه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين الله . وتقدم أيضاً في ترجمة جندب بن جنادة أنه من الذين مضوا على منهاج نبيهم له و لم يغيروا ولم يبدلوا. وهو من الإثني عشر الذين أنكروا على أبي بكر ) . وقال ابن حجر في الإصابة (371/4) : (روى عنه إبن أخيه أبو أسامة بن سهل وطائفة. وكان علي استعمله على البصرة قبل أن يقدم عليها، فغلبه عليها طلحة والزبير، فكانت القصة المشهورة في وقعة الجمل، وقالوا إنه سكن الكوفة

ومات في خلافة معاوية ) .

386

ص: 386

.2 . عينه أمير المؤمنين الله والياً على البصرة ، فبعد مقتل عثمان هرب الوالي من قبل عثمان عبدالله بن عامر بن كريز الأموي، وسرق ما استطاع من بيت المال، إعداد عائشة لحرب علي واشتغل بالتخطيط للثورة على علي السلة مع عائشة وطلحة والزبير. وجاء الوالي الجديد عثمان بن حنيف الى البصرة، ففرحوا به وبايعوا علياء الله

..

حركة عائشة إلى البصرة

وصول عائشة إلى البصرة

لما توجهت عائشة الى البصرة، أرسل أمير المؤمنين الله الى عثمان بن حنيف

حركة الإمام إلى البصرة

أن يترك مقادير الله تجري فيهم ، ويستفهم منهم ويوضح لهم، ولا يبدأهم بقتال وأن يحسن جوارهم إذا لم يقاتلوه، وأن يقاتلهم فقط إذا أرادوا السيطرة على المدينة وصوله إلى البصرة

.4 . بقيت عائشة يومين في الحوأب قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة (1 (60): هزيمة جيش عائشة (انتهوا إلى ماء الحوأب في بعض الطريق ومعهم عائشة، نبحتها كلاب الحوأب إسكان عائشة وإرجاعها فقالت لمحمد بن طلحة أي ماء هذا؟ قال: هذا ماء الحوأب، فقالت: ما أراني إلا راجعة ! قال: ولم؟ قالت: سمعت رسول الله يقول لنسائه: كأني بإحداكن قد من أخبار عائشة وجملها نبحها كلاب الحوأب وإياك أن تكوني أنت يا حميراء. فقال لها محمد بن تقدمي رحمك الله ودعي هذا القول وأتى عبدالله بن الزبير فحلف لها بالله لقد

!

مشاهد من حرب الجمل

خلّفتِهِ أول الليل، وأتاها ببينة زور من الأعراب فشهدوا بذلك! فزعموا أنها أول شهادة زور شهد بها في الإسلام). وقد تقدم تفصيل الحوأب في محله. شهداء مع الإمام السلالة

طلحة

الإمام في البصرة

.5 وضربت عائشة معسكرها في ضاحية البصرة، قال في شرح النهج من خطب علي لي .

(311/9) قال ابن عباس : ( إن الزبير وطلحة أغذا السير بعائشة، حتى انتهوا الكذب في حرب الجمل إلى حفر أبي موسى الأشعري وهو قريب من البصرة، وكتبا إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وهو عامل علي الليلة على البصرة : أن أخل لنا دار الإمارة! فلما وصل من ش-ع-ر ح--رب الجمل كتابهما إليه بعث الأحنف بن قيس، فقال له : إن هؤلاء القوم قدموا علينا ومعهم الإمام واصل الفتوحات زوجة رسول الله و الناس إليها سراع كما ترى، فقال الأحنف: إنهم جاءوك الإمام ينقل العاصمة

بها للطلب بدم عثمان، وهم الذين ألبوا على عثمان الناس، وسفكوا دمه وأراهم والله لايزالون حتى يلقوا العداوة بيننا ويسفكوا دماءنا، وأظنهم والله سيركبون

387

ص: 387

منك خاصة مالا قبل لك به، إن لم تتأهب لهم بالنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة، فإنك اليوم الوالي عليهم وأنت فيهم مطاع فسر إليهم بالناس، وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة، فيكون الناس لهم أطوع منهم لك ! فقال عثمان بن حنيف: الرأي ما رأيت لكنني أكره الشر وأن أبدأهم به، وأرجو العافية والسلامة إلى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين الله ورأيه فأعمل به. ثم أتاه بعد الأحنف حكيم بن جبلة العبدي من بني عمرو بن وديعة، فأقرأه كتاب طلحة والزبير، فقال له مثل قول الأحنف وأجابه عثمان بمثل جوابه للأحنف، فقال له حكيم فأذن لي حتى أسير إليهم بالناس فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين التالية وإلا نابذتهم على سواء. فقال عثمان : لو كان ذلك رأيي لسرت إليهم بنفسي. قال حكيم: أما والله إن دخلوا عليك هذا المصر لتنتقلن قلوب كثير من الناس إليهم وليزيلنك عن مجلسك هذا، وأنت أعلم. فأبى عليه عثمان!

6 . قال : وكتب علي الله إلى عثمان لما بلغه مشارفة القوم البصرة: من عبدالله علي أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف: أما بعد فإن البغاة عاهدوا الله ثم نكثوا، وتوجهوا إلى مصرك، وساقهم الشيطان لطلب ما لا يرضى الله به، والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً ، فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة والرجوع إلى الوفاء بالعهد والميثاق الذي فارقونا عليه ، فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك وإن أبوا إلا التمسك بحبل النكث والخلاف، فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك وبينهم وهو خير الحاكمين. وكتبت كتابي هذا إليك من الربذة، وأنا معجل المسير إليك، إن شاء الله. وكتبه عبيد الله بن أبي رافع، في سنة ست وثلاثين.

قال: فلما وصل كتاب علي الله إلى عثمان أرسل إلى أبي الأسود الدؤلي وعمران بن الحصين الخزاعي، فأمر هما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم وما الذي أقدمهم ؟ فانطلقا حتى إذا أتيا حفر أبي موسى و به معسكر القوم، فدخلا على عائشة فنالاها ووعظاها وأذكراها وناشداها الله، فقالت لهما: إلقيا طلحة والزبير. فقاما من عندها ولقيا الزبير فكلماه فقال لهما : إنا جئنا للطلب بدم عثمان وندعو الناس إلى أن يردوا أمر الخلافة

388

ص: 388

شورى ليختار الناس لأنفسهم!

فقالا له: إن عثمان لم يقتل بالبصرة ليطلب دمه فيها، وأنت تعلم قتلة عثمان من إعداد عائشة لحرب علي هم وأين هم، وإنك وصاحبك وعائشة كنتم أشد الناس عليه، وأعظمهم إغراء حركة عائشة إلى البصرة بدمه فأقيدوا من أنفسكم ! وأما إعادة أمر الخلافة شورى فكيف وقد بايعتم علياً طائعين غير مكرهين وأنت يا أبا عبدالله لم يبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل وصول عائشة إلى البصرة يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم و أنت آخذ قائم سيفك، تقول: ما أحد أحق بالخلافة حركة الإمام إلى البصرة منه ولا أولى بها منه ! و امتنعت من بيعة أبي بكر، فأين ذلك الفعل من هذا القول ! وصوله إلى البصرة

فقال لهما : إذهبا فالقيا ،طلحة، فقاما إلى طلحة فوجداه خشن الملمس شدید

العريكة قوي العزم في إثارة الفتنة وإضرام نار الحرب، فانصرفا إلى عثمان بن هزيمة جيش عائشة حنيف فأخبراه ، وقال له أبو الأسود: يا ابن حنيف قد أتيت فانفر. الى آخر ما تقدم. إسكان عائشة وإرجاعها

. واجتمع أهل البصرة إلى المربد حتى ملؤوه مشاةً وركباناً، فقام طلحة من أخبار عائشة وجملها

فأشار إلى الناس بالسكون ليخطب، فسكتوا بعد جهد، فقال... قال: ثم أقبلت عائشة على جملها، فنادت بصوت مرتفع أيها الناس، أقلوا الإمامه في البصرة الكلام واسكتوا، فأسكت الناس لها، فقالت: إن أمير المؤمنين عثمان ق--د مشاهد من حرب الجمل كان غير وبدل ثم لم يزل يغسل ذلك بالتوبة، حتى قتل مظلوماً تائباً، وإنما

شهداء مع الإمام السلالة

نقموا عليه ضربه بالسوط، وتأميره ،الشبان وحمايته موضع الغمامة، فقتلوه محرماً في حرمة الشهر وحرمة البلد، ذبحاً كما يذبح الجمل. ألا وإن قريشاً من خط---ب ع--لي رمت غرضها بنبالها وأدمت أفواهها بأيديها، وما نالت بقتلها إياه شيئاً،

الكذب في حرب الجمل

ولا سلکت به سبيلاً قاصداً.. ألا إن عثمان قتل مظلوماً فاطلبوا قتلته، فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم، ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم من شعر حرب الجمل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان الإمام واصل الفتوحات

:قال : فماج الناس واختلطوا فمن قائل: القول ما قالت ومن قائل يقول : وما الإمام ينقل العاصمة

هي وهذا الأمر، إنما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها وارتفعت الأصوات وكثر

اللغط

حتى تضاربوا بالنعال وتراموا بالحصى ثم إن الناس تمايزوا فصاروا

الله

389

ص: 389

فريقين: فريق مع عثمان بن حنيف، وفريق مع عائشة وأصحابها) (شرح النهج: 316/9). وفي المبتدأ والخبر لابن خلدون/609 : (ثم افترق الناس وتحاصبوا، وانحدرت عائشة إلى

: المربد، وجاءها جارية بن قدامة السعدي فقال : يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون، عرضة السلاح ! إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة، فهتكت سترك وأبحت حرمتك، وإنه من رأى قتالك يرى قتلك، فإن كنت أتيتنا

طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت مكرهة ، فاستعيني بالله وبالناس على الرجوع ).

.. لكن عائشة مضت في خطتها وتحركت من المربد وهاجمت دار الإمارة

وبيت المال !

قال في شرح النهج (319/9) : (قال أبو مخنف فلما أقبل طلحة والزبير من المربد يريدان عثمان بن حنيف فوجداه وأصحابه قد أخذوا بأفواه السكك، فمضوا حتى انتهوا إلى موضع الدباغين، فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف، فشجرهم طلحة والزبير وأصحابهما بالرماح، فحمل عليهم حكيم بن جبلة، فلم يزل هو وأصحابه يقاتلونهم حتى أخرجوهم من جميع السكك، ورماهم النساء من فوق البيوت بالحجارة، فأخذوا إلى مقبرة بني مازن ، فوقفوا بها ملياً حتى ثابت إليهم خيلهم، ثم أخذوا على مسناة البصرة، حتى انتهوا إلى الزابوقة، ثم أتوا سبخة دار الرزق فنزلوها قال : وأتاهما عبدالله بن حكيم التميمي لما نزلا السبخة بكتب كانا كتباها إليه، فقال لطلحة يا أبا محمد، أما هذا كتبك إلينا ؟ قال : بلى، قال: فكتبت أمس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله، حتى إذا قتلته أتيتنا ثائراً بدمه فلعمري ما هذا رأيك، لا تريد إلا هذه الدنيا مهلاً إذا كان هذا رأيك فلم قبلت من عليّ ما عرض عليك من البيعة، فبايعته طائعاً راضياً ثم نكثت بيعتك ، ثم جئت لتدخلنا في فتنتك! فقال: إن علياً دعاني إلى بيعته بعد ما بايع الناس فعلمت لو لم أقبل ما عرضه على لم يتم لي، ثم يغري بي من معه. قال: ثم أصحبنا من غد فصفًا للحرب، وخرج عثمان بن حنيف إليهما في أصحابه فناشدهما الله والإسلام، وأذكرهما بيعتهما علياء الله فقالا : نطلب بدم عثمان

390

ص: 390

فقال لهما : وما أنتما وذاك أين بنوه؟ أين بنو عمه الذين هم أحق به منكم ! كلا والله ولكنكما حسد تماه، حيث اجتمع الناس عليه، وكنتما ترجوان هذا الأمر، إعداد عائشة لحرب علي وتعملان له وهل كان أحد أشد على عثمان قولاً منكما ! فشتماه شتماً قبيحاً وذكرا حركة عائشة إلى البصرة

أمه ! فقال للزبير : أما والله لولا صفية ومكانها من رسول الله له فإنها أدنتك

إلى الظل، وإن الأمر بيني وبينك يا ابن الصعبة، يعني طلحة أعظم من القول، وصول عائشة إلى البصرة لأعلمتكما من أمركما ما يسوء كما . اللهم إني قد أعذرت إلى هذين الرجلين ! ثم حركة الإمام بلاد إلى البصرة حمل عليهم، واقتتل الناس قتالاً شديداً، ثم تحاجزوا واصطلحوا على أن يكتب وصوله فيه إلى البصرة

بينهم کتاب صلح فكتب هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصاري ومن معه من المؤمنين من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الله ، وطلحة هزيمة جيش عائشة والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين من شيعتهما، أن لعثمان بن حنيف دار إسكان عائشة وإرجاعها الإمارة والرحبة والمسجد وبيت المال والمنبر ، وأن لطلحة والزبير ومن معهما أن

ينزلوا حيث شاؤوا من البصرة، ولا يضار بعضهم بعضاً في طريق ولا فرضة ولا من أخبار عائشة وجملها سوق ولا شرعة ولا مرفق، حتى يقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الله فإن الإمام في البصرة أحبوا دخلوا فيما دخلت فيه الأمة، وإن أحبوا الحق كل قوم بهواهم وما أحبوا مشاهد من حرب الجمل

من قتال أو سلم أو خروج أو إقامة. وعلى الفريقين بما كتبوا عهد الله وميثاقه، وأشد ما أخذه على نبي من أنبيائه من عهد وذمة. وختم الكتاب).

.9 . ونقضت أم المؤمنين الصلح وغدرت بأبنائها وهاجمت ابن حنيف غيلة!

شهداء مع الإمام السلالة

من

خطب علي

( ورجع عثمان بن حنيف حتى دخل دار الإمارة وقال لأصحابه : الحقوا رحمكم الكذب في حرب الجمل الله بأهلكم، وضعوا سلاحكم، وداووا جرحاكم، فمكثوا كذلك أياماً. ثم إن طلحة والزبير قالا: إن قدم علي ونحن على هذه الحال من القلة والضعف من شعر حرب الجمل ليأخذن بأعناقنا فأجمعا على مراسلة القبائل واستمالة العرب فأرسلا إلى وجوه الإمام واصل الفتوحات الناس وأهل الرياسة والشرف، يدعوانهم إلى الطلب بدم عثمان، وخلع على الإمام ينقل العاصمة

وإخراج ابن حنيف من البصرة. فبايعهم على ذلك الأزد وضبة وقيس بن عيلان كلها إلا الرجل والرجلين من القبيلة..

الله

391

ص: 391

فلما استوسق لطلحة والزبير أمرهما، خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر ، ومعهما أصحابهما قد ألبسوهم الدروع وظاهروا فوقها بالثياب، فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه وأقيمت الصلاة، فتقدم عثمان ليصلي بهم فأخره أصحاب طلحة والزبير، وقدموا الزبير فجاءت السبابجة، وهم الشرط حرس بيت المال فأخرجوا الزبير وقدموا عثمان فغلبهم أصحاب الزبير، فقدموا الزبير وأخروا عثمان، فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس تطلع، وصاح بهم أهل المسجد : ألا تتقون أصحاب محمد وقد طلعت الشمس ! فغلب الزبير فصلى بالناس، فلما انصرف من صلاته، صاح بأصحابه المستسلحين: أن خذوا عثمان بن حنيف، فأخذوه بعد أن تضارب هو ومروان بن الحكم بسيفيهما، فلما أسر ضرب ضرب الموت، ونتف حاجباه وأشفار عينيه وكل شعرة في رأسه ،ووجهه، وأخذوا السبابحة وهم سبعون رجلاً ، فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف إلى عائشة، فقالت لأبان بن عثمان أخرج إليه فاضرب عنقه، فإن الأنصار قتلت أباك وأعانت على قتله ! فنادى عثمان يا عائشة ويا طلحة ويا ،زبير إن أخي سهل بن حنيف خليفة علي بن أبي طالب على المدينة، وأقسم بالله إن قتلتموني ليضعن السيف في بني أبيكم وأهليكم ورهطكم فلا يبقي أحداً منكم ! فكفوا عنه وخافوا أن يقع سهل بن حنيف بعيالاتهم وأهلهم بالمدينة، فتركوه. وأرسلت عائشة إلى الزبير أن أقتل السبابجة فإنه قد بلغني الذي صنعوا بك. قال: فذبحهم والله الزبير كما يذبح الغنم ! ولي ذلك منهم ابنه وهم سبعون رجلاً، وبقيت منهم طائفة مستمسكين ببيت المال، قالوا: لا ندفعه إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين، فسار إليهم الزبير في جيش ليلاً فأوقع بهم، وأخذ منهم خمسين أسيراً، فقتلهم صبراً ! قال أبو مخنف فحدثنا الصقعب بن زهير قال: كانت السبابجة القتلى يومئذ أربع مائة رجل قال : فكان غدر طلحة والزبير بعثمان بن حنيف أول غدر كان في الإسلام وكان السبابجة أول قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبراً.

6

عبدالله

قال: وخيروا عثمان بن حنيف بين أن يقيم أو يلحق بعلي الله فاختار الرحيل، فخلوا

392

ص: 392

سبيله فلحق بعلي الله فلما رآه بكى وقال له: فارقتك شيخاً، وجئتك أمرد. فقال على السلام : إنا لله وإنا إليه راجعون! قالها ثلاثاً).(شرح النهج: 320/9) .

إعداد عائشة لحرب علي

وفي رواية المفيد في كتاب الجمل /152): (فلما نظر إليه أمير المؤمنين الله وقد حركة عائشة إلى البصرة

نکل به القوم بکی وقال: يا عثمان بعثتك شيخاً ملتحياً فرددت لي أمرد! اللهم إنك تعلم أنهم اجترأوا عليك واستحلوا حرماتك، اللهم اقتلهم بمن قتلوا من وصول عائشة إلى البصرة شيعتي، وعجل لهم النقمة بما صنعوا بخليفتي).

حركة الإمام له إلى البصرة

هزيمة جيش عائشة

وقال الطبري (485/3) : ( فشهر الزط والسبابجة السلاح ثم وضعوه فيهم، وصوله فيه إلى البصرة

فأقبلوا عليهم فاقتتلوا في المسجد وصبروا لهم، فأناموهم وهم أربعون.. فأخرجوا الحرس الذين كانوا مع عثمان في القصر، ودخلوه). أقول: الزط والسبابجة قومية من السند، معروفون بأنهم أمناء ومهنيون مخلصون. إسكان عائشة وإرجاعها

10 . روى المفيد في كتاب الجمل / 152: (بلغ حكيم بن جبلة العبدي ما من أخبار عائشة وجملها

صنع القوم بعثمان بن حنيف فنادى في قومه : يا قوم إنفروا إلى هؤلاء الضالين الظالمين، الذين سفكوا الدم الحرام وفعلوا بالعبد الصالح، واستحلوا ما الإمامه في البصرة حرم الله عز وجل. فأجابه سبع ماءة رجل من عبد قيس وأتوا المسجد، مشاهد من حرب الجمل واجتمع الناس إلى حكيم بن جبلة فقال للقوم : أما ترون ما صنعوا بأخي عثمان بن حنيف ما صنعوا ؟ ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إن طلحة والزبير لم يريدا بما عملا القربة منك ، وما أرادا إلا الدنيا، اللهم اقتلهما بمن قتلا، ولا تعطهما ما أملا . ثم ركب فرسه وأخذ بيده الرمح واتبعه أصحابه. الكذب في حرب الجمل

وأقبل طلحة والزبير ومن معهما وهم في كثرة من الناس قد انضم إليهم

الجمهور، واقتتلوا قتالاً شديداً، حتى كثرت بينهم الجرحى والقتلى... الى آخر هذه المعركة التي تقدمت تحت عنوان : الجمل الصغرى، وقتلوا فيها الإمام يواصل الفتوحات

حكيم بن جبلة ونحو خمس مئة من خيار المسلمين، الذين ثاروا للدفاع عن عثمان

بن حنيف ودار الإمارة وبيت المال، فتكاثر عليهم أنصار عائشة وقتلوهم.

شهداء مع الإمام السلالة

من

خطب علي

من شعر حرب الجمل

الإمام ينقل العاصمة

393

ص: 393

11 . بقي عثمان بن حنيف أسيراً في أيديهم أياماً، وانشغلت عائشة بقيادة المهاجمين على دار الإمارة ثم بيت المال، وأخذت قسماً منه لتفرقه على من حولها! ثم انشغلت بحربها مع حكيم بن جبلة حتى انتصرت عليه. ثم أصدرت أمرها بقتل عثمان بن حنیف رضي الله عنه، وقتل حراس بیت المال و هم هنود مسلمون يسمون (السبابجة).

12 . وتكاثروا في المسجد على عثمان بن حنيف فأخذوه وأمروا به فوطئ وطئاً شديداً ! (البلاذري: 226/2) وقال الطبري (485/3) : (لما أخذوا عثمان بن حنيف أرسلوا أبان بن عثمان إلى عائشة يستشيرونها في أمره، قالت: أقتلوه) وقال في شرح النهج (320/9) : ( و أقيمت الصلاة فتقدم عثمان ليصلي بهم فأخره أصحاب طلحة والزبير، وقدموا الزبير فجاءت السبابجة وهم الشرط حرس بيت المال، فأخرجوا الزبير وقدموا عثمان، فغلبهم أصحاب الزبير فقدموا الزبير وأخروا عثمان، فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس تطلع، وصاح بهم أهل المسجد: ألا تتقون يا أصحاب محمد وقد طلعت الشمس ! فغلب الزبير فصلى بالناس فلما انصرف من صلاته صاح بأصحابه المستسلحين : أن خذوا عثمان بن حنيف، فأخذوه بعد أن تضارب هو ومروان بن الحكم بسيفيها، فلما أُسِرَ ضُرب ضرب الموت، ونتف حاجباه وأشفار عينيه وكل شعرة في رأسه ووجهه وأخذوا السبابحة وهم سبعون رجلاً، فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف إلى عائشة، فقالت لأبان بن عثمان: أخرج إليه فاضرب عنقه، فإن الأنصار قتلت أباك وأعانت على قتله! فنادى عثمان يا عائشة ويا طلحة ويا زبير، إن أخي سهل بن حنيف خليفة علي بن أبي طالب على المدينة، وأقسم بالله إن قتلتموني ليضعن السيف في بني أبيكم وأهليكم ورهطكم فلا يبقي أحداً منكم ! فكفوا عنه وخافوا أن يقع سهل بن حنيف بعيالاتهم وأهلهم بالمدينة، فتركوه) :أقول حكمت عائشة بقتل ابن حنيف بعثمان لأن قومه الأنصار قتلوا عثمان وهذا حكم الجاهلية وليس الإسلام فاعجب الزوجة النبي - تحكم بحكم الجاهلية ! والصحيح أنها أمرت بقتله لأنه كان من الإثني عشر الذين خطبوا في المسجد واحتجوا

على أبيها أبي بكر بعد السقيفة.

394

ص: 394

وقد كذب راوي الطبري فزعم أنها تركته لصحبته لرسول الله الله فقال

(485/3) : (فقالت لها امرأة : نشدتك بالله في عثمان و صحبته لرسول الله ! قالت: إعداد عائشة لحرب علي ردوا أباناً فردوه، فقالت: إحبسوه ولا تقتلوه. قال أبان: لو علمت أنك تدعينني حركة عائشة إلى البصرة لهذا لم أرجع ! فقال لهم مجاشع بن مسعود : إضربوه وانتفوا شعر لحيته، فضربوه

وصول عائشة إلى البصرة

أربعين سوطاً، ونتفوا شعر لحيته ورأسه وحاجبيه، وأشفار عينيه، وحبسوه)! وفي الجمل للمفيد/ 153 : (ثم قال طلحة والزبير ما تأمرين في عثمان، فإنه لما حركة الإمام إلى البصرة

به فقالت أقتلوه قتله الله ، وكانت عندها امرأة من أهل البصرة فقالت لها يا وصوله فيه إلى البصرة

أماه أين يذهب بك أتأمرين بقتل عثمان بن حنيف وأخوه سهل على المدينة وله مكانة من الأوس والخزرج ما قد علمت والله لئن فعلت ذلك ليكونن له هزيمة جيش عائشة صولة بالمدينة يقتل فيها ذراري قريش فآب إلى عائشة رأيها وقالت: لا تقتلوه إسكان عائشة وإرجاعها ولكن احبسوه وضيقوا عليه حتى أرى رأيي، فحبس أياماً ثم بدا لهم في حبسه، وخافوا من أخيه أن يحبس مشايخهم بالمدينة، ويوقع بهم فتركوا حبسه). من أخبار عائشة وجملها وقال المفيد في الجمل /152 : ( وقال طلحة : عذبوا الفاسق وانتفوا شعر حاجبيه الإمام له في البصرة

وأشفار عينيه، وأوثقوه بالحديد).

مشاهد من حرب الجمل وقال المسعودي في مروج الذهب (358/2) : (بَيَّتوا عثمان بن حنيف فأسروه وضربوه ونتفوا لحيته، ثم إن القوم استرجعوا، وخافوا على مخلّفيهم بالمدينة من شهداء مع الإمام الشام أخيه سهل بن حنيف، وغيره من الأنصار). وقال أمير المؤمنين الله : (وأخذوا عاملي عثمان بن حنيف الأنصاري غدراً،

فمثلوا به كل مثلة، ونتفوا كل شعرة في رأسه ووجهه)!

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

الله

وقال التالية : (فوثبا على عاملي فضرباه ضرباً مبرحاً، وتُرك لا يُدرى أهو حي أم ميت)! من شعر حرب الجمل لكن عائشة أجادت أسلوب زليخا، فكتبت الى أهل اليمامة (الجمل / 162) : (هجموا علينا وأباحوا سدة بيتي، ومعهم صناديد لهم ليسفكوا دمي، فوجدوا نفراً على الإمام واصل الفتوحات باب بيتي فردوهم عني، وكان حولي نفر من القرشيين والأزديين فدفعوهم الإمام ينقل العاصمة عني، وقتل منهم من قتل وانهزموا ، فلم نتعرض لبقيتهم، وخلينا ابن حنيف منا

في

395

ص: 395

منا عليه، وقد توجه إلى صاحبه فتأمل في جرأتها على التزوير !

13 . في كتاب الجمل للمفيد/ 156: (ولما صار عثمان بن حنيف إلى ذي قار أقام بها

مع أمير المؤمنين الله وهو مريض يعالج حتى ورد على أمير المؤمنين الله أهل الكوفة ) . ويفهم من كلام الشريف الرضي / 156 ، في المجازات النبوية أن عثمان بن حنيف جاء مع أمير المؤمنين الله الى البصرة، قال: (وعلى ذلك كان قول عثمان بن حنيف الأنصاري له يوم الجمل ، وكان في حيز أمير المؤمنين علي الله ، وقد رأى استحرار القتل واستلحام الأمر دارت رحا الإسلام ورب الكعبة أراد أن الناكثين بيعة أمير المؤمنين الله وهم أصحاب الجمل، قد أزعجوا الإسلام عن وأزحفوه عن قراره. لكن نرجح أنه يقصد قوله هذا في معركة الجمل الصغرى، وأنه لم يرجع مع الإمام الله الى البصرة. ويؤيده أنه لا ذكر له في صفين، مع أنه ورد ذكر أخيه سهل مراراً،

مناطه،

فيبدو أن مرضه أقعده في الكوفة، وقد عاش فيها الى أن توفي في عهد معاوية. قال ابن الاثير في أسد الغابة (371/3) : (وسكن عثمان بن حنيف الكوفة وبقي إلى

زمان معاوية. روى عنه أبو أمامة ابن أخيه سهل بن حنيف وابنه).

وجاءت الرواية بأن أخاه سهلاً توفي بعد أن رجع من صفين، ففي نهج البلاغة (26/4) : ( قال الله لما توفي سهل بن حنيف الأنصاري بالكوفة بعد مرجعه معه من صفين وكان من أحب الناس إليه : لو أحبني جبل لتهافت). أي تغلظ المحنة عليه فتسرع المصائب إليه، ولا يفعل ذلك إلا بالأتقياء الأبرار والمصطفين

الأخيار. وهو كقوله الله : من أحبنا أهل البيت فليستعد للفقر جلباباً .

14 . ولعثمان بن حنيف حديث تكرهه الوهابية، هو حديث الأعمى الذي أفحم

عميان الوهابية، كمفتي السعودية ابن باز ! قال الحافظ الغماري في رسالته: إرغام المبتدع الغبي في جواز التوسل بالنبي 13 : روى الطبراني في المعجم الكبير (17/9) عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلاً

سم الله الله

396

ص: 396

كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر

في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكى إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: إعداد عائشة لحرب علي إئت الميضأة فتوضأ ثم إنت المسجد، فصل فيه ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك حركة عائشة إلى البصرة وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد أني أتوجه بك إلى ربي فتقضي

الله لي حاجتي وتذكر حاجتك، ورح إليَّ حتى أروح معك. فانطلق الرجل فصنع وصول عائشة إلى البصرة ما قال له ثم أتى باب عثمان بن عفان فجاء البواب حتى أخذ بيده، فأدخله على حركة الإمام إلى البصرة عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة، وقال له ما حاجتك فذكر حاجته وصوله إلى البصرة

فقضاها ،له، ثم قال ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فأتنا.

ا

هزيمة جيش عائشة

ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً، إسكان عائشة وإرجاعها

ا عليه

مشاهد من حرب الجمل

شهداء مع الإمام السلالة

خطب علي

ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته في. فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله له و أتاه رجل ضرير فشكى إليه من أخبار عائشة وجملها ذهاب بصره ، فقال له النبي له : أو تصبر ؟ فقال : يا رسول الله إنه ليس لي قائد الإمام في البصرة وقد شق علي. فقال له النبي : إنت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم ادع

بهذه الدعوات. قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث، حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط ! صححه الطبراني، وتعقبه حمدي السلفي بقوله : لا شك في صحة الحديث المرفوع). وقال السقاف في رسالته التنديد بمن عدد التوحيد / 33: (فقد علم رسول الله الله الأعمى أن يقول : اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني الرحمة يا محمد إني الكذب في حرب الجمل أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضي.. الحديث. وهو صحيح مشهور بين أهل من شعر حرب الجمل العلم ، رواه الترمذي (569/5) والبيهقي في دلائل النبوة (6 / 166) والحاكم (313/1) وصححه على شرطهما، وأقره الذهبي وغيرهم، بأسانيد صحيحة). :أقول: استوفينا أحاديث التوسل في مناقشاتنا المشايخ الوهابية في المجلد الثالث الإمام ينقل العاصمة

من العقائد الإسلامية. وقد روينا عن الإمام الباقر الثانية (الكافي: 478/3): (قال: إذا

من

الإمام يواصل الفتوحات

397

ص: 397

أردت أمراً تسأله ربك، فتوضأ وأحسن الوضوء ثم صل ركعتين وعظم الله وصل على النبي وقل بعد التسليم: اللهم إني أسألك بأنك ملك، وأنك على كل شئ قدير مقتدر وبأنك ما تشاء من أمر يكون . اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى الله ربك وربي لينجح لي طلبتي، اللهم بنبيك أنجح

لي طلبتي بمحمد . ثم سل حاجتك).

398

ص: 398

الفصل الثالث والستون

من خطب أمير المؤمنين وكلماته في البصرة

يا أهل البصرة يا جند المرأة !

في نهج البلاغة (44/1) : (ومن كلام له الله في ذم أهل البصرة : كنتم جند المرأة، وأتباع البهيمة، رغا فأجبتم ، وعقر فهربتم ! أخلاقكم دقاق، وعهدكم شقاق، ودينكم نفاق، وماؤكم زعاق. والمقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه ، والشاخص عنكم متدارك برحمة من ربه. كأني بمسجدكم كجؤجؤ سفينة ، قد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها . وفي رواية وأيم الله لتغرقن بلدتكم حتى كأني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة أو نعامة

جاثمة. وفي رواية كجؤجؤ طير في لجة بحر. وفي رواية: بلادكم أنتن بلاد الله تربة، أقربها من الماء، وأبعدها من السماء، وبها تسعة أعشار

الشر، المحتبس فيها بذنبه، والخارج بعفو الله. ومن كلام له الله : أرضكم قريبة من الماء بعيدة من السماء. خفت عقولكم وسفهت

حلو مكم. فأنتم غرض لنابل، وأكلة لآكل، وفريسة لصائل).

وفي رواية الأخبار الطوال لابن قتيبة 151 : ( ودخل علي رضي الله عنه البصرة، فأتى مسجدها الأعظم، واجتمع الناس إليه فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال: أما بعد فإن الله ذو رحمة واسعة وعقاب أليم، فما ظنكم بي يا أهل البصرة! يا جند المرأة وأتباع البهيمة. رغا فقاتلتم، وعقر فانهزمتم أخلاقكم دقاق، وعهدكم شقاق، وماؤكم

ص: 399

زعاق، أرضكم قريبة من الماء، بعيدة من السماء، وأيم الله ليأتين عليها زمان لا يرى منها إلا شرفات مسجدها في البحر، مثل جؤجؤ .السفينة. إنصرفوا إلى منازلكم. ثم نزل).

وضغن غلى في صدرها كمرجل القين

في نهج البلاغة (47/2): (ومن كلام له الله خاطب به أهل البصرة.. وأما فلانة فأدركها رأي النساء، وضغن غلا في صدرها كمرجل القين، ولو دعيت لتنال من

غيري ما أتت إلي لم تفعل، ولها بعد حرمتها الأولى والحساب على الله تعالى. ومنه: وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خُلق الله سبحانه. وإنهما

لا يقربان من أجل ، ولا ينقصان من رزق .. وعليكم بكتاب الله فإنه الحبل المتين والنور المبين، والشفاء النافع، والري الناقع ، والعصمة للمتمسك، والنجاة للمتعلق، لا يعوج فيقام ، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تخلقه كثرة الرد وولوج السمع. من قال به صَدَق، ومن عمل به سبق.

وقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الفتنة وهل سألت رسول الله له عنها فقال: لما أنزل الله سبحانه قوله : ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُترَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. علمت أن الفتنة لاتنزل بنا ورسول الله له بين أظهرنا. فقلت يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالى بها ؟ فقال : يا علي إن أمتي سيفتنون من بعدي.. وقد تقدمت في عمله الله في إعادة العهد النبوي.

ويحك إني لست كانت !

في نهج البلاغة (188/2) : (ومن كلام له الله بالبصرة وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي، وهو من أصحابه يعوده، فلما رأى سعة داره قال: ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا؟ أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج. بلى إن شئت بلغت بها الآخرة، تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذاً أنت قد بلغت بها الآخرة. فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زیاد، قال: وما له ؟ قال : لبس العباءة وتخلى عن الدنيا. قال: عليَّ به، فلما جاء قال

40

ص: 400

له : يا عُديَّ نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك. أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك. قال: إعداد عائشة لحرب علي يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك. قال: ويحك إني حركة عائشة إلى البصرة لست كأنت إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس

وصول عائشة إلى البصرة

كيلا يتبيغ بالفقير فقره).

له إمرة كلعقة الكلب أنفه

حركة الإمام إلى البصرة

في نهج البلاغة (123/1): ( أخذ مروان بن الحكم أسيراً يوم الجمل، فاستشفع وصوله إلى البصرة

الحسن والحسين له إلى أمير المؤمنين الله فكلماه فيه فخلى سبيله، فقالا له:

هزيمة جيش عائشة

يبايعك يا أمير المؤمنين، فقال الله : أو لم يبايعني بعد قتل عثمان ! لا حاجة لي في

بيعته، إنها كف يهودية، لو بايعني بكفه لغدر بسبته. أما إن له إمرة كلعقة الكلب إسكان عائشة وإرجاعها أنفه، وهو أبو الأكبش الأربعة وستلقى الأمة منه ومن ولده يوماً أحمر

أحمر).

من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة وفي فتح الباري (48/13) : (أخرج الشافعي من رواية علي بن الحسين بن علي بن : أبي طالب قال: دخلت على مروان بن الحكم فقال : ما رأيت أحداً أكرم غلبة من مشاهد من حرب الجمل أبي--ك، يعني علياً! ما هو إلا أن ولينا يوم الجمل فنادی مناديه: لايقتل مدبر ولا

يذفف على جريح)

شهداء مع الإمام الله

من خطب علي السلام وفي سنن سعيد بن منصور (337/2): (قال له وهو أمير بالمدينة : ما رأيت أحداً أحسن غلبة من أبيك علي بن أبي طالب، ألا أحدثك عن غلبته إيانا يوم الجمل؟ الكذب في حرب الجمل :قلت الأمير أعلم قال : لما التقينا يوم الجمل تواقفنا ثم حمل بعضنا على بعض من شعر حرب الجمل فلم ينشب أهل البصرة أن انهزموا، فصرخ صارخ لعلي : لا يقتل مدبر، ولا يدفف على جريح، ومن أغلق عليه باب داره فهو آمن، ومن طرح السلاح آمن الإمام واصل الفتوحات قال مروان وقد كنت دخلت دار فلان ثم أرسلت إلى حسن وحسين ابني علي الإمام ينقل العاصمة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر فكلموه :قال هو آمن فليتوجه حيث شاء

الله

401

ص: 401

فقلت: لا والله ما تطيب نفسي حتى أبايعه، فبايعته ثم قال: إذهب حيث شئت).

وفي شرح الأخبار للقاضي المغربي (161/3) : ( وقد كان علي الله أسره يوم الجمل، فمنَّ عليه وأطلقه ، فما راعى ذلك ولا حفظه، بل قد شاور معاوية اللعين في نبش قبر علي صلوات الله عليه لما غلب على الأمر، فتمثل بقول الأول:

أجن-وا أخاهم في الحفير ووسدوا أخاهم وألقوا عامراً لم يوس--د

يحرضه بذلك على نبش قبر علي الله ، ويذكره قتلى بدر من بني عبد شمس ، ومن

قتل منهم على الكفر ، غير موسد ولا مدفون ) !

سار فيهم بسيرة النبي في مشركي مكة

في الكافي (33/5) : ( عن أبي حمزة الثمالي قال : قلت لعلي بن الحسين صلوات

الله عليهما : إن علياً الله سار في أهل القبلة بخلاف سيرة رسول الله له في أهل الشرك، قال فغضب ثم جلس ثم قال: سار والله فيهم بسيرة رسول الله له يوم الفتح. إن علياً الله كتب إلى مالك وه-و ع-لى مقدمته يوم البصرة بأن لا يطعن في غير مقبل ولا يقتل مدبراً ولا يجيز على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن فأخذ الكتاب فوضعه بين يديه على القربوس من قبل أن يقرأه ثم قال: أقتلوا ! فقتلهم حتى أدخلهم سكك البصرة. ثم فتح الكتاب فقرأه ثم أمر منادياً فنادى بما في الكتاب

جيش لا رهج له ولا حس !

في نهج البلاغة (196/1) : ( ومن كلام له يجري مجرى الخطبة .. فتن كقطع الليل المظلم ، لا تقوم لها قائمة، ولا ترد لها راية، تأتيكم مزمومة مرحولة، يحفزها قائدها ويجهدها راكبها أهلها قوم شديد كلبهم، قليل سلبهم يجاهدهم في سبيل الله قوم أذلة عند المتكبرين في الأرض مجهولون، وفي السماء معروفون فويل لك يا بصرة عند ذلك من جيش من نقم الله ، لارهج له ولا حس وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر، والجوع الأغبر).

وفي نهج البلاغة (9/2) : ( ومن كلام له الله فيما يخبر به من الملاحم بالبصرة: يا أحنف

402

ص: 402

كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب، ولا قعقعة لجم، ولا حمحمة خيل. يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام، يومي بذلك إلى صاحب إعداد عائشة لحرب علي الزنج. ثم قال الله : ويل لسكككم العامرة، والدور المزخرفة التي لها أجنحة حركة عائشة إلى البصرة كأجنحة النسور، وخراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الذين لا يندب قتيلهم، ولا يفتقد غائبهم. أنا كاب الدنيا لوجهها، وقادرها بقدرها، وناظرها بعينها وصول عائشة إلى البصرة

قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة !

حركة الإمام إلى البصرة

ومن--ه ي-وم-ي ب--ه إلى وصف الأتراك: (كأني أراهم قوماً كأن وجوههم المجان وصوله إلى البصرة

المطرقة يلبسون السَّرَق والديباج، ويعتقبون الخيل العتاق، ويكون هناك هزيمة جيش عائشة

استحرار قتل حتى يمشي المجروح على المقتول، ويكون المفلت أقل من المأسور ! ( فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، فضحك التالية إسكان عائشة وإرجاعها وقال للرجل وكان كلبياً ) : يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلم من من أخبار عائشة وجملها ذي علم. وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدد الله سبحانه بقوله : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى الإمام في البصرة نَفْسٌ بِأَي أَرْضِ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو مشاهد من حرب الجمل أنثى، وقبيح أو جميل، وسخي أو بخيل، وشقي أو سعيد، ومن يكون في النار شهداء مع الإمام الله

حطباً، أو في الجنان للنبيين مرافقاً. فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله، وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري، من خط من خطب علي السلام

وتضطم عليه جوانحي).

وثبوا على شيعتي فقتلوا طائفة منهم !

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

في نهج البلاغة (202/2) : ( فقدموا على عمالي وخزان بيت مال المسلمين الذي في يدي، وعلى أهل مصر كلهم في طاعتي وعلى بيعتي، فشتتوا كلمتهم، وأفسدوا الإمام واصل الفتوحات علي جماعتهم. ووثبوا على شيعتي، فقتلوا طائفة منهم غدراً، وطائفة عضوا على الإمام ينقل العاصمة أسيافهم ، فضار بوا بها حتى لقوا الله صادقين).

403

ص: 403

لئن بلغني أنك خنت ..

في نهج البلاغة (19/3) : (ومن كتاب له الله إلى زياد بن أبيه ، وهو خليفة عامله عبدالله بن عباس على البصرة. وعبد الله عامل أمير المؤمنين يومئذ عليها وعلى كور الأهواز وفارس وكرمان : وإني أقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنك خنت من فئ المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً، لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر ، ثقيل الظهر ، ضئيل الأمر . والسلام).

سع الناس بوجهك ..

في نهج البلاغة (136/3) : (ومن وصية له الله لعبد الله بن العباس عند استخلافه إياه على البصرة: سع الناس بوجهك، ومجلسك، وحكمك، وإياك والغضب فإنه طَيَرة من الشيطان. واعلم أن ما قربك من الله يباعدك من النار، وما باعدك من الله يقربك من النار ) .

ما لقيت من الأمة بعد نبيها !

قال سليم بن قيس الهلالي في كتابه / 436: شهدت علي الله حين عاد زياد بن عبيد بعد ظهوره على أهل الجمل، وإن البيت لممتلئ من أصحاب رسول الله فيهم عمار وأبو الهيثم بن التيهان وأبو أيوب وجماعة من أهل بدر، نحو من سبعين رجلاً، وزياد في بيت عظيم شبه البهو، إذ أتاه رجل بكتاب من رجل من الشيعة بالشام: إن معاوية استنفر الناس ودعاهم إلى الطلب بدم عثمان ، وكان فيما يحضهم به أن قال: إن علياً قتل عثمان وآوى قتلته، وإنه يطعن على أبي بكر وعمر ويدعي أنه خليفة رسول الله، وأنه أحق بالأمر منهما. فنفرت العامة والقراء، واجتمعوا على معاوية إلا قليلاً منهم. قال : فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد، ما لقيتُ من الأمة بعد نبيها منذ قبض ع ! فأقام عمر وأصحابه الذين ظاهروا عليَّ أبا بكر فبايعوه، وأنا مشغول بغسل رسول الله له و كفنه و دفنه ، وما فرغت من ذلك حتى بايعوه، وخاصموا الأنصار بحجتي وحقي! والله إنه ليعلم يقيناً والذين ظاهروه أني أحق بها من أبي بكر. فلما رأيت اجتماعهم عليه وتركهم إياي ناشدتهم الله عز وجل وحملت فاطمة الله على حمار، وأخذت بيد ابني الحسن والحسين لعلهم يرعوون، فلم أدع أحداً من أهل بدر

.

ص: 404

ولا أهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا استعنتهم ودعوتهم إلى نصرتي،

وناشدتهم الله حقي، فلم يجيبوني ولم ينصروني ! أنتم تعلمون يا معاشر من حضر إعداد عائشة لحرب علي من أهل بدر، أني لم أقل إلا حقاً. قالوا: صدقت يا أمير المؤمنين وبررت، فنستغفر حركة عائشة إلى البصرة

الله

من ذلك ونتوب إليه.

قال: وكان الناس قريبي عهد بالجاهلية، فخشيت فرقة أمة محمد واختلاف وصول عائشة إلى البصرة كلمتهم، وذكرت ما عهد إلي رسول الله لأنه أخبرني بما صنعوا، وأمرني إن حركة الإمام إلى البصرة وجدت أعواناً جاهدتهم، وإن لم أجد أعواناً كففت يدي وحقنت دمي. وصوله فيه إلى البصرة

ثم ردها أبو بكر إلى عمر، ووالله إنه ليعلم يقيناً أني أحق بها من عمر، فكرهت

الفرقة فبايعت وسمعت وأطعت.

هزيمة جيش عائشة

ثم جعلني عمر سادس ستة، فولى الأمر ابن عوف، فخلا بابن عفان فجعلها إسكان عائشة وإرجاعها

له على أن يردها عليه، ثم بايعه فكرهت الفرقة والإختلاف. ثم إن عثمان غدر بابن عوف وزواها عنه، فبرئ منه ابن عوف وقام خطيباً من أخبار عائشة وجملها فخلعه كما خلع نعله. ثم مات ابن عوف وأوصى أن لا يصلي عليه عثمان، وزعم الإمام له في البصرة ولد ابن عوف أن عثمان سَمَّه ) !

V

مشاهد من حرب الجمل

23. وفي أمالي الطوسي / 507 : ( عن مساحق : أنه شهد يوم الجمل، وأن شهداء مع الإمام الله

الناس لما انهزموا اجتمع هو و نفر من قريش فيهم مروان، فقال بعضهم لبعض والله لقد ظلمنا هذا الرجل ونكثنا بيعته على غير حدث كان منه، من خطب علي السلام

ثم لقد ظهر علينا فما رأينا رجلاً كان أكرم سيرة ولا أحسن عفواً بعد الكذب في حرب الجمل

الله

رسول الله الله منه، فتعالوا فندخل عليه ولنعتذرن مما صنعنا. قال: فدخلنا عليه ، فلما ذهب متكلمنا يتكلم قال: أنصتوا أكفكم إنما أنا رجل منكم، فإن من ش-ع-ر ح--رب الجمل قلت حقاً فصدقوني، وإن قلت غير ذلك فردوه علي، أنشدكم بالله أتعلمون الإمام واصل الفتوحات أن رسول الله له قبض وأنا أولى الناس به وبالناس؟ قالوا: اللهم نعم قال الإمام ينقل العاصمة

فبايعتم أبا بكر وعدلتم عني، فبايعت أبا بكر كما بايعتموه وكرهت أن أشق عصا المسلمين، وأن أفرق بين جماعتهم، ثم أن أبا بكر جعلها لعمر من بعده،

405

ص: 405

وأنتم تعلمون أني أولى الناس برسول الله له و بالناس من بعده، فبايعت عمر كما بايعتموه فوفيت له ببيعته حتى لما قتل جعلني سادس ستة، فدخلت حيث أدخلني، وكرهت أن أفرق جماعة المسلمين و أشق عصاهم فبايعتم عثمان فبايعته ثم طعنتم على عثمان فقتلتموه وأنا جالس في بيتي، ثم أتيتموني غير داع لكم ولا مستكره لأحد منكم فبايعتموني كما بايعتم أبا بكر وعمر وعثمان، فما جعلكم أحق أن تفوا لأبي بكر وعمر وعثمان ببيعتهم منكم ببيعتي ؟ :قالوا يا أمير المؤمنين، كن كما قال العبد الصالح لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فقال : كذلك أقول: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، مع أن فيكم رجلاً لو بايعني بيده لنكث بإسته، يعني مروان).

وتحدث الله عن ملوك بني العباس !

نقل ابن طاووس في الملاحم 277 ، عن السليلي خطبة لأمير المؤمنين الله تع-رف باللؤلؤة، تحدث فيها عن ملوك بني العباس، وذكر فيها المهدي المنتظر عالية . لكن الخزاز رواها في كفاية الأثر/ 213، مفصلة، وذكر أن الإمام الله خطبها على منبر مسجد الكوفة. فأخرنا إيرادها الى هناك.

أطول خطبة لعلي الله في البصرة من كتاب وكيع

رواها السيوطي في جامعه (350/31) عن كتاب وكيع، وكذلك المتقي الهندي في كنز

العمال (183/16 ، برقم: (44216) عن يحيى بن عبد الله بن الحسن، عن أبيه قال: (كان) علي يخطب فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني من أهل الجماعة؟ ومَن

أهل الفرقة ؟ ومن أهل السنة؟ ومن أهل البدعة ؟ فقال: ويحك ! أما إذ سألتني فافهم عني ولا عليك أن لا تسأل عنها أحداً بعدي. فأما أهل الجماعة فأنا ومن اتبعني وإن قلوا، وذلك الحق من أمر الله وأمر رسوله. فأما أهل الفرقة فالمخالفون لي ومن اتبعني وإن كثروا . وأما أهل السنة المتمسكون بما سنّه الله لهم ورسوله وإن قلوا.

صله

ص: 406

وأما أهل البدعة فالمخالفون لأمر الله ولكتابه ورسوله ، العاملون برأيهم وأهوائهم وإن كثروا ، وقد مضى منه الفوج الأول وبقيت أفواج ، وعلى الله إعداد عائشة لحرب علي قصمها واستئصالها عن جدبة الأرض.

فقام إليه عمار فقال : يا أمير المؤمنين، إن الناس يذكرون الفيئ، ويزعمون أن

من قاتلنا فهو وماله وأهله فيئ لنا وولده.

حركة عائشة إلى البصرة

وصول عائشة إلى البصرة

فقام رجل من بكر بن وائل يدعى عباد بن قيس وكان ذا عارضة ولسان شديد حركة الإمام إلى البصرة

فقال : يا أمير المؤمنين ! والله ما قسمت بالسوية، ولا عدلت في الرعية فقال علي: وصوله إلى البصرة

ولم ويحك ! قال: لأنك قسمت ما في العسكر وتركت الأموال والنساء والذرية. فقال الله (التغيير الموضوع) : أيها الناس من كانت به جراحة فليداوها بالسمن هزيمة جيش عائشة فقال عباد جئنا نطلب غنائمنا ، فجاءنا بالترهات! فقال له علي إن كنت إسكان عائشة وإرجاعها

كاذباً فلا أماتك الله حتى تدرك غلام ثقيف ! فقال رجل من القوم: ومَن غلام ثقيف يا أمير المؤمنين؟ فقال: رجل لا يدع الله حرمة إلا انتهكها ! قال: فيموت من أخبار عائشة وجملها أو يقتل ؟ قال : بل يقصمه قاصم الجبارين، قتله بموت فاحش يحترق منه دبره الإمامه في البصرة لكثرة ما يجري من بطنه. يا أخا بكر أنت امرؤ ضعيف الرأي، أما علمت أنا لا مشاهد من حرب الجمل

نأخذ الصغير بذنب الكبير ! و أن الأموال كانت لهم قبل الفرقة، وتزوجوا على رشدة وولدوا على الفطرة، وإنما لكم ما حوى عسكرهم، وما كان في دورهم شهداء مع الإمام فهو ميراث لذريتهم، فإن عدا علينا أحد منهم أخذناه بذنبه ، وإن كفَّ عنا عنا لم

من خطب علي السلام

نحمل عليه ذنب غيره. يا أخا بكر، لقد حكمت فيهم بحكم رسول الله له في أهل مكة، قسّم ما حوى العسكر ولم يعرض لما سوى ذلك، وإنما اتبعت أثره الكذب في حرب الجمل حذو النعل بالنعل يا أخا بكر، أما علمت أن دار الحرب يحل ما فيها، وأن دار من شعر حرب الجمل الهجرة يحرم ما فيها إلا بحق فمهلاً مهلاً رحمكم الله ! فإن أنتم لم تصدقوني وأكثر تم علي، وذلك أنه تكلّم في هذا غير واحد، فأيكم الإمام واصل الفتوحات يأخذ أمه عائشة بسهمه؟ قالوا: أينا يا أمير المؤمنين بل أصبت وأخطأنا، الإمام ينقل العاصمة

وعلمت وجهلنا، ونحن نستغفر الله !

لا

407

ص: 407

العلوي

.

و تنادى الناس من كل جانب أصبت يا أمير المؤمنين، أصاب الله بك الرشاد والسداد! فقام عمار فقال: يا أيها الناس إنكم والله إن اتبعتموه وأطعتموه لم يضل بكم من منهاج نبيكم قيد شعرة، وكيف يكون ذلك وقد استودعه رسول الله له المنايا والوصايا، وفصل الخطاب، على منهاج هارون بن عمران إذ قال له رسول الله له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. فضلاً خصه الله به إكراماً منه لنبيه، حيث أعطاه الله ما لم يعطه أحداً من خلقه. ثم قال علي: أنظروا رحمكم الله ما تؤمرون به فامضوا له، فإن العالم أعلم بما يأتي من الجاهل الخسيس الأخس، فإني حاملكم إن شاء الله تعالى إن أطعتموني على سبيل الجنة، وإن كان ذا مشقة شديدة ومرارة عتيدة، وإن الدنيا حلوة، الحلاوة لمن اغتر بها،

من الشقوة والندامة عما قليل.

ثم إني مخبركم أن خيلاً من بني إسرائيل أمرهم نبيهم أن لا يشربوا من النهر، فلجوا في ترك أمره، فشربوا منه إلا قليلاً منهم، فكونوا رحمكم الله من أولئك الذين أطاعوا نبيهم ولم يعصوا ربهم.

وأما عائشة فأدركها رأي النساء، وشئ كان في نفسها عليَّ يغلي في جوفها كالمرجل، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليَّ، لم تفعل، ولها بعد ذلك حرمتها الأولى،

والحساب على الله ، يعفو عمن يشاء ويعذب من يشاء.

ضي بذلك أصحابه وسلموا لأمره بعد اختلاط شديد، فقالوا: يا أمير المؤمنين ! حکمت والله فينا بحكم الله، غير أنا جهلنا، ومع جهلنا لم نأت ما يكره أمير المؤمنين: وقال ابن يساف الأنصاري:

إن رأياً رأيتموه سفاهاً لخطأ الإيراد والإصدار

ليس زوج النبي تقسم فيئاً ذاك زيغ القلوب والأبصار

فاقبلوا اليوم ما يقول علي لا تناجوا بالإثم في الإسرار

ليس ما ضمت البيوت بفئ إنما الفيئ ما تضم الأوار

408

ص: 408

من كراع في عسكر وسلاح ومتاع يبيع أيدي التجار

ليس في الحق قسم ذات نطاق لا ولا أخذكم ل-ذات خمار

ذاك هو فيئكم خذوه وقولوا قد رضينا لا خير في الإكثار

إنها أمكم وإن عظم الخط ب وجاءت بزلّة وعثار

فلها حرمة النبي وحقا ن علينا من سترها ووقار

إعداد عائشة لحرب علي

حركة عائشة إلى البصرة

وصول عائشة إلى البصرة

حركة الإمام إلى البصرة

ثم قام عباد بن قيس وقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرنا عن الإيمان فقال: وصوله إلى البصرة نعم إن الله ابتدأ الأمور فاصطفى لنفسه ما شاء، واستخلص ما أحب، فكان هزيمة جيش عائشة

مما أحب أنه ارتضى الإسلام، واشتقه من اسمه، فنحله من أحب من خلقه،

ثم ش- شقه فسهل شرائعه لمن ،ورده، وعزز أركانه على من حاربه، هيهات من أن إسكان عائشة وإرجاعها

يصطلمه مصطلم ! جعله سلماً لمن دخله، ونوراً لمن استضاء به، وبرهاناً لمن تمسك به، وديناً لمن انتحله، وشرفاً لمن عرفه، وحجة لمن خاصم به، وعلماً لمن رواه، وحكمة لمن نطق به، وحبلاً وثيقاً لمن تعلّق به، ونجاة لمن آمن به.

من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة

للاي

فالإيمان أصل الحق، والحق سبيل الهدى وسيفه، جامع الحلية، قديم العدة، مشاهد من حرب الجمل

الدنيا مضماره، والغنيمة حليته، فهو أبلج منهاج ، وأنور سراج، وأرفع غاية، وأفضل داعية، لمن سلك قصد الصادقين واضح البيان عظيم الشأن. الأمن شهداء مع الإمام منهاجه، والصالحات مناره، والفقه مصابيحه، والمحسنون فرسانه. فعصم السعداء بالإيمان، وخُذل الأشقياء بالعصيان، من بعد اتجاه الحجة عليهم بالبيان، إذ وضح لهم منار الحق، وسبيل الهدى.

فالإيمان يستدل به على الصالحات، وبالصالحات يعمر الفقه، وبالفقه يرهب من شعر حرب الجمل

من خطب علي السلام

الكذب في حرب الجمل

الموت، وبالموت تختم الدنيا، وبالدنيا تخرج الآخرة، وفي القيامة حسرة أهل الإمام واصل الفتوحات

النار، وفي ذكر أهل النار موعظة أهل التقوى والتقوى غاية لا يهلك من اتبعها، ولا يندم من عمل بها، لأن بالتقوى فاز الفائزون، وبالمعصية خسر الخاسرون. الإمام ينقل العاصمة

فليزدجر أهل النهى، وليتذكر أهل التقوى، فإن الخلق لا مقصر لهم في

409

ص: 409

القيامة دون الوقوف بين يدي الله مرفلين في مضمارها، نحو القصبة العليا إلى الغاية القصوى، مهطعين بأعناقهم نحو داعيها، قد شخصوا من مستقر الأجداث والمقابر إلى الضرورة أبداً، لكل دار أهلها، قد انقطعت بالأشقياء الأسباب، وأفضوا إلى عدل الجبار ، فلا كرَّة لهم إلى دار الدنيا، فتبرؤوا من الذين أثروا طاعتهم على طاعة الله، وفاز السعداء بولاية الإيمان.

فالإيمان يا ابن قيس على أربع دعائم الصبر واليقين، والعدل، والجهاد، فالصبر من ذلك على أربع دعائم: الشوق والشفق، والزهد، والترقب، فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات. واليقين من ذلك على أربع دعائم : تبصرة الفتنة، وتأول الحكمة، ومن تأول الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة عرف السنة، ومن عرف السنة فكأنما كان في الأولين، فاهتدى إلى التي هي أقوم. والعدل من ذلك على أربع دعائم : غائص الفهم، وغمرة العلم، وزهرة الحكم وروضة الحلم، فمن فهم فسر جميع العلم، ومن علم عرف شرائع الحكم، ومن عرف

رائع الحكم لم يضل، ومن حلم لم يفرط أمره، وعاش في الناس حميداً. والجهاد من ذلك على أربع دعائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن، وشنآن ،الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق، ومن صدق في المواطن قضى الذي عليه، ومن شنأ المنافقين

وغضب الله غضب الله له. فقام إليه عمار فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الكفر على ما بني ؟ كما أخبرتنا عن

الإيمان ؟ قال : نعم يا أبا اليقظان

بني الكفر على أربع دعائم على الجفاء، والعمى، والغفلة، والشك، فمن جفا فقد احتقر الحق، وجهر بالباطل، ومقت العلماء، وأصر على الحنث العظيم. ومن عمي نسي الذكر، واتبع الظن، وطلب المغفرة بلا توبة ولا استكانة، ومن غفل حاد عن الرشد، وغرته الأماني، وأخذته الحسرة والندامة، وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب، ومن عتا في

410

ص: 410

و

ه و و

،

خصال هزيمة جيش عائشة

أمر الله شك، ومن شك تعالى الله عليه فأذله بسلطانه، وصغره بجلاله، كما فرط في أمره فاغتر بربه الكريم والله أوسع بما لديه من العفو والتيسير. فمن عمل إعداد عائشة لحرب علي

بطاعة الله اجتلب بذلك ثواب الله ، ومن تمادى في معصية الله ذاق وبال نقمة حركة عائشة إلى البصرة الله، فهنيئاً لك يا أبا اليقظان عقبى لاعقبى غيرها، وجنات لا جنات بعدها !

وصول عائشة إلى البصرة

فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، حدثنا عن ميت الأحياء. قال: نعم، إن الله تعالى بعث النبيين مبشرين ومنذرين، فصدقهم مصدقون، وكذبهم مكذبون حركة الإمام به إلى البصرة فيقاتلون من كذبهم بمن ،صدقهم، فيظهرهم الله . ثم يموت الرسل فتخلَفُ وصولهم إلى البصرة

خلوف فمنهم منكر للمنكر بيده و لسانه وقلبه فذلك استكمل خصال الخير ومنهم منكر للمنكر بلسانه وقلبه تارك له بيده، فذلك خصلتان من الخير تمسك بهما، وضيع خصلة واحدة وهي أشرفها، ومنهم منكر للمنكر بقلبه إسكان عائشة وإرجاعها تارك له بيده ولسانه، فذلك ضيع شرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة،

تارك له بلسانه وقلبه ويده، فذلك ميت الأحياء.

ومنهم فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا على مَ قاتلت طلحة والزبير؟ الإمام في البصرة :قال قاتلتهم على نقضهم بيعتي، وقتلهم شيعتي من المؤمنين: حكيم بن جبلة مشاهد من حرب الجمل

العبدي من عبد القيس، والسائحة (السبابجة) والأساورة بلا حق استوجبوه منهما، ولا كان ذلك لهما دون الإمام ، ولو أنهما فعلا ذلك بأبي بكر وعمر لقاتلاهما، شهداء مع الإمام الله ولقد علم من ههنا مِن أصحاب محمد له أن أبا بكر وعمر لم يرضيا ممن امتنع

من أخبار عائشة وجملها

من خطب علي السلام

من بيعة أبي بكر حتى بايع وهو كاره، ولم يكونوا بايعوه بعد الأنصار، فما بالي

وقد بايعاني طائعين غير مكرهين! ولكنهما طمعا مني في ولاية البصرة واليمن، الكذب في حرب الجمل

فلما أُوَفِّما وجاء هما الذي غلب من حبهما للدنيا وحرصهما عليها، خفت أن من شعر حرب الجمل

الإمام يواصل الفتوحات

يتخذا عباد الله خولاً، ومال المسلمين لأنفسهما ، فزويت ذلك عنهما وذلك بعد أن جربتهما واحتججت عليهما . فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن الإمام ينقل العاصمة

المنكر أواجب هو ؟ قال : سمعت رسول الله له يقول : إنما أهلك الله الأمم

411

ص: 411

السالفة قبلكم بتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول الله عز وجل: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِثْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ . وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خُلق الله عز وجل، فمن نصرهما نصره الله، ومن خذلهما خذله الله، وم--ا أعمال البر والجهاد في سبيله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلأكبقعة في بحر لجي. فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق.

و أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر، وإن الأمر لينزل من السماء إلى الأرض كما ينزل قطر المطر إلى كل نفس بما قدر الله لها من زيادة أو نقصان، في نفس أو أهل أو مال، فإذا أصاب أحدكم نقصاناً في شيئ من ذلك ، ورأى الآخر ذا يسار لا يكونن له فتنة، فإن المرء المسلم البرئ من الخيانة لينتظر من الله إحدى الحسنيين: إما من عند الله فهو خير واقع ، وإما رزق من الله يأتيه عاجل، فإذا هو ذو أهل ومال ومعه حسبه ودينه.

المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات حرث الدنيا، والعمل الصالح

حرث ،الآخرة، وقد يجمعهما الله لأقوام. فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن أحاديث البدع. قال: نعم، سمعت رسول الله له يقول : إن أحاديث ستظهر من بعدي حتى يقول قائلهم : قال رسول الله ، وسمعت رسول الله الله ، كل ذلك افتراء عليَّ، والذي بعثني بالحق ! التفترقن أمتي على أصل دينها وجماعتها على ثنتين وسبعين فرقة، كلها ضالة مضلة تدعوا إلى النار، فإذا كان ذلك، فعليكم بكتاب الله عز وجل، فإن فيه نبأ ما كان قبلكم ، ونبأ ما يأتي بعدكم، والحكم فيه بين من خالفه من الجبابرة قصمه الله، ومن ابتغى العلم في غيره أضله الله فهو حبل الله المتين، ونوره المبين، وشفاؤه النافع، وعصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقام ، ولا يزيغ فيتشعب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلقه كثرة الرد، وهو الذي سمعته الجن فلم تناه أن ول--وا إلى قومهم منذرين قالوا: يا قومنا : إنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدَي إِلَى الرُّشْدِ. من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم.

6

412

ص: 412

فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن الفتنة هل سألت عنها

رسول الله؟ قال: نعم، إنه لما نزلت هذه الآية من قول الله عز وجل : ألم أحَسِبَ إعداد عائشة لحرب علي النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفْتَنُونَ . علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله حركة عائشة إلى البصرة حي بين أظهرنا، فقلت: يا رسول الله ! ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها؟ فقال: يا علي ! إن أمتي سيفتنون من بعدي. قلت: يا رسول الله أوليس قد قلت لي يوم أحد وصول عائشة إلى البصرة حيث استشهد من استشهد من المسلمين، وحزنت على الشهادة فشق ذلك على حركة الإمام منه إلى البصرة فقلت لي : أبشر يا صديق فإن الشهادة من ورائك، فقال لي: فإن ذلك لكذلك،

وصوله فيه إلى البصرة

إسكان عائشة وإرجاعها

فكيف صبرك إذا خضبت هذه من هذا! وأهوى بيده إلى لحيتي ور ورأسي؟ فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، ليس ذلك من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى هزيمة جيش عائشة والشكر ! فقال لي : أجل . ثم قال لي: يا علي ! إنك باق بعدي ومبتلى بأمتي، ومخاصم يوم القيامة بين يدي الله تعالى، فاع--دد جواباً، فقلت: بأبي أنت وأمي، بين لي ما هذه الفتنة من أخبار عائشة وجملها التي يبتلون بها، وعلى ما أجاهدهم بعدك ؟ فقال : إنك ستقاتل بعدي الناكثة الإمام في البصرة والقاسطة والمارقة، وحلاهم وسماهم رجلاً رج--لاً ثم قال لي : وتجاهد أمتي

مشاهد من حرب الجمل

على كل من خالف القرآن ممن يعمل في الدين بالرأي، ولا رأي في الدين إنما هو أمر من الرب ونهيه فقلت يا رسول الله ! فأرشدني إلى الفلج عند شهداء مع الإمام الله الخصومة يوم القيامة، فقال: نعم، إذا كان ذلك فاقتصر على الهدى، إذا

من خطب علي السلام

قومك عطفوا الهدى على العمى، وعطفوا القرآن على الرأي فتأولوه برأيهم، تُتبع الحجج من القرآن بمشتبهات الأشياء الكاذبة عند الطمأنينة إلى الدنيا الكذب في حرب الجمل والتهالك والتكاثر ، فاعطف أنت الرأي على القرآن إذا قومك حرفوا الكلم من شعر حرب الجمل عن مواضعه، عند الأهواء الساهية، والأمر الصالح، والهرج والأثم، والقادة الناكثة، والفرقة القاسطة، والأخرى المارقة أهل الإفك المردي، والهوى الإمام واصل الفتوحات المطغي، والشبهة الحالقة، فلا تنكلن عن فضل العاقبة، فإن العاقبة للمتقين. الإمام ينقل العاصمة

وإياك يا علي، أن يكون خصمك أولى بالعدل والإحسان والتواضع الله،

413

ص: 413

والإقتداء بسنتي والعمل بالقرآن منك ! فإن من فلج الرب على العبد يوم القيامة أن يخالف فرض الله أو سنة سنها نبي، أو يعدل عن الحق، ويعمل بالباطل، فعند ذلك يملي لهم فيزدادوا إثماً ، يقول الله : إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ . فلا يكوننّ الشاهدون بالحق والقوامون بالقسط عندك كغيرهم. يا علي ! إن القوم سيفتنون، ويفتخرون بأحسابهم وأموالهم، ويزكون أنفسهم، ويمنون دينهم على ربهم، ويتمنون رحمته ويأمنون عقابه، ويستحلون حرامه بالمشتبهات الكاذبة، فيستحلون الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والربا بالبيع، ويمنعون الزكاة ويطلبون البر، ويتخذون فيما بين ذلك أشياء من الفسق لاتوصف صفتها، ويلي أمرهم السفهاء، ويكثر اتباعهم على الجور والخطأ، فيصير الحق عندهم باطلاً والباطل حقاً، ويتعاونون عليه، ويرمونه بألسنتهم، ويعيبون العلماء، ويتخذونهم سخرياً! قلت يا رسول الله، فبأية المنازل هم إذا فعلوا ذلك بمنزلة فتنة أو بمنزلة ردة؟ قال: بمنزلة فتنة [ يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل. فقلت: يا رسول الله أيدركهم العدل منا أم من غير نا؟ قال: بل منا، بنا فتح الله وبنا يختم، بنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك، وبنا يؤلف بين القلوب بعد الفتنة. فقلت : الحمد لله على ما وهب لنا من فضله ]. يا علي ! إنما مثل هذه الأمة مثل حديقة أطعم منها فوجاً عاماً، ثم فوجاً عاماً، فلعل آخرها فوجاً أن يكون أثبتها أصلاً، وأحسنها فرعاً، وأحلاها جنى، وأكثرها خيراً، وأوسعها عدلاً، وأطولها ملكاً. ينقذهم الله بنا أهل البيت عند ظهور السعداء أولي الألباب.

ياعلي ! كيف تهلك الله أمة أنا أولها ومهدينا أوسطها، والمسيح بن مريم آخرها. يا علي ! إنما مثل هذه الأمة كمثل الغيث لا يدرى أوله خير أم آخره، وبين ذلك نهج

أعوج لست منه وليس مني.

29

يا علي وفي تلك الأمة يكون الغلول والخيلاء وأنواع المثلات، ثم تعود هذه الأمة

!

إلى ما كان خيار أوائلها، فذلك من بعد حاجة الرجل إلى قوت امرأته [يعني غزلها] حتى أن أهل البيت ليذبحون الشاة، فيقنعون منها برأسها، ويواسون ببقيتها، من

الرأفة والرحمة بينهم).

414

ص: 414

ملاحظات

إعداد عائشة لحرب علي 1 . راوي هذا الحديث وكيع بن الجراح أو جريح، من كبار أئمة الحديث عند السنة، وهم يفضلونه على عبد الرزاق الصنعاني، الذي رحل اليه الى صنعاء أحمد حركة عائشة إلى البصرة

بن حنبل ويحيى بن معين ودرسا عنده مدة سنة. ويتهم عبد الرزاق ووكيع بالتشيع وصول عائشة إلى البصرة لأنهما رويا أحاديث لا يقبلها اتباع السلطة، ولأن عبد الرزاق وصف عمر بالأنوك، وقال الرجل: لا تقذر مجلسنا بذكر أولاد أبي سفيان ! لكن رواة السلطة مضطرون حركة الإمام إلى البصرة

للرواية عنهما !

وصوله إلى البصرة

قال ابن حجر (تهذيب التهذيب : 279/6) : (قال محمد بن إسماعيل الفزاري : بلغني هزيمة جيش عائشة

ونحن بصنعاء أن أحمد ويحيى تركا حدیث عبد الرزاق، فدخلنا غم شديد، فوافيت ابن معين في الموسم فذكرت له فقال : يا أبا صالح، لو ارتد عبد الرزاق ما تركنا حديثه)! إسكان عائشة وإرجاعها

وقال أيضاً (112/11) : (سمعت ابن معين يقول : والله ما رأيت أحداً يحدث الله تعالى

غير وكيع، وما رأيت أحفظ منه، ووكيع في زمانه كالأوزاعي في زمانه). وقال عبد الرزاق: ( رأيت الثوري وابن عيينة، ومعمراً، ومالكاً، ورأيت، ورأيت، الإمام في البصرة

فما رأت عيناي قط، مثل وكيع). (الكامل: 107/1).

وقد نقل السيوطي والمتقي هذا الحديث من كتاب وكيع، ولم تصلنا نسخته.

من أخبار عائشة وجملها

مشاهد من حرب الجمل

شهداء مع الإمام الله

من خطب علي السلام

2 . روى أجزاء من هذا الحديث الرضي في نهج البلاغة (3 50) شرح نهج البلاغة (206/9) ومختصر بصائر الدرجات /203 ، وفي طبعة (477/1) ومصباح البلاغة (26/1) وشرح النهج لابن ميثم (265/3) وبحار الأنوار(243/32) وفي نسخة الكذب في حرب الجمل السيوطي والمتقي بعض التصحيف أكملنا بعض فقراته من هذه المصادر. من شعر حرب الجمل

3. يظهر منه هذا الحديث تنوع الناس في البصرة، وتعطشهم للسؤال من الإمام يواصل الفتوحات

أمير المؤمنين الثانية والإستماع اليه، وهذا سبب طول هذه الخطبة، وتعدد موضوعاتها.

4 السياق العام للخطبة يؤكد أن الأمة قد انحرفت بعد نبيها الله لأنها لم

الإمام ينقل العاصمة

415

ص: 415

تطعه ولم تتبع وصيه علياً الله ، وأنه كثر فيها التحريف والكذب على نبيها ، وأن الخط الصحيح فيها يمثله علي الله ، ومن خالفه أهل الباطل والبدعة والإنحراف ! لذلك نتعجب كيف روى وكيع وغيره هذه الخطبة ! أما مصادرنا فقد روت فقرات مطولة منها كما يأتي من الإحتجاج. كما روت عن وكيع وعن عبد الرزاق عجائب في ولاية العترة والبراءة من ظالميهم كالذي رواه الصدوق في أماليه/771: (عن وكيع، عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال قال رسول الله : من فضل أحداً من أصحابي على علي فقد كفر) ويمكن تفسير الكفر فيه بكفر النعمة، لكنه يبقى عجيباً في جو عام يفضل آخرين على علي عالية.

ه . الفقرة الأخير تصف ضائقة اقتصادية تمر بالناس في زمن من الأزمان حتى يحتاج الزوج الى عمل زوجته، ومع ذلك يوجد في الأمة أبرار يذبحون الشاة فيأخذون قليلاً منها، ويتصدقون بالباقي. ولا تنص على أن ذلك قرب ظهور المهدي الثانية

فقرات من حديث وكيع من مصادرنا

في الإحتجاج (246/1) : روى يحيى بن عبد الله بن الحسن عن أبيه عبدالله بن الحسن :قال : ( كان أمير المؤمنين الثلاة يخطب بالبصرة بعد دخوله بأيام، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني مَنْ أهل الجماعة، ومن أهل الفرقة، ومن أهل البدعة ومَن أهل السنة ؟ فقال : ويحك أما إذا سألتني فافهم عني ، ولا عليك أن تسأل عنها أحداً بعدي : أما أهل الجماعة فأنا ومن اتبعني وإن قلوا، وذلك الحق عن أمر الله تعالى وعن أمر رسوله . وأهل الفرقة المخالفون لي ولمن اتبعني وإن كثروا . وأما أهل السنة

صال

فالمتمسكون بما سنه الله لهم ورسوله وإن قلوا وأما أهل البدعة فالمخالفون لأمر الله ولكتابه ولرسوله ، العاملون برأيهم وأهوائهم، وإن كثروا، وقد مضى منهم الفوج الأول وبقيت أفواج، وعلى الله قبضها واستيصالها عن جدد الأرض.

فقام إليه عمار فقال: يا أمير المؤمنين إن الناس يذكرون الفيئ... بنحو ما تقدم.

416

ص: 416

بسم

خطبته الله المشهورة في ذم البصرة

إعداد عائشة لحرب علي

رووا عنه اللي خطبة في ذم أهل البصرة، بصيغ متعددة، وفيه-ا إخبار بملاحم، وفي بعض رواياتها فقرات في مدح أهل البصرة، ويظهر أنها أكثر من خطبة، لكن حركة عائشة إلى البصرة أكثرها مرسل، بدون سند وهذا نصها من كتاب تمام نهج البلاغة (444/1) : وصول عائشة إلى البصرة

الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالاً، فيكون أولاً حركة الإمام إلى البصرة

قبل أن يكون آخراً، ويكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً. كل مسمى بالوحدة غيره قليل وكل عزيز غيره ذليل وكل قوي غيره ضعيف، وكل مالك غيره وصوله إلى البصرة مملوك، وكل عالم غيره متعلم، وكل قادر غيره يقدر ويعجز، وكل سميع غيره هزيمة جيش عائشة

يصم عن لطيف الأصوات ويصمه كبيرها، ويذهب عنه ما بعد منها، وكل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان ولطيف الأجسام، وكل ظاهر غيره غير إسكان عائشة وإرجاعها ،باطن، وكل باطن غيره غير ظاهر . لم يخلق ما خلق لتشديد سلطان، ولا تخوف

6

الله

من أخبار عائشة وجملها

من عواقب ،زمان ولا خوف من زوال ولا نقصان، ولا استعانة على ند مثاور

ولا شريك مكاثر ، ولا ضد منافر ، ولكن خلائق مربوبون، وعباد داخرون. الإمام في البصرة أما بعد، أيها الناس فإن الله عز وجل غفور رحيم عزيز ذو انتقام، مشاهد من حرب الجمل

ذو رحمة واسعة، ومغفرة دائمة وعفو جم، وعقاب أليم. قضى أن شهداء مع الإمام الله

رحمته ومغفرته وعفوه لأهل طاعته من خلقه، وقضى أن نقمته وسطوته عقابه على أهل معصيته من خلقه، ومن ] ابتدع في دينه ما ليس م--ن خ-ط--ب علي الاية

منه وبرحمته نال الصالحون وبعد الهدى والبينات ضل الضالون. يا أهل البصرة والبصيرة، يا أهل السبخة والخريبة وتدمر، يا بقايا ثمود، يا

أهل المؤتفكة ائتفكت بأهلها من الدهر ثلاثاً، وعلى الله تمام الرابعة. يا أهل الداء العضال، كنتم جند المرأة ، وأتباع البهيمة، رغا فأجبتم وعقر الإمام واصل الفتوحات

فهربتم أخلاقكم دقاق، وعهدكم شقاق، ودينكم نفاق، وماؤكم زعاق. الإمام ينقل العاصمة

بلادكم أنتن بلاد الله تربة أرضكم قريبة من الماء، بعيدة من السماء. بها مغيض كل ماء، ولها شر أسماء، وبها تسعة أعشار الشر. وهي مسكن الجن.

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

417

ص: 417

خفت عقولكم، وسفهت حلو مكم، شهرتم علينا سيوفكم، وسفكتم دماءكم،

وخالفتم إمامكم. الله أمركم بجهادي، أم على الله تفترون.

يا أهل البصرة، قد نكثتم بيعتي، وظاهرتم عليَّ ذوي عداوتين فما ظنكم الآن بي،

وقد أمكنني الله منكم وأسلمكم بأعمالكم.

فقام إليه رجل منهم فقال : نظن خيراً يا أمير المؤمنين، ونرى أنك ظفرت وقدرت فإن عاقبت فقد أجر منا، وإن عفوت فالعفو أحب إلى رب العالمين. فقال الله : قد عفوت عنكم. فإياكم أن تعودوا لمثلها، فإنكم أول من نكث البيعة، وشق عصا هذه الأمة، وشرع القتال والشقاق، وترك الحق والإنصاف، فأنتم غ--رض لنابل، وأكلة لآكل، وفريسة لصائل النار لكم مدخر، والعار لكم مفخر . المقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه ، والشاخص عنكم متدارك برحمة من ربه، وما الله بظلام للعبيد. فارجعوا عن الحوبة، وأخلصوا فيما بينكم وبين الله بالتوبة.

يا بصرة، أي يوم لك لو تعلمين إن لك من الماء ليوم-اً عظيماً بلاؤه، وإني لأعرف موضع منفجره من قريتكم هذه. ثم أمور قبل ذلك تدهمكم أخفيت عليكم وعلمناها. وأيم الله لتغرقن بلدتكم هذه قد طبقها الماء حتى ما يرى منها إلا شرف المسجد، كأنه جؤجؤ سفينة في لجة ،بحر، أو نعامة جاثمة. قد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها، وغرق من في ضمنها . فمن خرج عند دنو غرقها فبرحمة من الله سبقت له، ومن بقي فيها غير مرابط بها فبذنبه فويل لك يا بصرة، عند ذلك من جيش من نقم الله لا رهج له ولا حس وسيبتلي الله أهلك بالموت الأحمر ، والجوع الأغبر ويل لسكككم العامرة، ودوركم المزخرفة ، التي لها أجنحة كأجنحة النسور

وخراطيم كخراطيم الفيلة من أولئك الذين لا يندب قتيلهم، ولا يفقد غائبهم.

فقام إليه الأحنف بن القيس فقال : يا أمير المؤمنين، متى يكون ذلك؟ فقال له : يا أبا بحر، إنك لن تدرك ذلك الزمان، وإن بينك وبينه لقروناً، ولكن ليبلغ الشاهد منكم الغائب عنكم، لكي يبلغوا إخوانهم إذا هم رأوا البصرة قد تحولت أخصاصها دوراً ، وآجامها قصوراً ، فالهرب الهرب، فإنه لا بصيرة لكم يومئذ.

418

ص: 418

يا أحنف كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب، ولا

قعقعة لجم، ولا حمحمة خيل، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام. إعداد عائشة لحرب علي ثم التفت السلة عن يمينه فقال : كم بينكم وبين الأبلة؟ فأجابه المنذر بن حركة عائشة إلى البصرة الجارود فداك أبي وأمي أربعة فراسخ . فقال الله : صدقت. فوالذي بعث

وصول عائشة إلى البصرة

محمداً لله وأكرمه بالنبوة، وخصه بالرسالة، وعجل بروحه إلى الجنة، لقد سمعت منه كما تسمعون مني، أن قال لي: يا علي، تفتح أرض يقال لها البصرة، حركة الإمام له إلى البصرة أق--وم الأرضين قبلة، قبلتهم على المقام حيث يقوم الإمام بمكة، وقارؤها أقرأ وصوله إلى البصرة

الناس، وعابده--ا أعبد الناس، وزاهدها أزهد الناس، وعالمها أعلم الناس، ومتصدقها أكرم الناس صدقة، وتاجرها أعظم الناس تجارة وأصدقهم في هزيمة جيش عائشة

تجارته، وغنيها أكثر الناس بذلاً وتواضعاً، وشريفها أحسن الناس خلقاً. أكرم الناس جواراً، وأقلهم تكلفاً لما لا يعنيهم، وأحرصهم على الصلاة في جماعة. ثمرهم أكثر الثمار ، وأموالهم أكثر الأموال، وصغارهم أكيس الأولاد، من أخبار عائشة وجملها ونساؤهم أقنع النساء، وأحسنهن تبعلاً.

وهم

إسكان عائشة وإرجاعها

الإمام في البصرة

منها إلى قرية يقال لها الأبلة أربعة فراسخ ويستشهد في التي تسمى الأبلة عند مشاهد من حرب الجمل

مسجد جامعها وموضع عشورها من أمتي أربعون ألفاً. الشهيد منهم يومئذ

کالشهيد معي يوم بدر

فقال له المنذر يا أمير المؤمنين، ومن يقتلهم فداك أبي وأمي ؟ فقال الله :

28

يقتلهم إخوان الجن، وهم قوم كأنهم الشياطين، سود ألوانهم، منتنة أرياحهم، شدید ،كلبهم قليل سلبهم، طوبى لمن قتلهم، وطوبى لمن قتلوه.

شهداء مع الإمام الله

من خطب علي السلام

الكذب في حرب الجمل

الإمام واصل الفتوحات

كأني أراهم قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة، يلبسون السرق والديباج، من شعر حرب الجمل

ويعتقبون الخيل العتاق ويكون هناك استحرار قتل، حتى يمشي المجروح على المقتول، ويكون المفلت أقل من المأسور]. فتن كقطع الليل المظلم، لا تقوم لها قائمة، ولا ترد لها راية، تأتيكم مزمومة الإمام ينقل العاصمة

مرحولة، يحفزها قائدها، ويجهدها راكبها. يجاهدهم في الله ق-وم أذلة عند

لا

419

ص: 419

المتكبرين. ألا بأبي وأمي هم من عدة قليلة أسماؤهم في السماء معروفة، وفي الأرض مجهولة. تبكي السماء عليهم وسكانها، والأرض وسكانها. قد دنا حينئذ ظهورهم. إذا كثرت فيكم الأخلاط، واستولت الأنباط، دنا خراب العراق. وذاك إذا بنيت مدينة ذات أثل وأنهار . فإذا غلت فيها الأسعار، وشيد فيها البنيان، وحكم فيها الفساق،

واشتد البلاء، وتفاخر الغوغاء، دنا خسف البيداء، وطاب الهرب والجلاء. وستكون قبل الجلاء أمور يشيب منها الصغير، ويعطب الكبير، ويخرس الفصيح، ويبهت اللبيب، يعاجلون بالسيف صلتا، وقد كانوا قبل ذلك في غضارة من عيشهم يمرحون . فيا لها من مصيبة حينئذ من البلاء العقيم، والبكاء الطويل، والويل والعويل، وشدة

الصريخ، وفناء مريج. ذلك أمر الله وهو كائن.

والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لو أشاء لأخبرتكم بخراب العرصات عرصة

عرصة، متى تخرب، ومتى تعمر بعد خرابها إلى يوم القيامة...

صفة الغوغاء. فقال الله : هم الذين إذا اجتمعوا ضروا ، وإذا

صله

[ فسأله رجل: عن تفرقوا نفعوا. فقيل : قد عرفنا مضرة اجتماعهم فما منفعة افتراقهم. فقال له : يرجع أصحاب المهن إلى مهنهم فينتفع الناس بهم كرجوع البناء إلى بنائه، والنساج إلى

منسجه، والخباز إلى مخبزه فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن الفتنة، وهل سألت رسول الله عنها ؟ فقال له : نعم، إنه لما أنزل الله سبحانه وتعالى قوله : ألم أحَسِبَ النَّاسُ أن يُترَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفْتَنُونَ . علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله له حي بين أظهرنا. فقلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالى بها؟ فقال: يا علي، إن أمتي سيفتنون من بعدي. وإن الله قد كتب عليك جهاد المفتونين، كما كتب علي جهاد المشركين. فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ما هذه الفتنة التي كتب علي فيها الجهاد. قال: فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وهم مخالفون للسنة. فقلت: يا رسول الله فعلامَ أقاتلهم وهم يشهدون كما أشهد. قال: على الإحداث في الدين، ومخالفة الأمر. فقلت: يا رسول الله، أوليس قد قلت لي يوم أحد، حيث

420

ص: 420

استشهد من استشهد من المسلمين، وحيزت عني الشهادة، فشق ذلك علي، فوعدتني الشهادة وقلت لي : أبشر يا صديق، فإن الشهادة من ورائك إعداد عائشة لحرب علي فقلت فاسأل الله أن يعجلها لي بين يديك. فقال لي : فمن يقاتل الناكثين حركة عائشة إلى البصرة والقاسطين، والمارقين. أما إني وعدتك الشهادة وإن ذلك لكذلك . وستضرب على هذا وأشار إلى رأسه فتخضب هذه وأشار إلى لحيته. فكيف صبرك إذن وصول عائشة إلى البصرة فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من حركة الإمام إلى البصرة مواطن البشرى والشكر .

الله

هزيمة جيش عائشة

وصوله فيه إلى البصرة

فقال: يا علي، أعد نفسك للخصومة فإنك باق بعدي، ومبتلى بأمتي، ومخاصم

بين يدي الله تعالى. فقلت: يا رسول الله، لو بينت لي قليلاً. فقال : يا علي إن القوم سيفتنون بعدي، ويفتخرون بأحسابهم وأموالهم، إسكان عائشة وإرجاعها

ويزكون أنفسهم، ويمنون بدينهم على ربهم ويتمنون رحمته ويأمنون سطوته، فيأولون القرآن، ويعملون بالرأي، ويحرفون الكتاب عن مواضعه ويستحلون من أخبار عائشة وجملها حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية، فيستحلون الخمر بالنبيذ، الإمام في البصرة والسحت بالهدية والربا بالبيع، ويمنعون الزكاة ويطلبون البر، ويتخذون مشاهد من حرب الجمل

فيما بين ذلك أشياء من الفسق لا يوصف صفتها. وتغلب كلمة الضلال ويلي أمرهم السفهاء، ويكثر تتبعهم على الجور و الخطأ، فيصير الحق عندهم شهداء مع الإمام باطلاً، والباطل حقاً، فيتعاونون عليه، ويعيبون العلماء ويتخذونهم سخرياً.

من شعر حرب الجمل

من خطب علي السلام

فكن حلس بيتك حتى تقلدها. فإذا قلدتها جاشت عليك الصدور، وقلبت لك الأمور، فقاتل حينئذ على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فليست حالهم الكذب في حرب الجمل الثانية دون حالهم الأولى. :فقلت يا رسول الله، فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك، أبمنزلة ردة أم بمنزلة فتنة. فقال: بمنزلة فتنة، يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل، إلا أن يدعوا الإمام واصل الفتوحات الصلاة، ويستحلوا الحرام في حرم الله . فمن فعل ذلك منهم فهو كافر فقلت : يا الإمام ينقل العاصمة رسول الله أيدركهم العدل منا أم من غيرنا ؟ قال : بل منا أهل البيت يا علي

الله

421

ص: 421

نهج

بنا فتح الله الإسلام، وبنا يختم الله. بنا أهلك الله الأوثان ومن يعبدها، وبنا يقصم كل جبار وكل منافق حتى إنا لنقتل في الحق مثل من قتل في الباطل. وبنا ألف الله بين القلوب بعد عداوة الشرك، وبنا يؤلف الله بين القلوب في الدين بعد عداوة الفتنة

وبنا يستنقذون من ضلالة ،الفتنة، كما استنقذوا من ضلالة الشرك.. يا علي، إنما مثل هذه الأمة كمثل الغيث لا يدرى أوله خير أم آخره. وبين ذلك

أعوج لست منه وليس مني. فقلت : الحمد لله على ما وهب لنا من فضله. فقال له رجل: يا علي ما السبب الذي دعا عائشة إلى المظاهرة عليك، حتى بلغت خلافك وشقاقك ما بلغت، وهي امرأة من النساء، لم يكتب عليها القتال، ولا فرض عليها الجهاد، ولا رخص لها بالخروج من بيتها، ولا التبرج بين الرجال! فقال له : سأذكر لك أشياء حقدتها علي، وليس لي في واحد منها ذنب إليها، ولكنها تجرمت علي أحدها تفضيل رسول الله لي على أبيها، وتقديمه إياي في مواطن الخير

من

6

الله

عليه، فكانت تضطغن ذلك ويصعب عليها، وهي تعرفه منه، وتتبع رأيه فيه. وثانيها: لما آخى رسول الله الله بين أصحابه، آخى بين أبيها وعمر بن الخطاب،

واختصني بأخوته، فغلظ ذلك عليها وحسدتني لسعدي (كذا) منه. وثالثها: إنه لما أوصى له بسد أبواب كانت في المسجد الجميع أصحابه إلا بابي، فلما سد باب أبيها وصاحبه، وترك بابي مفتوحاً في المسجد، تكلم في ذلك بعض أهله. فقال صلوات الله عليه : ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب علي، بل الله عز وجل سد أبوابكم وفتح بابه. فغضب لذلك أبو بكر وعظم عليه، وتكلم في أهله بشئ سمعته

منه ابنته، فاضطغنته علي

وكان رسول الله له أعطى أباها الراية يوم خيبر ، وأمره أن لا يرجع حتى يفتح أو يقتل ، فلم يلبث لذلك وانهزم. فأعطاها في الغد عمر بن الخطاب وأمره بمثل ما أمر صاحبه، فانهزم ولم يلبث، فساء رسول الله ذلك. وقال لهم ظاهراً معلناً: لأعطين الراية غدا رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله، كرار غیر فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يده. فأعطاني الراية فصبرت حتى فتح الله على

422

ص: 422

يدي، فغم ذلك أباها وأحزنه، فاضطغنه علي ، ومالي إليه ذنب في ذلك،

فحقدت الحقد أبيها.

:

إعداد عائشة لحرب علي

وبعث رسول الله أباها ليؤدي سورة براءة، وأمره أن ينبذ العهد حركة عائشة إلى البصرة

للمشركين، فمضى حتى الجرف، فأوحى الله إلى نبيه أن يرده ويأخذ منه الآيات فيسلمها إلي، فعرف أباها بإذن الله عز وجل، وكان فيما أوحى الله عز وجل إليه وصول عائشة إلى البصرة أنه لا يؤدي عنك إلا رجل منك. وكنت من رسول الله وكان مني، فاضطعن حركة الإمام له إلى البصرة لذلك عليَّ أيضاً، واتبعته عائشة في رأيه. وصوله إلى البصرة

وكانت عائشة تمقت خديجة بنت خويلد، وتشنؤها شنآن الضرائر، وكانت

تعرف مكانها من رسول الله له فيثقل ذلك عليها، وتعدى مقتها إلى ابنتها هزيمة جيش عائشة

فاطمة ، فتمقتني وتمقت فاطمة و خديجة الله . وهذا معروف في الضرائر . إسكان عائشة وإرجاعها

ولقد دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وعنده أن--اس قبل أن يضرب الحجاب على أزواجه، وكانت عائشة بقرب من رسول الله له ، فلما رآني رحب من أخبار عائشة وجملها بي، وقال: أدن مني، يا علي . ولم يزل يدنيني حتى أجلسني بينه وبينها. فغلظ الإمام في البصرة ذلك عليها، فأقبلت إلي وقالت بسوء رأي النساء وتسرعهن إلى الخطاب: ما مشاهد من حرب الجمل

وجدت لإستك، يا علي، موضعاً غير موضعي هذا ! فزبرها رسول الله له

،

من خطب علي السلام

وقال لها: ألعلي تقولين هذا إنه والله أول من آمن بي وصدقني، وأول الخلق شهداء مع الإمام وروداً على الحوض، وهو آخر الناس بي عهداً. لا يبغضه أحد إلا أكبه الله على منخره في النار. فازدادت بذلك غيظاً علي. ولما رميت بما رميت، اشتد ذلك على النبي فاستشارني في أمرها فقلت: يا الكذب في حرب الجمل رسول الله ، سل جاريتها بريرة ، واستبرئ الحال منها ، فإن وجدت عليها شيئاً من شعر حرب الجمل فخل سبيلها فالنساء كثيرة. فأمرني أن أتولى مسألة بريرة، وأن أستبرئ الحال منها ففعلت ذلك، فحقدت عليَّ ! والله ما أردتها بسوء لكني نصحت الله الإمام واصل الفتوحات ولرسوله. وأمثال ما ذكرت كثير . فإن شئتم فاسألوها : ما الذي نقمت عليَّ حتى الإمام ينقل العاصمة خرجت مع الناكثين لبيعتي، وسفكت دماء شيعتي، وتظاهرت بين المسلمين

423

ص: 423

بعداوتي. هل حملها على ذلك شيئ إلا البغي والشقاق، والمقت لي بغير سبب يوجب ذلك في الدين والله المستعان

ثم قال الله : يا أهل البصرة، إن الله لم يجعل لأحد من أمصار المسلمين خطة شرف ولا كرم، إلا وقد جعل فيكم أفضل ذلك، وزادكم من فضله بمنه ما ليس لهم، سخر لكم الماء يغدو عليكم ويروح، صلاحاً لمعاشكم، والبحر سبباً لكثرة أموالكم، فلو صبرتم واستقمتم لكانت شجرة طوبى لكم مقيلاً وظلاً ظليلاً. غير أن حكم الله فيكم ماض، وقضاؤه نافذ لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب. يقول الله: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا. و أقسم لكم يا أهل البصرة، ما الذي ابتدأتك--م ب--ه م--ن التوبيخ إلا تذكيراً عظة لما بعد، لكيلا تسرعوا إلى الوثوب في مثل الذي وثبتم. وقد قال الله تعالى لنبيه : وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ. ولا الذي ذكرت فيكم من المدح والتطرية بعد التذكير والموعظة، رهبة مني لكم، ولا رغبة في شيئ مما قبلكم، فإني لا أريد المقام بين أظهركم إن شاء الله.

ومو

فحتى متى تُلحق بي اللواحق ! لقد علمت ما فوق الفردوس الأعلى، وما تحت السابعة السفلى، وما في السموات العلى، وما بينهما وما تحت الثرى، كل ذلك علم إحاطة لاعلم إخبار. ثم قال الله : اللهم صل على سيدنا محمد الكريم في الحسب، الرفيع في النسب، سليل عبد المطلب، وسيد العجم والعرب وسلم تسليما كثيراً]. ثم نزل الله عن المنبر ، وأمر أصحابه بالرحيل إلى الكوفة).

راجع في فقراتها : نهج البلاغة: 44/1، وشرح النهج : 251/1، والفتوح لابن الأعثم:488/2، والإحتجاج : 250/1 ، وبحار الأنوار : 225/32 ، ومسند الإمام علي الله : 448/8 ، ومصادر نهج البلاغة وأسانيده:360/1 ، ومعجم أحاديث الإمام المهدي عال : 431/5 ، والبلدان للهمذاني/ 238 ، ومعجم البلدان : 436/1 ، وعيون الأخبار لابن قتيبة:315/1، ومناقب الخوارزمي/189،

وتفسير القمي: 2/ 339 ، والجمل للمفيد / 217، ومنهاج البراعة:156/1.

424

ص: 424

ملاحظات

إعداد عائشة لحرب علي 1. هذه الخطبة مرسلة، راجع مصادرها في كتابنا: المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي ال /535 . لكن عدداً من فقراتها ورد بسند في أحاديث. وعدداً من حركة عائشة إلى البصرة فقراتها نورها عليها، ولا يمكن للراوي أن يضعها ويكذبها!

وصول عائشة إلى البصرة

2 . نلاحظ أن المستوى الأدبي لبعض فقراتها دون مستوى بلاغة أمير المؤمنين حركة الإمام إلى البصرة

وكذلك اعتذار أمير المؤمنين الله من ذمه للبصرة بأنه ليس كرها، واعتذاره من

وصوله إلى البصرة

عه بأنه ليس تقرباً لهم، لأنه لا يريد أن يسكن في البصرة! فهذا ليس من

مدحه

3.

عادته

جمع الله في هذه الخطبة بين ذم البصرة ومدحها، ويمكن أن يكون ذلك صدر

منه الشاي ، لكن بلاغة بعض فقراتها لا تصل الى بلاغته عالي

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

.4 خلطت الخطبة بين حركة الزنج الذين يقتلون ألوف الشهداء في الأبلة من أخبار عائشة وجملها ووصفتهم بأنهم : إخوان الشياطين، سود ألوانهم، منتنة أرياحهم، ولا خيل لهم. الإمام في البصرة

وبين المغول الذين يعتقبون الخيل العتاق. وهذا يوجب الشك في أن راويها خلط بين مطالبها فيضاف الى مشكلة سندها سوء حفظ الرواة!

مشاهد من حرب الجمل

ه . في معجم البلدان (363/2) : (البصرة سموها الخريبة، وعندها كانت وقعة شهداء مع الإمام الله 5 في الجمل بين علي وعائشة، ولذلك قال بعضهم:

من خطب علي السلام

إني أدين بما دان الوصي به يوم الخريبة من قتل المحلينا). 6 . في فتوح ابن الأعثم (488/2) : ( فأقام علي بالبصرة بعد حرب الجمل أياماً الكذب في حرب الجمل قلائل ، فلما أراد الرحيل عنها نصب في عسكره منبراً ثم نادى في الناس من ش-ع-ر ح--رب الجمل فجمعهم وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ، وذكر

الإمام في واصل الفتوحات

في

من أمر القوم ما ذكر. قال: فوثب إليه المنذر بن الجارو إليه المنذر بن الجارود العبدي، فسأله عن أمر الفتن وغيرها، فأخذ علي في ذلك يخبره من يومه ذلك إلى أن تقوم الإمام ينقل العاصمة الساعة، فذكر الفتن في مدينة مدينة وكيف تخرب ومن يتولى خرابها، وكم

425

ص: 425

النفقة تكون وعلى من تكون في المشرق والمغرب، فتركنا ذكرها لطولها، ثم قال في آخر كلامه يا منذر يعني المنذر بن الجارود العبدي، إنه لن تقوم الساعة إلا على أشرار خلق ربك، وذلك في أول يوم من المحرم يوم الجمعة، فافهم عني يا منذر ما نبأتك به، ولم أكتمه عن غيرك، والله ولي الإحسان. اللهم صل على سيدنا محمد الكريم في الحسب الرفيع في النسب، سليل عبد المطلب، وسيد العجم والعرب، وسلم تسليماً كثيراً. ثم نزل عن المنبر وأمر أصحابه بالرحيل، وانصرف إلى الكوفة).

عن

الله اله

7. من روائع خطبه الله تحليله لأسباب بغض عائشة له، ولها مؤيدات، وقد روي عائشة أنها كانت غاضبة من نتيجة تحقيق علي السلام في أمرها مع بريرة، كما أمره لنبي صل ، وقالت (الجمل للمفيد /81): (لم يزل بيني وبين علي من التباعد ما يكون بين الأحماء، وقالت في خبرها عن قصة الذين رموها بصفوان بن المعطل، وما كان منها في غزوة بني المصطلق وهجر رسول الله لها، وإعراضه عنها ، واستشارته في أسامة بن زيد قالت وكان عبداً صالحاً مؤمناً ، وذكر له قذف القوم بصفوان فقال له أسامة : لا تظن يا رسول الله إلا خيراً، فإن المرأة مأمونة وصفوان عبد صالح. ثم استشار علياً الله فقال له: يا رسول الله النساء عليك كثيرة، سل عن الخبر بريرة خادمتها، وابحث عن سر خبرها منها، فقال له رسول الله : فتول أنت يا علي تقريرها، فقطع لها علي خشباً من النخل وخلا بها يسألها ويتهددها ويرهبها ! لا جرم إني لا أحب علياً أبداً).

ولم تذكر عائشة نتيجة تحقيق علي الله مع خادمتها بريرة.

8. وروى في معجم البلدان(436/1) خطبة فيها ذم، وخطبة فيها مدح، قال: (لما قدم أمير المؤمنين البصرة بعد وقعة الجمل ، ارتقى منبرها فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل البصرة يا بقايا ثمود، يا أتباع البهيمة، يا جند المرأة، رغا فاتبعتم، وعقر فانهزمتم. أما إني ما أقول ما أقول رغبة ولا رهبة منكم ، غير أني سمعت رسول الله له يقول : تفتح أرض يقال لها البصرة، أقوم أرض الله قبلة قارئها أقرأ الناس وعابدها أعبد الناس، وعالمها أعلم الناس، ومتصدقها أعظم الناس صدقة، منها إلى قرية يقال لها

426

ص: 426

الأبلة أربعة فراسخ ، يستشهد عند مسجد جامعها وموضع عشورها، ثمانون ألف شهيد، الشهيد يومئذ كالشهيد يوم بدر معي، وهذا الخبر بالمدح أشبه إعداد عائشة لحرب علي وفي رواية أخرى أنه رقي المنبر فقال : يا أهل البصرة ويا بقايا ثمود، يا أتباع حركة عائشة إلى البصرة

البهيمة، ويا جند المرأة، رغا فاتبعتم، وعقر فانهزمتم، دينكم نفاق، وأحلامكم دقاق، وماؤكم زعاق يا أهل البصرة والبصيرة والسبخة والخريبة، أرضكم وصول عائشة إلى البصرة أبعد أرض الله من السماء، وأقربها من الماء، وأسرعها خراباً وغرقاً .

حركة الإمام له إلى البصرة

ألا إني سمعت رسول الله له يقول : أما علمت أن جبريل حمل جميع الأرض وصوله فيه إلى البصرة

على منكبه الأيمن فأتاني بها؟ ألا إني وجدت البصرة أبعد بلاد الله من السماء، وأقربها من الماء، وأخبثها تراباً ، وأسرعها خراباً، ليأتين عليها يوم لا يرى منها هزيمة جيش عائشة

إلا شرفات جامعها كجؤجؤ السفينة في لجة البحر.

إسكان عائشة وإرجاعها

ثم قال: ويحك يا بصرة، ويلك من جيش لا غبار له فقيل : يا أمير المؤمنين ما الويح وما الويل؟ فقال الويح والويل بابان، فالويح رحمة والويل عذاب. من أخبار عائشة وجملها وفي رواية أن علياً رضي الله عنه لما فرغ من وقعة الجمل دخ--ل البصرة فأتى الإمام له في البص----رة

مسجدها الجامع فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على مشاهد من حرب الجمل

النبي الا الله ثم قال: أما بعد فان الله ذو رحمة واسعة، فما ظنكم يا أهل البصرة يا أهل السبخة، يا أهل المؤتفكة، ائتفكت بأهلها ثلاثاً وعلى الله الرابعة. يا جند المرأة، ثم ذكر الذي قبله، ثم قال: إنصرفوا إلى منازلكم وأطيعوا

شهداء مع الإمام الله

من خطب علي السلام

الله وسلطانكم، وخرج حتى صار إلى المربد ، والتفت وقال: الحمد لله الذي

أخرجني من شر البقاع تراباً وأسرعها خراباً).

خطبة ذم البصرة برواية ابن ميثم البحراني

28

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

رواها ابن ميثم البحراني في شرح نهج البلاغة (289/1)، و: 17/3) وهي مرسلة وفيها الإمام واصل الفتوحات

إخبار عن أحداث ستقع فيها، قال: روي أنه لما فرغ من حرب أهل الجمل أمر منادياً الإمام ينقل العاصمة

ينادي في أهل البصرة أن الصلاة جامعة لثلاثة أيام من غد إن شاء الله، ولا عذر لمن

427

ص: 427

تخلف إلا من حجة أو علة، فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً. فلما كان في اليوم الذي اجتمعوا فيه، خرج فصلى في الناس الغداة في المسجد الجامع، فلما قضى صلاته قام فأسند ظهره إلى حائط القبلة، عن يمين المصلي فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم واستغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، ثم قال : (كأني أنظر إلى قريتكم هذه وقد طبقها الماء حتى ما يرى منها إلا شُرف المسجد كأنه جؤجؤ طير في لجة بحر ! فقام إليه الأحنف بن قيس فقال : يا أمير المؤمنين ومتى يكون ذلك؟ قال: يا أبا بحر إنك لن تدرك ذلك الزمان وإن بينك وبينه لقروناً، ولكن ليبلغ الشاهد منكم الغائب عنكم لكي يبلغوا إخوانهم إذا هم رأوا البصرة قد تحولت أخصاصها دوراً وآجامها قصوراً، فالهرب الهرب فإنه لا بصيرة لكم يومئذ. ثم التفت عن يمينه فقال: كم بينكم وبين الأبلة.. بنحو ما تقدم. ثم قال: يقتل في ذلك الموضع من أمتي سبعون ألفاً شهيدهم يومئذ بمنزلة شهداء بدر ! فقال له المنذر : يا أمير المؤمنين ومن يقتلهم فداك أبي وأمي ؟ قال : يقتلهم إخوان الجن وهم جيل كأنهم الشياطين، سود ألوانهم منتنة أرواحهم شديد كلبهم قليل سلبهم، طوبى لمن قتلهم وطوبى لمن قتلوه، ينفر لجهادهم في ذلك الزمان قوم هم أذلة عند المتكبرين من أهل ذلك الزمان، مجهولون في الأرض معروفون في السماء، تبكي السماء عليهم وسكانها والأرض وسكانها، ثم هملت عيناه بالبكاء، ثم قال : ويحك يا بصرة من جيش لا رهج له ولا حس ! قال له :المنذر يا أمير المؤمنين وما الذي يصيبهم من قبل الغرق مما ذكرت ، وما الويح، وما الويل؟ فقال: هما ،بابان فالويح باب الرحمة والويل باب العذاب، يا ابن الجارود ،نعم ثارات عظيمة، منها عصبة يقتل بعضها بعضاً، ومنها فتنة تكون بها خراب منازل و خراب ،دیار ، وانتهاك أموال، وقتل رجال، وسبي نساء، يذبحن ذبحاً، يا ويل أمرهن حديث عجب..

منها: أن يستحلّ بها الدجال الأكبر الأعور الممسوح العين اليمنى والأخرى كأنها ممزوجة بالدم، لكأنها في الحمرة علقة ، تأتي الحدقة كهيئة حبة العنب الطافية على الماء، فيتبعه من أهلها عدة من قتل بالأبلة من الشهداء، أناجيلهم في صدورهم، يقتل من

428

ص: 428

يقتل ويهرب من يهرب، ثم رجف ثم قذف، ثم خسف ثم مسخ ، ثم الجوع الأغبر، ثم الموت الأحمر، وهو الغرق.

من

إعداد عائشة لحرب علي

يا منذر إن للبصرة ثلاثة أسماء سوى البصرة في الزبر الأول ، لا يعلمها إلّا حركة عائشة إلى البصرة

الله

العلماء منها الخريبة، ومنها تدمر، ومنها المؤتفكة. يا منذر، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو أشاء لأخبرتكم بخراب العرصات وصول عائشة إلى البصرة عرصة عرصة، ومتى تخرب ومتى تعمر بعد خرابها إلى يوم القيامة، وإنّ عندي حركة الإمام إلى البصرة

ذلك علما جما، وإن تسألوني تجدوني به عالماً لا أخطئ منه علماً ولا وافياً، كذا) وصولهم إلى البصرة

وهو تصحيف) ولقد استودعت علم القرون الأولى وما كائن إلى يوم القيامة. قال فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني من أهل الجماعة، ومن أهل هزيمة جيش عائش---ة الفرقة، ومن أهل السنة، ومن أهل البدعة؟ فقال: ويحك إذا سألتني فافهم عنّى إسكان عائشة وإرجاعها ولا عليك أن لا تسأل أحدا بعدي أما أهل الجماعة فأنا ومن اتبعني وإن قلوا، وذلك الحق عن أمر الله وأمر رسوله، وأما أهل الفرقة فالمخالفون لي ولمن اتبعني من أخبار عائشة وجملها وإن كثروا، وأما أهل السنة فالمتمسكون بما سنه الله ورسوله الا العاملون الإمام في البصرة برأيهم وأهوائهم وإن كثروا ، وقد مضى الفوج الأول وبقيت أفواج، وعلى الله قصمها واستيصالها عن جديد الأرض. وبالله التوفيق.

ملاحظة

مشاهد من حرب الجمل

شهداء مع الإمام الله

روى بعض هذه الخطبة في الإحتجاج (250/1) عن ابن عباس. وهي كالخطبة من خطب علي المالية

السابقة مرسلة لا سند لها، فلا يمكن الأخذ بها، ما عدا القسم الأول إلى قوله الله : الكذب في حرب الجمل

كأنه جؤجؤ طير في لجة ،بحر، فقد استفاضت روايته، ويؤيده كلامه الله الذي

له

يذكر فيه ثورة الزنج. ويؤيده خطبة شرح نهج البلاغة للصالح / 148، من شعر حرب الجمل وفيها : ( فتن كقطع الليل المظلم، لا تقوم لها قائمة، ولا ترد لها راية، تأتيكم مزمومة الإمام ، واصل الفتوحات مرحولة يحفزها قائدها ويجهدها راكبها أهلها قوم شديد كلبهم قليل سلبهم، الإمام ينقل العاصمة

يجاهدهم في سبيل الله قوم أذلة عند المتكبرين في الأرض مجهولون وفي السماء

429

ص: 429

معروفون فويل لك يا بصرة عند ذلك، من جيش من نقم الله لا رهج له ولا حس، وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر، والجوع الأغبر).

قال الشريف الرضي: يومئ بذلك إلى صاحب الزنج، ثم قال له : ويل لسكككم العامرة، والدور المزخرفة، التي لها أجنحة كأجنحة النسور، وخراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الذين لا يندب قتيلهم، ولا يفقد غائبهم . وكان قائد الزنج القرمطي ادعى أنه علوي، وانطبقت عليها الأوصاف التي رويت عن أمير المؤمنين الله . وكانت ثورتهم ردة فعل على الظلم والترف واضطهاد العبيد، لكنهم أسرفوا في القتل وقتلوا خيار الناس ، وعامتهم زنوج حفاة لاخيل لهم، بينما المغول: يركبون الخيل العتاق!

لكن يشكل فيها أنه مدح من يقاتلهم ويقتلونه ، ولم يقاتلهم إلا جيش السلطة. ويشكل فيها أنها ذكرت الأعور الدجال، وهو وصف عامي للدجال، ولم يصف أهل البيت ع الدجال بأنه أعور ولا بأنه مسيح.

روايات خراب البصرة وائتفاكها

1 . ورد في كلمات أمير المؤمنين الله قوله : ( كأني بمسجدكم كجؤجؤ سفينة، وقد

بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها، وغرق من في ضمنها).

وقد وقع ذلك في القرن الثالث، قال في شرح النهج (253/1): (والصحيح أن المخبر به قد وقع، فإن البصرة غرقت مرتين مرة في أيام القادر بالله ومرة في أيام القائم بأمر الله غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلا مسجدها الجامع بارزاً بعضه كجؤجؤ الطائر، حسب ما أخبر به أمير المؤمنين الله ، جاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس، ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام وخربت دورها، وغرق كل ما في ضمنها، وهلك كثير من أهلها. وأخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة، يتناقلها خلفهم عن سلفهم).

2. وذكرت روایتان خرابها بالخسف ودماء تسفك فيها، وذكرت خسفاً في منارتها

430

ص: 430

الإرشاد / 361 ، وإثبات الهداة (3/ 733 ، و 742) وذكرت رواية أنها من المؤتفكات

وأنها ائتفكت مرتين أو ثلاثاً وبقيت واحدة، واستشهدت عليه بقوله تعالى: وَإن إعداد عائشة لحرب علي مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً. (البح--ار :224/60) حركة عائشة إلى البصرة

وقد روت ائتفاكها المصادر السنية، كالأربعين البلدانية لابن عساكر (436/1) وفي

(5/219) : (ائتفكت بأهلها ثلاثاً، وعلى الله الرابعة).

وصول عائشة إلى البصرة

وفي معجم البلدان (436/1) : (لما قدم أمير المؤمنين البصرة بعد وقعة الجمل ارتقى حركة الإمام إلى البصرة

منبرها فحمد الله وأثنى عليه ثم قال... يا أهل المؤتفكة ائتفكت بأهلها ثلاثاً وعلى الله

وصوله إلى البصرة الرابعة) وفي شرح مسلم للنووي (153/1) : (ائتفكت بأهلها في أول الدهر). وفي تفسير

من أخبار عائشة وجملها

القمي (2 339) : (ائتفكت بأهلها مرتين و على الله تمام الثالثة وتمام الثالثة في الرجعة). هزيمة جيش عائشة أقول: لو صحت هذه المراسيل فهي تدل على أن البصرة ائتفكت في الماضي مرتين إسكان عائشة وإرجاعها

أو أكثر، وبقيت مرة، لكن لم يرد وقتها في أي منها إلا ما ذكرته رواية القمي أنه في الرجعة، والرجعة قد تكون بعد دولة الإمام المهدي الله بقرون طويلة. ويؤيده الإستشهاد بقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ .. وهذا الإمام في البصرة

عام يكون في الرجعة، ولا يختص بالبصرة. كما أن رواية الكافي (179/8) عن الإمام الصادق له ذكرت أن ائتفاك البصرة بانهزام أهلها في حرب الجمل، فيكون ائتفاكاً معنوياً، وائتفاك غيرها مادياً . شهداء مع الإمام الله

اعلية

مشاهد من حرب الجمل

من خطب علي السلام

أعلن في البصرة أن أفضل الخلق محمد وعترته عام في الكافي (450/1) : ( عن أصبغ بن نباتة الحنظلي قال: رأيت أمير المؤمنين الله يوم الكذب في حرب الجمل

افتتح البصرة وركب بغلة رسول الله الله ثم قال : أيها الناس ألا أخبركم بخير من شعر حرب الجمل

الخلق يوم يجمعهم الله، فقام إليه أبو أيوب الأنصاري فقال: بلى يا أمير المؤمنين حدثنا فإنك كنت تشهد ونغيب فقال : إن خير الخلق يوم يجمعهم الله سبعة من الإمام واصل الفتوحات ولد عبد المطلب لا ينكر فضلهم إلا كافر ، ولا يجحد به إلا جاحد، فقام عمار بن

ياسر فقال : يا أمير المؤمنين سمهم لنا لنعرفهم، فقال: إن خير الخلق يوم

الإمام ينقل العاصمة

431

ص: 431

يجمعهم الله الرسل وأفضل الرسل محمد ، وإن أفضل كل أمة بعد نبيها وصي نبيها حتى يدركه نبي، ألا وإن أفضل الأوصياء وصي محمد، ألا وإن أفضل الخلق بعد الأوصياء الشهداء، ألا وإن أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب له جناحان خضيبان يطير بهما في الجنة، لم ينحل أحد من هذه الأمة جناحان غيره، شئ أكرم الله به محمداً وشرفه. والسبطان الحسن والحسين والمهدي يجعله الله من شاء منا أهل البيت ثم تلا هذه الآية : وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُول فَأُولَئِك مع الذين أنعم الله عليهم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً). :أقول حرص أمير المؤمنين الله من أول خلافته الى آخرها على بيان مكانة العترة عالم

م الله الله

عند الله تعالى ورسوله وفضلهم على غيرهم، وعلى كشف مؤامرة قريش عليهم

صل

وأنهم غصبوا خلافة رسول الله له التي جعلها الله لهم.

وكذا حرص على بيان وصية النبي له بأن يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل على

تنزيله، وكان أول قتاله على التأويل حرب الجمل، وهي كحربهم للنبي في بدر.

432

الفصل الرابع والستون

ص: 432

سبب كثرة الكذب والتحريف في حرب الجمل

لماذا احتاجوا الى الكذب والتحريف ؟

إذا كان لك صديقان وتقاتلا وقتل أحدهما الآخر وأنت تحبهما، وتريد أن تبرأهما فماذا تقول؟ أما إذا كنت صاحب عقل ودين تقول : فلان أخطأ وقتل فلاناً، فلان قاتل ظالم، وفلان مقتول مظلوم، أو كلاهما قاتلان ظالمان.

لكن السلطة القرشية تحب عائشة وطلحة والزبير ولا تريد أن تحملها مسؤولية الحرب والدماء، ولا تستطيع أن تحمل علياً مسؤوليتها، لأنه خليفة شرعي صحت بيعته، فالحل أن تقول إنهم جميعاً صالحون، ولم يقصد أحد منهم القتال بل انجروا اليه فكلهم من أهل الجنة، ولا يتحمل أحد منهم مسؤولية دماء ثلاثين ألف مسلم ! ولأجل تبرئتهم ارتكب رواتهم وعلماؤهم أنواعاً من الكذب والتحريف واللامعقول! في

أصل حرب الجمل، وفي هدفها، ومدتها، وأحداثها، ونتائجها! فمرة قالوا: لم يكن من قصدهم القتال، وقد أنشب المعركة صبيان وأوباش، فانجر الصحابة

اليها وتقاتلوا، وقتل من ألوف مؤلفة، والقاتل والمقتول في الجنة! ومرة قالوا نجا القادة وهلك الأتباع، لأن القادة صحابة مشهود لهم بالجنة، ولأنهم تابوا،

وأتباعهم في جهنم، وإن قاتلوا بأمرهم، لأنهم ليسوا صحابة ولم يتوبوا!

ومرة قالوا المسؤولية على عاتق طرف ثالث هم مجموعة قتلة عثمان ويسمون السبئية باسم رئيسهم عبد الله بن سبأ، فقد كانوا يحركون الطرفين على بعضهما، ويخربون مساعي الصلح

ص: 433

ويشعلون المعركة فصوروا الصحابة سذجاً أغبياء، يتلاعب بهم جماعة صغيرة مخفية، وتجرهم الى معركة يشارك فيها عشرات الألوف ويقتل ثلثهم!

ومرة قالوا : بل أخطأت عائشة وطلحة والزبير وعلي أيضاً، لكنهم تابوا، وقال علي

لعائشة : غفر الله لك، فقالت له عائشة : وغفر الله لك وانتهى الأمر !

ألا ما أجرأهم على تزوير الحقائق وتزييف الأمور ! فكيف نصدق أن جماعة من كبار الصحابة اختلفوا وتعادوا ، وحضّروا الحرب بعضهم شهوراً، وجمعوا الجنود والأتباع وجرت بينهم مفاوضات برسل ورسائل، ثم التقى جيشاهم عن علم وعمد وسبق إصرار، واستمرت المعركة بينهم سبعة أيام، أزهقت فيها النفوس، وسقطت فيها الرؤوس، وقطعت الأيدي والأرجل، وأنشد فيها المتقاتلون الرجز والأشعار.. فكيف نصدق أنهم لم يقصدوا القتال، ولا كان من نيتهم الغلبة والحكم والسلطان ! فهل ذهبوا الى البصرة للنزهة وأكل السمك المسقوف !

كذبة أن المعركة وقعت بلا قصد ولا تخطيط !

قال الإمام إسحاق بن راهويه في مسنده (33/2): (فخرجوا على وجوههم قاصدين البصرة للطل-ب بدمه من غير أمر علي، وذلك أن قتلة عثمان التفوا على علي وصاروا من رؤوس الملأ، وخاف هو من أن ينتقض الناس، فسار بعسكر المدينة وبرؤوس قتلة

عثمان إلى العراق، فجرت بينه وبين عائشة وقعة الجمل بلا علم ولا قصد والتحم القتال من الغوغاء، وخرج الأمر عن علي وعن طلحة والزبير، وقتل من الفريقين نحو من عشرين ألفاً!

لا ريب أن عائشة ندمت ندامة كلية على مسيرها إلى البصرة، وحضورها يوم الجمل،

وما ظنت أن الأمر يبلغ ما بلغ، وتابت من ذلك. على أنها ما فعلت ذلك إلا متأولة قاصدة للخير ، كما اجتهد طلحة بن عبيد الله

والزبير بن العوام وجماعة من الكبار، رضي الله عن الجميع.

وكانت رضي الله عنها إذا قرأت الآية : وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ. بكت حتى تبل دموعها خمارها . وجاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إذا مر ابن عمر فأرونيه، فلما مر بها

434

ص: 434

قيل لها هذا ابن عمر فقالت : يا أبا عبد الرحمن ما منعك أن تنهاني عن مسيري؟

قال: رأيت رجلاً قد غلب علي-ك، يعني ابن الزبير. فكل هذه الروايات تدل إعداد عائشة لحرب علي على ندامة عائشة رضي الله عنها ندامة كاملة ، وحتى اعتبرت مسيرها حدثاً في حركة عائشة إلى البصرة حياتها، وكانت من نيتها أولاً أن تدفن في بيتها، ثم انصرفت عن ذلك فقالت:

إني ،أحدثت، فأوصت أن تدفن في البقيع)!

أنقذوا التاريخ من كذب المحدثين !

وصول عائشة إلى البصرة

حركة الإمام له إلى البصرة

قال الباحث حسن بن فرحان المالكي في كتابه: نحو إنقاذ وصولهم إلى البصرة

التاريخ الإسلامي /17:

هزيمة جيش عائشة

(يا أصحاب الحديث: أنقذوا التاريخ الإسلامي الاتنقذوه من تلفيقات المستشرقين وأذنابهم من المستغربين، بل من بعض المؤرخين الإسلاميين الذين إسكان عائشة وإرجاعها دخلوا ميدان التحقيق

من أخبار عائشة وجملها

يا علماء الحديث : لقد سئمنا من الردود على المؤرخين المستغربين، فقد نشأ في زمننا الحاضر كثير من المؤرخين الإسلاميين الذين يريدون تنقية تاريخنا الإمام في البصرة الإسلامي من الشوائب فأتوا بالعجائب، وطمسوا الحقائق، وأدخلوا أنفسهم مشاهد من حرب الجمل في علم الحديث تصحيحاً وتضعيفاً! وضعفوا الثقات ووثقوا الهالكين، وفتحوا بذلك شرخاً عميقاً في منهج أهل الحديث).

فالباحث يستغيث لإنقاذ التاريخ من كذب المحدثين قبل المؤرخين ! واليك مثالاً :

الله الله صا عليه

قال العلامة الحلي في منهاج الكرامة / 76 : ( وقال لها النبي له : إنك تقاتلين

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

علياً وأنت ظالمة. ثم إنها خالفت أمر الله تعالى في قوله: وَقَرْنَ في بُيُوتكن، وخرجت في ملأ من الناس تقاتل علياً لله على غير ذنب، لأن المسلمين أجمعوا على قتل من ش-ع-ر ح--رب الجمل عثمان، وكانت هي كل وقت تأمر بقتله وتقول: أقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً ! الإمام يواصل الفتوحات

فلما بلغها قتله فرحت بذلك، ثم سألت من تولى الخلافة؟ فقالوا: علي،

فخرجت لقتاله على دم عثمان)!

الإمام ينقل العاصمة

435

ص: 435

عنهم

فأجابه ابن تيمية بقوله منهاج السنة / 316): (وأما الحديث الذي رواه وهو قوله لها: تقاتلين علياً وأنت ظالمة له، فهذا لا يعرف في شئ من كتب العلم المعتمدة، ولا له إسناد معروف، وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه بالأحاديث الصحيحة بل هو كذب قطعاً فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال، وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين، وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها ! وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال فندم طلحة والزبير وعلي رضي الله أجمعين، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في الإقتتال، ولكن وقع الإقتتال بغير اختیار هم فإنه لما تراسل علي وطلحة والزبير وقصدوا الإتفاق على المصلحة، وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة، وكان علي غير راض بقتل عثمان ولا معيناً عليه، كما كان يحلف فيقول : والله ما قتلت عثمان ولامالات على قتله، وهو الصادق البار في يمينه فخشي القتلة أن يتفق علي معهم على إمساك القتلة، فحملوا على عسكر طلحة والزبير، فظن طلحة والزبير أن علياً حمل عليهم، فحملوا دفعاً عن أنفسهم، فظن علي أنهم حملوا عليه فحمل دفعاً عن نفسه، فوقعت الفتنة بغير اختيارهم، و رضي الله عنه-ا راكبة لا قاتلت ولا أمرت بالقتال ! هكذا ذكره غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار!

وعائشة

وأما قوله: وخالفت أمر الله في قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّحَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى . فهي رضي الله عنها لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى. والأمر بالإستقرار في البيوت لاينافي الخروج لمصلحة مأمور بها، كما لو خرجت للحج والعمرة، أو خرجت مع زوجها في سفرة، فإن هذه الآية قد نزلت في حياة النبي وقد سافر بهن بعد ذلك، كما سافر في حجة الوداع بعائشة ،وغيرها، وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه وأعمرها من التنعيم، وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي الله بأقل من ثلاثة أشهر بعد نزول هذه الآية، ولهذا كان أزواج النبي يحججن كما كن يحججن معه. وإذا كان سفر هن لمصلحة جائزاً ، فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين، فتأولت في ذلك.

ص: 436

هكذا بكل بساطة يرفع مسؤولية الخروج على الخليفة المبايع، ويكذب حديث:

وأنت له ظالمة. ولئن قلت له: إذا لم يصح الحديث عندك بهذا اللفظ، ألم يصح إعداد عائشة لحرب علي حديث كلاب الحوأب وهو بمعناه، وحديث حربه حربي وهو بمعناه؟ فيجيبك أنا حركة عائشة إلى البصرة قصدي حديث وأنت له ظالمة، فلماذا كذبوا على عائشة، فهي غير ظالمة!

إن الباحث ابن فرحان يتأسف لأن كبار علماء السلطة سلكوا هذا الطريق غير وصول عائشة إلى البصرة المعقول ! قال ابن حجر (فتح الباري: 48/13) قال : ( عن كليب الجرمي قال فسرت حركة الإمام شة إلى البصرة أنا ورجلان من قومي إلى علي فسلمنا عليه وسألناه، فقال: عدا الناس على هذا وصوله إلى البصرة

الرجل فقتلوه وأنا معتزل عنهم، ثم ولوني ولولا الخشية على الدين لم أجبهم. ثم استأذنني الزبير وطلحة في العمرة فأخذت عليهما العهود وأذنت لهما، هزيمة جيش عائشة فعرضا أم المؤمنين لما لا يصلح لها، فبلغني أمرهم فخشيت أن ينفتق في الإسلام إسكان عائشة وإرجاعها فتق فأتبعتهم، فقال أصحابه والله ما نريد قتالهم إلا أن يقاتلوا، وما خرجنا إلا للإصلاح فذكر القصة، وفيها : إن أول ما وقعت الحرب أن صبيان العسكرين من أخبار عائشة وجملها تسابوا ثم تراموا، ثم تبعهم العبيد ثم السفهاء فنشبت الحرب، وكانوا خندقوا الإمامه في البصرة على البصرة فقتل قوم وجرح آخرون، وغلب أصحاب علي ونادى مناديه: لا تتبعوا مدبراً، ولا تجهزوا جريحاً، ولاتدخلوا دار أحد).

00

وقال ابن حجر (46/13): (وأخرج أيضاً (ابن أبي شيبة) بسند صحيح عن زید بن وهب قال: فكف علي يده حتى بدؤوه بالقتال، فقاتلهم بعد الظهر، فما غربت الشمس وحول الجمل أحد).

مشاهد من حرب الجمل

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

وقال ابن حجر (48/13) : (أخرج أحمد والبزار بسند حسن من حديث أبي رافع من ش--ع--ر ح-رب الجمل أن رسول الله قال لعلي بن أبي طالب : إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر ! قال: فأنا الإمام واصل الفتوحات أشقاهم يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها). الإمام ينقل العاصمة والرواية الموجودة في مصنف ابن أبي شيبة (545/7، و:720/8): «فكفَّ على يده

عن طلحة والزبير وأصحابهما، ودعاهم حتى بدأوه، فقاتلهم بعد صلاة الظهر،

437

ص: 437

فما غربت الشمس وحول الجمل عين تطرف ممن كان يذب عنه، فقال علي: لا تتموا جريحاً ولا تقتلوا مدبراً، ومن أغلق بابه وألقى سلاحه فهو آمن. فلم يكن قتالهم إلا تلك العشية وحدها أفجاءوا بالغد يكلمون علياً في الغنيمة فقال: أما إن الله يقول : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَالرَّسُولِ . أيكم لعائشة؟ فقالوا: سبحان الله أ ِللَّهِ أ

أمنا ! فقال أحرام هي ؟ قالوا : نعم قال علي : فإنه يحرم من بناتها ما يحرم منها. وقال علي الطلحة والزبير : ألم تبايعاني ؟ فقالا: نطلب دم عثمان فقال علي : ليس عندي دم عثمان !

كما روى ابن أبي شيبة (718/8) أن علياً كان يأمل أن يتقابل مع طلحة والزبير في الجنة كما تقابلوا في معركة الجمل ! قال علي: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله : وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلِ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ).

ملاحظات

حتى

1 . إنهم بحاجة الى إنكار الثوابت لتبرئة عائشة وأصحابها، واختراع أشياء كقولهم

إن القتال كان بفعل صبيان وسفهاء لمدة قصيرة، وإن عائشة كانت تبكي ندماً تبل خمارها، وكان الباقون بمن فيهم علي الله يبكون ندماً حتى يبلوا لحاهم !

2 . من بغضهم لعلي الله قالوا إن الخارجين عليه مجتهدون مأجورون، ولو بايعوه، أن نسميهم بغاة! لكن لو كانوا خرجوا على أبي بكر أو عمر وعثمان، لكانوا

فلا يصح

خوارج بغاة تحل دماؤهم!

3.

من أجل تبرئة الباغين على علي الله أنكروا الأحاديث الصحيحة المتواترة، وأنكروا أن هدف طلحة والزبير الخلافة، وأنهما وعائشة قصدوا قتال علي الله وقتله إن استطاعوا وقد صرحت عائشة وصرحوا بذلك ! فزعموا أنهم لم يذهبوا للقتال ولا قصدوه وأنكروا حديث الحوأب الذي نبحت كلابه عائشة، وهو عندهم حديث

جداً جداً بتعبير الألباني ! وصغر وا معركة الجمل وقد دامت سبعة أيام، وقتل فيها عشرون ألف مسلم،

صحيح

ص: 438

فجعلوها معركة صغيرة لساعات، أثارها سبئية دسهم عبدالله بن سبأ !

إعداد عائشة لحرب علي

4. اعترفوا بحديث: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم عاد من عاداه وحديث: أنا سلم لمن سالمهم وحرب لمن حاربهم، لكنهم أنكروا أن عائشة حركة عائشة إلى البصرة عادت علياً وظلمته، فقد كانت قادة الحرب عليه ولم تعاده وكانت مسالمة له ! وصول عائشة إلى البصرة

وقد شهد منطق الأمور بتزويرهم، وشهد به بعض علماء السنة مثل ابن عبد ربه،

حركة الإمام إلى البصرة

حيث قال في العقد الفريد/79 : دخلت أم أو فى العبادية على عائشة بعد وقعة الجمل فقالت لها : يا أم المؤمنين ما تقولين في امرأة قتلت ابنا لها صغيراً؟ قالت وصوله له إلى البصرة وجبت لها النار ! قالت : فما تقولين في امرأة قتلت من أولادها الأكابر عشرين ألفاً في صعيد واحد ؟ قالت: خذوا بيد عدوة الله !

هزيمة جيش عائشة

وماتت عائشة في أيام معاوية وقد قاربت السبعين. وقيل لها تدفنين مع إسكان عائشة وإرجاعها رسول الله؟ قالت: لا، إني أحدثت بعده حدثاً فادفنوني مع أخواتي بالبقيع. وقد من أخبار عائشة وجملها كان النبي قال لها: ياحميراء كأني بك تنبحك كلاب الحوأب، تقاتلين علياً وأنت الإمام في البصرة له ظالمة ! وعيون الأخبار / 86 ، والعقد الفريد: 109/2 ، وربيع الأبرار : 1 / 105.

تفنيد كذبة الطرف الثالث في حرب الجمل !

مشاهد من حرب الجمل

شهداء مع الإمام الله

:قالوا أنشب الحرب الصبيان والعبيد والأوباش !

من

خطب علي

قال المفيد في كتاب الجمل / 198 : ( عن معاذ بن عبدالله التميمي قال : لما قدمنا البصرة مع عائشة، وأقمنا ما أقمنا ندعو الناس إلى نصرتنا والقيام معنا، فالقابل لما الكذب في حرب الجمل ندعو إليه والآبي له، ونحن على ما نحن عليه نقول لانقاتل علي بن أبي طالب أبداً، من شعر حرب الجمل إلى أن قيل قد نزل علي، فما أدري حتى نشبت الحرب، نشبها الصبيان وأوقدها العبيد وإذا الجمل رحل والناس يهوون إلى القتال، وإذا عسكر علي قد تحرك فبادر الإمام واصل الفتوحات أصحابنافرمواوجلبواوصيحوا وأكثروا، فسمعت عائشة تقول: هذا أول الفشل.

الإمام ينقل العاصمة

439

ص: 439

وقالوا إن الطرف الثالث خَرَّبَ مبادرات الصلح !

قال النويري في نهاية الأرب (20/ 67) ملخصاً: (وكان بعضهم يخرج إلى بعض لا يذكرون إلَّا الصلح، فخرج علي وطلحة والزبير فتواقفوا، فلم يروا أمراً أمثل من الصلح ووضع الحرب فافترقوا على ذلك. وبعث علي من العشي عبدالله بن عباس إلى طلحة والزبير، وبعثا إليه محمد بن طلحة، وأرسل علي وطلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهم بأمر الصلح، فباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية التي أشرفوا عليها والصلح، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة، وباتوا يتشاورون فاجتمعوا على إنش-اب الحرب، فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم أحد فخرجوا متسللين فقصد مضرهم إلى مضرهم، وربيعتهم إلى ربيعتهم ويمنهم إلى يمنهم ، فوضعوا فيهم السلاح، فثار أهل البصرة، وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين أتوهم ! فقالت عائشة لكعب بن سور وهو آخذ بخطام الجمل خل عن الجمل وتقدم بالمصحف فادعهم إليه. وناولته مصحفاً من هودجها فاستقبل القوم بالمصحف، والسبئية أمامهم يخافون أن يجري الصلح، فرشقوه رشقاً واحداً فقتلوه، ورموا أم المؤمنين في هودجها، فجعلت تنادي: البقية البقية يا بني ! ويعلو صوتها الله الله ! أذكروا الله والحساب، فيأبون إلَّا إقداماً فكان أول شئ أحدثته حين أبوا أن قالت: أيها الناس إلعنوا قتلة عثمان وأشياعهم! وأقبلت تدعو فضجّ الناس بالدعاء ، فسمع علي فقال: ما هذه الضجة؟ قالوا: عائشة تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم . فقال : اللهم العن قتلة عثمان ! وأرسلت إلى عبد الرحمن بن عتاب وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام: أن اثبتا مكانكما. وحرضت الناس حين رأت القوم يريدونها ولا يكفون)!

وقالوا الطرف الثالث عبد الله بن سبأ وجماعته !

استفاضت الرواية بوجود عبد الله بن سبأ وأنه قال بألوهية أمير المؤمنين الله ، وزعم أنه نبي أرسله أمير المؤمنين الله ! ومنها عدة روايات صحيحة كالتي في رجال الكشي (323/1) : ( حدثني محمد بن قولويه القمي، قال: حدثني سعد بن عبدالله بن أبي خلف

ص: 440

القمي قال: حدثني محمد ابن عثمان العبدي، عن يونس بن عبد الرحمن عر عبدالله بن سنان قال: حدثني أبي، عن أبي جعفر الله أن عبد الله بن سبأ كان إعداد عائشة لحرب علي يدعي النبوة، ويزعم أن أمير المؤمنين الله هو الله تعالى عن ذلك. فبلغ ذلك حركة عائشة إلى البصرة أمير المؤمنين الله فدعاه وسأله فأقر بذلك وقال : نعم أنت هو، وقد كان ألقي

وصول عائشة إلى البصرة

في روعي أنك أنت الله وأني نبي ! فقال له أمير المؤمنين الله : ويلك قد سخر منك الشيطان، فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتب، فأبى، فحبسه أياماً فلم يتب، حركة الإمام به إلى البصرة فأحرقه بالنار وقال إن الشيطان استهواه، فكان يأتيه ويلقيفي روعه ذلك ! وصوله إلى البصرة

حدثني محمد بن قولويه قال: حدثني سعد بن عبدالله قال: حدثنا يعقوب بن يزيد و محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، قال: سمعت أبا هزيمة جيش عائشة عبد الله الله يقول : وهو يحدث أصحابه بحديث عبدالله بن سبأ، وما ادعى من إسكان عائشة وإرجاعها الربوبية في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الله فقال : إنه لما ادعى ذلك فيه استتابه أمير المؤمنين الله فأبي أن يتوب فأحرقه بالنار. عن أبان بن عثمان ، قال سمعت أبا عبد الله الله يقول: لعن الله عبدالله بن سبأ، الإمام في البصرة

إنه ادعى الربوبية في أمير المؤمنين الله وكان والله أمير المؤمنين الله عبداً الله طائعاً، مشاهد من حرب الجمل

الويل لمن كذب علينا. وإن قوماً يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، نبرأ إلى الله

منهم، نبرأ إلى الله منهم.

من أخبار عائشة وجملها

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

عن أبي حمزة الثمالي قال : قال علي بن الحسين علي : لعن الله من كذب علينا، إني ذكرت عبد الله بن سبأ، فقامت كل شعرة في جسدي لقد ادعى أمراً عظيماً، ماله لعنه الله ، كان علي الله والله عبداً الله صالحاً ، أخو رسول الله ، ما الكذب في حرب الجمل

نال الكرامة من الله إلا بطاعته الله ولرسوله، وما نال رسول الله صل الكرامة من شعر حرب الجمل من الله إلا بطاعته الله. وبهذا الاسناد عن محمد بن خالد الطيالسي عن ابن أبي نجران عن عبدالله ، قال، قال أبو عبد الله الله : إنا أهل بيت صديقون، الإمام واصل الفتوحات لانخلو من كذاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس كان الإمام ينقل العاصمة رسول الله أصدق الناس لهجة وأصدق البرية، وكان مسيلمة

اله

441

ص: 441

يكذب عليه. وكان أمير المؤمنين الله أصدق من برأ الله بعد رسول الله .

وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه، ويفتري على الله الكذب: عبدالله بن سبأ .

ملاحظات

تدل الروايات المتقدمة دلالة قاطعة على وجود جماعة ألَّوا أمير المؤمنين السلام والسبب أنهم رأوا بعض معجزاته الله فضاقت عقولهم عن تفسيرها، فزعموا أنه إله! وكان أول ظهورهم الزط في البصرة، والزط جنسية من الهنود، فهم من بيئة تؤله الإنسان والحيوان والشجر والحجر وجاؤوا الى الإمام الله فكلمهم بلغتهم فقالوا : أنت هو، أي الله ! فردهم الإمام الله وأوضح لهم واستتابهم، فرجع بعضهم وأصر البعض ، فهددهم بالقتل وحفر لهم حفيرة ودخن عليهم فرجع بعضهم وأصر البعض، فقتلهم، وربما أحرق جثثهم.

ثم ظهر بعد الزط عبدالله بن سبأ، فوجد خصوم الشيعة فيه بغيتهم، فقالوا إنه اخترع حديث الوصية لعلي الله ، وإنه تحرك في زمن عثمان وحرك الأمصار عليه حتى قتلوه، ثم حرك الطرفين على بعضهما في خلافة علي الله وأنشب حرب الجمل ! فجعلوه أسطورة يلعب بقادة المسلمين وشخصياتهم وبلادهم، ويديرهم جميعاً لتحقيق أهدافه اليهودية !

وقد رأى الدكتور طه حسين أن أدوار ابن سبأ التي زعموها غير معقولة، فقال إنه أسطورة لا وجود له، وإن خصوم الشيعة اخترعوه ليجعلوه طرفاً ثالثاً ويحملوه مسؤولية الفتنة بين المسلمين في قتل عثمان وحرب الجمل ! واستدل بأدلة قوية، منها غياب ابن سبأ عن صفين والخوارج، مع أنه كان موجوداً ! قال: «ويذهب بعض الى أنه أحكم كيده إحكاماً، فنظم في الأمصار جماعات خفية تتستر بالكيد وتتداعى فيما بينها الى الفتنة، حتى إذا تهيأت لها الأمور، وثبت على ،الخليفة، فكان ما كان من الخروج والحصار وقتل الإمام.

6

442

ص: 442

ويخيل الي أن الذين يكبرون من أمر ابن سبأ الى هذا الحد، يسرفون على

أنفسهم وعلى التأريخ إسرافاً شديداً. وأول ما نلاحظ أنا لا نجد لا بن سبأ ذكراً إعداد عائشة لحرب علي في المصادر المهمة التي قصت أمر الخلاف على عثمان، فلم يذكره ابن سعد حين حركة عائشة إلى البصرة قص ما كان من خلافة عثمان وانتقاض الناس عليه، ولم يذكره البلاذري في أنساب الأشراف، وهو فيما أرى أهم المصادر لهذه القصة وأكثرها تفصيلاً وصول عائشة إلى البصرة وذكره الطبري عن سيف بن عمر، وعنه أخذ المؤرخون الذين جاءوا بعده فيما حركة الإمام إلى البصرة

الله

يظهر . ولست أدري أكان لا بن سبأ خطر أيام عثمان أم لم يكن ، ولكني أقطع بأن وصوله إلى البصرة

خطره إن كان له خطر ليس ذا شأن. وما كان المسلمون في عصر عثمان ليعبث بعقولهم وآرائهم وسلطانهم طارئ من أهل الكتاب أسلم أيام عثمان، ولم يكد هزيمة جيش عائش---ة يسلم حتى انتدب لنشر الفتنة وإذاعة الكيد في جميع الأقطار.

إسكان عائشة وإرجاعها

ولو قد أخذ عبدالله بن عامر أو معاوية هذا الطارئ الذي كان يهودياً فلم يُسْلِم إلا كائداً للمسلمين، لكتب أحدهما أو كلاهما فيه الى عثمان، ولبطش به من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة

مشاهد من حرب الجمل

من

خطب علي

أحدهما أو كلاهما. وأضاف طه حسين أن ابن سبأ عند البلاذري ليس ابن السوداء كما ذكروه، بل عبد الله بن وهب الهمداني، ولم يصف ابن سبأ بأنه ابن السوداء، بل ذكره مرة في أمر صغير. وقال : وأقل ما يدل عليه إعراض المؤرخين عن السبئية شهداء مع الإمام الي وعن ابن السوداء في حرب صفين، أن أمر السبئية وصاحبهم ابن السوداء إنما كان متكلفاً منحولاً، وقد اخترع بأخرة حين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية، أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول الكذب في حرب الجمل هذا المذهب عنصراً يهودياً، إمعاناً في الكيد لهم والنيل منهم ، ولوقد كان من شعر حرب الجمل أمر ابن السوداء مستنداً إلى أساس من الحق والتاريخ الصحيح، لكان من الإمام واصل الفتوحات

الطبيعي أن يظهر أثره وكيده في هذه الحرب المعقدة المعضلة التي كانت بصفين، ولكان من الطبيعي أن يظهر أثره حين اختلف أصحاب علي في أمر الإمام ينقل العاصمة الحكومة، ولكان من الطبيعي بنوع خاص أن يظهر أثره في تكوين هذا الحزب

443

ص: 443

الجديد الذي كان يكره الصلح وينفر منه ويكفر من مال إليه، أو شارك فيه. ولكنا لا نرى لا بن السوداء ذكراً في أمر الخوارج، فكيف يمكن تعليل هذا الإهمال ؟ أو كيف يمكن أن نعلل غياب ابن سبأ عن وقعة صفين، وعن نشأة حزب المحكمة؟ أما أنا فلا أعلل الأمرين إلا بعلة واحدة وهي أن ابن السوداء لم يكن إلا وهماً، وإن وجد بالفعل فلم يكن ذا خطر كالذي صوره المؤرخون وصوروا نشاطه أيام عثمان، وفي العام الأول من خلافة علي ! وإنما هو شخص ادخره خصوم الشيعة للشيعة وحدهم، ولم يدخروه للخوارج

وقال الدكتور طه حسين في موضع آخر : ( وأكبر الظن كذلك أن خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا ليشككوا في بعض ما نسب من الأحداث الى عثمان وولاته من ناحية، وليشنعوا على علي وشيعته من ناحية أخرى، فيردوا بعض أمور الشيعة الى يهودي أسلم كيداً للمسلمين. وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة فلنقف من هذا كله موقف التحفظ والتحرج والإحتياط، ولنكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهودياً وكانت أمه سوداء، وكان هو يهودياً ثم أسلم لا رغباً ولا رهباً ولكن مكراً وكيداً وخداعاً، ثم أتيح له من النجاح ما كان يبتغي، فحرض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه ، وفرقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعاً وأحزاباً. هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها أمور

التأريخ») ! (الفتنة الكبرى - طبعة دار المعارف المصرية/134990).

وجاء الباحث العلامة السيد مرتضى العسكري فبنى على نظرية الدكتور طه حسين وجمع لها مؤيدات، وألف كتابه : أسطورة عبد الله بن سبأ في مجلدين، ثم كتابه مئة وخمسون صحابي مختلق . لكن دراسته قابلة للمناقشة ، لأنها تضمنت أحكاماً عديدة فيها حدة وتعميم على مصادر الرجال والتاريخ، ولأنه نفى وجود ابن سبأ وغيره بأدلة غير كافية. مضافاً الى كثرة استطراده الى مسائل خارجة عن الموضوع بشكل يضيع المطلب. والحق أن دراسته موفقة في نقد الأدوار الأسطورية المنسوبة الى ابن سبأ، لكنها غير

444

ص: 444

مقنعة في نفي وجوده، ونفي وجود غيره من الصحابة ! فوجود ابن سبأ متسالم عليه عند علمائنا القدامى والمتأخرين ، وقد أوردوا ترجمته في كتبهم وأحاديث إعداد عائشة لحرب علي ذمه ولعن الأئمة عل له ، ومنها أحاديث صحيحة السند لا مجال لردها. وقد حركة عائشة إلى البصرة مدح السيد الخوئي قدير دراسة السيد العسكري ووافقه على التشكيك في وجود ابن سبأ وليس على نفيه، فقد سئل (صراط النجاة: 373/5) : (هل وجود عبد الله بن وصول عائشة إلى البصرة سبأ وجود حقيقي أم وهمي؟ فأجاب: لم يثبت له وجود، والله العالم).

حركة الإمام إلى البصرة

والذي أطمئن به أن شخصية ابن سبأ حقيقية ووجوده ثابت، خلافاً لرأي الدكتور وصوله فيه إلى البصرة

طه حسين والسيد العسكري لكن أوافقهما على أن أدواره المزعومة مكذوبة.

هزيمة جيش عائشة

يدل تأليه جماعة للأئمة الله على عظمتهم وتميزهم عن غيرهم كتبنا في المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي الله / 1052 ، عن ظاهرة إسكان عائشة وإرجاعها تأليه بعض الناس للأئمة اللة وقلنا : ( إن بعض الناس تعشي أبصارهم معجزات من أخبار عائشة وجملها الأئمة الفبدل أن تكون سبباً لتعميق إيمانهم بالله تعالى لما أكرم به أولياءه، تضيق عقولهم عن عظمة الله تعالى وعطائه، ويسول الشيطان لهم أن المخلوق الإمام في البصرة إله، أو يدعي له الألوهية وأن الله تعالى حلّ فيه، ليدعي لنفسه أن الله حلَّ فيه! مشاهد من حرب الجمل

كما يدل هذا التأليه على أن معجزات أهل البيت عل أمر واقع لا يمكن إنكاره، شهداء مع الإمام الله

ولذلك اختص التأليه بهم، فلم نسمع أن أحداً ادعى الألوهية لأبي بكر وعمر ! وكان موقفهم صلوات الله عليهم مُستنكراً باتاً رافضاً لأولئك الكفار، فردوا من خط---ب ع-لي

افتراءهم، وعلموا الناس الخضوع والعبودية لله تعالى.

موقف أمير المؤمنين الله من الذين ألهوم

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل في مناقب آل أبي طالب (227/1) : ( أن عبدالله بن سبأ كان يدعي النبوة ويزعم أن أمير المؤمنين هو الله، فبلغ ذلك أمير المؤمنين فدعاه وسأله فأقر بذلك وقال الإمام واصل الفتوحات أنت هو، فقال له ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك

وتب! فلما أبى حبسه واستتابه ثلاثة أيام فأحرقه بالنار !

الله

الإمام ينقل العاصمة

445

ص: 445

وروي أن سبعين رجلاً من الزط أتوه الله في البصرة وألهوه بلسانهم وسجدوا له فقال لهم: ويلكم لا تفعلوا إنما أنا مخلوق مثلكم ! فأبوا عليه فقال: فإن لم ترجعوا عما قلتم في وتتوبوا إلى الله لأقتلنكم ، قال : فأبوا فخدَّ لهم أخاديد وأوقد ناراً فكان قنبر يحمل الرجل بعد الرجل على منكبه فيقذفه في النار، ثم قال:

إني إذا أبصرت أمراً منك--را أوقدت ناراً ودعوت قنبرا

ثم احتفرت حُفَراً فحُفَرا وقنبر يخطم خطماً منكرا).

والصحيح أنه الله لم يقتلهم دفعة واحدة بل حبسهم وبين لهم واستنتابهم فلم

يرجعوا ، فحفر لهم حفراً مثقوبة على بعضها ودخن عليهم، فلم يتوبوا فقتلهم وقال ابن عبد البر في التمهيد (317/5): ( فاتخذوه رباً وادعوه إلهاً وقالوا له: أنت خالقنا ورازقنا، فاستتا بهم واستأنى وتوعدهم، فأقاموا على قولهم، فحفر لهم حفراً دخن عليهم فيها طمعاً في رجوعهم فأبوا فحرقهم).

ونحوه فتح الباري : 12 / 238 ، وتاريخ الذهبي : 3 / 643 ، وأنساب السمعاني : 498/5 ،

وشرح النهج : 5 / 5 ، و: 18 / 119 ، ورجال الطوسي: 1/ 288 .

وكذلك تبرأ الإمام الباقر والصادقة ممن ادعى لهما الربوبية:

ففي رجال الطوسي (587/2) : ( عن أبي بصير قال : قال لي أبو عبد الله : يا أبا محمد إبرأ ممن يزعم انا أرباب، قلت: برئ الله منه، قال: إبرأ ممن يزعم أنا أنبياء. قلت: برئ الله منه). وعدهم الإمام الصادق اللي سبعة : المغيرة بن سعيد، وبيان، وصائد النهدي، والحارث الشامي، وعبدالله بن الحارث، وحمزة بن عمارة البربري، وأبو الخطاب، وطبق عليهم قوله تعالى : هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلِ أَفَاكِ أَثِيمٍ ) . (رجال الكشي: 2 / 577) . وأشهرهم المغيرة بن سعيد مولى قبيلة بجيلة، وقد أسس فرقة سميت المغيرية. قال الصادق الله : ( لعن الله المغيرة بن سعيد إنه كان يكذب على أبي فأذاقه الله حر الحديد، لعن الله من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا، ولعن الله من أزالنا عن العبودية الله الذي خلقنا، واليه مآبنا ومعادنا و بیده نواصينا ... لعن الله المغيرة بن سعيد، ولعن يهودية

446

ص: 446

إعداد عائشة لحرب علي

كان يختلف إليها يتعلم منها السحر والشعبذة والمخاريق. إن المغيرة كذب على أبي الله فسلبه الله الايمان). (رجال الكشي : 489/2). وفي أصل زيد الزراد / 46 : ( لما لبى أبو الخطاب بالكوفة وادعى في أبي عبد الله الله حركة عائشة إلى البصرة

ما ادعى دخلت على أبي عبد الله مع عبيد بن زرارة فقلت له: جعلت فداك لقد ادعى أبوالخطاب وأصحابه فيك أمراً عظيماً إنه لبي: لبيتك جعفر لبيك معراج وصول عائشة إلى البصرة وزعم أصحابه أن أبا الخطاب أسري به إليك فلما هبط إلى الأرض من ذلك حركة الإمام إلى البصرة دعا إليك ولذلك لبى بك ! قال: فرأيت أبا عبد الله الله قد أرسل دمعته من وصوله إلى البصرة

حماليق عينيه وهو يقول: يا رب برئت إليك مما ادعى في الأجدع عبد بني أسد! خشع لك شعري وبشري عبد لك ابن عبد لك خاضع ذليل. ثم أطرق ساعة هزيمة جيش عائش---ة في الأرض كأنه يناجي شيئاً ثم رفع رأسه وهو يقول: أجل أجل عبد خاضع إسكان عائشة وإرجاعها خاشع ذلیل لربه صاغر راغم من ربه خائف وجل. لي والله ربِّ أعبده لا أشرك

به شيئاً ! ماله أخزاه الله وأرعبه ولا آمن روعته يوم القيامة، ما كانت تلبية الأنبياء من أخبار عائشة وجملها هكذا ولا تلبية الرسل، إنما لبت بلبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك ! ثم قمنا الإمام في البصرة من عنده فقال : يا زيد إنما قلت لك هذا لأستقر في قبري. يا زيد أستر ذلك مشاهد من حرب الجمل

عن الأعداء. وقصده الله أن ينتبه زيد الزراد لئلا يستغل ذلك بنو العباس ضد

شهداء مع الإمام الله

الشيعة، ويتهمونهم بعبادة أهل البيت !

وكذلك كان موقف الإمام الكاظم علان

من

خطب علي

ففي رجال الطوسي (587/2) : عن ابن المغيرة قال : كنت عند أبي الحسن علة أنا الكذب في حرب الجمل ويحيى بن عبدالله بن الحسن فقال يحيى : جعلت فداك إنهم يزعمون أنك تعلم الغيب؟ من شعر حرب الجمل فقال سبحان الله سبحان الله ضع يدك على رأسي، فوالله ما بقيت في جسدي شعرة الإمام يواصل الفتوحات

ولا في رأسي إلا قامت ! قال، ثم قال : لا والله ما هي الا وراثة عن رسول الله ) .

((

الإمام ينقل العاصمة

447

ص: 447

وكذلك كان موقف الإمام الرضا الله :

ففي معجم رجال الحديث (135/18) : قال الكشي (428) : قال نصر بن صباح محمد بن الفرات كان بغدادياً حدثني الحسين بن الحسن القمي قال: حدثني سعد بن عبدالله قال: حدثني العبيدي عن يونس قال: قال أبو الحسن الرضا الله : يا يونس أما ترى إلى محمد بن الفرات وما يكذب عليَّ ؟ فقلت : أبعده الله وأسحقه وأشقاه. فقال: قد فعل الله ذلك به، أذاقه الله أذاقه الله حر الحديد كما أذاق من كان قبله ممن كذب علينا يا يونس إنما قلت ذلك لتحذِّر عنه أصحابي وتأمرهم بلعنه والبراءة منه، فإن الله يبرأ منه. قال سعد: وحدثني ابن العبيدي قال: حدثني أخي جعفر بن عيسى، وعلي بن إسماعيل الميثمي عن أبي الحسن الرضاء الله ، أنه قال : آذاني محمد بن الفرات، آذاه الله وأذاقه الله حر الحديد، آذاني لعنه الله ما آذى أبو الخطاب لعنه الله جعفر بن محمد الشلة بمثله، وم-ا كذب علينا خطابي مثل ما كذب محمد بن الفرات، والله ما من أحد يكذب علينا إلا ويذيقه الله حر الحديد. قال محمد بن عيسى: فأخبراني وغيرهما: أنه ما لبث محمد بن الفرات إلا قليلاً حتى قتله إبراهيم بن شكلة أخبث قتلة، فكان محمد بن الفرات :يقول إنه باب وإنه نبي، وكان القاسم اليقطيني وعلي بن حسكة القمي كذلك يدعيان لعنهما الله).

وفي الإعتقادات للصدوق /99: (كان الرضاء الله يقول في دعائه: اللهم إني أبرأ إليك من الحول والقوة فلا حول ولا قوة إلا بك. اللهم إني أبرأ إليك من الذين ادعوا لنا ما ليس لنا بحق . اللهم إني أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا. اللهم لك الخلق ومنك الأمر، وإياك نعبد وإياك نستعين. اللهم أنت خالقنا وخالق آبائنا الأولين وآبائنا الآخرين. اللهم لا تليق الربوبية إلا بك، ولا تصلح الإلهية إلا لك، فالعن النصارى الذين صغر وا عظمتك، والعن المضاهين لقولهم من بريتك. اللهم إنا عبيدك وأبناء عبيدك لا نملك لأنفسنا ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً. اللهم من زعم أننا أرباب فنحن إليك منه براء. ومن زعم أن إلينا الخلق وعلينا الرزق، فنحن إليك منه براء كبراءة عيسى من النصارى. اللهم إنا لم ندعهم إلى

448

ص: 448

ما يزعمون، فلا تؤاخذنا بما يقولون، واغفر لنا ما يزعمون. رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلدُوا إلا قاجراً كفّاراً).

وكذلك كان موقف الإمام الهادي

إعداد عائشة لحرب علي

حركة عائشة إلى البصرة

وصول عائشة إلى البصرة ففي رجال الطوسي (805/2) : (قال نصر بن الصباح الحسن بن محمد المعروف بابن بابا، ومحمد بن نصير النميري وفارس بن حاتم القزويني لعن هؤلاء حركة الإمام إلى البصرة الثلاثة علي بن محمد العسكري اللة . وذكر أبو محمد الفضل بن شاذان في بعض

الإمام في البصرة

مشاهد من حرب الجمل

وصوله إلى البصرة

كتبه أن من الكذابين المشهورين ابن بابا القمي. قال سعد: حدثني العبيدي قال: كتب إلي العسكري الله ابتداءً منه : أبرأ إلى الله من الفهري والحسن بن محمد بن هزيمة جيش عائشة بابا القمي فأبرأ منهما، فإني محذرك وجميع موالي، وإني ألعنهما عليهما لعنة الله إسكان عائشة وإرجاعها مستأكلين يأكلان بنا الناس فتّانين مؤذيين آذاهما الله وأركسهما في الفتنة ركساً. يزعم ابن بابا أني بعثته نبياً وأنه باب ! عليه لعنة الله، سخر منه الشيطان فأغواه من أخبار عائشة وجملها فلعن الله من قبل منه ذلك ! قال أبو عمرو : وقالت فرقة بنبوة محمد بن نصير النميري، وذلك أنه ادعى أنه نبي ،رسول، وأن علي بن محمد العسكري الله أرسله، وكان يقول بالتناسخ والغلو في أبي الحسن الله ويقول فيه بالربوبية، ويقول : بإباحة المحارم، ويحلل شهداء مع الإمام نكاح الرجال بعضهم بعضاً في أدبارهم ، ويقول إنه من الفاعل والمفعول به أحد الشهوات والطيبات، وأن الله لم يحرم شيئاً من ذلك. الكذب في حرب الجمل

وكان محمد بن موسى بن الحسن بن فرات رئيس وزراء الخليفة يقوي أسبابه ويعضده، وذكر أنه رأى بعض الناس محمد بن نصير عياناً وغلام له على من ش--ع--ر ح-رب الجمل ظهره وأنه عاتبه على ذلك فقال : إن هذا من اللذات وهو من التواضع الله وترك التجبر ! وافترق الناس فيه وبعده فرقاً).

من

خطب علي

الإمام يواصل الفتوحات

أقول : وهناك آخرون ادعوا في الأئمة الله الألوهية أو الحلول، ليصلوا إلى ادعاء الإمام لا ينقل العاصمة

449

ص: 449

حلول الله سبحانه فيهم، أو حلول روح النبي أو الإمام الله فيهم فيُضلوا الناس! ومما يلاحظ أن أغلب هؤلاء كانوا شخصيات في عصرهم، وبعضهم كان يساندهم خلفاء أو وزراء، وهذا السبب في أنهم جمعوا أتباعاً وأسسوا مذاهب

روايات القعقاع المزيفة في حرب الجمل !

من مكذوباتهم في أخبار حرب الجمل الدور الذي جعلوه للقعقاع بن عمرو، فقد اخترع رواة السلطة له أدواراً في حروب الفتوحات وحرب الجمل وصفين، فهو شخصية اجتماعية يلتقي عندما يريد بعائشة وطلحة والزبير، وهو فارس مقاتل كهاشم المرقال. ونحن نشك في أدواره ولا نقبلها، بل يوجد من ينفي وجود شخصيته، ويقول إنه لا وجود له، وقد اخترعه المحدث سيف بن عمرو التميمي. وسيف متفق على أنه متروك الحديث، فتكون أحاديثه عن القعقاع باطلة.

قال ابن حجر في الإصابة (342/5) : (القعقاع بن عمرو التميمي أخو عاصم كان من الشجعان الفرسان . قيل إن أبا بكر الصديق كان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل، وله في قتال الفرس بالقادسية وغيرها بلاء عظيم، ذكر ذلك سيف بن عمر في الفتوح.. قال سيف قالوا كتب عمر إلى سعد أي فارس كان أفرس في القادسية قال فكتب إليه إني لم أر مثل القعقاع بن عمر و حمل في يوم ثلاثين حملة يقتل في كل حملة بطلاً! وقال بن أبي حاتم قعقاع بن عمر و قال شهدت وفاة رسول الله، فيما رواه سيف بن عمر عن عمر و بن تمام عن أبيه عنه . وسيف متروك فبطل الحديث وإنما ذكرناه للمعرفة). أقول : جعلوا للقعقاع بطولات في الفتوحات وفي حرب الجمل وصفين ! قال الطبري (501/3): (فلما نزلوا على ذي قار دعا القعقاع بن عمرو فأرسله إلى أهل البصرة وقال له إلق هذين الرجلين يا ابن الحنظلية، وكان القعقاع من أصحاب النبي فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظم عليهما الفرقة. وقال له: كيف أنت صانع فيما جاءك منهما مما ليس عندك فيه وصاة مني ؟ فقال: نلقاهم بالذي أمرت به فإذا جاء منهما أمر ليس عندنا منك فيه رأي، اجتهدنا الرأي وكلمناهم على قدر ما نسمع ونرى أنه ينبغي.

الله

450

ص: 450

قال: أنت لها، فخرج القعقاع حتى قدم البصرة، فبدأ بعائشة فسلم عليها وقال: أي أمَّهُ ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت : أي بني إصلاح بين الناس. إعداد عائشة لحرب علي قال فابعثي إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما، فبعثت إليهما فجاءا حركة عائشة إلى البصرة

فقال : إني سألت أم المؤمنين ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد، فقالت: إصلاح بين الناس فما تقولان أنتما أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان قال: فأخبراني ما وصول عائشة إلى البصرة وجه هذا الإصلاح فو الله لئن عرفناه لنصلحن ، ولئن أنكرناه لانصلح، قالا: حركة الإمام إلى البصرة قتلة عثمان فإن هذا إن ترك كان تركاً للقرآن وإن عمل به كان إحياء للقرآن وصوله إلى البصرة

فقال: قد قتلتها قتلة عثمان من أهل البصرة وأنتم قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم قتلتم ست مائة إلا رجلاً، فغضب لهم ستة آلاف واعتزلوكم هزيمة جيش عائشة وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم ذلك الذي أفلت يعني حرقوص بن زهير، إسكان عائشة وإرجاعها فمنعه ستة آلاف وهم على رجل فإن تركتموه كنتم تاركين لما تقولون، فإن قاتلتموهم والذين اعتز لوكم فأديلوا عليكم ، فالذي حذرتم و قربتم به هذا من أخبار عائشة وجملها الأمر أعظم مما أراكم تكرهون ، و أنتم أحميتم مضر وربيعة من هذه البلاد، الإمام له في البصرة فاجتمعوا على حربكم وخذلانك-م ن-ص-رة لهؤلاء كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا مشاهد من حرب الجمل

الحدث العظيم والذنب الكبير ، فقالت أم المؤمنين فتقول أنت ماذا؟ قال: أقول هذا الأمر دواؤه التسكين، وإذا سكن اختلجوا فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير شهداء مع الإمام وتباشير رحمة، ودرك بثأر هذا الرجل وعافية وسلامة لهذه الأمة، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه، كانت علامة شر وذهاب هذا الثأر، وبعث الله في هذه الأمة هزاهزها.

فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم تكونون، ولا تعرضونا من شعر حرب الجمل

للبلاء ولا تعرضوا له فيصرعنا وإياكم. وأيم الله إني لأقول هذا وأدعوكم إليه، الإمام واصل الفتوحات

واني الخائف ألا يتم حتى يأخذ الله عز وجل حاجته من هذه الأمة، التي قل متاعها ونزل بها ما نزل ، فإن هذا الأمر الذي حدث أمر ليس يقدر ، وليس الإمام ينقل العاصمة كالأمور ولا كقتل الرجل الرجل ، ولا النفر الرجل ولا القبيلة الرجل!

من

خطب علي

الله

الكذب في حرب الجمل

451

ص: 451

فقالوا: نعم، إذاً قد أحسنت وأصبت المقالة، فارجع فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر، فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك وأشرف القوم على الصلح كره ذلك من كرهه ورضيه من رضيه).

وقال الطبري (504/2) : (وأقبلت وفود البصرة نحو عليّ حين نزل بذي قار فجاءت وفد تميم وبكر قبل رجوع القعقاع لينظروا ما رأى إخوانهم من أهل الكوفة، وعلى أي حال نهضوا إليهم، وليعلموهم أن الذي عليه رأيهم الإصلاح، ولا يخطر لهم قتال على بال، فلما لقوا عشائرهم من أهل الكوفة بالذي بعثهم فيه عشائرهم من أهل البصرة، وقال لهم الكوفيون مثل مقالتهم وأدخلوهم على علي فأخبروه خبرهم، سأل علي جرير بن شرس عن طلحة والزبير، فأخبره عن دقيق أمرهما وجليله، حتى تمثل له طلحة : ألا أبلغ بني بكر رسولاً فليس إلى بني كع--ب س-بيل

سيرجع ظلمكم منكم عليكم طويل الساعدين له فضول

وتمثل علي عندها:

ألم تعلم أبا سمعان أنا نرد الشيخ مثلك ذا الصداع

ويذهل عقله بالحرب حتى يقوم فيستجيب لغير داع

فدافع عن خزاعة جمع بكر وما بك يا سراقة من دفاع)

وفي تجارب الأمم لابن مسكويه (485/1) : (وتحدث الناس بهذه الأبيات وتداولوها

لأن طلحة كان يديم إنشاد البيتين الأولين)

وفي المنتظم لابن الجوزي (86/5) : (وأشرف القوم على الصلح، وأقبلت وفود البصرة نحو عليّ. وجاءت وفود تميم وبكر، فجمع علي الناس وقام فذكر إنعام الله تعالى على هذه الأمة بالإجتماع إلى أن قال: ثم حدث هذا الحدث الذي جرّه على هذه الأمة أقوام طلبوا الدنيا، وحسدوا من أفاءها الله عليه، ألا وإني راحل غداً فارتحلوا ولا يرتحلن أحد أعان على عثمان بشيئ وليغن السفهاء عني أنفسهم. فاجتمع نفر منهم الهيثم، وعدي بن حاتم وسالم بن ثعلبة القيسي، وشريح بن أو فى بن ضبيعة، والأشتر،

علباء بن

452

ص: 452

في عدة ممن سار إلى عثمان ورضي مسير من سار، وجاء معهم المصريون ابن السوداء، وخالد بن ملجم، وتشاوروا م-ا الرأي ؟ وهذا والله علي وهو أبصر إعداد عائشة لحرب علي الناس بكتاب الله، وأقرب من يطلب بقتلة عثمان ، وهو يقول ما يقول، فكيف حركة عائشة إلى البصرة به إذا شامّ القوم وشاموه ورأوا قتلنا وقتلنا في كثرتهم، إياكم والله تُرادون!

فقال الأشتر : أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما، وأما عليّ فلم نعرف أمره وصول عائشة إلى البصرة حتى كان اليوم، ورأي الناس فينا واحد، وأن يصطلحوا على دمائنا فهلموا حركة الإمام يتهم إلى البصرة نتواثب على عليّ فنلحقه ،بعثمان فتعود فتنة يرضى منا فيها بالسكوت.

وصوله في إلى البصرة

فقال عبد الله بن السوداء: بئس الرأي رأيت نحن نحو من ست مائة وهذا ابن الحنظلية وأصحابه في خمسة آلاف بالأسواق، إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلاً. هزيمة جيش عائش---ة

وقال علباء بن الهيثم : إنصرفوا بنا عنهم ودعوهم وارجعوا، فتعلقوا ببلد من إسكان عائشة وإرجاعها البلدان حتى يأتيكم فيه من تتقون به، وامتنعوا من الناس.

من أخبار عائشة وجملها

قال ابن السوداء بئس ما رأيت، ودّ والله الناس أنكم على جديلة، ولم تكونوا مع أقوام براء، ولو كان الذي تقول لتخطفكم كل شيئ. إذا التقى الناس غداً فانشبوا الإمام في البصرة القتال ولا تدعوهم يفرغون للنظر، فإذا من أنتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع، فيشغل مشاهد من حرب الجمل

الله علياً وطلحة والزبير، ومن رأى رأيهم عما تكرهون، فتفرقوا على مثل ذلك

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

والناس لا يشعرون! وأصبح عليّ على ظهر فمضى ومضى الناس ، وقام علي فخطبهم وقال: يا أيها الناس كفوا أيديكم وألسنتكم عن هؤلاء القوم فإنهم إخوانكم، ومضى حتى أطل على القوم فبعث إليهم حكيم بن سلامة ومالك بن حبيب، فقال: إن الكذب في حرب الجمل کنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا وأقرونا ننزل وننظر في هذا من شعر حرب الجمل الأمر ، فقال له الأحنف بن قيس: إن قومنا بالبصرة يزعمون أنك إن ظهرت

الإمام واصل الفتوحات

عليهم ستقتل رجالهم وتسبي نساءهم ! فقال: ما مثلي يخاف هذا منه، وهل يحل هذا إلا ممن تولى وكفر، وهم قوم مسلمون، فهل أنت مغن عني قومك ؟ قال: الإمام ينقل العاصمة نعم فاختر مني واحدة من اثنتين إما أن آتيك فأكون معك بنفسي، وإما أن

لا

453

ص: 453

أكف عنك عشرة آلاف سيف. فرجع إلى الناس فدعاهم إلى القعود وارتحل حتى نزل بحذاء القوم والناس لا يشكون في الصلح، ومع عائشة ثلاثون ألفاً، ومع عليّ عشرون ألفاً ، فلما نزل الناس واطمأنوا خرج علي وخرج طلحة والزبير، فتواقفوا وتكلموا فيما اختلفوا فيه، فلم يجدوا أمراً هو أمثل من الصلح ووضع الحرب، فافترقوا عن

موقفهم على ذلك، ورجع عليّ إلى عسكره، ورجع وطلحة والزبير إلى عسكرهما ! وبعث علي من العشي عبد الله بن عباس إلى طلحة والزبير .. فباتوا على الصلح، وباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية من الذي أشرفوا عليه، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة قد أشرفوا على الهلكة، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها، حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السر، واستسروا بذلك خشية أن يفطن لهم فغدوا مع الغلس، وما يشعر بهم أحد غير جيرانهم، فخرج مضر يهم إلى مضريهم ويمانيهم إلى يمانيهم، حتى وضعوا فيهم السلاح، فثار أهل البصرة، وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين بهتوهم، وخرج الزبير وطلحة فبعثا إلى الميمنة عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وإلى الميسرة عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، وثبتا في القلب، وقالا : ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلاً، فقالا: قد علمنا أن علياً غير منته حتى يسفك الدماء وإنه لن يطاوعنا، ثم رجعا بأهل البصرة. فسمع علي وأهل الكوفة الصوت، وقد وضعوا رجلاً قريباً من عليّ ليخبره بما يريدون، فلما قال: ما هذا؟ قال ذلك الرجل: ما فاجئنا

إلا وقوم منهم قد بيّتونا فرددناهم من حيث جاؤوا، فوجدنا القوم على رجل فركبونا، وثار الناس وقال علي : ولقد علمت أن طلحة والزبير غير منتهيين حتى يسفكا الدماء، ونادى عليّ في الناس كفوا ، فكان رأيهم جميعاً ألا يقتتلوا حتى يُبدؤوا . وأقبل كعب بن سعد حتى أتى عائشة رضي الله عنهما فقال أدركي فقد أبى القوم إلا القتال لعل الله يصلح بك، فركبت وألبسوا هو دجها الأدراع ثم بعثوا جملها ، فلما

برزت وكانت بحيث تسمع الغوغاء.. الخ).

454

ص: 454

ملاحظات

إعداد عائشة لحرب علي 1. هذه الرواية ليست أكثر من أسطورة تزعم أن قتلة عثمان نجحوا في إشعال الحرب، وجروا علياً وعائشة وطلحة والزبير اليها، رغم أنهم اتفقوا على الصلح حركة عائشة إلى البصرة بمبادرة القعقاع وتعد الرواية من قتلة عثمان كبار أصحاب علي الله الذين لم وصول عائشة إلى البصرة

يحضروا قتل عثمان، وتعد منهم ابن السوداء، ولعلها تقصد به عمار بن یاسر !

وإن قصدت عبدالله بن سبأ فقد ذكرت روايتهم أن حكيم بن جبلة طرده من البصرة حركة الإمام إلى البصرة ثم طردوه من الكوفة، فذهب الى مصر فكيف يكون في جيش أمير المؤمنين الله ؟! وصوله فيه إلى البصرة

قال ابن خلدون (2 ق142/2) : ( وحدث بالبصرة مثل ذلك من الطعن في الخلفاء هزيمة جيش عائشة

وكان بدؤه فيما يقال شأن عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، هاجر إلى الإسلام من اليهودية ، ونزل على حكيم بن جبلة العبدي وكان يتشيع لأهل إسكان عائشة وإرجاعها البيت ففشت مقالته بالطعن، وبلغ ذلك حكيم بن جبلة فأخرجه، وأتى من أخبار عائشة وجملها الكوفة فأخرج أيضاً، واستقر بمصر وأقام يكاتب أصحابه بالبصرة ويكاتبونه، والمقالات تفشو بالطعن والنكير على الأمراء).

55

الإمام في البصرة

مشاهد من حرب الجمل

.2 صورت الرواية القعقاع بأنه شخصية كبيرة، ذهب الى عائشة وطلب منها شهداء مع الإمام الله

أن تُحضر له طلحة والزبير فأحضرتهما، واعترض على عملهم، وأنهم قتلوا ست

مئة ممن كانوا ذهبوا وفوداً الى عثمان يطالبونه بتغيير والي البصرة، لكنهم عجزوا عن حرقوص بن زهير وألبوا تميماً فحمته منهم، وصارت ضد عائشة!

وقالت الرواية إن عائشة قبلت كلامه وسألته : ما رأيك وما نصنع؟ فأعطاها حلاً

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

مبهماً، بأن يبايعوا علياً ويقتلوا قتلة عثمان فقبلوا به، ورجع الى علي الله فقبل به !

عليه ثم تذكر الرواية أن الطرف الثالث وهم قتلة عثمان، ومنهم الأشتر، وابن السوداء الإمام يواصل الفتوحات

عبدالله بن سبأ، خربوا مسعى القعقاع في الصلح، وأشعلوا الحرب بين الطرفين ! الإمام ينقل العاصمة وقد نقل هذه الرواية النويري في نهاية الإرب (56/20) وقال في آخرها : والله أعلم

بالصواب ومعناه أنه يشك في صحتها.

ص: 455

كل أدوار القعقاع في حرب الجمل غير محسوسة، مما يدل على كذبها أو يوج

الشك فيها، منها : دوره في إنزال هودج عائشة عن الجمل (الطبري: 533/3). ومنها : أن عائشة سألته بعد الحرب عن الذي قال: يا أمنا أعق أم نعلم؟ ومنها : أنه رأى شخصاً على باب عائشة يقول : يا أمنا توبي فقد خطيت، فشكاه وصاحبه

الى أمير المؤمنين الله فأراد أن يضرب عنقه ! (الطبري: 544/3) .

ومنها : أنه دعا الناس في الكوفة الى إجابة أمير المؤمنين الثاله . (الطبري: 499/3). ومنها : أنها كان قائداً في الجيش الذي جاء من الكوفة. (المناقب:338/2) .

ومنها : أنه ساعد طلحة وهو جريح أن يأوي الى منزل. (الطبري: 522/3).

وعندما تجد ادعاء بطولات لشخص ولا تجد إسم المقتول ولا ظروف قتاله التي تدل على صحة الرواية، فشك فيها أو ارفضها، وذلك كقول سيف: (حمل القعقاع يوم أغواث ثلاثين في ثلاثين حملة، كلما حمل حملة قتل فيها بطلاً). (الطبري: 55/3).

قال ابن حجر في ترجمة القعقاع في الإصابة (342/5) : قال سيف : قالوا: كتب عمر إلى سعد: أي فارس كان أفرس في القادسية؟ قال: فكتب إليه إني لم أر مثل القعقاع بن عمرو، حمل في يوم ثلاثين حملة، يقتل في كل حملة بطلاً »!

وعامة روايات القعقاع في حرب الجمل من هذا النوع، تعطيه بطولات هوائية!

وقالوا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة !

قال البخاري (136/5) : ( عن أبي بكرة قال: لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أيام الجمل بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم. قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال لن يفلح قوم ولوا امرهم امرأة. وقال ابن حجر في شرحه (46/13): (قال أبو بكرة : فعرفت أن أصحاب الجمل لن يفلحوا. ونقل ابن بطال عن المهلب أن ظاهر حديث أبي بكرة يوهم توهين رأي عائشة فيما فعلت، وليس كذلك لأن المعروف من مذهب أبي بكرة أنه كان على رأي

ص: 456

عائشة في طلب الإصلاح بين الناس، ولم يكن قصدهم القتال، لكن لما انتشبت الحرب لم يكن لمن معها بد من المقاتلة).

إعداد عائشة لحرب علي

وصول عائشة إلى البصرة

هزيمة جيش عائشة

وقال في فتح الباري (46/3) : ( عن أبي بكرة قال : سمعت رسول الله له يقول حركة عائشة إلى البصرة

يخرج قوم هلكي لا يفلحون قائدهم امرأة في الجنة، فكأن أبا بكرة أشار إلى هذا الحديث، فامتنع من القتال معهم). لكن أبا بكرة قال إن الجميع مفلحون ! قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : حركة الإمام منه إلى البصرة

يخرج قوم هلكى لا يفلحون قائدهم امرأة قال هم في الجنة). (المصنف: 538/7) وصوله فيه إلى البصرة وروى ابن أبي شيبة (718/8): (قال علي: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة

والزبير ممن قال الله : وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلَّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ).

وقال الطبري (3 / 542) : (وقد غشيها الناس وهي في دار عبدالله بن خلف، إسكان عائشة وإرجاعها

فكلما نعي لها منهم واحد قالت: يرحمه الله فقال لها رجل من أصحابها : كيف ذلك؟ قالت: كذلك قال رسول الله : فلان في الجنة وفلان في الجنة. وقال علي بن من أخبار عائشة وجملها أبي طالب يومئذ : إني لأرجو ألا يكون أحد من هؤلاء نقى قلبه إلا أدخله الله الجنة ). الإمام في البصرة

لكن قول عائشة بأن القاتل والمقتول في الجنة، لم يصح عن رسول الله له . مشاهد من حرب الجمل

:أقول : نلاحظ بوضوح أنهم يقبلون ولاية عائشة وقيادتها، ويرون وجوب طاعتها، وهو نقض صريح لما رووه عن النبي : ما أفلح قوم ولوا عليهم امرأة شهداء مع الإمام الله

وقالوا: البغاة على عليه مؤمنون من أهل الجنة

من

خطب علي

من تزييفهم في أخبار حرب الجمل أنهم جعلوا البغاة على علي الله مؤمنين من الكذب في حرب الجمل

أهل الجنة، ولو كانوا خرجوا على أبي بكر أو عمر أو عثمان الجعلوهم من أهل النار ! وقد أوردنا آراء الفقهاء في البغاة الخوارج على علي الله في الفصل الخامس من ش-ع-ر ح--رب الجمل

والخمسين، في حركة علي الله الى البصرة. ومما ذكرناه قول أبي حنيفة : ما قاتل أحد عليّاً إلا وعلي أولى بالحق منه، ولولا الإمام ينقل العاصمة

ما سار علي فيهم ما علم أحد كيف السيرة في المسلمين، ولا شك أن علياً إنما

الإمام يواصل الفتوحات

457

ص: 457

قاتل طلحة والزبير بعد أن بايعاه وخالفاه ، وفي يوم الجمل س--ار ع-لي فيهم بالعدل، وهو علم المسلمين السنة في قتال أهل البغي.

من أبطال التزوير في حرب الجمل

نذكر فيما يلي ثلاثة نماذج من شخصيات التزوير في حرب الجمل: أبا موسى الأشعري.

والحسن البصري، وحسان بن ثابت!

أبو موسى الاشعري سامري هذه الأمة

1 . كان أبو موسى والي الكوفة لما خرجت عائشة على علي الشالية فكتبت له أن يخذل الناس عن نصرة علي الله فأطاعها ونشط في تخذيلهم، فأرسل له علي الله هاشم المرقال فزجره أبو موسى وهدده، ثم أرسل له الإمام الحسن الله وعمار ، ثم مالك الأشتر، وذمه علي السلة وعزله عن ولاية الكوفة. ومن أخطر ما ظهر منه تزويره حديث النبي صلى الله عليه وسلم متعمداً عن سابق إصرار ! قال الطبري (497/3) : (فخرج أبو موسى فلقي الحسن فضمه إليه، وأقبل على عمار فقال: يا أبا اليقظان أعدوت فيمن عدا على أمير المؤمنين، فأحللت نفسك مع الفجار ! فقال: لم أفعل ولم تسؤني، وقطع عليهما الحسن ، فأقبل على أبي موسى فقال: يا أبا موسى لم تثبط الناس عنا، فوالله ما أردنا إلا الاصلاح ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شئ! فقال: صدقت بأبي أنت وأمي، ولكن المستشار مؤتمن سمعت رسول الله يقول: إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب. وقد جعلنا الله عز وجل إخواناً، وحرم علينا أموالنا ودماءنا، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا . وقال عز وجل: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا . فغضب عمار وساءه، وقام وقال : يا أيها الناس إنما قال له خاصة : أنت فيها قاعداً خير منك قائماً .. ) ! وأخطر ما كشفه عمار عن أبي موسى أنه كان أحد المتآمرين لقتل النبي ليلة

458

ص: 458

م الله اله العقبة في غزوة تبوك، واعترف أبو موسى بذلك وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له !

وقد رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (93/32): (( عن عمران بن ظبيان عن أبي إعداد عائشة لحرب علي نجاء حكيم قال: كنت جالساً مع عمار فجاء أبو موسى فقال: ما لي ولك ألست حركة عائشة إلى البصرة أخاك ؟ قال : ما أدري إلا أني سمعت رسول الله الله يلعنك ليلة الجبل! قال: إنه

صا

قد استغفر لي ! قال عمار: قد شهدت اللعن، ولم أشهد الإستغفار »!

لهذا لا شك عندنا في نفاقه وكيده للإسلام والمسلمين.

وصول عائشة إلى البصرة

حركة الإمام له إلى البصرة

وصوله في إلى البصرة .2. شهد عقيل بن أبي طالب وهو نسابة بأن أم أبي موسى الأشعري كانت سراقة فقد روى الطوسي في الأمالي /723 ، عن الإمام جعفر الصادق الله : (سأله هزيمة جيش عائشة

عبد الصمد، قال قلت يا أبا عبدالله حدثنا حديث عقيل. قال: نعم، جاء عقيل إسكان عائشة وإرجاعها إليكم بالكوفة وكان علي الله جالساً في صحن المسجد وعليه قميص سنبلاني،

من

خطب علي

من أخبار عائشة وجملها

:قال فسأله فقال: أكتب لك إلى ينبع. قال: ليس غير هذا. قال: لا. فبينما هو كذلك إذ أقبل الحسين الله فقال : إشتر لعمك ثوبين فاشترى له قال: يا بن أخي الإمام له في البصرة ما هذا؟ قال: هذه كسوة أمير المؤمنين، ثم أقبل حتى انتهى إلى علي الله فجلس مشاهد من حرب الجمل

فجعل يضرب يده على الثوبين وجعل يقول : ما ألين هذا الثوب يا أبا يزيد! قال: يا حسن أفد عمك . قال : والله ما أملك صفراء ولا بيضاء. قال: فمر له ببعض شهداء مع الإمام ثيابك . قال : فكساه بعض ثيابه قال: ثم قال: يا محمد أفد عمك . قال : والله لا أملك در هماً ولا ديناراً . قال : فاكسه بعض ثيابك. قال عقيل : يا أمير المؤمنين إئذن لي إلى معاوية. قال : في حل محلل، فانطلق نحوه، وبلغ ذلك معاوية، فقال: الكذب في حرب الجمل إركبوا أفره دوابكم، والبسوا من أحسن ثيابكم، فإن عقيلاً قد أقبل نحوكم من ش-ع--ر ح-رب الجمل وأبرز معاوية سريره، فلما انتهى إليه عقيل قال معاوية : مرحباً بك يا أبا يزيد، ما نزع بك؟ قال: طلب الدنيا من مظانها. قال: وفقت وأصبت، قد أمرنا لك الإمام واصل الفتوحات بمائة ألف فأعطاه المائة ألف ثم قال: أخبرني عن العسكرين اللذين مررت الإمام ينقل العاصمة بهما، عسكري وعسكر علي. قال: في الجماعة أخبرك، أو في الوحدة؟ قال: لا

459

ص: 459

م الله اله بل في الجماعة. قال مررت على عسكر علي، فإذا ليل كليل النبي ونهار كنهار النبي له إلا أن رسول الله ليس فيهم، ومررت على عسكرك فإذا أول من استقبلني أبو الأعور وطائفة من المنافقين والمنفرين برسول الله لهم إلا أن أبا سفيان ليس فيهم ! فكف عنه حتى إذا ذهب الناس قال له: يا أبا يزيد، أيش صنعت بي؟ قال : ألم أقل لك في الجماعة أو في الوحدة، فأبيت علي؟ قال: أما الآن فاشفني من عدوي. قال: ذلك عند الرحيل . فلما كان من الغد شد غرائره ورواحله، وأقبل نحو معاوية وقد

جمع معاوية حوله، فلما انتهى إليه قال يا معاوية من ذا عن يمينك؟ قال: عمرو بن العاص، فتضاحك ثم قال: لقد علمت قريش أنه لم يكن أحصى لتيوسها من أبيه ! ثم :قال: من هذا؟ قال: هذا أبو موسى، فتضاحك ثم قال : لقد علمت قريش بالمدينة أنه لم يكن بها امرأة أطيب ريحاً من قب أمه. قال: أخبرني عن نفسي يا أبا يزيد. قال: تعرف حمامة، ثم سار ، فألقي في خلد معاوية ، قال : أم من أمهاتي لست أعرفها ! فدعا بنسابين أهل الشام، فقال: أخبراني عن أم من أمهاتي يقال لها حمامة لست أعرفها. فقالا: نسألك بالله لا تسألنا عنها اليوم. قال: أخبراني أو لأضر بن أعناقكما، لكما الأمان. قالا : فإن حمامة جدة أبي سفيان السابعة وكانت بغياً، وكان لها بيت توافي فيه(زبائنها) . قال جعفر بن محمد الله : وكان عقيل من أنسب الناس. :أقول : في تاريخ دمشق (23/41) : (قال ابن المرّاقة، كانت أمه طيبة المرق ، فقال له

من

معاوية : أبا يزيد على رسلك، فقد علمنا مقصدك) ! والمراقة: أشد من السراقة! وفي المنتظم (252/5) : (أمه ظبية بنت وهب بن عك، أسلمت وماتت بالمدينة. وكان خفيف الجسم، قصيراً، أثط (كوسج لا لحية له). وقال أبو بكر بن عبدالله بن جهم: ليس أبو موسى من مهاجرة الحبشة، وليس له حلف في قريش، وكان قد أسلم بمكة قديماً ثم رجع إلى بلاد قومه، فلم يزل بها حتى قدم هو وناس من الأشعريين على رسول الله، فوافق قدومهم قدوم أهل السفينتين جعفر وأصحابه من أرض الحبشة،

ووافق رسول الله بخيبر ...

عن أبي هريرة قال: دخل رسول الله المسجد، فسمع قراءة رجل فقال: من هذا؟ قيل

460

ص: 460

عبدالله بن قيس، فقال: لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود ». أقول: كلام أبي هريرة في حقه غير مقبول لأنه شريكه في بغض علي

السلاةِ

إعداد عائشة لحرب علي

حركة عائشة إلى البصرة

.3. كان أبو موسى يزعم أن القرآن فقد منه كثير ! قال: (نزلت سورة نحواً من براءة فرفعت، فحفظت منها : إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لاخلاق لهم. وصول عائشة إلى البصرة

(مجمع الزوائد : 302/5 ، وصححه) .

حركة الإمام له إلى البصرة

وكان يزيد في القرآن، ولما وحد عثمان النسخ صادر حذيفة نسخة أبي موسى وصوله فيه إلى البصرة رغماً عنه وأحرقها ! قال عمر بن شبة في تاريخ المدينة (998/3) عن عبد الأعلى بن الحكم الكلابي قال: أتيت دار أبي موسى الأشعري فإذا حذيفة بن اليمان هزيمة جيش عائش---ة وعبدالله بن مسعود وأبو موسى الأشعري فوق إجار، فقلت: هؤلاء والله الذين إسكان عائشة وإرجاعها أريد فأخذت أرتقي لهم فإذا غلام على الدرجة فمنعني أن أرتقي إليهم فنازعته حتى التفت إلى بعضهم، فأتيتهم حتى جلست إليهم ، فإذا عندهم مصحف من أخبار عائشة وجملها أرسل به عثمان فأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه، فقال أبو موسى: ما وجدتم الإمام في البص----رة في مصحفي هذا من زيادة فلا تنقصوها ، وما وجدتم من نقصان فاكتبوه فيه !

مشاهد من حرب الجمل

فقال حذيفة: فكيف بما صنعنا. وكان حذيفة هو الذي أشار على عثمان أن يجمع المصاحف على مصحف واحد) . وحذيفة لا يعمل إلا برأي علي السلام .

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

.4. كان أبو موسى والي البصرة من قبل ،عمر، ثم والي الكوفة من قبل عثمان، وكان محبوباً من اليمانيين، فتمسكوا به وطلبوا من أمير المؤمنين الله أن يبقيه الكذب في حرب الجمل والياً على الكوفة، ثم تمسكوا به للتحكيم في صفين، وأجبروا أمير المؤمنين عالية من شعر حرب الجمل على تعيينه حكماً، فخدعه عمرو بن العاص وقال له : إخلع صاحبك وأنا أخلع الإمام يواصل الفتوحات

صاحبي ليختار المسلمون غيرهما، فخلع أبو موسى عليا الله وقال كما أخلع خاتمي هذا من يدي، فقال ابن العاص وأنا أثبت صاحبي كما اثبت هذا الخاتم الإمام ينقل العاصمة في يدي! فشتمه أبو موسى، وفسدت قضية التحكيم

461

ص: 461

ه . كان أبو موسى غير مرضي عند أهل البيت الا وقد وصفوه بأنه سامري هذه الأمة ! قال أبو ذر رضي الله عنه ( الخصال / 457) لما سيره عثمان: (أنا أحدثكم بحديث قد سمعته ومن سمعه منكم، قال رسول الله له : ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن البعث حق وأن الجنة حق والنار حق ؟ قالوا نشهد قال: وأنا معكم من الشاهدين. ثم قال: ألستم تشهدون أن رسول الله قال : شر الأولين والآخرين اثنا عشرستة من الأولين وستة من الآخرين . ثم سمى الستة من الأولين ابن آدم الذي قتل أخاه، وفرعون وهامان وقارون والسامري والدجال إسمه في الأولين ويخرج في الآخرين. وأما الستة من الآخرين فالعجل وهو نعثل ، وفرعون وهو معاوية، وهامان هذه الأمة وهو زياد، وقارونها وهو سعيد، والسامري وهو أبو موسى عبدالله بن قيس لأنه قال كما قال سامري قوم موسى: لا مساس أي لا قتال. والأبتر وهو عمرو بن العاص، أفتشهدون على ذلك؟ قالوا: نعم، قال: وأنا على ذلك من الشاهدين، ثم قال: ألستم تشهدون أن رسول الله قال : إن أمتي ترد علي الحوض على خمس رايات، أولها راية العجل فأقوم فآخذ بيده فإذا أخذت بيده اسود وجهه ورجفت قدماه وخفقت أحشاؤه ومن فعل فعله يتبعه، فأقول : بماذا خلفتموني في الثقلين من بعدي ؟ فيقولون : كذبنا الأكبر ومزقناه، واضطهدنا الأصغر وأخذنا حقه، فأقول: أسلكوا ذات الشمال فينصرفون ظماء ،مظمئين قد اسودت وجوههم لا يطعمون منه قطرة. ثم ترد علي راية فرعون أمتي وهم أكثر الناس ومنهم المبهرجون، قيل: يا رسول الله وما المبهرجون بهرجوا الطريق ؟ قال : لا ، ولكن بهرجوا دينهم، وهم الذين يغضبون للدنيا ولها يرضون ، فأقوم فآخذ بيد صاحبهم فإذا أخذت بيده اسود وجهه ورجفت قدماه وخفقت أحشاؤه ومن فعل فعله يتبعه. فأقول : بما خلفتموني في الثقلين بعدي ؟ فيقولون كذبنا الأكبر ومزقناه، وقاتلنا الأصغر فقتلناه ! فأقول: أسلكوا سبيل أصحابكم ، فينصرفون ظماء مظمئين مسودة وجوههم، لا يطعمون منه قطرة. قال: ثم ترد علي راية هامان أمتي فأقوم فآخذ بيده فإذا أخذت بيده اسود وجهه

462

ص: 462

ورجفت قدماه وخفقت أحشاؤه ومن فعل فعله يتبعه، فأقول: بماذا خلفتموني

في الثقلين بعدي ؟ فيقولون : كذبنا الأكبر ومزقناه، وخذلنا الأصغر وعصيناه، إعداد عائشة لحرب علي فأقول: أسلكوا سبيل أصحابكم فينصرفون ظماء مظمئين مسودة وجوههم، لا حركة عائشة إلى البصرة

يطعمون منه قطرة.

ثم ترد علي راية عبدالله بن قيس وهو إمام خمسين ألف من أمتي فأقوم فآخذ وصول عائشة إلى البصرة بيده فإذا أخذت بیده اسود وجهه و رجفت قدماه وخفقت أحشاؤه ومن فعل حركة الإمام به إلى البصرة فعله يتبعه، فأقول : بما خلفتموني في الثقلين بعدي؟ فيقولون: كذبنا الأكبر وصولهم إلى البصرة

وعصيناه، وخذلنا الأصغر وعدلنا عنه فأقول أسلكوا سبيل أصحابكم

فينصرفون ظماء مظمئين مسودة وجوههم، لا يطعمون منه قطرة.

هزيمة جيش عائشة

ثم ترد علي المخدج برايته فأخذ بيده فإذا أخذت بيده اسود و جهه و رجفت قدماه إسكان عائشة وإرجاعها

وخفقت أحشاؤه ومن فعل فعله يتبعه، فأقول : بما خلفتموني في الثقلين بعدي؟ فيقولون: كذبنا الأكبر وعصيناه، وقاتلنا الأصغر وقتلناه فأقول : أسلكوا سبيل من أخبار عائشة وجملها أصحابكم، فينصرفون ظماء مظمئين مسودة وجوههم، لا يطعمون منه قطرة. الإمام في البصرة

ثم ترد علي راية أمير المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين، فأقوم فآخذ مشاهد من حرب الجمل

بيده فإذا أخذت بيده ابيض وجهه ووجوه أصحابه، فأقول: بما خلفتموني في الثقلين من بعدي قال : فيقولون: اتبعنا الأكبر وصدقناه، ووازرنا الأصغر شهداء مع الإمام ونصرناه، وقاتلنا معه. فأقول: ردوا رواء مرويين، فيشربون شربة لا يظمؤون بعدها أبداً، وجه إمامهم كالشمس الطالعة، ووجوه أصحابه كالقمر ليلة البدر وكأضواء نجم في السماء. ثم قال: ألستم تشهدون على ذلك قالوا: نعم قال: الكذب في حرب الجمل وأنا على ذلك من الشاهدين، قال يحيى وقال عباد إشهدوا علي بهذا عند الله من شعر حرب الجمل عز وجل أن أبا عبد الرحمن حدثنا بهذا، وقال أبو عبد الرحمن إشهدوا علي بهذا عند الله عز وجل أن الحارث بن حصيرة حدثني بهذا، وقال الحارث : إشهدوا الإمام واصل الفتوحات

من

خطب علي

الله

في

علي بهذا عند الله عز وجل أن صخر بن الحكم حدثني بهذا، وقال صخر بن الإمام ينقل العاصمة الحكم: إشهدوا علي هذا عند الله عز وجل أن حيان حدثني بهذا، وقال حيان

463

ص: 463

اشهدوا علي بهذا عند الله عز وجل أن الربيع بن جميل حدثني بهذا، وقال الربيع إشهدوا علي بهذا عند الله عز وجل أن مالك بن ضمرة حدثني بهذا، وقال مالك بن ضمرة: اشهدوا علي بهذا عند الله عز وجل أن أبا ذر الغفاري حدثني بهذا، وقال أبو ذر مثل ذلك وقال: قال رسول الله : حدثني به جبرئيل عن الله تبارك وتعالى).

علف

6 . وأمعن أبو موسى الأشعري في عدائه لأمير المؤمنين الله وحرف حديث النبي ا فواجهه عمار وشهد أنه من أهل ليلة العقبة الذين تآمروا لقت-ل رسول الله . وقد عزله الإمام الشالية وسماه سامري الأمة !

وقد اعترف أبو موسى على نفسه بأن النبي الله وصفه بأنه مُضِلّ! روى في مناقب آل أبي طالب (363/2) عن ابن مردويه بأسانيده : ( عن سويد بن غفلة أنه قال: كنت مع أبي موسى . موسى على شاطئ الفرات فقال : سمعت رسول الله يقول: إن بني إسرائيل اختلفوا فلم يزل الإختلاف بينهم حتى بعثوا حكمين ضالين ضل من اتبعهما، ولا تنفك أموركم تختلف حتى تبعثوا حكمين يضلان ويضل من تبعهما ! فقلت: أعيذك بالله أن تكون أحدهما ! قال: فخلع قميصه :فقال برأني الله من ذلك، كما برأني من قميصي). ونحوه في شرح النهج (507/13) .

وفي تاريخ اليعقوبي (190/2) فقال سويد لربما كان البلاء موكلاً بالمنطق . ولقيته بعد

التحكيم فقلت : إن الله إذا قضى أمراً لم يغالب! ومات أبو موسى في الكوفة سنة 42 وله من العمر 62 سنة (البلاذري: 201/1).

الحسن البصري سامري هذه الأمة أيضاً!

من قتال

.1. في الإحتجاج (1 / 250) : ( عن ابن عباس قال لما فرغ علي الله م--ن أهل البصرة وضع قتباً على قتب ثم صعد عليه فخطب، فحمد الله وأثنى عليه فقال: يا أهل البصرة ، يا أهل المؤتفكة يا أهل الداء العضال أتباع البهيمة، يا جند المرأة رغا فأجبتم، وعقر فهربتم ، ماءكم زعاق ودينكم نفاق، وأخلاقكم دقاق. ثم نزل يمشي

464

ص: 464

بعد فراغه من خطبته، فمشينا معه، فمر بالحسن البصري وهو يتوضأ فقال: يا حسن أسبغ الوضوء. فقال: يا أمير المؤمنين لقد قتلت بالأمس أناساً يشهدون إعداد عائشة لحرب علي أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، يصلون الخمس حركة عائشة إلى البصرة

ويسبغون الوضوء!

فقال له أمير المؤمنين عالية : قد كان ما رأيت فما منعك أن تعين علينا عدونا؟! وصول عائشة إلى البصرة فقال : والله لأصدقنك يا أمير المؤمنين لقد خرجت في أول يوم فاغتسلت حركة الإمام إلى البصرة و تحنطت وصببت عليَّ سلاحي، وأنا لا أشك في أن التخلف عن أم المؤمنين وصوله فيه إلى البصرة

عائشة هو الكفر ، فلما انتهيت إلى موضع من الخريبة ناداني مناد: يا حسن إلى أين! إرجع فإن القاتل والمقتول في النار! فرجعت ذَعِراً وجلست في بيتي، هزيمة جيش عائش---ة فلما كان في اليوم الثاني لم أشك أن التخلف عن أم المؤمنين عائشة هو الكفر، إسكان عائشة وإرجاعها فتحنطت وصببت علي سلاحي وخرجت أريد القتال حتى انتهيت إلى موضع من الخريبة فناداني مناد من خلفي يا حسن إلى أين مرة بعد أخرى، فإن القاتل من أخبار عائشة وجملها والمقتول في النار ! قال علي الله : صَدَقت ! أفتدري من ذلك المنادي؟ قال: لا. الإمام في البصرة قال الله : ذلك أخوك إبليس ! وصدقك أن القاتل والمقتول منهم في النار، فقال الحسن البصري: الآن عرفت يا أمير المؤمنين أن القوم هلكى.

ا

55

مشاهد من حرب الجمل

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

وعن أبي يحيى الواسطي قال: لما افتتح أمير المؤمنين الله اجتمع الناس عليه وفيهم الحسن البصري ومعه الألواح ، فكان كلما لفظ أمير المؤمنين الله بكلمة كتبها، فقال له أمير المؤمنين الله بأعلى صوته: ما تصنع ؟ فقال : نكتب آثاركم الكذب في حرب الجمل لنحدث بها ،بعدكم ، فقال أمير المؤمنين عليه : أما إن لكل قوم سامري ، وهذا من شعر حرب الجمل سامري هذه الأمة، أما إنه لا يقول لا مساس، ولكن يقول : لا قتال

29

الإمام له واصل الفتوحات

أقول: وهذا تناقض من الحسن البصري لأنه روى مناقشة الأحنف لعائشة وارتضاها، قال البيهقي في المحاسن والمساوي (35/1) عن الحسن البصري أن الأحنف الإمام ينقل العاصمة بن قيس قال لعائشة يوم الجمل : ( يا أم المؤمنين هل عهد إليك رسول الله هذا المسير؟

في

ص: 465

:قالت: اللهم لا . قال: فهل وجدته في شئ من كتاب الله جل ذكره. قالت: ما نقرأ إلا ما تقرأون. قال: فهل رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام استعان بشئ من نسائه إذا كان في قلة والمشركون في كثرة؟ قالت : اللهم لا . قال الأحنف: فإذا ما هو ذنبنا ؟ ! وهذا يتناقض مع قول الحسن: لم أشك أن التخلف عن أم المؤمنين عائشة هو الكفر !

2 . ورد وصف السامري عن أهل البيت الأبي موسى والحسن البصري ولغيرهما أيضاً، وأصل التسمية من تثبيطهم المسلمين عن نصرة أهل البيت عالي بحجة أنه قتال بين مسلمين. قال ابن ابي الحديد في شرح النهج (95/4): (ومما قيل عنه إنه يبغض عليا الله ويذمه، الحسن بن أبي الحسن البصري أبو سعيد، وروى عنه حماد سلمة أنه قال: لو كان علي يأكل الحشف بالمدينة لكان خيراً له مما دخل فيه. ورواه

عنه أنه كان من المخذلين عن نصرته.

بن

وروي عنه أن علياً الله رآه وهو يتوضأ للصلاة وكان ذا وسوسة، فصب على أعضائه ماء كثيراً فقال له : أرقت ماء كثيراً يا حسن، فقال: ما أراق أمير المؤمنين من دماء المسلمين أكثر ! قال: أو ساءك ذلك؟ قال: نعم، قال: فلا زلت مسوء. قالوا: فما زال الحسن عابساً قاطباً مهموماً، إلى أن مات.

فأما أصحابنا فإنهم يدفعون ذلك عنه وينكرونه ويقولون: إنه كان من محبي علي بن أبي طالب الله والمعظمين له. وروى أبو عمر بن عبد البر المحدث في كتابه المعروف بالإستيعاب في معرفة الصحاب، أن إنساناً سأل الحسن عن علي الله فقال: كان والله سهماً صائباً من مرامي الله على عدوه، ورباني هذه الأمة، وذا فضلها، وذا سابقتها، وذا قرابتها من رسول الله الله . لم يكن بالنؤمة عن أمر الله، ولا بالملومة في دين الله، ولا بالسروقة لمال الله ، أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة، ذلك علي بن أبي طالب يا لكع ! وروى الواقدي قال : سئل الحسن عن علي الله وكان يظن به الإنحراف عنه، ولم يكن كما يظن، فقال: ما أقول فيمن جمع الخصال الأربع: ائتمانه على براءة، وما قال

له الرسول في غزاة تبوك، فلو كان غير النبوة شئ يفوته لاستثناه، وقول النبي الثقلان كتاب الله وعترتي وإنه لم يؤمر عليه أمير قط، وقد أمرت الأمراء على غيره.

466

ص: 466

وروى أبان بن عياش، قال: سألت الحسن البصري عن علي الله فقال: ما

أقول فيه ! كانت له السابقة، والفضل والعلم والحكمة والفقه والرأي والصحبة إعداد عائشة لحرب علي والنجدة والبلاء والزهد والقضاء والقرابة، إن علياً كان في أمره علياً، رحم حركة عائشة إلى البصرة الله علياً، وصلى عليه ! فقلت يا أبا سعيد، أتقول صلى عليه لغير النبي ! :فقال ترحم على المسلمين إذا ذكروا، وصل على النبي وآله وعلى خير آله وصول عائشة إلى البصرة فقلت: أهو خير من حمزة وجعفر؟ قال: نعم، قلت وخير من فاطمة وابنيها ؟ حركة الإمام إلى البصرة :قال نعم والله إنه خير آل محمد كلهم، ومن يشك أنه خير منهم وقد قال وصوله إلى البصرة

رسول الله : وأبوهما خير منهما ! ولم يجر عليه إسم شرك، ولا شرب خمر،

وقد قال رسول الله له الفاطمة الله : زوجتك خير أمتي، فلو كان في أمته خير هزيمة جيش عائش---ة

منه لاستثناه، ولقد آخى رسول الله له بين أصحابه، فآخى بين علي ونفسه، إسكان عائشة وإرجاعها فرسول الله خير الناس نفساً وخيرهم أخاً. فقلت: يا أبا سعيد، فما هذا الذي

يقال عنك إنك قلته في علي ؟ فقال يا ابن أخي، أحقن دمي من هؤلاء الجبابرة، من أخبار عائشة وجملها ولولا ذلك لشالت بي الخشب) أي: لصلبوني على الأخشاب!

الإمام في البصرة

. كتم الحسن البصري حديث النبي الله في استخلاف على الله ، فقد قال مشاهد من حرب الجمل

الرازي في تفسيره (48/12) : ( روي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله بعثني شهداء مع الإمام الله

برسالته فضقت بها ذرعاً، وعرفت أن الناس يكذبوني [ واليهود والنصارى] وقريش يخونوني، فلما أنزل الله هذه الآية، زال الخوف بالكلية).

من

خطب علي

وقد حرَّف الرازي رواية البصري وزاد فيها اليهود والنصارى وأصلها كما في الكذب في حرب الجمل

الدر المنثور (289/2) : ( عن الحسن أن رسول الله (ص) قال: إن الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس مكذبي، فوعدني لأبلغن أو ليعذبني فأنزل من ش-ع-ر ح-رب الجمل يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ).

السلام

الإمام يواصل الفتوحات

فأضاف الرازي ( اليهود والنصارى من عنده ليُبعد الآية عن ولاية علي الإمام ينقل العاصمة

مع أن الخطر يومها لم يكن من اليهود والنصارى، بل من قريش خاصة !

467

ص: 467

الله اله

وكشف الإمام الباقر الله تحريف البصري لحديث النبي !

ففي دعائم الإسلام للقاضي المغربي (14/1) أن رجلاً قال له : ( يا ابن رسول الله إن الحسن البصري حدثنا أن رسول الله له ، قال : إن الله أرسلني برسالة فضاق بها صدري وخشيت أن يكذبني الناس فتواعدني إن لم أبلغها أن يعذبني ! قال له أبو جعفر الله : فهل حدثكم بالرسالة؟ قال: لا. قال: أما والله إنه ليعلم ما هي ولكنه كتمها متعمداً ! قال الرجل: يا ابن رسول الله جعلني الله فداك وما هي؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى أمر المؤمنين بالصلاة في كتابه، فلم يدروا ما الصلاة ولا كيف يصلون، فأمر الله عز وجل محمداً نبيه أن يبين لهم كيف يصلون، فأخبرهم بكل

ملا

ما افترض الله عليهم من الصلاة مفسراً . وأمر بالزكاة فلم يدروا ما هي ففسرها رسول الله هو أعلمهم بما يؤخذ من الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والزرع،

صله ولم يدع شيئاً مما فرض الله من الزكاة إلا فسره لأمته وبينه لهم. وفرض عليهم الصوم فلم يدروا ما الصوم ولا كيف يصومون ففسره لهم رسول الله وبين لهم ما يتقون في الصوم وكيف يصومون.

وأمر بالحج فأمر الله نبيه الله أن يفسر لهم كيف يحجون حتى أوضح لهم ذلك في سنته. وأمر الله عز وجل بالولاية فقال : إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ . ففرض الله ولاية ولاة الأمر فلم يدروا ما هي فأمر الله نبيه الله أن يفسر لهم ما الولاية مثلما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج ، فلما أتاه ذلك من الله عز وجل ضاق به رسول الله ذرعاً، وتخوف أن يرتدوا عن دينه وأن يكذبوه، فضاق صدره وراجع ربه فأوحى إليه : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فصدع بأمر الله وقام بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه يوم غدير خم، ونادى لذلك الصلاة جامعة وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب. وكانت الفرائض ينزل منها شئ بعد شي، تنزل الفريضة ثم تنزل الفريضة الأخرى وكانت الولاية آخر الفرائض ، فأنزل الله عز وجل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام ديناً. قال أبو جعفر الكلية :

468

ص: 468

يقول الله عز وجل : لا أنزل عليكم بعد هذه الفريضة فريضة، قد أكملت لكم هذه الفرائض. ونحوه شرح الأخبار (101/1، و: 276/2) .

إعداد عائشة لحرب علي

.4 . وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (20 / 10): (حضرت عند النقيب حركة عائشة إلى البصرة (10/20) أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي البصري في سنة إحدى عشرة وست مائة وصول عائشة إلى البصرة ببغداد وعنده ،جماعة، وأحدهم يقرأ في الأغاني لأبي الفرج، فمر ذكر المغيرة حركة الإمام إلى البصرة

بن شعبة وخاض القوم ، فذمه بعضهم وأثنى عليه بعضهم وأمسك عنه آخرون، فقال بعض فقهاء الشيعة ممن كان يشتغل بطرف من علم الكلام على وصوله إلى البصرة رأى الأشعري الواجب الكف والإمساك عن الصحابة، وعما شجر بينهم،

هزيمة جيش عائشة

فقد قال أبو المعالي الجويني: إن رسول الله نهى عن ذلك وقال : إياكم وما شجر بين صحابتي وقال دعوالي أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً إسكان عائشة وإرجاعها لما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، وقال: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، من أخبار عائشة وجملها :وقال خيركم القرن الذي أنا فيه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه.

الإمام في البصرة

وقد ورد في القرآن الثناء على الصحابة وعلى التابعين، وقال رسول الله له : وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم مشاهد من حرب الجمل وقد روى عن الحسن البصري أنه ذكر عنده الجمل وصفين فقال : تلك دماء شهداء مع الإمام الله

طهر الله منها أسيافنا، فلا نلطخ بها ألسنتنا. ثم إن تلك الأحوال قد غابت عنا وبعدت أخبارها على حقائقها، فلا يليق بنا أن نخوض فيها ، ولو كان واحد من خطب عليه من هؤلاء قد أخطأ لوجب أن يحفظ رسول الله الله فيه . ومن المروءة أن يحفظ

الكذب في حرب الجمل

رسول الله الله في عائشة زوجته ، وفي الزبير ابن عمته، وفي طلحة الذي وقاه بيده ثم ما الذي ألزمنا وأوجب علينا أن نلعن أحداً من المسلمين أو نبرأ منه ! من شعر حرب الجمل وأي ثواب في اللعنة والبراءة! إن الله تعالى لا يقول يوم القيامة للمكلف: لم لم الإمام واصل الفتوحات تلعن؟ بل قد يقول له: لم لعنت؟ ولو أن إنساناً عاش عمره كله لم يلعن إبليس لم الإمام ينقل العاصمة

يكن عاصياً ولا آثماً، وإذا جعل الإنسان عوض اللعنة استغفر الله كان خيراً له. ثم كيف يجوز للعامة أن تدخل أنفسها في أمور الخاصة، وأولئك قوم كانوا أمراء

469

ص: 469

هذه الأمة وقادتها، ونحن اليوم في طبقة سافلة جداً عنهم، فكيف يحسن بنا التعرض لذكرهم ! أليس يقبح من الرعية أن تخوض في دقائق أمور الملك وأحواله وشؤونه التي تجرى بينه وبين أهله وبني عمه ونسائه وسراريه وقد كان رسول الله صل اللهم صهراً لمعاوية وأخته أم حبيبة تحته، فالأدب أن تحفظ أم حبيبة وهي أم المؤمنين في أخيها. وكيف يجوز أن يلعن من جعل الله تعالى بينه وبين رسوله مودة! أليس المفسرون كلهم قالوا هذه الآية أنزلت في أبي سفيان وآله، وهي قوله تعالى : عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً. فكان ذلك مصاهرة رسول الله له أبا سفيان وتزويجه ابنته. على أن جميع ما تنقله الشيعة من الإختلاف بينهم والمشاجرة لم يثبت، وما كان القوم إلا كبني أم واحدة، ولم يتكدر باطن أحد منهم على صاحبه قط، ولا وقع بينهم اختلاف ولا نزاع

فقال أبو جعفر : قد كنت منذ أيام علّقت بخطي كلاماً وجدته لبعض الزيدية في هذا المعنى، نقضاً ورداً على أبي المعالي الجويني، فيما اختاره لنفسه من هذا الرأي، وأنا أخرجه إليكم لأستغني بتأمله عن الحديث على ما قاله هذا الفقيه، فإني أجد ألماً يمنعني من الإطالة في الحديث، لاسيما إذا خرج مخرج الجدل ومقاومة الخصوم. ثم أخرج من بين كتبه كر اساً قرأناه في ذلك المجلس واستحسنه الحاضرون، وأنا أذكر هاهنا خلاصته: قال : لولا أن الله تعالى أوجب معاداة أعدائه، كما أوجب موالاة أوليائه، وضيق على

المسلمين تركها إذا دل العقل عليها، أو صح الخبر عنها بقوله سبحانه: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ. وبقوله تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ . وبقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ولا جماع المسلمين على إن الله تعالى فرض عداوة أعدائه، وولاية أوليائه، وعلى أن البغض في الله واجب، والحب في الله واجب لما تعرضنا لمعاداة أحد من الناس في الدين ولا البراءة منه ولكانت عداوتنا للقوم تكلفاً. ولو ظننا إن الله عز وجل يعذرنا إذا قلنا: يا رب غاب أمرهم عنا، فلم يكن لخوضنا في أمر قد غاب عنا معنى لاعتمدنا على هذا العذر

470

ص: 470

و واليناهم، ولكنا نخاف أن يقول سبحانه لنا إن كان أمرهم قد غاب عن أبصاركم، فلم يغب عن قلوبكم وأسماعكم، قد أتتكم به الأخبار الصحيحة إعداد عائشة لحرب علي

م الله اليه

التي بمثلها ألزمتم أنفسكم الإقرار بالنبي وموالاة من صدقه، ومعاداة من

حركة عائشة إلى البصرة

عصاه وجحده، وأمرتم بتدبر القرآن وما جاء به الرسول، فهلا حذرتم من أن تكونوا من أهل هذه الآي--ة غدا: رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا! فأما وصول عائشة إلى البصرة لفظة اللعن فقد أمر الله تعالى بها وأوجبها، ألا ترى إلى قوله : أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ حركة الإمام إلى البصرة وَيَلْعَتُهُمُ اللَّاعِنُونَ، فهو إخبار معناه الأمر، كقوله: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، وصولهم إلى البصرة

وقد لعن الله تعالى العاصين بقوله : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ

وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، وقوله : إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وقوله: هزيمة جيش عائش---ة

مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِلُوا تَقتِيلاً، وقال الله تعالى لإبليس : وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ إسكان عائشة وإرجاعها

الدِّينِ. وقال: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا. فأما قول من يقول: أي ثواب في اللعن وإن الله تعالى لا يقول للمكلف لم لم من أخبار عائشة وجملها تلعن؟ بل قد يقول له: لم لعنت؟ وإنه لو جعل مكان لعن الله فلاناً، اللهم اغفر الإمام له في البصرة لي لكان خيراً له ، ولو أن إنساناً عاش عمره كله لم يلعن إبليس لم يؤاخذ بذلك،

مشاهد من حرب الجمل

من

خطب علي

فكلام جاهل لا يدري ما يقول: اللعن طاعة ويستحق عليها الثواب إذا فعلت على وجهها وهو أن يلعن مستحق اللعن الله وفي الله لا في العصبية والهوى، ألا شهداء مع الإمام ترى أن الشرع قد ورد بها في نفي الولد ونطق بها القرآن وهو أن يقول الزوج في الخامسة : وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. فلو لم يكن الله تعالى يريد أن يتلفظ عباده بهذه اللفظة وإنه قد تعبدهم بها، لما جعلها من معالم الشرع، ولما الكذب في حرب الجمل كررها في كثير من كتابه العزيز، ولما قال في حق القاتل : وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ، من شعر حرب الجمل وليس المراد من قوله ولعنه إلا الأمر لنا بأن نلعنه، ولو لم يكن المراد بها ذلك لكان لنا أن نلعنه لأن الله تعالى قد لعنه، أفيلعن الله تعالى إنساناً ولا يكون لنا الإمام واصل الفتوحات أن نلعنه ! هذا ما لا يسوغ في العقل، كما لا يجوز أن يمدح الله إنساناً إلا ولنا أن الإمام ينقل العاصمة نمدحه، ولا يذمه إلا ولنا أن نذمه، وقال تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرِمِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً

471

ص: 471

عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ، وقال: رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا . ، وقال عز وجل: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا. وكيف يقول القائل: إن الله تعالى لا يقول للمكلف لم لم تلعن؟ ألا يعلم هذا القائل أن الله تعالى أمر بولاية أوليائه وأمر بعداوة أعدائه، فكما يسأل عن التولي يسأل عن التبري! ألا ترى أن اليهودي إذا أسلم يطالب بان يقال له : تلفظ بكلمة الشهادتين، ثم قل: برئت من كل دين يخالف دين الإسلام، فلا بد من البراءة، لأن بها يتم العمل!

ألم يسمع هذا القائل قول الشاعر:

تود عدوي ثم تزعم أنني صديقك إن الرأي عنك لعازبُ

فمودة العدو خروج عن ولاية الولي ، وإذا بطلت المودة لم يبق إلا البراءة ، لأنه لا يجوز أن يكون الإنسان في درجة متوسطة مع أعداء الله تعالى وعصاته ، بألا يودهم ولا يبرأ منهم بإجماع المسلمين على نفي هذه الواسطة .

وأما قوله لو جعل عوض اللعنة استغفر الله لكان خيراً له، فإنه لو استغفر من غير أن يلعن أو يعتقد وجوب اللعن لما نفعه استغفاره ولا قبل منه، لأنه يكون عاصيا الله تعالى، مخالفاً أمره في إمساكه عمن أوجب الله تعالى عليه البراءة منه، وإظهار البراءة، والمصر على بعض المعاصي لاتقبل توبته واستغفاره عن البعض الآخر، وأما من يعيش عمره ولا يلعن إبليس، فإن كان لا يعتقد وجوب لعنه فهو كافر، وإن كان يعتقد وجوب لعنه ولا يلعنه فهو مخطئ، على أن الفرق بينه وبين ترك لعنة رؤوس الضلال في هذه الأمة كمعاوية والمغيرة وأمثالهما، إن أحداً من المسلمين لا يورث عنده الإمساك عن لعن إبليس شبهة في أمر إبليس، والإمساك عن لعن هؤلاء وأضرابهم يثير شبهة عند كثير من المسلمين في أمرهم، وتجنب ما يورث الشبهة في الدين واجب تركه، فلهذا لم يكن الإمساك عن لعن إبليس نظيراً للإمساك عن أمر هؤلاء. قال : ثم يقال للمخالفين: أرأيتم لو قال قائل : قد غاب عنا أمر يزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف، فليس ينبغي أن نخوض في قصتهما، ولا أن نلعنهما ونعاديهما ونبرأ منهما، هل كان هذا إلا كقولكم : قد غاب عنا أمر معاوية والمغيرة بن شعبة

472

ص: 472

وأضرابهما، فليس لخوضنا في قصتهم معنى !

وبعد، فكيف أدخلتم أيها العامة والحشوية وأهل الحديث أنفسكم في أمر عثمان إعداد عائشة لحرب علي وخضتم فيه، وقد غاب عنكم، وبرئتم من قتلته ولعنتموهم ! وكيف لم تحفظوا حركة عائشة إلى البصرة أبا بكر الصديق في محمد ابنه، فإنكم لعنتموه وفسقتموه! ولا حفظتم عائشة أم المؤمنين في أخيها محمد المذكور، ومنعتمونا أن نخوض وندخل أنفسنا في أمر وصول عائشة إلى البصرة علي والحسن والحسين ومعاوية الظالم له ولهما المتغلب على حقه وحقوقهما ! حركة الإمام إلى البصرة وكيف صار لعن ظالم عثمان من السنة عندكم ، ولعن ظالم علي والحسن والحسين وصوله فيه إلى البصرة

تكلفاً وكيف أدخلت العامة أنفسها في أمر عائشة وبرئت ممن نظر إليها، ومن القائل لها: يا حميراء، أو إنما هي حميراء ، ولعنته بكشفه سترها، ومنعتنا نحن عن هزيمة جيش عائشة الحديث في أمر ،فاطمة، وما جرى لها بعد وفاة أبيها !

إسكان عائشة وإرجاعها

فإن قلتم : إن بيت فاطمة إنما دخل، وسترها إنما كشف، حفظاً لنظام الإسلام، وكيلا ينتشر الأمر ويخرج قوم من المسلمين أعناقهم من ربقة الطاعة ولزوم من أخبار عائشة وجملها الجماعة. قيل لكم وكذلك ستر عائشة إنما كشف وهو دجها إنما هتك، لأنها الإمام في البصرة نشرت حبل الطاعة وشقت عصا المسلمين، وأراقت دماء المسلمين من قبل مشاهد من حرب الجمل

وصول علي بن أبي طالب الله إلى البصرة، وجرى لها مع عثمان بن حنيف

من

خطب علي

و حكيم بن جبلة ومن كان معهما من المسلمين الصالحين من القتل وسفك شهداء مع الإمام في الدماء ما تنطق به كتب التواريخ والسير ، فإذا جاز دخول بيت فاطمة لأمر لم يقع بعد ، جاز كشف ستر عائشة على ما قد وقع وتحقق ! فكيف صار هتك ستر عائشة من الكبائر التي يجب معها التخليد في النار، الكذب في حرب الجمل

والبراءة من فاعله، ومن أوكد عرى الايمان ، وصار كشف بيت فاطمة والدخول عليها منزلها وجمع حطب ببابها، وتهددها بالتحريق من أوكد عرى

الإمام يواصل الفتوحات

الدين، وأثبت دعائم الإسلام، ومما أعز الله به المسلمين وأطفأ به نار الفتنة

والحرمتان واحدة، والستران واحد.

وما نحب أن نقول لكم : إن حرمة فاطمة أعظم، ومكانها أرفع، وصيانتها

من شعر حرب الجمل

الإمام ينقل العاصمة

473

ص: 473

لأجل رسول الله له أولى، فإنها بضعة منه، وجزء من لحمه ودمه، وليست كالزوجة الأجنبية التي لا نسب بينها وبين الزوج، وإنما هي وصلة مستعارة، وعقد يجري مجرى إجارة المنفعة، وكما يملك رق الأمة بالبيع و الشراء ولهذا قال الفرضيون: أسباب التوارث ثلاثة : سبب ونسب وولاء، فالنسب القرابة، والسبب النكاح، والولاء: ولاء العتق فجعلوا النكاح خارجاً عن النسب، ولو كانت الزوجة ذات نسب لجعلوا الأقسام الثلاثة قسمين.

وكيف تكون عائشة أو غيرها في منزلة فاطمة، وقد أجمع المسلمون كلهم من يحبها

ومن لا يحبها منهم على أنها سيدة نساء العالمين ! قال: وكيف يلزمنا اليوم حفظ رسول الله له في زوجته، وحفظ أم حبيبة في أخيها، ولم تلزم الصحابة أنفسها حفظ رسول الله له في أهل بيته، ولا ألزمت الصحابة أنفسها حفظ رسول الله له في صهره وابن عمه ابن عفان، وقد قتلوهم ولعنوهم، ولقد كان كثير من الصحابة يلعن عثمان وهو خليفة، منهم عائشة كانت تقول: أقتلوا نعثلاً، لعن الله نعثلاً، ومنهم عبد الله بن مسعود، وقد لعن معاوية علي بن أبي طالب وابنيه حسناً وحسيناً وهم أحياء يرزقون بالعراق، وهو يلعنهم بالشام على المنابر، ويقنت عليهم في الصلوات، وقد لعن أبو بكر وعمر سعد بن عبادة وهو حي وبرئا منه، وأخرجاه من المدينة إلى الشام، ولعن عمر خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويرة، وما زال اللعن فاشياً في المسلمين إذا عرفوا من الإنسان معصية تقتضي اللعن والبراءة. قال : ولو كان هذا أمراً معتبراً وهو أن يحفظ زيد لأجل عمرو فلا يلعن، لوجب أن

تحفظ الصحابة في أولادهم، فلا يلعنوا لأجل آبائهم.).

الى آخر كلامه، وهو مفصل مليئ بالفوائد.

حسان بن ثابت يشبه الحسن البصري !

1 . عاش حسان بن ثابت مئة وعشرين سنة، نصفها في الجاهلية ونصفها في الإسلام. وهو أشهر شعراء النبي صل ، وقد دعا له النبي دعاء مشروطاً فقال: ( لن يزال

م الله الله

6

474

ص: 474

معك روح القدس ما ذببت عنا). (الكافي (102/8) .

قال المفيد في الإرشاد (176/1) في خبر الغدير: (ثم نزل وكان وقت إعداد عائشة لحرب علي الظهيرة فصلى ركعتين، ثم زالت الشمس فأذن مؤذنه لصلاة الفرض، حركة عائشة إلى البصرة فصلى بهم الظهر، وجلس له في خيمته، وأمر علياً الله أن يجلس في خيمة وصول عائشة إلى البصرة

له بإزائه، ثم أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً فيهنؤوه بالمقام،

ويسلموا عليه بإمرة المؤمنين، ففعل الناس ذلك كلهم، ثم أمر أزواجه وجميع حركة الإمام إلى البصرة

نساء المؤمنين معه أن يدخلن عليه، ويسلمن عليه بإمرة المؤمنين ففعلن. وصوله فيه إلى البصرة

وكان ممن أطنب في تهنئته بالمقام عمر بن الخطاب فأظهر له المسرة به وقال

هزيمة جيش عائشة

فيما قال: بخ بخ يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. وجاء حسان إلى رسول الله الله فقال له : يا رسول الله إئذن لي أن أقول في إسكان عائشة وإرجاعها

هذا المقام ما يرضاه الله فقال له : قل يا حسان على اسم الله فوقف على نشز من الأرض، وتطاول المسلمون لسماع كلامه، فأنشأ يقول:

يناديهم يوم الغدير نبيهم بخ-م وأسمع بالرسول مناديا

:وقال فمن مولاكم ووليكم فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت ولينا ولن تجدن منا لك اليوم عاصيا

فقال له: قم يا علي فإنني رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه فكونوا له أنصار صدق مواليا

وكن للذي عادى عليا معاديا

هناك دعا: اللهم وال وليه

من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة

مشاهد من حرب الجمل

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

فقال له رسول الله له : لاتزال ياحسان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا من شعر حرب الجمل

بلسانك. وإنما اشترط رسول الله له في الدعاء ل-ه ، لعلم-ه بعاقبة أمره في الإمام واصل الفتوحات الخلاف ، ولو علم سلامته في مستقبل الأحوال لدعاله على الإطلاق ، ومثل

ذلك ما اشترط الله تعالى في مدح أزواج النبي ولم يمدحهن بغير اشتراط الإمام ينقل العاصمة ، لعلمه أن منهن من يتغير بعد الحال عن الصلاح الذي يستحق عليه المدح

475

ص: 475

والإكرام ، فقال عز قائلاً: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ، ولم يجعلهن في ذلك حسب ما جعل أهل بيت النبي الله في محل الإكرام والمدحة، حيث بذلوا قوتهم للمسكين واليتيم والأسير، فأنزل سبحانه وتعالى في علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين ع وقد آثروا على أنفسهم مع الخصاصة التي كانت بهم، فقال جل قائلاً : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا . إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبَّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا . فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا

. وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا . فقطع لهم بالجزاء ، ولم يشترط لهم كما اشترط لغيرهم ، العلمه باختلاف الأحوال.

2 . نظم حسان القصائد في مدح علي الله ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم نصبه إماماً وخليفة

ذلك لم يبايع علياً الله ، ووقف مع خصومه وأعدائه.

بعده، ومع

قال المفيد في الإرشاد (244/1): (ومن كلامه الثلة حين تخلف عن بيعته: عبدالله بن عمر بن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وحسان بن ثابت، وأسامة بن زيد، ما رواه الشعبي قال: لما اعتزل سعد ومن سميناه، أمير المؤمنين الله وتوقفوا عن بيعته حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، وإنما الخيار إلى الناس قبل أن يبايعوا، فإذا بايعوا فلا خيار لهم، وإن على الإمام الإستقامة، وعلى الرعية التسليم، وهذه بيعة عامة، من رغب عنها رغب عن دين الإسلام واتبع غير سبيل أهله، ولم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحداً، وإني أريدكم الله، وأنتم تريدونني لأنفسكم، وأيم الله لأنصحن للخصم، ولأنصفن المظلوم. وقد بلغني عن سعد وابن مسلمة وأسامة وعبدالله و حسان بن ثابت أمور كرهتها، والحق بيني وبينهم). وقال المفيد في كتاب الجمل / 45 : ( فقال لهم أمير المؤمنين عالية : ليس كل مفتون معاتب، ألستم على بيعتي؟ قالوا: بلى. قال إنصرفوا فسيغنيني الله عنكم فاعترفوا له بالبيعة، وأقاموا في تأخرهم عنه عذراً لم يقبله منهم، وأخبر أنهم بتركهم الجهاد

476

ص: 476

مفتنون، ولم ير الإنكار عليهم في الحال بأكثر مما أبداه.

وقال الطبري (452/3) : (لما قتل عثمان بايعت الأنصار علياً إلا نفيراً يسيراً، إعداد عائشة لحرب علي منهم حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري، حركة عائشة إلى البصرة

الله

و محمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير وزيد بن ثابت ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة، كانوا عثمانية فقال رجل لعبد الله بن حسن كيف أبي وصول عائشة إلى البصرة هؤلاء بيعة علي وكانوا عثمانية؟ قال: أما حسان فكان شاعراً لا يبالي ما يصنع ! حركة الإمام إلى البصرة وأما زيد بن ثابت فولاه عثمان الديوان وبيت المال فلما حصر عثمان قال: يا معشر وصولهم إلى البصرة

الأنصار كونوا أنصار الله مرتين، فقال أبو أيوب: ما تنصره إلا أنه أكثر لك من العضدان! فأما كعب بن مالك فاستعمله على صدقة مزينة وترك ما أخذ منهم له! هزيمة جيش عائشة :أقول وصف عبد الله بن الحسن راوي حديث الطبري لحسان بأنه شاعر لا إسكان عائشة وإرجاعها

يبالي ما يصنع ! تحليل دقيق صادق لشخصية حسان فهو شاعر كان يهيم في وادي النبي فكان مؤيداً بالروح القدس، وبعده صار يهيم في كل وادٍ، ففقد التأييد من أخبار عائشة وجملها الرباني. وسبب هذا الإنخفاض في شخصيته أنه لا يجاهد نفسه عن هواها، ويكفي الإمام في البصرة أن تعرف من صفاته الجبن الذريع الذي تسخر منه النساء والأطفال.

عن

مشاهد من حرب الجمل

. وقد اشتهر حسان بالجبن وضُرب به المثل، قالت صفية عمة النبي الله شهداء مع الإمام الله

أيام حرب الخندق : ( كنا مع حسان بن ثابت في حصن فارع والنبي بالخندق، فإذا يهودي يطوف بالحصن، فخفنا أن يدل على عورتنا، فقلت لحسان لو نزلت إلى هذا اليهودي فإني أخاف إن يدل على عورتنا، قال: يا بنت الكذب في حرب الجمل

من

خطب علي

عبد المطلب لقد علمت ما أنا بصاحب هذا ! قالت: فتحزمت ثم نزلت وأخذت عموداً وقتلته به، ثم قلت الحسان: أخرج فاسلبه. قال: لا حاجة لي في سلبه) من شعر حرب الجمل

الكنى والألقاب للقمي: 239/2) .

الإمام يواصل الفتوحات

4 . كان عثمان يعطي حساناً ويحرم الأنصار ، فكان حسان عثمانياً، وقال في الإمام ينقل العاصمة

مقتله شعراً كأنه يتهم عليا الله . قال المفيد في كتاب الجمل /112 : (وأما شعر

477

ص: 477

حسان بن ثابت وما تضمنه من التعريض على أمير المؤمنين السلام :

وليت شعري فليت الطير تخبرني ما كان بين علي وابن عفانا

ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا

ليسمعن وشيكاً في ديارهم الله أكبريا ثارات عثمانا فهو لعمري قذف بدم عثمان ، فلم يكن قوله حجة لنصغي إليه ، ولا كان عدلاً

فتقبل شهادته ... وفي رواية ابن الأعثم في الفتوح (432/2):

(من سره الموت صرفاً لا مزاج له فليأت مأدبة في دار عثمان-ا

مستشعري حلق الماذي قد سفعت قبل المخاطم بيض زان أبدانا رضیت حقاً بأهل الشام نافرة وبالأمير وبالإخوان إخوانا

إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا ما دمت حياً وما سميت حسانا

يا ليت شعري وليت الطير تخبرني ما كان شأن علي وابن عفانا

لتسمعن وشيكاً في دياركم خيلاً تكدس تحت النخع فرسانا) وقال ابن الأثير (أسد الغابة :384/3) : ( وزاد فيها بعض أهل الشام أبياتاً لا حاجة إلى ذكرها ومنها: يا ليت شعري وليت الطير تخبرني . ما كان بين علي وابن عفانا .

وإنما زادوا فيها تحريضاً لأهل الشام على قتال علي، ليقوى ظنهم أنه هو قتله)!

5 . ومن العجيب أنه وقف مع عائشة وطلحة والزبير، وكان يحملهم دم عثمان ويذمهم، وقد اشتهر قوله في الزبير ، وكان العوام أبو الزبير رجلاً من القبط من أهل مصر مملوكاً لخويلد اشتراه من مصر، وإنما سمي العوام لأنه يعوم في نيل مصر ويخرج ما يغرق فيه من متاع، واشتراه خويلد فنزل بمكة، ثم إن خويلداً تبناه وشرط عليه إن هو جنى عليه جناية رده في الرق. وكان يقال له العوام بن خویلد، وقال حسان بن ثابت يهجو آل الزبير بن العوام

478

ص: 478

بني

أسد ما بال آل خويلدٍ يحنون شوقاً كل يوم إلى القِبْطِ

إذا ذكرت هيفاء حنوا لذكرها وللرمث المقرون والسمك الرّقط

أحمرا بني العوام إن خويلداً غداة تبناه ليوثق في الشرط

بأنك إن تجني على جناية أردك عبداً للنهايا وللقبط

الدرجات الرفيعة / 361) .

إعداد عائشة لحرب علي

حركة عائشة إلى البصرة

وصول عائشة إلى البصرة

حركة الإمام له إلى البصرة

.. الحسان أخ اسمه شداد بن أوس يختلف عنه، فلم يكن جباناً ولا نافق بني وصوله فيه إلى البصرة أمية، روى الطبراني (289/7) ووثقوا رجاله : ( أنه دخل على معاوية وهو جالس

وعمرو بن العاص على فراشه فجلس شداد بينهما وقال: هل تدريان ما يجلسني هزيمة جيش عائشة بينكما؟ إني سمعت رسول الله له يقول : إذا رأيتموهما جميعاً ففرقوا بينهما، فوالله إسكان عائشة وإرجاعها ما اجتمعا إلا على غدرة، فأحببت أن أفرق بينكما ) ! .

من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة

مشاهد من حرب الجمل

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

الإمام يواصل الفتوحات

الإمام ينقل العاصمة

479

الفصل الخامس والستون

ص: 479

مختارات من شعر حرب الجمل

القصيدة المذهبة للسيد الحميري المتوفى سنة 173

تقدم في فصول الكتاب من شعر حرب الجمل، وأبيات من قصيدة الأزري، مطلعها:

يوم جاءت تقود بالجمل العسكر لا تتقي ركوب خطاها فألحت كلاب ح-وأب نبح-اً فاستدلّت به على حوباها أي أم للمؤمنين أساءت ببنيها وفرقتهم سواها

وأبيات من أرجوزة أمير الشعراء أحمد شوقي ، أولها:

يا جبلاً تأبى الجبال ما حمل ماذا رَمَتْ عليك ربِّةُ الجَمل

أثأر عثمان الذي شجاها أم غُصَّةٌ لم يُنتزع شجاها

ذلك فتق لم يكن بالبال كيد النساء موهن الجبال وأشهر القصائد القديمة في حرب الجمل ومدح أمير المؤمنين السلة بائية الحميري هلا وقفت على المكان المعشب بين الطويلع فاللوى من كبكب

فنجاد توضح فالنضائد فالشظا فرياض سنحة فالنقا من جونب

طال الثواء على منازل أقفرت من بعد هند والرباب وزينب

أدم حللن به-ا وه-ن أوانش كالعين ترعى في مسالك أهضب

ص: 480

يضحكن من طرب بهن تبسماً عن كل أبيض ذي غروب أشنب

حور مدامعها كأن ثغورها وهنا صوافي لؤلؤ لم تثقب

أنسٌ حللن بها نواعم کالدمی من بين محصنة وبكر خرعب

لعساء واضحة الجبين أسيلة وَعْتُ المؤزر جثلة المتنقب

كنا وه--ن بنضرة وغضارة في خفض عيش راغد مستعذب

أيام لي في بطن طيبة منزل عن ريب دهر خائن متقلب

فعفا وصار إلى البلا بعد البنا وأزال ذلك صرف دهر قلب

ولقد حلفت وقلت قولاً صادقاً بالله لم آثم ولم أتريب

من حمير أهل السماحة والندى وقريش الغرّ الكرام وتغلب

إعداد عائشة لحرب علي

حركة عائشة إلى البصرة

وصول عائشة إلى البصرة

حركة الإمام إلى البصرة

وصوله إلى البصرة

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

من أخبار عائشة وجملها

أين التطرب بالولاء وبالهوى أإلى الكواذب من بروق المخلب

أإلى أمية أم إلى شيع التي جاءت على الجمل الخِدَتِ الشَّوْقب الإمام في البصرة تهوي من البلد الحرام فنبهت بعد الهدوّ كلاب أهل الحوأب مشاهد من حرب الجمل يحدو الزبير بها وطلحة عسكراً يا للرجال لرأي أمّ مشع يا للرجال لرأي أم قادها ذئبان يكتنفانها في أذوب

مشجب

ذئبان قادهما الشقاء وقادها للحين فاقتحما بها في منشب

ورطة لحجابها فتحملت منها على قتب بإثم محقب

أم تدب إلى ابنها ووليها بالمؤذيات له دبيب العقرب

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

أما الزبير فحاص حين بدت له جأواء تبرق في الحديد الأشهب الإمام في واصل الفتوحات

حتى إذا أمن الحتوف وتحته عاري النواهق ذو نجاء ملهب الإمام ينقل العاصمة

أثوى ابن جرموز عمیر شلوه في القاع منعفرا كشلو التولب

481

ص: 481

واغتر طلحة عند مختلف القنا عبل الذراع شديد أصل المنكب

فاختل حب-ة قلبه بمذلق ريان من دم جوفه المتصبب

في مارقين من الجماعة فارقوا باب الهدى وحيا الربيع المخصب

خير البرية بعد أحمد من له مني الهوى والي بنيه تطربي

أمسي وأصبح معصم-ا م-ني ل--ه بهوى وحبل ولاية لم يقصب

ونصيحة خلص الصفاء له بها مني وشاهد نصرة لم يعزب

ردت عليه الشمس لما فاته وقت الصلاة وقد دنت للمغرب

حتى تبلج نورها في وقتها للعصر ثم هوت هوي الكوكب

وعليه قد حبست ببابل مرة أخرى وما حبست لخلق مغرب

إلا ليوشع أو ل--ه م-ن بع--ده ولردها تأويل أمر معجب

ولقد سرى فيما يسير بليلة بعد العشاء بكربلا في موكب

تى أتى متبتلا في قائم الق قواعده بقاع مجدب

تأتيه ليس بحيث تلقى عامرا غير الوحوش وغير أصلع أشيب

في مدمج زلق أش-م كأنه حلقوم أبيض ضيق مستصعب

فدنا فصاح به فأشرف ماثلا كالنسر فوق شظية من مرقب

هل قرب قائمك الذي بوئته ماء يصاب فقال ما من مشرب

إلا بغاية فرسخين ومن لنا بالماء بين نقا وقي سبسب

فثنى الأعنة نحو وعث فاجتلى ملساء تبرق كاللجين المذهب

قال اقلبوها إنكم إن تقلبوا ترووا ولا تروون إن لم تقلب

فاعصو صبوا في قلعها فتمنعت منهم تمنع صعبة لم تركب

482

ص: 482

حتى إذا أعيته-م أهوى لها کفامتی ترد المغالب تغلب

فكأنها كرة بكف حزور عبل الذراع رحابها في ملعب

فسقاهم من تحتها متسلسلا عذبا يزيد على الألذ الأعذب

حتى إذا شربوا جميعا ردها ومضى فخلت مكانها لم يقرب

إعداد عائشة لحرب علي

حركة عائشة إلى البصرة

وصول عائشة إلى البصرة

أعني ابن فاطمة الوصي ومن يقل في فضله وفعاله لم يكذب حركة الإمام إلى البصرة

ليست ببالغة عشير عشير ما قد كان أعطيه مقالة مطنب وصوله إلى البصرة

صهر النبي وجاره في مسجد طهر بطيبة للرسول مطيب

سيان فيه عليه غير مذمم ممشاه إن جنبا وإن لم يجنب

وسرى بمكة حين بات مبيته ومضى بروعة خائف مترقب

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

من أخبار عائشة وجملها

خير البرية هاربا من شرها بالليل مكتتما ولم يستصحب

باتوا وبات على الفراش ملفعا فيرون أن محمدا لم يذهب الإمام في البصرة

حتى إذا طلع الشميط كأنه في الليل صفحة خد أدهم مغرب مشاهد من حرب الجمل ثاروا لأخذ أخي الفارش فصادفت غير الذي طلبت أكف الخيب شهداء مع الإمام الله

فوقاه بادرة الحتوف بنفسه حذرا عليه من العدو المجلب

حتى تغيب عنهم في مدخل صلى الإله عليه من متغيب

وجزاه خير جزاء مرسل أمة أدى رسالته ولم يتهيب

فتراجعوا لما رأوه وعاينوا

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

أسد الإله مجالدا في منهب

قالوا اطلبوه فوجهوا من راكب في مبتغاه وطالب لم يركب الإمام في واصل الفتوحات

حتى إذا قصدوا لباب مغاره ألفوا عليه نسيج غزل العنكب الإمام ينقل العاصمة

صنع الإله له فقال فريقهم ما فى المغار لطالب من مطلب

483

ص: 483

ميلوا وصدهم المليك ومن يرد عنه الدفاع مليكه لا يعطب

حتى إذا أمن العيون رم-ت ب-ه خوص الركاب إلى مدينة يثرب

فاحتل دار كرامة في معشر آووه في سعة المحل الأرحب

وله بخيبر إذ دعاه لراية ردت عليه هناك أكرم منق-ب

إذ جاء حاملها فأقبل متعباً يهوي بها العدوي أو كالمتعب يهوي بها وفتى اليهود يشله كالثور ولى من لواحق أكلب غضب النبي لها فأنبه به-ا ودعا أخا ثقة لكهل منجب رجلاً كلا طرفي--ه م--ن س--ام وم-ا حامٍ له بأب ولا بأبي أب

من لا يفر ولا يرى في نجدة إلا وصارمه خضيب المضرب

فمشى بها قبل اليهود مصمماً يرجو الشهادة لا كمشي الأنكب تهتز في يمني يدي متعرض للموت أروع في الكريهة محرب

في فيلق فيه السوابغ والقنا والبيض تلمع كالحريق الملهب

والمشرفية في الأكف كأنها لمع البروق بعارض متحلب

وذووا البصائر فوق كل مقلص نهد المراكل ذي سلهب

حتى إذا دن-ت الأس-نة منه-م ورموا فنالهم سهام المقنب

شدوا عليه لير جلوه فردهم عنه باسمر مستقيم الثعلب

ومضى فاقبل مرحب متذمرا بالسيف يخطر كالهزبر المغضب

فتخالسا مهج النفوس فاقلعا عن جري أحمر سائل من مرحب

فهوى بمختلف القنا متجدلا ودم الجبين بخده المتترب

أجلي فوارسه وأجلي رجله عن مقعص بدمائه متخضب

484

ص: 484

فكأن زوره العواكف حوله من بين خامعة ونس-ر أهدب

شعث الغامضة دعوا لوليمة أو ياسرون تخالسوا في منهب فاسأل فأنك سوف تخبر عنهم وعن ابن فاطمة الأغر الأغلب

وعن ابن عبدالله وقبله وعن الوليد وعن أبيه الصقعب

إعداد عائشة لحرب علي

حركة عائشة إلى البصرة

وصول عائشة إلى البصرة

وبني قريظة ي--وم ف-رق جمعهم من هاربين وما لهم من مهرب حركة الإمام له إلى البصرة وموائلين إلى أزل ممن---ع راسي القواعد مشمخر حوشب وصوله إلى البصرة

رد الخيول عليهم فتحصنوا من بعد أرعن جحفل متحزب

إن الضباع متى تحس بنبأة من صوت اشوس تقشعر وتهرب فدعوا ليمضي حكم أحمد فيهم حكم العزيز على الذليل المذنب

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

من أخبار عائشة وجملها

فرضوا بآخر كان أقرب منهم دارا فمتوا بالجوار الأقرب

قالوا الجوار من الكريم بمنزل يجري لديه كنسبة المتنسب الإمام في البصرة

فقضى بما رضي الإله له-م ب-ه بالحرب والقتل الملح المخرب مشاهد من حرب الجمل

قتل الكهول وكل أمرد منهم وسبی عقائل بدنا كالربرب

وقضى عقارهم لكل مهاجر دون الأولى نصروا ولم يتهيب

وبخمَّ إذ قال الإله بعزمة قم یا محمد بالولاية فاخطب

وانصب أبا حسن لقومك أنه هاد وما بلغت إن لم تنصب

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

لهم فبين مصدق ومكذب

فدعاه ثم دعاهم فاقامه

جعل الولاية بعده لمهذب ما كان يجعلها لغير مهذب

تلا بچو

وله مناقب لا ترام متى يرد

الإمام في واصل الفتوحات

ساع تناول بعضها بتذبذب الإمام ينقل العاصمة

أنا ندين بحب آل محمد دينا ومن يحببهم يستوجب

485

ص: 485

الله

منا المودة والولاء ومن يرد بدلا بآل محمد لا يحبب

ومتى يمت يرد الجحيم ولا يرد حوض الرسول وإن يرده يضرب

ضرب المحاذر أن تعر ركابه بالسوط سالفة البعير الأجرب وكأن قلبي حين يذكر أحمداً ووصي أحم-د ن-ي--ط م--ن ذي مخلب

بذرى القوادم من جناح مصعد في الجو أو بذرى جناح مصوب

حتى يكاد من النزاع إليهما يفري الحجاب عن الضلوع الصلب

هبةٌ وما يهب الإله لعبده يزدد ومهما لا يهب لا يوهب

يمحو ويثبت ما يشاء وعنده علم الكتاب وعلم ما لم يكتب

(ديوان السيد الحميري / 25 ، وأعيان الشيعة : 554/1)

أقول : سميت القصيدة المذهبة والذهبية، وقد شرحها الشريف المرتضى في رسالة طبعت في مصر، كما طبعت ضمن رسائل الشريف المرتضى (52/4) وقال في أولها بعد الحمد والصلاة سأل الأستاذ الفاضل أبو الحسن علي بن شاه فيروز أدام عزه، تفسير قصيدة أبي هاشم إسماعيل بن محمد الحميري، الملقب بالسيد رضي الله عنه، البائية التي أولها: هلا وقفت على المكان المعشب، وإيضاح معانيها ومشكل ألفاظها . وأنا أجيب إلى ذلك على ضيق وقتي وتقسيم فكري وكثرة قواطعي. ومن الله أستمد المعونة والتوفيق.

6

وقال في الذريعة (46/10) : (وعليها شروح، مثل شرح تاج العلى العلوي، وشرح

السيد الشريف المرتضى علم الهدى المطبوع بمصر. وقال في الذريعة (9/14): (شرح قصيدة الحميري البائية للعلامة الحافظ النسابة الواعظ، الشاعر الأشرف بن الأغر بن هاشم، المعروف بتاج العلى العلوي الحسيني المولود بالرطبة سنة 482 ، والمتوفى سنة 610 ، حكاه الصفدي في نكت الهميان عن تلميذ الشارح، وهو يحيى بن أبي طي في تاريخه.

486

ص: 486

وفي منتهى المقال (90/2) : (وقيل لأبي عبيدة من أشعر الناس؟ قال: من شبه رجلاً : بريح عاد، يريد قوله: إذا أتى معشراً يوماً أنامهم. إنامة الريح في تدميرها عادا إعداد عائشة لحرب علي وقال بشار : لولا أن هذا الرجل شغل عنا بمدح بني هاشم، لأتعبنا ! حركة عائشة إلى البصرة

وسمع مروان بن أبي حفصة القصيدة المذهبة فقال لكل بيت سبحان الله ما

أعجب هذا الكلام وقال الثوري: لو قرئت القصيدة التي فيها: إن يوم التطهير وصول عائشة إلى البصرة يوم عظيم على المنبر (يقصد منبر النبي) ما كان بذلك بأس..

حركة الإمام إلى البصرة

وكان الأصمعي يقول : لولا أنه يسب الخلفاء في شعره لقلت إنه سيد الشعراء. وصوله فيه إلى البصرة

وكانت الأشراف والأمراء تبالغ في إكرامه ، حتى أن المنصور مع اشتهاره

بالنصب عزل سوار عن القضاء، لما رد شهادته وقذفه بالرفض).

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

وفي أعيان الشيعة (406/3) : (قال بعضهم : جمعت من شعره ألفين ومائتي قصيدة وزعمت أنه لم يذهب علي منه شئ فبينا أنا ذات يوم أنشد شعراً فقلت: لمن من أخبار عائشة وجملها هذا؟ قالوا: للسيد الحميري، فقلت في نفسي ما أراني في شئ بعد الذي جمعته. الإمام في البصرة

وذكر ابن المعتز في طبقات الشعراء أنه رئي حمال في بغداد مثقل، فسئل عن مشاهد من حرب الجمل

حمله فقال: ميميات السيد. وقيل له: لم لا تقول شعراً فيه غريب؟ فقال: أقول ما يفهمه الصغير والكبير، ولا يحتاج إلى التفسير، وأنشأ: أيا رب إني لم أرد بالذي ب-ه مدحت علياً غير وجهك فارحم).

وقال السيد الحميري (مناقب آل أبي طالب : 335/2) :

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

جاءت مع الأشقين في هودج ترجي إلى البصرة أجنادها من شعر حرب الجمل كأنها في فعله---ا ه--رةٌ تريد أن تأكل أولاده----ا

وقال الأحنف بن قيس:

حجابك أخفى للذي تسترينه وصدرك أوعى للذي لا أقولها

فلا تسلكن الوعر صعباً محاله فتغبر من سحب الملاء ذيولها

الإمام في واصل الفتوحات

الإمام ينقل العاصمة

487

ص: 487

وقال رجل من بني سعد (مناقب آل أبي طالب: 339/2) :

صنتم حلائلكم وقد تم أمكم هذا لعمرك قلة الإنصاف

أمرت بحر ذيولها في بيتها فَهَوَتْ تشق البيد بالإيجاف

عرضاً يقاتل دونها أبناؤها بالنبل والخطي والأسياف

وقال السيد الحميري:

وبيعة ظاهر بايعتموها على الإسلام ثم نقضتموها

وقد قال الإله لهن قَرنا فما قرت ولا أقررتموها

يسوق لها البعير أبو حبيب لحين أبي---ه إذ سيرتموها

وقال كعب بن سور الأزدي (مناقب آل أبي طالب:343/2) :

يا معشر الناس عليكم أمكم فإنها صلاتكم وصومكم

والحرمة العظمى التي تعمكم لات لا تفضحوا اليوم فداكم قومكم

وفي مروج الذهب (369/2) : ( وخرجت امرأة من عبد القيس تطوف في القتلى ، فوجدت ابنين لها قد قتلا ، وقد كان قتل زوجها وأخوان لها فيمن قتل قبل مجيء علي البصرة ، فأنشأت تقول:

شهدت الحروب فشيبنني فلم أر يوماً كيوم الجمل أض-ر ع-لى م-ؤم--ن فتنةً وأقتله لشجاع بط----ل

فليت الظعينة في بيتها وليتك عسكر لم ترتحل

وقال السيد الحميري (مناقب آل أبي طالب : 336/2) :

أعائش ما دعاك إلى قتال ال- وصي وم-ا علي-ه تنقمينا ألم يعهد إليك الله ألا تُرَي أبداً من المتبرجينا

وأن تُرخي الحجاب وأن تقري ولا تتبرجي للناظرينا

488

ص: 488

وقال لك النبي أي-ا حميرا سيبدو منك فعل الحاسدينا

وقال ستنبحين كلاب قوم من الأعراب والمتعربينا

وقال ستركبين على خِ-دَتٍ

عسكراً فتقاتلينا

-می

فخنت محمداً في أقرب-ي-ه ولم تَرْعَي له القول الوضينا

وقال غيره:

وأقبلت في بقايا السيف يقدمها إلى الخريبة شيخاها المضلان

يقودها عسكر حتى إذا قربت وحللت رحلها في قيس غيلان ونبحت أكلباً بالحوأب اذكرت فنادت الويل لي والعول رُدَّاني

إعداد عائشة لحرب علي

حركة عائشة إلى البصرة

وصول عائشة إلى البصرة

حركة الإمام له إلى البصرة

وصولهم إلى البصرة

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

یا طلح إن رسول الله خبرني بأن س-ي-ري هذا سير عدوان

وإنني لعلي في-ه ظالم-ة ویا زبي---ر أقي-لاني أقي-لاني من أخبار عائشة وجملها فأقسما قسماً بالله أنهما قد خلفا الماء خلف المنزل الثاني الإمام في البصرة

وطأطأت رأسها عمد أوقد علمت بأن أحمد لم يخبر ببهتان مشاهد من حرب الجمل

وقال حبيب بن يساف الأنصاري(مناقب آل أبي طالب: 338/2) : أبا حسن أيقظت من كان نائماً وما كان من يدعى إلى الحق يتبع

وإن رجالاً بايعوك وخالفوا

هواك وأجروا في الضلال وضيعوا

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

وطلحة فيها والزبير قرينه وليس لما لا يدفع الله مدفع الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

ننعي ابن عفان بأطراف الأسل

ومن الأراجيز المحفوظة يوم الجمل قول بعضهم (شرح النهج 253/1) :

نحن بنو ضبة أصحاب الجمل ننازل الموت إذا الموت نزل

ردوا علينا شيخنا ثم بجل

الإمام في واصل الفتوحات

الإمام ينقل العاصمة

489

ص: 489

الموت أحلى عندنا من العسل لا عار في الموت إذا خان الأجل

إن علياً هو من شر البدل إن تعدلوا بشيخنا لا يعتدل أين الوهاد وشماريخ القلل

فأجابه رجل من عسكر الكوفة ، من أصحاب أمير المؤمنين الله :

نحن قتلنا نعثلاً فيمن قتل أكثر من أكثر فيه أو أقل

أنى يردُّ نعثل وق----د قحل نحن ضربنا وسطه حتى انجدل

لحكمه حكم الطواغيت الأول آثر بالق وجافي في العمل

فأبدل الله به خیر بدل إني امرؤ مستقدم غير وكل

مشمر للحرب معروف بطل

ومن الرجز المشهور المقول يوم الجمل ، قاله أهل البصرة: يا أمنا عائش لا تراعي كل بنيك بطل المصاع

ينعى ابن عفان إليك ناعي كعب بن سور كاشف القناع

فارضي بنصر السيد المطاع والأزد فيها كرم الطباع وخرج من أهل البصرة شيخ صبيح الوجه نبيل يحض الناس على الحرب ، ويقول: يا معشر الأزد عليكم أمكم فإنها صلاتكم وصومكم

والحرمة العظمى التي تعمكم فأحضروها جدكم وحزمكم

لا يغلبن سم العدو سمكم إن العدو إن علاكم زمكم

وخصكم بجوره وعمكم لا تفضحوا اليوم فداكم قومكم قال المدائني والواقدي: هذا الرجز يصدق الرواية أن الزبير وطلحة قاما في الناس فقالا: إن علياً إن يظفر فهو فناؤكم يا أهل البصرة ، فاحموا حقيقتكم ، فإنه لا يبقي حرمة إلا انتهكها ولا حرياً إلا هتك-ه ولا ذرية إلا قتلها ولا ذوات خدر إلا سباهن ، فقاتلوا

490

ص: 490

مقاتلة من يحمي عن حريمه ، ويختار الموت على الفضيحة يراها في أهله

وكان عوف بن قطن الضبي ينادي: ليس لعثمان ثأر إلا علي بن أبي طالب وولده، إعداد عائشة لحرب علي

فأخذ خطام الجمل وقال:

يا أم يا أم خلامني الوطن لا أبتغي القبر ولا أبغي الكفن

من هاهنا محشر عوف بن قطن إن فاتنا اليوم علي فالغبن

أو فاتنا ابناه حسين وحسن إذاً أمت بطول همّ وحَزَنْ

حركة عائشة إلى البصرة

وصول عائشة إلى البصرة

حركة الإمام له إلى البصرة

ثم تقدم ، فضرب بسيفه حتى قتل . وتناول عبد الله بن أبزى خطام الجمل قال: وصوله فيه إلى البصرة

أضربهم ولا أرى أبا حسن ها إن هذا حزن من الحزن هزيمة جيش عائشة

فشد عليه علي أمير المؤمنين بالرمح فقتله وقال : قد رأيت أبا حسن ، فكيف رأيته!

وترك الرمح فيه . وقال شاب من بني ضبة مُعَلَّم ، من عسكر عائشة: إسكان عائشة وإرجاعها نحن بنو ضبة أع-داء ع-لي ذاك الذي يعرف قدماً بالوصي من أخبار عائشة وجملها

وفارس الخيل على عهد النبي ما أنا عن فضل علي بالعمي الإمام في البصرة

لكنني أنعى ابن عفان التقي

وقال سعيد بن قيس الهمداني:

أيةُ حرب أضرمت نيرانها وكسرت يوم الوغى مُرّانها

قل للوصي أقبلت قحطانها فادع بها تكفيكها همدانها

هم بنوها وهم إخوانها

وقال زياد بن لبيد الأنصاري يوم الجمل

مشاهد من حرب الجمل

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

كيف ترى الأنصار في يوم الكلب إنا أناس لا نبالي من عطب من شعر حرب الجمل

ولا نبالي في الوصي من غضب وإنما الأنصار جد لا لعب الإمام في واصل الفتوحات

هذا علي وابن عبد المطلب ننصره اليوم على من قد كذب

من يكسب البغي فبئس ما اكتسب

الإمام ينقل العاصمة

491

ص: 491

وقال حجر بن عدي الكندي:

یا ربنا سلم لنا عليا سلم لنا المبارك المضيا

المؤمن الموحد التقيا لاخطل الرأي ولا غويا

بل هاديا موفقاً مهدياً واحفظه ربي واحفظ النبيا

فيه فقد كان له وليا ثم ارتضاه بعده وصيا

وتقدم أن قائلها عدي بن حاتم رضي الله عنه .

وفي الدر النظيم / 350 : (وتقدم شريح بن هاني في بني الحارث بن كعب ، وكان إذا قاتل قاتل بهم وبأهل نجران ، فجعل يتقلب كالفحل المزبد ، وهو يرتجز ويقول:

قدماً بني الحارث قدماً لا شلل لا عيش إلا ضرب أصحاب الجمل

بالبيض والطعن بأطراف الأسل إن التراخي في الوغى من الفشل

والقول لا ينفع إلا بالعمل والغزو لا ينفع إلا بالفعل

خوضوا سريعاً تدركوا عظم الأمل مالكم بعد علي من بدل

إذا قضيتم ما عليكم فبجل شدوا عليهم شدة الليث الأزل

وقال زجر بن قيس الجعفي يوم الجمل (المراجعات / 402) : أضربكم حتى تقروا لعلي خير قريش كلها بعد النبي من زان-ه الله وسماه الوصي

وخرج جابر الأزدي قائلاً (مناقب آل أبي طالب: 339/2) :

يا ليت أهلي من عمار حاضري من سادة الأزد وكانوا ناصري

فقتله محمد بن أبي بكر . وخرج عوف القيني قائلاً:

يا أم يا أم خلا مني الوطن لا ابتغي القبر ولا أبغي الكفن فقتله محمد بن الحنفية . وكانت عائشة تنادي بأرفع صوت : أيها الناس عليكم بالصبر

فإنما يصبر الأحرار ، فأجابها كوفي :

492

ص: 492

يا أمنا أعق أم تعلم والأم تغذو ولدها وترحم

أما ترى كم من شجاع يُكلم وتجتلى هامته والمعصم

وقال آخر:

إعداد عائشة لحرب علي

حركة عائشة إلى البصرة

قلت لها وهي على مهواة إن لنا سواك أمهات وصول عائشة إلى البصرة

في مسجد الرسول ثاويات

وقال عمار بن ياسر :

إني لعمار وشيخي ياسر صاح كلانا مؤمن مهاجر

طلحة فيها والزبير غادر والحق في كف علي ظاهر

وقال عدي بن حاتم

أنا عدي ونماني حاتم ه-ذا ع-لي بالكتاب عالم

وقال عمرو بن الحمق

لم يعصه في الناس إلا ظالم

حركة الإمام إلى البصرة

وصوله إلى البصرة

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة

هذا علي قائد نرضى به أخ-و رس--ول الله في أصح--اب-ه مشاهد من حرب الجمل

من عوده النامي ومن نصابه

وقال رفاعة بن شداد البجلي:

إن الذين قطعوا الوسيلة ونازعوا على علي الفضيلة

في حربه كالنعجة الأكيلة

وقال رفاعة بن شداد البجلي (الدر النظيم / 352) :

إني إذا ما كثر الصياح والتفت الرماح بالرماح

وأبرز المناطح المنطاح ناديت في الفتية الأبراح

هذا علي في الدجى مصباح وخير من تضمه البطاح

وخير من تطلب له الرياح وخير من قاربه القداح

شهداء مع الإمام الله

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

الإمام في واصل الفتوحات

الإمام ينقل العاصمة

493

494

ص: 493

نحن بذا من فضله فصاح نقوله جهرا هو الصراح)

وقال أحمد بن منير الطرابلسي (أعيان الشيعة: 181/3):

عذبتُ طرفي بالسهر وأذبت جسمي بالفكر

ومزجت صفو مودتي من بعد بعدك بالكدر

ومنحت جثماني الضنا وكحلت جفني بالسهر

وجفوتُ صبا ماله عن حسن وجهك مصطبر

وهي قصيدة طويلة ، يقول فيها:

وأقول أم المؤمنين عقوقها إحدى الكبر

ركبت على جمل وسارت من بنيها في زمر

وأتت لتصلح بين جيش المسلمين على غرر

فأتى أبو حسن وس--ل حسامه وسطا وكر

وأذاق إخوته الردى وبعير أمهم عقر

ما ذا عليه لو عفا أو عفّ عنهم إذ قدر

وأقول ذنب الخارجين على علي مغتفر

وأقول إن يزيد ما شرب الخمور ولا فجر

ولجيشه بالكف عن أبناء فاطمة أمر

وله مع البيت الحرام يد تكفر ما غبر)

الفصل السادس والستون

ص: 494

أمير المؤمنين يواصل فتح خراسان والهند

1 . من

معاوية أوقف الفتوحات وعلي الله لم يوقفها

ظلامات قريش لعلي الليلة أنهم نسبوا الفتوحات الى أبي بكر وعمر وعثمان وأخفوا دور علي الله وتلاميذه الفرسان القادة أمثال: خالد بن سعيد بن العاص وإخوته أبان وعمرو، وبريدة الأسلمي، وعمار، وحذيفة، وسلمان، والمقداد، وحجر بن عدي، والأشتر، وهاشم المرقال، وأبي ذر، وعبادة بن الصامت والبراء بن عازب، وأبي أيوب الأنصاري،

وبلال، وعبدالله البجلي، وعدي بن حاتم، وبديل بن ورقاء، وأبي عبيدة بن مسعود الثقفي وغيرهم وغيرهم من القادة الميدانيين الذين قامت الفتوحات على جهودهم وبطولاتهم. فقد حدث أن انهزم المسلمون في معركة الجسر في أوائل فتح العراق، وأرسل حذيفة وعمار إلى عمر أن الفرس جمعوا مئة وخمسين ألف جندي وهم قاصدون إلى المدينة، فخاف عمر وأخذ يصيح فنهض علي الثالية وطمأنه، فأطلق عمر يده في إدارة الفتوحات إلى حد فأخذ يرسل القادة ويوجههم ويحقق الإنتصارات، لكن قريشاً كانت تنسب الفتوح إلى عمر وعثمان، والمقربين منهم!

2. قال في شرح النهج (298/20): (قال له قائل: يا أمير المؤمنين أرأيت لوكان رسول الله له ترك ولداً ذكراً قد بلغ الحلم، وآنس منه الرشد، أكانت العرب تسلم إليه أمرها؟ قال: لا، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلت ! ولولا أن قريشاً جعلت إسمه له ذريعة إلى الرياسة، وسلماً إلى العز والإمرة، لما عبدت

ص: 495

الله بعد موته يوماً واحداً، ولارتدت في حافرتها، وعاد قارحها جذعاً وبازلها بكراً! ثم فتح الله عليها الفتوح فأثرت بعد الفاقة، وتمولت بعد الجهد والمخمصة، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً، وقالت لولا أنه حق لما كان كذا، ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها، وحسن تدبير الأمراء القائمين بها، فتأكد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين، فكنا نحن ممن حمل ذكره وخبت ناره، وانقطع صوته وصيته، حتى أكل الدهر علينا وشرب، ومضت السنون والأحقاب بما فيها، ومات كثير ممن يعرف، ونشأ كثير ممن لا يعرف. وما عسى أن يكون الولد لو كان إن رسول الله لم يقربني بما تعلمونه من القُرْب للنسب واللحمة، بل للجهاد والنصيحة ، أفتراه لو كان له ولد هل كان يفعل ما فعلت ! وكذاك لم يكن يَقْرُب ما قَرُبْتُ ، ثم لم يكن عند قريش والعرب سبباً للحظوة

والمنزلة، بل للحرمان والجفوة.

اللهم إنك تعلم أني لم أرد الأمرة، ولا علو الملك والرياسة، وإنما أردت القيام بحدودك، والأداء لشرعك، ووضع الأمور في مواضعها، وتوفير الحقوق على أهلها والمضي على منهاج نبيك، وإرشاد الضال إلى أنوار هدايتك).

3. وعندما اضطرت قريش لأن تبايع علياً الله بعد ردة فعل الناس على فساد عهد عثمان، سرعان ما ندمت على بيعتها، وثارت على علي السلة وفتحت عليه حرب الجمل، ومع ذلك واصل سلام الله عليه اهتمامه بالفتوحات. قال اليعقوبي (183/2): (ولما فرغ من حرب أصحاب الجمل، وجه جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي إلى خراسان، وقدم عليه ماهويه مرزبان مرو، فكتب له كتاباً، وأنفذ له شروطه، وأمره أن يحمل من الخراج ما كان وظفه عليه، فحمل إليه مالاً على الوظيفة المتقدمة.

4 . وفي شرح النهج (308/18) : ( هبيرة بن أبي وهب كان من الفرسان المذكورين وابنه جعدة بن هبيرة، وهو ابن أخت علي بن أبي طالب، أمه أم هاني بنت أبي طالب،

496

ص: 496

وابنه عبد الله بن جعدة بن هبيرة، هو الذي فتح القهندر وكثيراً من خراسان،

فقال فيه الشاعر :

إعداد عائشة لحرب علي

لولا ابن جعدة لم تفتح قهندركم ولا خراسانُ حتى ينفخ الصور). حركة عائشة إلى البصرة

أقول : في معجم البلدان (4 / 419) وصحاح الجوهري (1 / 433) : قهندز بالزاي.

وصول عائشة إلى البصرة

حركة الإمام له إلى البصرة

. وقال الطبري (4 / 46) : ( فانتهى إلى أبر شهر وقد كفروا وامتنعوا، فقدم على علي فبعث خليد بن قرة اليربوعي فحاصر أهل نيسابور حتى صالحوه، وصالحه أهل ،مرو، وأصاب جاريتين من أبناء الملوك نزلتا بأمان ، فبعث بهما وصوله إلى البصرة إلى علي فعرض عليها الإسلام وأن يزوجهما ، قالتا زوجنا ابنيك فأبى، فقال

له بعض الدهاقين إدفعهما إليَّ فإنه كرامة تكرمني بها، فدفعهما إليه فكانتا عنده يفرش لهما الديباج ويطعمهما في آنية الذهب، ثم رجعتا إلى (خراسان).

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

من أخبار عائشة وجملها 6 . وقال خليفة بن خياط / 143 ، في حوادث سنة 36: ( وفيها ندب الحارث بن مرة العبدي من البحرين الناس إلى غزو الهند فجاوز مكران إلى بلاد الإمام في البصرة قندابيل ووغل في جبال الفيقان.

6

مشاهد من حرب الجمل

وفي فتوح البلدان للبلاذري (531/3) : (فلما كان آخر سنة ثمان وثلاثين وأول سنة تسع وثلاثين في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، توجه إلى ذلك الثغر ش-ه-داء مع الإمام في

وقسم

الحارث بن مرة العبدي متطوعاً بإذن علي، فظفر و أصاب مغنماً وسبياً، و في يوم واحد ألف رأس). راجع تفصيله في كتابنا قراءة جديدة في الفتوحات

من

خطب علي

الكذب في حرب الجمل

.7 . وفي المقابل أوقف معاوية الفتوحات، وأعطى الجزية للروم مئة ألف دينار من شعر حرب الجمل ذهباً كل سنة ليتفرغ لحرب علي الله ! قال المسعودي في مروج الذهب (377/2): وامتنع المسلمون عن الغزو في البحر والبر ، لشغلهم بالحروب، وقد كان الإمام الله واصل الفتوحات

معاوية صالح ملك الروم على مال يحمله إليه لشغله بعلي .

الإمام ينقل العاصمة وقال ابن الأعثم (539/2) : فنادى علي في الناس فجمعهم، ثم خطبهم خطبة

497

ص: 497

بليغة :وقال أيها الناس إن معاوية بن أبي سفيان قد وادع ملك الروم، وسار إلى صفين في أهل الشام عازماً على حربكم، فإن غلبتموهم استعانوا عليكم بالروم.

ورواه أحمد في مسنده (111/4) وصححوه، وابن كثير في تفسيره (333/2). وقال السهيلي في الروض الأنف (278/3) : (إن معاوية صالح ملك الروم على الكف عن ثغور الشام بمال دفعه إليه، قيل كان مائة ألف دينار، وأخذ من الروم رهناً فغدرت الروم ونقضت الصلح ، فلم ير معاوية قتل الرهائن وأطلقهم وقال: وفاء بغدر خير من غدر بغدر ! قال: وهو مذهب الأوزاعي وأهل الشام ألا تقتل الرهائن، وإن غدر العدو). فقد اتفق مع هرقل على أن يعطيه مائة ألف دينار ذهب سنوياً ويوقف الحرب، وأخذ رهائن من الروم، وأعطاهم بعددهم رهائن من المسلمين، فغدر الروم وقتلوا رهائن المسلمين، فسامحهم معاوية من تقواه، ولم يقتل الرهائن الروم قصاصاً، وقال: وفاء بغدر خير من غدر بغدر ! وقد بالغ فقهاء السلطة في وفاء معاوية وتقواه، وقالوا (نهاية الإرب: 164/6) : «فإن حاربونا وجب إطلاق رهائنهم وإبلاغ الرجل منهم مأمنهم، وإيصال النساء والأطفال والذراري إلى أهليهم »!

والصحيح أن الميزان في وفاء معاوية وخيانته، ليس تقواه التي ادعوها، بل المعادلة العسكرية، ولو كان ميزانه التقوى لوفى بما وقع عليه للإمام الحسن الله وحلف عليه بأغلظ الأيمان، وأشهد عليه الله تعالى وشخصيات المسلمين ! راجع: الأحكام السلطانية للماوردي ، 51 ، والبلاذري (188/1) والفتوح لابن أعثم (539/2) وكتاب

الأموال لأبي عبيد (211/1) والوثائق السياسية للعهد النبوي (544/1)

ومازال أتباع السلطة الى يومنا يرددون كذبتهم بأن معاوية واصل الفتوحات، وأن

علياً الله أوقفها !

498

ص: 498

الفصل السابع والستون

أمير المؤمنين ينقل عاصمة الدولة الإسلامية الى الكوفة

كملت دورة التاريخ وعاد آل إبراهيم الى بلدهم

فتح العراق المثنى بن حارث الشيباني صاحب علي الله ، واستشهد بعد ان أكمل فتح العراق أو كاد . ثم دخل علي السلالة العراق ليقاتل على تأويل القرآن فقاتل معه واستشهد في البصرة ثمامة بن المثنى رضي الله عنهما.

يهم

وبعد انتصاره في البصرة، لم يرجع علي الله الى الحجاز، فقد وصل الى بلد جده إبراهيم التالية وحان الوقت لنقل العاصمة اليها، إعلاناً بعودة أبناء إبراهيم الى بلدهم، وقد استقر علي في كوفتها، وصلى صلاته تامة من أول يوم. أعلن الإمام الله بذلك أن مرحلة جديدة في مسيرة الإسلام قد بدأت، وأعلن موقع العراق فيها، فهو عاصمة الإسلام في عصره وفي المستقبل، حتى يصير عاصمة العالم على يد ولده المهدي الموعود الليلة .

لقد نفذ علي الله بذلك إحدى توصيات النبي ، فهو لا يعمل إلا بأمره، وهو وصيه

وامتداده، والمقاتل على تأويل القرآن بعده كما قاتل على تنزيله معه.

وقد كان في حياة النبي يصدع في وجه قريش بأنه سيواصل خط النبي ليمنعها

من الردة عن الإسلام وليرسخ وجود الإسلام كدين كان يقول في حياة رسول الله له : إن الله يقول: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولُ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ . والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله. والله لئن مات أو

ص: 499

قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارث علمه، فمن أحق به مني ! (سنن النسائي: 5 / 125، والحاكم: 3 / 126 والخصائص / 85،

والمحاملي / 163 ، والطبراني في الكبير : 1 / 107 ، وابن كثير في تفسيره: 1 / 418، والدر المنثور: 2 / 81 ،

ومجمع الزوائد: 9 / 134 ، وصححه. صحه . وأمالي الطوسي / 502)

وعندما سيطرت قريش على خلافة النبي سجل علي الله موقفه في إدانتها، ثم

م

نهض لدفع الأخطار عن الإسلام، وتقريب سفينته من المسار الذي أراده النبي لالالالالاله

6

وكان من ذلك عمله لتصحيح حركة الفتوحات واختياره القادة الميدانيين لفتح العراق وفارس وفلسطين واليرموك ومصر. ومن ذلك توجيهه أبا بكر وعمر في

تمصير البصرة ،والكوفة، كما وجهه رسول الله الله .

م

دخول أمير المؤمنين الله الى الكوفة

1 . قال ابن حاتم في الدر النظيم / 358: ( وكان مقام علي الله في البصرة شهراً وأمر

مالك بن الحارث الأشتر أن يتقدمه في الخيل إلى الكوفة. قال : فقدم علي الله إلى الكوفة يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين من الهجرة. وخرج قوم من أشياخ الكوفة مع قرظة بن كعب الأنصاري، يتلقون عليا الله في يوم ذي قر وهو يتصبب عرقاً وكسوته خفيفة! وقد روي أن النبي الا الله دعا له ألا يصيبه حر ولا قرّ). 2 . قال ابن قتيبة في الأخبار الطوال / 152: شخص علي عن البصرة، واستعمل عليها عبد الله بن عباس، فلما انتهى إلى المربد التفت إلى البصرة، ثم قال : الحمد الله الذي أخرجني من شر البقاع ،تراباً، وأسرعها خراباً، وأقربها من الماء، وأبعدها من السماء ! ثم سار فلما أشرف على الكوفة قال : ويحك يا كوفان، ما أطيب هواءك، وأغذى تربتك الخارج منك بذنب، والداخل إليك برحمة، لاتذهب الأيام والليالي، حتى يجئ إليك كل مؤمن، ويبغض المقام بك كل فاجر، وتعمرين، حتى أن الرجل من أهلك ليبكر إلى الجمعة فلا يلحقها من بعد المسافة.

ص: 500

:قالوا: وإن أول جمعة صلى بالكوفة خطب فقال : الحمد الله أحمده، وأستعينه

وأستهديه، وأومن به وأتوكل عليه، وأعوذ بالله من الضلالة والردى، من يهد إعداد عائشة لحرب علي

الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا حركة عائشة إلى البصرة شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، انتخبه لرسالته، واختصه لتبليغ

أمره أكرم خلقه عليه، وأحبهم إليه، فبلغ رسالة ربه، ونصح لأمته، وأدى وصول عائشة إلى البصرة

، الذي عليه صلى الله عليه وآله ،سلم، أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإن تقوى حركة الإمام إلى البصرة الله خير ما تواصی به عباد الله، وأقربه لرضوان الله، وأفضله في عواقب الأمور وصوله فيه إلى البصرة

عند الله، وبتقوى الله ، أمرتم، وللإحسان خلقتم، فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه، فإنه حذر بأسا شديدا، واخشوا الله خشية ليست بتعذير، واعملوا هزيمة جيش عائشة

من غير رياء ولا سمعة فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل ومن عمل إسكان عائشة وإرجاعها مخلصا له تولاه الله، وأعطاه أفضل نيته، وأشفقوا من عذاب الله، فإنه لم يخلقكم عبثاً، ولم يترك شيئاً من أمركم سدى، قد سمي آثاركم، وعلم أسراركم، وأحصى من أخبار عائشة وجملها أعمالكم، وكتب آجالكم، فلا تغرنكم الدنيا، فإنها غرارة لأهلها، والمغرور من الإمام في البص----رة اغتر بها، وإلى فناء ما هي، وأن الآخرة هي دار القرار، نسأل الله منازل الشهداء ومرافقة الأنبياء، ومعيشة السعداء، فإنما نحن به وله). .. وفي رواية خصائص الأئمة للشريف الرضي / 114) : ( ومن كلام له الله في شهداء مع الإمام الله

مدح الكوفة ويحك يا كوفة، ما أطيبك، وأطيب ريحك ! و أخبث كثيراً من أهلك ! الخارج منك بذنب، والداخل فيك برحمة، أما لا تذهب الدنيا حتى يحن إليك كل مؤمن ويخرج عنك كل كافر . أما لا تذهب الدنيا حتى تكوني من النهرين الكذب في حرب الجمل إلى النهرين حتى أن الرجل ليركب البغلة السفواء يريد الجمعة ولا يدركها). من شعر حرب الجمل

مشاهد من حرب الجمل

من

خطب علي

4 . وقال نصر بن مزاحم في كتاب وقعة صفين/ 3: (لما قدم علي بن أبي طالب الإمام واصل الفتوحات

من البصرة إلى الكوفة يوم الإثنين لثنتي عشرة ليلة مضت من رجب

سنة

الإمام السلام ينقل العاصمة

ست وثلاثين، وقد أعز الله نصره وأظهره على عدوه، ومعه أشراف الناس وأهل البصرة ، استقبله أهل الكوفة وفيهم قراؤهم وأشرافهم، فدعوا له بالبركة

501

ص: 501

وقالوا: يا أمير المؤمنين أين تنزل، أتنزل القصر ؟ فقال : لا ، ولكني أنزل الرحبة، فنزلها، وأقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى فيه ركعتين ، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى

عليه وصلى على رسوله صله وقال :

أما بعد يا أهل الكوفة، فإن لكم في الإسلام فضلاً ما لم تبدلوا وتغيروا. دعوتكم إلى

الحق فأجبتم، وبدأتم بالمنكر فغيرتم.

ألا إن فضلكم فيما بينكم وبين الله في الأحكام والقسم، فأنتم أسوة من أجابكم ودخل فيما دخلتم فيه. ألا إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة. ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة، والآخرة ترحلت مقبلة، ولكل واحدة منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة. اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.

الحمد لله الذي نصر وليه وخذل عدوه، وأعز الصادق المحق، وأذل الناكث المبطل. عليكم بتقوى الله وطاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيكم، الذين هم أولى بطاعتكم فيما أطاعوا الله فيه من المنتحلين المدعين المقابلين إلينا، يتفضلون بفضلنا ويجاحدونا أمرنا وينازعونا حقنا ويدافعونا عنه ! فقد ذاقوا وبال ما اجترحوا فسوف يلقون غيا. ألا إنه قد قعد عن نصرتي منكم ،رجال، فأنا عليهم عاتب ،زار فاهجروهم

وأسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا، ليعرف بذلك حزب الله عند الفرقة. فقام إليه مالك بن حبيب اليربوعي وكان صاحب شرطته فقال : والله إني لأرى الهجر وإسماع المكروه لهم قليلاً، والله لئن أمرتنا لنقتلنهم ! فقال علي الله : سبحان الله یا مال جزت المدى، وعدوت الحد، وأغرقت في النزع!

فقال: يا أمير المؤمنين، لبعض الغشم أبلغ في أمور تنوبك من مهادنة الأعادي. فقال علي الله : ليس هكذا قضى الله يا مال قتل النفس بالنفس فما بال الغشم. قال: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا. والإسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك، فقد نهى الله عنه وذلك هو الغشم . فقام إليه أبو بردة بن عوف الأزدي وكان ممن تخلف عنه فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت

502

ص: 502

القتلى حول عائشة والزبير وطلحة، بم قتلوا ؟ قال: قتلوا شيعتي وعمالي وقتلوا

أخا ربيعة العبدي رحمة الله عليه في عصابة من المسلمين قالوا لا ننكث كما إعداد عائشة لحرب علي نكثتم ولا نغدر كما غدرتم! فوثبوا عليهم فقتلوهم، فسألتهم أن يدفعوا إلى قتلة حركة عائشة إلى البصرة إخواني أقتلهم بهم، ثم كتاب الله حكم بيني وبينهم فأبوا عليَّ !

فقاتلوني و في أعناقهم بيعتي، ودماء قريب من ألف رجل من شيعتي، فقتلتهم وصول عائشة إلى البصرة بهم، أفي شك أنت من ذلك؟ قال: قد كنت في شك، فأما الآن فقد عرفت حركة الإمام إلى البصرة واستبان لي خطأ القوم وأنك أنت المهدي المصيب. وكان أشياخ الحي يذكرون وصولهم إلى البصرة

أنه كان عثمانياً، وقد شهد مع علي على ذلك صفين ولكنه بعد ما رجع كان

يكاتب معاوية، فلما ظهر معاوية أقطعه قطيعة بالفلوجة وكان عليه كرياً. ثم هزيمة جيش عائش---ة إن علياً الله تهيأ لينزل، وقام رجال ليتكلموا، فلما رأوه نزل جلسوا وسكتوا. إسكان عائشة وإرجاعها

عن الأصبغ بن نباتة، أن علياً الله لما دخل الكوفة قيل له: أي القصرين

من أخبار عائشة وجملها

ننزلك؟ قال: قصر الخبال لا تنزلونيه ! فنزل على جعدة بن هبيرة المخزومي.

الإمام في البصرة

عن عون بن عبدالله بن عتبة قال : لما قدم على الله الكوفة نزل على باب المسجد مشاهد من حرب الجمل

فدخل وصلى، ثم تحول فجلس إليه الناس، فسأل عن رجل من أصحابه

كان ينزل الكوفة فقال قائل: استأثر الله به . فقال : إن الله لا يستأثر بأحد من شهداء مع الإمام خلقه، وقرأ: وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ. قال: فلما لحق الثقل قالوا أي القصرين تنزل ؟ فقال : قصر الخبال لا تنزلونيه !

من

خطب علي

للاي

الكذب في حرب الجمل

عن عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكنود، أن سليمان بن صرد الخزاعي دخل من شعر حرب الجمل

على علي ابن أبي طالب الله بعد رجعته من البصرة، فعاتبه وعذله وقال له : الإمام له واصل الفتوحات

ارتبت و تربصت وراوغت، وقد كنت من أوثق الناس في نفسي وأسرعهم فيما أظن إلى نصرتي، فما قعد بك عن أهل بيت نبيك، وما زهدك في نصرهم؟ الإمام الله ينقل العاصمة

:فقال يا أمير المؤمنين، لا تردن الأمور على أعقابها، ولا تؤنبني بما مضى منها

503

ص: 503

واستبق مودتي يخلص لك نصيحتي، وقد بقيت أمور تعرف فيها وليك من عدوك، فسكت عنه. وجلس سليمان قليلاً ثم نهض، فخرج إلى الحسن بن علي وهو قاعد في المسجد، فقال: ألا أعجبك من أمير المؤمنين وما لقيت منه من التبكيت والتوبيخ؟ فقال له الحسن : إنما يعاتب من ترجی مودته و نصیحته. فقال : إنه بقيت أمور سیستوسق فيها القنا، وينتفى فيها السيوف ويحتاج فيها إلى أشباهي، فلا تستغشوا

عتبي

ولا تتهموا نصيحتي . فقال له الحسن: رحمك الله، ما أنت عندنا بالظنين.

عن نمير بن وعلة، عن الشعبي، أن سعيد بن قيس دخ-ل ع-لى ع-ل-ي ب-ن أبي طالب الله فسلم عليه فقال له علي وعليك ، وإن كنت من المتربصين ! فقال: حاش الله يا أمير المؤمنين لست من أولئك. قال : فعل الله ذلك.

عن محمد بن مخنف قال: دخلت مع أبي على علي الله حين قدم من البصرة، وهو عام بلغت الحلم، فإذا بين يديه رجال يؤنبهم ويقول لهم : ما بطأ بكم عني وأنتم أشراف قومكم ؟ والله لئن كان من ضعف النية وتقصير البصيرة، إنكم لبور! والله لئن كان من شك في فضلي ومظاهرةً عليَّ، إنكم لعدو ! قالوا: حاش الله يا أمير المؤمنين، نحن سلمك وحرب عدوك.

ثم اعتذر القوم، فمنهم من ذكر عذره، ومنهم من اعتل بمرض، ومنهم من ذكر غيبة. فنظرت إليهم فإذا عبد الله بن المعتم العبسي، وإذا حنظلة بن الربيع التميمي وكلاهما كانت له صحبة، وإذا أبو بردة بن عوف الأزدي، وإذا غريب بن شرحبيل الهمداني قال ونظر علي إلى أبي فقال: لكن مخنف بن سليم وقومه لم يتخلفوا، ولم یكن مثلهم مثل القوم الذين قال الله تعالى : وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيدًا. وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلُ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةً يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا. ثم إن علياً مكث بالكوفة فقال الشني في ذلك، شن بن عبد القيس:

504

ص: 504

قل لهذا الإمام قد خبت الحرب وتمت بذلك النعماء

وفرغنامن حرب من نقض الع هد وبالشام حية صماء

تنفث السم ما لمن نهشته فارمها قبل أن تعض شفاء

إنه والذي يحج ل-ه الن-اس ومن دون بيته البيداء

لضعيف النخاع إن رمي اليوم بخيل كأنها الأشلاء

جانحات تحت العجاج سخالاً مجهضات تخالها الأشلاء

تتبارى بكل أصيد كالفحل بكفي------ه صع-----دة سم--راء

ثم لا ينثني الحديد ولم----ا يخضب العاملين منها الدماء

إن تذره فما معاوية الدهر بمعطيك ما أراك تشاء

ولنيل السماك أقرب من ذاك ونجم العي-وق والعواء

فاضرب الحد والحديد إليهم ليس والله غير ذاك دواء

إعداد عائشة لحرب علي

حركة عائشة إلى البصرة

وصول عائشة إلى البصرة

حركة الإمام إلى البصرة

وصوله إلى البصرة

هزيمة جيش عائشة

إسكان عائشة وإرجاعها

من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة

مشاهد من حرب الجمل

عن أبي طيبة عن أبيه قال: أتم علي الصلاة يوم دخل الكوفة، فلما كانت الجمعة شهداء مع الإمام الله

وحضرت الصلاة صلى بهم وخطب خطبة .

من

خطب علي

عن علي بن الحسين: خطبة علي بن أبي طالب في الجمعة بالكوفة والمدينة: الكذب في حرب الجمل

إن الحمد الله ، أحمده وأستعينه وأستهديه، وأعوذ بالله من الضلالة من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده من شعر حرب الجمل لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، انتجبه لأمره، واختصه بالنبوة، أكرم خلقه وأحبهم إليه، فبلغ رسالة ربه، ونصح لأمته، وأدى الذي عليه. وأوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خير ما تواصی به عباد الله وأقربه لرضوان الإمام الله ينقل العاصمة

الله، وخيره في عواقب الأمور عند الله. وبتقوى الله أمرتم، وللإحسان والطاعة

الإمام له واصل الفتوحات

505

ص: 505

خلقتم، فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه، فإنه حذر بأساً شديداً. واخشوا الله خشية ليست بتعذير، واعملوا في غير رياء ولا سمعة فإن من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل له، ومن عمل الله مخلصاً تولى الله أجره. وأشفقوا من عذاب الله، فإنه لم يخلقكم عبثاً ولم يترك شيئا من أمركم سدى، قد سمى آثاركم، وعلم أعمالكم، وكتب آجالكم. فلا تغروا بالدنيا فإنها غرارة بأهلها، مغرور من اغتر بها، وإلى فناء ما هي. وإن الآخرة هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون أسأل الله منازل الشهداء، ومرافقة الأنبياء، ومعيشة السعداء، فإنما نحن له وبه . ثم إن علياً الله أقام بالكوفة، واستعمل العمال).

3

. قال المفيد في الكافئة :31: (عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر الله أن أمير المؤمنين الله لما دنا إلى الكوفة مقبلاً من البصرة، خرج الناس مع قرظة بن كعب يتلقونه دون نهر النضر بن زياد، فدنوا منه يهنئونه بالفتح، وإنه ليمسح العرق عن جبهته، فقاله قرظة بن كعب الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي أعز وليك وأذل عدوك، ونصرك على القوم الباغين الطاغين الظالمين. فقال له عبد الله بن وهب الراسبي: إي ،والله إنهم الباغون الظالمون الكافرون المشركون. فقال له أمير المؤمنين الله ثكلتك أمك، ما أقواك بالباطل وأجرأك على أن تقول ما لم تعلم أبطلت يا ابن السوداء، ليس القوم كما تقول، لو كانوا مشركين سبينا وغنمنا أموالهم، وما ناكحناهم ولا وارثناهم)!

ه . ومن منشوره الله الى الأمصار (كشف المحجة / 173، عن رسائل الأئمة الي للكليني) ، فكان أول من بايعني طلحة والزبير فقالا : نبايعك على أنا شركاؤك في الأمر ! فقلت: لا، ولكنكما شركائي في القوة، وعوناي في العجز ، فبايعاني على هذا الأمر، ولو أبيا لم أكرههما كما لم أكره غير هما ! وكان طلحة يرجو اليمن، والزبير يرجو العراق، فلما علما أني غير موليهما استأذناني للعمرة يريدان الغدرة، فأتيا عايشة واستخفاها مع كل شئ في نفسها عليّ ... وقادهما عبد الله بن عامر إلى البصرة، وضمن لهما الأموال والرجال، فبيناهما يقودانها إذ هي تقودهما، فاتخذاها فئة يقاتلان دونها! فأيُّ خطيئة أعظم مما أتيا ، أخرجا زوجة رسول الله له من بيتها فكشفا عنها حجاباً ستره الله

506

ص: 506

عليها، وصانا حلائلهما في بيوتهما، ولا أنصفا الله ولا رسوله من أنفسهما ! فمنيت

بأطوع الناس في الناس عايشة بنت أبي بكر، وبأشجع الناس الزبير وبأخصم إعداد عائشة لحرب علي الناس طلحة بن عبيد الله، وأعانهم عليّ يعلى بن منية بأصوع الدنانير، والله لئن حركة عائشة إلى البصرة استقام أمري لأجعلن ماله فيئاً للمسلمين !

ثم أتوا البصرة وأهلها مجتمعون على بيعتي وطاعتي، وبها شيعتي خزان بيت وصول عائشة إلى البصرة مال الله ومال المسلمين، فدعوا الناس إلى معصيتي وإلى نقض بيعتي وطاعتي، حركة الإمام إلى البصرة فمن أطاعهم أكفروه ومن عصاهم قتلوه فناجزهم حكيم بن جبلة فقتلوه في وصوله فيه إلى البصرة

سبعين رجلاً من عباد أهل البصرة ومخبتيهم، يسمَّوْنَ المثفنين كأن راح أكفهم ثفنات الإبل، وأبى أن يبايعهم يزيد بن الحارث اليشكري فقال : إتقيا الله، هزيمة جيش عائش---ة إن أولكم قادنا إلى الجنة فلا يقودنا آخر كم إلى النار، فلا تكلفونا أن نصدق إسكان عائشة وإرجاعها المدعي ونقضي على الغائب، أما يميني فشغلها علي بن أبي طالب ببيعتي إياه، وهذه شمالي فارغة فخذاها إن شئتما ! فخنق حتى مات رحمه الله. وقام عبد الله من أخبار عائشة وجملها بن حكيم التميمي فقال : يا طلحة هل تعرف هذا الكتاب؟ قال: نعم هذا كتابي الإمام في البصرة إليك. قال: هل تدري ما فيه ؟ قال : إقرأه عليَّ . فقرأه فإذا فيه عيب عثمان ودعاؤه إلى قتله فسيروه من البصرة وأخذوا عاملي عثمان بن حنيف الأنصاري غدراً فمثلوا به كل مثلة، ونتفوا شهداء مع الإمام له

كل شعرة في رأسه ووجهه ! وقتلوا شيعتي طائفة صبراً، وطائفة غدراً، وطائفة عضّوا بأسيافهم حتى لقوا الله ! فوالله لو لم يقتلوا منهم إلا رجلاً واحداً لحل لي به دماؤهم ودماء ذلك الجيش الكذب في حرب الجمل لرضاهم بقتل من قتل ! دع أنهم قد قتلوا أكثر من العدة التي قد دخلوا بها عليهم، من شعر حرب الجمل وقد أدال الله منهم، فبعداً للقوم الظالمين. فأما طلحة فرماه مروان بسهم فقتله، الإمام في واصل الفتوحات

وأما الزبير فذكرته قول رسول الله له إنك تقاتل علياً و أنت ظالم له ! وأما عايشة فإنها كانت نهاها رسول الله الله عن مسيرها ، فعضت يديها نادمة على ما كان منها الإمام الله ينقل العاصمة

وقد كان طلحة لما نزل ذا قار قام خطيباً فقال : أيها الناس إنا أخطأنا في عثمان

!

مشاهد من حرب الجمل

من خطب علي

507

ص: 507

خطيئة ما يخرجنا منها إلا الطلب بدمه، وعلى قاتله وعليه دمه...!

فلما بلغني قوله وقول كان عن الزبير قبيح، بعثت إليهما أناشدهما بحق محمد وآله ما أتيتماني وأهل مصر محاصر و عثمان فقلتها : إذهب بنا إلى هذا الرجل فإنا لا نستطيع قتله إلا بك، لما تعلم أنه سيّر أبا ذر ، وفتق عماراً ، وآوى الحكم بن أبي العاص وقد طرده رسول الله وأبو بكر وعمر ، واستعمل الفاسق على كتاب الله الوليد بن عقبة

وسلط خالد بن عرفطة العذري على كتاب الله يمزقه ويحرقه، فقلت: كل هذا قد

علمت ولا أرى قتله يومي هذا، وأوشك سقاؤه أن يخرج المخض زبدته فأقرا بما

قلت وأما قولكما إنكما تطلبان بدم عثمان، فهذان ابناه عمرو وسعيد، فخلوا عنهما يطلبان دم أبيها، ومتى كان أسد وتيم أولياء بني أمية، فانقطعا عند ذلك! فقام عمران بن حصين الخزاعي صاحب رسول الله الله ، وقال : يا هذان لا تخرجانا ببيعتكما من طاعة علي، ولا تحملانا على نقض بيعته فإنها الله ،رضى، أما وسعتكما بيوتكما حتى أتيتما بأم المؤمنين ! فالعجب لاختلافها وإياكما ومسيرها معكما ، فكفَّا عنا أنفسكما وارجعا من حيث جئتما، فلسنا عبيد من غلب، ولا أول من سبق ! فهما به ثم كفا عنه !

00

وكانت عايشة قد شكت في مسيرها وتعاظمت القتال، فدعت كاتبها عبيد الله

بن كعب النميري فقالت أكتب من عايشة بنت أبي بكر إلى علي بن أبي طالب فقال: هذا أمر لا يجري به القلم. قالت: ولم؟ قال: لأن علي بن أبي طالب في الإسلام أول وله بذلك البدء في الكتاب. فقالت: أكتب إلى علي بن أبي طالب من عايشة بنت أبي بكر ، أما بعد فإني لست أجهل قرابتك من رسول الله، ولا قدمك في الإسلام، ولا غَنَاءك عن رسول الله، وإنما خرجت مصلحة بين بني لا أريد حربك إن كففت عن هذين الرجلين في كلام لها كثير ، فلم أجبها بحرف وأخرت جوابها لقتالها.

فلما قضى الله لي الحسنى سرتُ إلى الكوفة، واستخلفت عبدالله بن عباس على البصرة، فقدِمتُ الكوفة وقد اتسقت لي الوجوه كلها إلا الشام، فأحببت أن أتخذ

508

ص: 508

الحجة وأفضي العذر، أخذت بقول الله تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ

عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ، فبعثت جرير بن عبد الله إلى معاوية معذراً إليه، إعداد عائشة لحرب علي متخذاً للحجة عليه، فردَّ كتابي وجحد حقي ودفع بيعتي، وبعث إليَّ أن ابعث حركة عائشة إلى البصرة إلى قتله عثمان، فبعثت إليه ما أنت وقتلة عثمان؟ أولاده أولى به، فادخل أنت وصول عائشة إلى البصرة

و هم في طاعتي ثم خاصم القوم لأحملكم وإياهم على كتاب الله، وإلا فهذه خدعة الصبي عن رضاع الملي ! فلما يئس من هذا الأمر بعث إلي أن اجعل الشام حركة الإمام إلى البصرة لي حياتك، فإن حدث بك حادث من الموت لم يكن لأحد على طاعة، وإنما وصولهم إلى البصرة

أراد بذلك أن يخلع طاعتي من عنقه، فأبيتُ عليه، فبعث إليَّ إن أهل الحجاز كانوا الحكام على أهل الشام، فلما قتلوا عثمان صار أهل الشام الحكام على أهل هزيمة جيش عائشة الحجاز ! فبعثتُ إليه إن كنت صادقا فسم لي رجلاً من قريش الشام تحل له إسكان عائشة وإرجاعها الخلافة، ويُقبل في الشورى، فإن لم تجده سميت لك من قريش الحجاز من يحل له الخلافة ويُقبل في الشورى).

من أخبار عائشة وجملها

الإمام في البصرة

مشاهد من حرب الجمل

--ن .

خطب علي

قال نصر بن مزاحم / 15: ( لما قدم علي الله حشر أهل السواد، فلما اجتمعوا أذن لهم، فلما رأى كثرتهم قال : إني لا أطيق كلامكم ولا أفقه عنكم ، فأسندوا أمركم إلى أرضاكم في أنفسكم، وأعمه نصيحة لكم. قالوا: نرسا، ما رضي فقد شهداء مع الإمام الله رضيناه، وما سخط فقد سخطناه . فتقدم فجلس إليه فقال: أخبرني عن ملوك فارس كم كانوا؟ قال: كانت ملوكهم في هذه المملكة الآخرة اثنين وثلاثين ملكاً. الكذب في حرب الجمل

:قال فكيف كانت سيرتهم ؟ قال : ما زالت سيرتهم في عظم أمرهم واحدة، حتى ملكنا كسرى بن هرمز، فاستأثر بالمال والأعمال وخالف أولانا، وأخرب الذي من ش--ع--ر ح--رب الجمل للناس وعمر الذي له، واستخف بالناس، فأوغر نفوس فارس حتى ثاروا الإمام في واصل الفتوحات

عليه فقتلوه، فأرملت نساؤه ويتم أولاده. فقال: يا نرسا، إن الله عز وجل خلق الخلق بالحق، ولا يرضى من أحد إلا بالحق، وفي سلطان الله تذكرة مما خول الله ، الإمام الله ينقل العاصمة وإنها لا تقوم مملكة إلا بتدبير، ولا بد من إمارة، ولا يزال أمرنا متماسكاً ما لم

509

ص: 509

يشتم آخرنا أولنا، فإذا خالف آخرنا أولنا وأفسدوا، هلكوا وأهلكوا. ثم أمر عليهم أمراءهم).

2 . قال ابن قتيبة في الأخبار الطوال / 154 : ثم وجه عماله إلى البلدان، فاستعمل على المدائن وجوخى كلها يزيد بن قيس الأرحبي، وعلى الجبل وأصبهان محمد بن سليم، وعلى البهقباذات قرط بن كعب، وعلى كسكر وحيزها قدامة بن عجلان الأزدي وعلى بهرسير وأستانها عدي بن الحارث، وعلى أستان العالي حسان بن عبدالله البكري، وعلى أستان الزوابي سعد بن مسعود الثقفي، وعلى سجستان وحيزها ربعي بن كأس، وعلى خراسان كلها خليد بن كأس.

6

فأما خليد بن كأس فإنه لما دنا من خراسان بلغه أن أهل نيسابور خلعوا يداً من طاعة، و أنه قدمت عليهم بنت لكسرى من كابل فمالوا معها، فقاتلهم خليد، فهزمهم، وأخذ ابنة كسرى بأمان، وبعث بها إلى علي الشاليه ، فلما أدخلت عليه، قال لها : أتحبين أن أزوجك من ابني هذا؟ يعني الحسن قالت: لا أتزوج أحداً على رأسه أحد، فإن أنت أحببت رضیت بك ، قال : إني شيخ، وابني هذا من فضله كذا وكذا ، قالت: قد أعطيتك الجملة. فقام رجل من عظماء دهاقين العراق يسمى نرسي فقال: يا أمير المؤمنين، قد بلغك أني من سنخ المملكة، وأنا قرابتها، فزوجنيها فقال هي أملك بنفسها، ثم قال لها : إنطلقي حيث شئت، وانكحي من أحببت لا بأس عليك.

واستعمل على الموصل، ونصيبين ودارا، وسنجار و آمد، وميا فارقين، وهيت، وعانات، وما غلب عليها من أرض الشام الأشتر ، فسار إليها، فلقيه الضحاك بن قيس الفهري، وكان عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان، فاقتتلوا بين حران والرقة بموضع يقال له المرج إلى وقت المساء. وبلغ ذلك معاوية، فأمد الضحاك بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد في خيل عظيمة، وبلغ ذلك الأشتر ، فانصرف إلى الموصل، فأقام بها يقاتل من أتاه من أجناد معاوية، ثم كانت وقعة صفين).

510

ص: 510

م الله الله

أسباب نقل عاصمة الإسلام الى الكوفة

إعداد عائشة لحرب علي

في تعداد الأسباب الموجبة لنقل العاصمة الإسلامية من المدينة الى الكوفة، لا ننسى أن أمير المؤمنين الله لم يعمل عملاً من هذا النوع إلا بعهد معهود اليه من حركة عائشة إلى البصرة النبي ، وقد استفاضت الأحاديث عنه بذلك، وشهد بها المؤرخون. وصول عائشة إلى البصرة

وإذا أضفنا الى ذلك البشارة النبوية بالمهدي الموعود الله ودولة الإسلام العالمية، صار نقل العاصمة الى العراق عملاً ضرورياً تمهيداً لتلك الدولة الموعودة حركة الإمام إلى البصرة

على أن الأسباب الظاهرة لنقل العاصمة متعددة، نذكر منها :

وصوله إلى البصرة

السبب الأول: إبعاد الحرمين الشريفين عن الصراع السياسي وحفظ حرمتهما. هزيمة جيش عائشة

وقد روى الجميع أن الإمام الحسين الله كان يعرف أن بني أمية سيقتلونه، وكان حريصاً على أن يقتل خارج الحرم . قال البلاذري (164/3) : (عرض ابن الزبير إسكان عائشة وإرجاعها على الحسين أن يقيم بمكة فيبايعه ويبايعه الناس فقال الحسين : لئن أقتل خارجاً من أخبار عائشة وجملها من مكة بشبر أحب إلي من أن أقتل فيها ! ولأن أقتل خارجاً منها بشبرين أحب

إلي من أن أقتل خارجاً منها بشبر) !

وقصده أن لا يتهمه الحسين الله بأنه ينافسه على الخلافة !

الإمام في البصرة

مشاهد من حرب الجمل

وفي مقتل الحسين الله لأبي مخنف / 67 : (قال له : أقم في هذا المسجد أجمع لك شهداء مع الإمام الله

الناس، قال الحسين الله : والله لئن أقتل خارجاً منها بشير أحب إلى من أن أقتل

.

الكذب في حرب الجمل

من شعر حرب الجمل

داخلاً منها بشبر، وأيم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني من خطب عليه حتى يقضوا في حاجتهم، ووالله ليعتدن عليَّ كما اعتدت اليهود في السبت ومعناه أن القاعدة الشرعية توجب الإبتعاد بالخلافات السياسية عن الحرمين

وصيانتهما عن أن يكونا مسرحاً لأحداثها. السبب الثاني: أن العراق متوسط جغرافياً في العالم الإسلامي أكثر من الحجاز، الإمام في واصل الفتوحات

فهو أقرب الى مراكز الثقل كمصر وبلاد الشام وإيران والعاصمة تحتاج الى سرعة تفاعل وحركة وهي تتيسر في العراق بأفضل منها في الحجاز . السبب الثالث: تميز العراق بالثقل السكاني والإقتصادي، بينما سكان الحجاز

الإمام الله ينقل العاصمة

511

ص: 511

لا يبلغون يومها سكان مدينة واحدة، كالكوفة والبصرة.

وموارد الحجاز شحيحة، وأهمها حركة الحجاج والعمار، وقد كان سكان الحجاز

يتمونون من قديم من مصر والعراق، وجزئياً من اليمن والحبشة.

السلاةِ

السبب الرابع: كون العراق موطن إبراهيم الله ومهد الأنبياء قبله الله . وهذا

الإرتباط يجعله العاصمة الطبيعية لآل إبراهيم عاليا ودولتهم الإسلامية.

هذا ، وقد أثبت التاريخ والقرون اللاحقة لنقل العاصمة الى العراق، أنه كان عملاً

صائباً، حقق الكثير من الفوائد، ووفر الكثير من المصاعب.

512

الفهرس

513

......

.....

V.....

A......

900000

12 .....

14 ......

22

23

Yε .....

24 .....

25 ..

30

pop.....

E.....

43 .....

ص: 512

الفهرس الموضوعات

مقدمة ....

أول حرب على تأويل القرآن

تعصبت قريش لقتلى بدر ، وعظمت من قاتل عليا الله

الله الله

زعمت قريش أن النبي حرم الخلافة على بني هاشم

الخارجون على علي الله ليسوا بغاة، بل مجتهدون لهم أجر !

عالة مطلب عائشة أن يخلع علي الله نفسه ويخرج من الخلافة نهائياً

لماذا انكسر جيش عائشة رغم كثرته وتجهيزه؟

الفصل الثاني والخمسون استعداد عائشة لحرب علي

فرح المسلمون بخلافة على الله واستنفر الأمويون لحربه نشطت عائشة في تجميع أعداء علي الله للخروج عليه من كلام أمير المؤمنين الله في شخصية طلحة والزبير سارع بنو أمية الى إعلان الخروج على أمير المؤمنين الشلالات طلبوا من عبدالله بن عمر أن يخرج معهم فأبى ! أرادت حفصة أن تخرج معهم فمنعها أخوها وصف أمير المؤمنين الله لخروجهم عليه صراع طلحة والزبير وعائشة على الخلافة تشاوروا هل يخرجون عليه في المدينة أو البصرة أو الشام

أعلن حذيفة تحذير النبي لأمته من عائشة أم سلمة رضي الله عنها تقيم الحجة على عائشة

رسائل عائشة وطلحة والزبير الى زعماء المسلمين من خطب أمير المؤمنين السلام ورسائله في حرب الجمل

70..

65

69 ....

74 .....

7900

79 ....

83 ....

85 .....

86 ....

90

96 ....

97 .....

101

1 *Ʌ......

11300000

11.......

11......

114.......

Irr.....

179.....

181......

1EV......

ص: 513

الفصل الثالث والخمسون

حركة عائشة الى حرب علي اللامي

مسير عائشة من مكة الى البصرة

أراد أمير المؤمنين الله أن يقبض عليهم في الحجاز

ما أكثر كلاب الحوأب وما أشد نباحها

الشبه بين عائشة وصفورة زوجة موسى

الفصل الرابع والخمسون

السلام

وصول عائشة الى البصرة وسيطرتها عليها

عسكرت عائشة في حفر أبي موسى قرب البصرة

لماذا لم يقاتلهم ابن حنيف قبل دخولهم البصرة؟

حرب الجمل الصغرى والجمل الكبرى.

خطبت عائشة في المربد ثم هاجمت دار الإمارة ! بعد معركة اليوم الأول نزلت عائشة في السبخة

لم تستطع عائشة أن تأخذ دار الإمارة واضطرت للصلح ثم أفتت لهم عائشة بالغدر ونقض الصلح !

حكيم بن جبلة يثأر لعثمان بن حنيف تزوير رواة السلطة معركة الجمل الأصغر

الفصل الخامس والخمسون حركة أمير المؤمنين الله الى البصرة

كتبت أم سلمة الى على اللة بحركة عائشة

حاول (بعضهم) أن يثنوا عليا الثلة عن مواجهة عائشة

إنها بدر جديدة فإما القتال وإما الكفر !

قتال البغاة فريضة مشددة

أمير المؤمنين الله يصل الى الربذة ...

أرسل رسله الى الكوفة وعالج عصيان أبي موسى وسار الإمام الله من الربذة الى فيد قرب جبال طيئ

514

الفهرس

515

10.

150

101......

100...

100....

Lov.....

160

162 ...

17......

162 ......

164......

165 ....

ITV......

17A......

\VV.....

178....

181 ....

JAY......

1^0.....

JAV......

149..

119.......

191......

197......

197...

197.....

ص: 514

ثم سار الإمام الله الى ذي قار وبقي فيها أسبوعين أشاعوا أنه تأخر بذي قار لأنه خاف من جيش عائشة ! وأصيب الزبير بالغرور ثم أصيب بالتخبط

وصل اليه خبر شهادة حكيم بن جبلة رضي الله عنه

أخبر أصحابه بالنصر وبعدد من يأتيه من الكوفة وأخبر الإمام الله أنه سيأتيه ألف رجل يبايعونه على الموت

وصول جيش أمير المؤمنين الله من الكوفة وخطبته فيهم من خطب أمير المؤمنين الله وكلماته في ذي قار فلم يصبرا حولاً واحداً ولا شهراً كاملاً!

وإن دم عثمان المعصوب بهما ومطلوب منهما ! من خطبة له الله أجاب فيها طلحة

خطبته الله لما أراد المسير من ذي قار الى البصرة .

إن الله فرض الجهاد وعظمه

من أقوى انتقاداته الله لقريش وأهل السقيفة

صحيفة النبي بما يجري على أهل بيته عالم خطبة له بذي قار يصف فيها القرآن وترك المسلمين له رسائله الله من ذي قار الى عائشة وطلحة والزبير

وأرسل اليهم ابن عباس فأدى الرسالة

وأرسل اليهم أنس بن مالك فلم يؤد الرسالة

وفي طريق الإمام الى البصرة نزل عند عبد القيس في الشطرة

السادس والخمسون

وصول أمير المؤمنين الله الى البصرة

وصف دخول أمير المؤمنين الله وجيشه الى البصرة

مكذوبات في أصل المعركة ومدتها

بدأت المعركة في النصف من جمادى الآخرة يوم الخميس

أمهلهم الإمام الله ثلاثة أيام للمفاوضات

وأرسلت عائشة رجلاً ناصبياً الى علي

19V......

20

......

.......

+4.....

209

2130

215.

...

TYE......

.....

23400000

TE..... 24000

Yε......

YEV......

250

Yo`......

25300000

YOε.....

25500

256......

ص: 515

وأرسل اليه طلحة والزبير رجلاً ناصبياً .

واستمرت قريش في اتهام بني هاشم بالسحر

وأتم الإمام الحجة فأرسل ابن عباس يدعوهم الى القرآن

انسحب الزبير وقتل وهو راجع الى المدينة مقتل طلحة بعد أن فكر بالإنسحاب من المعركة

قادت عائشة المعركة وحدها ستة نة أيام! ما ورد في اليوم الأول والثاني من حرب الجمل

م أتم على الله عليهم الحجة ثانيةً .

ما ورد في اليوم الثاني من حرب الجمل

ما ورد في اليوم الثالث من حرب الجمل

ما ورد في اليوم الرابع من حرب الجمل

...

ما ورد في اليوم الخامس من حرب الجمل

مكذوباتهم في محمد بن طلحة التيمي !

.!

في اليوم السابع نشر أمير المؤمنين الله راية رسول الله لالالال

الفصل السابع والخمسون

هزيمة جيش عائشة وسمو علي الله ونبله

سقط جمل عائشة فانتهت الحرب !

بقي أمير المؤمنين الله ثلاثة أيام في أرض المعركة

بنا تسنمتم الشرف

عدد الجيشين وعدد القتلى من الطرفين

سبب كثرة القتلى من جيش عائشة رسالة من قتيل من بني ضبة الى عائشة ! رسالة أمير المؤمنين الله إلى أهل الكوفة بالنصر

دخول أمير المؤمنين الله مدينة البصرة

ܙܘ

الفهرس

517

Yoq.....

260

par......

YA......

27200

YVE......

275000

TVO......

YAV....

YAQ......

Tal......

30

3060

306

.....

.......

A......

A......

314......

PIA.....

ص: 516

الفصل الثامن والخمسون

إسكان عائشة ثم ترحيلها الى المدينة

أنزل علي الله عائشة في أكبر قصر في البصرة

وجمعت عائشة جرحاها والهاربين وزارها الناس

أرسل لها ابن عباس وأمرها بالرجوع الى المدينة، فأبت! ....

لم يطلق ،عائشة، لكن طلقها الحسين السلام

رواياتهم عن تجهيز عائشة وتوديعها

استهبال عائشة للعوام

الفصل التاسع والخمسون من أخبار عائشة وجملها

من أخبار عائشة وقوة شخصيتها!

14 . أمير الشعراء احمد شوقي ينتقد عائشة بذكاء 15 . أمير الشعراء الشيخ الأزري يصف عائشة سبب موجة التأييد والحب والطاعة لعائشة

18

19 . وصف عائشة لمعركة الجمل !

من أخبار جمل عائشة ....

الفصل الستون

من أخبار أمير المؤمنين الله في البصرة

أمضى شهراً في البصرة وقام بأعمال عظيمة أمضى الإمام الله شهراً في البصرة ثم غادر الى الكوفة مشى الإمام الله في سكك البصرة بدون سلاح ولا حماية!

ولى على البصرة ابن عباس وزياد بن عبيد خطبة أمير المؤمنين الله لما ولى ابن عباس البصرة رسالة أمير المؤمنين الله لابن عباس حول بني تميم

الرسالتان اللتان اشتهر أنهما الى ابن عباس

ولى الإمام الله أبا الأسود الدؤلي قضاء البصرة

320

TYY......

32600000

YA.....

Tε......

342000

3620000

3620

q......

364000000

367......

3760000

TVA......

380

......

PAT......

ص: 517

علم أبا الأسود الدؤلي أن يضع علم النحو

لماذا ولى الإمام الله زياد بن عبيد على البصرة وفارس؟

في البصرة علم الإمام الله کمیل بن زیاد دعاء كميل دعا الإمام الله أهل البصرة الى التوبة وليمة الأحنف بن قيس لأمير المؤمنين الله

الدنيا دار صدق لمن صدقها

أبو أيوب الأنصاري يصارح المسلمين بالحقيقة! ... فتنة ابن الحضرمي في البصرة ورسالة الإمام الله الى أهلها

بنى

أعداء على الله مساجد على بغضه في البصرة

الزط الوثنيون الذين ألهوه ولم يتوبوا

النساء نواقص الإيمان نواقص العقول

الفصل الحادي والستون

مشاهد من حرب الجمل

من أخبار المعركة والقتال وغيرها

الفصل الثاني والستون

شهداء مميزون في حرب الجمل

كثرة شخصيات حرب الجمل

مديح أمير المؤمنين الله للشهداء المميزين

1 ثمامة بن المثنى بن الحارث الشيباني رضي الله عنه

.2 . زيد بن صوحان رضي الله عنه جندب بن زهير الأزدي رضي الله عنه

4 . هند بن عمرو الجملي المرادي رضي الله عنه .5 علباء بن الهيثم السدوسي رضي الله عنه

6 . سيحان بن صوحان رضي الله عنه

7. حسان بن مخدوج بن بشر الذهلي رضي الله عنه

.8. الشهيد الحي عثمان بن حنيف رضي الله عنه

518

الفهرس

519

39900000

.....

402

Y......

403

......

4030

404....

E.E......

404

{.......

406

{19..... 416

{\V......

ETV.....

ε.....

0 0 433

433000000

434000000

εta.....

ص: 518

الفصل الثالث والستون

السَّلَاةِ

من خطب أمير المؤمنين الله وكلماته في البصرة

يا أهل البصرة يا جند المرأة !

وضغن غلى في صدرها كمرجل القين . ويحك إني لست كأنت! .....

له إمرة كلعقة الكلب أنفه .

سار فيهم بسيرة النبي في مشركي مكة جيش لا رهج له ولا حس!

قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة!

وثبوا على شيعتي فقتلوا طائفة منهم ! لئن بلغني أنك خنت.

سع الناس بوجهك.

ما لقيت من الأمة بعد نبيها !

وتحدث الله عن ملوك بني العباس! ......

أطول خطبة لعلي السلام في البصرة من كتاب وكيع

فقرات من حديث وكيع من مصادرنا خطبته الشاليه المشهورة في ذم البصرة ......

خطبة ذم البصرة برواية ابن ميثم البحراني

روایات خراب البصرة وائتفاكها

أعلن في البصرة أن أفضل الخلق محمد وعترته

الفصل الرابع والستون

الله الله

سبب كثرة الكذب والتحريف في حرب الجمل

لماذا احتاجوا الى الكذب والتحريف؟

كذبة أن المعركة وقعت بلا قصد و لا تخطيط ! .....

أنقذوا التاريخ من كذب المحدثين!

تفنيد كذبة الطرف الثالث في حرب الجمل ! .....

εra......

440

{ ε + .....

{0.....

44500

450

207.....

457......

{OA......

EO^.....

46400000

4740000

480

48000

4950000

ε90.....

499000

...

011......

ص: 519

:قالوا أنشب الحرب الصبيان والعبيد والأوباش!

وقالوا إن الطرف الثالث خَرَّبَ مبادرات الصلح !

وقالوا الطرف الثالث عبد الله بن سبأ وجماعته ! ...

يدل تأليه جماعة للأئمة على عظمتهم وتميزهم عن غيرهم

روايات القعقاع المزيفة في حرب الجمل!

وقالوا: أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة!

وقالوا : البغاة على علي الله مؤمنون من أهل الجنة!

من أبطال التزوير في حرب الجمل أبو موسى الاشعري سامري هذه الأمة.....

الحسن البصري سامري هذه الأمة أيضاً ! حسان بن ثابت يشبه الحسن البصري

الفصل الخامس والستون

مختارات من شعر حرب الجمل

القصيدة المذهبة للسيد الحميري له المتوفى سنة 173

الفصل السادس والستون

أمير المؤمنين لا يواصل فتح خراسان والهند معاوية أوقف الفتوحات وعلي الله لم يوقفها

الفصل السابع والستون

أمير المؤمنين ينقل عاصمة الدولة الإسلامية الى الكوفة

كملت دورة التاريخ وعاد آل إبراهيم عل الى بلدهم

دخول أمير المؤمنين الله الى الكوفة

أسباب نقل عاصمة الإسلام الى الكوفة

ص: 520

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.