باقة عطرة في أحوال خاتم النبيين (صلی الله علیه و آله) وأُسبوع المولد الشريف

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني الشیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان واسم المؤلف: باقة عطرة فی احوال خاتم النبیین (صلی الله عليه وآله وسلم) و اسبوع المولدالشریف/ السیدمحمد الحسیني الشیرازي رحمةالله.

تفاصيل المنشور: قم : دارالعلم، 1442 ق.= 1399.

مواصفات المظهر:252 ص.؛ 5/14×5/21 س م.

ISBN : 978-964-204556-3

حالة الاستماع : فیپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة: کتابنامه: ص. [233] - 241.

موضوع : محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)، پیامبر اسلام، 53 قبل الهجرة - 11ق.

موضوع : Muhammad, Prophet, d. 632

ترتيب الكونجرس: BP22/9

تصنيف ديوي: 297/93

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 7313156

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فیپا

ص: 1

اشارة

باقة عطرة في أحوال خاتم النبيين (صلی الله علیه و آله)

وأُسبوع المولد الشريف

المرجع الديني الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمة الله)

الناشر: دارالعلم

المطبوع: 4000 نسخه

المطبعة: احسان

الطبعة الثانية 1442ه

---------------------

شابک : 978-964-204556-3

---------------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(علیه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(علیه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا(علیه السلام)، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5.

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

باقة عطرة في أحوال خاتم النبيين (صلی الله علیه و آله)

اشارة

ص: 5

ص: 6

المقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد، فهذا موجز مبسط في أحوال النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله) كتبته كي يكون دليلاً لمن أراد الإلمام بحياة الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله) وسيرته، ومرشداً لمن أراد الاقتداء به والاستضاءة بنور هدايته، وأسميته: (باقة عطرة في أحوال خاتم النبيين(صلی الله علیه و آله)).

أرجو من اللّه سبحانه وتعالى أن يشفّعه فيَّ وأن يتقبّله بقبول حسن وهو المستعان.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

ص: 7

نسب النبي (صلی الله علیه و آله)

هو محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان(1).

هذا وليعلم أن بعضهم زاد في نسبه الشريف إلى آدم(علیه السلام) لكنه غير ظاهر، إذ يلزم أن يكون ذلك إما بالشهادة لمن حضر وليست حاصلة أو بإخبار المعصوم(علیه السلام)، وذلك أيضاً غير موجود فيما بأيدينا ولذا السكوت أولى(2).

وكان عبد المطلب(علیه السلام) نذر حين لقى من قريش العنت في حفر زمزم لئن ولد له عشرة وبلغوا معه حتّى يمنعوه لينحرنّ أحدهم عند الكعبة للّه تعالى، فلما بلغوا عشرة وعرف أنهم سيمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع؟قال: يأخذ كل رجل منكم قدحاً ثم يكتب فيه اسمه ففعلوا وأتوه

ص: 8


1- انظر إعلام الورى: 5.
2- وقد نهى عنه في قوله(صلی الله علیه و آله): «إذا بلغ نسبي عدنان فأمسكوا» إعلام الورى: 6.

بالقداح.

وقال عبد المطلب لصاحب القداح: اضرب على بنيَّ هؤلاء بقداحهم هذه وأخبره بنذره الذي نذر، وكان عبد اللّه أصغر بني أبيه وأحبّهم إليه، فلما أخذ صاحب القداح ليضرب قام عبد المطلب يدعو اللّه تعالى، ثم ضرب صاحب القداح فخرج قدح عبد اللّه.

فأخذ عبد المطلب بيده يقوده إلى المذبح ومعه المدية، فبكت بنات عبد المطلب وكنّ قياماً وقالت إحداهنّ لأبيها: اعذر فيه بأن تضرب في إبلك السوائم التي في الحرم.

فقال للسادن - يعني صاحب البيت - اضرب عليه بالقداح وعلى عشرة من الإبل وكانت الدية يومئذ عشراً من الإبل، فضرب فخرج القدح على عبد اللّه، فجعل يزيد عشراً عشراً كل ذلك يخرج القدح على عبد اللّه حتى كملت المائة، فضرب بالقداح فخرج على الإبل، وكبَّر عبد المطلب والناس معه واحتملت بنات عبد المطلب أخاهنَّ عبد اللّه، وقدّم عبد المطلب الإبل فنحرها بين الصفا والمروة(1).

والظاهر أن القصّة كانت كما مرَّ عليك، فإنّ عبد المطلب قداقتدى بجدّه إبراهيم الخليل(علیه السلام) حيث كانت عادة الجاهلية ذبح

ص: 9


1- الطبقات الكبرى 1: 88؛ وقريب منه عن الإمام الرضا(علیه السلام) في عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 1: 211.

الأولاد، ففعل ذلك إبراهيم(علیه السلام) لينسخ تلك العادة، ففدّى الولد بذبح الحيوان، وذلك بوحي اللّه تعالى.

وكذلك كان حال عبد المطلب حيث قد راج ذبح الأولاد في الجاهليين ثانية، وإلّا فعبد المطلب الذي كان من أوصياء المسيح(علیه السلام) لا يقدم على ذبح ولده بالنذر، ولمّا نحرها عبد المطلب خلّى بينها وبين كلّ من وردها من إنسي أو سبع أو طائر لا يذب عنها أحد، ولم يأكل منها هو ولا أحد من ولده.

وعبد المطلب أوّل من سنَّ دية النفس مائة من الإبل فجرت في قريش والعرب مائة من الإبل، وأقرَّها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) على ما كانت عليه(1).

وأُمّه(صلی الله علیه و آله) آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة، من النساء الطاهرات الخيّرات المؤمنات القانتات للّه تعالى ولم يصلنا الشيء الكثير من أحوالها.

الزواج المبارك

وكانت آمنة بنت وهب بن عبد مناف في حجر عمّها وهيب بن عبد مناف، فمشى إليه عبد المطلب بابنه عبد اللّه - والد رسولاللّه(صلی الله علیه و آله) - فخطب إليه آمنة بنت وهب، فزوّجها عبد اللّه وخطب إليه عبد المطلب بن هاشم في مجلسه ذلك ابنته هالة بنت وهيب

ص: 10


1- انظر الخصال 1: 57؛ والكافي 7: 280.

على نفسه فزوّجها إياه، فكان تزويج عبد المطلب بن هاشم وتزويج عبد اللّه في مجلس واحد، فولدت هالة بنت وهيب لعبد المطلب حمزة بن عبد المطلب فكان حمزة عمّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في النسب وأخاه من الرضاعة، لأنهما ارتضعا معاً مدّة.

وقيل: إنه قد مرّ قبل ذلك عبد اللّه بامرأة من خثعم وكانت من أجمل النساء وكانت قد قرأت الكتب وكان شباب قريش يتحدَّثون إليها فرأت نور النبي(صلی الله علیه و آله) في وجه عبد اللّه فقالت: يا فتى من أنت؟ فأخبرها، قالت: هل لك أن تقع علي وأعطيك مائة من الإبل؟ فنظر إليها بِنَهَر وقال:

أمّا الحرام فالممات دونه *** والحل لا حل فأستبينه

فكيف بالأمر الذي تبغينه *** يحمي الكريم عرضه ودينه

ثم مضى إلى البناء بزوجته آمنة بنت وهب(1).

وأرسل عبد المطلب ابنه إلى المدينة يمتار لهم تمراً فمات عبد اللّه بالمدينة حيث أقبل في عير قريش فنزل بالمدينة وهو مريضفتوفّى فيها في دار النابغة الجعدي وله خمس وعشرون سنة وقيل: ثمان وعشرون سنة وتوفّى قبل أن يولد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)(2).

ومحل دفنه(علیه السلام) معروف في المدينة وكان رحمه اللّه من

ص: 11


1- الطبقات الكبرى 1: 96؛ وانظر مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 1: 26.
2- انظر أنساب الأشراف 1: 92.

المؤمنين الأخيار على دين إبراهيم(علیه السلام).

مولد النور

وُلِد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يوم الجمعة لسبع عشر خلون من شهر ربيع الأول، وذلك في العام الذي قدم فيه أصحاب الفيل لهدم الكعبة في النصف من محرّم، فبين قصّة الفيل ومولد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) (63) ليلة، عند طلوع الفجر(1).

وكان مولده(صلی الله علیه و آله) بمكّة في داره التي وهبها لعقيل وتوارثها أبناء عقيل فباعوها بمائة ألف دينار لمحمد بن يوسف الثقفي، ثم بعد ذلك بَنَتها الخيزران أُم الهادي وهارون مسجداً يصلّي فيه الناس، ثم سعى في تعميره الملك المظفر والي اليمن عام (659)، وموضعه الآن معروف يزار ويتبرك به.

وكان مولده في فصل الربيع وقد أشار إلى ذلك بعضهم بقوله:

يقول لنا لسان الحال منه *** وقول الحق يعذب للسميع

فوجهي والزمان وشهر وضعي *** ربيع في ربيع في ربيع(2)

وُلِد(صلی الله علیه و آله) حال كونه رافعاً بصره إلى السماء واضعاً يديه على

ص: 12


1- مصباح المتهجد 2: 791.
2- سبل الهدى والرشاد 1: 334.

الأرض وفي ذلك من الإشارات ما لا يخفى.

وكان مكحولاً نظيفاً مسروراً (أي: مقطوع السُّر بضم السين، وهو الحبل السري الذي تقطعه القابلة من السرّة) مختوناً.

وقيل: إنه(صلی الله علیه و آله) لمّا ولد وضع يده اليسرى على الأرض ورفع اليمنى نحو السماء وشفتاه تتحرّك بالتوحيد، فخرج من فيه نور ساطع رأى أهل مكة من خلاله قصور بصرى من أرض الشام، وقصور اليمن وحواليها، وقصور فارس ونواحيها.

وقالت أُمّه آمنة بنت وهب: واللّه لمّا وضعتُ حملي على الأرض إتّكأ بيديه على الأرض ورفع رأسه إلى السماء وأدار ببصره إلى الآفاق ثم سطع منه نور أضاء كل شيء حتى رأيتُ منها قصور الشام، وإذا بهاتف يهتف بي قائلاً: ولدْتِ خير الناس فسميّه محمّداً(1).

وبرواية ثانية: أنها لمّا حملت برسول اللّه(صلی الله علیه و آله)رأت من يقول لها: إنكِ حملتِ بسيّد هذه الأمَّة فإذا وقع على الأرض قولي: «أُعيذه بالواحد من شر كل حاسد وسميّه محمداً»(2).

وقد روي أنه حين ولادته(صلی الله علیه و آله) قبض قبضة من تراب الأرض وهو ساجد، فبلغ ذلك رجلاً من بني لهب، فقال لصاحبه: لئن صدق

ص: 13


1- انظر إعلام الورى: 10.
2- الكافي 8: 301.

هذا القائل ليغلبنّ هذا المولود أهل الأرض(1).

إرهاصات الولادة

عن حسان بن ثابت قال: واللّه إني لغلام يفقه ابن سبع سنين أو ثمان أعقل كل ما سمعت، إذ سمعت يهوديّاً يصرخ بأعلى صوته على أطمة(2)

يثرب: يا معشر اليهود، حتّى إذا اجتمعوا إليه قالوا له: ويلك ما لك؟ قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي أخبر به(3).

وكان بمكة يهودي يتّجر بها، فلما كانت الليلة التي وُلِد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فيها قال: يا معشر قريش هل وُلِد فيكم الليلة مولود؟ قالوا: لا نعلمه. قال: انظروا يا معشر قريش واحفظوا ما أقول لكم، ولد الليلة نبي هذه الأمَّة الأخيرة، بين كتفه علامة فيهاشعرات متواترات كأنهنَّ عرف فرس(4).

وفي خبر: أنّ إبليس صاح في أبالسته، فاجتمعوا إليه وقالوا: ما الذي أفزعك؟

قال: ويلكم لقد أنكرت السماء والأرض منذ الليلة، لقد حدث في الأرض حدث عظيم ما حدث مثله مذ رفع عيسى بن مريم، فاخرجوا وانظروا ما هذا الحدث الذي قد حدث!؟

ص: 14


1- السيرة الحلبية 1: 89.
2- الأطم: الحصن.
3- فرج المهموم: 29.
4- المستدرك على الصحيحين 2: 601؛ وانظر كمال الدين 1: 197.

فافترثوا ثم اجتمعوا إليه فقالوا: ما وجدنا شيئاً.

فقال إبليس: أنا لهذا الأمر، ثم انغمس في الدنيا فجالها حتى انتهى إلى الحرم، فوجد الحرم محفوفاً بالملائكة، فذهب ليدخل فصاحوا به فرجع، ثم صار مثل العصفور فدخل من قبل حراء، فنهره جبرئيل.

فقال إبليس: حرف أسألك عنه يا جبرئيل ما هذا الحدث الذي حدث منذ الليلة في الأرض؟

فقال له: وُلِد نبي آخر الزمان.

فقال له: وهل لي فيه نصيب؟

قال: لا.

قال: ففي أُمَّته؟

قال: نعم.قال إبليس: قد رضيت(1).

وعن ابن عبّاس: إنّ الشياطين كانوا لا يحجبون عن السماوات وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها ممّا سيقع في الأرض، فيلقونها على الكهنة، فلمّا وُلِد عيسى(علیه السلام) حجبوا عن ثلاث سماوات - وفي رواية: عن أربع سماوات - ولمّا ولد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حجبوا عن الكل وحرست بالشهب، فما يريد أحد منهم استراق السمع إلّا

ص: 15


1- انظر روضة الواعظين 1: 66.

رُمي بشهاب(1).

وعند ولادته(صلی الله علیه و آله) تنكّست الأصنام التي كانت حول الكعبة، وعند المساء نودي من السماء: {جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقٗا}(2)(3).

وليلة ولادته(صلی الله علیه و آله) تزلزلت الكعبة ولم تسكن ثلاثة أيّام ولياليهنّ وكان ذلك أوّل علامة رأت قريش من مولد النبي(صلی الله علیه و آله)(4).

وارتجس - أي: اضطرب - وانشقّ إيوان كسرى أنوشيروان (ومعنىأنوشيروان في لغة الفرس مجدّد الملك) وكان بناءً محكماً مبنياً بالحجارة الكبار والجص، لا تعمل فيه الفؤوس، مكث في بنائه نيفاً وعشرين سنة، وسمع لشقّه صوت هائل، وسقط من ذلك الإيوان أربع عشرة شُرفة - بضم الشين المعجمة وسكون الراء - وليس ذلك لخلل في بنائه، وانما أراد اللّه تعالى آيةً لنبيّه(صلی الله علیه و آله) باقية على وجه الأرض(5).

ولعلّ أربعة عشر إشارة إلى المعصومين(علیهم السلام) الأربعة عشر الذين

ص: 16


1- السيرة الحلبية 1: 112؛ وقريبٌ منه عن الإمام الصادق(علیه السلام) في الأمالي للشيخ الصدوق: 285.
2- سورة الإسراء، الآية: 81.
3- انظر مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام): 31.
4- السيرة الحلبية 1: 116.
5- السيرة الحلبية 1: 117؛ وقريب منه عن الإمام الصادق(علیه السلام) في الأمالي للشيخ الصدوق: 285.

على أيديهم يتحقّق العدل وينطمس الظلم والجور.

وقد ذكر أن هارون أمر وزيره يحيى بن خالد البرمكي بهدم إيوان كسرى، فقال يحيى: لا تهدم بناءً دلّ على فخمة شأن بانيه، قال: بلى يا مجوسي، ثم أمر بنقضه، فقدّر له نفقة على هدمه فاستكثر هارون، وهو مصلّى علي بن أبي طالب(علیه السلام)(1).

وخمدت نيران فارس وكتب له صاحب فارس: إن بيوت النار خمدت تلك الليلة ولم تخمد قبل ذلك بألف عام(2)،

وهو إشارةإلى زوال دين المجوس.

وغاضت بحيرة ساوة، أي: غار ماؤها في الأرض بحيث صارت يابسة كأن لم يكن بها شيء من الماء من شدّة اتّساعها، اشارة إلى ان ماء حياة الظالمين يغور بسبب صاحب الرسالة.

ورأى الموبذان - أي القاضي الكبير - في نومه إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً - وهو خلاف البراذين - قد قطعت دجلة - وهي نهر بغداد - ، وانتشرت في بلادها(3)

(والإبل كناية عن الناس المؤمنين الذي سيفتحون فارس).

ص: 17


1- السيرة الحلبية 1: 117.
2- السيرة الحلبية 1: 119؛ وقريب منه عن الإمام الصادق(علیه السلام) في الأمالي للشيخ الصدوق: 285.
3- السيرة الحلبية 1: 119؛ وقريب منه عن الإمام الصادق(علیه السلام) في الأمالي للشيخ الصدوق: 286.

نهاية الامبراطورية الفارسية

ورأى كسرى في منامه ما هاله وأفزعه وذلك من ارتجاس الإيوان وسقوط شرفاته، فلمّا أصبح رآى أنه يلزم أن لا يدّخر ذلك الأمر الذي هاله وأفزعه عن مرازُبته - بضمّ الزاي أي: فرسانه وشجعانه - فلبس تاجه وجلس على سريره، ثم بعث إليهم، فلمّا اجتمعوا عنده قال: أتدرون في ما بعثت إليكم؟ قالوا: لا إلّا أن يخبرنا الملك.

فبينا هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب بخمود النيران، وورد عليه كتاب من صاحب إيليا يخبره أنّ بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة، وورد عليه كتاب صاحب الشام يخبر به أنّ وادي السماوة انقطعتلك الليلة، وورد عليه كتاب صاحب الطبرية يخبره أن الماء لم يجرِ في بحيرة طبرية، فازداد غمّاً إلى غمّه ثم أخبرهم بما رأى وما هاله، وهو ارتجاس الإيوان وسقوط شرفاته.

فقال الموبذان: أنا - أصلح اللّه الملك - أيضاً قد رأيتُ في هذه رؤيا، ثم قصَّ عليه رؤياه في الإبل.

فقال: أيّ شيء يكون هذا يا موبذان؟

قال: حدث يكون في ناحية العرب، فابعث إلى عاملك بالحيرة يوجّه إليك رجلاً من علمائهم فإنهم أصحاب علم بالحدثان (والظاهر أن الكتب جاءت بسبب الحمام الزجل).

وكان تلك السنة التي حمل فيها برسول اللّه(صلی الله علیه و آله) سنة الفتح والابتهاج، فإنّ قريشاً كانت قبل ذلك في جدب وضيق عيش عظيم،

ص: 18

فاخضرّت الأرض وحملت الأشجار وأتاهم الرعد والمطر من كلّ جانب في تلك السنة(1).

وفي ليلة ولادته(صلی الله علیه و آله) تساقطت النجوم بأن رأى الناس أنها تتساقط، لا التساقط حقيقة(2).

قالت أُمّه(صلی الله علیه و آله): ورأيتُ ثلاثة أعلام مضروبات علماً بالمشرق وعلماً بالمغرب وعلماً على ظهر الكعبة(3).ولما ولد(صلی الله علیه و آله) أرسلت إلى جده الذي كان يطوف بالبيت تلك الليلة فجاء إليها، فقالت: يا أبا الحارث وُلِد لك مولود له أمر عجيب فأخبرته بما رأت حين حملت به وما قيل لها فيه وما أُمِرَت أن تسميّة، ثمّ أخرجته له فنظر إليه وأخذه ودخل به الكعبة ودعا اللّه تعالى ثم خرج فدفعه إليها(4).

وقال عبد المطّلب لمّا احتضنه يوم ولادته:

الحمد للّه الذي أعطاني *** هذا الغلام الطيّب الأردان(5)

ص: 19


1- انظر مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 1: 32.
2- انظر الأمالي للشيخ الصدوق: 285.
3- انظر روضة الواعظين 1: 69.
4- انظر السيرة الحلبية 1: 109.
5- الأردان - جمع الرُدْن - وهو أصل الكُم، ولعلّه إنما خصهما بالطيب لأن الرائحة الخبيثة غالباً تكون فيها لمجاورتها للأباط.

قد ساد في المهد على الغلمان *** أ ُعيذه باللّه ذي الأركان

حتّى أراه بالغ البنيان *** أ ُعيذه من شر ذي الشنآن

من حاسد مضطرب العنان(1)

أسماء رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

عن بعض الصحابة قال: سمّى لنا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) نفسه أسماء منها ما حفظنا، فقال(صلی الله علیه و آله): «أنا محمّد وأحمد والحاشر ونبيّ الرحمة والتوبة»(2)،

والمسمّي له بمحمد جدّه عبد المطّلب، فإنه لمّا ولد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عقَّ عنه يوم سابع ولادته بكبش وأولم عليه وسمّاه محمداً.

فقيل له: يا أبا حارث ما حملك على أن تسميه محمّداً ولم تسمّه باسم آبائه؟

قال: أردتُ أن يحمده اللّه في السماء وتحمده الناس في الأرض.

وإليه أشار حسّان بقوله:

ص: 20


1- الطبقات الكبرى 1: 103.
2- الطبقات الكبرى 1: 104.

فشقّ له من اسمه ليجلّه *** فذو العرش محمود وهذا محمد(1)

دور الرضاعة

وأرضعنه من النساء ثلاث: أُمّه آمنة بنت وهب، وثويبة الأسلمية جارية أبي لهب، وهي التي أرضعت حمزة عمّ النبي(صلی الله علیه و آله) أيضاً، وحليمة السعدية. وقيل: أرضعته من النساء ثمان، منهم: أُمه آمنة ثلاثة أيّام.وقيل: سبعة أيّام، وثويبة الأسلمية جارية أبي لهب التي أعتقها حين بشرته بولادته أياماً قبل قدوم حليمة(2)،

وخولة بنت المنذر وأُمّ أيمن، وامرأة سعدية غير حليمة، وثلاث نسوة اسم كل واحدة منهنّ عاتكة، وأكثرهنّ له إرضاعاً حليمة السعدية.

وقيل: اثنتا عشرة امرأة.

ولمّا خافت حليمة عليه ردَّته إلى أُمّه فخرجت به إلى المدينة لزيارة أخواله من بني النجّار، وزيارة قبر أبيه (عبد اللّه) هناك، فمرضت وهي راجعة به، وماتت ودُفِنَت بالأبواء، وكان عمره(صلی الله علیه و آله) آنذاك ستّ سنوات على ما قاله ابن إسحاق(3).

ص: 21


1- انظر السيرة الحلبية 1: 128.
2- انظر السيرة الحلبية 1: 138.
3- انظر السيرة النبوية لابن هشام 1: 109.

فحضنته أُم أيمن بركة الحبشية التي ورثها من أبيه وحملته إلى جدّه عبد المطّلب بمكّة فكفله إلى تمام ثمان سنين(1).

وإخوته من الرضاعة: عبد اللّه بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وحذافة بنت الحارث وهي الشيماء غلب ذلك على اسمها، فلا تعرف في قومها إلّا به، وهم لحليمة بنت أبي ذؤيب عبد اللّه بن الحارث أُمّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من الرضاعة، ويذكرون أن الشيماء كانت تحضنه مع أمها إذا كان عندهم(2).وكان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بعد أن هاجر يسأل عن ثُوَيبة فكان يبعث إليها بالصلة والكسوة، حتّى جاءه خبر أنها ماتت فسأل: «من بقي من قرابتها؟» قالوا: لا أحد(3).

و قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): حمزة بن عبد المطّلب أخي من الرضاعة(4).

وفي رواية: أنّ علي بن أبي طالب(علیه السلام) قال: «قلت لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في أن يتزوّج من ابنة حمزة، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): إنها ابنة أخي من الرضاعة ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب»(5).

ص: 22


1- انظر التحفة اللطيفة 1: 8.
2- السيرة النبوية لابن هشام 1: 105.
3- الطبقات الكبرى 1: 109.
4- الطبقات الكبرى 1: 109.
5- انظر الطبقات الكبرى 1: 110؛ وقريب منه في الكافي 5: 445.

وقدمت حليمة على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) مكّة وقد تزوّج خديجة، فشكت جدب البلاد وهلاك الماشية، فكلَّم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خديجة فيها، فأعطتها أربعين شاة وبعيراً موقعاً للظعينة فانصرفت إلى أهلها فرحة(1).

وعن محمد بن المنذر قال: استأذنت امرأة على النبي(صلی الله علیه و آله) وكانت قد أرضعته، فلمّا دخلت عليه قال(صلی الله علیه و آله): «أُمّي أُمّي»، وعمد إلى ردائه فبسطه لها فقعدتعليه(2).

وأكثرهنَّ إرضاعاً له حليمة السعدية، ورأت منه الخير والبركة ككثرة اللّبن في ثدييها بعد قلّته ، وشربه من الثدي الأيمن فقط وتركه الأيسر لاُخته من الرضاعة، ونزول المطر وظهور الخصب في حيّهم بعد القحط والشدّة، ووفرة مياههم وغزارة لبن غنمها بعد عدمه(3).

أيّام الفطام

وفطمته حين مضى له سنتان، وهو يشب شباً لا يشبه الغلمان(4)،

فذهبت به إلى جدّه بمكة وهي حريصة على رجوعها به، واستأذنت أُمه في رجوعها به فأذنت لها فرجعت به(5).

ص: 23


1- الطبقات الكبرى 1: 113؛ بحار الأنوار 15: 401.
2- الطبقات الكبرى 1: 114؛ بحار الأنوار 15: 401.
3- انظر مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 1: 32؛ السيرة الحلبية 1: 147 و 148.
4- انظر السيرة الحلبيه 1: 148.
5- انظر السيرة الحلبية 1: 151.

وجاء أنه(صلی الله علیه و آله) لمّا مرّ بالأبواء في عمرة الحديبية قال: «إن اللّه أذن لمحمّد(صلی الله علیه و آله) في زيارة قبر أُمّه»، فأتاه، وأصلحه، وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكائه(1).

وكان(صلی الله علیه و آله) يقول لأُم أيمن: «أنتِ أُمّي بعد أُمّي»(2).

عبد المطلب

وكان يوضع لعبد المطّلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه أحد من أهل بيته ولا أحد من أشراف قريش إجلالاً له، فكان بنوه وسادات قريش يحدقون به، وكان رسول اللّه يأتي وهو غلام جفر - أي: شديد قوي - حتّى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخّروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني فو اللّه إنّ له لشأناً، ثم يجلسه عليه معه يمسح ظهره، ويسرّه ما يراه يصنع(3).

وقال لعبد المطّلب قوم من بني مدلج - وهم القافة العارفون بالآثار والعلامات - : احتفظ به فإنّا لم نرَ قَدَماً أشبه بالقدم التي في المقام منه وهي قدم إبراهيم(علیه السلام)، فإنّ إبراهيم أثرت قدماه في المقام، وهو الحجر الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت، وهو الذي يُزار الآن بالمكان الذي يُقال له مقام ابراهيم(علیه السلام)(4).

ص: 24


1- السيرة الحلبية 1: 172.
2- السيرة الحلبية 1: 172.
3- السيرة الحلبية 1: 177؛ وقريب منه في كمال الدين 1: 171.
4- السيرة الحلبية 1: 178؛ وقريب منه في العدد القوية: 127.

وكان عبد المطلب إذا أتى بطعام أجلس رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى جنبه وربما أقعده على فخذه فيوثره بأطيب طعامه(1).

فلمّا حضرت عبد المطّلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وحياطته، فلمّا نزلت بعبد المطّلبالوفاة قال لبناته: أبكينني وأنا أسمع، فبكته كل واحدة منهنّ بشعر(2).

وقال عبد المطّلب شعراً يوصي أبا طالب بالرسول(صلی الله علیه و آله):

أ ُوصيك يا عبد مناف بعدي *** بواحد بعد أبيه فرد(3)

وعبد مناف اسم أبي طالب(علیه السلام).

وسُئل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): أتذكر موت عبد المطّلب؟ قال: «نعم، أنا يومئذ ابن ثمانِ سنين»(4).

وقالت أُمّ أيمن: رأيتُ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يومئذ يبكي خلف سرير عبد المطّلب(5).

مع الديراني

وذكر ابن الجوزي: أن النبي(صلی

الله علیه و آله) في سنة سبع من مولده أصابه رمد شديد فعولج بمكّة فلم يفد، فقيل لعبد المطّلب إن

ص: 25


1- السيرة الحلبية 1: 180.
2- الطبقات الكبرى 1: 118.
3- الفضائل لابن شاذان القمي: 45.
4- بحار الأنوار 15: 162.
5- بحار الأنوار 15: 162.

في ناحية عكاظ راهباً يعالج الأعين، فركب إليه فناداه وديره مغلق، فلم يجبه، فتزلزل ديره حتّى خاف أن يسقط عليه، فخرج مبادراً، فقال: يا عبد المطّلب إن هذا الغلام نبيّهذه الأُمّة ولو لم أخرج إليك لخرب ديري، فارجع به واحفظه لا يقتله بعض أهل الكتاب.

والراهب أخرج صحيفة وجعل ينظر إليها وإلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ثمّ قال: هو واللّه خاتم النبيّين.

ثم قال له عبد المطّلب هذا رمد؟

قال: نعم.

قال: إن دواءه معه، خذ من ريقه وضعه على عينه، فأخذ عبد المطّلب: من ريقه ووضعه على عينه(صلی الله علیه و آله) فبرأ لوقته(1).

ولعلّ اللّه سبحانه أراد أن يظهر هذه الفضيلة على لسان راهب ليكون أتم للحجّة.

إيمان والد النبي(صلی الله علیه و آله)

لا يخفى أن أبوي النبي(صلی الله علیه و آله) كانا على الحنيفية، دين إبراهيم(علیه السلام)، بل إن آباء الأنبياء كلّهم ما كانوا كفّاراً تشريفاً لمقام النبوّة، وكذلك أُمّهاتهم.

وأما آزر الذي جاء ذكره في القرآن فإنه لم يكن أباً لإبراهيم(علیه السلام)، بل

ص: 26


1- انظر السيرة الحلبية 1: 183.

كان عمّه، وأمّا قوله تعالى: {لِأَبِيهِ ءَازَرَ}(1)فإن العرب تسمّي العمّ أباً.

ويدلّ على إيمانهم: قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّٰجِدِينَ}(2).

وقوله(صلی الله علیه و آله): «لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات»(3).

وقال تعالى: {إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ}(4). فوجب أن لا يكون أحد من أجداده(صلی الله علیه و آله) مشركاً، وقد أجمع على ذلك علماء الشيعة وذكره كثير من علماء السنّة.

النبي(صلی الله علیه و آله) في كفالة عمّه

لمّا مرض جدّه عبد المطّلب مرض الموت، أوصى به إلى عمّه أبي طالب، لارتفاع مكانه وكونه شقيق أبيه عبد اللّه، فإنه وعبد اللّه كانا من أُمّ واحدة، فتشرّف بشرف كفالته ورعايته(صلی الله علیه و آله).

وكان يرى منه الخير والبركة، ونزول المطر الغزير حين استسقى به لقحط أصاب أهل مكّة(5).

ص: 27


1- سورة الأنعام، الآية: 74.
2- سورة الشعراء، الآية: 219.
3- إيمان أبي طالب(علیه السلام): 56.
4- سورة التوبة، الآية: 28.
5- إشارة إلى أبيات أبي طالب(علیه السلام) في مدح رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حيث يقول فيها: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ربيع اليتامى عصمة للأرامل التوحيد للشيخ الصدوق: 159، ومناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 1: 119.

وكان أبو طالب يحبّه حبّاً شديداً أكثر من حبّه ولده، وكان لا ينام إلّا إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه، وكان يخصّه بالطعام، وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعاً أو فرادى لم يشبعوا وإذا أكل معهم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) شبعوا، فكان إذا أراد أن يغذيهم، قال: كما أنتم حتّى يحضر ابني، فيأتي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فيأكل معهم فكانوا يفضلون من طعامهم، فيقول أبو طالب: إنك لمبارك.

وكان الصبيان يصبحون رمصاً شعثاً، ويصبح رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) دهيناً كحيلاً(1).

في طريق الشام

لمّا أراد أبو طالب(علیه السلام) السفر إلى الشام، تعلّق به رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فرقّ له وأخذه معه، ولرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) تسع سنين، فلمّا نزل الركب بمنطقة بُصرى من أرض الشام وبها راهب يُقال له بحيرا، في صومعة له وكان ذا علم في النصرانية ولم يزل بتلك الصومعة راهب، يصير إليه علمهم، وبها كتاب يتوارثونه.فلمّا رآهم بحيرا صنع لهم طعاماً كثيراً وذلك لأنه رأى على رأس رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) غمامة تظلّه من بين القوم ثم أقبلوا حتّى نزلوا في ظلّ شجرة قريباً منه، فنظر إلى الشجرة وقد هصرت(2)

أغصانها

ص: 28


1- انظر الطبقات الكبرى 1: 120؛ بحار الأنوار 15: 407.
2- هَصَرت: جذبت.

حتى استظل بها فنزل إليهم من صومعته ودعاهم.

ولمّا رأى بحيرا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده كان يجدها من صفته.

فلمّا فرغ القوم من الطعام وتفرَّقوا، سأل النبي(صلی الله علیه و آله) عن أشياء من حاله في يقظته ونومه، فوجدها بحيرا موافقة لما عنده من صفته، ثمّ نظر إلى خاتم النبوّة بين كتفيه، ثم قال بحيرا لعمّه أبي طالب: من يكون هذا الغلام منك؟

قال: ابني.

قال: ما ينبغي أن يكون أبوه حيّاً!

قال: فإنه ابن أخي مات أبوه وأُمّه به حبلى.

قال: صدقت ارجع به إلى بلدك واحذر عليه اليهود، فواللّه لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفتُ لبغوا به شراً فإنه كائن له شأن عظيم، فخرج به عمّه حتّى أقدمه مكّة(1).قال بعض المؤرّخين: خرج أبو طالب(علیه السلام) إلى الشام وخرج معه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في أشياخ من قريش، فلمّا أشرفوا على الراهب هبطوا وحلّوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرّون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت، فجعل يتخلّلهم حتّى جاء فأخذ بيد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال: هذا سيّد المرسلين، هذا رسول ربّ العالمين

ص: 29


1- الكامل في التاريخ 2: 37؛ وقريبٌ منه في إعلام الورى 1: 65.

يبعثه اللّه رحمة للعالمين.

فقال له أشياخ قريش: ما علمك؟

قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلّا خرَّ ساجداً، ولا يسجدون إلّا لنبيّ(1).

حرب الفِجَار

هاجت حرب الفِجار ورسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ابن العشرين، وإنما سمّي حرب الفِجار بما استحلّ هذان الحيّان: كنانة وقيس عيلان في الأشهر الحرم وفي منطقة الحرم المحارم بينهم، فإن الأشهر الحرم الأربعة كانت الجاهلية تحرم القتال فيها اقتداءً بإبراهيم الخليل(علیه السلام).

ولحلف دفاعي كان بين قريش وكنانة شملت الحرب قريشاً أيضاً ممّا اضطرّت إلى الدفاع عن نفسها، وكان الظفر في أوّل النهارلقيس على كنانة، حتّى إذا كان في وسط النهار كان النصر لكنانة على قيس.

عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إنه ذكر الفِجار فقال: «حضرته مع عمومتي»(2)، ونقل عنه(صلی الله علیه و آله) أنه قال: «كنتُ أُنبّل على أعمامي»(3).

ص: 30


1- تاريخ الطبري 2: 33.
2- الطبقات الكبرى 1: 128.
3- السيرة النبوية لابن هشام 1: 120؛ وقوله(صلی الله علیه و آله): «أنبل على أعمامي» أي: أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها.

حلف الفضول

وأوّل من دعى إليه الزبير بن عبد المطّلب عمّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فاجتمع إليه بنو هاشم وزهرة وبنو أسد بن عبد العُزّى وذلك في دار عبد اللّه بن جدعان التيمي.

وكان عبد اللّه بن جدعان ذا شرف وسنّ، وإنه من جملة من حرم الخمر على نفسه في الجاهلية بعد أن كان بها مغرماً، وسبب ذلك أنه سكر ليلة فصار يمدّ يده ويقبضها على ضوء القمر ليمسكه، فضحك منه جلساؤه ثم أخبروه بذلك حين صحا، فحلف أن لا يشرب الخمر أبداً.

وممَّن حرَّمها على نفسه في الجاهلية عثمان بن مظعون وقال: لا أشرب شيئاً يذهب عقلي ويضحك بي من هو أدنى منّي ويحملني على أن أُنكح كريمتي من لا أُريد.فصنع لهم عبد اللّه بن جدعان طعاماً وتعاقدوا وتعاهدوا باللّه ليكوننَّ مع المظلوم حتّى يؤدي إليه حقّه ما بل بحر صوفة، أي إلى الأبد(1).

وسمّي فضولاً، لأنّ الداعي إليه كان ثلاثة من أشرافهم اسم كل واحد منهم فضل، وهم: الفضل بن فضالة، والفضل بن وداعة، والفضل بن الحرث.

ص: 31


1- السيره الحلبية 1: 211.

وقال الشعراء فيه شعراً منه:

إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا *** ألّا يقيم ببطن مكّة ظالم

أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا *** فالجار والمعترّ فيهم سالم(1)

والسبب في هذا الحلف والحامل عليه، أن رجلاً من (زبيد) قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل وكان من أهل الشرف والقدر بمكّة، فحبس عنه حقّه فاستدعى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار ومخزوماً وجمحاً وسهماً وعدي بن كعب فأبوا أن يعينوه على العاص وانتهروه - أي: الزبيدي - فلمّا رأى الزبيدي الشرّ، رقى على أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبةفقال بأعلى صوته:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته *** ببطن مكة نائى الدار والقفر

فقام في ذلك الزبير بن عبد المطّلب وأسّس الحلف مع جماعة ثم أقبلوا على العاص بن وائل وأخذوا المتاع منه وسلّموه إلى الزبيدي(2). ثمّ اندرس ذلك فلم يبق إلّا ذكره في قريش.

ص: 32


1- البداية والنهاية 2: 356.
2- انظر السيرة الحلبية 1: 215.

ثم إن قبائل من قريش تداعت إلى ذلك الحلف، فتحالفوا في دار عبد اللّه بن جدعان لشرفه وسنّه، وكانوا بني هاشم وبني عبد المطّلب وبني أسد وبني عبد العزّى وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة، فتحالفوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلّا قاموا معه وكانوا على ظلمه حتى ترد عليه مظلمته.

فسمّت قريش ذلك الحلف حلف الفضول.

وشهده رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال حين أرسله اللّه تعالى: «لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد اللّه بن جدعان ما أحب أنّ لي به حمر النعم ولو دعيت به في الإسلام لأجبت»(1).

النبي(صلی الله علیه و آله) ورعي الأغنام

جاء في الخبر كما في سفينة البحار - مادة: نبأ - أنه: «ما بعث اللّه نبيّاً قطّ حتّى يسترعيه الغنم يعلمه بذلك رعيه الناس»(2).

وقد قام النبي(صلی الله علیه و آله) برعي الأغنام مدّة من حياته، ولذلك جاء في بعض المصادر التاريخية عن النبي(صلی الله علیه و آله) أنه قال: «ما من نبيّ إلّا وقد رعى الغنم»، قيل: وأنت يا رسول اللّه؟ فقال: «أنا رعيتها لأهل مكّة بالقراريط»(3)(4).

ص: 33


1- الكامل في التاريخ 2: 41.
2- سفينة البحار 8: 165.
3- القراريط: أي كل شاة بقيراط.
4- انظر البداية والنهاية 2: 360؛ وقريبٌ منه في بحار الأنوار 61: 117.

ولعلّ الهدف من ذلك كما جاء في رواية سفينة البحار(1) هو: التمرن على الحلم ومداراة الناس، وكذا للتطلّع على ما خلق اللّه تعالى من مناظر الطبيعة ورحابة الفضاء الموحية للإنسان سعة النفس ورحابة الصدر وعلوّ الهمّة.

النبي(صلی الله علیه و آله) والتجارة

ولمّا بلغ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خمساً وعشرين سنة، قال له أبو طالب: يا ابن أخي إنك لتعلم أن خديجة بنت خويلد هي من لا يضاهيها أحد في أموالها وتجارتها، وهي تبحث عن أمين يتصدّى رعاية عيرها إلى الشام، فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعَتْ إليك.وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمّه له، فأرسلت إليه في ذلك وقالت له: أنا اعطيك، ضعف ما أعطي رجلاً من قومك.

فأوكل(صلی الله علیه و آله) الأمر إلى مشورته مع عمّه أبي طالب، فقال له عمّه: هذا رزق ساقه اللّه إليك.

فخرج(صلی الله علیه و آله) مع غلامها ميسرة وجعل عمومته يوصون به أهل العير.

ثم باع(صلی الله علیه و آله) سلعته فوقع بينه وبين رجل تلاح فقال له: احلف باللات والعزّى، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «ما أحلف بهما قطّ»، فقال الرجل: القول قولك(2).

ص: 34


1- انظر سفينة البحار 8: 165.
2- انظر الطبقات الكبرى 1: 129.

وقدم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بتجارتها فربحت ضعف ما كانت تربح وأضعفت له خديجة ضعف ما سمّت له(1).

فجاء النبي(صلی الله علیه و آله) بكل ما حصل عليه من سفرته التجارية هذه وسلّمها إلى عمّه أبي طالب، فشكره عمّه عليها وأهدى له فرسين وجملين ليستعين بها في سفراته التجارية القادمة، وفكّر في أن يزوّجه بما حصل عليه من المال الذي قدّمه له ويجعله مهراً لمن يريد الزواج منها.

وبالفعل فقد طرح أبو طالب(علیه السلام) فكرة الزواج علىالنبي(صلی الله علیه و آله) وجعل له حق الاختيار والانتخاب، ووافقه(صلی الله علیه و آله) على ذلك.

هذا وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إيّاه بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قوماً تجاراً، فلمّا بلغ عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه أن يخرج في مالها إلى الشام تاجراً وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجّار(2).

اقتران النورين

وتزوَّج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بخديجة بنت خويلد وهو ابن خمس وعشرين سنة وخديجة يومئذ ابنة أربعين سنة، وكانت خديجة امرأة

ص: 35


1- الطبقات الكبرى 1: 131.
2- تاريخ الطبري 2: 34.

حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد اللّه بها من الكرامة.

فلمّا أخبرها ميسرة بما رأى من النبي(صلی الله علیه و آله) بعثت إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقالت: يا ابن عم، إني قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك(1)

في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، ثمَّ عرضت عليه نفسها وأبدت استعدادها للزواج منه.وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسباً وأوفرهنَّ جمالاً وأعظمهنَّ شرفاً، وأكثرهنَّ مالاً، وكلّ قومها كان حريصاً على ذلك منها لو يقدر عليه(2)، وكانت تدعى في الجاهلية: بالطاهرة ويقال لها: سيّدة قريش.

وقد ذهب جمع من علمائنا المحقّقين(3)

إلى أنها كانت بكراً ولم تتزوَّج من قبل وإن حديث تزوّجها قبل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) كذب اخترعه بعض من أراد أن يخصّ البكارة في غيرها ليحطّ من شأنها وجليل قدرها.

وأولم عليها(صلی الله علیه و آله) بجزور وقيل بجزورين وهي أول وليمة أولمها.

وكان السفير والواسطة لترغيب الرسول(صلی الله علیه و آله) في الزواج من خديجة: نفيسة بنت منبه، والمزوّج له: عمّه أبو طالب مع حضور حمزة وبقيّة أعمامه، وكان الصداق من الذهب اثنتي عشرة أوقية

ص: 36


1- سِطَتك: شرفك وسامي منزلتك.
2- انظر تاريخ الطبري 2: 35؛ كشف الغمة 1: 509.
3- انظر مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 1: 138.

ونصف أوقية وهي أربعون درهماً شرعيّاً، ولم يتزوّج(صلی الله علیه و آله) عليها غيرها حتى ماتت.

ولمّا أرسلت إلى النبي(صلی الله علیه و آله) أخبر بذلك أعمامه فخرج معه حمزة بن عبد المطّلب وأبو طالب وغيرهما من عمومته حتّى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه فتزوّجها.ولمّا تمّ الإيجاب والقبول أمرت السيّدة خديجة بشاة فذبحت واتَّخذت طعاماً ودعت عمّها عمرواً، وجاء رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ومعه حمزة بن عبد المطّلب وأبو طالب ورؤساء مضر، فأكلوا.

ثم قام رجل من قريش يدعى: عبد اللّه بن غنم وأخذ يهنّي خديجة بهذا الزواج المبارك وهو ينشد قائلاً:

هنيئاً مريئاً يا خديجة قد جرت *** لك الطير فيما كان منك بأسعد

تزوّجتِ من خير البريّة كلّها *** ومن ذا الّذي في الناس مثل محمّد

به بشّر البِرّان عيسى بن مريم *** وموسى بن عمران فيا قرب موعد

أقرّت به الكتّاب قِدماً بأنّه *** رسول من البطحاء هادٍ ومهتد(1)

ص: 37


1- انظر الكافي 5: 375.

وكان أوّل من ولد لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) القاسم وبه كان يُكنّى، وسمّي بالطاهر، ثم عبد اللّه، وسُمّي بالطيّب، ثم زينب، ثم رقية، ثم أُم كلثوم، ثم فاطمة(علیها السلام) وأُمهم خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصي، وأُمها فاطمةبنت زائدة.

وذهب بعض إلى أن بعضهن كن متبنيات للنبي(صلی الله علیه و آله).

وكان أوّل من مات من ولده القاسم، ثم مات عبد اللّه بمكة، فقال العاص بن وائل: قد انقطع ولده فهو أبتر فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ}(1)(2).

إبراهيم، ابن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

ولمّا رجع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من الحديبية في ذي القعدة سنة (6) من الهجرة بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس القبطي صاحب الإسكندرية، وكتب معه إليه كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام.

فلمّا قرأ الكتاب قال: خيراً، وأخذ الكتاب فكان مختوماً فجعله في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى جارية له، وكتب إلى النبي(صلی الله علیه و آله) جواب كتابه ولم يسلم، وأهدى إلى النبي(صلی الله علیه و آله) مارية القبطية وأُختها (سيرين)وحماره (يعفور) وبغلته (دلدل) وكانت

ص: 38


1- سورة الكوثر، الآية: 1-3.
2- انظر بحار الأنوار 22: 166.

بيضاء ولم يكن في العرب يومئذ غيره.

وولدت مارية لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) غلاماً، فعقّ عنه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بشاة يوم سابعه وحلق رأسه فتصدَّق بزنة شعره فضّة على المساكين وأمر بشعره فدفن في الأرض، وسمّاه ابراهيم، وغار منها بعض نساء رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) واشتد عليها حين رزق منها الولد.

عن أنس بن مالك قال: خرج علينا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حين أصبح وقال: «إنه ولد لي الليلة غلام وإني سميته باسم أبي: إبراهيم»(1).

فلمّا مات دمعت عينا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال له عبد الرحمن: يا رسول اللّه هذا الذي تنهى الناس عنه؟ فإنه متى يراك المسلمون تبكي بكوا.

قال: «إنما هذا من الرحمة ومن لا يَرحم لا يُرحم، إنما ننهى الناس عن النياحة وأن يندب الرجل بما ليس فيه».

ثم قال: «لو لا أنه وعد جامع وسبيل مِئتاء(2) وأن آخرنا لاحق بأولنا لوجدنا عليه وجداً غير هذا، وإنّا عليه لمحزونون، تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ، وفضل رضاعه فيالجنّة»(3).

وحين دفن إبراهيم قال: «هل من أحد يأتي بقربة»، فأتى رجل

ص: 39


1- انظر الطبقات الكبرى 1: 134.
2- الطبقات الكبرى 1: 137؛ وقريبٌ منه في الكافي 3: 262.
3- مِئتاء من الإتيان، أي: يأتيه الناس كثيراً.

من الأنصار بقربة ماء فقال: «رشها على قبر إبراهيم».

ولمّا سوى جدثه كأن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) رأى كالحجر في جانب الجدث، فجعل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يسوي بإصبعه ويقول: «إذا عمل أحدكم عملاً فليتقنه فإنه مما يسلي بنفس المصاب»(1).

وأمّا زينب فتزوّجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزّى بن عبد شمس بن عبد مناف، وأُمه هالة بنت خويلد، فولدت عليّاً وأُمامة.

فأما علي فأردفه النبي(صلی الله علیه و آله) وراءه يوم الفتح ومات مراهقاً.

وأما أُمامة فتزوّجها علي بن أبي طالب(علیه السلام) بعد خالتها فاطمة(علیها السلام)، وتزوّجها بعد علي(علیه السلام) المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطّلب بوصيّة من علي(علیه السلام) كما قيل، فولدت له يحيى بن المغيرة وماتت عنده(2).

وكان النبي(صلی الله علیه و آله) يحبّها كثيراً حتى أنها كانتفي صغرها تأتي إلى المسجد وتعلو منكب الرسول(صلی الله علیه و آله) وهو في السجود، فكان(صلی الله علیه و آله) يطيل سجوده إلى أن تنزل بنفسها، وكان أحياناً يحملها في الصلاة(3).

وأما رقية فتزوّجها عثمان بن عفّان.

ص: 40


1- الطبقات الكبرى 1: 141.
2- انظر عيون الأثر 2: 364.
3- انظر ذخائر العقبى: 161.

وذهب بعض المحققين أنهما كانتا متبنيتان للنبي(صلی الله علیه و آله).

وأما أُم كلثوم فتزوّجها عثمان بعد موت رقيّة.

اعلم أنّ زواج رقية وأُم كلثوم كان في مكة، فقد تزوّجت إحداهما عتيبة بن أبي لهب والأخرى عتبة بن أبي لهب، لكنهما طلقاهما قبل أن يدخلا بهما بأمر أبي لهب.

وقيل: كان المتزوّج برقية عتبة والمتزوّج بأُم كلثوم عتيبة.

وأمّا فاطمة(علیها السلام) فتزوّجها علي(علیه السلام) وهي وحدها(علیها السلام) التي بقيت بعد أبيها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) مع أنه لم يطل بقاءها بعده إلّا قليلاً.

وقد ولدت فاطمة(علیها السلام) من علي(علیه السلام) ستّة: ثلاثة ذكور وثلاثة أُناث، فالذكور: الحسن والحسين والمحسن، والأُناث: زينب واُم كلثوم ورقية، نعم في رقية خلاف، والمشهور لم يذكروها.

الحجر الأسود وحَكَمية الرسول(صلی الله علیه و آله)

ثم إنه لمّا تهدّمت الكعبة بسبب السيل جاءت القبائل من قريش وجمعت الحجارة لبنائها، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتحالفوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا: لقعة الدم، فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً.

ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا وتناصفوا قالوا: أن أبا

ص: 41

أُمية بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم وكان في ذلك الوقت أسنّ قريش كلها، فقال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا فكان أوّل داخل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فلمّا رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا به، هذا محمد(صلی الله علیه و آله).

فلمّا انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال(صلی الله علیه و آله): «هلمّ إليَّ ثوباً»، فأُتي به فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه(صلی الله علیه و آله) هو بيده ثم بنى عليه.وكانت قريش تسمّي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قبل أن ينزل عليه الوحي: (الأمين) كما كانوا يسمّونه: الصادق، فعرف(صلی الله علیه و آله) بينهم: بالصادق الأمين(1).

فلمّا بلغ رسول اللّه الخامسة والثلاثين سنة من عمره المبارك، جددت قريش بناء الكعبة لتصدع جدرانها بسيل دخلها بعد حريق أصابها من تبخير لها، فكان(صلی الله علیه و آله) ينقل معهم الحجارة، فلمّا وصلوا إلى موضع الحجر اختلفوا فيمن يضعه، ثم رضوا بأن يضعه الرسول(صلی الله علیه و آله) بيده فوضعه(صلی الله علیه و آله)(2).

ص: 42


1- انظر تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) 1: 186.
2- نور الأبصار: 28.

إرهاصات النبوة

وكان(صلی الله علیه و آله) قبل أن يظهر له جبرئيل يرى ويعاين آثاراً من آثار من يريد اللّه إكرامه بفضله، من ذلك أنه(صلی الله علیه و آله) كان لا يمرّ بحجر ولا شجر إلّا سلّم عليه، وكانت الأُمم تتحدث بمبعثه، وتخبر علماء كلّ أُمّة قومها بذلك.

قال عامر بن ربيعة: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: إنّا لننتظر نبياً من ولد إسماعيل ثم من بني عبد المطّلب ولا أراني أدركه وأنا أُؤمن به وأُصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك الحياة ورأيتهفاقرأه منّي السلام وسأخبرك بأوصافه حتى لا يخفى عليك.

قلت: هلم.

قال: هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكثير الشعر ولا بقليله، لا تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوّة بين كتفيه واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه ويكرهون ما جاء به، فيهاجر إلى يثرب، فيظهر بها أمره، فإيّاك أن تنخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكل من أساله من اليهود والنصارى والمجوس يقول: هذا الدين ورائك وينعتونه مثل ما نعتّه لك، ويقولون: لم يبق نبيّ غيره.

قال عامر: فلمّا أسلمتُ أخبرتُ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بقول زيد وإقرائه السلام، فردّ عليه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وترحَّم عليه وقال: «قد

ص: 43

رأيته في الجنّة يسحب ذيولاً»(1).

وقال جبير بن مطعم: كنّا جلوساً عند صنم بُوانة(2) قبل أن يبعث رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بشهر، نحرنا جزوراً فإذا صائح يصيح من جوف الصنم: اسمعوا إلى العجب، ذهب استراقالوحي، ونرمى بالشهب، لنبي بمكة اسمه أحمد مهاجره إلى يثرب، قال: فأمسكنا وعجبنا وخرج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)(3).

قالوا: وإن بني غفار قرّبوا عجلاً لهم ليذبحوه على بعض أصنامهم، فشدوه فصاح: يا آل ذريح أمر نجيح صائح يصيح بلسان فصيح بمكّة يشهد أن لا إله إلّا اللّه.

قال: فنظروا فإذا النبي(صلی الله علیه و آله) قد بُعِث(4).

النبي(صلی الله علیه و آله) في الكتب السابقة

وكان الزبير بن باطا - وكان أعلم اليهود - يقول: إني وجدتُ سِفراً كان أبي يختمه عليّ، فيه ذكر أحمد(صلی الله علیه و آله)، نبي يخرج بأرض القرظ صفته كذا وكذا، فتحدَّث به الزبير بعد أبيه والنبي لم يبعث فما هو إلّا أن سمع بالنبي(صلی الله علیه و آله) قد خرج بمكّة عمد إلى السِّفر فمحاه وكتم

ص: 44


1- الطبقات الكبرى 1: 161؛ وقريبٌ منه في بحار الأنوار 15: 413. و«يسحب ذيولاً» أي يجره على الأرض، يقال: جاء يسحب ذيله أي يمشي متبخراً.
2- بُوانة: قيل اسم موضع بالقرب من مكة.
3- الكامل في التاريخ 2: 47.
4- الطبقات الكبرى 1: 158.

شأن النبي وقال: ليس به.

وقال: كانت اليهود من قريظة والنظيروفدك وخيبر يجدون صفة النبي(صلی الله علیه و آله) عندهم قبل أن يُبعث، وأن دار هجرته بالمدينة، فلمّا وُلِد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قالت أحبار اليهود: ولد أحمد الليلة، هذا الكوكب قد طلع، فلمّا تنبأ قالوا: قدتنبأ أحمد، قد طلع الكوكب الذي يطلع وكانوا يعرفون ذلك ويقرّون به ويصفونه(1).

قال زيد بن عمرو بن نفيل: شاهدت(2)

النصرانية واليهودية فكرهتهما فكنت بالشام وما والاها حتى أتيت راهباً في صومعة فوقفت عليه فذكرت له اغترابي عن قومي وكراهتي عن عبادة الأوثان واليهودية والنصرانية.

فقال لي: أراك تريد دين إبراهيم يا أخا أهل مكّة، إنك لتطلب ديناً ما يؤخذ اليوم به هو دين أبيك إبراهيم، وكان حنيفاً لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، كان يصلّي ويسجد إلى هذا البيت الذي ببلادك، فالحق ببلدك فإنّ نبيّاً يبعث من قومك في بلدك يأتي بدين إبراهيم الحنيف وهو أكرم الخلق على اللّه(3).

خاتم الأنبياء

وقالوا: أوحى اللّه إلى يعقوب: إني أبعث من ذرّيتك ملوكاً

ص: 45


1- الطبقات الكبرى 1: 159.
2- في الأصل شاممت، أي: قاربته لأعرف ما عنده بالاختبار والكشف.
3- الطبقات الكبرى 1: 162.

وأنبياء حتى أبعث النبي(صلی الله علیه و آله) الحرمي، تبني أُمّته هيكل بيت المقدس، وهو خاتم الأنبياء واسمه أحمد.

ولمّا خرجت هاجر بابنها إسماعيل تلقاها متلق فقال: يا هاجر إن ابنك أبو شعوب كثيرة، ومن شعبه النبي الأُمي ساكن الحرم.وإن كعب بن أسد قال لبني قريظة حين نزل النبي(صلی الله علیه و آله) في حصنهم: يا معشر اليهود تابعوا الرجل فواللّه إنه النبي، وقد تبيّن لكم أنه نبيّ مرسل، وأنه الذي تجدونه في الكتب، وأنه الّذي بشَّرنا به عيسى، وأنكم لتعرفون صفته، قالوا: هو به ولكن لا نفارق حكم التوراة.

وقال: بعثت قريش النضر بن الحارث بن علقمة، وعقبة بن أبي معيط، وغيرهما، إلى يهود يثرب، وقالوا لهم: سلوهم عن محمّد(صلی الله علیه و آله)، فقدموا المدينة فقالوا: أتيناكم لأمر حدث فينا، خرج منّا غلام يتيم فقير يقول قولاً عظيماً، يزعم أنه رسول الرحمن ولا نعرف الرحمن إلّا رحمان اليمامة، قالوا: صفوا لنا صفته، فوصفوا لهم، قالوا: فمن تبعه منكم، قالوا: سفلتنا، فضحك حبر منهم وقال: هذا النبي نجد نعته ونجد قومه أشد الناس له عداوة(1).

وقالوا: كانت امرأة في بني النجار يقال لها: فاطمة بنت النعمان كان لها تابع من الجن فكان يأتيها، فأتاها حين هاجر النبي(صلی الله علیه و آله)

ص: 46


1- الطبقات الكبرى 1: 163-165.

فانقضّ على الحائط فقالت: ما لك لم تأت كما كنت تأتي؟ قال: قد جاء النبي الذي يحرّم الزنا والخمر.

وقالوا: كان الوحي يستمع، وكان لامرأة من بني أسد تابع فأتاهايوماً وهو يصيح: جاء أمر لا يطاق: أحمد، حرَّم الزنا، فلمّا جاء بالإسلام منعوا الاستماع(1).

وكانت الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قبل مبعثه لمّا تقارب من زمانه.

أما الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى فممّا وجدوا في كتبهم من صفته، وصفة زمانه، وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه.

وأمّا الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين من الجنّ فيما تسترق من السمع إذ كانت وهي لا تحجب عن ذلك بالقذف من النجوم، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أمور لا تلقي العرب لذلك فيه بالاً، حتى بعث اللّه تعالى النبي(صلی الله علیه و آله) ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها، فلمّا تقارب أمر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وحضر مبعثه حجبت الشياطين عن السمع وحيل بينهم وبين المقاعد التي كانت تقعد لاستراق السمع فيها فرموا بالنجوم، فعرفت الجن أن ذلك لأمر حدث عن أمر اللّه في العباد.

ص: 47


1- الطبقات الكبرى 1: 167.

يقول اللّه تبارك وتعالى لنبيّه(صلی الله علیه و آله) حين بعثه وهو يقصّ خبر الجنّ إذ حجبوا عن السمع فعرفوا ما عرفواوأنكروا من ذلك حين رأوا ما رأوا: {قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا}(1)(2).

مبعث رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

هبط أمين الوحي جبرئيل بالنبوّة على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في غار حراء، وذلك في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب المكرَّم، ورسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يومئذ ابن الأربعين سنة، بعثه اللّه رحمة للعالمين، وكافة للناس أجمعين، وجاء إليه بالقرآن والذكر المبين.

قال بعضهم: كان أوّل ما ابتدأ به رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من الوحي الرؤيا الصادقة كانت تجيء مثل فلق الصبح(3).

ثم حبب إليه الخلاء فكان بغار حراء، وغار حراء هو المسمّى في دعاء سمات ب- : (جبل فاران) وهو جبل مرتفع يقع في القسم الشمالي من مكة، يغطّيه قطع من الصخور المحترقة السوداء بحيث لا يرى عليه أثر من آثار الحياة، ويمكن الصعود إلى قمته في وقت مقداره نصف ساعة تقريباً، في هذا الجبل بالذات وفي

ص: 48


1- سورة الجن، الآية: 1.
2- السيرة النبوية لابن هشام 1: 132.
3- مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 1: 42.

الجانب الشمالي منه تماماً، وفي تعرّجات الصخور المحترقة يكونالغار وطوله بمقدار قامة إنسان معتدل، عندما تشرق الشمس وفي النهار ينعكس الضوء في مدخل الغار وبعض منه، ويبقى معظم الغار مظلماً لا يرى فيه شيئاً من النور، فكان(صلی الله علیه و آله) يتعبَّد فيه الليالي ذوات العدد، ثم يرجع إلى أهله فيتزوَّد لمثلها حتّى جاءه الحقّ فأتاه جبرئيل ومعه لوح فيه القرآن فعرضه على النبي(صلی الله علیه و آله) وقال: اقرأ.

فقال(صلی الله علیه و آله): «لم أكن لأقرأ».

فضمّه جبرائيل إلى صدره ضمّة قويّة ثم قال له: اقرأ.

فقال(صلی الله علیه و آله) ثانية: «لم أكن لأقرأ».

فضمّه جبرئيل ثانية وثالثة، وفي الثالثة أحسّ النبي(صلی الله علیه و آله) أنه يتمكّن أن يقرأ ما في اللّوح، فأخذ يقرأ: {بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ * ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ * ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ * ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ * عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ}(1).

أكمل جبرئيل رسالته ثم التفت إلى النبي(صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد أنت رسول اللّه.

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «فجثوت لركبتي ترجفبوادري، فدخلتُ على خديجة فقلت: زمّلوني، زمّلوني»(2).

ص: 49


1- سورة العلق، الآية: 1-5.
2- انظر تاريخ الطبري 2: 47.

قال بعضهم: فابتدي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالتنزيل في شهر رمضان يقول اللّه: {شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ}(1).

وقال تعالى: {إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ}(2).

وقال سبحانه وتعالى: {حمٓ * وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ * إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةٖ مُّبَٰرَكَةٍۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}(3)(4).

وفتر الوحي ولعلّه لأجل تهيئة النبيّ(صلی الله علیه و آله) لتحمل هذه المسؤوليّة العظيمة والقيام بأعباء الرسالة، ثمّ نزل عليه جبرئيل بسورة {يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ}(5). وتتابع الوحي وصار يدعو الناس إلى اللّه خفية لعدم الأمر بالإظهار.

وأول سورة نزلت على النبيّ(صلی الله علیه و آله) هي سورة: {ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ}(6).وعن بعض الصحابة قال: من صام يوم 27 من رجب كتب اللّه تعالى له صيام ستّين شهراً وهو اليوم الذي نزل فيه جبرئيل على النبيّ(صلی الله علیه و آله) بالرسالة وأول يوم هبط فيه على النبيّ ولم يهبط عليه قبل

ص: 50


1- سورة البقرة، الآية: 185.
2- سورة القدر، الآية: 1.
3- سورة الدخان، الآية: 1-3.
4- انظر السيرة النبوية لابن هشام 1: 157.
5- سورة المدثر، الآية: 1.
6- سورة العلق، الآية: 1.

ذلك(1).

وقال: رأيت الوحي ينزل على النبيّ(صلی الله علیه و آله) وأنّه على راحلته فترغو(2)

وتفتل يديها حتى أظن ذراعها يتفصّم، فربّما بركت وربّما قامت موتّدة(3)

يديها حتى يسري عنه من ثقل الوحي، وأنّه لينحدر منه مثل الجُمان(4)(5).

ولعلّ حكمة ذلك أن يعرف الناس أنّه شيء خارق.

وقالت بعض أزواجه: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليفصد عرقاً(6).

النبي(صلی الله علیه و آله) على يقين من رسالته

هل النبيّ(صلی الله علیه و آله) شك في الوحي، أو تردد في ما نزل عليه به الوحي؟ كلا، فهذا زرارة يسأل الإمام الصادق(علیهالسلام) ويقول: كيف لم يخف رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في ما يأتيه من قبل اللّه أن يكون ذلك مما ينزغ به الشيطان؟ فقال(علیه السلام): «إنّ اللّه إذا اتّخذ عبداً رسولاً، أنزل عليه السكينة والوقار، فكان الذي يأتيه من قبل اللّه مثل الذي يراه

ص: 51


1- السيرة الحلبيه 1: 384.
2- ترغو من رغا البعير: صوّت وضج، وتفتل يديها: تلويهما.
3- موتدة: من وتد رجله في الأرض، أي ثبتها.
4- الجُمان: اللؤلؤ.
5- الطبقات الكبرى 1: 197؛ وبحار الأنوار 18: 264.
6- إمتاع الأسماع 2: 378.

بعينه»(1).

ولذا يقال في هذا المجال: إنّ اللّه لم يوح إلى رسوله إلّا مع أدلّة واضحة، وقرائن جليّة، يطمئنّ إلى أنّ ما نزل إليه إنّما هو من اللّه تعالى.

أول من آمن باللّه وصدّق برسوله(صلی الله علیه و آله)

فكان أوّل من آمن به وصدّقه من الرجال: علي بن أبي طالب(علیه السلام) ومن النساء خديجة بنت خويلد(علیها السلام).

وعن علي(علیه السلام) أنّه قال: «أنا عبد اللّه وأخو رسول اللّه وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلّا كاذب مفتر، صلّيت مع رسول اللّه قبل الناس بسبع سنين»(2).

وقال بعضهم: وكان علي(علیه السلام) يوم أسلم ابن تسعسنوات أو أقلّ(3)،

وكان من نعمة اللّه عليه أنّ قريشاً أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) للعبّاس: يا عمّ إنّ أبا طالب كثير العيال فانطلق بنا نخفف عن عيال أبي طالب، فانطلقا إليه وأعلماه ما أرادا، فقال أبو طالب: اتركا لي عقيلاً واصنعا ما شئتم، فأخذ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) علياً وأخذ العبّاس جعفراً، فلم يزل

ص: 52


1- تفسير العياشي 2: 201.
2- الطرائف 1: 20؛ ومناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 1: 299.
3- الإرشاد 1: 306.

عليّ(علیه السلام) عند النبيّ(صلی الله علیه و آله) حتى أرسله اللّه فاتبعه(1).

ولعلّ هذا كان بإشارة من أبي طالب حتى يكون عليّ(علیه السلام) عند الرسول(صلی الله علیه و آله) فيتربّى على يديه ويستعد لوصايته(صلی الله علیه و آله) لأنّ أبا طالب كان هو من أوصياء إبراهيم الخليل(علیه السلام) كما ورد(2)،

وكان يعرف مستقبل ابن أخيه وابنه.

وعلى أثر ذلك تربّى عليّ(علیه السلام) مؤمناً لم يشرك باللّه شيئاً حتى يستأنف الإسلام، بل كان تابعاً للنبيّ(صلی الله علیه و آله) في جميع أفعاله مقتدياً به، وإنّما كان إسلامه إظهاراً للإسلام، وإيمانه إعلاناً عن إيمانه باللّه ورسوله الذي نشأ عليه وترعرع.

ربيب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

وإلى ذلك أشار(علیه السلام) كما في نهج البلاغة: «وضعني في حجره وأنا وليد، يضمّني إلى صدره... ويشمّني عَرْفه(3)

... ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أَثَر أُمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه عَلَماً(4)

ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ

ص: 53


1- الكامل في التاريخ 2: 58.
2- انظر الكافي 1: 293 و 1: 445؛ وبحار الأنوار 17: 142.
3- عَرفه: رائحته الذكية.
4- عَلَماً: أي فضلاً ظاهراً.

ريح النبوة»(1).

وإنّ أهل بيته(صلی الله علیه و آله) آمنوا به قبل كلّ أحد، خديجة وبناتها، وزيد وزوجته، وعلي، وأمّا فاطمة فما ولدت إلّا بعد البعثة(2).

وعن سلمان(رحمة الله): أنّ النبيّ(صلی الله علیه و آله) قال: «أوّل هذه الأمّة وروداً على الحوض أوّلها إسلاماً علي بن أبي طالب(علیه السلام)»(3).

وعن خصائص العشرة للزمخشري: أنّ النبيّ(صلی الله علیه و آله) تولى تسميته بعليّ(علیه السلام) وتغذيته أيّاماً من ريقهالمبارك بمصه لسانه.

فعن فاطمة بنت أسد أمّ عليّ(علیه السلام)، أنّها قالت: لمّا ولدته سمّاه عليّاً وغذّاه من ريقه، ثمّ إنه ألقمه لسانه، فما زال يمصه حتى نام.

قالت: فلمّا كان من الغد طلبنا له مرضعة فلم يقبل ثدي أيّة مرضعة فدعونا له محمّداً(صلی الله علیه و آله)، فألقمه لسانه فنام، فكان كذلك ما شاء اللّه عزّ وجلّ(4).

وكانت أمّ عليّ(علیه السلام) وهي فاطمة بنت أسد - كأبيه وهو أبو طالب - مؤمنة باللّه كما يدل عليه حديثها: إنّي مؤمنة بك وبأبي إبراهيم(5)،

ص: 54


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192 من خطبة له(علیه السلام) تسمى القاصعة.
2- انظر السيرة الحلبية 1: 435.
3- الاستيعاب 3: 1091.
4- السيرة الحلبية 1: 432.
5- انظر الأمالي للشيخ الصدوق: 132 قولها: ربّ إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل.

قالت ذلك في وقت دخولها الكعبة عندما أخذها الطلق.

وكان عليّ(علیه السلام) أصغر إخوته فكان بينه وبين أخيه جعفر عشر سنوات وبين جعفر وأخيه عقيل كذلك، وبين عقيل وطالب كذلك أيضاً، فكل أكبر من الذي بعده بعشر سنين، فأكبرهم طالب ثمّ عقيل ثمّ جعفر ثمّ علي(علیه السلام).

وقد جاء عنه(صلی الله علیه و آله) أنّه قال لعقيل لما أسلم: «ياأبا يزيد إنّي أُحبّك حبين: حبّاً لقرابتك مني، وحبّاً لما كنت أعلم من حبّ عمي إيّاك».

وكان عقيل أسرع النّاس جواباً وأبلغهم في ذلك، فقد روي أنّه قال له معاوية يوماً: أين ترى عمّك أبا لهب من النار؟ قال: إذا دخلتها يا معاوية فهو على يسارك مفترشاً عمّتك حمالة الحطب والراكب خير من المركوب(1).

وعن عفيف الكندي قال: كنت امرءاً تاجراً فقدمت مكّة أيّام الحج وأنا أريد أن أبتباع لأهلي من ثيابها وعطرها، فأتيت العباس بن عبد المطّلب وكان تاجراً فأنا عنده جالس حيث انظر إلى الكعبة وقد حلّقت الشمس في السماء فارتفعت وذهبت، إذ جاء شاب فرمى ببصره إلى السماء ثمّ قام تجاه الكعبة، ثمّ لم ألبث إلّا يسيراً حتى جاء غلام فقام عن يمينه، ثمّ لم ألبث إلّا يسيراً حتى جاءت

ص: 55


1- انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 93.

امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة فرفع الشاب فرفع الغلام والمرأة، فسجد الشاب فسجد الغلام والمرأة.

فقلت: يا عبّاس أمرٌ عظيم.

قال العباس: أمر عظيم، تدري من هذا الشاب؟

قلت: لا.قال: هذا محمّد بن عبد اللّه ابن أخي، أتدري من هذا الغلام؟ هذا ابن أخي علي بن أبي طالب(علیه السلام)، أتدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد زوجته، إنّ ابن أخي هذا أخبر من أنّ ربّه ربّ السماوات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه وزعم أنّ اللّه أرسله، وأنّ كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، ولا واللّه ما على الأرض كلّها أحدٌ على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة. فقال عفيف: ليتني كنت لهم رابعاً(1).

ونقل عن عليّ(علیه السلام) أنّه قال:

سبقتكم إلى الإسلام طراً *** صغيراً ما بلغت أوان حلم(2)

إن قيل: وهل على من لم يبلغ الحُلُم تكليف؟

أُجيب: نعم، التكليف على مثل عليّ(علیه السلام) الذي هو ربيب الرسول(صلی الله علیه و آله) ورضيع الإيمان وإن لم يبلغ الحُلُم صحيح، ولولا

ص: 56


1- انظر السيرة النبوية 1: 429؛ وخصائص أمير المؤمنين(علیه السلام): 45.
2- الفصول المختارة: 262.

صحّته لما عرض الرسول(صلی الله علیه و آله) الإسلام عليه.

هذا إضافة إلى ما قيل من أنّ الصبيان كانوا آنذاك مكلّفين لأنّ القلم إنّما رفع عن الصبي عام خيبر.وعن البيهقي: إنّ الأحكام تعلقت بالبلوغ في عام الخندق، وفي رواية أخرى من عام الحديبيّة، وكان قبل ذلك منوطاً بالتمييز(1).

وفي الحديث: «ثلاثة ما كفروا باللّه قطّ: مؤمن آل ياسين، وعلي بن أبي طالب(علیه السلام)، وآسية إمرأة فرعون»(2).

أفضل السابقين

وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه، قال: قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «سبّاق الأُمم ثلاثة لم يكفروا باللّه طرفة عين: علي بن أبي طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون. فهم الصديقون: حبيب النجار مؤمن آل يس، وحزقيل مؤمن آل فرعون، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم»(3).

أنشد عبد الرحمن بن جعل الجهمي يقول فيه حين بويع لعلي(علیه السلام):

لعمري لقد بايعتم ذا حفيظة

على الدين معروف العفاف موفقاً

ص: 57


1- السيرة الحلبية 1: 433.
2- تاريخ مدينة دمشق 42: 313.
3- بناء المقالة الفاطمية: 258.

عفيفاً عن الفحشاء أبيض ماجداً *** صدوقاً وللجبّار قدماً مصدقاً

أبا حسن فارضوا به وتمسَّكوا *** فليس لمن فيه يرى العيب منطقاً

علي وصي المصطفى وابن عمّه *** وأول من صلّى لذي العرش واتّقى(1)

وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لعليّ وضرب بين كتفيه: «يا علي لك سبع خصال لا يحاجك فيهنّ أحدٌ يوم القيامة: أنت أوّل المؤمنين باللّه إيماناً، وأوفاهم بعهد اللّه، وأقومهم بأمر اللّه، وأرأفهم بالرعيّة، وأقسمهم بالسويّة، وأعلمهم بالقضيّة، وأعظمهم يوم القيامة مزيّة»(2).

وأنشد بعض أهل الكوفة في أيّام صفين في مدحه شعراً:

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته *** يوم النشور من الرحمن غفراناً

أوضحت من ديننا ما كان مشتبهاً *** جزاك ربّك منّا فيه إحساناً

ص: 58


1- انظر الدر النظيم: 400.
2- الدر النظيم: 283.

نفسي الفدا لأولَى النّاس كلّهم *** بعد النبيّ عليّ الخير مولاناأخي

النبيّ ومولى المؤمنين معاً *** وأوّل الناس تصديقاً وإيماناً(1)

ص: 59


1- انظر كشف الغمة 1: 85.

الصديق والفاروق

وروى الحمويني بسنده عن أبي رافع عن أبي ذر قال: سمعت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يقول لعليّ: «أنت أول من آمن بي، وأنت أوّل من يصافحني يوم القيامة، وأنت الصديق الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل، وأنت يعسوب المسلمين والمال يعسوب الكفّار»(1).

الإنذار العام

قال ابن اسحاق: ثمّ دخل الناس في الإسلام أفواجاً من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكّة وتحدّث به.

ثمّ إنّ اللّه عزّ وجلّ أمر رسوله(صلی الله علیه و آله) أن يصدع بما جاءه منه وأن يبادي الناس بأمره وأن يدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول اللّه أمره واستتر به، إلى أن أمره اللّه تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين من مبعثه، ثمّ قال اللّه تعالى له: {فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ}(2).

وقال تعالى: {وَأَنذِرۡ عَشِيرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِينَ *وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِمَنِ

ص: 60


1- ينابيع المودة 1: 88؛ تاريخ مدينة دمشق 42: 42.
2- سورة الحجر، الآية: 94.

ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ}(1).

وقال سبحانه: {وَقُلۡ إِنِّيٓ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلۡمُبِينُ}(2)(3).

وعن ابن عبّاس: لمّا نزلت هذه الآية: {وَأَنذِرۡ عَشِيرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِينَ}(4). خرج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حتى صعد الصفا فهتف: «يا صباحاه».

فقالوا: من هذا الذي يهتف؟

قالوا: محمّد.

فقال: «يا بني فلان، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، فأجتمعوا إليه».

فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أنّ خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدّقي؟»

قالوا: ماجرّبنا عليك كذباً.

قال: «فإنّي نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد».

فقال أبو لهب: تبّاً لك ما جمعتنا إلّا لهذا؟ثمّ قال: فنزلت: {تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ}(5). إلى آخر السورة(6).

ص: 61


1- سورة الشعراء، الآية: 214-215.
2- سورة الحجر، الآية: 89.
3- السيرة النبوية لابن هشام 1: 169.
4- سورة الشعراء، الآية: 214.
5- سورة المسد، الآية: 1.
6- تاريخ الطبري 2: 62.

وعن سالم عن عليّ(علیه السلام) قال: «أمر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خديجة وهو بمكّة فاتخذت له طعاماً، ثمّ قال لعلي(علیه السلام): أُدع لي بني عبد المطّلب، فدعا أربعين رجلاً، فقال لعلي: هلمّ طعامك. قال علي: فأتيتهم بثريدة إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها، فأكلوا منها جميعاً حتى أمسكوا.

ثمّ قال: اسقهم فسقيتهم بإناء هو ريّ أحدهم، فشربوا منه جميعاً حتى صدروا، فقال أبو لهب: لقد سحركم محمد، فتفرقوا ولم يدعُهم.

فلبثوا أيّاماً صنع لهم طعاماً مثله، ثمّ أمرني فجمعتهم، فطعموا، ثمّ قال لهم(صلی الله علیه و آله): من يؤازرني على ما أنا عليه ويجيبني على أن يكون أخي وله الجنّة؟

فقلت: أنا يا رسول اللّه، إنّي لأحدثهم سنّاً وأحمشهم ساقاً وسكت القوم. ثمّ قالوا: يا أبا طالب ألا ترى ابنك؟ قال: دعوه فلن يألو ابن عمّه خيراً»(1).

وبرواية أخرى: أنّه(صلی الله علیه و آله) قال لهم: «إنّ الرائد لايكذب أهله، واللّه الذي لا إله إلّا هو إنّي رسول اللّه إليكم خاصّة وإلى الناس عامة، واللّه لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستقيظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، وإنّها الجنّة أبداً، والنار أبداً».

ص: 62


1- الطبقات الكبرى 1: 187.

ثمّ قال: «يا بني عبد المطلب إنني واللّه ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه، فأيّكم يوازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟

قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت وإنّي لأحدثهم سنّاً: أنا يا نبيّ اللّه أكون وزيرك، فأخذ برقبتي، ثمّ قال: إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع(1).

أبو طالب(علیه السلام) وموقفه من النبي(صلی الله علیه و آله)

قال المؤرّخون: دعا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى الإسلام سرّاً وجهراً فاستجاب له من شاء من أحداث الرجال وضعفاء الناس حتى كثر من آمن به، وكفار قريش غير منكرين لما يقول، فكان إذا مرّ عليهم في مجالسهم يشيرون إليه أنّ غلام بني عبد المطلب ليُكلَّم من السماء.فكان ذلك حتّى ذكر اللّه آلهتهم التي يعبدونها من دونه، وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا على عبادتها، فشنفوا لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عند ذلك وعادوه(2)،

لأنّهم رأوا ذلك يتضارب مع مصالحهم الشخصيّة

ص: 63


1- الكامل التاريخ 2: 61و63.
2- انظر الطبقات الكبرى 1: 199.

ومنافعهم الماديّة التي كانوا يحصلون عليها من وراء اعتزازهم بآبائهم التفافهم حول أصنامهم، فآثروا مصلحتهم على مصلحة العامّة.

هذا وقد حدب عليه أبو طالب عمُّه، ومنعه، وقام دونه، ومضى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) على أمر اللّه مظهراً لأمره لا يردّه عنه شيء.

فلمّا رأت قريش أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه، ورأوا أنّ أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب وهم: عتبة وشيبة إبنا ربيعة، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، ومن مشى إليه منهم.

فقالوا: يا أبا طالب إنّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلّل آباءنا، فإمّا أن تكفّه عنّا وإمّا أن تخلّي بيننا وبينه، فإنّك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه.فقال لهم أبو طالب قولاً رفيعاً وردّهم ردّاً جميلاً فانصرفوا عنه، ومضى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) على ما هو عليه يظهر دين اللّه ويدعو إليه.

ثمّ إنّهم مشوا إلى أبي طالب مرّة أخرى فقالوا: يا أبا طالب إنّ لك سنّاً وشرفاً ومنزلة فينا وقد طلبنا منك أن تنهى ابن اخيك عنّا فلم تنهه عنّا، وإنّا واللّه لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنّا أو ننازله وإيّاك حتى يهلك أحد

ص: 64

الفريقين، ثمّ انصرفوا عنه.

فعظم على أبي طالب جهل قومه وعنادهم للحقّ وعداوتهم له ولإبن أخيه، وما كان ليسلم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ويخذله(1)، وإنّما حين قالت قريش لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال له: يابن أخي إنّ قومك قد جاؤوك فقالوا لي كذا وكذا فابق عليّ وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أُطيق، وكان مراده من هذا أن يختبر الرسول(صلی الله علیه و آله) بذلك وأن يجيب قومه في هذه المرّة لا بلسانه، بل بلسان ابن أخيه.

فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «يا عمّاه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ماتركته حتى يظهره اللّه أو أهلك دونه»، ثمّ استعبر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فبكى ثمّ قام.

فلمّا ولّى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا أخي، فأقبل عليه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال له: إذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فواللّه لا أسلمك لشيء أبداً(2).

مراوغة قريش

ثمّ إنّ قريشاً لمّا عرفت أنّ أبا طالب أبى خذلان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وتسليمه إليهم، مشوا إليه بعمارة بن الوليد وقالوا: هذا عمارة بن

ص: 65


1- انظر تاريخ الطبري 2: 64.
2- انظر تاريخ الطبري 2: 67.

الوليد أنهد فتى قريش وأشعره وأجمله فخذه فلك عقله ونصرته واتخذه ولداً فهو لك، وسلّم لنا ابن أخيك هذا الذي قد خالف ديننا ودين آبائنا وفرّق جماعتنا وسفّه أحلامنا فنقتله فإنّما رجل كرجل.

فقال: واللّه لبئس ما تسومونني أن تعطونني ابنكم اغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه، واللّه لا يكون ذلك أبداً.

فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: و اللّه يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً.

فقال أبو طالب للمطعم: واللّه ما أنصفوني ولكنّك قد أجمعتعلى خذلاني ومظاهرة القوم عليّ، فاصنع ما بدا لك(1).

ثمّ أنشد مخاطباً رسول اللّه(صلی الله علیه و آله):

واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسّد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وأبشر بذلك وقرّ منك عيونا

ودعوتني وعلمت أنّك ناصحي *** ولقد دعوت وكنت ثم أمينا

ص: 66


1- انظر تاريخ الطبري 2: 67.

ولقد علمت بأنّ دين محمّد *** من خير أديان البريّة دينا(1)

وقال فيه أيضاً حين استسقى به لأهل مكّة فسقي:

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاّك من آل هاشم *** فهم عنده في نعمة وفواضل

كذبتم وبيت اللّه يبزى محمّد *** ولمّا نقاتل دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرّع حوله *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل(2)

ولا يخفى أنّ النبيّ(صلی الله علیه و آله) لم يكن ليسبّ آلهتهم وإنّما كان يذكر واقع الآلهة كما حكي في القرآن الحكيم.

ولمّا رأت قريش موقف أبي طالب(علیه السلام) هذا قالوا: لا نعود إليه أبداً، وما خير من أن نغتال محمّداً.

فلمّا كان مساء تلك الليلة فُقِد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وجاء أبو طالب وعمومته إلى منزله فلم يجدوه، فجمع فتياناً له من بني هاشم وبني

ص: 67


1- الغدير 7: 334.
2- بحار الأنوار 20: 300.

عبد المطّلب ثمّ قال: ليأخذ كلّ واحد منكم حديدة صارمة ثمّ ليتبعني إذا دخلت المسجد فلينظر كلّ فتى منكم فليجلس إلى عظيم من عظمائهم فيهم ابن الحنظلية - يعني أبا جهل - فإنّه لم يغب عن شر إن كان محمّد قد قتل.

فقال الفتيان: نفعل.

في هذه الأثناء جاء زيد بن حارثة فوجد أبا طالب على تلك الحال فقال: يا زيد أحسست ابن أخي:

قال: نعم كنت معه آنفاً.فقال: أبو طالب لا أدخل بيتي أبداً حتى أراه.

فخرج زيد سريعاً حتى أتى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وهو في بيت عند الصفا ومعه أصحابه يتحدّثون فأخبره الخبر، فجاء رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى أبي طالب.

فقال: يا ابن أخي أين كنت؟ أكنت في خير؟

قال: «نعم».

قال: أدخل بيتك فدخل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بيته.

فلمّا أصبح أبو طالب غدا على النبيّ(صلی الله علیه و آله) فأخذ بيده فوقف على أندية قريش ومعه الفتيان الهاشميّون والمطّلبيون، فقال: يا معشر قريش هل تدرون ما هممت به؟ قالوا: لا، فأخبرهم الخبر، وقال للفتيان: إكشفوا عمّا في أيديكم فكشفوا فإذا كلّ رجل منهم معه حديدة صارمة، فقال: واللّه لو قتلتموه ما أبقيت منكم أحداً حتى

ص: 68

نتفانى نحن وأنتم فانكسر القوم وكان أشدّهم انكساراً أبو جهل(1).

رؤوس قريش يتأمرون

ثمّ إنّ قريشاً تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) الذين أسلموا معه، فوثبت كلّ قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذّبونهم ويفتنونهم عن دينهم،وقد قام أبو طالب حين رأى قريشاً يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول اللّه والقيام دونه فأجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه إلّا ما كان من أبي لهب.

فلمّا رأى أبو طالب من قومه ما سرّه في جدّهم معه وحدبهم عليه جعل يمدحهم ويذكر قديمهم ويذكر فضل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فيهم ومكانه منهم ليشد رأيهم وليحدبوا معه على أمره فقال:

إذا اجتمعت يوماً قريش لمفخر *** فعبد مناف سرّها وصميمها

وإن حصلت أشراف عبد منافها *** ففي هاشم أشرافها وقديمها

وإن فخرت يوماً فإنّ محمّداً *** هو المصطفى من سرّها وكريمها(2)

ص: 69


1- الطبقات الكبرى 1: 203.
2- السيرة النبوية لابن هشام 1: 173.

الوليد يخطط

ثمّ إنّ الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سنّ فيهم، وقد حضر الموسم فقال: يا معشر قريش إنّه قد حضر هذا الموسم وإنّ وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمرصاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً ويرد قولكم بعضه بعضاً.

قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به.

قال: بل أنتم فقولوا اسمع.

قالوا: نقول كاهن؟

قال: لا واللّه ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهّان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه.

قالوا: فنقول مجنون؟

قال: ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.

قالوا: فنقول شاعر؟

قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر.

قالوا: فنقول ساحر؟

قال: ما هو بساحر لقد رأينا السحرة وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم.

ص: 70

قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟

قال: واللّه إنّ لقوله لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وإنّه ليعلو وما يعلى عليه، وما أنتم بقائلين منهذا شيئاً إلّا عرف أنّه باطل، وإنّ أقرب القول فيه لأن تقولوا هو ساحر جاء بقول هو سحر، يفرّق بين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته فتفرّقوا عنه بذلك.

فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمرّهم أحد إلّا حذّروه إيّاه وذكّروه بأمره، فأنزل اللّه تعالى في الوليد بن المغيرة في ذلك من قوله: {ذَرۡنِي وَمَنۡ خَلَقۡتُ وَحِيدٗا * وَجَعَلۡتُ لَهُۥ مَالٗا مَّمۡدُودٗا * وَبَنِينَ شُهُودٗا * وَمَهَّدتُّ لَهُۥ تَمۡهِيدٗا * ثُمَّ يَطۡمَعُ أَنۡ أَزِيدَ * كَلَّآۖ إِنَّهُۥ كَانَ لِأٓيَٰتِنَا عَنِيدٗا}(1)(2).

التعذيب دأب الجاهليين

ثمّ إنّ قريشاً اشتدّ أمرهم للشقاء الذي أصابهم من عداوة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ومن أسلم معه منهم، فأغروا برسول اللّه سفهاءهم، فكذبوه وآذوه ورموه بالشِعر والسحر والكهانة والجنون، ورسول اللّه(صلی الله علیه و آله) مظهر لأمر اللّه لا يستخفي به، مباد لهم بما يكرهون من انتقاص دينهم، واعتزال أوثانهم، وفراقه إيّاهم على كفرهم ولم

ص: 71


1- سورة المدثر، الآية: 11-16.
2- انظر السيرة النبوية لابن هشام 1: 174.

يكتفوا بذلك كله حتى قاموا بتعذيب المستضعفين الذين سبقوا إلى الإسلام ولا عشائر لهم تمنعهم ولا قوّة لهم يمنعون بها.فأمّا من كان له عشيرة تمنعه فلم يصل الكفّار إليه، فلمّا رأوا امتناع من له العشيرة وثبت كل قبيلة على من فيها من مستضعفي المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذّبونهم بالضرب والجوع والعطش ورمضاء مكّة والنار ليفتنوهم عن دينهم.

فمنهم من يفتتن من شدّة البلاء وقلبه مطمئن بالإيمان، ومنهم من يتصلّب في دينه ويعصمه اللّه.

ومن أُولئك الذين تصلّب في دينه: بلال بن رباح الحبشي وكان أبوه من سبي الحبشة، وأُمه حمامة سبية أيضاً وكنيته أبو عبد اللّه، فصار بلال لأُمية بن خلف الجمحي، فكان إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يلقيه في الرمضاء على ظهره، ثمّ يأمر بالصخرة العظيمة فتلقى على صدره ويقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمّد وتعبد اللاّت والعزّى، فكان ورقة بن نوفل يمرّ به وهو يعذّب وهو يقول: أحد أحد. فيقول: أحد أحد واللّه يا بلال(1).

عمّار بن ياسر

ومنهم: عمّار بن ياسر أبو اليقظان العنسي وهو بطن من مراد،

ص: 72


1- انظر السيرة النبوية لابن هشام 1: 210.

أسلم هو وأبوه وأمّه، ورسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في دار الأرقم بن أبي الأرقم بعد إسلام بضعة وثلاثين رجلاً، أسلم هووصهيب في يوم واحد، وكان ياسر حليفاً لبني مخزوم.

فكانوا يخرجون عماراً وأباه وأمّه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء، يعذّبونهم بحرّ الرمضاء، فمرّ بهم النبيّ(صلی الله علیه و آله) فقال: «صبراً يا آل ياسر فإنّ موعدكم الجنّة»، فمات ياسر في العذاب، وأغلظت امرأته سمية القول لأبي جهل فطعنها بحربة في يديه، فماتت وهي أوّل شهيدة من النساء في الإسلام.

وشدّدوا العذاب على عمّار بحرّ الرمضاء تارة، وبوضع صخر محمّى بالشمس على صدره أخرى وهم يقولون له: لا نتركك حتى تسبّ محمّداً وتقول في اللاّت والعزّى خيراً، ففعل فتركوه.

فأتى النبيّ(صلی الله علیه و آله) يبكي، فقال: «ما وراءك؟»، قال: شرّ يا رسول اللّه كان الأمر كذا وكذا، قال: «فكيف تجد قلبك؟» قال: أجده مطمئنّاً بالإيمان، فقال: «يا عمّار إن عادوا فعُد»، فأنزل اللّه تعالى: {إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ}(1).

فشهد المشاهد كلّها مع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقُتِل بصفّين مع الإمام عليّ(علیه السلام) وقد جاوز التسعين بثلاث أو بأربع سنين(2).

ص: 73


1- سورة النحل، الآية: 106.
2- انظر الكامل في التاريخ 2: 66.

الخباب بن الأرت

ومنهم: خباب بن الأرت، وخباب تميمي وكان اسلامه قديماً، قيل سادس ستة قبل دخول رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) دار الأرقم، فأخذه الكفّار وعذّبوه عذاباً شديداً، فكانوا يعرّونه ويلصقون ظهره بالرمضاء، ثمّ بالرضف وهي الحجّارة المحماة بالنار، ولوّوا رأسه، فلم يجبهم إلى شيء ممّا أرادوا منه، وهاجر وشهد المشاهد كلّها مع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ونزل الكوفة ومات سنة ست وثلاثين(1).

صهيب بن سنان

ومنهم: صهيب بن سنان الرومي، ولم يكن رومياً وإنّما نسب إليهم لأنّهم سبوه وباعوه، وقيل: لأنّه كان أحمر اللون.

وهو من نمر بن قاسط، كنّاه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): أبا يحيى قبل أن يولد، وكان ممن يعذَّب في اللّه، فعذب عذاباً شديداً(2).

عامر بن فهيرة

ومنهم: عامر بن فهيرة أسلم قديماً قبل دخول رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) دار الأرقم وكان من المستضعفين يعذَّب في اللّهفلم يرجع عن دينه(3).

ص: 74


1- الكامل في التاريخ 2: 67.
2- الكامل في التاريخ 2: 68.
3- الكامل في التاريخ 2: 68.

أبو فكيهة

ومنهم: أبو فكيهة واسمه أفلح وقيل يسار، وكان عبداً لصفوان بن أميّة بن خلف، أسلم مع بلال، فأخذه أميّة بن خلف وربط في رجله حبلاً وأمر به فجرّ ثمّ ألقاه في الرمضاء(1).

لبينة

ومنهم: لبينة جارية بني مؤمل، أسلمت قبل إسلام عمر بن الخطاب، وكان عمر يعذّبها حتى تفتن ثمّ يدعها(2).

زِنّيرَة

ومنهم: زِنّيرَة وكانت لبني عدي وكان عمر يعذّبها، حتى عميت (وزِنّيرَة بكسر الزاء وتشديد النون وتسكين الياء وفتح الراء)(3).

النهدية

ومنهم: النهدية مولاة لبني نهد فصارت لامرأة من بني عبد الدار، فأسلمت وكانت تعذّبها(4).

أُمّ عبيس

ومنهم: أمّ عبيس بالباء الموحّدة، وقيل: عنيس، وهي أمةلبني

ص: 75


1- الكامل في التاريخ 2: 68.
2- الكامل في التاريخ 2: 69.
3- الكامل في التاريخ 2: 69.
4- الكامل في التاريخ 2: 69.

زهرة فكان الأسود بن عبد يغوث يعذّبها(1).

وكان أبو جهل يأتي الرجل الشريف إذا أسلم ويقول له أتترك دينك ودين أبيك وهو خير منك؟ ويقبح رأيه وفعله ويسفّه حلمه ويضع شرفه، وإن كان تاجراً يقول: ستكسد تجارتك ويهلك مالك، وإن كان ضعيفاً أغرى به حتى يعذّب(2).

المستهزئون

وأمّا المستهزئون برسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وهم جماعة من قريش، فمنهم: عمّه أبو لهب كان شديداً عليه وعلى المسلمين، عظيم التكذيب له، دائم الأذى.

مات أبو لهب بمكّة عند وصول الخبر بانهزام المشركين ببدر، وذلك بمرض يعرف بالعدسة(3)،

فأخذه الكفّار فشدوا حبلاً برجله وجرّوه إلى خارج مكّة وجعلوا يرمونه بالحجارة والخرق والعظام حتى واروه، وإنّما فعلوا ذلك لأنّهم كانوا يخافون العدوى منه.

ومنهم: الأسود بن عبد يغوث، وكان من المستهزئين وكان إذا رأى فقراء المسلمين قال لأصحابه: هؤلاء ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى، وكان يقول للنبيّ(صلی الله علیه و آله): أما كلّمت اليوم من

ص: 76


1- الكامل في التاريخ 2: 69.
2- الكامل في التاريخ 2: 70.
3- انظر الكامل في التاريخ 2: 70.

السماء يا محمّد، وما أشبه ذلك، فخرج منأهله فأصابه السموم فاسودّ وجهه فلمّا عاد إليهم لم يعرفوه واغلقوا الباب دونه فرجع متحيّراً حتى مات عطشاً(1).

ومنهم: الحارث بن قيس، كان أحد المستهزئين الذين يؤذون رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وكان يأخذ حجراً يعبده فإذا رأى حجراً أحسن منه ترك الأول وعبد الثاني، وكان يقول: قد غرّ محمّد أصحابه ووعدهم أن يحيوا بعد الموت واللّه ما يهلكنا إلّا الدهر وفيه نزلت: {أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ...}(2). وأكل حوتاً مملوحاً فلم يزل يشرب الماء حتى مات(3).

ومنهم: الوليد بن المغيرة وكان الوليد يكنّى أبا عبد شمس وهو العدل لأنّه كان عدل قريش كلّها، فإنّ قريشاً كانت تكسوا البيت جميعها وكان الوليد يكسوها وحده.

وهو الذي جمع قريشاً وقال: إنّ النّاس يأتونكم أيّام الحجّ فيسألونكم عن محمّد(صلی الله علیه و آله) فتختلف أقوالكم فيه فيقول: هذا ساحر ويقول: هذا كاهن ويقول هذا: شاعر ويقول هذا: مجنون وليس يشبه واحداً ممّا يقولون، ولكن أصلح ما قيل فيه: ساحر لأنّه يفرّق

ص: 77


1- الكامل في التاريخ 2: 71.
2- سورة الجاثية، الآية: 23.
3- الكامل في التاريخ 2: 71.

بين المرء وزوجته.

ومات بعد الهجرة بثلاثة أشهر وهو ابن خمس وتسعين سنةودفن بالحجون، وكان مر برجل من خزاعة يريش نبلاً فوطئ على سهم منها فخدشه ثمّ انتقض ذلك الخدش فمات(1).

ومنهم: أُميّة وأُبيّ ابنا خلف وكانا على شرّ ما عليه أحد من أذى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وتكذيبه، جاء أُبيّ إليه بعظم فَخْذ ففتّه في يده وقال: زعمت أنّ ربّك يحيي هذا العظم؟! فنزلت: {قَالَ مَن يُحۡيِ ٱلۡعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٞ}(2)(3).

ومنهم: أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، وكان ممّن يؤذي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ويعين أبا جهل على أذاه، قتله حمزة يوم بدر(4).

ومنهم: العاص بن وائل السهمي، والد عمرو بن العاص وكان من المستهزئين وهو القائل لمّا مات القاسم بن النبيّ(صلی الله علیه و آله): إنّ محمّداً أبتر لا يعيش له ولد ذكر، فأنزل اللّه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ}(5). فركب حماراً له فلمّا كان بشعب من شعاب مكّة ربض به حماره فلدغ في رجله فانتفخت حتى صارت كعنق البعير فمات

ص: 78


1- الكامل في التاريخ 2: 71.
2- سورة يس، الآية: 78.
3- الكامل في التاريخ 2: 72.
4- الكامل في التاريخ 2: 72.
5- سورة الكوثر، الآية: 3.

منها بعد هجرة النبيّ(صلی الله علیه و آله) ثاني شهر دخل المدينة وهو ابن خمس وثمانينسنة(1).

ومنهم: النضر بن الحارث وكان أشدّ قريش في تكذيب النبيّ(صلی الله علیه و آله) والأذى له ولأصحابه، وكان ينظر في كتب الفرس ويخالط اليهود والنصارى، وسمع يذكر أنّ النبيّ قَرُب مبعثه فقال: إن جاءنا نذير لنكونن أهدى من إحدى الأمم فنزلت: {وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ...}(2). الآية.

وكان يقول: إنّما يأتيكم محمد بأساطير الأوّلين وأنا آتيكم بقصص الفرس فنزلت فيه عدّة آيات، أسّره المقداد يوم بدر وأمر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بضرب عنقه فقتله علي بن أبي طالب(علیه السلام)(3).

ومنهم: أبو جهل بن هشام كان أشدّ الناس عداوة للنبيّ(صلی الله علیه و آله) وأكثرهم أذى له ولأصحابه، وقُتِل ببدر قتله ابنا عفراء وأجهز عليه عبد اللّه بن مسعود وقال أبو جهل: لئن سب محمّد آلهتنا سببنا إلهه، فأنزل اللّه: {وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ}(4)(5).

ص: 79


1- الكامل في التاريخ 2: 72.
2- سورة فاطر، الآية: 42.
3- انظر الكامل في التاريخ 2: 73.
4- سورة الأنعام، الآية: 108.
5- الكامل في التاريخ 2: 71 و 73.

ومنهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان، وكانا على ما كان عليه أصحابهما من أذى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) والطعن عليه، وكانا يلقيانه فيقولان له: أما وجد اللّه من يبعثه غيرك، إنّ ههنا من هو أسنّ منك وأيسر، فقتل منبه، قتله عليّ بن أبي طالب(علیه السلام) ببدر، وقتل أيضاً العاص بن منبه بن الحجاج، قتله أيضاً عليّ(علیه السلام) ببدر(1).

ومنهم: زهير بن أبي أمية، أخو أم سلمة لأبيها، وأمّه عاتكة بنت عبد المطلب، وكان ممَّن يظهر تكذيب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ويردّ ما جاء به ويطعن عليه إلّا أنّه أعان على نقض الصحيفة واختلف في موته فقيل سار إلى بدر فمرض فمات وقيل أُسر ببدر فأطلقه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فلمّا عاد مات بمكّة(2).

ومنهم: عقبة بن أبي معيط، ويكنّى أبا الوليد، وكان من أشدّ الناس أذى لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وعداوة له وللمسلمين، وأُسر عقبة ببدر وقتل، قتله عاصم بن ثابت الأنصاري(3).

ومنهم: الأسود بن المطلب وكان من المستهزئين، ويكنّى أبا زمعة، وكان وأصحابه يتغامزون النبيّ(صلی الله علیه و آله)وأصحابه، ويقولون قد جاءكم ملوك الأرض ومن يغلب على كنوز كسرى وقيصر ويصفرون ويصفّقون، فدعا عليه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أن يعمى ويثكل

ص: 80


1- الكامل في التاريخ 2: 73.
2- الكامل في التاريخ 2: 74.
3- الكامل في التاريخ 2: 74.

بولده، فجلس في ظلّ شجرة فعمى فشغله عن رسول اللّه، وقُتِل ابنه ببدر كافراً قتله أبو دجانة، وقُتِل ابن ابنه عتيب، قتله حمزة وعلي(علیه السلام) اشتركا في قتله، وقُتِل ابن ابنه الحارث بن زمعة بن الأسود، قتله علي بن أبي طالب(علیه السلام)(1).

ومنهم: مطعم بن عدي، وكان ممّن يؤذي النبيّ(صلی الله علیه و آله) ويشتمه، ويسمعه ويكذبه، أُسر ببدر وقُتل كافراً، قتله حمزة(2).

ومنهم: مالك بن الطلاطلة وكان من المستهزئين وكان سفيهاً فدعا عليه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فأشار إليه جبرئيل إلى رأسه فامتلأ قيحاً فمات(3).

ومنهم: ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطّلب وكان شديد العداوة(4).

وهؤلاء الذين ذكرناهم كانوا أشدّ عداوة لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، ومن عداهم من رؤساء قريش كانوا أقلّ عداوة منهؤلاء، كعتبة، وشيبة، وغيرهما، وكان جماعة من قريش من أشد الناس عليه فأسلموا بعد ذلك.

قال ابن هشام: حدّثني بعض أهل العلم، أنّ أشدّ ما لقى رسول

ص: 81


1- الكامل في التاريخ 2: 74.
2- الكامل في التاريخ 2: 75.
3- الكامل في التاريخ 2: 75.
4- انظر الكامل في التاريخ 2: 75.

اللّه(صلی الله علیه و آله) من قريش: أنّه خرج يوماً فلم يلقه أحد من الناس إلّا كذّبه وأذّاه، لا حرّ ولا عبد، فرجع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى منزله فتدثّر من شدّة ما أصابه، فأنزل اللّه تعالى عليه: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ * قُمۡ فَأَنذِرۡ}(1)(2).

إسلام حمزة بن عبد المطّلب

ثمّ إنّ أبا جهل مرّ برسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وهو جالس عند الصفّا فآذاه وشتمه ونال منه وعاب دينه، ومولاة لعبد اللّه بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك، ثمّ انصرف عنه فجلس في نادي قريش عند الكعبة فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل من قنصه متوشحاً قوسه وكان إذا رجع لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة وكان يقف على أندية قريش ويسلم عليهم ويتحدّث معهم، وكان أعزّ قريش وأشدّهم شكيمة، فلمّا مرّ بالمولاة وقد قام رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ورجع إلى بيته، فقالت: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمّد من أبي الحكم بن هشام؟فإنّه سبّه وآذاه ثمّ انصرف عنه ولم يكلّمه محمّد(صلی الله علیه و آله).

قال: فاحتمل حمزة الغضب لما أراد اللّه من كرامته فخرج سريعاً لا يقف على أحد كما كان يصنع يريد الطواف بالكعبة معدّاً

ص: 82


1- سورة المدّثر، الآية: 1-2.
2- السيرة النبوية لابن هشام 1: 188.

لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به، حتى دخل المسجد فرآه جالساً في القوم، فأقبل نحوه وضرب رأسه بالقوس فشجه شجة منكرة وقال: أتُشتمه وأنا على دينه؟ أقول ما يقول، فاردُد عليَّ إن استطعت؟ وقامت رجال بني مخزوم لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإنّي سببت ابن أخيه سبّاً قبيحاً، وتمّ حمزة على إسلامه، فلمّا أسلم حمزة عرفت قريش أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عزّ، وأنّ حمزة سيمنعه، فكفّوا عن بعض ما كانوا ينالون منه(1).

وقال عتبة بن ربيعة له(صلی الله علیه و آله) يوماً: إنّك يا محمّد سفهت أحلامهم وعبت آلهتهم ودينهم، وكفرت بمن مضى من آبائهم، فاسمع منّي، أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها.

قال: فقال له رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «قل يا أبا الوليد أسمع».

قال: يا ابن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاًجمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك، طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنّه ربّما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، وإن كنت تريد زوجة زوّجناك أجمل بناتنا.

ص: 83


1- الكامل في التاريخ 2: 83.

حتى إذا فرغ عتبة ورسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يستمع منه قال: «أقد فرغت يا أبا الوليد؟»

قال: نعم.

قال: «فاستمع منّي».

قال: أفعل.

فقال: {بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ * حمٓ * تَنزِيلٞ مِّنَ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ * كِتَٰبٞ فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ * بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا فَأَعۡرَضَ أَكۡثَرُهُمۡ فَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ * وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيٓ أَكِنَّةٖ مِّمَّا تَدۡعُونَآ إِلَيۡهِ}(1).

ثمّ مضى رسول اللّه فيها يقرؤها عليه، فلمّا سمعها منه عتبةأنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه.

ثمّ انتهى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى السجدة منها فسجد، ثمّ قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك».

فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف باللّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلمّا جلس إليهم، قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟

قال: ورائي أنّي سمعت قولاً واللّه ما سمعت مثله قط، واللّه ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني لقوله الذي سمعت منه نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم،

ص: 84


1- سورة فصلت، الآية: 1-5.

وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزّه عزّكم، وكنتم أسعد قالوا: سحرك واللّه يا أبا الوليد بلسانه.

قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم(1).

وقال بعضهم للنبيّ(صلی الله علیه و آله): إن لم تفعل ما نقول لك من ترك دينك فإنّا نعرض عليك خصلة واحدة ولك فيها صلاح.

قال: «ما هي؟»

قالوا: تعبد آلهتنا اللّات والعزّى سنة ونعبد إلهك سنة، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبده خيراً ممّا نعبد كنتأخذت منه بحظّك، وإن كان الذي نعبد خيراً ممّا تعبد كنّا قد أخذنا منه بحظّنا.

فجاء الوحي بقوله تعالى: {بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ * قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ * لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ * وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ * وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٞ مَّا عَبَدتُّمۡ * وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ * لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ}(2)(3).

أوّل من جهر بالقرآن من المسلمين

وكان من أوّل من جهر بالقرآن بعد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بمكّة عبد اللّه بن مسعود، فإنّه اجتمع يوماً أصحاب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقالوا:

ص: 85


1- انظر السيرة النبوية لابن هشام 1: 189.
2- سورة الكافرون، الآية: 1-6.
3- انظر السيرة الحلبية 1: 489.

واللّه ما سمعت قريش بهذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعوه؟

فقال عبد اللّه بن مسعود: أنا.

قالوا: إنّا نخشاهم عليك، إنّما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه.

فقال: دعوني فإنّ اللّه سيمنعني.

قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى وقريش فيأنديتها حتى قام عند المقام ثمّ قال: {بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} رافعاً بها صوته: {ٱلرَّحۡمَٰنُ * عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ * خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ * عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ}(1). ثمّ استقبلها يقرأ فيها.

قال: فتأمّلوا وجعلوا يقولون: ما يقول ابن أمّ عبد؟ ثمّ قالوا: إنّه ليتلو بعض ما جاء به محمّد، فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء اللّه أن يبلغ، ثمّ انصرف إلى أصحاب محمّد(صلی الله علیه و آله) وقد أثروا بوجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك.

قال: ما كان أعداء اللّه أهون عليّ منهم اليوم، لئن شئتم لأغادينهم غداً بمثلها.

قالوا: لا، حسبك فقد أسمعتهم ما يكرهون(2).

ص: 86


1- سورة الرحمن، الآية: 1-4.
2- تاريخ الطبري 2: 73.

ثمّ إنّهم وإن كانوا سمعوا القرآن من النبيّ(صلی الله علیه و آله) إلّا أنّهم لم يسمعوه من المسلمين وكان عمل ابن مسعود تحدياً لهم ولذا ضربوه.

الهجرة إلى الحبشة

ولمّا رأى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ما يصيب أصحابهمن البلاء وهو لا يقدر على أن يمنعهم منه قال: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ فيها ملكاً لا يُظلَم أحد عنده وهي أرض صدق حتى يجعل اللّه لكم فرجاً ومخرجاً ممّا أنتم فيه.

فخرج المسلمون الى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفراراً الى اللّه بدينهم، فكانت أوّل هجرة في الإسلام(1).

وكان عدد أوّل مجموعة من المهاجرين إليها أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، فخرجوا متسللين سرّاً حتى انتهوا إلى الشعيبة منهم الراكب والماشي، ووفّق اللّه تعالى لهم حين وصولهم سفينتين للتجّار حملوهم فيها إلى أرض الحبشة بنصف دينار(2).

ولمّا علمت قريش بذلك أرسلت إليهم من يستردّهم لكنّهم لم يدركوهم إلّا بعد أن غادرت سفينتهم ساحل البحر الأحمر فرجعوا خائبين.

ص: 87


1- السيرة النبوية لابن هشام 1: 213.
2- تاريخ الطبري 2: 69.

ثمّ التحق بالمهاجرين الأولين الذين هاجروا إلى الحبشة جماعة آخرون حتى بلغوا ثلاثة وثمانين رجلاً، وثمانية عشر امرأة قرشية وغير قرشيه، وبذلك صار عددهم تدريجاً يفوق المائة شخص مع أبنائهم وأزواجهم، يرأسهم جعفر بن أبي طالب(علیه السلام).هذا وكان مسيرهم - على ما قيل - في رجب سنة خمس من البعثة النبويّة الشريفة، فأقاموا شعبان وشهر رمضان في الحبشة، ثمّ جاءهم خبر عفو عام صادر من قريش يقضي بكف الأذى عنهم وعدم التعرّض لهم إذا ما هم رجعوا إلى مكّة.

فقدم جماعة منهم إليها في شوّال تلك السنة، لكنّهم رأوا الأمر على خلاف ما سمعوا، وعلموا أنّ عفوهم لم يكن إلّا خدعة، فاستأذنوا الرسول(صلی الله علیه و آله) في الهجرة ثانية، فأذن لهم بها، فهاجروا إليها ثانية.

قالوا: وقدمنا أرض الحبشة، فجاورنا بها خير جار، أمنّا على ديننا، وعبدنا اللّه، لا نؤذى، ولا نسمع شيئاً نكرهه(1).

وقال عبد اللّه بن الحارث في قصيدة له وهو يصف حالهم في المهجر قائلاً:

كلّ امريء من عباد اللّه مضطهد *** ببطن مكّة مقهور ومفتون

ص: 88


1- الطبقات الكبرى 1: 204.

إنّا وجدنا بلاد اللّه واسعة *** تنجي من الذلّ والمخزاة والهون

فلاتقيموا على ذلّ الحياة وخزي *** في الممات وعيب غير مأمون(1)

ولمّا رأت قريش أنّ المهاجرين قد اطمأنّوا في المهجر وأمنوا، وأنّ النجاشي قد أحسن صحبتهم، ائتمروا بينهم، فبعثوا عمرو بن العاص وعبد اللّه بن أبي أُميّة ومعهما هدية للنجاشي وهدايا لحاشيته أيضاً.

فلمّا جاءا إلى حاشية الملك قالا لهم: إنّ أُناساً من سفهائنا فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاؤا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد أرسلنا أشراف قومهم إلى الملك ليردّوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يرسلهم معنا من غير أن يكلّمهم.

قالا ذلك وهما يخافان أن يسمع النجاشي كلام المسلمين فيتأثّر به ولا يسلّمهم إليهم.

فوعدهما حاشية النجاشي المساعدة على ما يريدان.

ثمّ إنّهما حضرا عند النجاشي وكلّماه بما يريدانه، فأشار عليه حاشيته أن يسلّم المسلمين إليهما، فغضب من ذلك وقال: لا واللّه

ص: 89


1- السيرة النبوية لابن هشام 1: 220.

لا أُسلّم قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم وأسألهم عمّا يقول هذان، فإن كانا صادقين سلّمتهم إليهما وإن كانوا على غير ما يذكر هذان منعتهم وأحسنت جوارهم.

ثمّ أرسل النجاشي إلى أصحاب النبيّ(صلی الله علیه و آله) فحضروا وقد أجمعوا على صدقه في ما ساءه وسره وكان المتكلم عنهم جعفر بن أبي طالب(علیه السلام).

فقال النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولا تدخلون في ديني ولا دين أحد من الملل؟

فقال جعفر: أيّها الملك كنّا أهل جاهليّة، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويّ منّا الضعيف، حتى بعث اللّه إلينا رسولاً منّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا لتوحيد اللّه ولا نشرك به شيئاً، ونخلع ما كنّا نعبده من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام، وعدّد عليه أمور الإسلام، فآمنّا به وصدّقناه، وحرّمنا ما حرّم علينا، وحلّلنا ما أحلّ لنا، فتعدى علينا قومنا فعذّبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، فلمّا قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورجونا أن لا نُظلم عندك أيّها الملك.

ص: 90

فقال النجاشي: هل معك ما جاء به عن اللّه شيء؟قال: نعم، فقرأ عليه شطراً من: {كٓهيعٓصٓ}(1).

فبكى النجاشي وأساقفته وقال: إنّ هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة. وقال لرسولي قريش: إنطلقا واللّه لا اُسلّمهم إليكما أبداً.

فلمّا خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: واللّه لآتينّه غداً بما يبيد خضراءهم.

فقال له عبد اللّه بن أبي أُميّة: لا تفعل فإنّ لهم أرحاماً.

فلمّا كان الغد قال ابن العاص للنجاشي: إنّ هؤلاء يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً.

فأرسل النجاشي، فسألهم عن قولهم في المسيح؟

فقال جعفر(علیه السلام): نقول فيه الذي جاء به نبيّنا: هو عبد اللّه ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

فأخذ النجاشي عوداً من الأرض وقال: ما عدا عيسى ما قلت هذا العود، أي: لم يكن عيسى إلّا كما وصفه نبيّكم.

ثمّ قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم آمنون ما أحبّ أنّ لي جبلاً من ذهب وإنني آذيت رجلاً منكم وردّ هدية قريش وقال: ما أخذ اللّه الرشوة مني حتى آخذها منكم، ولا أطاع الناس فيّ حتىأطيعهم

ص: 91


1- سورة مريم، الآية: 1.

فيه، وأقام المسلمون بخير دار(1).

وفي حديث: أنّ جعفر قال للنجاشي: سلهما أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنّا عبيداً أبقنا من أربابنا فارددنا إليهم.

فقال عمرو: بل أحرار.

فقال: سلهما أهل أهرقنا دماءً بغير حق فيقتصّ منّا، هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤه؟

فقال عمرو: لا.

فقال النجاشي لعمرو وعمارة: هل لكما عليهم دين؟

قالا: لا.

قال: انطلقا فواللّه لا أُسلّمهم إليكما أبداً(2).

وكان جعفر شجاعاً مقداماً كريماً مثابراً.

وعن ابن عمر قال: فقدنا جعفراً يوم مؤتة فطلبناه في القتلى فوجدنا به بين طعنة ورمية بضعاً وتسعين، ووجدنا ذلك في ما أقبل من جسده(3).

وكان جعفر يحبّ المساكين ويجلس إليهم يحدثّهم ويحدثونه وكان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يسميه أبا المساكين(4)،

وروي عنه بيتين في

ص: 92


1- انظر الكامل في التاريخ 2: 79.
2- السيرة الحلبية 2: 32.
3- انظر المصنف لابن أبي شيبة 8: 550.
4- الآحاد والمثاني 1: 277.

يوم مؤتة:

يا حبّذا الجنّة واقترابها *** طيبة وبارد شرابها

والروم روم قد دنا عذابها *** عليَّ إن لاقيتها ضرابها(1)

واستشهد هناك وله مزار معروف هناك إلى اليوم.

الكفار ومقاطعتهم للنبي(صلی الله علیه و آله) والمسلمين

فلمّا رأت قريش أنّ أصحاب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قد نزلوا بلداً آمناً وقراراً، وأنّ النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وإنّ حمزة بن عبد المطلب أسلم مع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وأصحابه، وجعل الإسلام ينتشر بين القبائل اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون على بني هاشم وبني عبد المطلب على أن لا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم.

فلمّا اجتمعوا لذلك كتبوا صحيفة بذلك ثمّ تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثمّ علّقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة فشلّت يده بعدها.

فلمّا فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو عبد المطلب الى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب إلى قريش وظاهرهم عليه.

فأقاموا على ذلك ثلاث سنين، حتى جهدوا ألّا يصل إليهمشيء

ص: 93


1- السيرة النبوية لابن كثير 3: 461.

إلّا سرّاً مستخفياً به من أراد صلتهم من قريش.

وقد كان أبو جهل بن هشام لقى حكيم بن حزام معه غلامه يحمل قمحاً يريد به عمّته خديجة بنت خويلد وهي عند رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ومعه في الشعب، فتعلّق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ واللّه لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكّة.

فجاءه أبو البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فقال: ما لك وله؟

فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم.

فقال له أبو البختري: طعام كان لعمّته عنده بعثت إليه فيه أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خلّ سبيل الرجل.

قال: فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه.

فأخذ أبو البختري لحى بعير فضربه به فشجه ووطئه وطئاً شديداً، وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وأصحابه فيشمتوا بهم(1).

ثمّ أطلع اللّه رسوله(صلی الله علیه و آله) على أمر صحيفتهم وأنّ الأرضة قد أكلت ما كان فيها من جور وظلم وبقى ما كان فيهامن ذكر اسم اللّه عزّ وجلّ(2).

ص: 94


1- انظر السيرة النبوية لابن كثير 2: 47-51.
2- الطبقات الكبرى 1: 188.

وكان في الصحيفة الملعونة التضييق عليهم بمنع حضور الأسواق، ولا يناكحوهم، وأن لا يقبلوا لهم صلحاً أبداً، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) للقتل(1).

وكانوا إذا قدمت العير مكّة يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئاً من الطعام يقتاته، فيقوم أبو لهب فيقول: يا معشر التجّار غالوا على أصحاب محمّد حتى لا يدركوا شيئاً معكم فقد علمتم مالي ووفاء ذمّتي، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً حتى يرجع من أراد الشراء من أصحاب الرسول(صلی الله علیه و آله) خالياً إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس في يده شيء يعللهم به فيغدوا التجار على أبي لهب فيربحهم(2).

وكان يصلهم في الشعب هشام بن عمرو العامري، أسلم بعد ذلك، وكان من أشدّ الناس قياماً في نقض الصحيفة كما سيأتي، وكانت صلته لهم بما يقدر عليه من الطعام، أدخل عليهم في ليله ثلاثة أحمال طعاماً، فعلمت قريش فمشوا إليه حين أصبح، فكلّموه، فقال: إنّي غير عائد لشيء خالفتكم فيه، فانصرفوا عنه، ثمّ عاد الثانية فأدخل حملاً أو حملين، فهمّوا بقتله، فقال لهم أحدهم:دعوه رجل وصل أهله ورحمه، أما إنّي أحلف باللّه لو فعلنا مثل ما

ص: 95


1- السيرة الحلبية 2: 25.
2- السيرة الحلبية 2: 25.

فعل لكان أحسن بنا(1).

وكان ممّن يصلهم بالطعام أيضاً حكيم بن حزام.

وكان أبو طالب مدّة إقامتهم بالشعب يأمره(صلی الله علیه و آله) فيأتي فراشه كلّ ليلة حتى يراد به من أراد به شرّاً وغائلة، ثمّ إذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمّه أن يضطجع على فراش المصطفى(صلی الله علیه و آله) ويأمره هو أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليه(2).

وممّا يذكر: أنّ عبد اللّه بن عبّاس تولد وهم بالشعب(3).

وكانت قريش تصبح وقد سمعوا أصوات صبيان بني هاشم في الليل يتضوّرون من الجوع، فيجلسون عند الكعبة فيسأل بعضهم بعضاً فيقول الرجل لأصحابه: كيف بات أهلك البارحة؟ فيقولون: بخير. فيقول: لكن إخوانكم هؤلاء الذين في الشعب بات صبيانهم يتضوّرون من الجوع، فمنهم من يعجبه ما يلقى محمّد(صلی الله علیه و آله) ورهطه، ومنهم من يكره ذلك(4).

وقام في نقض الصحيفة نفر من قريش، وكان أحسنهم بلاءً فيه: هشام بن عمرو بن الحارث، وكان يأتي بالبعير قد أوقره طعاماً ليلاًويستقبل به الشعب ويخلع خطامه ويدخل الشعب.

ص: 96


1- عيون الأثر 1: 167.
2- انظر سبل الهدى والرشاد 2: 378.
3- الإستيعاب 1: 37.
4- انظر بحار الأنوار 19: 19.

فلمّا رأى ما هم فيه وطول المدّة عليهم مشى إلى زهير بن أبي أُمية أخي أم سلمة وكان شديد الغيرة على النبي(صلی الله علیه و آله) والمسلمين وكانت أمّه عاتكة بنت عبد المطلب.

فقال: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت؟ أما إنّي أحلف باللّه لو كانوا أخوال أبي الحكم - يعني أبا جهل - ثمّ دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك أبداً.

فقال: فماذا أصنع وإنّما أنا رجل واحد واللّه لو كان معي رجل آخر لنقضتها؟

فقال: قد وجدت رجلاً.

قال: ومن هو؟

قال: أنا.

قال زهير: أبغنا - أي أطلب - ثالثاً.

فذهب إلى المطعم بن عدي فقال له: أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه، أما واللّه لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنّهم إليها منكم أسرع.

قال: ما أصنع إنّما أنا رجل واحد.

قال: قد وجدت ثانياً.قال: من هو؟

قال: أنا.

ص: 97

قال: أبغنا ثالثاً.

قال: قد فعلت.

قال: من هو؟

قال: زهير بن أبي أُمية.

قال: أبغنا رابعاً.

فذهب إلى أبي البختري بن هشام وقال له نحواً ممّا قال لمطعم.

قال: وهل من أحد يعين على هذا؟

قال: نعم.

قال: من هو؟

قال: أنا وزهير ومطعم.

قال: أبغنا خامساً.

فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد فكلّمه وذكر له قرابتهم. قال: وهل على هذا الأمر معين؟

قال: نعم، وسمّى له القوم.

فاتعدوا خطم الحجون الذي بأعلى مكّة فاجتمعوا هنالك وتعاهدوا على القيام في نقض الصحيفة، فقال زهير: أنا أبدؤكم.

فلمّا أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير، فطاف بالبيت ثمّ أقبل على الناس فقال: يا أهل مكّة إنّا نأكل الطعام ونلبس الثيابوبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم واللّه لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

ص: 98

قال أبو جهل: كذبت واللّه لا تشق.

قال زمعة بن الأسود: أنت واللّه أكذب، ما رضينا بها حين تكتب.

قال أبو البختري: صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها.

قال مطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك.

وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك.

قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل.

وكان أبو طالب في ناحية المسجد فأيّدهم وأخبرهم بأنّ النبي أخبره: بأنّ الأرضة أكلت الصحيفة.

قال لهم: انّ ابن أخي أخبرني أنّ اللّه أرسل على صحيفتكم الأرضة فأكلت ما فيها من قطيعة رحم وظلم وتركت اسم اللّه تعالى، فأحضروها، فإن كان صادقاً علمتم أنّكم ظالمون لنا قاطعون لأرحامنا، وإن كان كاذباً علمنا أنّكم على حق وأنّا على باطل.

فقاموا سراعاً وأحضروها، فوجدوا الأمر كما قاله رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وقويت نفس أبي طالب واشتدّ صوته وقال: قد تبيّن لكم أنّكم أولى بالظلم والقطيعة، فنكسوا رؤوسهم ثمّقالوا: إنّما تأتوننا بالسحر والبهتان وقام أُولئك النفر في نقضها.

وقال أبو طالب في أمر الصحيفة وأكل الأرضة ما فيها من ظلم وقطيعة رحم أبياتاً منها:

ص: 99

وقد كان من أمر الصحيفة عبرة *** متى ما يخبر غائب القوم يعجب

محا اللّه منها كفرهم وعقوقهم *** وما نقموا من ناطق الحق معرب(1)

فقال أبو طالب: علامَ نُحبس ونحصر وقد بان لكم الأمر؟ ثمّ دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة فقال: اللّهمّ انصرنا على من ظلمنا وقطع أرحامنا واستحلّ ما يحرم عليه منّا، ثمّ انصرفوا إلى الشعب.

وتلاوم رجال من قريش على ما صنعوا ببني هاشم، فيهم مطعم بن عدي، وعدي بن قيس، وزمعة بن الأسود، وأبو البختري بن هاشم، وزهير ابن أبي أُميّة، ولبسوا السلاح ثمّ خرجوا إلى بني هاشم وبني المطلب فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم، ففعلوا، فلمّا رأت قريش ذلك سقط في أيديهم وعرفوا أن لن يسلموهم(2).

ص: 100


1- الكامل في التاريخ 2: 88-90.
2- الطبقات الكبرى 1: 210.

أبو طالب وخديجة‘ يودّعان الحياة

توفّي أبو طالب وخديجة‘ قبل الهجرة بثلاث سنين وذلك بعد خروجهم من الشعب.

فتوفّي أبو طالب وعمره بضع وثمانون سنة، وعند وفاته التفت إلى بنيه ومن حوله فأوصاهم بالنبيّ(صلی الله علیه و آله) خيراً، وقال لهم في ما قال: كونوا له ولاة، ولحزبه حماة، واللّه لا يسلك أحد سبيله إلّا رشد، ولا يأخذ أحد بهداه إلّا سعد، ولو كان لنفسي مدة وفي أجلي تأخير، لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدوافع(1).

فلمّا توفّي بكى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في مصيبته، ولمّا حملوا جنازته إلى مدفنه كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يخاطبه في تشييعه ويقول: «يا عمّ لقد وصلت الرحم، ولم تقصّر في نصرتي، فجزاك اللّه عنّي خيراً»(2).

وكان عليّ(علیه السلام) يرثيه بقوله:

«أبا طالب عصمة المستجير *** وغيثَ المحول ونور الظلم

ص: 101


1- انظر بحار الأنوار 35: 107.
2- انظر إعلام الورى: 144.

لقد هدّ فقدك أهل الحفاظ *** فصلّى عليك وليّ النعم

ولقّاك ربّك رضوانه *** فقد كنت للطهر من خير عَم»(1)

وتوفّيت خديجة(علیها السلام) بعده بخمسة وثلاثين يوماً - على قول - فعظمت المصيبة على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بموتهما(2).

فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «ما نالت قريش منّي شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب»، وذلك أنّ قريشاً وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلوا إليه في حياته، حتى كان ينثر بعضهم التراب على رأسه وبعضهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلّي(3).

ولمّا نثرت قريش على رأس رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) التراب دخل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بيته والتراب علىرأسه، فقامت فاطمة(علیها السلام) فجعلت تنفض عنه التراب وهي تبكي ورسول اللّه يقول لها: «لا تبكي يا بُنيّة فإنّ اللّه مانع أباك»(4)،

وكان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يسمّي ذلك العام: «عام الحزن»(5).

ص: 102


1- بحار الأنوار 35: 115.
2- انظر إعلام الورى: 53.
3- الكامل في التاريخ 2: 91.
4- انظر السيره النبوية لابن هشام 2: 283.
5- إعلام الورى: 10؛ والسيرة الحلبيه 3: 498.

ثمّ إنّه بعد أن ماتت خديجة تزوج(صلی الله علیه و آله) سَودة بنت زمعة، وكانت قبله عند ابن عمّها وهاجر بها إلى أرض الحبشة، الهجرة الثانية، ثمّ رجع بها إلى مكّة فمات عنها، فلمّا انقضت عدّتها تزوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وأصدقها أربعمائة درهم، وعقد على عائشة(1)

ولم يدخل بها إلّا بعد الهجرة وكان سبب تزوجه(صلی الله علیه و آله) بها أن يحصنها على اعتداء قريش لأنها كانت فتاة معرضة لاغتصابهم لو لا عصمتها به.

هذا وكان أبو طالب(علیه السلام) قد أسلم أوّل البعثة، بل في بعض الروايات أنّه كان من أوصياء إبراهيم الخليل(علیه السلام) كما أنّ سلمان كان من أوصياء عيسى(علیه السلام)(2).

نصارى نجران يسلمون

ثمّ قدم عليه(صلی الله علیه و آله) وفد نجران وهم قوم منالنصارى، ونجران بلدة بين مكّة واليمن على نحو من سبع مراحل من مكّة، كانت منزلاً للنصارى، وكانوا نحواً من عشرين رجلاً حين بلغهم خبره ممن هاجر من المسلمين إلى الحبشة فوجدوه(صلی الله علیه و آله) معهم في المسجد فجلسوا إليه وسألوه وكلّموه ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة ينظرون إليهم، فلمّا فرغوا من مسألة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) - كما أرادوا - دعاهم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى اللّه تعالى وتلا عليهم

ص: 103


1- السيره الحلبية 2: 42.
2- انظر بحار الأنوار 17: 142.

القرآن، فلمّا سمعوه فاضت أعينهم من الدمع، ثمّ استجابوا للّه وآمنوا به وعرفوا منه ما هو موصوف به في كتابهم.

فلمّا قاموا عنه اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا لهم: خيّبكم اللّه من ركب، بعثكم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون - أي تنظرون الأخبار لهم لتأتون بخب-ر الرجل - فل-م تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم فصدقتموه بما قال، لا نعلم ركباً أحمق منكم.

فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه.

قيل: فنزل فيهم قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ} إلى قوله: {لَا نَبۡتَغِي ٱلۡجَٰهِلِينَ}(1).ونزل قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعۡيُنَهُمۡ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلۡحَقِّۖ}(2)(3).

خروج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى الطائف

فلمّا اشتدّ عليه(صلی الله علیه و آله) الأمر بعد موت أبي طالب(علیه السلام) خرج ومعه زيد بن حارثة إلى ثقيف، فلمّا انتهى إليهم عمد إلى ثلاثة نفر منهم

ص: 104


1- سورة القصص، الآية: 52-55.
2- سورة المائدة، الآية: 83.
3- السيرة الحلبية 2: 38.

وهم يومئذٍ سادة ثقيف وكانوا إخوة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب، بنو عمرو بن عمير، فدعاهم إلى اللّه وكلّمهم في نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه فلم يجيبوه(1).

فأقام(صلی الله علیه و آله) بالطائف عشرة أيّام لا يدع أحداً من أشرافهم إلّا جاءه وكلّمه فلم يجبه، حتّى أنّهم خافوا على أحداثهم فقالوا: يا محمّد اخرج من بلدنا والحق بمنجاتك من الأرض، وأغروا به سفاءهم فجعلوا يرمونه بالحجارة إلى أن ادموا رجلي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى لقد شجّ في رأسه شجاج، وكان(صلی الله علیه و آله) إذا أزلقتهالحجارة، قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه فإذا قام يمشي رجموه وهم يضحكون(2).

هذا والنبيّ(صلی الله علیه و آله) يناجي ربّه ويقول: «اللّهمّ إنّي أشكوا إليك ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، ... إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أُبالي...».

ثمّ التجأ(صلی الله علیه و آله) إلى حائط لعتبة وشيبة ابنا ربيعة وهما فيه، فلمّا رأياه وما لقي تحركت له رحمهما، فدعوا غلاماً لهما نصرانياً يقال له عدّاس - صار في ما بعد من الصحابة ومات قبل الخروج إلى بدر -

ص: 105


1- الكامل في التاريخ 2: 91.
2- انظر سبل الهدى والرشاد 2: 438.

فقالا له: خذ قطفاً من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثمّ اذهب إلى ذلك الرجل فقل له: كل منه.

ففعل عدّاس ثمّ أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ثمّ قال له: كل، فلمّا وضع رسول اللّه فيه يده الشريفة، قال: «بسم اللّه» ثمّ أكل.

فنظر عدّاس في وجهه ثمّ قال: واللّه إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد.

فقال له رسول اللّه: «من أي البلاد أنت وما دينك يا عدّاس؟»

قال: أنا نصراني ومن أهل نينوى - وهي قرية على شاطيء دجلةفي أرض الموصل - .

فقال له رسول اللّه: «أمن مدينة الرجل الصالح أخي يونس بن متّى؟»

قال عدّاس في جوابه(صلی الله علیه و آله) وهو متعجّب: وما يدريك ما يونس بن متّى، فإنّي واللّه خرجت منها - يعني: من نينوى - وما فيها عشرة يعرفون ابن متى، فمن أين عرفت ابن متى؟

فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «ذاك أخي كان نبيّاً وأنا نبي».

فعند ذاك أكبّ عدّاس على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يقبل رأسه ويديه وقدميه.

فقال ابنا ربيعة أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك.

فلمّا جاءهما عدّاس قال له أحدهما: ويلك ما لك تقبّل رأس

ص: 106

هذا الرجل ويديه وقدميه؟

قال: سيّدي ما في هذه الأرض شيء خير من هذا، لقد أعلمني بأمر لا يعلمه إلّا نبيّ.

قال: ويحك يا عدّاس لا يصرفنّك الرجل عن دينك(1).

ثمّ إنّ النبيّ(صلی الله علیه و آله) عند منصرفه من الطائف نزل نخلة - وهي محلّة بين مكّة والطائف - فقام من جوف الليل يصلّي،فمرّ به سبعة نفر وقيل تسعة نفر من جن نصيبين - وهي مدينة بالشام أو اليمن - فاستمعوا له فلمّا فرغ(صلی الله علیه و آله) من صلاته أسلم أُولئك الجنّ وولّوا إلى قومهم منذرين، فقصّ اللّه على نبيّه خبرهم بقوله تعالى: {وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ...}(2)(3).

وقوله تعالى: {قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ}(4).

ثمّ إنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) توجّه إلى مكّة، فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم - يعني: قريشاً - وهم أخرجوك؟

فقال: «يا زيد إنّ اللّه جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإنّ اللّه ناصر دينه ومظهر نبيّه»، ثمّ انتهى إلى حراء فأرسل رجلاً من خزاعة إلى مطعم بن عدي ليقول له: أدخل في جوارك؟

ص: 107


1- انظر السيرة الحلبية 2: 53-56.
2- سورة الأحقاف، الآية: 29.
3- انظر السيرة النبوية لابن هشام 2: 287.
4- سورة الجن، الآية: 1.

فقال: نعم، ودعا بنيه وقومه فقال: إلبسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت فإنّي قد أجرت محمّداً، فدخل رسول اللّه ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام مطعم بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش إنّي قد أجرت محمّداً فلا يهجه أحد منكم.فانتهى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى الركن فاستلمه وصلّى ركعتين وانصرف إلى بيته ومطعم بن عدي وولده مطيفون به(صلی الله علیه و آله)(1).

فلمّا رآه أبو جهل قال: هذا نبيّكم يا عبد مناف، فقال عتبة بن ربيعة: وما تنكر أن يكون منّا نبيّ أو ملك، فأخبر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بذلك فأتاهم فقال:

أما أنت يا عتبة فما حميت للّه وإنّما حميت لنفسك.

وأمّا أنت يا أبا جهل فواللّه لا يأتي عليك غير بعيد حتى تضحك قليلاً وتبكي كثيراً.

وأمّا أنتم يا معشر قريش فواللّه لا يأتي عليكم غير كثير حتى تدخلوا فيما تنكرون وأنتم كارهون، فكان الأمر كذلك(2).

النبي(صلی الله علیه و آله) يعرض الإسلام على القبائل

ولمّا دخل رسول اللّه مكّة في جوار المطعم بن عدي وأقام بها،

ص: 108


1- الطبقات الكبرى 1: 212.
2- الكامل في التاريخ 2: 93.

كان يقف بالموسم على القبائل فيقول: «يا بني فلان إنّي رسول اللّه إليكم، يأمركم أن تعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً»، وخلفه أبو لهب فيقول: لا تطيعوه فإنّه كذّاب ثمّ يرميه(صلی الله علیه وآله) بالحجارة(1).

وأتى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) كندة في منازلهم فدعاهم إلى اللّه فأبوا عليه.

وأتى بني حنيفة في منازلهم فدعاهم إلى اللّه عزّ وجلّ فردّوا عليه أقبح ردّ.

وكان(صلی الله علیه و آله) لا يسمع بقادم من العرب له اسم وشرف إلّا دعاه وعرض عليه ما عنده.

قال جابر بن عبد اللّه: مكث رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بمكّة سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز وفي المواسم وهو يقول: «من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربّي وله الجنّة؟» حتى بعثنا اللّه له فآويناه وصدّقناه(2).

وكان ممّن أتاهم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في منازلهم بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى اللّه وعرض عليهم ما عنده فقال له رجل منهم: أرأيت إن نحن تابعناك فأظهرك اللّه على من خالفك أيكون لنا الأمر بعدك؟ قال: «الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء». قال له:

ص: 109


1- انظر مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 1: 51.
2- انظر المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 3: 16.

أفتُهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الأمرلغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك(1).

وقال بعضهم: فكان من سمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول اللّه(صلی

الله علیه و آله) ودعاهم إلى اللّه عزّ وجلّ وعرض عليهم ما عنده: بنو عامر بن صعصعة، ومحارب بن خصفة، وفزارة، وغسان، ومرة، وحنيفة، وسليم، وعبس، وبنو نضر وبنو البكاء، وكندة، وكلب، والحارث بن كعب، وغدرة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد(2).

وقال بعضهم: رأيت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قبل أن يهاجر إلى المدينة يطوف على الناس في منازلهم بمنى، يقول: «يا أيّها الناس إنّ اللّه يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً»(3).

وعن أبي طارق قال: رأيت رسول اللّه بسوق ذي المجاز يدعو قبائل العرب ويقول: «يا أيّها الناس قولوا: لا إله إلّا اللّه تفلحوا»، وخلفه رجل له غديرتان - أي ذوابتان - يرجمه بالحجارة حتى أدمى كعبه يقول: يا أيّها الناس لا تسمعوا منه فإنّه كذّاب، فسألت عنه فقيل: إنّه فتى عبد المطّلب فقلت: من الرجل الذي يرجمه؟ فقيل: هو عمّه عبد العزّى - يعني أبا لهب - (4).

ص: 110


1- انظر الكامل في التاريخ 2: 93.
2- الطبقات الكبرى 1: 216.
3- المستدرك على الصحيحين 1: 15.
4- السيرة الحلبية 2: 153.

وممّن عرض(صلی الله علیه و آله) ما عنده عليهم: بنو عامر بن صعصعة فردّوه، فلمّا رجعت بنو عامر إلى منازلهم وكانفيهم شيخ أدركه السنّ حتى لا يقدر أن يوافي معهم الموسم، فلمّا قدموا عليه سألهم عمّا كان في موسمهم.

فقالوا: جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطّلب يزعم أنّه نبي يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا.

فوضع الشيخ يده على رأسه ثمّ قال: يا بني عامر هل لها من تلاف - أي: تدارك - والذي نفسي بيده ما تقوّلها إسماعيليّ قط - أي ما يدعي النبوّة كاذباً أحد من بني إسماعيل قطّ - وإنّها لحق، وإنّ رأيكم غاب عنكم(1).

وقال مفروق بن عمرو لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله): وإلى مَ تدعو يا أخا قريش؟

فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): {قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ}(2).

ص: 111


1- انظر السيرة الحلبية 2: 154.
2- سورة الأنعام، الآية: 151.

قال مفروق: ما هذا من كلام أهل الأرض ولو كان من كلامهم عرفناه.ثمّ قال: وإلى مَ تدعو أيضاً؟

فتلا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): {إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ}(1).

فقال مفروق: دعوتَ إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم صرفوا عن الحقّ وكذّبوك وظاهروا عليك(2).

قصة الإسراء والمعراج

إنّ الإسراء كان من مكّة إلى المسجد الأقصى، والمعراج كان من هناك إلى السماوات العلى، والأحاديث في المعراج كثيرة وأنّه(صلی الله علیه و آله) ليلة الإسراء كان في بيت أُمّ هاني وهو بين الصفا والمروة.

وفي بعض الروايات: إنّ البراق كانت واقفة بين الصفا والمروة فركبها، فإنّ اللّه تعالى أراد أن يشرق بأنوار محمّد(صلی الله علیه و آله) السماوات كما أشرق ببركاته الأرضين، فسرى به إلى المعراج إضافة إلى قوله سبحانه: {لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ}(3). فقد علم اللّه تعالى أنّ كفّار قريش

ص: 112


1- سورة النحل، الآية: 90.
2- انظر السيرة الحلبية 2: 156.
3- سورة الإسراء، الآية: 1.

يكذّبونه في ما يخبرهم منأخبار السماء فأراد أن يخبرهم بخبر من الأرض قد بلغوها وعاينوها وقد علموا أنّ النبيّ(صلی الله علیه و آله) لم يدخل بيت المقدس قط، فلمّا أخبرهم بأخبار بيت المقدس لم يمكنهم أن يكذّبوه في أخبار السماء بعد أن صدّقوه في أخبار الأرض.

نعم، الكتاب والسنّة صرّحا: بأن اللّه عزّ وجلّ أسرى بنبيّه(صلی الله علیه و آله) في اليقظة على البراق ومعه جبرئيل حتى انتهى به إلى بيت المقدس، فنزل عند باب من أبواب بيت المقدس يعرف بباب المعراج وفيه الحلقة التي شدّ فيها جبرئيل البراق، ثمّ عرج من هناك إلى السماء بجسده وروحه، في اليقظة لا في الرؤيا، وفرضت عليه الصلاة في تلك الليلة وهي: الصلوات الخمس - ركعتين ركعتين - ثمّ فرض عام الهجرة بعدها إتمام الرباعيّة أربعة في الحضر والثلاثية ثلاثاً، وقد أمر اللّه النبي(صلی الله علیه و آله) بولاية عليّ(علیه السلام).

وقيل: أتاه جبرئيل وميكائيل فقالا: انطلق، فعرجا به إلى السماوات سماء سماء، فلقى فيها الأنبياء وانتهى إلى سدرة المنتهى، وأُري الجنّة والنّار.

قال(صلی الله علیه و آله): «ورأيت الأنبياء وقد اجتمعوا إليّ، فرأيت إبراهيم وموسى وعيسى فظننت أنّه لا بدّ من أن يكون لهم إمام، فقدمني جبرئيل حتى صليت بين أيديهم وسألتهم فقالوا: بعثنابالتوحيد»(1).

ص: 113


1- الطبقات الكبرى 1: 214.

وفقد النبيّ(صلی الله علیه و آله) تلك الليلة، فتفرّقت بنو عبد المطلب يطلبونه، ويلتمسونه، وخرج العباس بن عبد المطلب حتى بلغ ذا طوى، فجعل يصرخ: يا محمّد يا محمّد، فأجابه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): لبّيك.

قال: يابن أخي أتعبت قومك منذ الليلة فأين كنت؟

قال: «أتيت من بيت المقدس».

قال: في ليلتك؟

قال: «نعم».

قال: هل أصابك خير؟

قال: «ما أصابني إلّا خير»(1).

قال(صلی الله علیه و آله): «ثمّ انحدرت أنا وجبرئيل إلى مضجعي وكان كلّ ذلك في ليلة واحدة».

فلمّا صار الصباح أقبل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى المسجد الحرام فمرّ به أبو جهل فقال كالمستهزئ: هل استفدت الليلة شيئاً؟

قال: «نعم أُسري بي الليلة إلى بيت المقدس».قال: ثمّ أصبحت بين ظهرانينا؟

فقال: «نعم»، فرأى أبو جهل أن يخبر بذلك عنه ويشنّع به عليه، لكن خاف أن يجحده النبيّ(صلی الله علیه و آله).

فقال: أتخبر قومك بذلك؟

ص: 114


1- الطبقات الكبرى 1: 214.

فقال: «نعم».

فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلمّوا.

فأقبلوا، فحدّثهم النبيّ(صلی الله علیه و آله) ببعض ما أراه اللّه عزّ وجلّ من آياته الكبرى، فمن بين مصدّق ومكذّب.

قالوا: فأخبرنا عن عيرنا.

قال: «مررت على عير بني فلان الروحاء وقد أضلوا بعيراً لهم وهم في طلبه فأخذت قدحاً فيه ماء فشربته فاسألوهم عن ذلك، ومررت بعير فلان وفلان وفلان فرأيت راكباً وقعوداً بذي مر فنفر بكرهما مني فسقط فلان فانكسرت يده فاسألوهما».

قال: «ومررت بعيركم بالتنعيم يقدمها بعير أورق عليه غرارتان مخيطتان تطلع عليكم مع طلوع الشمس».

فخرجوا إلى الثنية فجلسوا ينظرون طلوع الشمس ليكذبوه، إذ قال قائل: هذه الشمس قد طلعت، فقال آخر: واللّه هذه العير قد طلعت، فقال آخر: واللّه هذه العير قد طلعت يقدمها بعير أوراقكما قال، فقالوا: إنّ هذا سحر مبين(1).

وفي حديث جرى بين أبي سفيان وبين قيصر وهو يريد بذلك أن يحطّ من قدره(صلی الله علیه و آله): ألا أُخبرك أيّها الملك عنه خبراً تعلم منه أنّه يكذب؟

ص: 115


1- انظر الكامل في التاريخ 2: 56.

قال: وما هو؟

قال: إنّه يزعم أنّه خرج من أرضنا أرض الحرم فجاز مسجدكم هذا ورجع إلينا في ليلة واحدة.

فقال بطريق من بطارقته: أنا أعرف تلك الليلة.

فقال له قيصر: ما علمك بها؟

قال: إنّي كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، فلمّا كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلّها إلّا الباب الفلاني فلم أستطع غلقه فاستعنت عليه بعمّالي ومن يحضرني فلم نقدر على غلقه.

فقالوا: إنّ البناء قد نزل عليه فاتركوه إلى الغد حتى يأتي بعض النجارين فيصلحه، فتركته مفتوحاً.

فلمّا أصبحت غدوت إلى المسجد فإذا بي أرى في حلقة الباب أثر مربط الدابّة - أي: البراق - ولم أجد بالباب ما يمنعه من الإغلاق فعلمت أنّه إنّما امتنع علينا غلقه بالأمس لأجل ما كنت أجده في العلم القديم: من أنّ نبيّاً يصعد من بيت المقدس إلى السماء،وعند ذلك قلت لأصحابي ما حبس هذا الباب تلك الليلة إلّا هذا الأمر(1).

أقول: لا يخفى أنّ عدم انغلاق الباب إنّما كان آية، وإلّا فجبرئيل لا يمنعه باب مغلق ولا غيره.

ص: 116


1- انظر السيرة الحلبية 2: 80.

وعن أبي بصير عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: «لمّا عرج برسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى السماء انتهى به جبرئيل إلى مكان فخلّى عنه.

فقال له: يا جبرئيل تخليني على هذه الحالة؟

فقال: امضه فواللّه لقد وطئت مكاناً ما وطئه بشر وما مشى فيه بشر قبلك»(1).

وعن يونس بن عبد الرحمن قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر‘: لأيّ علّة عرج اللّه بنبيّه(صلی الله علیه و آله) إلى السماء ومنها إلى سدرة المنتهى ومنها إلى حجب النور وخاطبه وناجاه هناك واللّه لا يوصف بمكان؟

فقال(علیه السلام): «إنّ اللّه تبارك وتعالى لا يوصف بمكان ولا يجري عليه زمان، ولكنّه عزّ وجلّ أراد أن يشرّف به ملائكته وسكّان سماواته ويكرمهم بمشاهدته ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه، وليس ذلك على ما يقوله المشبّهون، سبحاناللّه وتعالى عمّا يصفون»(2).

بيعة العقبة

وفي السنة الحادية عشرة من البعثة كان ابتداء إسلام الأنصار، فإنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) كما مرّ - كان يخرج ويتبع آثار الناس في

ص: 117


1- الكافي 1: 442.
2- علل الشرائع 1: 132.

منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز في المواسم، ويقول: «من يؤويني، من ينصرني حتى أبلّغ رسالة ربّي وله الجنّة»، فلا يجد أحداً ينصره ولا يجيبه حتى أنّه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة فيردّونه أقبح ردّ ويؤذونه ويقولون: قومك أعلم بك.

إلى أن أراد اللّه إظهار دينه فساقه(صلی الله علیه و آله) إلى هذا الحيّ من الأنصار ولقّبوا بالأنصار في ما بعد لنصرتهم النبيّ(صلی الله علیه و آله) وكانوا يسمّون أولاً بالأوس والخزرج.

فلقي في منى بعض الخزرج عند العقبة التي بجنب منى، فقال: «من أنتم؟»

قالوا: من الخزرج.

قال: «أفلا تجلسون أُكلّمكم؟»

فجلسوا فدعاهم إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن وكان عندهم علم منه فعرفوا نعته، لأنّ يهود المدينة كانوا يقولون لهم: إنّ نبيّاًيبعث الآن، نتبعه ونقتلكم معه، فأجابوه لئلا تسبقهم اليهود إليه، وأسلم منهم ستّة.

فقال لهم: «تمنعون ظهري حتى أُبلغ رسالة ربّي؟»

فقالوا: ندعوا قومنا إلى ما دعوتنا إليه، فإن أجابوا، فلا أحد أعزّ منك وموعدك الموسم من العام المقبل، فانصرفوا بعد أن أمرهم(صلی الله علیه و آله) بالكتمان عن أهل مكّة حتى لا يقعوا في شباكهم.

ثمّ في العام الثاني لقيه إثنا عشر رجلاً، خمسة من الستّة الأول

ص: 118

والبقيّة من الخزرج أيضاً إلّا رجلين فمن الأوس، وهذه هي العقبة الثانية، فأسلموا وقبلوا ما اشترطه عليهم ثمّ رجعوا وأظهر اللّه الإسلام فيهم، وكان أسعد بن زرارة يجتمع بالمدينة بمن أسلم(1).

ثمّ أرسلوا يطلبون من يعلّمهم القرآن، فأرسل إليهم مصعب بن عمير، فأسلم على يديه من النساء والرجال جمع كثير منهم: سيد الأوس سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وأسلم بنو عبد الأشهل كلهم في يوم واحد(2).

وكان مصعب يؤمّ بهم أوّل جمعة في الإسلام حين بلغالمسلمون منهم أربعين رجلاً وذلك بأمر منه(صلی الله علیه و آله).

ثمّ قدم في العام الثالث في الموسم سبعون رجلاً، وهي العقبة الثالثة فبايعهم على أن يمنعونه ممّا يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، فلمّا تمّت بيعة هؤلاء لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وكانت سرّاً عن كفار قومهم وكفّار قريش صاح الشيطان: يا معشر قريش هؤلاء بنو الأوس والخزرج تحالفوا مع محمّد على قتالكم، فأسرع الأنصار إلى رحالهم وجاءت قريش إلى شعب الأنصار يلومونهم على ذلك، فصار مشركوا الأوس والخزرج يحلفون لهم ما كان من هذا شيء، ثمّ نفر الناس من منى وبحثت قريش عن الخبر فلمّا تحققوه اقتفوا

ص: 119


1- انظر تاريخ الطبري 2: 86؛ والتحفة اللطيفة 1: 12.
2- انظر تفسير الثعلبي 5: 86.

آثارهم فلم يدركوا إلّا سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، فأمّا سعد فأمسك وعذّب ثمّ انقذه اللّه تعالى، وأمّا المنذر فأفلت(1).

وعندما اجتمعوا عند رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج إنّكم قد دعوتم محمّداً إلى ما دعوتم إليه، ومحمّد من أعزّ الناس في عشيرته، واللّه منا من كان على قوله ومن لم يكن منّا على قوله يمنعه للحسب والشرف، وقد أبى محمّد الناس كلهم غيركم، فإنكنتم أهل قوّة وجلد وبصيرة بالحرب واستقلال بعداوة العرب قاطبة ترميكم عن قوس واحدة، فارتاؤوا رأيكم وأتمروا أمركم ولا تفترقوا إلّا عن ملأ منكم واجتماع فإنّ أحسن الحديث أصدقه.

فقال البراء بن معرور: قد سمعنا ما قلت وإنّا واللّه لو كان في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه، ولكنّا نريد الوفاء والصدق وبذل مهج أنفسنا دون رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

ثمّ تلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عليهم القرآن ودعاهم إلى اللّه ورغّبهم في الإسلام وذكر الذي اجتمعوا له، فأجابه البراء بن معرور بالإيمان والتصديق ثمّ قال: يا رسول اللّه، بايعنا فنحن أهل الحقلة - يريد به مطلق السلام أو خصوص الدروع - ورثناها كابراً عن كابر، ثمّ ضرب السبعون كلهم على يده وبايعوه.

ص: 120


1- انظر السيرة الحلبية 2: 163-179.

فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «إنّ موسى أخذ من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً فلا يجدن أحد منكم في نفسه إن اختير غيره فإنّما يختار لي جبرئيل فلمّا تخيّرهم قال للنقباء: أنتم كفلاء على غيركم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي»(1).

وهنا أخذ البراء بن معرور بيده ثمّ قال: والذي بعثك بالحقّ لنمنعك ممّا نمنع ذرارينا، فبايعنا يا رسول اللّه فنحن واللّه أهلالحرب.

فاعترض كلامه أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول اللّه إنّ بيننا وبين الناس - يعني اليهود - حبالاً وإنّا قاطعوها، فهل عسيت إن أظهرك اللّه عزّ وجلّ أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟

فتبسّم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقال: «بل الدم الدم والهدم الهدم - أي: من يريد دمكم فقد طلب دمي - ، ومن هدر دمكم فقد هدر دمي»(2).

قال عبادة بن الصامت: بايعنا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بيعة النساء، أي: كمبايعة النساء والتي كانت يوم فتح مكّة، وهي: أن لا نشرك باللّه شيئاً، ولا نسرق، ولانزني، ولا نقتل أولادنا - لأن قتل الأولاد كان سائغاً عندهم - إلى أن قال: ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا

ص: 121


1- انظر الطبقات الكبرى 1: 222.
2- انظر تاريخ الطبري 2: 93.

- وهو كناية عن عدم الزنا في الحال والاستقبال - ولا نعصيه في معروف، أي ما عرف من الشرع حسنه نهياً وأمراً(1).

ولمّا قدموا المدينة أظهروا الإسلام بها وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك، منهم: عمرو بن الجموح، وكان ابنه معاذ بن عمرو شهد العقبة وبايع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بها.وكان عمرو بن الجموح سيّداً من سادات بني سلمة وشريفاً من أشرافهم، وكان قد اتّخذ في داره صنماً من خشب يقال له: مناة كما كانت الأشراف تفعل ذلك تتخذه إلهاً تعظمه وتظهره.

فلمّا أسلم فتيان بني سلمة: معاذ بن جبل، وابنه معاذ بن عمرو في فتيان منهم ممن أسلم وشهد العقبة، كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عذر الناس منكّساً على رأسه.

فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم من غدا على إلهنا هذه الليلة؟ ثمّ يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه ثمّ قال: أما واللّه لو أعلم من فعل هذا بك لاخزينّه.

فإذا أمسى ونام عمرو غدوا عليه ففعلوا به مثل ذلك. فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى فيغسله ويطهّره ويطيّبه، ثمّ يغدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مثل ذلك.

ص: 122


1- انظر السيرة الحلبية 2: 161.

فلمّا أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوماً فغسله وطهره وطيّبه ثمّ جاء بسيفه فعلّقه عليه ثمّ قال له: إنّي واللّه ما أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع منه وهذا السيف معك.

فلمّا أمسى ونام عمرو، غدوا عليه فأخذوا السيف من عنقه ثمّ أخذوا كلباً ميّتاً فقرنوه به بحبل ثمّ القوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس.وغذا عمرو بن الجموع فلم يجده في مكانه الذي كان به، فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكساً مقروناً بكلب ميت، فلمّا رآه علم بأنّه لا يضرّ ولا ينفع وتزلزل رأيه فيه، فكلّمه بعد ذلك من أسلم من قومه فأسلم يرحمه اللّه وحسن إسلامه(1).

الهجرة إلى المدينة

ولمّا صدر من عند رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أُولئك السبعون الذين بايعوه(صلی الله علیه و آله) في العقبة الثالثة ووصلوا إلى المدينة واشتغلوا بنشر الإسلام فيها، طابت نفس رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حيث جعل اللّه له منعة وقوماً أهل حرب وعدة ونجدة.

وجعل البلاء يشتدّ على المسلمين من المشركين، فضيّقوا عليهم وتعبّثوا بهم ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالونه من الشتم والأذى.

ص: 123


1- انظر سبل الهدى والرشاد 3: 222.

فشكى المسلمون ذلك إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) واستأذنوه في الهجرة، فمكث(صلی الله علیه و آله) أيّاماً يناقش موضوع الهجرة ويسأل فيها ربّه، ثمّ خرج إلى أصحابه مسروراً وقال: «قد أُخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها»، فجعل القوم يتجهزون ويتوافقون ويتواسونويخرجون ويخفون ذلك.

فكان أوّل من قدم المدينة من أصحاب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) هو: أبو سلمة عبد الأسد، ثمّ قدم بعده عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة، وكانت هي أوّل ظعينة قدمت المدينة، ثمّ تتابع أصحاب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى المدينة أرسالاً(1).

نعم خرج المسلمون جميعاً واحداً تلو الآخر إلى المدينة وكان أول من قدمها من أصحاب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من المهاجرين من قريش من بني مخزوم هو - على ما مرّ - أبو سلمة.

قالت أمّ سلمة: لمّا أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره، ثمّ حملني عليه وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثمّ خرج بي يقود بي بعيره.

فلمّا رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علامَ نتركك تسير بها البلاد؟

قالت: فنزعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه.

ص: 124


1- الطبقات الكبرى 1: 226.

قالت: فغضب من ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة وقالوا: لا واللّه لا نترك ابنتنا عندكم إذ نزعتموها من صاحبنا.

قالت: فتجاذبوا بني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنوعبد الأسد وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة.

قالت: ففرّق بيني وبين زوجي وبين ابني.

قالت: فكنتُ أخرج كلّ غداة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أُمسي، فما زلت كذلك سنة أو قريباً منها حتى مرّ بي رجل من بني عمّي أحد بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون من هذه المسكينة، فرّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟

قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت.

قالت: وردّ بنو عبد الأسد إليّ عند ذلك ابني.

قالت: فارتحلت بعيري ثمّ أخذت ابني فوضعته في حجري ثمّ خرجت أريد زوجي بالمدينة.

قالت: وما معي أحد من خلق اللّه.

قالت: فقلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أُميّة؟

قالت: فقلت: أُريد زوجي بالمدينة.

ص: 125

قال: أو معك أحد؟

قالت: فقلت: لا واللّه إلّا اللّه وابني هذا.قال: واللّه ما لك من مترك، فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي، فواللّه ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنّة كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثمّ استأخر عنّي، حتى إذا نزلت عنه استأخر ببعيري فحط عنه، ثمّ قيّده في الشجرة، ثمّ تنحّى إلى الشجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ثمّ استأخر عنّي فقال: إركبي، فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقاد بي حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلمّا نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية - وكان أبو سلمة بها نازلاً - (1).

ثمّ إنّه لما رأت قريش أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، وعرفوا أنّه قد امتنع منهم، اجتمعوا له في دار الندوة، وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلّا فيها، وأخذوا يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حين خافوه وكانوا مائة رجل(2).

ص: 126


1- انظر الإكتفاء: 273.
2- انظر تاريخ الطبري 2: 97.

ليلة المبيت

قال ابن عبّاس: لمّا هاجر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)لبس عليّ(علیه السلام) ثوبه ونام على فراشه، وكان المشركون يرصدون رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقد أحاطوا بالدار من كلّ جانب يرمون عليّاً بالحجارة طول الليل وهو يتضور قد لف رأسه في الثوب إلى الصباح وهم يظنّون أنّه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فلمّا أصبحوا اقتحموا عليه الدار ليقتلوه فإذا هو عليّ بن أبي طالب(علیه السلام)(1).

فأنزل اللّه في حقّ عليّ(علیه

السلام) وتفديته رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بنفسه في تلك الليل-ة: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَ-ن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ...}(2). وذلك بعد أن باهى اللّه به ملائكته وأمر جبرئيل وميكائيل بالنزول لحفظ عليّ(علیه السلام) وحراسته من كيد الأعداء(3).

وقد خرج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ليلته يمشي على أطراف أصابعه لئلاّ يظهر أثر رجليه على الأرض حتى حفيت رجلاه، ولم يصل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى الغار حتى سالت قدماه دماً(4)، وفي الطريق التقى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بأبي بكر فأخذه معه إلى غار ثور فمكثا فيه ثلاث ليال، وعلّةاصطحابه(صلی الله علیه و آله) لأبي بكر مذكورة في المفصّلات فليراجع.

ص: 127


1- انظر شرح إحقاق الحق 21: 287.
2- سورة البقرة، الآية: 207.
3- انظر الأمالي للشيخ الطوسي: 469.
4- السيرة الحلبية 2: 203.

وكان قوله(صلی الله علیه و آله) حين خرج من مكّة لمّا وقف على الحزورة ونظر إلى من البيت: «واللّه إنّك لأحبّ أرض اللّه إليّ، ولولا أنّ أهلك أخرجوني ما خرجت منك»(1).

فأنزل اللّه تعالى عليه: {وَقُل رَّبِّ أَدۡخِلۡنِي مُدۡخَلَ صِدۡقٖ وَأَخۡرِجۡنِي مُخۡرَجَ صِدۡقٖ وَٱجۡعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلۡطَٰنٗا نَّصِيرٗا}(2).

وفي رواية أخرى: انّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لمّا وصل في طريق هجرته إلى المدينة منطقة الجحفة أخذت ذكريات مكّة حرم أمن اللّه والمسجد الحرام والكعبة تدور في خاطرته، فتأثر لها وهاج به الحزن لفراقه كلّ ذلك وابتعاده عن مسقط رأسه مكّة حتى ظهر آثار الحزن على محيّاه، فنزل عليه جبرائيل يسأله هل أنت متأثّر على فراقك مسقط رأسك ومشتاق إليه؟

أجابه الرسول(صلی الله علیه و آله): «نعم».

فقال جبرائيل: السلام يخصّك بالسلام ويقول لك: {إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٖۚ...}(3)(4).ولمّا فقدت قريش رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) طلبوه بمكّة أعلاها وأسفلها وبعثوا القافة - والقائف هو الذي يعرف الأثر في كلّ وجه - فإنّهم

ص: 128


1- السيرة الحلبية 2: 196.
2- سورة الإسراء، الآية: 80.
3- سورة القصص، الآية: 85.
4- انظر روضة الواعظين 2: 406.

بعثوا شخصين فوجد الذي ذهب باتجاه ثور أثره هناك، فلم يزل يتبعه حتى انقطع وانتهى إلى غار ثور(1).

ولمّا دخل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) الغار، أثبت اللّه على بابه شجرة من أُمّ غَيْلان(2)

فحجبت عن الغار أعين الكفّار، وأمر اللّه العنكبوت فنسجت على وجه الغار، وأرسل حمامتين وحشيتين فوقعتا على بابه وكلّ ذلك ممّا صدّ المشركين عنه(3).

فأقام رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في الغار ثلاثاً وكان علي(علیه السلام) يجهّز النبيّ(صلی الله علیه و آله) حين كان في الغار يأتيه بالطعام والشراب(4)، ورسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يوصيه بأن يخلفه من بعده ويقول له: «إنّ قريشاً لن يفتقدوني ما رأوك»(5)

ويأمره بأن يعلن في الناس بأن من كانت له عند رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أمانة أو وصية أو كان له عليه دين،فليأت وليأخذ دينه وأمانته.

كما أنّه أوصاه بأن يكون على أهبة السفر والهجرة، وأن يحمل الفواطم معه إلى المدينة حين وصول كتابه إليه.

وأن يهيّئ لهما إبلاً ويستأجر أميناً عارفاً بطريق المدينة، ويبعث

ص: 129


1- الإكتفاء: 282.
2- أُم غَيْلان: من الأشجار المعروفة عند العرب وتسمّى أيضاً السّمرة، لها شوك.
3- انظر سبل الهدى والرشاد 3: 240.
4- انظر الإحتجاج 1: 141.
5- إعلام الورى: 190.

بهم إليهما ففعل ذلك علي(علیه السلام) بعد مضيّ ثلاثة أيّام وسكون الناس عن طلب النبيّ(صلی الله علیه و آله) فقد جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن يردّه إليهم، وبعد رفع المراصد والعيون من الطريق، ويأس قريش من العثور على النبيّ(صلی الله علیه و آله)(1).

وفي رواية أخرى: إنّ أسماء كانت تأتيهما ليلاً بطعامها وشرابهما فلمّا كان بعد الثلاث أمرها(صلی الله علیه و آله) أن تأتي عليّاً فتخبره بموضعهما وتقول له: يستأجر دليلاً ويأتي معه بثلاث من الإبل بعد مضيّ ساعة من الليلة الآتية وهي الليلة الرابعة.

فجاءت أسماء إلى علي(علیه السلام) فأخبرته بذلك، فاستأجر لهما رجلاً يقال له الأريقط بن عبد اللّه الليثي وأرسل معه بثلاث من الإبل - للدليل ولهما - فجاء بهن إلى أسفل الجبل ليلاً، فلمّا سمع النبيّ(صلی الله علیه و آله) رغاء الإبل يرافقها صوت الأريقط، نزلمن الغار، وسار نحو المدينة(2).

في طريق الهجرة

ولمّا خرج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من مكّة مهاجراً إلى المدينة جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن ردّه عليهم، قال سراقة: فبينما أنا جالس في نادي قومي إذ أقبل رجل منّا حتى وقف علينا وقال: واللّه لقد رأيت

ص: 130


1- انظر كشف الغمة 1: 405.
2- انظر السيرة الحلبية 2: 212.

ركبة ثلاثة مروا عليّ آنفاً إنّي لأراهم محمّداً وأصحابه.

قال: فأومأت بعيني أن اُسكت ثمّ قلت: إنّما هم بنو فلان يتبعون ضالّة لهم.

قال: لعلّه كذلك، ثمّ سكت.

قال: ثمّ مكث قليلاً، ثمّ قمت فدخلت بيتي، ثمّ أمرت بفرسي فقيد لي إلى بطن الوادي، وأمرت بسلاحي فأخرج لي من دبر حجرتي، ثمّ أخذت قداحي التي استقسم بها، ثمّ انطلقت فلبثت ثمّ أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره.

قال: وكنت أرجو أن أرده على قريش فآخذ المأة ناقة، فركبت على أثره، فبينا فرسي يشتد إذ عثر بي فسقطت عنه فقلت: ما هذا؟

قال: ثمّ أخرجت قداحي، إلى أن قال: فأبيت إلّا أن أتبعه، فركبت في أثره فلمّا بدا لي القوم ورأيتهم، عثر بي فرسي فذهبت يداه فيالأرض وسقطت عنه، ثمّ انتزع يديه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار.

قال: فعرفت حين رأيت ذلك أنّه قد منع مني(1).

وفي رواية أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) دعا وقال: «اللّهم اكفني شرّ سراقة بما شئت» فرسخت قوائم فرسه، فقال: يا محمّد ادع اللّه أن يطلق فرسي وأرجع عنك وأردّ من ورائي.

ص: 131


1- انظر السيرة النبوية لابن هشام 2: 338.

ففعل، فاطلق ورجع، فوجد الناس يلتمسون رسول اللّه فقال: ارجعوا فقد استبرأت لكم ما ههنا وقد عرفتم بصري بالأثر، فرجعوا عنه.

ولمّا أراد أن يعود سراقة عنه قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «كيف بك يا سراقة إذا سورت بسواري كسرى؟»

قال: كسرى بن هرمز؟

قال: «نعم».

فعاد سراقة وصار كما قال الرسول(صلی الله علیه و آله) - حيث أُلبس سراقة سواري كسرى في زمان افتح فارس لما جيء إلى المسلمين بغنائم كسرى(1).

ثمّ رجع سراقة إلى مكّة فاجتمع الناس عليه فأنكر أنه رأىمحمّداً(صلی الله علیه و آله) فلا زال به أبو جهل حتى اعترف وأخبرهم بالقصّة.

وفي ذلك يقول سراقة مخاطباً لأبي جهل:

أبا حكم واللّه لو كنت شاهداً *** لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه

علمت ولم تشكك بأنّ محمّداً *** رسول ببرهان فمن ذا يقاومه(2)

ص: 132


1- انظر الكافي 8: 263؛ والكامل في التاريخ 2: 105.
2- تاريخ اليعقوبي 2: 40؛ والإصابة 3: 35.

ووقع في طريق الهجرة عجائب

منها: أنّهم مرّوا بقديد على أُمّ معبد الخزاعيّة وكانت تطعم وتسقي من يمرّبها وكانت السنة مجدبة فلم يكن عندها شيء فسألوها لحماً وتمراً يشترونه منها، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك، فنظر(صلی الله علیه و آله) إلى شاة في كسر الخيمة خلّفها الجهد والضعف عن أن تسرح مع صواحبتها، فسألها: «هل بها لبن؟»

فقالت: هي أجهد من ذاك.

فقال: «أتأذنين لي أن أحلبها؟»

قالت: نعم، فدعابها، وبإناء، فاعتقلها ومسح ضرعها وسمّى اللّه تعالى فدرّت، فحلب وسقى القوم حتى رووا ثمّ شرب آخرهم، ثمّ حلب ثانياً وتركوه وذهبوا.فجاء زوجها فأخبرته الخبر فقال: هذا واللّه صاحب قريش ولو رأيته لاتبعته، وبقيت تلك الشاة يحلبونها ليلاً ونهاراً إلى أن ماتت بعد طول عمر(1).

ومنها: أنّه نزل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خيمة خالة هند، قالت: فقام(صلی الله علیه و آله) من رقدته - أي نومه - فدعا بماء فغسل يديه ثمّ تمضمض ومجّ في عوسجة إلى جانب الخيمة، فأصبحنا وهي كأعظم دوحة، وجاءت بثمرة كأعظم ما يكون في لون الورس ورائحة العنبر وطعم

ص: 133


1- انظر إعلام الورى: 23.

الشهد، ما أكل منها جائع إلّا شبع، ولا ظمآن إلّا روي، ولا سقيم إلّا برئ، ولا أكل من ورقها بعير ولا شاة إلّا درّ لبنها.

قالت: فكنّا نسميها المباركة، ويأتينا من البوادي من يستشفى بها ويتزود منها، حتى أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمرها، وصغر ورقها، ففزعنا، فما راعنا إلّا نعي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

ثمّ إنّها بعد ثلاثين سنة أصبحت ذات شوك من أسفلها إلى أعلاها وتساقط ثمرها وذهبت نضرتها، فما شعرنا إلّا بقتل أمير المؤمنين علي(علیه السلام)، فما أثمرت بعد ذلك.

وكنّا ننتفع بورقها. ثمّ أصبحنا وإذا بها قد نبع من ساقها دم عبيط وقد ذبل ورقها، فبينما نحن فزعون مهمومون إذ أتانا خبر قتلالحسين بن علي‘، ويبست على أثر ذلك وذهبت(1).

ومنها: أنّ أبا معبد زوج أُمّ معبد كان قد ذهب يرعى أعنزاً عجافاً، فلما رجع إلى الخيمة ورأى آثار الخير والبركة فيها، ورأى اللبن في أوانيهم تعجب وقال لزوجته متسائلاً: من أين لك هذا يا أُمّ معبد والشاة عازب حِيَال(2) ولا حلوب في البيت؟

فقالت: لا واللّه إلّا أنّه مرّبنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا.

قال: صفيه لي.

ص: 134


1- كشف الغمة 1: 25.
2- عازب حِيال: بعيدة المرعى لا تأوى إلى منزل في الليل، والحِيال - جمع الحائل - وهي التي لم تحمل.

قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، وتزريه صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره عطف، وفي صوته صحل، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أزج، أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلّم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة، لا بائن من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غُصناً بين غصنين، فهو أنظر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إن قال انصتوا له، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا معتد.فقال أبو معبد: هو واللّه صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة(1).

ومنها: أنّه لقيه على طريقه(صلی الله علیه و آله) بريدة بن الحصيب في سبعين من قومه، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا وقد كانوا خرجوا طمعاً في جائزة قريش، فقال بريدة للنبي(صلی الله علیه و آله): من أنت؟

قال: «أنا محمّد بن عبد اللّه»، فألقى اللّه في قلبه الإسلام وحبّ النبيّ(صلی الله علیه و آله).

فقال بريدة: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ محمّداً عبده ورسوله،

ص: 135


1- بحار الأنوار 19: 99.

فأسلم بريدة وأسلم من كان معه جميعاً.

ثمّ قال بريدة: الحمد للّه الذي أسلم بنو سهم طائعين غير مكرهين.

فلمّا أصبح رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قال بريدة: يا رسول اللّه لا تدخل المدينة إلّا ومعك لواء، فحلّ عمامته ثمّ شدّها في رمح ثمّ مشى بين يديه حتى دخلوا المدينة(1).

ص: 136


1- سبل الهدى والرشاد 3: 252.

المدينة في استقبال النبي (صلی الله علیه و آله)

كان بين ليلة عقبة وبين مهاجر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ثلاثة أشهر، كانت بيعة الأنصار ليلة العقبة في ذي الحجة وقدوم النبيّ(صلی الله علیه و آله) المدينة في الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل.

ولمّا سمع المسلمون في المدينة بخروج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من مكّة، كانوا يغدون كلّ غداة إلى الحرة ينتظرون رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حتى يردهم حرّ الظهيرة.

وكان خروجهم ثلاثة أيّام وهي المدة الزائدة على المسافة المعتادة بين مكة والمدينة التي كان بها بالغار، فانقلبوا يوماً بعد أن طال انتظارهم وأحرقتهم الشمس، وإذا برجل من اليهود صعد على أطم - أي محلّ مرتفع - من آطامهم لأمر ينتظر إليه، فبصر برسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وأصحابه مبيضين - أي يرتدون ملابس بيضاء - فلمّا رآهم لم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب وفي رواية يا بني قيلة - وهم الأنصار وأُمّهم تسمّى قيلة - هذاجدّكم (أي حظّكم) الذي تنتظرونه.

فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، بظهر الحرة،

ص: 137

وقد استقبله(صلی الله علیه و آله) زهاء خمسمأة من الأنصار(1).

ونزل بقباء - وهي على بُعد فرسخين من المدينة - في دار بني عمرو بن عوف في يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل وأقام فيها أيّاماً ينتظر قدوم عليّ(علیه السلام) وأسّس مسجدهم - مسجد قباء - .

وكان نزوله(صلی الله علیه و آله) عند كلثوم بن الهدم لأنّه كان شيخ بني عمرو بن عوف، وهم بطن من الأوس وكان كلثوم يومئذ مشركاً ثمّ أسلم وتوفّى قبل غزوة بدر بيسير(2).

نعم سبق أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لمّا توجّه إلى المدينة أوصي عليّاً(علیه السلام) بأن يقيم بعده في مكّة حتى يردّ الودائع، فقام علي(علیه السلام) بالأبطح ينادي: «من كان له عند رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وديعة فليأت تؤدّى إليه أمانته»(3).

فلمّا نفّذ ذلك ورد عليه كتاب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)بالشخوص إليه، فابتاع ركائب وقدم ومعه الفواطم: فاطمة أُمّه، وفاطمة بنت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وفاطمة بنت الزبير، وأُمّ أيمن وولدها، وجماعة من ضعفاء المؤمنين(4).

ص: 138


1- انظر عيون الأثر 1: 244.
2- انظر إعلام الورى: 66؛ والسيرة الحلبية 2: 232.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 468.
4- كشف الغمة 1: 406.

ولمّا وصل نزل على كلثوم بن الهدم اقتداءً بالنبيّ(صلی الله علیه و آله) وكان علي(علیه السلام) في طريقه يكمن النهار ويسير الليل سيراً حثيثاً ماشياً على رجليه، حتى تورّمت قدماه(1).

فلمّا وصل اعتنقه النبيّ(صلی

الله علیه و آله) وبكى رحمة لما بقدميه من الورم وأنّهما ليقطران دماً، ثمّ مسح بيديه المباركتين على قدميه فلم يشكهما بعد ذلك، ثمّ اتّجه النبيّ(صلی الله علیه و آله) مع عليّ(علیه السلام) نحو المدينة.

قال البراء بن عازب: ما رأيت أهل المدينة فرحين بشيء كفرحهم يومئذٍ برسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

ولمّا دخل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) المدينة استقبله أهلها بكلّ حفاوة وهم يهتفون:

طلع البدر علينا *** من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا *** ما دعا للّه داعأيّها

المبعوث فينا *** جئت بالأمر المطاع

جئت نورتَ المدينة *** مرحباً يا خير داع(2)

قال أنس بن مالك: فشهدته يوم دخل المدينة، فما رأيت يوماً قطّ أحسن ولا أضوأ من يوم دخل المدينة علينا، وشهدته يوم مات، فما

ص: 139


1- انظر إعلام الورى: 66؛ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13: 306.
2- انظر سبل الهدى والرشاد 3: 271.

رأيت قطّ يوماً كان أقبح ولا أظلم من يوم مات(صلی الله علیه و آله)(1).

قال عبد اللّه بن سلام: لمّا قدم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) المدينة جفل الناس إليه، وقيل قدم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

قال: فجئت في الناس لأنظر إليه، فلمّا استبنت وجه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فإذا وجهه ليس بوجه كذّاب، وكان أوّل شيء سمعته يتكلّم به أن قال:

«يا أيّها الناس أفشوا السلام، أطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنّة بسلام»(2).

قالوا: وأقام رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ببني عمرو بن عوف يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وخرج يوم الجمعة فجمّع في بني سالم.وقيل: أقام ببني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة، فلمّا كان يوم الجمعة عند ارتفاع النهار دعا راحلته وتحشد المسلمون وتلبّسوا بالسلاح وركب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ناقته القصواء والناس معه عن يمينه وشماله، فاعترضته الأنصار لا يمرّ بدار من دورهم إلّا قالوا: هلمّ يا نبيّ اللّه إلى القوّة والمنعة والثروة، فيقول لهم خيراً ويدعو لهم ويقول: «إنّها مأمورة فخلّوا سبيلها»(3).

وعن الشموس بنت النعمان قالت: نظرت إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

ص: 140


1- الطبقات الكبرى 1: 234.
2- الطبقات الكبرى 1: 235.
3- الطبقات الكبرى 1: 236.

حين قدم وأسس مسجد قباء فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة، فيأتي الرجل من أصحابه فيقول: يا رسول اللّه بأبي أنت وأُمّي أكفيك، فيقول: «لا»، حتى أسّسه(1).

ولمّا ركب(صلی الله علیه و آله) وخرج من قباء سار الناس معه ما بين ماش وراكب ولا زال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة حرصاً على كرامة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وتعظيماً له، حتى دخل المدينة الشريفة، وصار الخدم والصبيان يقولون: اللّه أكبر جاء رسول اللّه، ولعبت الحبشة بحرابها فرحاً برسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

وقال بنو عمرو بن عوف له حين أراد الخروج من قباء: يا رسولاللّه أخرجت ملالاً، أو تريد داراً خيراً من دارنا؟

قال: «إنّي أمرت بقرية تأكل القرى - أي: تغلبها - فخلّوا سبيها» يعني ناقته(2).

أوّل خطبة في أوّل جمعة

خطب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في أول جمعة صلاّها بالمدينة في بني سالم بن عوف وقال:

«الحمد للّه، أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأُومن به ولا أكفره، وأُعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا

ص: 141


1- انظر سبل الهدى والرشاد 3: 268.
2- انظر السيرة الحلبية 2: 240.

شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى والنور والموعظة، على فترة من الرسل، وقلّة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنوٍّ من الساعة، وقرب من الأجل، من يطع اللّه ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط، وضلّ ضلالاً بعيداً، أُوصيكم بتقوى اللّه، فإنّ خير ما أوصى به المسلمُ المسلمَ أن يحضّه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى اللّه، فاحذروا ما حذّركم اللّه من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكراً، وإنّ تقوى اللّه لِمَن عمل به على وجل ومخافة من ربّه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين اللّه من أمره في السرّ والعلانيةلا ينوي بذلك إلّا وجه اللّه يكن له ذكراً في عاجل أمره وذخراً في ما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدّم، وما كان من سوى ذلك يودّ لو أنّ بينه وبينه أمداً بعيداً، ويحذّركم اللّه نفسه واللّه رؤف بالعباد، والذي صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك، فإنّه يقول عزّ وجلّ: {مَا يُبَدَّلُ ٱلۡقَوۡلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَا۠ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ}(1). فاتّقوا اللّه في عاجل أمركم وآجله، في السرّ والعلانية، فإنّه من يتّق اللّه يكفّر عنه سيّئاته ويعظم له أجراً، ومن يتّق اللّه فقد فاز فوزاً عظيماً، وإنّ تقوى اللّه يوقي مقته، ويوقي عقوبته ويوقي سخطه، وإنّ تقوى اللّه

ص: 142


1- سورة ق، الآية: 29.

يبيّض الوجوه، ويرضي الربّ، ويرفع الدرجة، خذوا بحظّكم ، ولا تفرّطوا في جنب اللّه، قد علّمكم اللّه كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن اللّه إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في اللّه حقّ جهاده، هو اجتباكم وسمّاكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة، ولا قوّة إلّا باللّه، فأكثروا ذكر اللّه، واعلموا أنّه خير من الدنيا وما فيها، واعملوا لما بعد اليوم، فإنّه من يصلح ما بينه وبين اللّه يكفيه اللّه ما بينه وبين الناس، ذلك بأنّ اللّه يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، اللّهأكبر ولا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم»(1).

خطبة أخرى لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

قالوا: وخطب(صلی الله علیه و آله) مرّة أخرى فقال:

«الحمد للّه، أحمده وأستعينه، نعوذ باللّه من شرور أنفسنا، وسيّئات أعمالنا، من يهد اللّه فلا مضلّ له، ومن يضلل اللّه فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، إنّ أحسن الحديث كتاب اللّه تبارك وتعالى، قد أفلح من زينه اللّه في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنّه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا ما أحب اللّه، أحبوا اللّه

ص: 143


1- تاريخ الطبري 2: 115؛ وبحار الأنوار 86: 232.

من كلّ قلوبكم، ولا تملّوا كلام اللّه وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم، فإنّه من كل ما يخلق اللّه يختار ويصطفي، قد سمّاه اللّه خيرته من الأعمال، ومصطفاه من العباد، والصالح من الحديث، ومن كل ما أُوتي الناس من الحلال والحرام، فاعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً، واتقوه حقّ تقاته، وأصدقوا اللّه صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح اللّه بينكم، إنّ اللّه يغضب أن ينكث عهده، ... فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيّبة، فإنّها تجزى الحسنةبعشر أمثالها إلى سبعمائة»(1).

إنها مأمورة

وكان النبيّ(صلی الله علیه و آله) عند دخوله المدينة قد أرخى لناقته زمامها - كما أُشير إليها سابقاً - وهي تنظر يميناً وشمالاً، وكلّما مرّ على دار من دور الأنصار يدعونه للمقام عندهم، يقولون: يا رسول اللّه هلمّ إلى القوّة والمنعة، فيقول: «خلوا سبيلها فإنّها مأمورة».

ولمّا مرّ على بني سالم بن عوف سأله منهم: عتبان بن مالك، وعبادة بن الصامت، ونوفل بن عبد اللّه بن مالك قائلين: يا رسول اللّه أقم عندنا في العزّ والثروة والمنعة ونحن أصحاب الحلائف.

فقال(صلی الله علیه و آله) لهم خيراً وقال: «خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة» وهو(صلی الله علیه و آله)

ص: 144


1- انظر السيرة النبوية لابن هشام 2: 347 و 348 في ضمن خطبتين.

في كلّ ذلك مبتسم ويقول: «بارك اللّه فيكم».

فانطلقت حتى وردت دار بياضة، - أي: محلّة بياضة - فسأله بنو بياضة ومنهم: زياد بن لبيد، وفروة بن عمرو، وقالوا له بمثل ما تقدّم، فأجابهم: «بأنّها مأمورة خلّوا سبيلها».

فانطلقت حتى وردت بني ساعدة ومنهم: سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو ابو دجانة، فسأله بنو ساعدة بمثل ذلكفأجابهم(صلی الله علیه و آله): «خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة».

فانطلقت حتى مرّت بدار بني النجّار وهم أخواله(صلی الله علیه و آله) أي: أخوال جدّه عبد المطلب، فسأله بنو عدي بن النجار بمثل ما تقدّم وقال(صلی الله علیه و آله) في جوابهم: «خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة».

فانطلقت حتى بركت بمحل من محالهم، وذلك في محل المسجد، أو محل بابه، أو منبره، عند دار بني مالك بن النجار، وكان ذلك الموضع الذي بركت فيه مربداً لسهل وسهيل ابني رافع بن عمرو (والمربد: الموضع الذي يجفف فيه التمر، وقيل: كلّ شيء حبست فيه من الإبل والغنم).

ثمّ ثارت وهو(صلی الله علیه و آله) عليها حتى بركت على باب أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري وهو من بني مالك بن النجار ولم يكن في المدينة أفقر منه.

ثمّ ثارت وبركت في مبركها الأوّل عند المسجد، فنزل عنها وقال: «هذا المنزل إن شاء اللّه»، واحتمل أبو أيّوب رحله بإذنه(صلی الله علیه و آله)

ص: 145

وأدخله بيته ومعه زيد بن حارثة(1).

فلمّا وقف أبو أيوب على الباب نادى: يا اُمّاه افتحي الباب، فقدقدم سيّد البشر، وأكرم ربيعة ومضر، محمد المصطفى، والرسول المجتبى.

فخرجت وفتحت الباب وكانت عمياء فقالت: واحسرتاه ليت كانت لي عين أبصر بها وجه سيدي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فكان أوّل معجزة النبيّ(صلی الله علیه و آله) في المدينة أنّه انفتحت عيناها ببركة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)(2).

وكانت دار بني النجار أوسط دور الأنصار وأفضلها، وهم أخوال جدّه عبد المطلب(3)،

فأكرمهم اللّه بنزوله عندهم بعد أن نزل عليه الوحي يأمره بأن ينزل هناك.

الرسول(صلی الله علیه و آله) في دار أبي أيّوب

قال أبو أيّوب: لمّا نزل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في بيتي نزل في السفل، وكنت أنا وأُمّ أيّوب في العلو، فقلت: يا نبيّ اللّه بأبي أنت واُمّي، إنّي أكره أن أكون فوقك، فكن في العلو وننزل نحن ونكون في السفل.

فقال: «يا أبا أيّوب إنّ الأرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في أسفل

ص: 146


1- انظر السيرة النبوية لابن هشام 2: 343؛ وسبل الهدى والرشاد 3: 272.
2- مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 1: 115.
3- تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف: 266.

البيت»، فكان النبيّ(صلی الله علیه و آله) في سفلهوكنّا فوقه في المسكن(1).

مسجد الرسول(صلی الله علیه و آله)

ثمّ إنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) سأل عن المربد(2) لمن هو؟

فقال له معاذ بن عفراء: هو يا رسول اللّه لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتيمان لي، وسأرضيهما(3).

لكن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أبي إلّا أن يشتريه فاشتراه بعشرة دنانير، ثمّ أمر به أن يبنى مسجداً(4)،

وعمل فيه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ليرغّب المسلمين في العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار(5).

ولمّا أتمّ مسجده وأتمّ بيوته حوله، انتقل من دار أبي أيّوب إليها وكان قد شرع لكلّ بيت من البيوت باباً إلى المسجد... ثمّ نزل عليه جبرئيل فقال: يا محمّد إنّ اللّه يأمرك أن تأمر كلّ من كان له باب إلى المسجد أن يسدّه، ولا يكون لأحد باب إلى المسجد إلّا لك ولعليّ(علیه السلام) ويحلّ لعلي(علیه السلام) فيه ما يحلّلك(6).

وكان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حين يحمل اللبن ويعمل مع المسلمين

ص: 147


1- انظر السيرة النبوية لابن هشام 2: 345.
2- المَرْبد: كل مكان أوفناء تحبس فيه الإبل.
3- البداية والنهاية 3: 244.
4- إمتاع الأسماع 1: 67.
5- إمتاع الأسماع 10: 86.
6- انظر إعلام الورى: 70.

في بناء المسجد يقول: «لا عيش إلّا عيش الآخرة، اللّهم ارحم المهاجرين والأنصار».

ودخل عمّار بن ياسر وقد اثقلوه باللبن فقال: يا رسول اللّه قتلوني إنّهم يحملون عليّ ما لا يحملون.

قالت أُمّ سلمة زوجة النبيّ: فرأيت رسول اللّه ينفض وفرة عمّار بيده وكان رجلاً جعداً وهو يقول: «ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك إنّما تقتلك الفئة الباغية».

وارتجز علي بن أبي طالب(علیه السلام) يومئذٍ - وهو يشتغل في بناء المسجد إلى جنب الرسول(صلی الله علیه و آله) وقال:

«لايستوي من يعمر المساجدا *** يدأب فيه قائماً وقاعداً

ومن يرى عن الغبار حائداً»(1)

من حوادث سنة الهجرة

وفي السنة الأولى من الهجرة بعث رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى بناته وزوجته سودة بنت زمعة، زيد بن حارثة وأبا رافعفحملاهنّ من مكة إلى المدينة(2).

قال بعضهم: وفي هذه السنة زيد في صلاة الحضر، وكانت

ص: 148


1- السيرة النبوية لابن هشام 2: 344.
2- بحار الأنوار 19: 129.

صلاة الحضر والسفر ركعتين غير المغرب وذلك بعد مقدم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى المدينة(1).

وأوّل هدية دخلت على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في منزل أبي أيّوب: هدية زيد بن ثابت قال: دخلت بها قصعة مثرودة فيها خبز وسمن ولبن فقلت: أرسلت بهذه القصعة أُمي.

فقال: «بارك اللّه فيك»، ودعا أصحابه فأكلوا، فلم أبرح الباب حتى جاءت قصعة سعد بن عبادة ثريد وعراق.

وما كان من ليلة إلّا وعلى باب رسول اللّه الثلاثة والأربعة يحملون الطعام يتناوبون ذلك، حتى تحول رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من منزل أبي أيّوب، وكان مقامه فيه سبعة أشهر(2).

ولمّا تحول رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من بني عمرو بن عوف إلى المدينة تحوّل المهاجرون معه، فتنافس فيهم الأنصار أن ينزلوا عليهم، حتى اقترعوا عليهم بالسهمان، فما نزل أحد من المهاجرين على أحد من الأنصار إلّا بقرعة بينهم(3).

ولمّا بني المسجد جعل في المسجد محلاً مظللاً يأوي إليهالمساكين سمي: (الصفة) وكان أهله يسمون: (أهل الصفة)، وكان(صلی الله علیه و آله) في وقت العشاء يفرّقهم على أصحابه ويتعشّى معه منهم

ص: 149


1- تاريخ الطبري 2: 119.
2- الطبقات الكبرى 1: 237.
3- السيرة الحلبية 2: 251.

طائفة، وكان يجالسهم ويأنس بهم وكان إذا صلّى أتاهم فوقف عليهم فقال: «لو تعلمون ما لكم عند اللّه لأحببتم أن تزدادوا فقراً وحاجة».

والمسجد كان إذا جائت العتمة يوقد فيه بسعف النخل، فلمّا قدم تميم الداري المدينة صحب معه قناديل وحبالاً وزيتاً وعلّق تلك القناديل بسواري المسجد وأوقدت، فقال(صلی الله علیه و آله): «نوّرت مسجدنا نوّر اللّه عليك»(1).

النبي(صلی الله علیه و آله) يؤاخي بين أصحابه

وفي السنة الأولى من الهجرة آخى بين المهاجرين والأنصار في دار أنس، وذلك أنّه لما قدم رسول اللّه إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار على الحقّ والمواساة يتوارثون بعد الممات، وكان ذلك قبل بدر، فلمّا كانت وقعة بدر أنزل اللّه تعالى: {وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِۚ...}(2). فنسخت هذه الآية ما كان قبلها وانقطعتالمؤاخاة في الميراث ورجع كلّ إنسان إلى نسبه، وورثه ذو رحمه(3).

وأخذ(صلی الله علیه و آله) بيد علي بن أبي طالب(علیه السلام) فقال: «هذا أخي»، فكان

ص: 150


1- انظر السيرة الحلبية 2: 277.
2- سورة الأنفال، الآية: 75.
3- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 3: 70.

رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) الذي هو سيد المرسلين وإمام المتقين ورسول ربّ العالمين حيث لم يكن له خطير ولا نظير من العباد وعلي بن أبي طالب أخوين.

وكان حمزة بن عبد المطلب أسد اللّه وأسد رسوله وعمّ رسول اللّه وزيد بن حارثة مولى رسول اللّه أخوين، وإليه أوصى حمزة يوم أحد حين حضر القتال إن حدث به حادث الموت.

وكان جعفر بن أبي طالب ذو الجناحين الطيّار في الجنّة ومعاذ بن جبل أخو بني سلمة أخوين، وكان جعفر بن أبي طالب يومئذ غائباً بأرض الحبشة(1).

والمشهور: إنّ المؤاخاة إنّما وقعت مرتين مرّة بين المهاجرين قبل الهجرة ومرّة بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة(2).

وقد ورد: أنّه لمّا آخى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بين أصحابه جاء علي(علیه السلام) تدمع عيناه فقال: «يا رسول اللّهآخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد»، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «أنت أخي في الدنيا والآخرة»(3)،

ثمّ آخاه معه.

عن جابر بن عبد اللّه قال: سمعت علي بن أبي طالب(علیه السلام) ينشد

ص: 151


1- السيرة النبوية لابن هشام 2: 351.
2- السيرة الحلبية 2: 292.
3- مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 2: 33.

ورسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يسمع:

«أنا أخو المصطفى لا شكّ في نسبي *** معه ربيت وسبطاه هما ولدي

جدّي وجد رسول اللّه متحد *** وفاطم زوجتي لا قول ذي فند

صدّقته وجميع الناس في ظلم *** من الضلالة والإشراك والنكد»(1)

وروى السبط بن الجوزي بسنده عن مجدوح بن زيد الباهلي قال: آخى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بين المهاجرين والأنصار، فبكى عليّ(علیه السلام)، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «ما يُبكيك؟»

فقال: «لم تؤاخ بيني وبين أحد».

فقال: «إنما ادّخرتُك لنفسي»، ثمّ قال لعليّ: «أنت منّي بمنزلةهارون من موسى»، ثمّ قال: «يا عليّ أما علمت أنّه أوّل من يدعى به يوم القيامة أنا، فأقوم عن يمين العرش...» إلى أن قال: «ثمّ أنت أوّل من يدعى بك لقرابتك منّي ومنزلتك عندي ويدفع إليك لوائي وهو لواء الحمد...»، إلى أن قال: «فتسير باللواء، والحسن عن يمينك، والحسين عن يسارك، حتى تقف بيني وبين إبراهيم في ظلّ العرش وتكسى حلّة خضراء من حلل الجنة وينادي مناد من تحت العرش:

ص: 152


1- شرح الأخبار 1: 427.

نِعْمَ الأب أبوك إبراهيم، ونعم الأخ أخوك علي، أبشر يا عليّ فإنّك ستكسى إذا كسيت، وتدعى إذا دعيت، وتحيّى إذا حييت، وتقف على عقر حوضي تسقي من عرفت...»(1).

ص: 153


1- تذكرة الخواص: 29.

حال اليهود مع الرسول(صلی الله علیه و آله)

وكان من حديث عبد اللّه بن سلام حين أسلم وكان حبراً من أحبار اليهود عالماً قال:

لمّا سمعت برسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنّا نتوكف له، فكت مسراً لذلك، صامتاً عليه، حتى قدم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة أعمل فيها وعمّتي خالدة ابنة الحرث جالسة، فلمّا سمعت خبر قدوم رسول اللّه كبّرت.

فقالت لي عمّتي حين سمعت تكبيري: خيبك اللّه، واللّه لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادماً ما زدت.

قال: فقلت لها: أي عمّه هو واللّه أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به.

قال: فقالت: أي ابن أخي أهو النبيّ الذي كنّا نخبر أنّه يبعث مع نفس الساعة؟قال: فقلت لها: نعم، ثمّ خرجت إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فأسلمت ثمّ رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا.

ص: 154

قال: وكتمت إسلامي من اليهود ثمّ جئت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقلت له: إنّ اليهود قوم بُهْت(1) وإنّي أُحبّ أن تدخلني في بعض بيوتك وتغيّبني عنهم ثمّ تسألهم عنّي حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا إسلامي، فإنّهم إن علموا بهتوني وعابوني.

قال: فأدخلني رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في بعض بيوته، ودخلوا عليه فكلّموه وسألوه، ثمّ قال لهم: «أيّ رجل الحصين بن سلام فيكم؟»

قالوا: سيّدنا وحبرنا وعالمنا.

قال: فلمّا فرغوا من قولهم خرجت عليهم فقلت لهم: يا معشر اليهود اتّقوا اللّه واقبلوا ما جاءكم به فواللّه إنّكم لتعلمون أنّه لرسول اللّه، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة باسمه وصفته فإنّي أشهد أنّه رسول اللّه وأُومن به وأصدّقه وأعرفه.

فقالوا: كذبت، ثمّ وقعوا بي.

فقلت لرسول اللّه: ألم أخبرك يا رسول اللّه أنهم قوم بُهْت، أهل غدر وكذب وفجور؟ وأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي وأسلمتعمّتي خالدة بنت الحرث فحسن إسلامها(2).

معاهدة صلح

وكتب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) كتاباً بين المهاجرين والأنصار ودعا فيه

ص: 155


1- بُهْت - جمع بَهوت - : مَن بفتري على غيره الكذب.
2- السيرة النبوية لابن هشام 2: 360، وقريب منه في التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(علیه السلام): 461.

يهود بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير وصالحهم على ترك الحرب والأذى، وأن لا يعينوا عليه أحداً، وإن دهمه بها عدو ينصروه، وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط عليهم واشترط لهم وهذا هو نصّ الكتاب كما في بعض التواريخ:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد بن عبد اللّه بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنّهم أمّة واحدة من دون الناس.

المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون وهم يفدّون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

ثمّ ذكر كلّ بطن من بطون الأنصار: بني ساعدة، وبني الحارث، وبني جشم، وبني النجار، وبني عمرو بن عوف، وبني النبيت، وبني الأوس.إلى أن قال: وإنّ المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.

ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.

وأنّ المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة(1)

ص: 156


1- «ابتغى دسيعة ظلم» أي: طلب دفعاً على سبيل الظلم فأضافه إليه، والدَّسْع: الدفع.

ظلم، أو أثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإنّ أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم.

ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن.

وإنّ ذمّة اللّه واحدة يجير عليهم أدناهم.

وإنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

وإنّه من تبعنا من اليهود فإنّ له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.

وإنّ سلم المؤمنين واحدة، لايسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه إلّا على سواء وعدل بينهم.

وإنّ كلّ غازية غزت معنا تعقب بعضها بعضاً.

وإنّ المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل اللّه.

وإنّ المؤمنين المتّقين على أحسن هدى وأقومه.

وإنّه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه علىمؤمن.

وإنّه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بيّنة فإنّه قود به إلّا أن يرضى ولي المقتول.

وإنّ المؤمنين عليه كافة ولا يحلّ لهم إلّا قيام عليه.

وإنّه لا يحلّ لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن باللّه واليوم الآخر أن ينصر محدثاً ولا يؤوية وإنّه من نصره أو آواه فإنّ عليه لعنة

ص: 157

اللّه وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

وإنّكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإنّ مردّه إلى اللّه وإلى محمّد(صلی الله علیه و آله).

وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.

وإنّ يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلّا من ظلم أو أثم، فإنّه لا يوتغ إلّا نفسه وأهل بيته.

وإنّ ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، إلى أن عدّ البطون والطوائف من يهود المدينة وقال(صلی الله علیه و آله): وإنّ لهم مثل ما ليهود بني عوف.

وإنّ البرّ دون الإثم.

وإنّ موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم.

وإنّه لا يخرج أحدٌ منهم إلّا بإذن محمّد(صلی الله علیه و آله).وإنّه لا ينحجز على ثار جرح.

وإنّه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته إلّا من ظلم وإنّ اللّه على أبر هذا.

وإنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم.

وإنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.

وإنّ بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم.

وإنّه لم يأثم امرؤ بحليفه.

ص: 158

وإنّ النصر للمظلوم.

وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

وإنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.

وإنّ الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.

وإنّه لا تجار حرمة إلّا بإذن أهلها.

وإنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مردّه إلى اللّه وإلى محمد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

وإنّ اللّه على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.

وإنّه لا تجار قريش ولا من نصرها.

وإنّ بينهم النصر على من دهم يثرب.

وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنّهم يصالحونويلبسونه.

وإنّهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإنّ لهم على المؤمنين - إلّا من حارب في الدين - على كلّ أُناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.

وإنّ يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحسن من أهل هذه الصحيفة.

وإنّ البرّ دون الإثم.

لا يكسب كاسب إلّا على نفسه.

وإنّ اللّه على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرّه.

وإنّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم.

ص: 159

وإنّ من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلّا من ظلم وأثم.

وإنّ اللّه جار لمن بر واتقى ومحمد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)»(1).

ص: 160


1- السيرة النبوية لابن هشام 2: 348.

الأذان للصلاة

وكان المسلمون في المدينة يتحيّنون أوقات الصلاة من غير دعوة، فإذا عرفوا دخول الوقت بعلامة حضروا، وكان بلال ينادي: (الصلاة جامعة).

ثم تكلّم الناس في شيء يعرفون به أوقات الصلاة، فقال بعضهم: نتخذ ناقوساً مثل ناقوس النصارى.

وقال بعضهم: بل بوقاً مثل قرن اليهود.

وقال بعضهم: تبعثون رجلاً منكم ينادي بالصلاة.

وقال بعضهم: نوقد ناراً ونرفعها فإذا رآها الناس أقبلوا إلى الصلاة(1).

فهبط جبرئيل على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالأذان والإقامة، وعندها أمر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عليّاً أن يدعو له بلالاً، فدعاه فعلمه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) الأذان وأمره به، وكان من فصولهما: «حيّ على خير العمل»(2).

ص: 161


1- انظر إمتاع الأسماع 10: 116.
2- انظر الكافي 8: 121؛ ودعائم الإسلام 1: 145؛ ومن لا يحضره الفقيه 1: 284.

ثمّ في يوم الغدير بعد أن نصب النبيّ(صلی الله علیه و آله) عليّاً(علیه السلام) بأمر من اللّه تعالى خليفة على المسلمين زيد في فصولهما بأمره(صلی الله علیه و آله) الشهادة لعليّ بالولاية بعد الشهادة لمحمّد(صلی الله علیه و آله) بالرسالة.

عداء اليهود والمنافقين

وعند ظهور الإسلام وقوته بالمدينة ضاقت نفوس أحبار اليهود ونصبوا العداوة لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بغياً وحسداً لما خصّ اللّه به العرب، فأنزل اللّه فيهم: {قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ}(1)(2).

وكان من نصبهم له العداوة عند مشروعيّة الأذان.

وكان من شدّة عداوة اليهود للنبي(صلی الله علیه و آله) أنّ لبيد بن الأعصم اليهودي صنع سحراً للنبي لكنّه لم يؤثر فيه لما منع اللّه رسوله من نفوذ السحر فيه(3).

وعن ابن عباس: إنّ اليهود كانوا يستفتحون - أي يستنصرون - على الأوس والخزرج برسول اللّه قبل مبعثه يقولون سيبعث نبي صفته كذا وكذا نقتلكم معه قتل عاد وإرم.

فبعد أن ظهر الإسلام بالمدينة قال لهم معاذ بن جبل، وبشربن

ص: 162


1- سورة آل عمران، الآية: 118.
2- السيرة الحلبية 2: 314.
3- انظر دعائم الإسلام 2: 138؛ والسيرة الحلبية 2: 315.

البراء: يا معشر اليهود اتّقوا اللّه وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّد(صلی الله علیه و آله) ونحن أهل كفر وشرك وتخبرون أنّه مبعوث وتصفونه لنا.

فقال سلام بن مشكم وهو من عظماء يهود بني النضير: ما جاء بشيء نعرفه، ما هو الذي كنّا نذكره لكم، فأنزل اللّه في ذلك: {وَلَمَّا جَآءَهُمۡ كِتَٰبٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمۡ وَكَانُواْ مِن قَبۡلُ يَسۡتَفۡتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦۚ فَلَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ}(1)(2).

وكان مالك بن الصيف من أحبار اليهود، وكان يبغض النبيّ(صلی الله علیه و آله) ويلبّس على اليهود، وأخذ منهم كثيراً من المال، فحضر يوماً عند النبيّ(صلی الله علیه و آله) فقال له النبيّ: «أُنشدك باللّه الذي أنزل التوراة على موسى(علیه السلام) هل تجد فيها: أنّ اللّه يبغض الحبر السمين؟ فأنت الحبر السمين قد سمنت من المال الذي تطعمك اليهود».

فالتفت إلى عمر وقال: ما أنزل اللّه على بشر من شيء، فكان هذا كفراً بنيّه موسى، وبما أنزل عليه.

فقالت له اليهود: وما هذا الذي بلغنا عنك؟فقال: إنّه أغضبني فقلت ذلك فنزعوه من الرئاسة وجعلوا مكانه

ص: 163


1- سورة البقرة، الآية: 89.
2- السيرة الحلبية 2: 320.

كعب بن الأشرف، فأنزل اللّه {وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓ إِذۡ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيۡءٖۗ قُلۡ مَنۡ أَنزَلَ ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِۦ مُوسَىٰ}(1).

وأنزل أيضاً: {فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦۚ فَلَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ}(2).

ويروى: أنّ يهود المدينة من بني قريظة وبني النضير وغيرهما كانوا إذا قابلوا من يليهم من مشركي العرب: أسد وغطفان وجهينة وغيرهم قبل مبعث النبيّ(صلی الله علیه و آله) يقولون: اللّهمّ إنّا نستنصرك بحقّ النبيّ الأُمّيّ الذي وعدت أنّك باعثه في آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة يعذبهم ويقتلهم، فإن يهود خيبر كانوا يقاتلون غطفان وكلّما التقوا هُزمت اليهود، فدعت يوماً: اللّهمّ إنا نسألك بحقّ النبي الّذي وعدت أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلّا نصرتنا لكنّهم لمّا جاء(صلی الله علیه و آله) كفروا به(3).

اليهود وإثارة الفتن

وممّن كان من أحبار اليهود حريصاً على ردّ الناس عن الإسلام:شاس بن قيس اليهودي، وكان شديد الطعن على المسلمين، شديد الحسد لهم، مرّ يوماً على الأنصار: الأوس والخزرج وهم

ص: 164


1- سورة الأنعام، الآية: 91.
2- سورة البقرة، الآية: 89.
3- انظر السيرة الحلبية 2: 320.

مجتمعون يتحدّثون، فغاظه ما رأى من أُلفتهم بعد ما كان بينهم من العداوة فقال في نفسه: قد اجتمع بنو قيلة، واللّه ما لنا إذا اجتمعوا من قرار.

فأمر شابّاً من اليهود فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم ثمّ اذكر يوم بغاث - وبغاث: حرب جرت بين الأوس والخزرج مائة عام - وما كان فيه، وأنشدهم ما كانوا يتقاولون به من الأشعار.

ففعل فتكلّم القوم عند ذلك، أي قال أحد الحيين: قد قال شاعرنا كذلك، فردّ عليه الآخرون وقالوا: قد قال شاعرنا كذلك، وتنازعوا وتواعدوا على المقاتلة، أي قالوا: تعالوا نرد الحرب جزعاً كما كانت.

فنادى هؤلاء: يا آل الأوس، ونادى هؤلاء: يا آل الخزرج، ثمّ خرجوا للحرب وقد أخذوا السلاح اصطفوا للقتال.

فبلغ ذلك رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فخرج إليهم فيمن كان معه من المهاجرين، فقال: «يا معشر المسلمين اللّه اللّه، اتّقوا اللّه، أبدعوى الجاهليّة؟ أي: أتقتتلون بدعوى الجاهليّة وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم اللّه إلى الإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهليّة، واستنقذكم به من الكفر، وألّف بينكم؟»

فعرف القوم أنّها نزعة من الشيطان وكيد من عدوّهم، فبكواوعانق الرجل من الأوس الرجل من الخزرج ثمّ انصرفوا مع رسول وأنزل اللّه في شاس بن قيس: {يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ

ص: 165

ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ تَبۡغُونَهَا عِوَجٗا}(1)(2).

وأنزل اللّه في الأنصار: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَرُدُّوكُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ كَٰفِرِينَ * وَكَيۡفَ تَكۡفُرُونَ وَأَنتُمۡ تُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمۡ رَسُولُهُۥۗ وَمَن يَعۡتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدۡ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ * يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ * وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ}(3).

اليهود يسألون تعنّتاً

وصار اليهود يسألون النبيّ(صلی الله علیه و آله) عن أشياء تعنّتاً وحسداً وبغياً ليلبسوا الحق بالباطل، فمن جملة ما سألوه(صلی الله علیه و آله) سألوه عن الروح.فعن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبيّ(صلی الله علیه و آله) في المدينة وهو يتوكّأ على عسيب النخل - أي جريد النخل - إذ مرّ بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: لا تسألوه لئلا يستقبلكم بشيء تكرهونه، أي: يجيبكم بما هو دليل على أنّه النبيّ الأُميّ وأنتم تكرهون نبوّته، وقال بعضهم: بل سلوه ليظهر عجزه.

ص: 166


1- سورة آل عمران، الآية: 99.
2- السيرة الحلبية 2: 319.
3- سورة آل عمران، الآية: 100-103.

فقاموا إليه فقالوا: يا أبا القاسم ما الروح؟

قال(صلی الله علیه و آله): {ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي}(1).

فقالوا: كذلك نجده في كتابنا(2).

ولا يخفى أنّ هذه الآية نزلت بمكّة حين سأله كفّار قريش عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح(3)،

ولكن لا مانع من تكرر نزولها حين سأله اليهود عن الروح أيضاً، غير أنّ النبيّ(صلی الله علیه و آله) لمّا سألوه سكت ينتظر هل يوحى إليه حتى يجيبهم بشيء غير ما أجاب به كفّار قريش بمكّة، أو بالجواب الأول بعينه.

فأوحى اللّه بالآية بعينها، فقرأها عليهم، فقالوا: كذلك نجده في كتابنا.

ومن المعلوم: أنّ النبيّ(صلی الله علیه و آله) كان يرى أنّعقول الناس لا تحتمل أمثال هذه الحقائق كعدم احتمال الطفل الجبر - مثلاً - ولذلك كان يسكت عن جوابها.

موسى(علیه السلام) وآياته التسع

وفي بعض التواريخ: جاء يهوديان ذات مرّة إلى النبيّ(صلی الله علیه و آله) فسألاه عن قول اللّه: {وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ تِسۡعَ ءَايَٰتِۢ بَيِّنَٰتٖۖ}(4). فقال

ص: 167


1- سورة الإسراء، الآية: 85.
2- انظر السيرة الحلبية 2: 321.
3- انظر تفسير كنز الدقائق 7: 500.
4- سورة الإسراء، الآية: 101.

لهما: «لا تشركوا باللّه شيئاً، ولاتزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم اللّه إلّا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان، ولا تأكلوا الرّبا، ولا تقذفوا المحصنة، وعليكم يا يهود خاصّة أن لا تعتدوا في السبت».

فقبّلا يديه ورجليه وقالا: إنّك نبيّ.

قال: «ما يمنعكما أن تُسلما؟»

فقالا: نخاف إذا أسلمنا أن تقتلنا اليهود(1).

أقول: إنّما قال(صلی الله علیه و آله) في جوابهم ذلك، لأنّه كان يعلم أنّه يسألون عن الشريعة لا عن المعجزة.

وهذا التفسير لقوله تعالى: {تِسۡعَ ءَايَٰتِۢ}(2). لا ينافي تفسيرها بالمعجزات التي أعطا اللّه لموسى(علیه السلام) وهيالتسع المفصّلات: من العصا، واليد البيضاء، والسنون، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم.

وإنّما لا تنافي بين التفسيرين لأنّ تلك آيات تتعلّق بالتكليف وترجع إلى أمر الدين، وهذه آيات تدل على صدق موسى(علیه السلام) وترجع إلى أمر الدين أيضاً، ولا مانع من أن يراد بالآيات: الحسيّة والمعنويّة أو الظاهريّة والباطنيّة.

ص: 168


1- انظر السيرة الحلبية 2: 322.
2- سورة الإسراء، الآية: 101.

القرآن يكشف نوايا اليهود والمنافقين

وكانت أحبار اليهود هم الذين يسألون رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ويتعنّتونه ويأتونه باللبس ليلبسوا الحقّ بالباطل، وكان القرآن ينزل فيهم وفي ما يسألون عنه فيكشف باطلهم.

وقد نافق جماعة من أهل المدينة فأظهروا الإسلام واتخذوه جنّة لهم من القتل ونافقوا في السرّ، وكان هواهم مع اليهود لأجل تكذيبهم النبيّ(صلی الله علیه و آله) وجحودهم الإسلام، وكان رئيسهم عبد اللّه بن أبي بن سلول وهو الذي قال: {لَئِن رَّجَعۡنَآ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ لَيُخۡرِجَنَّ ٱلۡأَعَزُّ مِنۡهَا ٱلۡأَذَلَّۚ}(1)، وفيه نزلت سورة المنافقون.

واشتدّ حسد يهود المدينة وكثر لغطهم في النبيّ(صلی الله علیه و آله) وامتحنوه بأشياء كثيرة فأتى بجوابها على ما يعرفون منالصواب، فما كان يزيدهم ذلك إلّا حسداً.

ثمّ إنّه لمّا سحره(صلی الله علیه و آله) منهم لبيد بن الأعصم بعث عليّاً(علیه السلام) فاستخرج ذلك، ثمّ أحضر(صلی الله علیه و آله) لبيداً فاعترف واعتذر بأنّ الحامل له على ذلك دنانير جعلتها له اليهود في مقابل سحره، فعفا عنه(صلی الله علیه و آله).

ثمّ إنّه لا يخفى: إنّ السحر لم يؤثر في النبيّ(صلی الله علیه و آله) شيئاً، وأمّا ما قيل: من أنّه كان يخيّل إليه أنّه يفعل الشيء ولا يفعله، فلا أصل

ص: 169


1- سورة المنافقون، الآية: 8.

له(1).

وكان من اليهود والمنافقين الذين يؤذون النبيّ(صلی الله علیه و آله): نبتل بن الحرث، وهو الذي قال له رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «من أحبّ أن ينظر إلى الشيطان، فلينظر إلى نبتل بن الحرث»(2).

وكان رجلاً جسيماً، أحمر العينين، أسفع الخدين(3)، وكان يأتي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ويتحدّث إليه فيسمع منه ثمّ ينقل حديثه إلى المنافقين، وهو الذي قال: إنّما محمّد أُذن، من حدثه شيئاً صدقه، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَمِنۡهُمُ ٱلَّذِينَيُؤۡذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٞۚ قُلۡ أُذُنُ خَيۡرٖ لَّكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤۡمِنُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ وَرَحۡمَةٞ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ}(4)(5).

ومنهم: أبو حبيبة بن الأزعر، وإنه ممن بنى مسجد ضرار(6).

ومعتب الذي قال يوم أحد: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هيهنا، فأنزل اللّه في ذلك قوله تعالى: {وَطَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ

ص: 170


1- انظر الطرائف 1: 225.
2- بحار الأنوار 22: 39.
3- السُفْعة: سواد مشرب بحمرة أو زرقة.
4- سورة التوبة، الآية: 61.
5- انظر السيرة النبوية لابن هشام 2: 365.
6- أنساب الأشراف 1: 276.

قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٞ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ}(1).

وهو الذي قال يوم الأحزاب: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط، فأنزل اللّه: {وَإِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورٗا}(2)(3).ووديعة بن ثابت وهو ممّن بنى مسجد ضرار، وهو الذي قال: إنّما كنّا نخوض ونلعب، فأنزل اللّه تبارك فيهم: {وَلَئِن سَأَلۡتَهُمۡ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلۡعَبُۚ قُلۡ أَبِٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِۦ وَرَسُولِهِۦ كُنتُمۡ تَسۡتَهۡزِءُونَ}(4)(5).

وأوس بن قيظي وهو الذي قال لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يوم الخندق: إنّ بيوتنا عورة فأذن لنا فلنرجع إليها، فأنزل اللّه: {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوۡرَةٞ وَمَا هِيَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارٗا}(6)(7).

ص: 171


1- سورة آل عمران، الآية: 154.
2- سورة الأحزاب، الآية: 12.
3- أنساب الأشراف 1: 276.
4- سورة التوبة، الآية: 65.
5- المغازي 2: 1004.
6- سورة الأحزاب، الآية 13.
7- السيرة النبوية لابن هشام 2: 367.

وبشير بن أبيرق وهو أبو طعمة سارق الدرعين الذي أنزل اللّه فيه: {وَلَا تُجَٰدِلۡ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخۡتَانُونَ أَنفُسَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمٗا}(1)(2).

وضحاك بن ثابت، وكان يتهم بالنفاق وحبّ اليهود(3).

وجلاس بن سويد بن صامت قبل توبته، ومعتب بن قشير، ورافع بن زيد، وبشر، كانوا يتركون التحاكم إلى رسول اللّه(صلی

الله علیه وآله) ويدعون إلى حكّام أهل الجاهليّة، فأنزل اللّه فيهم: {أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا}(4)(5).

والجد بن قيس، وهو الذي قال: يا محمد ائذن لي ولاتفتني، فأنزل اللّه تعالى فيه: {وَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ ٱئۡذَن لِّي وَلَا تَفۡتِنِّيٓۚ أَلَا فِي ٱلۡفِتۡنَةِ سَقَطُواْۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ}(6)(7).

وعبد اللّه بن أبي سلول وكان رأس المنافقين وإليه يجتمعون وهو

ص: 172


1- سورة النساء، الآية: 107.
2- البداية والنهاية 3: 293.
3- البداية والنهاية 3: 293.
4- سورة النساء، الآية: 60.
5- السيرة النبوية لابن هشام 2: 368.
6- سورة التوبة، الآية: 49.
7- السيرة النبوية لابن هشام 2: 369.

الذي نزلت فيه سورة المنافقين بأسرها، وفيه، وفي وديعة، ومالك، وسويد، وداعس، وهم من رهط عبد اللّه بن سلول، حيث كان عبد اللّه وهؤلاء النفر من قومه يدسّون إلى بني النضير حين حاصرهم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): أن اثبتوا، فواللّه لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم، ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنّكم.

فأنزل اللّه تعالى: {أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لِإِخۡوَٰنِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِٱلۡكِتَٰبِ لَئِنۡ أُخۡرِجۡتُمۡ لَنَخۡرُجَنَّ مَعَكُمۡ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمۡ أَحَدًا أَبَدٗا وَإِن قُوتِلۡتُ-مۡ لَنَنصُرَنَّكُ--مۡ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ * لَئِنۡ أُخۡرِجُواْ لَا يَخۡرُجُونَ مَعَهُمۡ وَلَئِن قُوتِلُواْ لَا يَنصُرُونَهُمۡ وَلَئِن نَّصَرُوهُمۡ لَيُوَلُّنَّ ٱلۡأَدۡبَٰرَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ}(1)(2).

اليهود والدعايات التضليلية

وكان ممّن تعوّذ بالإسلام ودخل فيه مع المسلمين وأظهره وهو منافق من أحبار اليهود من بني قينقاع: سعد بن حنيف، وزيد بن اللصيت، ونعمان بن أوفى.

وزيد بن اللصيت هذا هو الذي قال حين ضلت ناقة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): يزعم محمد أنّه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته.

فجاء جبرئيل إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالخبر، ودلّ اللّه تبارك

ص: 173


1- سورة الحشر، الآية: 11-12.
2- انظر السيرة النبوية لابن هشام 2: 369.

وتعالى رسوله على ناقته، فقال(صلی الله علیه و آله): «إنّي واللّه ما أعلم إلّا ما علّمني اللّه، وقد دلّني اللّه عليها، فهي في هذا الشعب قد حبستها شجرة بزمامها، فذهب رجال من المسلمين فوجدوها حيث قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وكما وصف.ورافع بن حريملة، وهو الذي قال عنه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حين مات: قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين(1).

وحيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر بن أخطب كانا من أشدّ اليهود للعرب حسداً إذ خصّهم اللّه تعالى برسوله(صلی الله علیه و آله) وكانا يجهدان في ردّ الناس عن الإسلام بما استطاعوا.

فأنزل اللّه تعالى فيهما: {وَدَّ كَثِيرٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَوۡ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَٱعۡفُواْ وَٱصۡفَحُواْ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ}(2)(3).

اليهود والنصارى يتنازعون

ولمّا قدم وفد نجران من النصارى على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال رافع بن حريملة: ما

ص: 174


1- السيرة النبوية لابن هشام 2: 370.
2- سورة البقرة، الآية: 109.
3- السيرة النبوية لابن هشام 2: 390.

أنتم على شيء وكفر بعيسى وبالإنجيل.

فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء وجحد نبوّة موسى(علیه السلام) وكفر بالتوراة.

فأنزل اللّه في ذلك من قولهما: {وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُلَيۡسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيۡسَتِ ٱلۡيَهُودُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُمۡ يَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۗ}(1). أي فإنّ كلاً منهما يتلو في كتابه تصديق ما كفر به، فاليهود عندهم التوراة وفيها قد أخذ اللّه عليهم على لسان موسى(علیه السلام) التصديق بعيسى(علیه السلام)، والنصارى عندهم الإنجيل وفيها قد أخذ اللّه عليهم على لسان عيسى(علیه السلام) التصديق بموسى(علیه السلام)، ومع ذلك كلّ يكفر بما في يد صاحبه.

وقال رافع بن حريملة لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله): يا محمد إن كنت رسولاً من اللّه كما تقول، فقل للّه: فليُكلّمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل اللّه تعالى فيه: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ لَوۡلَا يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ...}(2)(3).

التنازع في إبراهيم(علیه السلام)

ودخل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بيت المدراس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى اللّه، فقال له النعمان بن عمرو، والحارث بن زيد:

ص: 175


1- سورة البقرة، الآية: 113.
2- سورة البقرة، الآية: 118.
3- انظر عيون الأثر 1: 282.

على أيّ دين أنت يا محمّد؟

قال(صلی الله علیه و آله): «على ملّة إبراهيم(علیه السلام)ودينه».

قالا: فإنّ إبراهيم كان يهوديّاً.

فقال لهما رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «فهلمّ إلى التوراة فهي بيننا وبينكم، فأبيا عليه، فأنزل اللّه تعالى: {أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ كِتَٰبِ ٱللَّهِ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ وَهُم مُّعۡرِضُونَ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۖ وَغَرَّهُمۡ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ}(1).

وقال أحبار اليهود ونصارى نجران حين اجتمعوا عند رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فتنازعوا فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلّا يهودياً، وقالت النصارى ما كان إبراهيم إلّا نصرانيّاً، فأنزل اللّه عزّ وجلّ فيهم: {يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ ٱلتَّوۡرَىٰةُ وَٱلۡإِنجِيلُ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ * هَٰٓأَنتُمۡ هَٰٓؤُلَآءِ حَٰجَجۡتُمۡ فِيمَا لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ * مَا كَانَ إِبۡرَٰهِيمُ يَهُودِيّٗا وَلَا نَصۡرَانِيّٗا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفٗا مُّسۡلِمٗا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ * إِنَّ أَوۡلَى ٱلنَّاسِ بِإِبۡرَٰهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا ٱلنَّبِيُّ وَٱلَّذِينَءَامَنُواْۗ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ}(2)(3).

ص: 176


1- سورة آل عمران، الآية: 23-24.
2- سورة آل عمران الآية: 65-68.
3- السيره النبوية لابن هشام 2: 393.

من مكائد اليهود

وقال عبد اللّه بن ضيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمّد(صلی الله علیه و آله) وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم لعلّهم يصنعون كما نصنع ويرجعون عن دينه، فأنزل اللّه: {يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ * وَقَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ ءَامِنُواْ بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجۡهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكۡفُرُوٓاْ ءَاخِرَهُۥ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ * وَلَا تُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمۡ...}(1)(2).

ولمّا أسلم عبد اللّه بن سلام، وثعلبة، وأُسيد، وأسد بن عبيد، ومن أسلم من اليهود فآمنوا وصدّقوا ورغبوا في الإسلام ورسخوا فيه، قالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمّد ولا اتبعه إلّا شرارنا، ولو كانوا من أخيارنا ما تركوا دين آبائهم، فأنزل اللّه: {لَيۡسُواْ سَوَآءٗۗ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ...}(3)(4).

القرآن يحذّر المسلمين

وكان رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهليّة، فأنزل اللّه فيهم ينهاهم من

ص: 177


1- سورة آل عمران، الآية: 71-73.
2- السيره النبوية لابن هشام 2: 394.
3- سورة آل عمران، الآية: 113.
4- السيره النبوية لابن هشام 2: 398.

مباطنتهم: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةٗ مِّن دُونِكُمۡ لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ * هَٰٓأَنتُمۡ أُوْلَآءِ تُحِبُّونَهُمۡ وَلَا يُحِبُّونَكُمۡ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱلۡكِتَٰبِ كُلِّهِۦ...}(1).

أي: تؤمنون بكتابكم وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم كنتم أحقّ بالبغضاء لهم منهم لكم. {وَإِذَا لَقُوكُمۡ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ عَضُّواْ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَنَامِلَ مِنَ ٱلۡغَيۡظِۚ قُلۡ مُوتُواْ بِغَيۡظِكُمۡۗ}(2)(3).

في بيت مدراس

ودخل بعض الصحابة بيت المدراس على اليهود، فوجد منهم ناساً كثيراً قد إجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: فنحاص، وكان من علمائهم، ومعه حبر من أحبارهم يقال له: أشيع.فقال الصحابي لفنحاص: ويحك يا فنحاص اتّق اللّه وأسلم، فواللّه إنّك لتعلم أنّ محمّداً لرسول اللّه، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل.

فقال فنحاص للصحابي: واللّه ما بنا إلى اللّه من فقر وإنّه إلينا

ص: 178


1- سورة آل عمران، الآية: 118-119.
2- سورة آل عمران، الآية: 119.
3- السيره النبوية لابن هشام 2: 398.

لفقير، وما نتضرّع إليه كما يتضرّع إلينا، وإنّا عنه لأغنياء وما هو عنّا بغنيّ، ولو كان عنّا غنيّاً ما استقرض أموالنا كما يزعم صاحبكم ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان عنّا غنيّاً ما أعطانا الربا.

قال: فغضب الصحابي فضرب وجه فنحاص وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك.

فذهب فنحاص إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمّد انظر ما صنع بي صاحبك.

فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) للصحابي: «ما حملك على ما صنعت؟»

فقال: يا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إنّ عدوّ اللّه قال قولاً عظيماً، إنّه زعم أنّ اللّه فقير وإنّهم أغنياء.

فلمّا قال ذلك، قال فنحاص: ما قلت ذلك، فأنزل اللّه تعالى فيما قال فنحاص: {لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْإِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٞ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ...}(1)(2).

ادّعاءات فارغة

وأتى إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) نعمان، وبحري، وشاس، فكلّموه وكلّمهم رسول اللّه ودعاهم إلى الإسلام، وحذّرهم نقمته، فقالوا: ما تخوّفنا يا محمّد نحن واللّه أبناء اللّه وأحبّاؤه وكذلك كان النصارى

ص: 179


1- سورة آل عمران، الآية: 181.
2- انظر الإكتفاء: 306.

يقولون.

فأنزل اللّه تعالى فيهم: {وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ...}(1)(2).

مؤامرة جديدة

قال كعب بن أسد، وابن صلوبا، وعبد اللّه بن صوريا، وشاش بن قيس، بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمّد لعلّنا نفتنه عن دينه فإنّما هو بشر.

فأتوه فقالوا له: يا محمّد إنّك قد عرفت أنّا أحبار اليهود وأشرافهم وسادتهم وإنّا إن اتّبعناك اتّبعتك اليهود، وإنّ بيننا وبين بعض قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن لك ونصدّقك.

فأبى ذلك رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عليهم فأنزل اللّهفيهم: {وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ * أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ...}(3)(4).

وأتى إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) رافع بن حارثة، وسلام بن مشكم،

ص: 180


1- سورة المائدة، الآية: 18.
2- انظر السيرة النبوية لابن هشام 2: 403.
3- سورة المائدة، الآية: 49-50.
4- السيرة النبوية لابن هشام 2: 407.

ومالك بن الصيف، ورافع بن حريملة، فقالوا: يا محمّد ألست تزعم أنّك على ملّة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنّها من اللّه حقّ؟

قال(صلی الله علیه و آله): «بلى، ولكنّكم أحدثتم وجحدتم ما أخذ اللّه عليكم من الميثاق فيها، وكتمتم منها ما أُمرتم أن تبيّنوه للنّاس، فبرئتُ من أحداثكم».

قالوا: فإنّا نأخذ بما في أيدينا، فإنّا على الهدى والحقّ، ولا نؤمن بك ولا نتّبعك، فأنزل اللّه فيهم: {قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡۗ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۖ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ}(1)(2).

مغالطات وتحّججات

وأتى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) نفر من اليهود منهم: أبو ياسر بن أخطب، ونافع بن أبي رافع، وعازر بن أبي عازر، وجماعة أخرى، فسألوه عمّن يؤمن به من الرسل؟

فقال(صلی الله علیه و آله): {قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِي-لَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُ-وبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَ-آ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ

ص: 181


1- سورة المائدة، الآية: 68.
2- انظر عيون الأثر 1: 287.

ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ}(1).

فلمّا ذكر عيسى بن مريم جحدوا نبوّته وقالوا: لا نؤمن بعيسى بن مريم، ولا بمن آمن به، فأنزل اللّه: {قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ هَلۡ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلَّآ أَنۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلُ وَأَنَّ أَكۡثَرَكُمۡ فَٰسِقُونَ}(2)(3).

وأتى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) النحام بن زيد، وقردم بن كعب، وبحري بن عمرو، فقالوا: يا محمّد أما تعلم مع اللّه إلهاً غيره؟

فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «اللّه لا إله إلّا هو بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو، فأنزل اللّه فيهم وفيه: {قُلۡ أَيُّشَيۡءٍ أَكۡبَرُ شَهَٰدَةٗۖ قُلِ ٱللَّهُۖ شَهِيدُۢ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡۚ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَۚ أَئِنَّكُمۡ لَتَشۡهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخۡرَىٰۚ قُل لَّآ أَشۡهَدُۚ قُلۡ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ وَإِنَّنِي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ}(4).

وكان رفاعة بن زيد، وسويد بن الحارث، قد أظهرا الإسلام ونافقا، فكان رجال من المسلمين يوادّونهما فأنزل اللّه تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمۡ هُزُوٗا وَلَعِبٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَٱلۡكُفَّارَ أَوۡلِيَآءَۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم

ص: 182


1- سورة البقرة، الآية: 136.
2- سورة المائدة، الآية: 59.
3- انظر السيرة النبوية لابن هشام 2: 407.
4- سورة الأنعام، الآية: 19.

مُّؤۡمِنِينَ}(1).

وقال جبل بن أبي قشير، وشمويل بن زيد، لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله): يا محمّد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيّاً كما تقول؟

فأنزل اللّه تعالى: {يَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرۡسَىٰهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّيۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقۡتِهَآ إِلَّا هُوَۚ ثَقُلَتۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا تَأۡتِيكُمۡ إِلَّا بَغۡتَةٗۗ يَسَۡٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنۡهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ}(2).

وأتى رسول اللّه سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وجماعة أخرى، فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أنّ عزيراًابن اللّه، فأنزل اللّه: {وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهُِٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ}(3)(4).

وعن سعيد بن جبير أنّه قال: أتى رهط من اليهود إلى رسول اللّه فقالوا: يا محمّد هذا اللّه خلق الخلق، فمن خلق اللّه؟

فجاءه جبرئيل من اللّه بجواب ما سألوه عنه وهو: {بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ * قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ * ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ * لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ * وَلَمۡ

ص: 183


1- سورة المائدة، الآية: 57.
2- سورة الأعراف، الآية: 187.
3- سورة التوبة، الآية: 30.
4- انظر السيرة النبوية لابن هشام 2: 408 و 409.

يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ}(1).

قال: فلمّا تلاه عليهم قالوا: فصف لنا يا محمّد كيف خلقه؟ كيف ذراعه؟ كيف عضده؟

فأتاه جبرئيل بجواب ما سألوه وهو قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعٗا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ}(2)(3).

وقد سأل علماء اليهود النبيّ(صلی الله علیه و آله) عن أشياءفأجابهم عنها.

منها: أنّهم سألوه مرّة فقالوا: أخبرنا عن علامة النبيّ؟

فقال(صلی الله علیه و آله): «تنام عيناه ولا ينام قلبه».

وسألوه عن طعام حرّمه إسرائيل على نفسه؟

فقال(صلی الله علیه و آله): «أنشدكم بالذي نزّل التوراة على موسى هل تعلمون أنّ إسرائيل وهو يعقوب مرض مرضاً شديداً وطال سقمه فنذر لئن شفاه اللّه تعالى من سقمه ليحرّمنّ أحبّ الشراب إليه، وأحبّ الطعام إليه، فكان أحبّ الطعام إليه لحم الإبل، وأحبّ الشراب إليه ألبانها؟»

قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: «فإنّه حرّمهما ردعاً لنفسه ومنعاً لها من شهوتها».

ص: 184


1- سورة الإخلاص، الآية: 1-4.
2- سورة الزمر، الآية: 67.
3- انظر السيرة النبوية لابن هشام 2: 411.

وذكر بعضهم: أنّ سبب نزول قوله تعالى: {كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ...}(1). هو: قول اليهود له(صلی الله علیه و آله): كيف تقول إنّك على ملّة إبراهيم وأنت تأكل لحوم الإبل وتشرب ألبانها وكان ذلك محرّماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فنحن أولى بإبراهيم منك ومن غيرك؟

فأنزل اللّه الآية تكذيباً لهم بأنّ هذا إنّما حرّمه يعقوب على نفسهوهو متأخّر عن إبراهيم ونوح فكيف يكون محرّماً عليهما؟.

ومن ثمّ جاء: {قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ}(2)(3).

وجاءه(صلی الله علیه و آله) جماعة من اليهود بأطفالهم فقالوا: يا محمّد هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟

قال(صلی الله علیه و آله): «لا».

فقالوا: والذي نحلف به ما نحن إلّا كهيئتهم ما من ذنب نفعله بالليل إلّا كفّر عنّا بالنهار، وما ذنب نعمله بالنهار إلّا كفّر عنّا بالليل، فأنزل اللّه تعالى: {أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا}(4)(5).

ص: 185


1- سورة آل عمران، الآية: 93.
2- سورة آل عمران، الآية: 93.
3- انظر السيرة الحلبية 2: 331.
4- سورة النساء الآية: 49.
5- السيرة الحلبية 2: 337.

ولا يخفى: أنّ هذه القصص جزء ممّا كان يعانيه الرسول(صلی الله علیه و آله) من اليهود والمنافقين، وإنّما أدرجنا هذا البعض هنا كنموذج ممّا عليه طبيعة اليهود والمنافقين، ولو تكلّم الفضاء يوماً لظهرت العجائب في هذا الباب وظهر من أخلاق الرسول(صلی الله علیه و آله) بالنسبة إليهم ما هو أعجب.

قصة تحويل القبلة

صلّى النبيّ(صلی الله علیه و آله) مدّة ثلاث عشرة سنة بعد البعثة إلى بيت المقدس وهو في مكّة، ولمّا هاجر إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدس سبعة أشهر، ثمّ عيّرته اليهود بقولهم: إنّك تابع لقبلتنا فاغتمّ لذلك غمّاً شديداً، فلمّا كان في بعض الليل خرج(صلی الله علیه و آله) يقلّب وجهه في آفاق السماء ترقّباً لنزول الوحي فلمّا أصبح صلّى الغداة، فلمّا صلّى من الظهر ركعتين جاءه جبرئيل بقوله تعالى: {قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ...}(1).

وقيل: أنّه أخذ بيد النبيّ(صلی الله علیه و آله) فحوّل وجهه إلى الكعبة، وحوّل من خلفهم وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال، فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدس، وآخرها إلى الكعبة، فسمّي ذلك المسجد: مسجد القبلتين(2)،

وقد كان يعلم ذلك قبل

ص: 186


1- سورة البقرة، الآية: 144.
2- انظر من لا يحضره الفقيه 1: 274؛ ووسائل الشيعة 4: 301.

التحويل، سيّما لمّا بلغه قول اليهود: يخالفنا محمّد ويتبع قبلتنا.

وإنّما كان(صلی الله علیه و آله) يحبّ أن يستقبل الكعبة محبّة لموافقته إبراهيم وإسماعيل، وكراهة لموافقة اليهود، ولقولكفار قريش للمسلمين: لم تقولون نحن على ملّة إبراهيم وأنتم تتركون قبلته وتصلون إلى قبلة اليهود؟

ولأنّه(صلی الله علیه و آله) لمّا هاجر صار إذا استقبل صخرة بيت المقدس يستدبر الكعبة فشق ذلك عليه، فقال لجبرئيل: «وددت أنّ اللّه سبحانه وتعالى صرفني عن قبلة اليهود»، فقال له جبرئيل: إنّما أنا عبد مثلك، وأنت كريم على ربّك فادع ربّك وسله، فدعى(صلی الله علیه و آله) فاستجاب اللّه له وأمره بالتوجه إلى الكعبة(1)، فقالت اليهود للنبيّ(صلی الله علیه و آله) بعد ما تحوّلت القبلة إلى الكعبة: يا محمّد ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنّك على ملّة إبراهيم ودينه؟ إرجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك، وكانوا يريدون بذلك فتنته عن دينه.

فأنزل اللّه: {سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمۡ عَن قِبۡلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيۡهَاۚ}(2)(3).

وسأل معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وخارجة بن زيد، نفراً من

ص: 187


1- انظر السيرة الحلبية 2: 353.
2- سورة البقرة، الآية: 142.
3- السيرة النبوية لابن هشام 2: 391.

أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة فكتموها وأبوا أن يخبروهم عنه. فأنزل اللّه: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ}(1)(2).

فرض الصوم والفطرة

قال بعضهم: وفي السنة الثانية من الهجرة وفي شهر شعبان - نزلت فريضة صوم شهر رمضان وأمر بزكاة الفطرة - وذلك قبل أن يفرض الزكاة من الأموال، فأمر(صلی الله علیه و آله) أن يخرج عن الصغير والكبير والحرّ والعبد والذكر والأنثى صاع من تمر أو صاع من الحنطة أو صاع من شعير أو صاع من زبيب.

وكان(صلی الله علیه و آله) يخطب قبل الفطر بيومين فيأمر بإخراجها قبل أن يغدوا إلى المصلّى(3).

قالوا: وفي هذه السنة خرج رسول(صلی الله علیه و آله) يوم العيد فصلّى بالناس صلاة العيد.

قالوا: وكان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلّى وخطب ذبح أحدهما وهو يقول: «اللّهمّ هذا عن أُمّتي جميعاً من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ».

ثمّ يذبح الآخر عن نفسه وهو يقول: «هذا عن محمد وآل

ص: 188


1- سورة البقرة، الآية: 159.
2- انظر السيرة النبوية لابن هشام 2: 393.
3- انظر سبل الهدى والرشاد 12: 58.

محمّد»، فيأكل هو وأهله منها، ويطعم المساكين(1).

ولعلّ وجه تولّيه(صلی الله علیه و آله) الذبح بنفسه إن صحّ الخبر هو: أن يتعلّم المسلمون ذلك وأن يعملوا أعمالهم بأنفسهم ولا يلقوا كلّهم على الناس مهما أمكن.

وقال بعضهم: وكان(صلی الله علیه و آله) يصوم هو وأصحابه قبل فرض رمضان ثلاثة أيّام من كلّ شهر، وهي الأيّام البيض أي: اليوم الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من كلّ شهر(2).

وكان(صلی الله علیه و آله) إذا رجع من صلاة عيد الفطر وخطبته قسم زكاة الفطرة بين المساكين.

منبر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

وكان(صلی الله علیه و آله) إذا خطب في مسجده، خطب وهو مستند إلى جذع نخلة عند مصلاه في الحائط القبلي، فلمّا كثر الناس قالوا له: لو اتخذت شيئاً تقوم عليه إذا خطبت حتى يراك الناس ويسمعون خطبتك، فصنعوا له(صلی الله علیه و آله) منبراً، فلمّا جيء بالمنبر وكان له ثلاث درجات، رقا عليه ليخطب متجاوزاً ذلك الجذع الذي كان يتّكئ عليه حال الخطابة فسمع من الجذع حنين كحنين الواله بصوت هائل، سمعه أهل المسجد حتى ارتجّ -أي اضطرب - المسجد

ص: 189


1- انظر سبل الهدى والرشاد 12: 58.
2- السيرة الحلبية 2: 358.

وكثر بكاء الناس لذلك ولازال يحن حتى تصدّع وانشق، فنزل(صلی الله علیه و آله) إليه وأسكته كما يسكت الأب الحنون طفله(1).

وفي رواية: إنّ تميم الداري قال له(صلی الله علیه و آله): ألا أعمل لك منبراً كما رأيت يصنع بالشام، فشاور رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) المسلمين في ذلك فرأوا أن يتخذه.

فقال العباس بن عبد المطلب: إنّ لي غلاماً يقال له كلاب وهو من أعمل الناس.

فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «مُره أن يعمله»، فأرسله إلى أثلة بالغابة (يعني إلى شجرة) فقطعها ثمّ عمل منها درجتين ومقعداً، ثمّ جاء به فوضعه في موضعه اليوم.

فجاء رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقام عليه وقال: «منبري هذا ترعة من ترع الجنّة، وقوائم منبري رواتب في الجنة»، وقال(صلی الله علیه و آله): «منبري على حوضي». وقال(صلی الله علیه و آله): «ما بين منبري وبين بيتي روضة من رياض الجنّة»(2).

أقول: قد ذكرنا معنى أمثال هذا الحديث في كتاب الفقه:(الآداب والسنن)(3).

ص: 190


1- انظر السيرة الحلبية 2: 366.
2- الطبقات الكبرى 1: 250.
3- انظر موسوعة الفقه، ج94-97 كتاب الآداب والسنن.

وكان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إذا صعد على المنبر سلّم، فإذا جلس أذّن المؤذّن، وكان يخطب خطبتين، وكان يجلس جلستين، وكان يتوكّأ على عصا يخطب عليها يوم الجمعة، وكان إذا خطب استقبله الناس بوجوههم، وأصغوا بأسماعهم، ورمقوه بأبصارهم، وكان يصلّي الجمعة حين تميل الشمس، وكان له برد يمنّية بطول ستّة أذرع في ثلاثة أذرع وشبر، وإزار نسج عمّان طوله أربعة أذرع وشبر في ذراعين، وكان يلبسهما في يوم الجمعة ويوم العيد ثمّ يطويان(1).

ثمّ إنّ المنبر بقي في مسجد النبي(صلی الله علیه و آله) إلى زمان معاوية، ولمّا صار الأمر إلى معاوية أراد نقل المنبر إلى الشام، فضجّ المسلمون، فلمّا رأى معاوية ذلك تركه وزاد فيه ستّ درجات(2).

المدينة المنورة

وروي أنّ هواء المدينة كان عفناً ووخماً، وكانت مشهورة بالوباء في الجاهليّة ومن أجلها دعيت باسم يثرب، فكان إذا دخلها غريب تمرّض، فاستوخم المهاجرون هواء المدينة ولم يوافق مزاجهم،فمرض كثير منهم وضعفوا حتى لم يقدروا على الصلاة قياماً وكرهوا المدينة.

فقال(صلی الله علیه و آله): «اللّهمَّ حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكّة أو أشدّ،

ص: 191


1- انظر الطبقات الكبرى 1: 250.
2- انظر أدب الرحلات: 114.

وصحّحها وبارك لنا في صاعها ومدّها وانقل حماها عنّا»(1)،

ثمّ سمّاها: طيبة(2)،

فسميّت بها، وبمدينة الرسول(صلی الله علیه و آله) ثمّ اشتهرت بالمدينة إلى يومنا هذا، وهي لا تزال مهوى قلوب كلّ المسلمين، ومصدر عزّهم وفخرهم.

الخاتمة

وهذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الكتاب، واللّه المسؤول أن يقرنه برضاه، وهو المستعان.

سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

قم المقدّسة

محمد الشيرازي

ص: 192


1- انظر البداية والنهاية 3: 269.
2- انظر النهاية في غريب الحديث والآثر 3: 149، و 5: 292.

أُسبوع المولد الشريف

اشارة

ص: 193

ص: 194

المقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

في الحديث الشريف: «... يفرحون لفرحنا»(1).

والفرح مظهر إلى جنب كونه أمراً مرتبطاً بالنفس، ففي الأفراح يلزم على الإنسان أن يُظهر معالم الفرح، إلى جانب فرحه النفسي، وانبساطه الروحي.

وللمسلمين أعياد: هي مواليد الرسول والزهراء البتول والأئمة الأطهار - عليهم الصلاة والسلام - إلى جنب عيد الفطر والأضحى والغدير والمبعث والجمعة وغيرها، وفي هذه الأيام يلزم أن نُظهر معالم البُشر والسرور، ونفعل ما يوجب فرحتنا القلبية مع حفظ الموازين الشرعية.

ولو لم نفعل ذلك، استجلبتنا الأفراح المحايدة، أو الأفراح

ص: 195


1- كامل الزيارات: 101.

المنحرفة، فإنه لا بد لكل أمة من عيد وأفراح، ولا بدّ للنفس منترويح وتنفيس.

ولقد حدث ذلك فعلاً، فإن المسلمين حيث تركوا أعيادهم الأصلية، اشتغلوا بأعياد ميلاد أنفسهم عوض أعياد مواليد ساداتهم ومن خططوا لهم مناهج الحياة السعيدة، كما اشتغلوا بأعياد استقلالهم - المزيف غالباً - وبأعياد سائر الطوائف والأمم، والأعياد الموهومة، وغيرها.

ومن المعلوم أن الأعياد الحيادية لا عطاء لها، فهي تأخذ عوض أن تعطي، والأعياد المنحرفة توجّه توجيهاً منحرفاً فهي تسلك بالإنسان سبيل الدمار والهلاك، وإن الوقت والمال الذين يصرفهما الإنسان في بعض الأعياد المخترعة يهدران كما يهدر الماء في الأرض السبخة.

كما أن الطاقة التي يصرفها الإنسان في الأعياد غير الواقعية كبعض أعياد الغرب لا تأتي إلّا بالثمار البشعة، إذ أنها توجب تقديس أفكار واردة، وسلوكاً تجر الإنسان إلى الانحطاط. فإن المسيح(علیه السلام) لا يرضى بصنع الخمر وتوزيعها والزنا وقتل النفس والكذب على اللّه.

أما إذا اتخذنا أيّام ميلاد الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله)، والأئمة(علیهم السلام) عيداً، فقد قدّسنا نزاهة اللّه تعالى، وقدّسنا احترام الإنسان، وتوجهنا

ص: 196

إلى الحياة السعيدة التي تأتي بخيرالدنيا والآخرة، وهكذا سائر الأعياد الإسلامية.

ومن الناس من يعتذر لاتخاذ بعض الأعياد الغربية، بأن أمورنا مرتبطة بالغربيين، فالبورصة، والبنوك والمتاجر وما أشبه لا يمكن أن تعمل ما دامت الغرب تغلق أبوابها في يوم الميلاد مثلاً.

ولكن لا وزن لهذا الاعتذار.

فهل عطلة دوائرنا ومدارسنا ترتبط بعطلة الغرب؟ وهل أمور تجارتنا وبنوكنا الداخلية تتصل بتجارتهم وبنوكهم في جميع الجزئيات؟

إن هذا الكتاب (أُسبوع المولد الشريف) كتبته لأجل إلفات المسلمين إلى ضرورة أن نجعل أُسبوع ميلاد الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) من (ثاني عشر) ربيع الأول إلى (ثامن عشر) منه(1)، أعياداً وأفراحاً، لنقوم بواجب الولاء أوّلاً، ونملأ فراغ النفس والجسم ثانياً، ونتبع ما يوجب السعادة الدنيوية والأخروية ثالثاً.

ولا يخفى أن (الأُسبوع) هو أقل ما ينبغي نظراً لعظمة المناسبتين ميلاد الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) وسبطه الإمام الصادق(علیه السلام) وكثرة

ص: 197


1- غالبية العلماء من الشيعة يقولون بأن ميلاده(صلی الله علیه و آله) هو يوم 17 ربيع الأول، وهناك البعض من علماء الشيعة - كالشيخ الكليني(رحمة الله) - وغالب علماء السنّة يرون الميلاد يوم 12 ربيع الأول.

البرامج الثقافية والاجتماعيةوالعملية التي يحبّذ أن تنفذ طوال هذا الأُسبوع المبارك.

ونسأله التوفيق لما يُحبّ ويرضى وهو المستعان.

كربلاء المقدسة - الكويت

محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي

ص: 198

1- تنظيف الجسد

يبدء المسلم في أيام المولد الشريف، بتنظيف جسده بالاستحمام، وقصّ الأظافر، وإزالة الشعر الزائد، وتسريح شعر رأسه - إن كان ربّى شعراً - وتسريح لحيته، وتنوير مواضع النورة، والتعطير، فإن «اللّه جميل يُحبّ الجمال»(1)،

و«النظافة مِن الإيمان»(2)، و{وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ}(3).

واللازم أن يغتسل إذا كان عليه غسل، وأن يتطهر بالوضوء، ليكون نظيف النفس، إلى جنب كونه نظيف الجسد.

2- تنظيف الأهل

ثم ينظف أولاده، وأهله، ومَن يتعلّق به، بما ذكرنا في تنظيف نفسه، وينبغي للإنسان أن يكون هو العارف والمباشر للتنظيف، فإنه كلّما كان الفرد أقدر على إدارة نفسه وعائلته، يكون الاجتماع أرقى، فإن الحياة لا تتقدم إلا بمساهمة جميع أفراده في التقدم.

ص: 199


1- الكافي 6: 438.
2- بحار الأنوار 59: 291.
3- سورة التوبة، الآية: 108.

ولعله لذا نرى أن الأنبياء والأئمة(علیهم السلام) كانوايباشرون أعمال أنفسهم بأنفسهم، ثمّ إنّ مباشرة الإنسان لأمور أولاده وأهله، توجب التعاطف وتقوية أواصر المحبّة والوداد، مما له أكبر الأثر في الحياة العائلية.

3- تنظيف كافة الأماكن

وهكذا ينظف الإنسان، بمناسبة أيّام المولد الشريف، كافة مرافق الحياة، من داره، وأثاثه، ودكانه، ومتجره، وغرفة الوظيفة، والمدرسة، والوقف الذي هو قائم عليه كالحسينية والمسجد وما أشبه، وبستانه، وسيّارته، وملابسه وغيرها.

ومن أقسام التنظيف: تنظيم أثاثه، فإنه نوع من النظافة والجمال، وإذا تمكن من ترميم داره ومحلّه، وصبغهما، وكذلك بالنسبة إلى السيارة، وسائر الشؤون المربوطة به، كان أكمل.

كما أن تنظيف الأماكن العامة كالشوارع والحدائق ونحوهما أيضاً من شؤون الأفراد والحكومات.

4- الملابس الجديدة

ويلبس هو وعائلته الملابس الجديدة الزاهية، مما يناسب مع شأنه مع مراعاة الاقتصاد، فإن الاقتصاد نصف المعيشة(1)، و«ما

ص: 200


1- انظر منية المريد: 258 في حديث عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة».

عال من اقتصد»(1).فإنه من المعلوم أن الإنسان يلبس الجديد في بعض أيام السنة، فيجعل من ذلك أُسبوع المولد الشريف.

ومن الأكيد أن يكون تفصيل الملابس تفصيلاً من نفس بلاد الإسلام، لا على الأزياء الغربية والشرقية، فإن ذلك تقليداً أعمى، ونوع من الاستعمار الفكري، وكذلك في تصفيف الشعر وما أشبه فإنه يلزم أن يكون للمسلمين روح الابتكار، لا أن يكونوا مقلّدي غيرهم حتّى في أمثال هذه الأمور.

5- السنة الجديدة

وليجعل المسلمون (أُسبوع المولد الشريف) ميزاناً للسنة الجديدة، فليأخذوا أوّل المحرّم أوّل السنة، عوضاً لما يجعلونه الآن من كون ميلاد المسيح(علیه السلام) أوّل السنة.

أمّا الأفراح فإنه في الربيع الأول، أما أوّل محرّم الحرام، فإنه وإن كان أوّل السنة الهجرية، إلا أنّ مصادفته لأيّام الحزن على الإمام الحسين(علیه السلام)، لا يلائم أفراح أوّل السنة، وجعله مبدءاً للأعمال والإنشاء.

فاللازم التحفّظ على أوّل المحرم مبدءاً للسنة، تاريخياً، والربيع الأول مبدءاً للأفراح، كما هو المتعارف الآن بالنسبة إلى أوّل

ص: 201


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 167.

المحرّم، وإلى يوم ميلاد المسيح(علیه السلام).

ومن اللازم التوفيق بين أوّل السنة، وبين الربيع الفصلي الذي هو أوّل سنة طبيعية من جهة الزرع والضرع، فتقسم الأعمال بينالطبيعية، وبين العادية، كما تقسم الأعمال العادية بين أوّل المحرّم وأوّل الربيع.

6- العطلة الرسميّة

ينبغي أن يكون (أُسبوع المولد الشريف) عطلة رسميّة، لكافة الدوائر والمدارس، وتكون هذه العطلة بدلاً عن بعض العطلات الأُخر، كعطلة الاستقلال والانقلابات العسكرية، وما أشبه.

فلا يكون جعل هذا الأُسبوع عطلة ضاراً بالأعمال، وإنما هو تبديل عطلة منحرفة أو حيادية بعطلة مستقيمة مفيدة.

ويلزم على الناس، أن يتّخذوا من العطلة وسيلة لتجديد الحياة، لا وسيلة للبطالة والفساد والإفساد، كما هو شأن بعض الغربيّين في عطلة ميلاد المسيح(علیه السلام).

7- المؤسّسات والشركات

كما ينبغي أن يكون (أُسبوع المولد الشريف) عطلة لكافة المؤسّسات والشركات، حتى يكون تنسيقاً كاملاً بين الدوائر والمؤسّسات الأهلية، ويتمكّن الجميع من التعاون في تجديد الحياة.

ص: 202

أما الأعمال الفردية فأصحابها بالخيار بين العطلة وعدمها. نعم من الضروري أن لا تعطّل الدوائر والمؤسّسات والأعمال الفردية التي تضرّعطلتها بالاجتماع أو تكون عطلتها منافية للأفراحوالأعياد، كالمواصلات، والبريد، والخفر في المصحات وما أشبه، وكذلك بالنسبة إلى المخابز ونحوها.

8- الاحتفالات

يلزم أن تقام الاحتفالات، في مختلف المحلّات العامة كالمساجد والمدارس والحسينيات والصالات العامة، ونحوها.

والاحتفال يلزم أن يكون حافلاً بالدّين والدنيا، من الكلمات والقصائد، والتوجيهات، وشرح النقائص التي يجب علاجها، والمناهج التي يجب اتّباعها، كالحرّيّات الإلهيّة والأُخوّة الإسلامية والحكومة الواحدة المسلمة ومبدأ الاستشارة والتعددية.

بالإضافة إلى بيان السيرة النبوية(صلی الله علیه و آله) والعبرة منها، وكذلك سيرة قادة الإسلام من الأئمة(علیهم السلام) والعلماء والصلحاء، وغيرهم.

كما يلزم أن يكون الاحتفالات مُزْدانة بأبهر زينة، ويكون فيها الإطعام، وتوزيع الحلويات والأشربة وسائر ما يلذّ ويطيب.

9- الزينة

يلزم تزيين الشوارع، والمحلّات، ومواضع الاحتفال، والبيوت، وغيرها، بمختلف وسائل الزينة، من الأقمشة الزّاهية، والأضواء

ص: 203

الملوّنة، والأعلام الجميلة، واللافتات الموجّهة، والأشجار الأنيقة، والمزهريّات والسجّادات، والأقواس وغيرها.كما يلزم صنع الذكريات، والملصقات في المحلّات العامة، كصنع شبيه الكعبة، ومسجد الرسول(صلی الله علیه و آله)، ومشاهد الأئمة(علیهم السلام)، والقدس، وتواريخ الإسلام، وسائر التماثيل النظيفة الموجّهة إلى غيرها.

واللّازم أن يراعى التوجيه في كلّ ذلك حتّى في الأضواء والأعلام، كأن ترصّف الأضواء خطوطاً بكلمات حكيمة، وأن تنشر الأعلام بألوان تشير إلى وحدة البلاد الإسلامية وعدم الحدود الجغرافية الباطلة.

10- المناشير والكتب

يلزم نشر أكبر قدر من المناشير والكتب التي تنفع المسلمين في دينهم ودنياهم في هذه المناسبة الكريمة مثلاً تجعل آيات القرآن، وكلمات نهج البلاغة، وأحاديث الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) وكلمات أئمّة المسلمين(علیهم السلام) في قطع زاهية ملوّنة، وتنشر مجاناً، أو بيعاً.

وكذلك صور المساجد الإسلامية في مختلف البلاد، والكعبة والمشاهد المشّرفة، والمؤسّسات الدينية، صورة ورقية، أو صورة مثالية. وكذلك صور العلماء والمؤسّسين، ورجال الإسلام - مع ملاحظة المشروعية.

وكذلك تنشر مختلف الكتب الدينية والدنيوية، في الاحتفالات

ص: 204

وفي المعارض، وفي الشوارع، كما يلزم أن تلصقالصور واللافتات والقطع، على أعمدة الشوارع، والحدائق العامّة، والسّيارات، وغيرها.

11- طعام السَنة وحوائجها

ينبغي اشتراء طعام السَنة، وحوائجها، من ملابس وأثاث، وسائر الحاجيات، في (أُسبوع المولد الشريف).

فإنّ الغالب أنّ الأثرياء يهيّئون حوائج سنتهم في وقت من الأوقات، فليجعلوا وقت ذلك (أُسبوع المولد الشريف)، فإنّ ذلك يوجب البركة والهناء، لانتسابه إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) والأئمّة(علیهم السلام) ويشمله جملة: «يفرحون لفرحنا»(1).

ومن المعلوم أن للنفس أثراً في كلّ من البركة والمَحْق، كما أنّ اشتراء طعام السنة، بالجملة، ينفع المشتري والبائع، فإنّه يكون أرخص بالنسبة إلى المشتري، وتكون زيادة في البيع نافعة بالنسبة إلى البائع أيضاً.

12- التخفيضات

ينبغي جعل التخفيضات والتنزيلات، للبضائع والأملاك، وما أشبه، في هذا الأُسبوع، فإنّ التجار اعتادوا التنزيلات في وقت من أوقات السنة، فليجعلوها في هذه الأيام، فإنّ ذلك يوجب الأرباح

ص: 205


1- كامل الزيارات: 101.

الكثير لهم، والمنفعة للمشترين، حيث يقبل الناس على الشراء أكثر فأكثر.كما ينبغي فتح أسواق (الإستوك)(1)

في هذه الأيّام، حيث تكثر الحركة، ويكثر المشترون والمرتادون.

13- الحقوق الشرعية

ينبغي جعل أوّل السنة للحقوق الشرعية، في هذه الأيّام، فيجعل التاجر والكاسب والصانع، وغيرهم ممّن يتعلّق بأموالهم الخمس، أوّل سنتهم يوماً من أيّام هذا الأُسبوع، ليكون تصفية لأموالهم، وتطهيراً لأرواحهم.

ومن الطبيعي أن يدفع الناس الحقوق الشرعية للمراجع العظام فيقوموا بخدمة الإسلام ابتداءً من هذه الأيّام.

ومن المعلوم أن أوّل السنة المالية، إذا كانت معلومة تمكِّن المرجع من تقدير الوارد السنوي، وعليه يبني خدماته المحتاجة إلى المال.

14- الحلويات والأطعمة

ينبغي توزيع الحلويات والمشروبات والأطعمة، في الدكاكين، والمحلات، والمتاجر، والشوارع، وغيرها، في هذا الأُسبوع، لتعميم

ص: 206


1- مصطلحٌ يطلق على بيع الأعداد الأخيرة والمخزون من السلع والبضائع التجارية.

الفرح، وبثّ الابتهاج، كما ينبغي نشر الأوراد والزهور في الشوارع والمحلّات، ورشّ الناس بماء الورد والعطور، وصنع مجامِر البخور، وغيرها مما يورث البهجة والسرور، وتزيل الأحزانوالهموم وتساعد في تجديد الحياة، وتنشيط الاجتماع.

15- الأصوات

ينبغي إطلاق أبواق السيّارات، والمعامل، والمصانع، والشروع في الابتهالات، وتلاوة القرآن في المآذن، في ساعة خاصة من يوم العيد، ليكون إعلاناً بميلاد حياة جديدة.

كما ينبغي قراءة القرآن في المكبرات، طول الأُسبوع، ولكن بنحوٍ غير مزعج، وكذلك نصب الأشرطة في المحلّات العامة، لتنقل على الناس قصص الرسول(صلی الله علیه و آله) وسيرته، ومواضع القدوة من حياته الكريمة.

16- التعاطف

ينبغي زيارة المستشفيات والمرضى، ودور العجزة، وبيوت الفقراء، والمقابر، والسجون - في أيّام العيد - والعطف عليهم، وإهداء الثواب إلى أرواح الأموات، حتّى يعم العيد الحيّ والميّت، والصحيح والمريض، والثري والفقير.

كما ينبغي قضاء حوائج المحتاجين، والتفريج عن المكروبين، ومواساة المساكين، وإنعاش الفقراء، والعفو عن المذنبين بمناسبة

ص: 207

(أُسبوع المولد الشريف).

وكذلك ينبغي زيارة الثكالى، ومن فجعوا في السنة الماضية بعزيز لهم، ليكون ذلك تعزية ومواساة وتعاطفاً ومشاركة وجدانية.

17- الإحسان

ينبغي جعل برنامج للإحسان، في هذا الأُسبوع، مثل التصدّق على الفقراء، بالملابس، والنقود، والأثاث، وتوزيع الطعام، كالأرز والسمن والسكر والشاي، على المحتاجين، وترميم بيوت المعوزين، والتبرع بأجور الحمّام والتزيين، لكل من أراد، وخدمة العاجزين، والتبرع بالدم، وإسعاف المنكوبين بالكوارث الطبيعية، كالزلازل والفيضانات، والإحسان إلى اللاجئين الذين طاردتهم الحروب والثورات، فإن لم يكن في البلد شيء من ذلك، أرسلوا بالمعونات إلى الأماكن المحتاجة.

18- الأفلام والمسارح

ينبغي استعراض الأفلام الإسلامية، والعلمية، والثقافية، وما أشبه في (أُسبوع المولد الشريف)، لينتفع الناس بها ديناً أو دنياً، وكذلك فتح المسارح لهذه الشؤون.

ويلزم أن تكون غاية في الروعة والفن والتوجيه، ليملأ فراغ النفوس، فلا تميل إلى الباطل والحرام، بالإضافة إلى أنّها تكون حينئذٍ موجهة نحو الفضيلة والخير والإيمان.

ص: 208

وبإمكان المخرجين الأكفّاء أن يؤلّفوا ألوف القصص الإسلامية في أروع التمثيلات والأفلام، بل سائر الأمور الأخلاقية والدينية، التي يمكن تنظيمها روايات مسرحية.

19- الزواج

يلزم أن يهتم المجتمع بكافة طبقاته بتزويج العزّاب، بنينوبنات، في (أُسبوع المولد الشريف) ومن المحبّذ أن تشكل لجان خاصة لذلك.

ومن نافلة القول أن نذكر: أنّ الإسلام قرّر زواج العزاب إذا بلغ كلّ من الفتاة والفتى البلوغ الشرعي وكان رشيداً، وقد سدّ بذلك أبواب الأمراض والمفاسد، كما حرّض على تقليل المهر، وأنّه إذا جاءهم من يرضون خلقه ودينه، فليزوجوه، وإلّا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير(1).

فاللازم أن لا يكون (عدم السّن القانونية) و(الدرس) وما أشبه، عائقات دون الزواج، كما يلزم الاهتمام ببساطة الزواج، مسكناً، وأثاثاً، وإطعاماً، وغير ذلك، فإنّ التشديد في أمر الزواج، وتكثير قيوده، يلازم فتح باب الفساد والأمراض، وتعريض الفتيان والفتيات والاجتماع إلى السقوط والانهيار.

ص: 209


1- إشارة إلى رواية رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «إذا جاءكم من ترضون خُلقه ودينه فزوجوه إلّا تفعلوا ذلك تكن فتنة في الأرض وفساد كبير» تهذيب الأحكام 7: 396.

20- الاختتان

ينبغي جعل اختتان الأولاد، في (أُسبوع المولد الشريف)، لمن لم يختن ولده في اليوم الثالث أو السابع من مولده أو ما أشبه.

كما ينبغي للجمعيات الخيرية، اختتان أولاد الفقراء مجاناً، بعد أن يهيّؤوا لهم المكان المناسب، والخدمات اللائقة.وكذلك يلزم فتح أبواب المستشفيات للاختتان في هذه الأيّام تطبيقاً لسنة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في أيّام ميلاده، وتنفيذاً لمشروع إسلامي، ينفع الدين والدنيا، في أفضل الأيّام.

21- الزيارات والإصلاح

ينبغي في (أُسبوع المولد الشريف) زيارة الأقرباء، وصلة الأرحام، وبرّ الوالدين، والتشرف بخدمة العلماء والصلحاء، والتزاور بين الأصدقاء لتوثيق عُرى المحبّة والمودّة.

ويلزم أن يترك الإنسان هجران الأقرباء والأصدقاء الذي حدث بينهم من جرّاء المنازعات أو سوء الظن أو ما أشبه.

كما يلزم أن يهتم الناس لهذا الشأن بإصلاح ذات البَيْن، وكذلك يرجع كل زوج إلى زوجته، وكل زوجة إلى زوجها، تاركين ما حدث بينهم من شقاق وافتراق، فقد ورد في الحديث: أنّ «إصلاح ذات البَيْن أفضل من عامّة الصلاة والصيام»(1).

ص: 210


1- ثواب الأعمال: 148.

22- تقليل المنكرات

يجب أن يوضع، ل-(أُسبوع المولد الشريف) منهاج خاص لتقليل المنكرات، أو لإزالتها إن أمكن، مثلاً إذا كانت في البلد محلّات للخمر أو القمار أو البغاء، أو كان السفور أو الغناء أو ما أشبه رائجاً، لزم تنظيم برنامج خاص لإزالة المنكر إن أمكن، وإلّا التقليل منه.

وذلك بالأسلوب الإسلامي غير العنيف، كما قال اللّه تعالى:{ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ}(1). لا بالسلب فقط، بل بالإيجاب أيضاً، فاذا أمكن تزويج الفاجرة بعد حثّها على التوبة، وتبديل المخمر إلى دكان بيع العصير، وجمع بسط القمار، وجعل الألعاب المحلّلة في مكانها، وهكذا، فعلوا ذلك.

كما أنّه يلزم تقليل مرتادي محلّات المنكرات، بفتح محلات نظيفة أمام محلات المنكرات، بحيث تجلب الروّاد إليها، وبذلك يقل روّاد المنكرات، وكذلك اشتراء كتب الضلال وإفنائها فإنّ كتب الضلال من أهم وسائل التحريف، وكذلك أفلام الفساد.

23- الأسفار

ينبغي تنظيم الأسفار التفريحية، أو الزيارية، أو الأثريّة في (أُسبوع المولد الشريف) كالأسفار لأجل التنزّه والتفريح، وأسفار

ص: 211


1- سورة النحل، الآية: 125.

زيارة الرسول والأنبياء(علیهم السلام) والعمرة، ومشاهد الأئمّة(علیهم السلام) وأولادهم وأمهاتهم، ومقابر العلماء والمساجد، وأسفار زيارة الأقرباء والأصدقاء وأسفار زيارة المواضع الأثريّة، كموضع بدر، وغدير خمّ، ومسجد ردّ الشمس، ومسجد البصرة وغيرها، وكلما كانت الأسفار جماهيرية، ومزوّدة بالملفتات، كاللافتات، وعقد مجالس الوعظ والخطابة فيها وما أشبه ذلك،كانت أنفع.

24- الصحف

يلزم إخراج أعداد خاصة م-ن الصحف، تك-ون مرتبطة ب-(أُسبوع المولد الشريف) تنشر فيها مختلف شؤون التاريخ الإسلامي، ومختلف شؤون المسلمين السابقة والحاضرة، ويوجّه المسلمين إلى ما يصلح دينهم ودنياهم، ويحل مشاكلهم، وينشر الفضيلة والمباديء الإسلامية من الأخوّة والحريّة والشورى وغيرها، مزدانة بالصّور الجميلة، كصور المشاهد المشرفة والمناظر الطبيعية، والمغيرات الكثيرة، الموجبة للإقبال عليها، والاستفادة منها.

25- رسائل التهنئة

ينبغي إرسال رسائل التهنئة إلى الأقرباء والأصدقاء، بمناسبة الميلاد، وفي الرسائل آيات من القرآن الحكيم، أو أحاديث قصيرة، أو توجيهات عامة، مع التوصية بالخير والعمل الصالح، وتطبع لهذا الشأن بطاقات، ورسائل وظروف، تناسب (أُسبوع المولد الشريف).

ص: 212

وكذلك ترسل برقيات إلى مختلف الشخصيات، وإلى الأقرباء والأصدقاء، وترسل التهاني والتبريكات عبر التلفونات واللاسلكيات وغيرها.

26- الإذاعة والتلفزيون

كما ينبغي جعل برامج خاصة، مناسبة ل-(أسبوع المولد الشريف) في الإذاعة والتلفزيون، تكون مشتملة على العقيدةوالشريعة والدعوة إلى إيجاد حكومة إسلامية عالمية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحريض المسلمين للتقدم في مجالات الحياة، وعلى قصص الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار(علیهم السلام)، وصحابتهم الأبرار، وعلى الصور المناسبة، والندوات اللائقة، والأمور النافعة.

ويلزم أن تكون المناهج حيّة حافلة تنبض بالحركة والنشاط، لتكون في المستوى اللائق بالميلاد.

27- طابع العيد

يلزم إضفاء طابع العيد على كل شيء، مثلاً تصدر لأسبوع العيد، علب السجائر والكبريت، حاملة التهنئة بالعيد، أو عليها صور مسجد الرسول(صلی الله علیه و آله) وما أشبه.

وكذلك بالنسبة إلى علب المأكولات، والبيض والموز والبرتقال والتفاح، والمحارم الورقية، والظروف، والملابس - بما يلائمها -

ص: 213

والشوكولاتة، والعصير، وقنّينة المشروبات المحلّلة إلى غيرها، مع ملاحظة الجوانب الشرعية.

فإنّه بالإضافة إلى أنّ ذلك يوجب تحرك الاقتصاد، موجب لإضفاء بهجة خاصة بالعيد، تبقى لمدة طويلة، كذكرى ومحفّز وهو حي بالأفراح.

28- طوابع البريد

ينبغي إصدار طوابع خاصة حاملة شعار (المولد الشريف) بمناسبة العيد، كالطوابع التي تحمل كلمات الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله)، أو غزواته، أو صور المشاهد، مثل غار ثور، أو غار حراء أو شعب أبي طالب(علیه السلام)، أو ما أشبه، صورة، أو كتابة.

ولو جعلت إدارة البريد، طوابع رسائل التهنئة، مجانية، بمناسبة العيد، يكون لذلك أكبر الأثر في النفوس، مع العلم أنّه لا يكلف كثيراً، ويمكن تداركه، بطبع طوابع أثرية أغلى، تسدّ نفقات طوابع العيد.

ومن الأفضل أن تكون طوابع العيد ذات أحجام وأشكال مختلفة كالمدوّر والمثمّن والمخرّم، والكبير، والصغير، إلى غير ذلك.

29- الاجتماعات

ينبغي تكثير الاجتماعات والندوات في (أُسبوع المولد الشريف) في المساجد والحسينيات وسائر المجامع، لقراءة القرآن، والأدعية

ص: 214

وصلاة الجماعة، والاستماع إلى الخطب والمواعظ، وتذكّر الشؤون الإسلامية، وهذا غير الاحتفالات، وفائدتها جلب الناس إلى اللّه ودينه، وانضمام الناس إلى مراكز الفضيلة والتقوى، فإنّه كلّما عمّرت أسواق الدين، كسدت أسواق الفساد، وارتفعت شوكة المسلمين، وتقوّت وحدتهم، وزادت عزّتهم.

30- المناظرات

أقرب الطرق وأسلمها لمعرفة الحق ولرفع الفُرقة والخلاف هو المناظرة.

وهذا الأُسبوع - الذي تضمّن ميلاد الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) وسبطه الإمام الصادق(علیه السلام) - هو أفضل فرصة للتآلف والتعارف بين مختلف الطوائف الإسلامية.

وقد كان من دأب أئمّة أهل البيت(علیهم السلام) فتح باب الحوار والبحث والمناظرة مع مختلف الطوائف، وكتب التاريخ مليئة بحوار أعلام السنة بل أئمتهم مع أئمّة أهل البيت(علیهم السلام) أو أعلامهم(1).

فمن الجدير أن تقام الندوات والمناظرات العامة والخاصة وعلى شتّى المستويات وفي أجواء حرّة لبحث الشؤون العقائدية والفكرية، وبروح أخويّة تهدف التقريب بين المذاهب الإسلامية، والوصول إلى الحق.

ص: 215


1- مثلاً انظر كتاب الإحتجاج للشيخ الطبرسي.

ومن الواضح أن التقارب الفكري سيؤثر في وحدة صفوف المسلمين أمام القوى الاستعمارية، وسيجعلهم {صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰنٞ مَّرۡصُوصٞ}(1).

31- المباريات والمسابقات

ينبغي التكثير من المباريات والمسابقات المحلّلة في أيّام العيد، كالمصارعات المشروعة، والمسابقات المأمونة، بالسيارات والدراجات، والطائرات، والسفن والسّباحة وما أشبه.

وكذلك المسابقة بالخيل ونحوها، على ما هو مذكور في كتاب (السبق والرماية)(2).

وهكذا جعل الجوائز لمن حديقته أجمل، أو تربيته للدواجن أفضل، أو فنّه ونحته وتصويره أكمل، إلى غير ذلك، فإنّه كلّما انسحب أهل الدين عن الحياة، ملأها أهل الباطل، بما فيه الضرر والحرمة والفساد.

32- الأبنية والمؤسّسات

ينبغي أن يوضع حجر الأساس في الأبنية الجديدة، في (أُسبوع المولد الشريف) وكذلك بالنسبة إلى تبليط الشوارع، ومدّ أنابيب الماء، وأسلاك الكهرباء والتلفون، وسائر الخدمات العامة.

ص: 216


1- سورة الصف، الآية: 4.
2- انظر موسوعة الفقه: ج60، كتاب السبق والرماية.

كما ينبغي تأسيس الشركات والمؤسسات والهيئات، في (أُسبوع المولد الشريف) حتى تكون مباركة من بركة الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله).

ولا منافاة بين أن تكون الأيّام عطلة، وبين ما ذكرناه، إذ الشروع لا يستلزم الاستمرار، فالشروع يكون في أيام الميلاد، والاستمراريكون بعد الأعياد.

33- فتح المشاريع

ينبغي أن تفتح المشاريع، بمختلف أصنافها أيّام الميلاد، أمثال فتح المدارس، والمستشفيات، والمعامل، والمصانع، والمساجد، والحسينيات، ودور المعرض، والمكتبات، والشوارع، وخطوط المواصلات، وغيرها فيُقصّ شريط المشروع العالِم أو الموظف، أو التاجر، أو غيرهم من المربوطين بالمشروع.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون مشروعاً جديد التأسيس أو جديد الترميم والإصلاح.

بل ينبغي إعطاء الشهادات لأصحابها في هذا الأُسبوع إذا لم يكن يوجب ذلك تأخيره أيّام كثيرة قبل الميلاد، وكذلك البدء بعقد العقود التجارية والمعاهدات الدولية وما أشبه.

وبالجملة تكون أيّام الميلاد بدء الأعمال والأحوال والحركات والمناسبات والعلاقات وغيرها.

34- وسائل الترفيه

ينبغي الإكثار من وسائل الترفيه، في (أُسبوع المولد الشريف)

ص: 217

الكبار والصغار أمثال: دواليب الهواء، والفيلة، والطائرات، والسفن للركوب لأجل السياحة والترفيه.

كما ينبغي ارتياد الحدائق، والمتاحف، وحدائق الحيوانات، والأبراج، والجزر، ومدن الألعاب المحلّلة، ومعارض الأزياء،والمكتبات، والأبنية الأثريّة، والغارات، والجبال، والغابات وغيرها، كل ذلك لبعث النشاط، والعِبرة، والتنزّه، وإملاء فراغ النفس حتى لا تميل إلى المحرّمات.

35- الديوانيات

ينبغي فتح الديوانيات، والجلوس فيها من قِبَل العلماء والتجّار والشخصيات الاجتماعية والسياسية، لأجل استقبال الزائرين، في (أسبوع المولد الشريف) وإحضار ما لذّ وطاب من الفواكه والمشروبات المحلّلة، والحلويّات، وتقديم مختلف صنوف الحفاوة والإكرام.

كما ينبغي إهداء أصحاب الديوانيات للزائرين الكتب اللائقة، والقطع المكتوب علهيا آيات القرآن الحكيم، والأحاديث الشريفة، والكلمات الحكيمة، ومختلف الهدايا اللائقة بالمُهدى إليه، المتناسبة مع حال المهدي سعةً وضيقاً.

فقد قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «تهادوا تحابوا»(1).

ص: 218


1- الكافي 5: 144.

وقال(علیه السلام): «تزاوروا»(1).

واللّازم أن لا يتعدى ذلك إلى المحرّمات، كالغِيبَة والهَمْز وما أشبه، بل تكون الاجتماعات بنّاءة مفيدة.

36- طبع البرامج

يُسْتَحْسَن طبع برامج العيد، ليكون الناس على بصيرة في توزيع وقتهم على ما ينبغي أن يعملوا.

مثلاً يذكر في البرامج: المتاحف، وحدائق الحيوان، والديوانيات المفتوحة، ومحلّات الاحتفالات، والزيارات التي تنظم لمدة يوم أو أيّام، والأماكن الأثريّة التي يمكن زيارتها، والمساجد والحسينيات التي تكون محلاً للاجتماعات والحفلات، ومحلات السباق، وأماكن بيع الأشرطة والصور المرتبطة بالعيد، والولائم الجماهيرية، التي تقام لأجل العيد، والعلماء والمراجع الذين يجلسون لتلقي مراسم العيد، إلى غيرها وغيرها.

كما ينبغي طبع برامج لتوجيه الناس إلى ما ينبغي أن يفعلوا من أعمال في هذه الأيّام.

37- الكشّافات

ينبغي إخراج فِرَق الكشّافة التي ترتاد الشوارع والمحلّات في (أُسبوع المولد الشريف) لأجل تعميم البهجة والسرور.

ص: 219


1- الكافي 2: 175، في رواية عن الإمام الصادق(علیه السلام).

والفِرَق تكون بألبسة خاصة، مُزْدانة بالأعلام واللّافتات والصور، وفي مقدمتهم من يتلو القرآن الحكيم في المكبّرة، وهم يرتّلون الأناشيد الدينية، وقسم من الناس ينثرون عليهم الأوراد، والحلويّات ويرشّونهم بماء الورد والعطر، إلى غير ذلك مما يليق بالمواكب الدينية التي تخرج لأجل الأفراح والأعياد.

38- النساء

لا بدّ وأن تكون للنساء مجالس خاصة بهنّ في (أُسبوع المولد الشريف) لتلاوة الأناشيد، وإلقاء الكلمات، وتبادل الأفراح، بالإضافة إلى أنه يحق لهنّ الاشتراك في المراسيم العامة، لكن مع التحفظ على الحجاب، وبدون الإثارة، وعدم الاختلاط المشين، كما قرره الإسلام وبيّنه الفقهاء في رسائلهم العملية.

فإنه إذا لم ترفّه المرأة عن نفسها ترفيهاً محللاً ربما انحرفت إلى الترفيه المحرّم.

قال علي(علیه السلام): «إنّ المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة»(1).

كما يجب أن يكون في الإذاعة والصحف والتلفزيون، بحوث وبرامج تعني بشؤونهن مما يتناسب دورهن في الحياة العامة والحياة العائلية، حسب ما قرره الإسلام.

ص: 220


1- الكافي 5: 510.

39- استعراض الجيش

ينبغي في (أُسبوع المولد الشريف) استعراض الجيش لأجل إظهار قوة الإسلام، وتقوية قلوب المسلمين، وتحبيب القوّة المسلّحة إلى الناس، مقدمة لانخراطهم فيها طوعاً، إذ ليس في الإسلام عسكرية إجبارية إلّا عند الضرورة، والضرورات تقدربقدرها.

فإن المسلمين بحاجة إلى القوّة للدفاع عن أنفسهم في قِبال أعداء الداخل والخارج.

قال اللّه تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ}(1).

40- المظاهرات السلمية

ينبغي أن تنظّم مظاهرات سلمية، في (أُسبوع المولد الشريف) لمختلف الأغراض، مثل غرض الفرح والسرور، وغرض الاستنكار على القوى المعادية للإسلام، وغرض توجيه المسلمين إلى مهمّة دينية أو دنيوية.

فإنّ المظاهرات لها أبلغ الأثر في نفوس المتظاهرين، والمشاهدين، كما لها أبلغ الأثر في نفوس الأعداء الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر، فإنّ المظاهرة الحرّة دليل الوعي، وفي جوّ الوعي، لا يجد العدو منفذاً.

ص: 221


1- سورة الأنفال، الآية: 60.

بالإضافة إلى أنّها توجد الحماس الموجب للاندفاع إلى الأمام والانطلاق إلى المصالح الدينية والدنيوية.

41- تكثير الزرع

إذا كان الوقت مناسباً، كان اللازم في (أُسبوع المولد الشريف)تنظيم حملة لتجديد الزرع وتكثيره في المدن والمزارع والأراضي، كما هو المعتاد الآن في أيّام عيد الشجرة.

فإنّ الزرع بالإضافة إلى أنّه صحّة واقتصاد وجمال، له من الثواب العظيم الشيء الكثير، وقد أمر الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) في عهده لمالك الأشتر حين ولّاه مصر أن يزرع أرض مصر(1).

وبالجملة فالزراعة دنيا ودين، وقد حثّ عليها الإسلام أبلغ الحثّ، ويكفي في ذلك أن نعلم أن الرسول(صلی الله علیه و آله) والإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) وبعض الأئمّة الطاهرين(علیهم السلام) قد زرعوا بأنفسهم(2)، وكذلك بعض الأنبياء من قبل، كآدم(علیه السلام)(3).

ص: 222


1- انظر بحار الأنوار 74: 253، قوله(علیه السلام): «ثم سل عمّا يرفع إليك أهل العلم به من غيرهم فإن كانوا...»، ونهج البلاغة، الكتب الرقم: 53، من كتاب له(علیه السلام) كتبه للأشتر النخعي لمّا ولّاه على مصر وأعمالها في قوله(علیه السلام): «ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد و...».
2- انظر الكافي 5: 76.
3- انظر الكافي 5: 260.

42- الوظائف

ينبغي أن يجعل (أُسبوع المولد الشريف) ميقات قبول المؤظفين، وترفيع المؤظف المستحق للترفيع، وفتح الفروعالجديدة للوظائف وما أشبه، المحتاج إليها بقدر الضرورة - إذ الإسلام لا يرتضي منهج تكثير الوظائف والمؤظفين باعتبار أنّ كثيراً منها يحدّد حريات الناس كحرّية السفر والإقامة والتجارة والزراعة والعمل وغير ذلك - حتى يشعر الناس بأنّ هذه الأيّام، أيّام التقدّم والقبول والعمل والارتفاع، فقد اعتاد الناس النظر باهتمام إلى الوقت الذي يصلح فيه أمرهم، كما ينظرون إلى الشخص الذي يصلح أمرهم باهتمام.

ولا بأس أن يكون القبول من أوّل ربيع الأوّل، وذلك باعتبار أنّه شهر المولد الشريف، ولأجل استقامة المشاهرة.

43- حملات تبشيرية

يلزم أن يهتم المسلمون لحملات تبشيرية في صفوف الكفار، بمناسبة عيد المولد الشريف، وذلك تحت نظام دقيق ومثمر، فإن الإسلام جاء مبشراً {إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا}(1).

ويشمل حملة التبشير (الحملة الفعلية) بأن يذهب أُناس إلى القرى والأرياف والمدن والجماعات الكافرة لأجل هدايتهم إلى

ص: 223


1- سورة الفتح، الآيه: 8.

الإسلام بأسلوب صحيح {وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ}(1). أو هدايتهم إلى المذهب الصحيح و(الحملة التهيئية)كأن تنظم في هذا الأُسبوع الهيئات لأجل التبشير، أو تجمع التبرعات لذلك، أو تفتح المؤسّسات المساعدة للتبشير، إلى غير ذلك من وسائل التبشير، فإنّ التهيّؤ النفسي الذي يوجد في (أُسبوع المولد الشريف) يساعد كثيراً لهذه الغاية التي من أجلها جاء الإسلام وأُرسل الرسول(صلی الله علیه و آله).

44- المراكز الدينية

ينبغي أن يهتم المسلمون في (أُسبوع المولد الشريف) بملاء المراكز الدينية، مثل نصب أئمّة الجماعة في المساجد الفارغة عن الإمام، واشتراء الأثاث للمساجد والحسينيات، ونصب المدراء للمدارس الدينية، وتهيئة الخطيب لإلقاء الوعظ والإرشاد بعد صلاة الجماعة، أو في المسجد أو في المشهد الشريف في أوقات خاصة وإرسال المراجع الوكلاء إلى الأماكن التي تتطلّب الوكيل، إلى غير ذلك.

45- أداء الدين

يلزم في (أُسبوع المولد الشريف) تنظيم برنامج لأداء الديون، سواء كانت ديوناً للّه تعالى، كأن يشرع في قضاء صلواته التي لم يؤدها، وفي قضاء صيامه، وفي إعطاء كفاراته وخمسه وزكاته

ص: 224


1- سورة النحل، الآية: 125.

والمظالم، وما أشبه ذلك.

أو كانت ديوناً للناس، كأداء ديونهم، وإيصال الحقوق إلى أصحابها، وردّ ما عليه من أموال الفقراء والأيتام والمصالح، كما لوكان بذمته حق للمسجد أو المشهد حيث كان متولياً على أوقافه، وكذلك أداء النذور.

فما أمكن إنجازه في نفس أيّام الميلاد أنجزه، وما لم يكن إنجازه شرع في إنجازه أو هيّأ مقدمات الإنجاز، ونوى ذلك، بأن يؤديه في وقته.

46- المسابقات

يلزم تشكيل مسابقات، حول الشؤون الإسلامية، في (أُسبوع المولد الشريف) كالمسابقة حول أفضل كتاب يكتب في تاريخ الإسلام، أو أحوال الرسول(صلی الله علیه و آله) أو أحوال الصدّيقة فاطمة الزهراء(علیها السلام) أو أحوال الأئمّة الطاهرين(علیهم السلام).

وكذلك تشكيل مسابقة، حول أفضل كلمة أو خطابة تكتب أو تلقى حول الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) والمعصومين(علیهم السلام).

وهكذا تشكيل مسابقة حول أفضل تفسير للقرآن، أو شرح لنهج البلاغة، أو الصحيفة السجادية، أو حول أحسن مسجد يُبنى إلى السنة الآتية، أو حول أفضل من يحفظ القرآن الحكيم، بدون غلط وتوقف، إلى غيرها من المسابقات الإسلامية، التي تنفع الدين والدنيا.

أمّا المسابقات في الأمور الدنيوية فقد تقدم الكلام حولها في

ص: 225

فصل آخر.

47- محاسبة الماضي

للإنسان غالباً - غير المعصوم(علیه السلام) - أخطاء، تضرّ دينه ودنياه، والمحاسبة الدقيقة هي التي تظهر الأخطاء، فاللازم في (أُسبوع المولد الشريف) أن يحاسب الإنسان نفسه محاسبة القاضي للخصمين، لا محاسبة الصديق، ولا محاسبة العدو، وذلك ليطّلع على أخطائه، ويصلح منها ما يمكن إصلاحه، مثلاً أخطاء في اتخاذ صديق، أو ترك صداقة أو مزاولة مهنة، أو البقاء في مدينة، أو دراسة مادة، أو ترك عمل خير، أو فعل عمل شر، أو عدم إقراض من يستحق، أو الاستدانة ممّن لا ينبغي، أو ما أشبه من الأعمال الكثيرة التي يزاولها الإنسان. وقد ورد في الحديث: «فكرة ساعة خير مِن عبادةِ سنَة»(1). فإن ما ذكرناه من صغريات هذه الكبرى.

وكما يجب أن يحاسب الفرد نفسه كذلك على الدولة وسائر المؤسسات أن تحاسب نفسها، وذلك لا يتم إلّا بالحرية والتعددية وفتح باب النقد البنّاء.

48- التخطيط للمستقبل

يلزم على الإنسان في (أُسبوع المولد الشريف) أن يخطّط لمستقبله، الديني والدنيوي، فإنّ التخطيط يوجب التقدم، والفوضى

ص: 226


1- مصباح الشريعة: 114.

توجب التأخر، فيخطّط لدراسته، وكسبه، ووظيفته، وزواجه، وعائلته، واقتصاده، وأسفاره، وأصدقائه، وأقربائه، ومهنته،ومشاريعه، ومؤسّساته، وتبليغه، وتأليفه وغيرها.

مثلاً: يخطّط لأن يؤلّف كل يوم كذا صفحة، أو يرفع مستواه الإقتصادي إلى الضِّعْف، أو يجعل من أعضاء هيئته - لمشروع من المشاريع - إلى ثلاثة أضعاف، أو ما أشبه ذلك، فقد ورد في وصف الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام): إنه كان بعيد المدى(1).

كما يلزم على الدولة الإسلامية أيضاً أن تخطّط للمستقبل.

49- تقوية التنظيم

من الضروري على المسلمين أن ينظّموا أمور الشباب والشابات، فقد قال أمير المؤمنين(علیه السلام): «ونظم أمركم»(2).

وقد تقدّم الغرب علينا بنظم أمرهم في شؤونهم، والتي منها تنظيم الطاقة الشابة فيهم، ولذا نشاهد أن الحزب الشيوعي في الغرب ليس بشيء يذكر، حيث أنّ التنظيمات الرأسمالية لا تدع مجالاً للشيوعيين، وإنما بلاد الإسلام لا تنظيم لشبابهم على الطراز الإسلامي حتى تنبّههم إلى مخاطر الأحزاب الكافرة الشرقية أو الغربية.

ص: 227


1- شرح الأخبار 2: 391.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47، من وصية له(علیه السلام) للحسن والحسين‘ لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه.

ففي (أُسبوع المولد الشريف) يلزم تأسيس التنظيم إذا لميكن تنظيم في البلد، وتقوية التنظيم وتعاهده من جديد إذا كان تنظيم، وقد قال سبحانه: {مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡزُونٖ}(1).

50- تقوية المعاش

ورد: مَنْ لا معاشَ لَه لا معادَ لَه.

واللازم على المسلم في (أُسبوع المولد الشريف) أن يقوّي خصوصيات معاشه، وإن كان أيام عطلة، إذ لا منافاة بين الأمرين.

وقد قال سبحانه: {وَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ}(2). وكلّما تحقّق الاكتفاء الذاتي للمسلمين تمكّنوا من التقدم في الدين والدنيا أكثر.

51- نشر الفضيلة

ينبغي للمسلمين في (أُسبوع المولد الشريف) محاولة شيء جديد من الفضيلة في مختلف أبعاد الاجتماع، فإنّ على الفضيلة تُبْنى الاجتماعات، وكلّما قويت الفضيلة قويَ الاجتماع، قال الشاعر:

أقبل على النفس واستكمل فضائلها

فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان(3)

ص: 228


1- سورة الحجر، الآية: 19.
2- سورة البقرة، الآية: 201.
3- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 14: 232.

والاجتماع الإسلامي بُنِي على الفضيلة.وقد قال سبحانه: {إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ}(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «إنّما بُعِثْتُ لأُتّمم مكارِم الأخلاق»(2).

وكلّما ترسّخت التقوى والأخلاق كان الاجتماع أكثر تأهلاً للتقدم، ولذا قال تعالى: {فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ}(3).

ويقول الشاعر:

وإنّما

الأ ُمم الأخلاق ما بقيت

فإن

هُمُ ذهبت أخلاقهم، ذهبوا(4)

52- الإمام الصادق(علیه السلام)

يصادف السابع عشر من ربيع الأوّل ذكرى أخرى تهمّ كافة المسلمين، وهي ميلاد سبط الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) الإمام الصادق(علیه السلام).

فهو الإمام السادس عند شيعة أهل البيت(علیهم السلام) وأما عند السنة فله مكانة سامية جداً، إذ هو أستاذ النعمان بن ثابت (أبيحنيفة) وكثير من علمائهم، وقد روى عن الصادق(علیه السلام) أئمّة أهل السنة الأربعة:

ص: 229


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- بحار الأنوار 16: 210.
3- سورة التغابن، الآية: 16.
4- أضواء البيان 8: 248.

مالك بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة.

وقال في حقه(علیه السلام) مالك بن أنس: ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلاً وعلماً وعبادةً وورعاً(1).

لذلك من الجدير أن يحتفل الجميع بهذه المناسبة العطرة أيضا، وأن تكتب الكتب والمقالات التي تحدّث عن جوانب حياته العلمية والسياسية والاجتماعية وغيرها.

وقد قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «إنّي مُخلّفٌ فِيكُم الثّقلين: كتاب اللّه وعِتْرتي أهلَ بَيْتِي، وإنهما لنْ يفترقا حتى يردا عليّ الحوْض»(2).

وأخيراً

هذه جملة من البنود التي ينبغي للإنسان أن يهتم لها في (أُسبوع المولد الشريف) ليجدّد حياته، ويتقدم الاجتماع بذلك إلى الأمام، فقد ورد: «مَن اعتدل يَوْماه فَهُوَ مَغْبون»(3).والمؤسف أنّ المسلمين تأخّروا بعد أن كانوا سادة، وأصبحوا لا يملكون من أمرهم شيئاً، بل صار غيرهم سادتهم، وبذلك خسر كثير منهم الدنيا والآخرة.

ص: 230


1- مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 3: 372.
2- معاني الأخبار: 91.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 382.

وفي الحديث الشريف: «مَنْ كان يومه شَراً مِن أمسِه فَهُوَ ملْعُون»(1).

ولا يمكن علاج الوضع، إلّا بما قال سبحانه: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ}(2).

وليس تغيير (ما بالنفس) سهلاً، بل يحتاج إلى أتعاب كثيرة، في مختلف الأبعاد، خاصة إذا كان الإنسان وحده في الميدان، وأما في الميدان أعداء الإسلام من كل جانب وصوب، في الداخل والخارج، وهم مزوّدون بأدق التخطيطات الهدّامة، ولهم القوى الهائلة، والمادة التي لا تنضب، فعمل التغيير صعب جداً.

ولذا يلزم على المسلم أن لا يغتر - كما يراه الإنسان كثيراً في البعض، حيث يغترون، فيسقطهم غرورهم إلى أسفل سافلين - كما يجب عليه أن لا يكسل، وأن لا ييأس، وأن لا يضجر، حتى يأذن اللّه بقيام الإسلام من جديد، وما ذلك على اللّه بعزيز...

ثم إن ما ذكرناه في هذا الكتاب (أُسبوع المولد الشريف) هيخطط بدائية، واللازم على العاملين الواعين أن يمدّوها بأفكارهم، ويوسّعوها، ويعمّقوها، وأن يجعلوا الإطارات المناسبة لكل ذلك، حتى تصلح للتطبيق، والمسؤول عنه سبحانه أن يجعل هذا الكتاب

ص: 231


1- إرشاد القلوب 1: 73 من وصية لقمان لابنه.
2- سورة الرعد، الآية: 11.

لبنة في بناء صرح الإسلام، وهو الموفق والمستعان.

سبحان ربّك رب العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

كربلاء المقدسة - الكويت

17 ربيع الأول 1395ه

محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي

ص: 232

فهرس المصادر

1. القرآن الكريم.

2. الآحاد والمثاني، ابن أبي عاصم الضحاك، ت 287ه ق، دار الدرايه،الرياض، 1411ه ق.

3. الإحتجاج، الشيخ أحمد بن علي الطبرسي، ت 588ه ق، نشر مرتضى، مشهد المقدس، 1403ه ق.

4. أدب الرحلات (رحلة ابن بطوطة)، ابن بطوطة، ت 779ه ق، دار التراث، بيروت، 1388ه ق.

5. إرشاد القلوب، حسن بن محمد الديلمي، ت 841ه ق، الشريف الرضي، قم المقدسة، 1412ه ق.

6. الإرشاد، الشيخ المفيد، ت 413ه ق، مؤسسة آل البيت(علیهم السلام)، مؤتمر ألفية الشيخ المفيد، قم المقدسة، 1413ه ق.

7. الإستيعاب، ابن عبد البر، ت 463ه ق، دار الجيل، بيروت، 1412ه ق.

8. الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت852ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415ه ق.

ص: 233

9. أضواء البيان، الشنقيطي، ت 1393ه ق، دار الفكر، بيروت، 1415ه ق.

10. إعلام الورى بأعلام الهدى، فضل بن الحسن الطبرسي، ت 548ه ق، الإسلامية، طهران، 1390ه ق.

11. الإكتفاء، سليمان بن موسى الكلاعي، ت 634ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1420ه ق.

12. الأمالي للشيخ الصدوق، ت 381ه ق، كتابجي، طهران، 1376ه ش.

13. الأمالي، الشيخ الطوسي، ت 460ه ق، دار الثقافة، قم المقدسة، 1414ه ق.

14. إمتاع الأسماع، أحمد بن علي المقريزي، ت 845ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1420ه ق.

15. أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى البلاذري، ت 279ه ق، معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالاشتراك مع دار المعارف بمصر، 1959م.

16. إيمان أبي طالب(علیه السلام)، فخار بن معد الموسوي، ت 630ه ق، دار سيد الشهداء(علیه1. السلام)، قم المقدسة، 1410ه ق.

17. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ت 1110ه ق، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1403ه ق.

ص: 234

18. البداية والنهاية، إسماعيل بن كثير، ت 774ه ق، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1408ه ق.

19. بناء المقالة الفاطمية، السيد أحمد بن موسى بن طاووس، ت 673ه ق، مؤسسة آل البيت(علیهم السلام)، قم المقدسة، 1411ه ق.

20. تاريخ الطبري، محمد بن جرير الطبري، ت 310ه ق، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.

21. تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب (اليعقوبي)، ت 284ه ق، دار صادر، بيروت.

22. تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ت 571ه ق، دار الفكر، 1415ه ق.

23. تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف، محمد بن أحمد المكي الحنفي، ت 854ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1418ه ق.

24. التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة، شمس الدين السخاوي، ت 902ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت،1. 1414ه ق.

25. تذكرة الخواص، سبط بن الجوزي، ت 654ه ق، منشورات الشريف الرضي، قم المقدسة، 1418ه ق.

26. تفسير الثعلبي (الكشف والبيان عن تفسير القرآن)، الثعلبي، ت427ه ق، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1422ه ق.

ص: 235

27. تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي، ت 320ه ق، المطبعة العلمية، طهران، 1380ه ق.

28. تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، إسماعيل بن كثير، ت 774ه ق، دار المعرفة، بيروت، 1412ه ق.

29. التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(علیه السلام)، مدرسة الإمام المهدي ، قم المقدسة، 1409ه ق.

30. تفسير كنز الدقائق، محمد بن محمد رضا القمي المشهدي، ت حدود 1125ه ق، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامية، طهران، 1368ه ش.

31. تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام)، ورّام بن أبي فراس، ت 605ه ق، مكتبة الفقيه، قم المقدسة، 1410ه1. ق.

32. تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ت 460ه ق، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1407ه ق.

33. التوحيد، الشيخ الصدوق، ت 381ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1398ه ق.

34. ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق، ت 381 ه ق، دار الشريف الرضي، قم المقدسة، 1406ه ق.

35. الخصال، الشيخ الصدوق، ت 381ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1362ه ش.

ص: 236

36. خصائص أمير المؤمنين(علیه السلام)، أحمد بن شعيب النسائي، ت 303ه ق، مكتبة نينوى الحدثية، طهران.

37. الدر النظيم، يوسف بن حاتم الشامي، ت القرن 7ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1420ه ق.

38. دعائم الإسلام،نعمان بن محمّد المغربي (ابن حيّون)، ت 363ه ق، مؤسسة آل البيت(علیهم السلام)، قم المقدسة، 1385ه ق.

39. ذخائر العقبى، أحمد بن عبد اللّه الطبري، ت 694ه ق، مكتبة القدسي،القاهرة، 1356ه ق.

40. روضة الواعظين، ابن فتّال النيسابوري، ت 508ه ق، انتشارات الرضي، قم المقدسة، 1375ه ق.

41. سبل الهدى والرشاد، الصالحي الشامي، ت 942ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1414ه ق.

42. سفينة البحار، الشيخ عباس القمي، ت 1359ه ق، دار الأسوة، قم المقدسة، 1414ه ق.

43. السير ة النبوية، إسماعيل بن كثير، ت 747ه ق، دار المعرفة، بيروت، 1396ه ق.

44. السيرة الحلبية، علي بن برهان الحلبي، ت1044ه ق، دار المعرفة، بيروت، 1400ه ق.

45. السيرة النبوية، ابن هشام الحميري، ت 218ه ق، مكتبة

ص: 237

محمد علي صبيح وأولاده، مصر، 1383ه ق.

46. شرح إحقاق الحق، السيد شهاب الدين المرعشي النجفي، ت 1411ه ق، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1409ه ق.

47. شرح الأخبار، النعمان بن محمد المغربي، ت 363ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1409ه ق.

48. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي، ت 656ه ق، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1404ه ق.

49. الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، ت 230ه ق، دار صادر، بيروت.

50. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف،السيد ابن طاووس، ت 664ه ق، خيام، قم المقدسة، 1400ه ق.

51. العدد القوية، علي بن يوسف المطهر الحلي، ت حدود 705ه ق، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1408ه ق.

52. علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ت 381ه ق، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1385ه ق.

53. عيون أخبار الرضا(علیه السلام)، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، نشر جهان، طهران، 1378ه ق.

ص: 238

54. عيون الأثر، ابن سيد الناس، ت 734ه ق، مؤسسة عزّ الدين للطباعة والنشر، بيروت، 1406ه ق.

55. الغدير، الشيخ عبد الحسين الأميني، ت1392ه ق، دار الكتاب العربي، بيروت، 1387ه ق.

56. فرج المهموم، السيد ابن طاووس، ت 664ه ق، دار1. الذخائر، قم المقدسة، 1368ه ق.

57. الفصول المختارة، الشيخ المفيد، ت 413ه ق، مؤتمر ألفية الشيخ المفيد، قم المقدسة، 1413ه ق.

58. الفضائل، ابن شاذان القمي، ت حدود 600ه ق، منشورات الرضي، قم المقدسة، 1363ه ش.

59. الفقه، السيد محمد الشيرازي، ت 1422ه ق، دار العلوم، بيروت، 1410ه ق.

60. الكافي، الشيخ الكليني، ت 329ه ق، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1407ه ق.

61. كامل الزيارات،ابن قولويه، ت 367ه ق، دار المرتضوية، النجف الأشرف، 1356ه ش.

62. الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ت 630ه ق، دار صادر - دار بيروت، 1386ه ق.

63. كشف الغمة، علي بن عيسى الإربلي، ت 692ه ق، بني

ص: 239

هاشمي، تبريز، 1381ه ق.

64. كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ت 381ه ق، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1395ه ق.

65. المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، ت 405ه ق، دار المعرفة، بيروت.

66. مصباح الشريعة، المنسوب إلى الإمام الصادق(علیه السلام)، أعلمي، بيروت، 1400ه ق.

67. مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي، ت 460ه ق، مؤسسة فقه الشيعة، بيروت، 1411ه ق.

68. المصنف، ابن أبي شيبة الكوفي، ت 235ه ق، دار الفكر، بيروت، 1409ه ق.

69. معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، ت 381ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1403ه ق.

70. المغازي، محمد بن عمر الواقدي، ت 207ه ق، نشر دانش إسلامي، 1405ه ق.

71. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ت 381ه ق، جامعة المدرسين،قم المقدسة، 1413ه ق.

72. مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) ابن شهر آشوب المازندراني، ت588ه ق، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1376ه ق.

ص: 240

73. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، عبد الرحمن بن علي (ابن الجوزي)، ت 597ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1412ه ق.

74. منية المريد، الشهيد الثاني، ت 966ه ق، مكتب الإعلام1. الإسلامي، قم المقدسة، 1409ه ق.

75. النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، ت 606ه ق، إسماعيليان، قم المقدسة، 1367ه ش.

76. نهج البلاغة، جَمَعه: الشريف الرضي، ت 406ه ق، تحقيق: صبحي صالح، هجرت، قم المقدسة، 1414ه ق.

77. نور الأبصار، مؤمن بن حسن الشبلنجي، ت 1308ه ق، الشريف الرضي، قم المقدسة.

78. وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ت 1104ه ق، مؤسسة آل البيت(علیهم السلام)، قم المقدسة، 1409ه ق.

79. ينابيع المودة، سليمان بن إبراهيم الحنفي القندوزي، ت 1294ه ق، دار الأسوة، قم المقدسة، 1416ه ق.

ص: 241

ص: 242

فهرس المحتويات

باقة عطرة في أحوال خاتم النبيين(صلی الله علیه و آله)

المقدمة..... 7

نسب النبي (صلی الله علیه و آله).... 8

الزواج المبارك.... 10

مولد النور.... 12

إرهاصات الولادة....... 14

نهاية الامبراطورية الفارسية....... 18

أسماء رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)..... 20

دور الرضاعة....... 21

أيّام الفطام... 23

عبد المطلب...... 24

مع الديراني........ 25

إيمان والد النبي(صلی الله علیه و آله)...... 26

ص: 243

النبي(صلی الله علیه و آله) في كفالة عمّه........ 27

في طريق الشام... 28

حرب الفِجَار...... 30

حلف الفضول..... 31

النبي(صلی الله علیه و آله) ورعي الأغنام... 33

النبي(صلی الله علیه و آله) والتجارة... 34

اقتران النورين..... 35

إبراهيم، ابن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).... 38

الحجر الأسود وحَكَمية الرسول(صلی الله علیه و آله)...... 41

إرهاصات النبوة... 43

النبي(صلی الله علیه و آله) في الكتب السابقة... 44

خاتم الأنبياء...... 45

مبعث رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)..... 48

النبي(صلی الله علیه و آله) على يقين من رسالته...... 51

أول من آمن باللّه وصدّق برسوله(صلی الله علیه و آله)..... 52

ربيب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)...... 53

أفضل السابقين... 57

ص: 244

الصديق والفاروق...... 60

الإنذار العام....... 60

أبوطالب(علیه السلام) وموقفه من النبي(صلی الله علیه و آله) 63

مراوغة قريش...... 65

رؤوس قريش يتأمرون........ 69

الوليد يخطط...... 70

التعذيب دأب الجاهليين.... 71

عمّار بن ياسر..... 72

الخباب بن الأرت...... 74

صهيب بن سنان........ 74

عامر بن فهيرة...... 74

أبو فكيهة..... 75

لبينة.... 75

زِنّيرَة.... 75

النهدية....... 75

أُمّ عبيس..... 75

المستهزئون....... 76

إسلام حمزة بن عبد المطّلب..... 82

ص: 245

أوّل من جهر بالقرآن من المسلمين.... 85

الهجرة إلى الحبشة..... 87

الكفار ومقاطعتهم للنبي(صلی الله علیه و آله) والمسلمين 93

أبو طالب وخديجة‘ يودّعان الحياة...... 101

نصارى نجران يسلمون..... 103

خروج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى الطائف...... 104

النبي(صلی الله علیه و آله) يعرض الإسلام على القبائل. 108

قصة الإسراء والمعراج...... 112

بيعة العقبة........ 117

الهجرة إلى المدينة... 123

ليلة المبيت...... 127

في طريق الهجرة...... 130

ووقع في طريق الهجرة عجائب....... 133

المدينة في استقبال النبي (صلی الله علیه و آله)..... 137

أوّل خطبة في أوّل جمعة.... 141

خطبةأخرى لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله)....... 143

إنها مأمورة....... 144

ص: 246

الرسول(صلی الله علیه و آله) في دار أبي أيّوب....... 146

مسجد الرسول(صلی الله علیه و آله)...... 147

من حوادث سنة الهجرة.... 148

النبي(صلی الله علیه و آله) يؤاخي بين أصحابه...... 150

حال اليهود مع الرسول(صلی الله علیه و آله)........ 154

معاهدة صلح.... 155

الأذان للصلاة... 161

عداء اليهود والمنافقين..... 162

اليهود وإثارة الفتن.... 164

اليهود يسألون تعنّتاً... 166

موسى(علیه السلام) وآياته التسع....... 167

القرآن يكشف نوايا اليهود والمنافقين..... 169

اليهود والدعايات التضليلية..... 173

اليهود والنصارى يتنازعون...... 174

التنازع في إبراهيم(علیه السلام)........ 175

من مكائد اليهود...... 177

القرآن يحذّر المسلمين.... 177

ص: 247

في بيت مدراس....... 178

ادّعاءات فارغة........ 179

مؤامرة جديدة.... 180

مغالطات وتحّججات...... 181

قصة تحويل القبلة.... 186

فرض الصوم والفطرة....... 188

منبر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)...... 189

المدينة المنورة... 191

الخاتمة... 192

أُسبوع المولد الشريف

المقدمة........ 195

1- تنظيف الجسد.... 199

2- تنظيف الأهل.... 199

3- تنظيف كافة الأماكن... 200

4- الملابس الجديدة...... 200

5- السنة الجديدة.... 201

6- العطلة الرسميّة........ 202

ص: 248

7- المؤسّسات والشركات....... 202

8- الاحتفالات...... 203

9- الزينة...... 203

10- المناشير والكتب..... 204

11- طعام السَنة وحوائجها....... 205

12- التخفيضات.... 205

13- الحقوق الشرعية...... 206

14- الحلويات والأطعمة........ 206

15- الأصوات....... 207

16- التعاطف....... 207

17- الإحسان........ 208

18- الأفلام والمسارح.... 208

19- الزواج.... 209

20- الاختتان........ 210

21- الزيارات والإصلاح... 210

22- تقليل المنكرات....... 211

23- الأسفار.... 211

24- الصحف....... 212

ص: 249

25- رسائل التهنئة... 212

26- الإذاعة والتلفزيون.... 213

27- طابع العيد...... 213

28- طوابع البريد.... 214

29- الاجتماعات.... 214

30- المناظرات...... 215

31- المباريات والمسابقات...... 216

32- الأبنية والمؤسّسات... 216

33- فتح المشاريع........ 217

34- وسائل الترفيه... 217

35- الديوانيات...... 218

36- طبع البرامج.... 219

37- الكشّافات...... 219

38- النساء.... 220

39- استعراض الجيش.... 221

40- المظاهرات السلمية........ 221

41- تكثير الزرع..... 222

42- الوظائف....... 223

ص: 250

43- حملات تبشيرية..... 223

44- المراكز الدينية........ 224

45- أداء الدين...... 224

46- المسابقات..... 225

47- محاسبة الماضي..... 226

48- التخطيط للمستقبل........ 226

49- تقوية التنظيم... 227

50- تقوية المعاش........ 228

51- نشر الفضيلة.... 228

52- الإمام الصادق(علیه السلام)....... 229

وأخيراً.... 230

فهرس المصادر...... 233

فهرس المحتويات... 243

ص: 251

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.