مقاصد الشريعة ومقاصد المقاصد

هوية الكتاب

حقوقه الطّبع محفوظة

الطّبعة الأولي

1438 ه- - 2017 م

منشورات:

مؤسسة التقى الثقافية

النجف الأشرف

7810001902 00964

m-alshirazi.com

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ

ص: 2

دروس في التفسير والتدبر

6

مقاصد الشريعة

ومقاصد المقاصد

الرحمة واللين انموذجاً

محاضرات

السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

ص: 3

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ

الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَلَمِينَ

الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

مَلِكِ يَومِ الدِّينِ

إِيَّاكَ نَعبُدُ وَإِيَّاكَ نَستَعِينُ

اهدِنَا الصِّرَطَ المُستَقِيمَ

صِرَطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِم وَلَا الضَّالين

ص: 4

اَللهمَّ کُن لولیَّک الحُجةِ بنِ الحَسَنِ صَلَواتُکَ عَلَیهِ وَ عَلی ابائهِ فی هذهِ السّاعةِ، وَ فی کُلّ ساعَة وَلیّا وَ حافظاً وقائِداً وَ ناصِراً وَ دَلیلاً وَ عَیناً حَتّی تُسکِنَهُ اَرضَکَ طَوعاً وَ تُمَتّعَهُ فیها طَویلاً

ص: 5

ص: 6

كلمة مؤسسة التقى الثقافية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.

بين يدي القارئ الكريم سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم تتناول بالدراسة (مقاصد الشريعة ومقاصد المقاصد) والتي تتطرق للبحث عن أهم مقاصد الشريعة وهي: (اللين والعفو والمغفرة والاستشارة)، وبعض أهم مقاصد المقاصد وهي ( الرحمة)، والتي انطلق فيها سماحة السيد من قوله تبارك تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ»(1)، ليبحث عن ذلك ضمن فصلين؛ فصل عقد للبصائر العامة التي من الممكن استلهامها من الآية الشريفة المباركة ، وفصل ثانٍ لخصوص مبحث المقاصد، وقد تم التطرق في الفصل الثاني بشكل أوسع إلى البحث عن فوائد ونطاق ومجالات المقاصد الشرعية المستكشفة في كل من علم الكلام والفقه والأصول والتقنين وغيرها، مع ذكر نماذج و أمثلة في الكلام والأصول والفقه والقانون وغيرها.

ص: 7


1- سورة آل عمران: 159.

وتجدر الإشارة إلى ما ذكره سماحة السيد في طيات البحث وغيره من: أن بعض ما طرح في الكتاب من الأطروحات والنظريات - خاصة في المسائل الفقهية - ليس إلا مقتضى البحث الصناعي المبدئي، وليس بعنوان التبني بقدر ما هو طرح لفكرة ليتم تداولها بين العلماء والمفكرين و تتم مناقشتها أخذاً ورداً و إشكالاًوايراداً، لتصل إلى الثمرة المتوخاة منها، وتصل إلى مرحلة النضح العلمي والفكري بإذن الله تعالى.

هذا وتشكر مؤسسة التقى الثقافية جميع الأخوة الكرام ممن ساهم في إعداد الكتاب وطباعته وإخراجه في جميع مراحله، سائلين الله عزوجل أن يمنحنا مزيداً من التوفيق و الإنجاز المرضي عنده وعند أوليائه الكرام.

مؤسسة التقى الثفافية

15/ شهر رمضان المبارك / 1438

ذكرى ميلاد سبط النبوة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)

النجف الأشرف

ص: 8

الفصل الأول: بصائر النور في آية الرحمة

اشارة

ص: 9

ص: 10

بصائر النور في آية الرحمة واللين والاستشارية

قال الله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ»(1).

الحديث حول الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله) حديث شيق جذاب وهو إلى ذلك حديث مفتاحي استراتيجي، بل هو حديث مصيري إذ يرتبط به مصير الأمة الإسلامية كلها، بل ترتبط به مصائر كل الأمم بدرجة أو أخرى، على حسب طريقة تعاطيها وتفاعلها أو تعاملها مع الإسلام والمسلمين وعلى حسب كيفية نظرتها إلى الرسول الأعظم محمد (صلي الله عليه وآله).

والحديث عنه (صلي الله عليه وآله) إلى جوار ذلك مترامي الأطراف وعريض الأكناف ولكننا سوف ننطلق في هذه المباحث من منطلق هذه الآية القرآنية الشريفة لنلقي الضوء على بعض محاسن خصاله ومحامد أفعاله ولنتخذها مرشداً وهادياً وسراجاً منيراً في مسالك الحياة الوعرة ودروبها الخطرة ولنستكشف مجموعة من أهم أسس الحياة السعيدة ومن أهم دعائم نهضة الأمم واستقرار البلاد وازدهارها وصولاً إلى دولة (القيم الكبرى) في الإسلام: العدل والحرية والإيمان والرحمة والرفاه والسلام والإحسان والعفو والمغفرة والمشورة.

ص: 11


1- سورة آل عمران: 159.

بصائر النور في آية اللين والاستشارة

هذه الآية الكريمة تحتضن مجموعة من بصائر النور التي يمكن استلهامها منها بالتدبر والتفكر والاستنطاق العلمي المتأملالواعي، كما يمكن استنباط العديد من الحِكَم والأحكام والقواعد والدروس منها، كما أنها تشكل أساساً من أهم أسس الحكم الرشيد وترشد إلى دعامة من أهم دعائم تقوية النسيج الاجتماعي واستحكامه.

البصيرة الأولى: الاستشارية فرع من فروع الرحمة الإلهية

البصيرة الأولى: إن قول الله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ» الذي اعتبرناه هو المدخل للمبحث، هو الذي يؤسس له الله سبحانه وتعالى لإقرار نظام الاستشارية وصولاً إلى الشورية في قوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»(1).

إن قوله سبحانه «فَبِمَا رَحْمَةٍ» هو الأساس الأول وهو المصدر للأحكام الثلاثة الآتية، وهو نفسه الهدف والغرض والغاية من الخلقة؛ إذ قال تعالى: «وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ»(2)

حسب الظاهر من أن المراد هو: إن الغاية من الخلقة هي الرحمة، بل إن قوله تعالى: «لِيَعْبُدُونِ» تُعلل بالرحمة أيضاً «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(3) فلماذا يعبدون؟! لكي يُرحموا، فالأمر يعود لهم، فهذه (الرحمة) هي علة العلل؛ لأن العبادةَ لا ينالُ اللهُ سبحانه وتعالى منها شيئاً ولا ينتفع بها إنما النفع لنا.

ص: 12


1- سورة الشورى: 38.
2- سورة هود: 118 - 119.
3- سورة الذاريات: 56.

إذاً الرحمة هي العلة والغاية من الخِلقة، وقد اسهبنا الكلام عن بعض جوانب ذلك في (فقه التعاون).

«فَاعْفُ عَنْهُمْ» (الفاء) هنا للتفريع حيث إن رحمة الله سبحانه وتعالى اقتضت أن تلين لهم: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ».

ومن ذلك يظهر: أن استشارة الرسول (صلي الله عليه وآله) ومن ثم القادة على مر التاريخ من الناس، هي فرع من فروع رحمة الله سبحانه وتعالى، وهي مما يحقق الغرض والهدف من الخِلقة الذيهو الرحمة الإلهية وانبساطها وشمولها وعمومها وتماميتها هذه، ولذا جاء في الحديث «الْمَشُورَةَ مُبَارَكَةٌ»(1)، «مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ وَمَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا»(2) و«الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ وَقَدْ خَاطَرَ مَنِ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ»(3) و«مَنْ شَاوَرَ ذَوِي الْأَلْبَابِ دُلَّ عَلَى الصَّوَابِ»(4).

البصيرة الثانية:

اشارة

موقع (ما) في «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ» وروعة ابهام المعنى ومحركيتها للتفكير

البصيرة الثانية: تدور حول موقع (ما) في الآية الشريفة وهذه البصيرة تفتح الباب على مصراعيه للتأمل والتدبر واستنطاق الآيات القرآنية الشريفة ففي قوله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ» يجب أن نتدبر في موقع (ما)؛ إذ حسب القاعدة يجب أن يقال: فبرحمة من الله، كما نجد في آية أخرى في الاتجاه المقابل قوله تعالى «فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ»(5) والقاعدة أن يقال: فبنقضهم

ص: 13


1- وسائل الشيعة: ج12 ص45.
2- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الحكمة: 161.
3- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الحكمة: 211.
4- الإرشاد: ج1 ص300.
5- سورة المائدة: 13.

ميثاقهم، فما هو موقع (ما)؟

المعروف نحوياً أن (ما) زائدة، لكن هنا كلام آخر نؤسس له في هذا البحث، وهو السر الكامن وراء إضافة (ما) وليس زيادة (ما) حسب المصطلح النحوي.

وخلاصة الامر: ان الابهام الذي يلف (ما)، يزيد الآية جمالاً، وذلك لما للابهام من جمال واخاذية وجاذبية تدعو الى مزيد من اعمال العقل والفكر، مضافاً الى تضمنه عنصر المفاجأة.

وقبل بيان ذلك والتدليل عليه وذكر شواهد له من عالم التكوين والتشريع، نتطرق الى ما ذكره النحاة من اقسام ومعاني ل-(ما).

أقسام (ما) الاسمية والحرفية

وفي تحقيق ذلك نقول: إن من المعروف أن (ما) على أقسام؛ فتارة تكون (ما) اسمية، وتارة تكون حرفية.

الأقسام الأربع ل-(ما) الاسمية

و(ما) الأسمية بدورها على أقسام:

القسم الأول: أن تكون (ما) موصولة، كقوله تعالى: «مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ»(1)

فهذه (ما) اسمية موصولة.

القسم الثاني: أن تكون (ما) اسمية موصوفة وهي التي تفسر ب-:أي شيء، وتوصف به، مثل قوله تعالى: «مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ»(2) فهي ليست موصولة إذ ليست بمعنى الذي يفعل الله، وإنما هي موصوفة إسمية يعني:

ص: 14


1- سورة النحل: 96.
2- سورة النساء: 147.

أي شيء يفعل الله بعذابكم إن شكرت.

القسم الثالث: أن تكون (ما) إسمية استفهامية، كقوله تعالى: «وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى»(1) .

القسم الرابع: أن تكون (ما) إسمية شرطية، ومثلوا له بقوله تعالى: «وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ»(2).

وبذلك وبما سيأتي نجد أن القرآن الكريم يكثر من استعمال (ما) على اختلاف معانيها المتشتتة في القرآن الكريم وذلك يستدعي تفكيراً وتأملاً وبصيرة كي نكتشف ما هو معنى (ما) بالضبط.

الأقسام الأربع ل-(ما) الحرفية

وأما (ما) الحرفية فهي على أقسام أيضاً:

القسم الأول: أن تكون (ما) المصدرية، مثل قوله تعالى: «عَزِيزٌعَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ»(3)

والمفروض أن يقال (عَنَتُكُم) أي: المشقة التي تقعون فيها، فان (العنت) هو أشد أنواع المشقة وأعلى درجاتها أو المرتبة الشديدة منها «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ...»(4)

وفي قراءة من أنفَسِكمُ لكن القراءة المشهور هي «من أنفُسِكُم» فلماذا لم يقل الله تعالى: (عزيز عليه عنتكم)، لماذا أتى ب-(ما)؟

القسم الثاني: (ما) النافية كقوله تعالى: «وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ

ص: 15


1- سورة طه: 17.
2- سورة البقرة: 197.
3- سورة التوبة: 128.
4- سورة التوبة: 128.

اللَّهِ»(1)

أي لا تنقفون إلا ابتغاء وجه الله.

القسم الثالث: أن تكون زائدة، ولقد فسر البعض (ما) في الآية الشريفة «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ» ب-(ما) الزائدة، بل إن الكثير من المفسرين قالوا ذلك، فلا هي إسمية موصولة ولا موصوفة ولا استفهامية ولا شرطية ولا هي حرفية نافية ولا مصدرية ولا غير ذلك، وإنما هي حرفية زائدة، وغاية ما فسروا الزائدة ب-: أنها قد جيء بها لتأكيد المعنى.

القسم الرابع: (ما) الكافة كقوله تعالى: «إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ»(2)

أي: تكفّ (إنّ) وغيرها عن عملها في النصب أو الجر أو ما أشبه، فإنه إذا لم تكن (ما) تأتي هنا لكان يقال (ان الله) بفتح لفظ الجلالة، مع أن مقتضى القاعدة الرفع الظاهري أيضاً فلذا قال: «إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ».

والحاصل: إن مقام الوحدانية والقهارية يقتضي الرفع الظاهري مطابقاً لمرتبة الثبوت الواقعي، وهذه نكتة أدبية رائعة، وذلك يشكل انموذجاً من مظاهر روعة اللغة العربية وجمالها.

ولقد أكثر القرآن الكريم من استخدام مفردة (ما) كما لاحظنا ذلك في الأمثلة التي سردناها، والأمثلة القرآنية على ذلك كثيرة وهي تتوزع على أنواع (ما) الاسمية والحرفية.

الخلاف في موقع (ما) في الآيات والمراد منها

وهناك في العديد من الآيات الشريفة بحث في موقع (ما) من الآية الكريمة وأنه ما هو المراد منها؟ فمثلاً في قوله تعالى: «فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ»(3)

يجري السؤال أنه

ص: 16


1- سورة البقرة: 272.
2- سورة النساء: 171.
3- سورة البقرة: 88.

لماذا جاء الله ب-(ما) في وسط الآية تماماً: «فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ» وسنبحث ههنا عن الإجابة العامة ثم نطبق ذلك على بعض الآيات وصولاً لآيتنا الشريفة:

روعة الإبهام وجمال الإجمال

وصفوة القول هو إن الإبهام له:

أولاً: روعة وجمال واخاذية.

ثانياً: إن الإبهام والإجمال مما يستدعي حركة الفكر ويفسح المجال لعملية الاستنباط والتكامل الفكري، فإنه إذا كانت العبارات كلها سطحية أو واضحة فما الفرق إذاً بين كلام الله وأي كلام آخر؟! بل إن هذا يعدّ من أعمدة الإعجاز القرآني، وتوضيحه:

أنواع الجمال وأقسامه

إن الجمال على أقسام:

القسم الأول: أن يكون جمال الشيء ظاهراً بأكمله، وهذا نوع جمال.

القسم الثاني: أن يكون جماله باطناً ومستتراً بأكمله، وهذا نوع جمال آخر، وذلك كجمال أعماق البحار والشُعب المرجانية فيها مثلاً.

القسم الثالث: أن يكون جماله ظاهراً كأجمل ما يكون الجمال الظاهر، ومستتراً كأجمل ما يكون الجمال المستتر فهو ظاهر - باطن وهو باطن - ظاهر، وهو ظاهر - خفي كما هو خفي - ظاهر بل هو ظاهر في خفائه وخفي في ظهوره، وهذا النوع المزيج من الجمال هو الأعذب الأروع الأشهى والأغرب وذلك من أنواع السهل الممتنع.

ولنضرب لذلك مثلاً من القرآن الكريم، قوله تعالى: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»

ص: 17

فإنها عبارة في غاية الوضوح والسلاسة وهي التيتوصل الرسالة والمقصود بأوضح وأقصر عبارة، لكنها في الوقت نفسه غاية في العمق والدقة؛ كونها تختزن بحاراً من المعارف، ويكفي أن نشير إلى أن «أحَدٌ» التي استعملت بدل (واحد) تتضمن أكثر من اثني عشر معنىً هاماً قد أشارت إليها بعض الروايات، وقد فصلنا الحديث عنها في (بحوث في العقيدة والسلوك).

منهجية دمج العمق بالسطح وجمع الظاهر بالباطن

اشارة

وعلى هذا المنهج الغريب من المزج بين العمق والسطح والظاهر والباطن والوضوح والخفاء وسهولة التناول وصعوبته والقوة والضعف، بنى الله تعالى عالم التكوين وعالم التشريع بأكمله، - على درجات في كل ذلك -:

1- جمالية التأليف من محكم ومتشابه

فالقرآن الكريم بُني على المحكم والمتشابه، ولو كان محكماً كله لكان رائعاً، ولو كان متشابهاً كله لكان رائعاً أيضاً، لكنه إذ جمع بين المتشابه والمحكم كان أكثر من الرائع وأغرب من الغريب، ومن روعته فرز المحكم عن المتشابه في نفس الوقت الذي كانا فيه متمازجين ومزجهما في عين حال فرزهما، ومن روعته أيضاً النسبة المذهلة والمعادلة الأغرب التي تتحكم في كمية وكيفية المحكمات والمتشابهات.

2- التركيبة الفريدة لبعض الأدوية

ومما يوضح ذلك المثال الآتي من عالم التكوين فإن سر بعض الأدوية يكمن في (الخلطة) الخاصة والعناصر المتنوعة التي يتكون منها ذلك الدواء، بل وأكثر من ذلك يكمن السر في كمية كل عنصر بالقياس إلى سائر العناصر الدوائية

ص: 18

بحيث لو اختلت التركيبة أدنى اختلال لكان للدواء مفعول معاكس أو كان قليل الفائدة أو عديم الفائدة تماماً.

3- ظاهر المخلوقات الساكن وباطنها النشط

ومن عالم التكوين أيضاً نجد أن عظمة الله تعالى تجلت في جمال الظاهر وعمق الباطن في شتى مخلوقاته، فالأشجار والورود والثمار رائعة جميلة وكذلك السحب والنجوم ثم الأنهار والبحار والوديان والجبال وأطياف الحيوانات بتشكيلاتها الفسيفسائية المذهلة، ثم لنتوقف عند الإنسان وجهه وعينيه وبشرته و...، هنا تتجلى لنا عظمة الله تعالى على مستوى المظاهر؛ ثم إذا سبرنا أغوار الباطن انكشفت لنا عوالم مذهلة من الخلايا فالذرات ثم الإلكترون والبروتون والنواة، ثم المعادلة التي تتحكم داخل كل ذرة فالإلكترون يدور مثلاً حول النواة في بعض العناصر ستة وعشرين ألف دورة بالثانية الواحدة!

وذلك كله هو أول درجة من درجات الباطن فكيف إذا وصلنا إلى عوالم الكوانتُم(1) والأمواج الكهرومغناطيسية والأشعة السينية وفوق البنفسجية وغيرها؟

4- الشعاع النوري الرابط بين الآيات غير المترابطة

4- الشعاع النوري الرابط بين الآيات غير المترابطة(2)

مثال آخر: إن ترابط الآيات هو مما يحير الألباب أيضاً، فإن كيفية ترابط الآيات تشكل القمة في الإبداع والتحدي والجذابية أيضاً؛ وذلك لأن الكثير من الآيات تبدو غير مترابطة في ظاهر الأمر، ولذلك عقد أعلام الفكر بحوثاً خاصة

ص: 19


1- الكم في الفيزياء بالإنجليزية: quantumوجمعها quanta: هو مصطلح فيزيائي يستخدم لوصف أصغر كمّية يمكن تقسيم بعض الصفات الطبيعية إليها، مثل الطاقة فهي تنتقل في هيئة كم ، أي وحدات صغيرة لا يوجد أصغر منها.
2- أي غير المترابطة ظاهراً.

لكشف الحبل السري والخيط الخفي أو الشعاع النوري الذي يربط الآيات ببعضها البعض، وقد اكتشفوا جوانب من ذلك بعد أن بذل بعض المفسرين والمفكرين جهوداً رائعة في هذا الحقل وقد أخفق بعضهم في جانب وأفلح بعضهم في جانب آخر.

وهذا المبحث - الشعاع الرابط بين الآيات في حزمة واحدة وفي مجموع السورة وفي منظومة القرآن الكريم بأكمله - بحر لا ساحل لهوهو يكتنز بحاراً من المعارف، وهي ساحة تتحدى الفكر بقوة وتفتح المجال للحراك الفكري المتألق والعميق والمتعدد الأبعاد، أما نحن فكلماتنا مترابطة فلذلك لا تحتاج إلى تفكير ولا تتحدى العقل، أما القرآن الكريم فقد أتى بالمعجز: كلام ظاهره ليس بمترابط لكنه في الوقت نفسه مترابط أشد الترابط.

وهذا هو من جملة ما يجعل القرآن الكريم خالداً أبدياً على مر التاريخ، فإنه من وجوه كونه (لا تنفذ خزائنه) فلقد مزج ظاهره بباطنه والسر بالعلن، وجعل للسر سراً ولسر السر سراً وهكذا، وضمّن بعض ذلك في نسيج سياق الآيات وترابطاتها، ومن هنا فإنه لا تنفذ خزائنه، بل إن ترابط بعض الآيات واضح وترابط بعضها خفي، على أن الظاهر يتضمن أنواعاً أخرى من الربط خفية، وذلك هو قمة الحكمة وقمة العطاء وقمة الروعة أيضاً، فإن للإبهام العلمي روعة الإجمال واخاذيته وله أيضاً عمقه وأغواره وذلك بالضبط هو ما يستدعي التنقيب والتحقيق وتحريك الفكر والاستنباط قال تعالى: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ»(1) و«مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ»(2).

ص: 20


1- سورة النساء: 82.
2- سورة آل عمران: 7.
5 - ولكلمات المعصومين (عليهم السلام) ظاهر ومعاني كثيرة

ولقد سار الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) على هذا المنهج ولذلك قالوا: «أَنْتُمْ أَفْقَهُ النَّاسِ إِذَا عَرَفْتُمْ مَعَانِيَ كَلَامِنَا إِنَّ الْكَلِمَةَ لَتَنْصَرِفُ عَلَى وُجُوهٍ فَلَوْ شَاءَ إِنْسَانٌ لَصَرَفَ كَلَامَهُ كَيْفَ شَاءَ وَ لَا يَكْذِبُ»(1) ولنضرب لذلك مثلاً فقوله (صلي الله عليه وآله): «لَا ضَرَرَ وَ لَا إِضْرَارَ فِي الْإِسْلَامِ»(2) فهل (لا) ناهية؟ أو هي نافية؟ وهل هي نفي الحكم بلسان نفيالموضوع؟ أو غير ذلك؟

وبذلك أيضاً نكتشف السر وراء خلود الدين الإسلامي؛ إذ إنهم عملوا ب«عَلَيْنَا إِلْقَاءُ الْأُصُولِ وَعَلَيْكُمُ التَّفْرِيعُ»(3) ولقد كان من السهل جداً على الله تعالى أن يكشف لنا كل العلوم ويضعها في عقلنا منذ الولادة، فهل توجد مشكلة في ذلك؟ هل هناك محذور ذاتي في أن يودع جل اسمه كل علوم الفيزياء والكيمياء والذرة والطاقة والطب والفلسفة والهندسة في أذهاننا؟ كلا لا مشكلة. ولكن الدنيا هي دنيا الامتحان والتكامل ولا يمكن أي منهما لو أعطانا الله كل شيء دفعة واحدة، إن حكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت أن تمشي في هذه الغابة وأن تحقق بنفسك وتنقب وتدقق وتستخدم قواعد الاركيولوجيا وغيرها.

والحاصل: إن عليك أنت أن تقوم بالتفريع والاستنباط والاكتشاف وهكذا وهلم جرا.

الروعة كل الروعة في عنصر المفاجأة

إن الروعة تكمن فيما تكمن في عنصر المفاجأة ولا تكون مفاجأة إذا كنت

ص: 21


1- وسائل الشيعة: ج27 ص117.
2- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص334.
3- وسائل الشيعة: ج27 ص62.

محيطاً بكل العلوم، ولسوف تفقد الحياة حينئذٍ روعتها واثارتها وتكون روتينية تماماً، والتدبر في المثال الآتي يكشف لنا ذلك بوضوح:

إن من الاساليب في إنجاح الخطابة والتسبب في ايلاء المستعمين لها مزيداً من الاهتمام هو بدء الكلام والحديث والخطابة ببداية غير متوقعة، أو ببداية لا يتوقع المستعمون ماذا يريد الخطيب أن يستنتج منها؟ فهنا يكمن عنصر المفاجأة، ولكن في الاتجاه المقابل يجب ألا يكون المنهج من أوله إلى آخره، منهج المفاجات لأنه بذلك تسقط روعة المفاجأة إضافة إلى أنه يثير توتراً دائماً في الأعصاب، إنما الرائع أن يكون كلامه مزيجاً فريداً من التسلسل الطبيعي بمقدماته المنطقية التي تنتهي إلى نتائج طبيعية، ثم فجأة يكشف لك وجهاً آخر لا تعرفه أو لا تعرف إلى أين يؤدي.وكذلك الألغاز؛ فإن روعة اللغز في كونه لغزاً، ولكن لا يصح أن تتحول الحياة كلها إلى لغز، أو أن يكون كلام الخطيب أو المعلم كله لغزاً، لكنه إذا مزج هذا بذلك في تناسق أخّاذ فهنا تكمن الروعة والعبقرية والنبوغ.

الهدية مثالاً

بل نجد في الأمثلة العرفية شاهداً على ذلك أيضاً، وذلك في الهدية التي يقدمها الناس لآبائهم أو أمهاتهم أو لأقربائهم في الأعياد الشرعية كعيد الغدير مثلاً؛ فإن لعامل المفاجأة وقعاً محبباً في الأنفس فإنها تستثير فيها حس الحبور والسرور بشكل استثنائي، ولكن ومن جهة أخرى فإن من الرائع أيضاً أن يخبر أحياناً الطرفَ الآخر بأنه سوف يشتري له شيئاً يحبه بشدة، فهذا له نكهة وذاك له نكهة أخرى، فلا هذا يُغني عن ذاك ولا ذاك يمكن أن يُستبدل بهذا.

والحاصل: إن الحياة بناها الله سبحانه وتعالى على المزيج من النمطية ومن

ص: 22

الإبداع وعلى الروعة في هذا التنويع والامتزاج.

والشواهد كثيرة جداً لمن راقب الحياة بعين فاحصة؛ إذ سيجد في كل حياتنا تجليات مبهرة لهذه المعادلة: روعة الإبهام والإجمال ومدى محركيته للفكر والعقل إلى جوار روعة الأسلوب التقليدي النمطي السائد.

(ما) في «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ» و تحريك الفكر والعقل

وفي قوله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ» نجد أن إضافة (ما) في «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ» قد اختزنت الروعة والغموض والجمال كله، فلو قال تعالى: (فبرحمة من الله) لكانت كلمة اعتيادية، لكن (ما) هذه هي التي تستوقف الفكر وتتحدى الذكاء وتحرك العقل: فما هو المراد منها؟ ولماذا زيدت (بالاصطلاح النحوي) ههنا؟ وأي نوع من أنواع (ما) هي؟ هل هي إسمية أو حرفية؟ مصدرية أو موصولة؟ أو غير ذلك.

والغريب أنه من الناحية الجمالية زادت (ما) من جمالية الآيةمن جهة ولم تخلّ بالبساطة الظاهرية من جهة أخرى ولكنها في الوقت نفسه اختزنت باطناً عميقاً وأسراراً معرفية من جهة أخرى، وذلك هو مما يتميز به كلام الخالق عن المخلوق والإعجاز عن غيره: البساطة في التعقيد والتعقيد في البساطة والظهور في البطون والبطون في الظهور في الوقت نفسه!

وكذلك الأمر في قوله تعالى: «فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ» فما هو معنى (ما) وما هو المراد منها ههنا؟!

محتملات معنى (ما) في «فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ»

هنالك احتمالات متعددة:

الاحتمال الأول: إنها مصدرية يعني قليلاً إيمانهم بالنتيجة النهائية.

ص: 23

الاحتمال الثاني: إنها نافية «فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ» يعني لا يؤمنون حتى قليلاً فتكون هكذا (قليلاً، ما يؤمنون) أو (ما يؤمنون قليلاً) وقد اختلف المعنى على الاحتمالين كما هو واضح إذ أين (يؤمنون حتى بمقدار قليل) من (قليلاً إيمانهم)؟

الاحتمال الثالث: إنها زائدة، وهذه هي التي يُعجِب الكثير من النحويين والمفسرين تفسيرها وغيرها به؛ إذ تجدهم يكثرون من قول: إن هذه الكلمة أو تلك الكلمة زائدة في القرآن الكريم فتكون على هذا: (قليلاً يؤمنون) و(ما) زائدة.

والملفت للنظر أننا عادة لا نستخدم هذا الأسلوب إلا في مواطن محدودة تعلمناها ودرجنا عليها ولعلها حكمة تعلمناها لكننا عادة لا نستخدم مثل هذا الاسلوب، أما القرآن الكريم فالغريب فيه أنه بأكمله مبني على أمثال ذلك فهذا أسلوب فريد من حيث المجموع كما هو فريد في روعة الإبهام وروعة الإجمال وذلك أيضاً يعد من بعض فلسفة المتشابهات فإنها تفتح المجال واسعاً للفكر المعمق.

والحاصل: إن المزيج النادر الغريب من الروعة الظاهرية في مرحلة السطح ومن الدقة في العمق ومن تلك الحالة الابهامية المكتنفة بالكثير من المفردات والجمل والسياق كله، يعد مناستثناءات عالم الكون كله.

وعوداً إلى قوله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ» فإن الرحمة هي الفلسفة الأصلية من الخلقة، إذ خلقنا الله تعالى ليرحمنا «وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ»(1) والرحمة في آيتنا هي المنشأ لتشريع: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» والرسالة حتى الآن صريحة وواضحة، ولكن الروعة كل الروعة أن تضم هذه اللوحة الواضحة إيهاماً وإجمالاً دقيقاً يفتح نافذة واسعة للتفكير، وهذا هو الدور الذي تؤديه (ما)

ص: 24


1- سورة هود: 118 - 119.

بالضبط وبذلك يكون الجمع بين الوضوح والعمق وبين البساطة والتعقيد.

بل نقول: حتى الذي يقول إن (ما) زائدة في الآية، فعليه أن يفكر لماذا هي زائدة؟ أكانت زيادتها عبثاً؟ كلا! بل هي زائدة نحوياً فقط، لكن لها حكمة وجهة معنوية، وهذا بحث مترامي الأطراف ولعل الله تعالى يوفقنا للبحث عنه بشكل مستقل.

البصيرة الثالثة: هل نستشير العاصي الجاهل أو المتدين العاقل

اشارة

البصيرة الثالثة: وهي نظرية - عملية أيضاً، وهي تدور حول محور من أهم محاور الاستشارة والمشورة وهو:

من الذي نستشيره؟ هل نستشير العاقل الحكيم المتقي؟ أو نستشير الفاجر الجاهل العاصي؟

وهذا التساؤل قد يكون غريباً،لأنه يناقض المرتكز في الذهن، بل قد يبدو مناقضاً لما في الروايات الشريفة عن المستشار ومواصفاته، لكن الذي حدى بنا الى هذا التساؤل هو ما يستفاد من الاية الشريفة بدواً من امر الرسول بمشاورة نفس أولئك الذين عفى عنهم و استغفر لهم من العصاة والجهلة(1)، فكيف الجمع، وما السببفي ذلك؟

فلنبدأ أولاً ببعض الروايات الشريفة حول شروط ومواصفات المستشارين لموضوعيتها أولاً، ولتكون المرشد لنا ثانياً، ولكي ندرس علاقتها بالآية الشريفة

ص: 25


1- حيث تقول الاية المباركة: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» (ف-) وهذه (فاء التفريع) «اعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ» وهذا يعني أن يشاور الرسول في الأمر نفس أولئك الذين عفى عنهم واستغفر لهم من العصاة، مما قد يظهر منه صحة استشارة الجاهل العاصي، وسياتي بيان وجه الجمع في ذلك.

ثالثاً؛ إذ قد تتكشف لنا مفاجأة غريبة حينئذٍ. فنقول:

إن مقتضى القاعدة لدى العقلاء أن تتم استشارة الخبير المتقي لا الجاهل العاصي، إذ الاستشارة لها حدود ومن حدودها مواصفات المستشار وهذا بحث هام لعله نفرد له مجالاً آخر ولكن موجز القول فيه:

إن الاستشارة لها حدود وضوابط ولابد من دراستها بكل دقة وإلا تحولت المشورة إلى مصيدة خطيرة وكانت السبب في المفاسد العظيمة، فمثلاً الدول الإسلامية تستعين بشركات أجنبية في مشاوراتها، بل حتى الشركات الكبرى نجد - مع الأسف - أن مستشاريهم من الدول الأجانب، ولكن يجب عينا أن نستنطق الروايات لنرى الإمام ماذا يقول، وأيضاً لنعرف مقتضى القاعدة، فهل يصح أن يستشار الأجانب؟ وما الذي ينبغي أن تفعله؟!

وهنا نقول: ان ذلك يستدعي أن تفرد له مباحث خاصة عن حدود المشورة سواء أكانت في القضايا الشخصية أم في القضايا النوعية أم في القضايا المتوسطة بينهما مثل قضايا مؤسسات المجتمع المدني وهي مجتمعات مصغرة يقودها مجلس الأمناء أو هيئة المدراء في المسجد أو الحسينية أو النقابة أو الاتحادية والاتحاد أو الحزب أو العشيرة أو غير ذلك.

مواصفات المستشار وشروطه

اشارة

يقول الإمام الصادق (عليه السلام) كما جاء في المحاسن على ما نقله عنه في سفينة البحار عن أبي عبد الله قال (عليه السلام):

«إِنَّ الْمَشُورَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِحُدُودِهَا فَمَنْ عَرَفَهَا بِحُدُودِهَا وَ إِلَّاكَانَتْ مَضَرَّتُهَا عَلَى الْمُسْتَشِيرِ أَكْثَرَ مِنْ مَنْفَعَتِهَا لَهُ:

فَأَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ الَّذِي تُشَاوِرُهُ عَاقِلًا،وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ حُرّاً مُتَدَيِّناً،

ص: 26

وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ صَدِيقاً مُؤَاخِياً،وَالرَّابِعَةُ: أَنْ تُطْلِعَهُ عَلَى سِرِّكَ فَيَكُونَ عِلْمُهُ بِهِ كَعِلْمِكَ بِنَفْسِكَ ثُمَّ يُسِرَّ ذَلِكَ وَيَكْتُمَهُ.

فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عَاقِلًا انْتَفَعْتَ بِمَشُورَتِهِ، وَإِذَا كَانَ حُرّاً مُتَدَيِّناً أَجْهَدَ نَفْسَهُ فِي النَّصِيحَةِ لَكَ، وَإِذَا كَانَ صَدِيقاً مُؤَاخِياً كَتَمَ سِرَّكَ إِذَا أَطْلَعْتَهُ عَلَيْهِ. َإِذَا أَطْلَعْتَهُ عَلَى سِرِّكَ فَكَانَ عِلْمُهُ بِهِ كَعِلْمِكَ تَمَّتِ الْمَشُورَةُ وَكَمَلَتِ النَّصِيحَةُ»(1).

والرواية صريحة في أن الإنسان إذا أراد أن يستشير في أمر تجاري أو بناء هندسي أو في أمر عائلي في نزاع أو غيره أو في أي أمر، فعليه أن ينتخب من جمع مواصفات عديدة:

1. العقل

«...فَأَوَّلُهَا أَنْ يَكُونَ الَّذِي تُشَاوِرُهُ عَاقِلًا»، فعلى الإنسان أن يختار العاقل للمشورة معه، لا أن ينتخب صديقه للمشورة لمجرد أنه صديقه؛ إذ قد يكون قليل الحكمة، فليس الملاك في المشورة الصداقة بما هي صداقة، بل العقل والحكمة وأن يكون المستشار عاقلاً يعرف كيف يعقل الأمور ومتى.

2. الحرية والتدين

«وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ حُرّاً مُتَدَيِّناً»، وهاتان صفتان: التدين والحرية، والظاهر أن المراد بالحرية معنى عام، وهو أن يكون حر النفس، وليس المراد المعنى الأخص المقابل للعبودية، والحر هنا يعني المتحرر من أسر الشهوات مثلاً فإنه يعطيك محض الرأي وخالص النصح، عكس العبد للأهواء والشهوات فإنه إذا كانت لديه مصلحة في الرأي فإنه يجر النار إلى قرصه أو قرص من يهواه لا إلى ما تقتضيه مصلحتك.

ص: 27


1- المحاسن: ج2 ص602.

وأن يكون متديناً إذ قد يكون عاقلاً ولكنه لا دين له، وهلالاجنبي حرّ من أسر الشهوات؟ أو هو حرّ من مراعاة مصالحه الشخصية أو مصالح بلاده؟ وهل هو متدين حقاً ليحول تدينه دون خيانتك إن استطاع؟

3. الصداقة والمؤاخاة

«وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ صَدِيقاً مُؤَاخِياً»، فإن الصديق المواخي - لا الغريب الأجنبي - يبذل لك النصيحة حقاً وصدقاً.

4. إحاطة المستشار بكافة المعلومات والجهات

«وَالرَّابِعَةُ أَنْ تُطْلِعَهُ عَلَى سِرِّكَ فَيَكُونَ عِلْمُهُ بِهِ كَعِلْمِكَ بِنَفْسِكَ»، ذلك أن كثيراً من ثغرات المشورة ومعايبها تعود إلى أنها كانت من طرف ليس محيطاً بأبعاد القضية وجوانبها فيشير تبعاً لذلك إشارة خاطئة.

وعليه: فالمستشير يجب أن يضع الطرف الآخر في كامل الصورة بسلبياتها، وإيجابياتها وبفرصها ومخاطرها، فمثلاً: لو وقع نزاع بين أخوين أو بين عشيرتين فيجب أن تضع المستشار في كافة تفاصيل الواقعة؛ أسباب النزاع وسهم كل طرف من الخطأ وأبعاده الخفية الأخرى وغير ذلك، وعندئذٍ سوف يكون حكمه حكماً سليماً، ولكنك لو ذكرت له أخطاء الآخر وحمّلته المسؤولية كاملة وتغافلت عن أخطائك أنت وسترتها فإن حُكمه - النابع من المعلومات الناقصة أو الخاطئة - لا يكون صحيحاً.

فالرابعة أن تطلعه على سرك فيكون علمه بك كعلمك بنفسك «ثُمَّ يُسِرَّ ذَلِكَ وَيَكْتُمَهُ» فلا يفضحك أمام الناس.

«فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عَاقِلًا انْتَفَعْتَ بِمَشُورَتِهِ، وَإِذَا كَانَ حُرّاً مُتَدَيِّناً أَجْهَدَ نَفْسَهُ فِي

ص: 28

النَّصِيحَةِ لَكَ، وَإِذَا كَانَ صَدِيقاً مُؤَاخِياً كَتَمَ سِرَّكَ إِذَا أَطْلَعْتَهُ عَلَيْهِ وَإِذَا أَطْلَعْتَهُ عَلَى سِرِّكَ فَكَانَ عِلْمُهُ بِهِ كَعِلْمِكَ تَمَّتِ الْمَشُورَةُ وَكَمَلَتِ النَّصِيحَةُ».

فما بينته الرواية من مواصفات المستشار هو مقتضى القاعدة إذاً، ولكن الآية الشريفة قد يبدو منها في بادئ النظر غير ذلك، فماهو وجه التوفيق؟!

فلنتدبر في الآية الشريفة من جديد لنكتشف ماذا تقول بالضبط: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» (ف-) وهذه (فاء التفريع) «اعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ» وهذا يعني أن تشاور في الأمر نفس أولئك الذين عفوت عنهم من العصاة! مع أن مقتضى العدل إهمال أولئك العصاة بل عقابهم - الذين عصوه (صلي الله عليه وآله) بترك مواقعهم في الجبل في معركة أُحد - ولكن مقتضى الفضل هو: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ» «لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» وذلك لجهلهم ولأنهم لا توجد لديهم قابلية إذ ينفضّون من حولك لو أخذتهم بمرّ الحق وعاقبتهم على معصيتهم جهاراً، فالله برحمته منه أمرك أن تكون ليناً هيناً هشاً وبشاً وإلا كان مقتضى القاعدة في أعراف كافة الملل والنحل أن يؤدبوا ويعاقبوا، ولكن النبي (صلي الله عليه وآله) عفا عنهم بما لا يتصور: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ» ولا يكون العفو إلا إذا كانت هناك معصية إذ لا يعقل العفو عن اللاشيء أو هل يعقل العفو عن التقوى أو الهدى أو الاستقامة؟ كلا بل أعف عنهم إذ كانوا عصاة.

والأغرب أنه تعالى أمره (صلي الله عليه وآله) في مقابل العصاة من أمته بثلاثة أوامر كلها نادرة:

أولاً: «فَاعْفُ عَنْهُمْ»، وهذا في واقع نفسك وفيما بينك وبينهم.

ص: 29

وثانياً: «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ»، وهذا فيما بينهم وبين الله تعالى فكن أنت الوسيط لمغفرة الله تعالى لهم!

وثالثاً: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ» أي هؤلاء العصاة شاورهم!

ولقد خطر في بالي هذا الاستنباط الآنف عند التدبر في الآية الشريفة ولكن حيث إنه لا يصح التفسير بما يخطر بالبال قبل مراجعة سائر الآيات والروايات والتفاسير ؛ لاحتمال وجود قرائن منفصلة وصوارف عن الظهور البدوي، لذلك رجعت للتفاسير فتجلىالأمر بوضوح أكبر؛ إذ إن شأن نزول الآية كان هو قضية العصاة في معركة أحد حيث ترك أولئك الرماة مواقعهم رغم تشديد النبي (صلي الله عليه وآله) عليهم أن لا يتركوا مواقعهم في ثنية الجبل أبداً ومهما حدث، لكنهم تركوها طمعاً في الغنيمة، وكانت تلك معصية من أكبر المعاصي والكبائر إذ كانت السبب في قتل العشرات من المسلمين بل كاد النبي أن يُقتل وأوشك الإسلام على أن يُقتلع من الجذور، فهذا هو شأن نزول الآية «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ» مع أنه كان اللازم أن يؤدبوا كلهم، ولكن النبي (صلي الله عليه وآله) عفا عنهم بأمر الله تعالى واستغفر لهم وشاورهم في الأمر.

فهذا هو المنهج النبوي الذي ينبغي عليه أن تتبعه الحكومات والمؤسسات والمجتمع كله «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ» وذلك في الفتن الاجتماعية العامة أو ما يشبهها أما الإجرام الفردي فله حكم آخر.

وجهان للجمع بين ما يستفاد من الاية و بين مواصفات المستشار

ووجه الجمع بين مثل هذه الآية الكريمة والروايات التي تحدد قيوداً مشددة في المستشارين، كالرواية السابقة، هو:

ص: 30

أولاً: التفصيل بين الاستشارة في الشأن الشخصي فإنه أمر والاستشارة في الشأن النوعي فإنه أمر آخر.

وثانياً: التفصيل بين استشارة الأجانب، فإنه محرم ومذموم، وبين استشارة عامة الناس بمن فيهم العصاة والمعارضة فإنه محبوب مطلوب.

فاستشارة الأفراد في الشأن الشخصي هو موطن تلك الرواية ونظائرها من الروايات، واستشارة القائد بما هو قائد من الناس، حتى العصاة منهم، هو مورد الآية الكريمة فلو كانت لدي مشكلة مالية أو عائلية أو غير ذلك فيجب أن يكون المستشار عاقلاً حراً متديناً صديقاً صدوقاً كما هو مذكور في الرواية فتنبغي استشارة مثل هذا الشخص الكفوء لكي أعرف وجه الحق واكتشف الدرب.أما استشارة القائد فقد تكون لها أهداف وأغراض أخرى وحسب تلك الأغراض يتحدد من تريد أن تستشيره، وقائد مثل النبي الأعظم (صلي الله عليه وآله) لا يحتاج إلى مشورة أي شخص؛ لأنه عالم بما كان وبما يكون وما هو كان إلى يوم القيامة، بل كانت استشارته (صلي الله عليه وآله) منهم لتطييب قلوبهم كما في الروايات والذي يستشير تطييباً للقلب فإنه يستشير حتى العاصي ولا يقتصر في المشورة على الاتقياء أمثال سلمان؛ ذلك أن سلمان ونظراؤه سواء قال له النبي (صلي الله عليه وآله) شرّق أم قال له غرّب فإنه يطيع، أما ذلك العاصي الذي تتزلزل قدمه لغنيمة بسيطة فإنه يحتاج إلى تطييب قلبه كي لا يستمر في غيه وشقاقه، فقد اقتضت الرحمة الإلهية أن يلين النبي (صلي الله عليه وآله) لهم، وهذا البحث ووجه الجمع هذا بركنيه يحتاج إلى عقد دراسة مستقلة عن كافة القرائن الدالة على ذلك ومناقشاتها لنرى هل تسلم من الجمع التبرعي أو لا؟

وقد نوفق لذلك لاحقاً إذا اذن الله تعالى.

ص: 31

البصيرة الرابعة: المراد من «لِنْتَ لَهُمْ» اللين التكويني

اشارة

البصيرة الرابعة: إن الظاهر أن المراد من اللين في قوله تعالى: «لِنْتَ لَهُمْ» اللين التكويني لا التشريعي، ويعني التكويني: أنه (صلي الله عليه وآله) كان بسجيته وطبعه وشاكلته النفسية ليّناً عكس من يكون بطبعه وشاكلته فظاً غليظاً قاسياً عنيفاً شديداً، فإن هذه الصفة - اللين، وضدها العنف والفظاعة - كسائر الصفات النفسانية فإن بعض الناس بطبعه حليم أو كريم أو شجاع وبعضهم جبان أو بخيل أو غضوب.

والدليل على أن المراد ب- «لِنْتَ» اللين التكويني: أنه تعالى أخبر عنه بصيغة الماضي ولو كان تشريعياً لكان المناسب أن يقول (فبما رحمة من الله لِن لهم) كما قال «فَاعْفُ عَنْهُمْ» فإن (فاعفُ) أمر تشريعي وليس إخباراً عن أمر تكويني، أو لناسب أن يقول (فبمارحمة من الله نأمرك بأن تلين لهم)، كما يدل على أنه تكويني : قوله: «وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ» مما يعني أنه ليس فظاً ولا غليظ القلب.

العِبرة: اختاروا القائد الليّن الرفيق بطبعه

والعبرة من ذلك: الإشارة إلى ميزة من الميزات التي ينبغي أو يجب - حسب مقتضيات الأمر - توفرها في القائد الذي يراد تعيينه او انتخابه لقيادة الأمة أو الشعب أو حتى الحزب والعشيرة والاتحاد والنقابة، وهي ميزة كونه ليّناً بطبعه غير فظ ولا غليظ القلب.

وعليه: فلو دار الأمر بين أن نختار معلماً دمث الأخلاق ليناً هشاً بشاً وبين أن نختار معلماً قاسياً عنيفاً كان الأول أرجح بلا شك، وكذلك لو دار الأمر بين

ص: 32

أن تختار الزوجة زوجاً عنيفاً أو ليناً أو العكس أو أن يختار الأعضاء قائداً للحزب أو ينتخب الشعب رئيساً أو قائداً أو غير ذلك.

فإنه إذا كان من أشعة رحمة الله تعالى أن يختار لمن يرسله إلى الناس كافة رسولاً ليناً غير فظ ولا غليظ، وكان الله هو الأعرف بما يصلح لعباده وبما يصلحهم، وكان الرسول (صلي الله عليه وآله) أيضاً قدوة وأسوة «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»(1)

كان الأولى بنا أن نختار للقيادة والإدارة في كافة المستويات الشخص اللين الخلوق السمح الوَصول الحكيم الرفيق.

إضافة إلى أن الله تعالى يعلل سرّ لين الرسول لهم بأنه (صلي الله عليه وآله): «وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» مما يعني أن اللين - إضافة إلى أنه كمال ذاتي - فإنه الطريق الأنجع والأصلح لسَوْق الناس إلى الكمال والدين والأخلاق والفضيلة.

بل إن قوله تعالى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ»(2) دليل على أن الغليظ قلباً يتجلى عنفه على جوارحه؛ إذ لا ينضح من الإناء إلا الذيكان فيه، وكذلك الليّن تماماً.

اللين اختياري اقتضائي

ولكن هذا اللين في الرسول (صلي الله عليه وآله) ليس أمراً قسرياً جبرياً غير اختياري بل إنه تكويني اقتضائي لا عِلّي، بل إن عموم الصفات النفسية هي من هذا النمط؛ فإن الصفات النفسية قابلة للتغيير والتطوير وليست صفات لازمة قهرية للإنسان، ولذا نجد أن الجبان يمكن أن يتحول إلى شجاع بالتلقين والإيحاء المستمر وبالممارسة

ص: 33


1- سورة الأحزاب: 21.
2- سورة الإسراء: 84.

وغير ذلك، وكذلك البخيل يمكن أن يتحول إلى كريم وبالعكس، نعم التغيير في الصفات النفسية صعب لكنه ليس بالمحال.

ثم إن الصفات الإيجابية النفسية منحة من الله تعالى لكن فرقها عن الصفات الظاهرية كقسمات الوجه والطول والقصر وغيرها أنها قابلة للتغيير عكس الصفات الجسمانية، على أن بعض الصفات الجسمانية تقبل التغيير بتدخل خارجي كالعملية الجراحية.

والعبرة من ذلك أيضاً: أن البخيل والجبان والغضوب سيء الأخلاق وإن أمكن أن يتغير بالجد والجهاد وترويض النفس، فإنه ليس من الراجح أصلاً اختياره كقائد وإن وعد بأن يغير ذاته؛ إذ ما أكثر الوعود وأقل الوفاء، فالأسلم والأرجح اختيار القائد أو المرجع أو المعلم الحليم الشجاع الكريم بطبعه وبذاته من البداية.

محورية اللين والرفق في الروايات الشريفة وتصنيف العلماء

والملفت أن نجد الروايات الشريفة تركز أكبر التركيز على صفة الحلم وسعة الصدر والرفق واللين في العلماء وغيرهم، حتى ورد في الرواية:

(قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَخْزُنَ عِلْمَهُ وَلَا يُؤْخَذَ عَنْهُ فَذَلِكَ فِي الدَّرْكِ الْأَوَّلِ مِنَ النَّارِ.

وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ إِذَا وُعِظَ أَنِفَ وَإِذَا وَعَظَ عَنَّفَ فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الثَّانِي مِنَ النَّارِ.وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَرَى أَنْ يَضَعَ الْعِلْمَ عِنْدَ ذَوِي الثَّرْوَةِ وَالشَّرَفِ وَلَا يَرَى لَهُ فِي الْمَسَاكِينِ وَضْعاً فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الثَّالِثِ مِنَ النَّارِ.

وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَذْهَبُ فِي عِلْمِهِ مَذْهَبَ الْجَبَابِرَةِ وَالسَّلَاطِينِ فَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ شَيْ ءٌ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ قُصِّرَ فِي شَيْ ءٍ مِنْ أَمْرِهِ غَضِبَ فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الرَّابِعِ مِنَ النَّارِ.

ص: 34

وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَطْلُبُ أَحَادِيثَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِيَغْزُرَ بِهِ عِلْمُهُ وَيَكْثُرَ بِهِ حَدِيثُهُ فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الْخَامِسِ مِنَ النَّارِ.

وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ لِلْفُتْيَا وَيَقُولُ سَلُونِي وَلَعَلَّهُ لَا يُصِيبُ حَرْفاً وَاحِداً وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُتَكَلِّفِينَ فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ السَّادِسِ مِنَ النَّارِ.

وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَتَّخِذُ عِلْمَهُ مُرُوءَةً وَعَقْلًا فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ السَّابِعِ مِنَ النَّارِ»(1).

العالم الذي يخزن علمه ويمنعه من الناس في الدرك الأول من النار

ولعل المراد من «أَنْ يَخْزُنَ عِلْمَهُ وَلَا يُؤْخَذَ عَنْهُ» والذي يستحق به أن يكون في الدرك الأول من النار: ذلك العالم الذي يمنع العلم الذي يحتاجه الناس في شؤون دينهم أو دنياهم مما كان في دائرة الواجبات الكفائية، ومن العلوم التي يحتاجها الناس: عِلمُ العالم في فضح عدوان الظالم؛ فإن الحكومات الجائرة تتستر على استبدادها وظلمها ومصادرتها لحقوق الناس وآرائهم وأموالهم، تتستر بإعلام موجّه مزيّف خداع لا يكتشفه عادة إلا العلماء وذوو الفهم والبصيرة فإذا سكت هؤلاء عن بيان مظالم العباد تجرّأ الظالم أكثر فأكثر، فكان العالم شريك الظالم في ظلمه وعدوانه وسفكه للدماء وهتكه للأَعراض، ومن الأَعراض: سمعة الناس والمعارضة، كما كان شريك الظالم في مصادرته للحقوق، ومن الحقوق آراء الناس.

والذي إذا وُعِظ أنف وإذا وَعَظَ عنّف في الدرك الثاني من النار

ثم إن العلماء الذي يُودَعون في الدرك الثاني من الناس هم من يتصف بأنه «إِذَا وُعِظَ أَنِفَ وَإِذَا وَعَظَ عَنَّفَ» فكأنّه يرى نفسه فوق النقد؛ لذا يأنف الوعظ

ص: 35


1- الخصال: ج2 ص352.

والنصيحة ويتكبر عليها ويشمئز من الناصح الناقد المعارض الحكيم، وفي المقابل فإنه إذا وَعَظ الناس وعظهم بعنف لا برفق مما يسبب فرارهم عن الدين والحق والعدالة فيكون علة للضلال والفساد لذا يكون في الدرك الثاني من النار.

وورد في الغرر عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «ينبغي للعاقل إذا عَلِم أنْ لا يُعنِّف و إذا عُلِّم أن لا يأنَف»(1).

والمقصود من إذا عَلِم: إذا علم بصدور خطأ من غيره أو معصية أو شبه ذلك؛ وذلك لأن الأصل هو «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ»(2)

والاستثناء هو ما إذا تعذر التأثير على العاصي أو المخطئ بمجرد ذلك فإنه حينئذٍ فقط ينتقل إلى المراتب اللاحقة من مراتب الأمر بالمعروف.

كما أن اللازم أن يكون العاقل ممن (إذا علِّم ألّا يأنف)، فإن من طبع الإنسان أن يكره الإقرار بالجهل والإقرار بتفوق الغير عليه خاصة إذا كان يرى ذلك الغير أدون منه مستوىً، فكيف يقر له بأنه يعلم مسألة لا يعلمها هو؟! لذا نجد العالم كثيراً ما يأنف من أن يتعلم المسألة من غيره ظناً منه بأن ذلك يخل بمكانته ويقلل من وجاهته ويزهّد الناس فيه! مع أن الأمر - لدى التدبر - على العكس من ذلك تماماً.

وَعَنَّفُوهُمْ فِي دِينِهِمْ

كما ورد في الرواية: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ الصُّدُودُ لِأَوْلِيَائِي، فَيَقُومُ قَوْمٌ لَيْسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ لَحْمٌ، فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آذَوُا الْمُؤْمِنِينَ وَنَصَبُوا لَهُمْ وَعَانَدُوهُمْ وَعَنَّفُوهُمْ فِي دِينِهِمْ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ»(3).

ص: 36


1- غرر الحكم: ص44.
2- سورة النحل: 125.
3- الكافي: ج2 ص351.

الطغاة في مواجهة الآيات البيّنات

ومن أظهر مصاديق (الذين يعنّفون المؤمنين في دينهم) أولئك الطغاة والمستبدون الذين إذا أمرهم الناس بالعمل بآية الشورى «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»(1)

أو آية الحرية «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ»(2)

و«لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»(3)

وآية العدل والإحسان «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ»(4)

أو آية التعددية «وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ»(5)

أو آية الأمة الواحدة «وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ»(6)،

إذا أمروهم بذلك واجهوهم بصنوف الاتهام بالعمالة وبأنواع التسقيط الاجتماعي وبالحصار الاقتصادي والسياسي أو بالسجن والتعذيب أو بالنفي والإبعاد أو غير ذلك.

ومن ذلك كله نعرف أن الأصل في الإسلام هو اللين والرفق والمداراة لخلق الله والتسامح والاغضاء عن السيئة، وأيضاً عدم التشدد في أمور الدين بما لم يدل عليه الدليل بل باختراع من عند أنفسنا.

من فقه رواية:

« وَلَا يَعْرِضُ لِي بَابَانِ كِلَاهُمَا حَلَالٌ إِلَّا أَخَذْتُ بِالْيَسِيرِ..» و نسبتها مع ( افضل الاعمال احمزها)

فهذه الرويات وغيرها تدل على أن المنهج في الشريعة الإسلامية الغرّاء هو منهج اللين لا الشدة، وحيث تساءل العديد من الأفاضل عن فقه الرواية ووجه

ص: 37


1- سورة الشورى: 38.
2- سورة الأعراف: 157.
3- سورة البقرة: 256.
4- سورة النحل: 90.
5- سورة المطففين: 26.
6- سورة المؤمنون: 52.

جمعها مع سائر الروايات ومنها «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا»(1) فلا بد من التوقف قليلاً عند بعض فقه الحديث فيها، على أن استقصاء أطراف الكلام فيها بحاجة إلى دراسة مستقلة.فقد ورد في الرواية عن حنان بن سدير قال: كنت أنا وأبي وأبو حمزة الثُّمالِي وعبد الرَّحيمِ الْقصير وزياد الْأحْلام حجَّاجاً فدخلنا على أبي جعفرٍ (عليه السلام) فرأى زياداً وقد تسلَّخ جلْده، فَقَالَ (عليه السلام) لَهُ: «مِنْ أَيْنَ أَحْرَمْتَ؟» قال: من الكوفة. قَالَ (عليه السلام): «وَلِمَ أَحْرَمْتَ مِنَ الْكُوفَةِ؟» فقال: بلغني عن بعضكم أنَّه قال: ما بعد من الْإحرام فهو أعظم للأجر. فَقَالَ (عليه السلام): «مَا بَلَّغَكَ هَذَا إِلَّا كَذَّابٌ». ثم قال (عليه السلام) لأبي حمزة الثُّمَالِي: «مِنْ أَيْنَ أَحْرَمْتَ؟» فقال: من الرَّبذَة. فقال (عليه السلام) له: «وَلِمَ؟ لِأَنَّكَ سَمِعْتَ أَنَّ قَبْرَ أَبِي ذَرٍّ بِهَا فَأَحْبَبْتَ أَنْ لَا تَجُوزَهُ». ثمَّ قال (عليه السلام) لأبي وعبد الرحيم: «مِنْ أَيْنَ أَحْرَمْتُمَا؟» فقالا: من العقِيقِ. فَقَالَ (عليه السلام): «أَصَبْتُمَا الرُّخْصَةَ وَاتَّبَعْتُمَا السُّنَّةَ وَلَا يَعْرِضُ لِي بَابَانِ كِلَاهُمَا حَلَالٌ إِلَّا أَخَذْتُ بِالْيَسِيرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ يَسِيرٌ يُحِبُّ الْيَسِيرَ وَيُعْطِي عَلَى الْيَسِيرِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ»(2).

وتحقيق المطلب في ضمن النقاط التالية:

من المحرمات اختراع تعقيدات وتشديدات مبتدعة في الشريعة

أ. إن كل ما حدّ الشارع له حدوداً، فإنه لا يجوز تجاوزها متذرعين بالرغبة في الأشد والأصعب لأنه أكثر ثواباً، فالحج حدّه الميقات ولا يجوز الإحرام قبل الميقات فإنه تشريع محرم، ولا يصح التعلل ب-: أنه حيث كان أصعب وأشق فهو

ص: 38


1- بحار الأنوار: ج67 ص191.
2- الإستبصار: ج2 ص162.

أكثر ثواباً! ألا ترى أن للصلاة حداً لا يجوز تجاوزه؟ فلا يجوز مثلاً أن يصلي الصبح عشر ركعات متذرعاً بأنه أصعب وأشق؟ أو يصلي بمائة ركوع في الركعة الواحدة! وفي غير الصلاة الأمر كذلك أيضاً كأن يصوم صوم الوصال أو يبقى صائماً حتى بعد المغرب .. وهكذا.

ب - ثم إن الإمام (عليه السلام) صحّح له المعلومة الخاطئة التي كانت قد بلغته ولعله كان قد سمع رواية مرسلة ب«مَا بَعُدَ مِنَ الْإِحْرَامِ فَهُوَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ»(1) ولذا قال: «بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِكُمْ»، فأوضح له الإمام(عليه السلام) أن الرواية مكذوبة عليهم، بل حتى لو كانت بلغته بطريق معتبر فإن الإمام (عليه السلام) صرح ههنا بخطأه فإن الثقة قد يخطئ أحياناً، نعم أنه يحتمل أن يكون وجه التكذيب هو تفسيره للرواية بالإحرام قبل الميقات بلا نذر لا الإحرام من أبعد المواقيت الخمسة أو الستة، فتأمل!

ج - قوله (عليه السلام) للَّذين أحرما من (العقيق) وهو الميقات المعروف «اصبتما الرخصة» يفيد أن غيره، كالإحرام قبل الميقات، غير مرخّص فيه وغير جائز «واتبعتما السنة» يفيد أن غيره بدعة غير سنة.

مرجوحية النذر والقسم والعهد حتى على الطاعات!

د - وأما قوله (عليه السلام): «وَلَا يَعْرِضُ لِي بَابَانِ كِلَاهُمَا حَلَالٌ إِلَّا أَخَذْتُ بِالْيَسِيرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ يَسِيرٌ يُحِبُّ الْيَسِيرَ وَيُعْطِي عَلَى الْيَسِيرِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ». فالظاهر أنه مطلب آخر أضافه الإمام (عليه السلام) لمزيد الفائدة؛ إذ العطف التفسيري خلاف الأصل والأصل في العطف عطف المبائن على المبائن، فقد بيّن الإمام (عليه السلام) أولاً حكم تجاوز الحد الإلهي المقرر بالانتقال إلى بدعة الأصعب الأشد(2)

ثم بيّن الإمام (عليه السلام) أنه لو وُجِد للتشريع الإلهي حدّان كلاهما حلال

ص: 39


1- تهذيب الأحكام: ج5 ص52.
2- من دون أن يكون مندرجاً في إطار المستحبات، فتدبر!

لكن أحدهما أصعب فالأرجح الأخذ باليسير.

ومثال ذلك في نفس المقام: الإحرام قبل الميقات بالنذر فإنه بدون نذر بدعة وباطل - وهو الصورة السابقة - لكنه مع النذر جائز، فالجائز أمران: الإحرام من الميقات كسائر الناس والإحرام قبل الميقات بالنذر.

وهذان كلاهما حلال لكن الأول أرجح بلا شك؛ وذلك لأن النذر مكروه مرجوح فإنه يوقع الإنسان في مشقة جديدة وهذا ما لا يريده الشارع، ويكفي أن يلتزم الشخص بالأوامر والنواهي الواردة، ولا داعي لأن يضيف إلى وظائفه وظيفة جديدة، هذا إضافة إلى أن كثيراً من الناس ينذر ثم لا يلتزم فلم توريط النفس بالحرام؟وكذلك القَسَم والعهد فإنها مكروهة كالنذر ولو كانت لفعل الأمر المستحب كأن ينذر أو يقسم أو يعاهد الله على أن يحج حجة مستحبة أو غير ذلك(1).

وذلك هو ما تدل عليه الروايات وصرحت به الفتاوى:

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «لَا تَتَعَرَّضُوا لِلْحُقُوقِ فَإِذَا لَزِمَتْكُمْ فَاصْبِرُوا لَهَا»(2).

والتعرض للحقوق أي بالنذر والقسم وشبه ذلك، (فاذا لزمتكم) أي بوجه شرعي كالنذر أو الشرط.

وقال (عليه السلام): «إِنِّي أَكْرَهُ الْإِيجَابَ: أَنْ يُوجِبَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِه»(3).

البصيرة الخامسة: اللين مغاير للضعف

البصيرة الخامسة: إن اللين مغاير للضعف، فإن القائد الحكيم ليّن وليس

ص: 40


1- وقد يستثنى من ذلك من قطع بوفائه بالنذر أو القسم ولعل به يوجه نذرهم D فتأمل.
2- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص168.
3- الكافي: ج7 ص455.

بضعيف، إذ اللين منشؤه الحكمة، أما الضعف فمنشؤه العجز، واللين مدعاة للإكبار والإعجاب من القادر القوي العزيز، لكن الضعف مدعاة للرثاء إن لم يكن مجلبة للاستحقار.

البصيرة السادسة: اللين يقابل الفظاظة، وله حكمه

البصيرة السادسة: إن اللين تقابله - حسب التقابل الظاهر من الآية الشريفة - الفظاظة والغلظة، وقد تكون الفظاظة محرمة لجهة ذاتية أو عرضية ككونها موجبة لانفضاض الناس عن الدين واقتحامهم في المحرمات نتيجة الشدة في التعامل معهم والقسوة والغلظة التي توجب نفور الكثير إن لم يكن أكثر الناس من القيادة الإسلامية أو من التعاليم الدينية.

وفي المقابل قد يكون اللين واجباً وقد يكون محبذاً مستحباًممدوحاً، فإنه على درجات ومراتب وله أنواع وأصناف إضافة إلى أنه قد يقع طريقاً ومقدمة للواجب وقد يكون مقدمة للمندوب.

البصيرة السابعة: اللين والشدة ضدان لهما ثالث

البصيرة السابعة: إن اللين والشدة هي من الأضداد التي لها ثالث وليست المنفصلة بينهما حقيقية، فقد يكون القائد أو المسؤول ليّناً وقد يكون شديداً قاسياً وقد لا يكون من أي من القبيلين فلا هو ليّن ولا هو شديد، وذلك نظير الاحترام والإهانة فانهما ضدان لهما ثالث فقد يحترم صاحبُ الدارِ القادمَ وقد يُهينه وقد يتعامل معه بشكل عادي تماماً بلا احترام وبدون إهانة.

البصيرة الثامنة: نسبة اللين مع الرفق

اشارة

البصيرة الثامنة: ربما عدّ اللين مرادفاً للرفق، والرفق يقابله الخُرق، والخرق

ص: 41

فُسِّر بالحمق والجهل، ونضيف: أن الخرق هو الطيش والدخول في الأمور من غير روّية وحكمة وبدون لطف في التعامل بل بشدة وقسوة وخشونة وعنف.

فإنه قد ينصح الأب ابنه بمنتهى اللطف والمحبة وبكلمات بليغة محبَّبة ومحبِّبة، وقد يقرعه بمرّ القول أمام الغير بما يزيده نفوراً، والأخير خرق والأول رفق.

والمطلوب في كل الحقول وكافة المستويات هو اللين لا عدم العنف فقط.

إن لكل شيء قفلاً وقفل الإيمان الرفق

والرواية الآتية تشير إلى حقيقة هامة جداً عن الرفق والخرق ففي الكافي الشريف عن رسول الله (صلي الله عليه وآله): «إِنَّ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قُفْلًا وَقُفْلُ الْإِيمَانِ الرِّفْقُ»(1) والمقصود بذلك: أنه كما أن الجواهر الثمينة تحفظ في صناديق عليها أقفال تحفظها من عبث الأطفال أو أيدي السراق، كذلك الإيمان وهو أثمن شيء في الوجودفإنه يحفظ ويصان بقفلٍ هو الرفق.

والسبب واضح فإن العنف والشدة والخرق والقسوة إن لم تكن بأنفسها مصاديق للمحرمات، كالضرب والجرح بغير وجه حق، فإنها تستدعي - في سلسلة حلقاتها المتتالية - سلسلة من ردود الفعل العنيفة والتي تجرّ إلى رد فعل آخر معاكس وهكذا والتي - وهذا هو بيت القصيد - تستبطن سيلاً من أنواع الغيبة والتهمة والنميمة والعدوان والافتراء، بل وكثيراً ما البطش والعنف بأنواعه المختلفة، عكس الرفق الذي يحافظ على الأعصاب من الانفلات وعلى القوة الغضبية من الانفجار والذي تكون نتيجته الطبيعية تكريس أواصر المحبة والإخاء والتي هي بدورها تلغي - جوهرياً - مبررات التهمة والغيبة والقسوة أو الضرب والجرح وغير ذلك.

ص: 42


1- الكافي: ج2 ص118.

ماذا يعني الرفق يُمن وبركة؟

كما ورد في حديث آخر عن رسول الله (صلي الله عليه وآله): «الرِّفْقُ يُمْنٌ وَالْخُرْقُ شُؤْمٌ»(1) واليُمن يعني البركة، والبركة لها معاني أو تجليات ثلاثة:

الأولى: الاستمرار والديمومة والامتداد في عمق الزمن، والمراد: الكم المتصل غير القار.

الثانية: التجذر والترسخ والعمق كالشجرة التي أصلها ثابت عكس النباتات التي لا جذور عميقة لها فتقلع بكل سهولة.

الثالثة: الكثرة الكمية، والمراد الكم المنفصل.

والرفق يستبطن البركة بمعانيها الثلاثة، فإن الإنسان إذا ربّى أولاده أو المعلم طلابه أو القائد شعبه مثلاً بكل رفق وحب ومودة على الصلاة والصيام وعلى العدل والإحسان وعلى الخدمة والبذل والعطاء ونظائر ذلك، فإن حب الصلاة والصيام والعدل والإحسان والخدمة والعطاء سيتجذر فيهم ويتحول إلى ملكة راسخة لا يمكن اقتلاعها عنهم بسهولة، عكس ما إذا ساقهم إلى ذلك بالعنف والشدة فإن تلك الصفات لا تتعدى أن تكون فيهم حالة (لا ملكة) طارئة فقدتجتثّ من فوق الأرض بأبسط حركة.

وكذلك الديمومة في الأعمال الصالحة والصفات، والاستمرارية على مدى الأزمان أو بالعكس فإن الرفق ينتج اندفاعهم نحو تلك الكمالات مهما تطاولت الأزمنة بل وإن غاب المربي والقائد عنهم أو مات، عكس الخرق والعنف.

كما أن من تربى بلطف ورفق وقناعة على تلك الملكات الفاضلة فإنه سينطلق بقوة أكبر للإنتاج أكثر فأكثر عكس من انبعث عن ضغط فإنه سينتج

ص: 43


1- الكافي: ج2 ص119.

بمقدار ارتفاع منسوب الضغط لا غير.

ولذلك كله ولغيره أيضاً قال تعالى: «كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا»(1) فالكلمة الطيبة هي التي تؤتي أُكُلها كل حين بإذن ربها دون الكلمة الخشنة القاسية العنيفة.

قواعد حقوقية مستقاة من الرحمة والرفق، في الحوزة والجامعة والمدارس

اشارة

وكي لا يبقى البحث يسبح في عالم التنظير والوعظ المتجرد، فإن من المهم جداً أن نذكر نماذج وأمثلة حقوقية وقانونية ونظامية من مفردات الرفق في عدد من أهم مرافق الحياة والمجتمع وهي الجامعة والحوزة والمدارس.

أولاً: الجامعة
اشارة

وهذه بعض النماذج المتقابلة من الرفق واللين في مناهج الجامعة:

الدراسة عن بُعد

أ - إن فسح المجال للدراسة عن بُعد في الجامعات، يعدّ واحداً من أهم ألوان الرفق، عكس تقييد الطلاب بالحضور شخصياً إلى مقاعد الدراسة فإنه تضييق لا داعي له أبداً، ولذلك فتحت بعضالدول المتقدمة هذا الباب للطلاب.

والسرّ واضح فإن الكثير من الطلاب قد يعجز عن الحضور بنفسه إلى الجامعة، لاضطلاعه بعمل يضطره للبقاء في المنزل أو في مكان أو منطقة خاصة، لكنه يمكنه أن يواصل الدرس وهو في متجره أو وظيفته أو مزرعته أو مصنعه أو غير ذلك، فمن الخرق والجهل والحمق التضييق على الناس باشتراط حضورهم

ص: 44


1- سورة إبراهيم: 24 - 25.

بأشخاصهم لمقاعد الدراسة.

إضافة إلى أن الذهاب إلى الجامعة والعودة منها قد يكلف الطالب وقتاً ثميناً جداً في رحلة الذهاب والعودة، كما قد يضع على كتفيه أعباءً ماديةً ثقيلة عكس ما لو سمح له بالانتماء عن بعد ومواصلة الدراسة وهو في بيته أو محل عمله.

منح الشهادة من دون دراسة سابقة

ب - إن منح الشهادة لمن ينجح في الامتحان بدون أية شروط أخرى، هو أيضاً مظهر آخر من مظاهر الرفق والرحمة واللين بالناس، عكس التضييق على الناس باشتراط شروط عديدة لا ضرورة لها أصلاً وذلك كاشتراط إكمال الصفوف السابقة والتخرج من المرحلة الدراسية السابقة كالثانوية مثلاً كشرط أساسي لقبول تسجيله في الجامعة، ولكن لماذا إنه ليس إلا التضييق والخرق؛ إذ الملاك والمقياس هو أن يحيط الطالب بالمعلومات وأن يفهمها ويهضمها فإذا عرفها عبر المطالعة مثلاً ثم اثبت كفاءته بالنجاح في الامتحان فلماذا المزيد من القيود؟

عدم نقل الطلاب إلى محافظات ومدن أخرى

ج - إن نقل الطلاب والطالبات إلى محافظات أخرى أو إلى مدينة أخرى في المحافظة وتسجيلهم في كليات ومعاهد خارج دائرة منطقة سكنهم، هو الآخر نوع من القسوة والعنف والشدة على الطلاب وعلى الآباء والأمهات والعائلة بشكل عام، فلماذا انتزاعهممن أحضان أسرتهم وحرمانهم من حنان الأبوين ومن أجواء الأسرة والعائلة؟ خاصة وإن ذلك يشكل واحداً من العوامل الرئيسة التي تفتح الأبواب للميوعة والفساد فإن الشاب أو الفتاة في بلدته وفي أحضان أسرته يتمتع بحصانة طبيعية تجاه الفساد والانفتاح الخطر على الجنس الآخر، أما إذا

ص: 45

اقتلع من بيئته وقذف إلى أجواء أخرى وصار يسبح في بحر من الشباب والفتيات من مختلف الألوان والأهواء والخلفيات من دون جهة مرجعية طبيعية تسنده وتحميه، أفلا يشكل ذلك خطورةً مضاعفةً عليه؟!

ثانياً: الحوزة العلمية
الدراسة الدينية والأكاديمية

يجب أن يكون تعلُّم العلوم الدينية وتعليمها بل وكافة العلوم التي يحتاجها البشر في شؤون حياتهم من سياسة واقتصاد وصناعة وزراعة وطب وهندسة ومحاماة ومن أنواع العلوم التكنولوجية وغيرها، متاحاً للجميع وبأبسط السُبل وأقل قدر ممكن من القيود، إذ إن تعلُّم العلم واجب كفائي ومستحب نفسي، وكل قيد يحول دون ذلك فهو مبغوض مرجوح ساقط شرعاً. ومن القيود التي يجب أن تلغى:

إلغاء الفيزا والإقامة عن طلاب العلوم الدينية والبشرية

أ - الفيزا والإقامة، ذلك أن الفيزا والإقامة هي بدعة غريبة لا أثر منها في الإسلام ولا في سائر الأديان الأخرى بل ولا في تاريخ البشرية إلا الشاذ النادر، إذ الأرض أرض الله والخلق عباد الله فلا يجوز منع المسلم من أن يستوطن أي بلدٍ من بلاد الإسلام شاء لأي غرض كان من تجارة أو سياحة أو شبه ذلك فكيف إذا كان لطلب العلم والتفسير والحديث والفقه والأصول والكلام والعقائد؟! بل لا يجوز منع أي إنسان من حيث هو إنسان من الإقامة في مختلف بقاع الأرض.إن الحدود بدعة أوجدها لورانس(1)

البريطاني قبل حوالي مائة سنة في

ص: 46


1- توماس ادوارد لورنس ولد 1888م ومات 1935م وقد قال عنه رئيس الوزراء البريطاني تشرشل: (لن يظهر له مثيل مهما كانت الحاجة ماسة إليه)!

بلادنا، والغريب أننا أصبحنا أشد المدافعين عنها! والأغرب أن الفلسفة التي تذكر لها هي عليهم لا لهم، فإن الحدود تمنع عادةً الناس البسطاء والطيبين والأخيار من السفر أو الإقامة إلا بجواز وفيزا وإقامة، أما العصابات والإرهابيون فإن الحدود لا تشكل أمامهم حاجزاً يذكر، بل إن لهم ألف طريقة وطريقة للتملص منها، وعصابات المافيا واحتلال داعش للموصل وحلب وغيرهما بقيادة عناصر متسللة بالألوف من دول أخرى أبرز شاهد ودليل .. فهذا أولاً.

ثانياً: سلمنا الحاجة في بعض الحالات للفيزا والإقامة، لكن مقتضى اليسر إذ يقول (صلي الله عليه وآله): «يسروا و لا تعسروا...»(1) ويقول جل وعلا: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ»(2)

و«فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» أن يكون لكل مرجع تقليد ولكل عميد في الجامعة بل لكل مجتهد بل لكل أستاذ حوزوي أو جامعي أن يمنح الإقامة لطلابه، وأن يكون لكل جامعة ومدرسة حوزوية الحق في ذلك، وأن يكون لكل إمام جماعة أو وجيهٍ معتمد أو نائب أو مختار أن يمنحها لمن يعرفه ويثق به ممن يريد الانتساب إلى سلك طلبة العلوم الدينية أو ممن يريد السفر لبلاد الإسلام، أو غيرها، ليتعلم العلوم الإنسانية وغيرها.

إن ذلك كله إضافة إلى أنه موافق للقواعد الأولية الإنسانية والإسلامية المسلّم بها مثل: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا»(3) والخطاب موجه للبشرية كافة،و«إِنَّ هَذِهِ

ص: 47


1- عوالي اللئالي: ج1 ص381.
2- سورة البقرة: آية 185.
3- سورة الحجرات: آية 13.

أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً»(1)، «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»(2)،

«خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً»(3) و«إِنَّ النَّاسَ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ»(4) «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ»(5) وغيرها، فانه مقتضى الرفق والرحمة بطلاب العلم والمعرفة.

إلغاء الامتحانات لطلاب العلوم الدينية

ب - الامتحان: لا ضرورة أبداً لامتحان طلاب العلوم الدينية، ولم تكن الحوزات العلمية المباركة على مدى مئات السنين تعرف هذه الظاهرة، والمهم هو أن يكون الطالب منشغلاً حقاً، وإحراز ذلك لا يتوقف على الامتحان بل لذلك طرق أخرى عديدة:

منها: شهادة استاذين من أساتذته أو اثنين من العدول؛ أفترى اننا نعتمد على شهادة العدول في الدماء والفروج والأموال ولا نعتمد عليها في دراسة طالب علم لبعض الدروس؟

ومنها: أن يكون منشغلاً بالتدريس.

ومنها: أن يقدم إنجازاً علمياً على مدار السنة، مثل أن يقدم بحثاً أو يطبع كتاباً علمياً أو غير ذلك مما يدل على أنه منشغل حقاً بالعلم أو البحث والتحقيق.

ومنها: غير ذلك.

ص: 48


1- سورة الأنبياء: آية 92.
2- سورة الحجرات: آية 10.
3- سورة البقرة: آية 29.
4- عوالي اللئالي: ج1 ص222.
5- سورة الأعراف: 157.
ثالثاً: المدارس

إلغاء الزِيّ الموحد الإجباري

أ - إن من الخُرق والشدّة والكبت والتضييق فرض الملابس الموحدة والزي الواحد على طلاب المدارس، ومن الواضح أنالاعتبارات الجمالية وشبهها لا تزاحم ولا ترقى إلى مستوى القدرة على زحزحة أصالة الحرية في الإنسان وأصالة التيسير «يسروا و لا تعسروا»، خاصة وأن الكثير الكثير من الأطفال والعوائل تثقل كواهلَهم هذه القيودُ والتكاليفُ.

نعم إذا كانت الحكومة ووزارة التربية والتعليم حريصة على المظاهر الجمالية فيمكنها أن تقوم بإهداء الملابس والزي الموحد إلى الطلاب والطالبات، أو ليست الدولة تهدر الكثير من الأموال في أمور ثانوية لا ضرورة لها أبداً - كالإنفاق الباهض على الضيافات والأسفار المكلفة مع اصطحاب العشرات من المرافقين وغير ذلك؟ - فليكن هذا منها.

بل أو ليست الحكومة، في أكثر الدول إن لم يكن شبه المستغرق منها، تبتلع أموال بيت المال بشكل أو آخر؟ وأليست محاكم النزاهة لو فُعِّلت بشكل متكامل فإن الناس سيكتشفون السرقات المقنعة للمسؤولين للمليارات من الأموال؟ فلماذا يبخلون بإنفاق بعضه على ملابس الطلاب!!

بل إن أموال النفط وسائر الثروات الطبيعية هي ملك للشعب فلينفقوا منها على ملابس الطلاب وعلى طعامهم وتزويدهم بوجبة غذاء متكاملة يومياً وعلى غير ذلك(1).

ص: 49


1- كالحقائب والكتب وغير ذلك.

إلغاء التشدد في امتحانات المدارس

ب - وإن من الخُرق والشدة والغلظة التشدد في أمر الامتحانات، بل المطلوب تحفيز الطلاب، بمناهج وأساليب تربوية متطورة وبتكوين تحالف وثيق مع الآباء والأمهات، على الدراسة بشوق وبجد أيضاً، بل إن بعض الدول المتطورة - اليابان مثلاً - ألغت الامتحان من الصفوف الابتدائية كي ينجح كافة الأطفال وينتقلوا إلى الصف الأعلى بدون أن يرسب بعضهم فيبتلوا بالعقد النفسية، والغريب - وليس بغريب - أن ذلك وأشباهه كان حافزاًللأطفال، في المدى المتوسط والبعيد، على التعلم بشكل أفضل.

إن المفارقة تكمن في أن العنف قصير الأجل سطحي الثمر، أما الرفق فطويل المدى كثير المنافع عميق الآثار، وذلك في كل الحقول والمجالات.

الرفق أجمل خلائق الله

وقد ورد في الكافي الشريف: عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلي الله عليه وآله) «لَوْ كَانَ الرِّفْقُ خَلْقاً يُرَى مَا كَانَ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ شَيْ ءٌ أَحْسَنَ مِنْهُ»(1).

والظاهر من الحديث: أن الرفق هو خَلْق من خلق الله لكنه لا يُرى، فكما أن الشجاعة والكرم والعدالة ونظائرهما وأضدادها هي من خلق الله - فإنها ليست بواجبة الوجود ولا ممتنعة الوجود -، فكذلك الرفق، نعم جعل الله تعالى أسبابه بأيدينا لذلك كان اختيارياً باختيارية أسبابه، إضافة إلى أنها ليست عللاً تامة بل هي مقتضيات للأفعال فلا يتوهم الجبر أبداً.

ص: 50


1- الكافي: ج2 ص120.

الأحب إلى الله هو الأرفق بصاحبه

كما ورد أيضاً عن أبي عبد اللهِ (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): «مَا اصْطَحَبَ اثْنَانِ إِلَّا كَانَ أَعْظَمُهُمَا أَجْراً وَأَحَبُّهُمَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَرْفَقَهُمَا بِصَاحِبِهِ»(1) والملفت أنه لم يقل إن الأعظم أجراً والأحب إلى الله تعالى هو الأكثر صلاة أو صياماً بل هو الأرفق منهما بصاحبه!

إن الله رفيق يحب كل رفيق بالناس

وفي كتابي الحسين بن سعيد والنوادر: عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌيُعْطِي الثَّوَابَ وَيُحِبُّ كُلَّ رَفِيقٍ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ»(2):

فأولاً: إنه تعالى رفيق يرفق بالناس ويلطف بهم في الدنيا والآخرة.

وثانياً: إن من لطفه ورفقه بهم أنه يعطي الثواب ويهبه ويمنحه؛ إذ إننا لا نستحق عليه تعالى شيئاً من الثواب حتى لو عبدناه أبد الدهر، إذ إن ذلك لا يشكل جزء بسيطاً من شكر نِعَمِه تعالى اللامتناهية علينا، بل إن توفيقنا للعبادة والطاعة هو من نِعَمه علينا، فكيف ومتى نستطيع أن نؤدي حق نِعَمه علينا؟! وكيف نستحق عليه شيئاً مع أن كل ما نملك من أدوات الشكر - من قلب وعقل ويد ولسان وغير ذلك - ومن التوفيق للشكر، إنما هو لطف منه تعالى وعطاء من لدنه؟

ثالثاً: إنه تعالى «يُحِبُّ كُلَّ رَفِيقٍ» فإذا أحببت - أيها الأب أو الزوج أو المعلم أو الرئيس أو الوزير والمسؤول أو العالم والمفكر - أن يحبك الله فكن رفيقاً

ص: 51


1- الكافي: ج2 ص120.
2- مستدرك الوسائل: ج11 ص293.

بالناس ليّناً هشاً بشاً غير غليظ ولا فظ ولا جافٍ.

رابعاً: كما أنه «يُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ» فلو فرض أن للعنف فوائد (وهي التي يتذرع بها البعض لتبرير لسانهم السليط أو مواقفهم العنيفة) فإن أضراره أكثر بكثير من منافعه، وغاية الأمر أن يكون العنف كالخمر والقمار «يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا»(1).

ثم لو فرض أن العنف بقدرٍ ما كان جائزاً، كما لو اقتضت ضرورات التربية ذلك - بأن يصرخ المعلم على الطفل أو يضربه ضرباً خفيفاً لا يُولّد حتى الحمرة وإلا كانت عليه الدية وبشرط أن يكون ذلك بإذن وليه ووالده - لو فرض جواز ذلك فإنه ومع ذلك فإن الرفق به أولى فإن الله سيعطيه مع الرفق أكثر مما يعطي على العنف.

البصيرة التاسعة: الرحمة للجميع تكويناً وتشريعاً

البصيرة التاسعة: (الرحمة)، حسب المستفاد من الآية الشريفة وغيرها، هي مع (الحكمة) المنشأ للتشريعات الإلهية، كما أنها وراء عالم التكوين أيضاً فقد قال تعالى: «وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ»(2)

وقال: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ»(3) وفي الحديث القدسي: «قل لعبادي لم أخلقكم لأربح عليكم و لكن لتربحوا علي»(4) ولا يستثنى من ذلك إلا من

ص: 52


1- سورة البقرة: 219.
2- سورة هود: 118 - 119.
3- سورة الأنعام: 54.
4- إرشاد القلوب: ج1 ص110.

رفض رحمة الله تعالى بملأ اختياره بأن كان من الذين «اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى»(1) و«وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»(2).

والبحث عن ذلك وعن فقه هذه الآيات الكريمة وغيرها يستدعي دراسة مستقلة.

وفي الآية الشريفة: فإن رحمة الله أنتجت في عالم التكوين أن تكون شاكلة الرسول (صلي الله عليه وآله) النفسية في أصل خلقته شاكلةً لينةً: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» وقال تعالى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ»(3)

كما أنتجت في عالم التشريع الأوامر الثلاثة: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ» وغيرها.

وقد ورد في الروايات أن الرسول (صلي الله عليه وآله): «كَانَ إِذَا فَقَدَ الرَّجُلَ مِنْ إِخْوَانِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ سَأَلَ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ غَائِباً دَعَا لَهُ، وَإِنْ كَانَ شَاهِداً زَارَهُ وَإِنْ كَانَ مَرِيضاً عَادَهُ»(4) مع أن ذلك صعب جداً بل أصعب من الصعب؛ فإن القائد يتحمل مسؤوليات كثيرة مرهقة، خاصة إذا كان هو النبي الذي اضطلعبمهمة الرسالة وإرساء دعائم دين جديد شامل من جهة، وبمهمة إدارة دولة فتية من جهة، وبمهمة قيادة الجيوش للدفاع عن بيضة الإسلام من جهة ثالثة، فكيف يسهل أن يتتبع الشخص كافة الحاضرين ويكتشف من غاب منهم ومتى غاب ثم يزوره أو يعوده؟!

ص: 53


1- سورة فصلت: 17.
2- سورة الأنعام: 28.
3- سورة الإسراء: 84.
4- مكارم الأخلاق (للطبرسي): ص19.

البصيرة العاشرة: معضلة تدافع مادة العفو وهيئة الأمر

اشارة

البصيرة العاشرة: إن مادة (العفو) في قوله تعالى: «فَاعْفُ عَنْهُمْ» قد يتوهم: مناقضتها لهيئتها؛ فإن مفاد الهيئة حسب ظاهر الأمر هو الوجوب أما المادة وهي العفو فإن مقتضاها هو الحرية والاختيار والجواز.

وتوضيح ذلك: أن معنى العفو هو أن الأمر بيدك فلك أن تعفو ولك أن لا تعفو كما في ولي الدم، فإن ولي المقتول ظلماً له أن يقتص وله أن يأخذ الدية وله أن يعفو، وولي المقتول خطأً مخيّر بين الأخيرين، ومعنى ذلك أن العفو خيار اختياري وليس قسرياً جبرياً، فكيف يجتمع الأمر مع العفو؟

وعليه: فلا مناص من التصرف في ظاهر الأمر بحمله على الندب ليكون الحاصل هو أن العفو مستحب مندوب إليه وليس بواجب.

وتضادّ المادة والهيئة أو المتعلِّق والمتعلَّق يظهر بوضوح في الأمثلة التالية:

أ - لو قال: (أهن العادل) فإن الأمر بالإهانة يتدافع مع كون متعلَّقه هو العادل.

ب - لو قال: (ولي الأمر هو الظالم المستبد) فإن ولاية الأمر لا تتجانس مع منحها للظالم المستبد، بل إن رب الأرباب عندما منح الولاية لأشخاص فإنه منحها لمن تميّزوا بصفات استثنائية أهلّتهم لذلك، قال تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَوَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(1) فكيف مع ذلك يعقل أن يكون الظالم هو ولي الأمر؟!

وبذلك نعرف عمق التناقض الذي وقع فيه أهل العامة إذ اعتبروا الحاكم وإن كان جائراً ولياً للأمر من قبل الله تعالى، وهل ذلك إلا التناقض بعينه؟ وهل

ص: 54


1- سورة المائدة: 55.

هو إلا اتهام لله تعالى في عدله وحكمته؟!

حل المعضلة

ولكن يمكن الجواب عن التضاد بين مادة العفو وهيئة الأمر بوجهين:

العفو اختياري مستحب بعنوانه الأولي وواجب بالعنوان الثانوي

الأول: إن (العفو) حسب مقتضاه الأولي اختياري جائز، لكنه يمكن أن يتحول إلى واجب بعنوان ثانوي طارئ، وذلك كما أن إنفاق المال زائداً على الخمس والزكاة مستحب، لكنه قد يجب بعنوان ثانوي كما لو كان الفقير على وشك الموت فإنه يجب الإنفاق عليه، بل وكذا لو أمر الإمام (عليه السلام) بأمر ولائي لضرورة من الضرورات، بأن يدفع المكلفون الأكثر من الخمس والزكاة فإن الإنفاق المستحب بعنوانه الأولي يتحول حينئذٍ إلى واجب، كما ورد في رواية معتبرة أن الإمام الجواد (عليه السلام) فرض الخمس في إحدى السنين على الشيعة مرتين.

وكما في النفقة على الزوجة فإن الإنسان قبل أن يتزوج لا تجب عليه النفقة لكنه إذا تزوج وجبت عليه، بل أنه لو لم يبذلها، حتى في صورة العجز، كانت ديناً عليه.

و(العفو) بعنوان الأولي مستحب، لكن مولى الموالي ومالك الملوك والملكوت له أن يعتبره واجباً على القائد أو القادة أو عامة الناس في صورة من الصور وحالة من الحالات أو أكثر.

الثاني: إن (المعفوّ عنه) غير (العفو) وقد يكون المعفو عنه ممااختياره بيد الإنسان ولا يكون العفو بنفسه مما اختياره بيده، والفرق واضح فإن العفو هو المتعلِّق والمعفو عنه هو المتعلَّق والفرق بينهما كبير.

ص: 55

ويوضحه: الفرق بين الملكية والمملوك؛ فإن الإنسان المالك لهذه الدار مثلاً له المالكية وهذه الدار مملوكة له، وعند التدقيق نجد أنه مالك للدار ولكنه قد لا يكون مالكاً لمالكيته للدار، فحيث إنه مالك للدار له أن يتصرف فيها، ولكنه قد لا يكون مالكاً لمكليته للدار فليس له أن يُسقطها بالإعراض مثلاً.

وقد فصّلنا البحث عن الفرق بين الملك والمملوك والجعل والمجعول والإنشاء والمُنشَأ في مباحث الحقوق من فقه البيع، وأوضحنا أن العلاقة ليست علاقة المصدر باسم المصدر ولا أنهما شيء واحد يختلف باختلاف الاعتبار بل العلاقة هي علاقة السبب بالمسبب أو العلة المُعِدة بالمُعَدّ له، فراجع.

البصيرة الحادية عشرة: ظاهر الآية وجوب العفو والاستغفار والاستشارة

البصيرة الحادية عشرة: إن المستفاد من ظاهر الآية الكريمة: أن العفو واجب وكذا الاستغفار للمؤمنين العصاة، وأيضاً الاستشارة مع الأمة.

والمقصود وجوب هذه الثلاثة على القائد في أي موقع كان، سواءً أكان نبياً إماماً منصوباً من عند الله تعالى أم كان مرجع تقليد أم كان قائداً أم رئيساً لأمة أو دولة أو لحزب أو عشيرة أو جماعة من الناس؛ وذلك لأن الأصل في الخطابات القرآنية الموجهة بظاهرها للنبي الأكرم (صلي الله عليه وآله) أنها أحكام عامة إلا ما ثبت اختصاصه به (صلي الله عليه وآله)، وذلك لضرورة الاشتراك في الأحكام أولاً ولقاعدة التأسي ثانياً، فليس ذلك من تنقيح المناط في شيء.

على أنه لو كان منه لأمكن إدعاء الفحوى والأولوية؛ فإنه إذاكان

النبي (صلي الله عليه وآله) على عصمته واتصاله بالوحي ومكانته السامية التي لا يرقى إليه الخيال لو غلظ على الناس لانفضوا من حوله وابتعدوا عن تعاليم الدين ولذا

ص: 56

وجب عليه العفو عنهم والمشورة معهم والاستغفار لهم، فما بالك بحال سائر القادة ممن لا يمتلكون موقع النبي ومكانته وعظمته؟ فإن فظاظتهم مع الناس وغلظتهم ادعى لفرار الناس وهروبهم من دين الله فتكون ضرورة تألّفهم والعفو عنهم والاستغفار لهم والاستشارة معهم، أشد! فتأمل.

البصيرة الثانية عشرة: الأمر في الآية مولوي للوجوب وليس إرشادياً

اشارة

البصيرة الثانية عشرة: الظاهر - حسب القواعد - أن الأمر ههنا مولوي وليس ارشادياً، فإذا كان مولوياً استحق القائد على مخالفته العقاب، ولو خالف سقط عن العدالة بالمخالفة الواحدة إن قلنا بأنها من الكبائر وإلا فبالإصرار عليها يسقط من العدالة إن قلنا بأنها من الصغائر.

وقد اختلفت الأقوال في ضابط الكبائر: ففي الخبر: بأنها (ما أوعد الله عليه النار)(1) فعلى هذا فعدم العفو أو الاستغفار أو الاستشارة ليست من الكبائر، وقيل بأنها: (ما نُصّ في الأثر على أنه من الكبائر) فالأمر كذلك، وقيل غير ذلك(2)

مما يحتاج تنقيحه إلى عقد بحث آخر.

هل المصرّ على ترك الاستشارة والعفو، فاسق

وبناء على الوجوب: لو كان الشخص إمام جماعة أو مرجع تقليد أو قاضياً أو قائداً ورئيساً لدولة فانه يسقط عن العدالة ولا يجوز له الاستمرار في القضاء والقيادة وشبههما إن أصر على عدمالاستشارة أو عدم العفو أو عدم الاستغفار، بعد القول بالوجوب.

ص: 57


1- ْ عن كَثِيرٍ النَّوَّاءِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنِ الْكَبَائِرِ؟ فَقَالَ (عليه السلام): «كُلُّ مَا أَوْعَدَ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ عَلَيْهِ النَّارَ».
2- قيل إنها ما استوجب عليه الحد، وقيل إنها سبعة، وقيل إن كل معصية فهي كبيرة! وقيل غير ذلك.

والذي يدل على الوجوب: أن الأصل في الأوامر أن تكون مولوية كما أن ظاهرها الوجوب، أما الإرشادية فخلاف الأصل لا يصار إليها إلا بدليل وكذا الاستحباب.

الاستدلال على إرشادية الأمر بالعفو والاستشارة

وقد يتوهم: أن الأمر للإرشاد؛ نظراً لسبق التعليل وهو قوله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ...» و«وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» وكلما جرى التعليل لأمر وحكمٍ أو لنهي وزجر كان ظاهراً في الإرشاد إلى ما فيه من المصلحة الكامنة أو المفسدة المتضمنة.

الأجوبة

ولكنه توهم غير صحيح؛ فإن الأوامر المولوية أيضاً كثيراً ما يجري التعليل لها كي تشكل حافزاً إضافياً للعبد نحو الانقياد إضافة إلى حافز موقع المولى ومولويته؛ ألا ترى تعليله تعالى للصلاة والحج والكثير من الواجبات والمحرمات؟ فمثلاً قوله تعالى: «أَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي»(1) فذكر الله تعالى هي الغاية والعلة لإقامة الصلاة ومع ذلك لم يخرج الأمر بالصلاة عن المولوية للارشادية، وقوله تعالى: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ»(2).

إضافة إلى أن تنقيح الضابط في الأوامر المولوية، يحسم أصل مادة التوهم والإشكال فإن الضابط هو (ما صدر من المولى بما هو مولى مُعمِلاً مقام مولويته) فلا فرق حينئذٍ بين كونه معلَّلاً أو لا، ولا بين ذكر مصلحة أو مفسدة دنيوية أو

ص: 58


1- سورة طه: 14.
2- سورة الحج: 27 - 28.

لا، ولا بين كونه في مورد المستقلات العقلية أو لا، ولا ولا.. وقد تطرقنا لتفصيل كل ذلك في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية)، فليراجع.إضافة إلى أن كون الأمر للإرشاد لا ينافي كونه للوجوب إذ قد يكون الإرشادي إلزامياً(1) كما فصلناه في الكتاب تبعاً للميرزا الشيرازي الكبير (رحمة الله) والذي نقله عن الشيخ الانصاري (رحمة الله) أيضاً.

وهذا كله من جانب ومن جانب آخر، فإنه لو تنزلنا وسلمنا بأن الأمر ليس مولوياً، لاختلاف المبنى في ضابط المولوية أو لاستظهار الارشادية من قرائن أخرى كمناسبات الحكم والموضوع أو السياق فرضاً، فإن الأمر في هذه الآية الشريفة يتمتع بميّزة إضافية تجعله يفيد الوجوب، ولو لم يكن أمراً مولوياً ولم يكن الواجب واجباً نفسياً، وهو وقوعه مقدمة للواجب ووقوع تركه مقدمة للحرام - في الجملة- ومقدمة الواجب واجبة عقلاً أو عقلاً وشرعاً أيضاً.

وذلك هو صريح الآية الشريفة: «وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» فإن الانفضاض من حول الرسول (صلي الله عليه وآله) بترك الالتزام بأوامره ونواهيه وإهمال تعاليمه محرم، والفظاظة والغلظة مقدمة موصلة لذلك فهي محرمة تحريماً مقدمياً، والعكس بالعكس فإن الرحمة واللين والرفق موجبة لاجتذاب الناس إلى الدين وتعاليمه وقياداته فهي واجبة.

السر في خروج الناس من دين الله أفواجاً أو صدّهم عن الدخول فيه

والواقع الخارجي طوال مئات السنين وعبر ألوف القيادات وعلى مساحة مئات الدول يشهد بذلك، فإن سوء تصرف قادة ورؤساء الدول الإسلامية على مرّ التاريخ أوجب صدود الملايين من المسيحيين والبوذيين وغيرهم من الدخول في

ص: 59


1- وإن لم يستحق على تركه العقاب، فهذا فارقه عن المولوي.

الإسلام، بل وأن تصرفاتهم الخشنة المستبدة أوجبت خروج الكثير من المسلمين من دين الله أو من دائرة التدين والإيمان فأصبحنا نشهد (ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجاً) بدل الحالة التي أشارت إليها الآيةالكريمة «وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً»(1)، وما أمواج العلمانية الهادرة في بلادنا وما سوء سمعة الإسلام والمسلمين لدى عشرات الملايين من الناس إلا من نتائج استبداد حكامنا وجورهم وظلمهم وعنفهم وقسوتهم وغلظة قلوبهم وفظاظة ألسنتهم وأيديهم وسائر جوارحهم.

ملامح من رحمة النبي الأعظم (صلي الله عليه وآله) بالناس ورفقه بهم وأُبوّته لهم

اشارة

وههنا نشير إلى بعض ملامح ومعالم رِفقه (صلي الله عليه وآله) بأصحابه وأهل بيته، ولينه معهم ومداراته لهم ومراعاته لمشاعرهم وتكريمهم واحترامه لهم.

أ: كان (صلي الله عليه وآله) يجلس على دكان من طين!

عن أبي ذرٍّ قال: (كان رسول الله (صلي الله عليه وآله) يجلس بين ظهراني أصحابه فيجي ء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى النَّبِي (صلي الله عليه وآله) أن يجعل مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه فبنينا له دكّاناً من طينٍ وكان يجِس عليه ونجلس بجانبيه)(2).

وذلك يُعدّ من أروع مكارم الأخلاق وفضائل الأفعال والصفات؛ فإن التميّز على الناس والترفع عنهم هو شأن كبار القوم والقادة عادة ويقل العكس أو يندر، وهل تجد في العالم كله قائداً يجلس على التراب؟ ثم بعد ذلك قادته الضرورة الى ان يختار «دُكَّاناً مِنْ طِينٍ» فقط ليجلس عليه،، إذ كان الغرباء يقعون في ضيق وإحراج عندما لا يعرفون النبي بين جملة من الصحابة فيحرجون في

ص: 60


1- سورة النصر: 2.
2- مكارم الأخلاق (للطبرسي): ص16.

السؤال عنه.

وفي ذلك أكبر العِبرة لنا فإن الرؤساء والوزراء ورؤساء الشركات والقادة يجلسون عادة مجلساً - خلف مكتب أو كرسي -يفصلهم عن الناس والمراجعين ويجعلهم يستشعرون ببعض الفوقية كما يشعر المراجِع باستعلاء الرئيس عليه.

وهذه عادة غير إنسانية و غير إسلامية ايضاً اذا اوحت بالفوقية والاستعلاء، وعلينا أن نحمد الله تعالى أنها لم تسرِ حتى الآن إلى الحوزات العلمية ورجال الدين، ولعل البعض تهشّ نفسه إلى ذلك أو يتصور فيه كمالاً وجلالة فقد تضعف نفسه أمام إغراء فخامة المكتب والعرش والكرسي، فعلينا أن نحذّر المؤمنين والرساليين خاصة الطلاب الذين انخرطوا في سلك الدولة أو بعض الوظائف الرسمية من أن يتركوا سنة الرسول (صلي الله عليه وآله) وسيرته فإنها خير لهم للدنيا والآخرة معاً فأنى يُصرفون؟!

كما ورد (أنه (صلي الله عليه وآله) كان إذا جلس جلس إليه أصحابه حلَقاً حَلَقاً)(1).

ومن الواضح أن جلسة الحلقة لا تميز فيها أبداً.

ب: وكان لا يعاتب الرجل بشكل مباشر

وكان من كريم أخلاقه (صلي الله عليه وآله) أنه كان إذا بلغه عن الرجل، لم يقل: ما بال فلان يقول، ولكن كان يقول: ما بال أقوامٍ يقولون كذا و كذا كما جاء: (وكان رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقول ما بال أقوام يقولون كذا فكان لا يعين و يكون مقصوده واحدا بعينه)(2) مع أن سيرة الأكثر جرت على مواجهة الطرف الآخر بلاذع القول أو بالعتاب على أقل التقادير، لكن النبي (صلي الله عليه وآله) هو المثال الأسمى في كرم النفس

ص: 61


1- مسند البزاز.
2- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج9 ص68.

وحُسن العِشرة، أفلا نتأسى به؟!

ج: وكان لا ينصرف عن صاحبه حتى يكون هو المنصرف!

وكان (صلي الله عليه وآله) (إذا لقيه أحد من أصحابه فقام معه قام معه، فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه، وإذالقيه أحد من أصحابه فتناول يده ناوله إياها فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها عنه)(1)،

وفي ذلك دلالة بالغة على عظمة الرسول (صلي الله عليه وآله) وسمو نفسه ومنتهى الكمال في إنسانيته؛ إذ من الواضح أن التقيد بهذه القاعدة (أن لا يترك صاحبه ولا يفارقه حتى يكون صاحبه هو الذي يفارقه) أصعب من الصعب لكثرة مشاغل الإنسان وأعماله والتزاماتها فكيف بمثل الرسول (صلي الله عليه وآله) وهو رئيس دولة وقائد عام ورسول ومبلغ ومربي وهادي! فإن ضغط أعماله ومسؤولياته رهيب خاصة وأن كثيراً من الناس لا يقدِّرون ظروف القائد والتزاماته - بل لا يقدرون ظروف أصدقائهم وأعمالهم - فلا ينصرفون إلا بعد فترة طويلة وكثيراً ما لا تكون لهم حاجة حقيقية إلا رغبة في ملأ الفراغ والتسلي بالصحبة!

د: وكان (صلي الله عليه وآله) يتجنب حتى المنفِّرات البسيطة

كما أننا نجد في أخلاقه (صلي الله عليه وآله) مع أصحابه وأهله أنه «كَانَ لَا يَأْكُلُ الثُّومَ وَلَا الْبَصَلَ وَلَا الْكُرَّاث»(2) مع أن رائحة الكراث قليلة ورغم حاجة البدن إلى هذه الثلاثة لكنه (صلي الله عليه وآله) كان لا يرغب في إلحاق أدنى درجات الضرر أو الانزعاج بأصحابه.

ص: 62


1- مكارم الأخلاق (للطبرسي): ص17.
2- مكارم الأخلاق (للطبرسي): ص30.

كما ورد أنه (صلي الله عليه وآله) كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك، وإذا قام من نومه بدأ بالسواك أيضاً(1)، مع أن الالتزام بذلك صعب جداً إلا أنها المثالية في رعاية كافة مظاهر الرحمة بالناس والأهل حتى بمقدار رعاية مظهر الأسنان وروعتها وطيب نكهة الفهم وعذوبته.

بل إن لطفه (صلي الله عليه وآله) بهم وإدخال السرور علىقلوبهم بلغ درجة أنه (صلي الله عليه وآله) كان يتجمّل لأصحابه كما يتجمل لأهل بيته - كما ورد في رواية أخرى -(2).

وهذه كانت عينات من مظاهر لطفه ورحمته ورفقه ورعايته بأصحابه وأهله وسنذكر عينات أخرى لاحقاً بإذن الله تعالى.

هذا وان هنالك على ضوء قوله تعالى: «وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» نقاط وإضاءات متسلسلة:

البصيرة الثالثة عشرة: العلاقة التفاعلية بين غلظة القلب وفظاظة الجوارح

البصيرة الثالثة عشرة: إن الفظاظة تعني: القسوة والخشونة المتجلية على الجوارح، أما الغلظة فهي: القسوة القائمة بالجوانح، وهما أمران تتحكم فيها علاقة تفاعلية؛ فإن غلظة القلب تارة تنعكس على الجوارح فتصبغها بصبغتها فتنبعث عنها وتتناغم معها، وأخرى يكون الشخص من قوة الشخصية بحيث يسيطر(3) على جوارحه كي لا تتفاعل مع غلظة القلب ولا تستجيب لها. كما أن فظاظة الجوارح والعنف الجسدي تجاه الآخرين يتموج على القلب فيزيده قسوة على قسوة.

ص: 63


1- مكارم الأخلاق للطبرسي: ص39.
2- مكارم الأخلاق للطبرسي: ص32
3- سيأتي أن هذه السيطرة محدودة وليست مطلقة.

البصيرة الرابعة عشرة: تأثيرات تموجات حالة القلب على العلاقات الاجتماعية

البصيرة الرابعة عشرة: إن من اجتمعت فيه الصفتان؛ فظاظة الجوارح وغلظة القلب، فإن الناس ينفضون من حوله سِراعاً كالجراد المنتشر وقَلّ أن يبقى معه أحد إلا اضطراراً.

ولكن ماذا عمن كان غليظ القلب لكنه لم يكن فظ الجوارح، فإن الكثير من الناس بمقدوره التحكم في أفعاله وحركاته وتصرفاته بحيث لا تؤثر فيها حالاته النفسية وملكاته وصفاته الحقيقية؟ وماذا عمن كان على العكس من ذلك تماماً بأن كان طيبَ القلب ليّنَه، لكنه كان قاسياً خشناً في تعامله مع الناس؟إن من الواضح أن كلّاً منهما أهون حالاً ممن جمع كلتا الصفتين المنفِّرتين لخلق الله عن الالتفاف حول رسل الله وخلفائهم والعلماء والرساليين والعاملين، كما أن من الواضح أن من كان طيب القلب بسيط الطوية ساذج السريرة لكنه كان - لعادةٍ أو لسوء تربية أو سوء تقدير و اجتهاد - شديداً في تعامله مع الناس فإن الناس ينفضون من حوله، وإن كانت طيبة قلبه تشفع له في الجملة فقد يتحمله البعض ممن يعرف جوهر نفسه وواقع أمره إلا أن الأكثر لا يتحملون.

ولكن ماذا عن العكس؟ وهل لغلظة القلب الواقعية إذا لم تنعكس على الجوارح أبداً، بل كان ليّناً في تعامله معهم دائماً، تأثير سلبي؟

الظاهر: أن الجواب هو نعم؛ وذلك لأنه إذا فرض قدرة الشخص على تحييد الملكات الراسخة عن التأثير في أفعاله وردود أفعاله بالمطلق، وهو فرض بعيد إذ «مَا أَضْمَرَ أَحَدُكُمْ شَيْئاً إِلَّا وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ»(1)، لكنه

ص: 64


1- بحار الأنوار: ج65 ص316.

على فرض ذلك فإن القلب وحالاته يبقى له حيّز من التأثير على أنفس الآخرين، فقد ثبت علمياً أن للقلب وللمخ تموجات تنعكس - سلباً أو إيجاباً - على قلوب وأفكار الآخرين مهما جرى التحفظ عليها وأُخفيت؛ ولذا قيل (القلب يهدي إلى القلب) ولذلك نجد أننا قد نكره شخصاً ونحب آخر من غير أن يكون لذلك سبب ظاهر ويكون السبب الواقعي هو تموجات أفكاره وأمواج عواطفه التي إن وَجَدَت مستقبِلاً قد ضُبِطت تردداتُه على موجة الإرسال الخاصة هذه فإنها تترك أكبر التأثير، وذلك كله على نحو المقتضي وليس بالعلة التامة.

ومن هنا نجد أن من يحسد الآخرين أو يحقد عليهم أو يحمل عليهم الضغائن فإنهم يشعرون نحوه بانكماش من حيث قد لا يعلمون سببه بل قد يلومون أنفسهم على ذلك.

البصيرة الخامسة عشرة: الانفضاض وليد مجموع الصفتين

اشارة

البصيرة الخامسة عشرة: إن ظاهر الآية أن النتيجة والغاية وهي«لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» قد رُتّبت على من جَمَع مجموع الصفتين «فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ» دون أحداهما فقط، ولكن نقول:

الغلظة والفظاظة حقائق تشكيكية فالانفضاض درجات حسب درجاتهما

إن مقتضى القاعدة في كل أثر وحكم رُتِّب على مجموع أمرين أو على أمر مقيد بوصفين، كونه معلقاً على تحققهما جميعاً فلو تحقق أحدهما دون الآخر لما ترتّب ذلك الأثر أو الحكم إن لم نقل بالعكس، وأما في مرحلة عالم الأدلة فإن الدليل الدال على ثبوت الحكم لمن جمع صفتين مثلاً لا يكون دالاً على ثبوته لمن

ص: 65

اتصف بإحداهما فقط إن لم نقل بأنه دال على العكس.

ولكن هذا هو الأصل والقاعدة التي قد نخرج عليها بالدليل، ومن الأدلة مناسبات الحكم والموضوع وهي التي تدل، في مورد الآية الشريفة، على أن الأمر لهو على خلاف القاعدة.

توضيحه: إن غلظة القلب لها درجات وفظاظة الجوارح لها درجات أيضاً، وكذلك فإن انفضاض الناس من حول الإنسان له درجات وشدة وضعف، ومن الواضح - بل والوجداني - أن درجات القسوة والغلظة والفظاظة تؤثر في درجات الانفضاض فكلما زادت قسوة الإنسان وغلظته قلباً وقالباً ازداد انفضاض الناس من حوله والعكس بالعكس فهذا من جهة.

ومن جهة أخرى: فإن من الوجداني أيضاً أن من جمع الصفتين ازداد نفور الناس منه دون من تفرد بإحداهما كما سبق.

وعليه فالمستفاد من الآية وبلحاظ مناسبات الحكم والموضوع: إن أعلى درجات إنفضاض الناس من حول الإنسان تكون عند تواجد أعلى درجات الفظاظة والغلظة، وأن درجات الانفضاض تتناقص كلما تنازلت درجات الفظاظة والغلظة أو كلما انفصلت إحدى الصفتين عن الأخرى.

والدرس المستفاد من ذلك كله هو ضرورة اختيار اللِّين الجوارح والجوارح لقيادة الشعب أو الحزب أو العشيرة أو النقابة أو الجامعة أوالحوزة، أو لإدارة الشركة أو المعمل والمصنع أو غير ذلك، وإنه كلما ابتعدنا عن اللِّين الجوارحي أو الجوانحي باتجاه العنف والقسوة كلما زهد الناس فينا وانفضّوا من حولنا أكثر فأكثر.

لقطات ومشاهد اخرى من لين النبي (صلي الله عليه وآله) ورحمته ورفقه بالناس

اشارة

وسنستعرض الآن نماذج سريعة اخرى من لِين النبي (صلي الله عليه وآله) وعطفه ورحمته

ص: 66

بالناس مضافاً الى ما سبق، عسى أن تكون مرشداً لنا في دروب الحياة:

أ: من مواصفاته النموذجية في التعامل مع الناس

(قال أنس: ما إلتقَمَ أحد أُذُنَ رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) فينحّي (صلي الله عليه وآله) رأسه حتّى يكون الرجل هو الذي ينحّي رأسه.

وما أخذ أحد بيده فيرسل (صلي الله عليه وآله) يده حتّى يرسلها الآخر.

وما قعد إليه رجل قطّ فقام (صلي الله عليه وآله) حتّى يقوم.

ولم يُرَ (صلي الله عليه وآله) مقدّما ركبتيه بين يدي جليس له.

وكان يبدأ من لقيه بالسلام و يبدأ أصحابه بالمصافحة.

ولم يُرَ (صلي الله عليه وآله) قطّ مادّاً رجليه بين أصحابه.

وكان يكرم من يدخل عليه وربّما بسط له ثوبه ويؤثره بالوسادة التي تحته ويعزم عليه في الجلوس عليه إن أبى.

وكان يكنّي أصحابه ويدعوهم بأحبّ أسمائهم تكرمة لهم، ولا يقطع على أحد حديثه)(1).

ومن الواضح أن الالتزام بذلك صعب جداً بل يكاد يكون أشبه بالمحال العرفي؛ إذ أن كثيراً من الناس لا يقدِّرون للوقت قيمةً والكثير منهم يثرثر بالرطب واليابس، بل قد يأخذون وقت القائد فيسرد منام (طيف) رآه يستغرق عدة دقائق وأكثر، ولكن الرسول (صلي الله عليه وآله) مع ذلك كله ومع أن بعض الناس ثقيل جداً في مضمون كلامه أو في أسلوبه أو في بذاءة لسانه، كان (صلي الله عليه وآله) ما إلتقَمَ أحد أُذُنَ رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) فينحّي رأسه حتى يكون الرجل هو التارك والمنصِرف ... وما قام حتى يقوم الرجل ... الخ.

ص: 67


1- سفينة البحار ومدينة الحِكَم والآثار: ج2 ص691.
ب: كان (صلي الله عليه وآله) يغمس يده في المياه الباردة كل صباح

وروي أيضاً: (كان خدم المدينة يأتون رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) إذا صلّى الغداة بآنيتهم فيه الماء، فما يؤتى بآنية إلاّ غمس يده فيها وربّما كان ذلك في الغداة الباردة يريدون به التبرّك)(1).

ومن الواضح أن ذلك يشكل ضغطاً على القائد؛ فإن الاستجابة لكل أولئك الناس ووضع اليد في الماء البارد في الشتاء صعب جداً خاصة وأنه لا يبعد أن عدد الذين كانوا يصطحبون الأواني إليه (صلي الله عليه وآله) كان كبيراً في الكثير من الأحيان بسبب تزايد عدد المسلمين بمرور الأيام، ولأن التبرك بماءٍ وَضَعَ رسول الله (صلي الله عليه وآله) فيه يده أمرٌ سهلٌ، من جهةٍ، فلم لا يطلبونه، كما أنه أمر هام جداً لديهم فلم يتركونه؛ إذ كانوا يستشفون به بشربه أو وضعه في طعامهم أو غسل وجوههم وأيديهم به أو غير ذلك.

ج: تعامله (صلي الله عليه وآله) مع الأصحاب تعامل الأخ مع الأخ

و(روي: أنّه خرج رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) إلى بئر ليغتسل، فأمسك حذيفة بن اليمان بالثوب على رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) وستره به حتّى اغتسل، ثمّ جلس حذيفة ليغتسل فتناول رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) الثوب وقام يستر حذيفة فأبى حذيفة وقال: بأبي أنت وأمّي أنت يا رسول اللّه لا تفعل! فأبى رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) إلاّ أن يستره بالثوب حتّى اغتسل، وقال: «مَااصْطَحَبَ اثْنَانِ إِلَّا كَانَ أَعْظَمُهُمَا أَجْراً وَ أَحَبُّهُمَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ أَرْفَقَهُمَا بِصَاحِبِهِ»(2)(3).

ص: 68


1- سفينة البحار ومدينة الحِكَم والآثار: ج2 ص691.
2- الكافي: ج2 ص120.
3- سفينة البحار ومدينة الحكم: ج2 ص692.
د: من توجيهاته (صلي الله عليه وآله): تصدقوا بأعراضكم على الناس!

ومن لطائف توجيهاته (صلي الله عليه وآله) في مجال العفو واللين مع الناس ما ورد من (كان رسول اللهِ (صلي الله عليه وآله) يقول: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ؟» قَالُوا: يا رسول الله وما أبو ضمضمٍ؟ قال (صلي الله عليه وآله): «رَجُلٌ كَانَ مِمَّنْ قَبْلَكُمْ كَانَ إِذَا أَصْبَحَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَصَدَّقُ بِعِرْضِي عَلَى النَّاسِ عَامَّةً»(1)(2).

معنى العِرض

والمقصود من (العِرض) هو: ماء الوجه والسمعة الحسنة بين الناس والوجاهة، فإن الإنسان - عادة - حريص على ماء وجهه أكثر من أي شيء آخر، بل قد يبذل الناس الملايين وعشرات الملايين لمجرد تحسين صورتهم أمام الآخرين، والمشاهَد أن أحدهم لو اغتاب شخصاً أو اتهمه أو تكلم ضده فإن هذا الشخص قد ينفجر من الغضب، وقد يصاب بعضهم بمرض الكآبة من الحزن، بل قد يؤدي ذلك بالبعض إلى جلطة قلبية أو في المخ وقد يثير ذلك فِتَناً بين العشائر والأحزاب والجماعات بل قد يصل إلى إعلان الحرب أيضاً، ولكن تعاليم الإسلام الحنيف المبني على الرحمة واللين بالناس واضحة وهي التي عبرت عنها هذه الرواية: (أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا أَبُو ضَمْضَمٍ؟ قَالَ (صلي اللهعليه وآله): رَجُلٌ كَانَ مِمَّنْ قَبْلَكُمْ كَانَ إِذَا أَصْبَحَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَصَدَّقُ بِعِرْضِي عَلَى النَّاسِ عَامَّةً)، فالمنهج الإسلامي هو منهج الرحمة والعفو عن كل ذلك والتصدق على من ظلمك بالعفو عن كل ما

ص: 69


1- بحار الأنوار: ج68 ص423.
2- سفينة البحار ومدينة الحكم: ج6 ص305.

وجهه إليك من إساءات، فهلا نكون كذلك؟

وكان السيد الوالد قدس الله نفسه الزكية من المصاديق الجلية للمتصدقين بهذا النوع من أنواع الصدقة، إذ كان يعفو عمن ظلمه وتكلم ضده حتى إذا كان مستمراً على ذلك لعشرات السنين، بل إنه أعلن مراراً أنه قد عفى عن كل من هاجمه وتكلم ضده ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

البصيرة السادسة عشرة: اللين الشخصي والتقنيني والقيادي

اشارة

البصيرة السادسة عشرة: إن (اللين) في قوله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ» ذو تجليات عديدة على مستويات مختلفة، كما أنه يستبطن الأنواع التالية: اللين على المستوى الشخصي، وعلى مستوى التقنين والتشريع، وعلى مستوى الولاية والقيادة والحكومة.

والفرق بين هذه الأنواع الثلاثة كبير والنسبة بينها هي العموم من وجه، إذ قد يكون الشخص ليّناً على المستوى الشخصي وفي تعامله مع الآخرين كصديق أو زميل أو غير ذلك، لكنه يكون صارماً في تطبيق القوانين غير متسامح بل قاسياً عنيفاً مع من يخالف اللوائح، فإذا خالف أحدهم قوانين الشركة مثلاً مرةً وبّخه، أو مرتين قطع راتبه، أو ثلاث مرات فَصَلَه، ومثل هذا الشخص قد لا تجد للعفو في قائمته عيناً ولا أثراً، وقد يكون الأمر بالعكس تماماً فبينما تراه عنيفاً في تعامله الشخصي مع الآخرين، تجده متسامحاً بل متساهلاً في تطبيق القوانين.

وكذلك الأمر على مستوى القيادة والزعامة والرئاسة فقد يكون القائد في بعده الشخصي ودوداً من أصدقائه وجيرانه أو حتى مع أعدائه لكنه يكون في البعد القيادي عنيفاً خشناً داخلياً هجومياً خارجياً، وقد يكون بالعكس من ذلك تماماً. هذا من جهة.

ص: 70

النسبة بين الرفق والعنف

ومن جهة أخرى: فإن النسبة بين الرفق والعنف هي نسبة الضدين اللذين لهما ثالث فإن الشخص قد يكون رفيقاً بأبنائه أو أعضاء منظمته ليِّناً معهم، وقد يكون عنيفاً فظاً قاسياً خشناً، وقد يكون بين ذلك فلا هو بالفظ الغليظ ولا هو باللين الرفيق، وكل ذلك مما يتموج على أداء الإنسان في تلك المستويات الثلاث بدرجة وأخرى.

ومن جهة ثالثة: فإن هنالك درجات كثيرة للرفق ودرجات كثيرة للّين ومراتب كثيرة في المراحل المتوسطة بينهما.

تجليات الرفق واللين بمستوياتها الثلاث في الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله)

اشارة

وأما رسول الله المصطفى محمد (صلي الله عليه وآله) فلقد تجلت رحمة الله تعالى في وجوده المبارك على كافة المستويات: على المستوى الشخصي، وفي البعد الولائي (الولوي) - القيادي، وعلى مستوى التقنين والتشريع أيضاً، وبأعلى الدرجات فيها جميعاً.

أولاً: اللين على مستوى التشريع والتقنين
اشارة

من المعروف أن الله تعالى فوّض بعض أمر التشريع إلى رسوله المصطفى (صلي الله عليه وآله) فقد ورد: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَدَّبَ نَبِيَّهُ (صلي الله عليه وآله)، فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إِلَى مَا أَرَادَ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(1) فَفَوَّضَ إِلَيْهِ دِينَهُ»(2).

وقد ورد التعبير في الروايات عما شرّعه الرسول (صلي الله عليه وآله) ب-(سنة الرسول)

ص: 71


1- سورة القلم: 4.
2- الكافي: ج1 ص267.

وعما شرّعه الله تعالى مباشرة ب-(فرض الله)، فالركعتان الأوليان من الرباعيتين هما من فرض الله والأخيرتان هما من سنة الرسول (صلي الله عليه وآله) ولذا دخلتها أحكام الشك دون الأوليين بل كان الشك في الأوليين من الرباعيتينمبطلاً.

وساطة النبي (صلي الله عليه وآله) لتخفيف الصلوات اليومية من خمسين صلاة إلى خمسة!

وقد تجلى اللين النبوي بشفاعته للأمة حتى في مرحلة التشريع الإلهي إذ توسّط رسول الله (صلي الله عليه وآله) لدى رب العالمين مراراً عديدة للتخفيف من بعض الأحكام الإلهية.

ومن ذلك ما ورد: من أن الله تعالى شرّع في البداية خمسين صلاةً في اليوم الواحد، ولكن النبي (صلي الله عليه وآله) توسط لدى الله مراراً عديدة حتى أوصلها إلى خمس صلوات فقط(1) - ومع ذلك نجد أن الكثير من الناس لا يلتزم بها.

والسرّ واضح في كلتا الجهتين:

أ - إما تشريع الخمسين؛ فلأنه كانت فيها المصلحة الواقعية للعباد، ولأنهم خلق الله ولو أنهم عبدوا الله تعالى ليل نهار لما أدّوا عُشر معشار حقه عليهم، بل كلما عبدوه بشيء استحق عليهم شكرهم له وعبادته إياه لتوفيقه لهم لعبادته.

ب - وأما التخفيف؛ فلمصلحة التسهيل على العباد، وأنه (صلي الله عليه وآله) كان كما قال تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ» فقد زاحمت مصلحةُ التسهيل المصلحةَ الواقعية فانتجت التخفيف!

ثم إن الرسول (صلي الله عليه وآله) حاول الجمع بين الحقين بإضافته ركعات - إذ كانت الصلوات الخمس تتكون من عشر ركعات فأضاف (صلي الله عليه وآله) سبعة فصارت سبع عشرة

ص: 72


1- تفسير القمي: ج 2 ص12.

ركعة - وجوباً، ثم أضاف أربعاً وثلاثين ركعة استحباباً فبلغت (51) ركعة بين واجب ومستحب بعد أن كانت مائة ركعة موزعة على خمسين صلاة كلها واجبة.

وتلك الشفاعة النبوية هي مجلى من مجالي تأديبه تعالى له؛ إذ عرَّفه ملاكات الأحكام والمصالح والمفاسد وتزاحماتها جميعاً، وما يحبه تعالى وما يريده وقد كان منه هو مما قرره الله تعالىبقوله: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ»(1).

وقد فصلنا البحث عن ذلك في كتاب (فقه المعاريض والتورية) وغيره.

ثانياً: اللين على المستوى الولوي والقيادي

فقد كان الرسول (صلي الله عليه وآله) في قيادته للأمة وفي إعماله ولايته عليهم في منتهى اللطف والرفق والمدارات ولذا نجده (صلي الله عليه وآله) قد عفى عن المنافقين ولم يؤاخذ المتآمرين حتى أولئك الذين سعوا لقيادة انقلاب عسكري عليه وخططوا لاغتياله وكادوا ينجحون في ذلك لولا إحباط المؤامرة في اللحظات الأخيرة، وذلك في مواطن عديدة ومنها في قضية الدباب التي دحرجوها في ثَنِيّة الجبل في ظلام الليل.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلي الله عليه وآله): «يَا حُذَيْفَةُ إِذَا كَانَ اللَّهُ يُثَبِّتُ مُحَمَّداً لَمْ يَقْدِرْ هَؤُلَاءِ وَلَا الْخَلْقُ أَجْمَعُونَ أَنْ يُزِيلُوهُ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَالِغٌ فِي مُحَمَّدٍ أَمْرَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» ثُمَّ قَالَ (صلي الله عليه وآله): «يَا حُذَيْفَةُ فَانْهَضْ بِنَا أَنْتَ وَسَلْمَانُ وَعَمَّارٌ وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ فَإِذَا جُزْنَا الثَّنِيَّةَ الصَّعْبَةَ فَأْذَنُوا لِلنَّاسِ أَنْ يَتَّبِعُونَا». فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ (صلي الله عليه وآله) وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ وَحُذَيْفَةُ وَسَلْمَانُ أَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ يَقُودُهَا وَالْآخَرُ خَلْفَهَا يَسُوقُهَا وَعَمَّارٌ إِلَى جَانِبِهَا وَالْقَوْمُ عَلَى جِمَالِهِمْ وَرَجَّالَتُهُمْ مُنْبَثُّونَ حَوَالَيِ الثَّنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْعَقَبَاتِ وَقَدْ جَعَلَ الَّذِينَ فَوْقَ الطَّرِيقِ حِجَارَةً فِي دِبَابٍ فَدَحْرَجُوهَا مِنْ

ص: 73


1- سورة البقرة: 185.

فَوْقٍ لِيُنَفِّرُوا النَّاقَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلي الله عليه وآله) لِتَقَعَ فِي الْمَهْوَى الَّذِي يَهُولُ النَّاظِرَ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْ بُعْدِهِ، فَلَمَّا قَرُبَتِ الدِّبَابُ مِنْ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلي الله عليه وآله) أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا فَارْتَفَعَتْ ارْتِفَاعاً عَظِيماً فَجَاوَزَتْ نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلي الله عليه وآله) ثُمَّ سَقَطَتْ فِي جَانِبِ الْمَهْوَى وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْ ءٌ إِلَّا صَارَ كَذَلِكَ وَنَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ (صلي الله عليه وآله) كَأَنَّهَا لَا تُحِسُّ بِشَيْ ءٍ مِنْ تِلْكَ الْقَعْقَعَاتِ الَّتِي كَانَتْ لِلدِّبَابِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلي الله عليه وآله) لِعَمَّارٍ «اصْعَدِ الْجَبَلَفَاضْرِبْ بِعَصَاكَ هَذِهِ وُجُوهَ رَوَاحِلِهِمْ فَارْمِ بِهَا»...)(1).

والكلام في هذا الحقل أيضاً طويل يحتاج - كسابقه - إلى كتابة مجلد ضخم.

ثالثاً: اللين على المستوى الشخصي
اشارة

ولقد كان الرسول (صلي الله عليه وآله) في تعامله الشخصي مع الناس في منتهى اللطف والرفق واللين معهم وكان يعاملهم كأخ شفيق وأب رفيق بل كأفضل أب وأخ عرفهما العالم كله، اوردنا بعضها فيما سبق، ونذكر صوراً أخرى.

نماذج اخرى متألقة من الليّن النبوي (صلي الله عليه وآله)

وهذه بعض المشاهد المشرقة التي تزيح الستار عن جانب من تلكم الجوانب الرائعة:

أ: عن الإمام الصادق (عليه السلام): «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلي الله عليه وآله) يَقْسِمُ لَحَظَاتِهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَيَنْظُرُ إِلَى ذَا وَيَنْظُرُ إِلَى ذَا بِالسَّوِيَّة»(2).

ولعل ذلك يعد من أصعب الأمور على القائد الجماهيري، فإن الرسول (صلي الله عليه وآله) كان يعيش في بحر من الناس، وكان يخرج إليهم على امتداد ساعات اليوم، ففي أوقات الصلوات كان في متناول أيديهم وفي أوقات النوافل

ص: 74


1- الاحتجاج: ج1 ص54.
2- الكافي: ج2 ص671.

أيضاً كان كذلك إذ كان يصلي نوافله في المسجد، كما أنه كان وهو في داخل المدينة يعيش كأحد الناس ويمشي بلا حراس وكان يحلب بنفسه عنز أهله وكان في الحروب أيضاً في متناول أيدي أصحابه.

وقد كان (صلي الله عليه وآله) كثير الجلوس مع أصحابه ولعله جلس معهم طوال عشر سنوات في المدينة عشرات الألوف من الجلسات.

ومن هنا ندرك مدى صعوبة أن يقسم لحظاته بين أصحابه بالسوية، فإن الإنسان العادي يصعب عليه أن يقسم لحظاته بينأصحابه بالسوّية لضرورات التواصل عادة، ولكن الرسول (صلي الله عليه وآله) رغم اختلاف مستويات الحضور بين عالم وجاهل وتاجر ومعدم ومؤمن ومنافق، كان يقسم لحظاته بينهم بالسوية!

ب: وورد: (وَإِنْ كَانَ لَيُصَافِحُهُ الرَّجُلُ فَمَا يَتْرُكُ رَسُولُ اللَّهِ (صلي الله عليه وآله) يَدَهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ التَّارِكَ، فَلَمَّا فَطَنُوا لِذَلِكَ كَانَ الرَّجُلُ إِذَا صَافَحَهُ مَالَ بِيَدِهِ فَنَزَعَهَا مِنْ يَدِهِR(1).

وذلك من الصعب حقاً على كل من ازدحمت جدول أعماله بالنشاطات والمسؤوليات؛ إذ إن الكثير من الناس يطيلون المصافحة ولا يكادون يتركون اليد إلا بعد فترة قد يكون ذلك صعباً على أي شخص، فكيف بنبي وقائد وموّجه ورائد على مستوى الأمة، مضطلعٍ بمسؤوليات وأدوار تنوء بحملها الجبال الراوسي.

وكان من نتائج ذلك كله «إِذَا جَاءَ نَصْ-رُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً»(2)

بينما نرى العكس من ذلك تماماً الآن، وذلك يعود - بدرجة أساسية - إلى أن المعادلات

ص: 75


1- الكافي: ج2 ص671.
2- سورة النصر: 1 - 3.

الثلاث (اللين على المستوى الشخصي والولوي والتقنيني) قد انقلبت إلى الضد تماماً.

ج: وورد عن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قوله: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلي الله عليه وآله) لَيَسُرُّ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذَا رَآهُ مَغْمُوماً بِالْمُدَاعَبَةِ وكان (صلي الله عليه وآله) يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْمُعَبِّسَ فِي وَجْهِ إِخْوَانِهِ»(1) وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص يُدَاعِبُ الرَّجُلَ يُرِيدُ أَنْ يَسُرَّهُ»(2).

وذلك مما يكشف عن عمق الأبعاد الإنسانية في حياة رسول الله (صلي الله عليه وآله) حيث إنه لم يكن يترك الرجل مغموماً، بل كان يحاول أن يسره بالمزاح والمداعبة رغم أن أكثر القادة يرون المزاح- خاصة مع عامة الناس - سبباً لكسر حاجز الهيبة بينه وبينهم، بل سبباً لفقد الوجاهة والتميز الاجتماعي الذين يتخيلونه، ورغم أن غالب أصحاب النبي (صلي الله عليه وآله) كانوا من الفقراء والبسطاء والمستضعفين، ومع ذلك كان (صلي الله عليه وآله) لا يترك رجلاً يراه مغموماً إلا حاول أن يسره بمداعبته.

البصيرة السابعة عشرة: العفو والمغفرة والاستشارة من أهم أسس السِّلم الأهلي

اشارة

البصيرة السابعة عشرة: ومن البصائر المذهلة في الآية الكريمة: أن الأحكام المذكورة فيها والمنطلق لتلك الأحكام تعد من أهم أسس (السلم الأهلي) و(تماسك النسيج الاجتماعي) وتقوية لُحمة الأخوة ووشائج الصلة بين القيادة الإسلامية والمجتمع وبين أفراد المجتمع بعضهم مع بعض.

وذلك ما يكشفه لنا بوضوح شأن نزول الآية الكريمة وكيفية معالجة

ص: 76


1- كشف الريبة للشهيد الثاني: ص82.
2- الكافي: ج2 ص663.

الرسول (صلي الله عليه وآله) للخيانة الجماعية التي حصلت في جيشه يوم أُحد، والأوامر القرآنية الصريحة في هذا الحقل.

خيانة الجنود في أُحد، وموقف الرسول (صلي الله عليه وآله) النادر المذهل

فقد خان الضباط والجنود رسول الله (صلي الله عليه وآله) بالخيانة العظمى، وسببت مخالفة الرماة للرسول (صلي الله عليه وآله) وتركهم مواقعهم العسكرية في ثنيّة الجبل، تعرُّض الجيش الإسلامي لأكبر نكسة بل ولهزيمة - مبدئية - طوال حياة النبي (صلي الله عليه وآله)؛ فقد قتل نتيجة ذلك سبعون من المسلمين وهو عدد كبير جداً في حد ذاته، فكيف بالقياس إلى عدد المسلمين؟! كما كسرت رباعية رسول الله (صلي الله عليه وآله) وشج وجهه الشريف وكادوا يقتلونه لولا صمود أسد الله الغالب علي ابن أبي طالب (عليه السلام)، ثم ثلة قليلة جداً من أبطال المؤمنين بينهم (نسيبة) المرأةالتي خلدت اسمها في التاريخ بأحرف من نور قال تعالى: «وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»(1)

ثم أعاد الله تعالى الكرة للمؤمنين فانتصروا على الكفار انتصاراً باهراً.

وهنا كان الموقف الغريب بل الفريد على مدى التأريخ الإنساني، تجاه أولئك الذين خانوا الله ورسوله طمعاً في بعض حطام الدنيا وسببوا تلك الويلات والفجائع، وكان الموقف هو ما صرحت به الآية الشريفة عبر تشريع أحكام

ص: 77


1- سورة آل عمران: 152 - 153.

مفتاحية ثلاثة لا تتجانس مع جريمتهم وخيانتهم بما هي هي أبداً:

أولاً: العفو عنهم.

ثانياً: الاستغفار لهم.

ثالثاً: مشاورتهم في الأمر.

أ - و(العفو عنهم) يرسم إطار العلاقة بينه (صلي الله عليه وآله) وبينهم.

ب - أما (الاستغفار لهم) فيحدد مسؤولية أخرى فوق ذلك وهي مسؤولية الوساطة بينهم وبين الله تعالى؛ فإن الشخص قد يعفو عمن ظلمه، كما لو اغتابه مثلاً، فيعفو عنه تكرُّماً، إلا أنه يبقى حق الله تعالى الذي لا يمحى إلا بالتوبة فإنه لا يجدي لرفع العقوبة الآخروية مجرد عفو ذي الحق، إذ ههنا حقان: حق الله وحق الناس، وحيث كانت جريمتهم كبيرة جداً احتاجوا إلى أن يتوسط الرسول (صلي الله عليه وآله) ليعفو الله عنهم.

ج - ولم يكتفِ الوحي الإلهي بهذين القرارين فقط بل وبعد ذلك كله كان (الأمر بإشراكهم في صناعة القرار) في أعلى مستويات القيادة «وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ» إذ المراد بالأمر: الشؤون العامة مطلقاً أو شؤون الحرب خاصة، وقد فصلنا في كتاب شورى الفقهاء الأدلةعلى الأول، وأن المراد كافة الشؤون العامة لا أمر الحرب فقط، على أنه لو كان المراد أمر الحرب فقط لكفى في الدلالة لأنه أمر خطير حقاً، ومع ذلك وَرَدَ الأمرُ بأن يستشاروا جميعاً فيه.

ومن الواضح أن النبي (صلي الله عليه وآله) كان بمقدوره أن يعاقبهم جميعاً، وكان العقل والنقل والأعراف من كل الملل والنِحل معه في ذلك، إلا أن الرسول (صلي الله عليه وآله) جاء بأمر الله تعالى بمنهج يتسامى على مناهج البشر كافة: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ» وبذلك ونظائره أرسى الرسول (صلي الله عليه وآله) قاعدة من أغلى

ص: 78

وأجلى وأهم قواعد السلم الاجتماعي وتقوية النسيج الوطني.

القائد الذي أحرق رسائل خيانة ضبّاطِهِ فاستماتوا في القتال!

وينقل لنا التاريخ حادثة أخرى مبهرة تأسّى فيها أحد القادة العظام ببعض ما صنعه رسول الله (صلي الله عليه وآله) فحصل على أعظم النتائج: فقبل أن يلتقي الجيشان خطّط قادة الجيش المعادي لتحطيم الجيش الإسلامي من داخله وتفتيته من قلبه وجوهره، فوضعوا خطة مركبة معقدة كان من أعمدتها بث الرعب في الجيش الإسلامي عبر بعض جنود الطابور الخامس، فوصلت الأخبار مضخمة عن استعدادات العدو وعن الإمدادات التي ستصل له تباعاً، ومن جهة أخرى راسل قائد جيش الأعداء مجموعة من أهم قادة الجيش الإسلامي ووعدهم أنهم إن قاموا بانقلاب داخلي على قائد الجيش وأغاروا عليه ليلاً واعتقلوه ثم سلموه له أن يدفع لهم من الأموال الطائلة كذا وكذا وأن يقلدهم مناصب رفيعة جداً بعد الفتح.

ولكن قائد الجيش الإسلامي تمكّن بما له من العيون من اكتشاف الرسل وجرى اعتقالهم ومعهم الرسائل المتبادلة وفيها رسائل من عدد من قادة الجيش صريحة في الخيانة والضلوع في المؤامرة.

وههنا أدركت القائد الحكمة فاستدعى القادة كلهم على عجل فيخيمة القيادة واحاطها بحراسة مشددة ثم أحضر جرابا(1)

وضعه في منتصف الخيمة وخطب فيهم خطبة إيمانية، ثم ألقى قنبلته مُدوِّية فقال: هذا الجراب يحتوي على رسائل من عدد منكم تشهد بالخيانة العظمى، وكما تعلمون فإن جزاء ذلك في كل الأعراف هو القتل، لكنني لا أفرِّط بصداقة عمرٍ طويل معكم لمجرد زلة حصلت منكم! أعلموا أنني حتى لم أفتح أختام هذه الرسائل لأعلم أسماء

ص: 79


1- كيساً كبيراً.

الخونة وذلك كي لا يتغير قلبي عليهم!! والآن سآمر أحد الحراس لكي يحرق الجراب بما فيه كي يختفي آخر أثر من الماضي المقيت ولنبدأ من جديد بعزيمة أقوى وأخوّة أكبر لدحر جيش الأعداء!!

ومن الواضح أن ذلك الموقف الشهم النادر بعث في نفوس أولئك القادة أكبر الاعصارات النفسية المتشابكة؛ الندامة، الحسرة، الإعجاب المذهل بهذا القائد النادر، والإصرار الكبير على التعويض عن تلك الخيانة الكبرى، وهكذا استبسلوا في المعركة وانتصروا انتصاراً ساحقاً. وفي المثل (العُقدة التي تنحل باليد لا يصح أن تُعمَل فيها الأسنان)!

ثم إن من الضروري أن يتحول - العفو عن مَن زلت أقدامهم والمغفرة لهم ومشاورتهم في صنع القرار - إلى منهج في الدولة والأمة ومؤسسات المجتمع المدني والشركات وغيرها، وعندئذٍ ستجدون أن الأرض تحولت إلى ما يشبه الجنة!

غير أن من الواضح أن ذلك المنهج لا يشمل الذين يرجعون إلى فئة كداعش والبعث، إلا لدى توفر شروط موضوعية خاصة تقطعهم عن فئتهم من دول راعية للإرهاب وغيرها وحسب تشخيص أكثرية أهل الحل والعقد ومجلس الأمة والفقهاء المراجع.

البصيرة الثامنة عشرة: المعنى الدقيق ل-(العفو)

اشارة

البصيرة الثامنة عشرة: ومن البصائر في قوله تعالى: «فَاعْفُ عَنْهُمْ»: إنه من المعهود عند الناس أن العفو يعني: الصفح والمغفرة والتجاوز وشبه ذلك إذ إنهم يتعاملون مع هذه المفرداتكألفاظ مترادفة، لكن ذلك مبني على التسامح، أما المعنى الدقيق للعفو فهو معنى يختلف عن المغفرة ونظائرها كما سيأتي، ويشهد لذلك الدقة في اختيار الكلمات في هذه الآية الكريمة

ص: 80

فقد قال تعالى: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ» ولم يعكس بأن يقول: (فأغفر لهم وأطلب من الله لهم العفو) مثلاً.

أما المعنى الدقيق الرائع للعفو فهو: (الدَّروس والمحو والاندراس)، فإن الإنسان تارة: (يغفر لمن ظلمه) لكنه يبقى في قلبه منه شيء فقد غفر له لكن لم يعف عنه؛ إذ المغفرة تعني الستر ومنه سمي المِغفَر مغفراً(1)،

وأما العفو في معناه الأسمى فيعني: أن تمحو حتى من ذهنك إساءته إليك وتجعلها كأن لم تكن وكأنك لم تعلم بها أبداً فتكون ممحوةً من صفحة الذهن والضمير كما أُغفِلت من حيث تجليات ردود الأفعال على الجوارح.

ماذا يعني (على الدنيا بعدك العفاء)؟

ومما يوضح ذلك قوله (عليه السلام): «عَلَى الدُّنْيَا بَعْدَكَ الْعَفَا»(2) أو «فَعَلَى الدُّنْيَا الْعَفَاء» فقد ذكروا للعفاء معنيين:

أحدهما: التراب الذي لم يوطأ من قبل؛ فإن التراب تارة ليكون في قرية أو مزرعة أو منطقة مأهولة فيداس قليلاً أو كثيراً، لكنه تارة أخرى يقع في مجاهيل الصحراء الموغلة في البعد بحيث لا تطأه أقدام قافلة ولا سابلة، فهذا التراب هو ما يقال له (العفاء) على ما استظهره في معجم مقاييس اللغة(3)، وهو المستظهر أيضاً بالنظر لمختلف استعمالات (العفو)، بل وللمعنى الآخر الذي ذُكر للعفاء وهو الآتي بعد قليل، فقوله (عليه السلام): «عَلَى الدُّنْيَا بَعْدَكَ الْعَفَا» يعني: على الدنيا بعدك التراب المتروك المهمل غير المطروق بالمرة فكأنها لم تكن أبداً، وليس المعنى: مجرد على الدنيا بعدك العفاء أي التراب فكأنها لا قيمة لها.

ص: 81


1- وهو زَرَدٌ يُنسج من الدُّروع على قدر الرأس ، يُلْبَسُ تحت القَلنسوة.
2- بحار الأنوار: ج45 ص44.
3- معجم مقاييس اللغة: ج4 ص52.

ثانيهما: الدّروس أي على الدنيا بعدك الدروس والانمحاء، ولابُعد في أن يكون هذا هو الأصل وأن يكون إطلاق العفاء على التراب المهمل لكونه عائداً إليه.

وقد جاء في مجمع البحرين: (عفى: درس وانمحى)(1).

كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عند تأبينه سيدة نساء العالمين $ في نسخة «وَعَفَا عَنْ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ تَجَلُّدِي»(2) أي انمحى واندرس وانتهى تجلدي حتى كأنه لم يكن لي جَلَد وصبر أبداً.

كما يقال: (هذه أرض عَفْو) أي ليس فيها أثر فلم تُرعَ(3).

كما يقال: عفا المرعى أي عمن يحل به(4)؛

وذلك إذا كان مأهولاً ثم تركه أهله فصار مهجوراً فيقال: عفى المرعى فالمراد الترك في مرحلة العلة المبقية.

فقوله تعالى: «فَاعْفُ عَنْهُمْ» قد يستظهر منه: هذا المعنى الدقيق للعفو أو فقل المرتبة العالية منه إذا لم نقل بأنه معنى قسيم، بل هو حقيقة تشكيكية ذات مراتب أريد منها ههنا عاليها؛ لانصراف الإطلاق إليه أو لمناسبات الحكم والموضوع أو لعظيم خلقه وكرمه (صلي الله عليه وآله)، فقد أمر الله تعالى نبيه (صلي الله عليه وآله) بالعفو عنهم رغم أن الجريمة التي ارتكبها الرماة بتركهم ثَنِيَّة الجبل مخالفين صريح نهي الرسول (صلي الله عليه وآله) والذي تسبب في قتل العشرات من المسلمين - لعلهم كانوا سبعين شخصاً -(5) كانت جريمة الخيانة العظمى وجريمة حرب يستحقون عليها الإعدام، لكنه تعالى أمره بالعفو عنهم والذي قد يستظهر: أن المراد به هو المرتبة العالية من

ص: 82


1- مجمع البحرين: ج1 ص300.
2- الكافي: ج1 ص458.
3- معجم مقاييس اللغة: ج4 ص58.
4- معجم مقاييس اللغة: ج4 ص61.
5- المغازي: ج1 ص300

العفو التي أشرنا إليها.

والعبرة من ذلك كله: إن علينا أن ننتهج نفس المنهج في التعاطي مع مختلف أولئك الذين اخطأوا بحقنا بل أو تعمدوا ظلمنا وأذانا، فليس المطلوب منا فقط أن نتعامل معهم على مستوىالجوارح معاملةَ مَن لم تصدر منه إساءة تجاهنا، بل المطلوب فوق ذلك وهو أن نتعامل معهم على مستوى القلب والجوانح كذلك أيضاً بأن: نمحو من صفحة ذاكرتنا إساءته إلينا فيصفو قلبنا له كصفائه من قبل، وذلك صعب حقاً ويتوقف على جهد وجهاد وسعي واجتهاد كما يتوقف الدفع بالتي هي أحسن على ذلك، قال تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ»(1).

البصيرة التاسعة عشرة: ربط كافة مناحي الحياة بذكر الله تعالى

اشارة

البصيرة التاسعة عشرة: ومن الاستلهامات: في قوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ» وما سبقها «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ» ولحقها «فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ»: إن اللازم على كل مؤمن أن يربط كافة مناحي حياته بالله تعالى بأن يتذّكره في كل حَرَكة وسكنْة وأخذٍ وعطاء وقول وفعل ويكون كما ورد: (ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله ومعه وبعده)، وفي الحديث: «هُوَ هَاهُنَا وَهَاهُنَا وَفَوْقُ وَتَحْتُ وَمُحِيطٌ بِنَا وَمَعَنَا»(2) والمراد: (قبله بالعلم ومعه به وبعده به أيضاً) و(قبله بالقدرة ومعه وبعده بها أيضاً) و(قبله ومعه وبعده بالهيمنة) وهكذا وهلم جرا.

ص: 83


1- سورة فصلت: 34 - 35.
2- الكافي: ج1 ص129..

أسماء الله تملأ صفحات القرآن بشكل مذهل

والملفت للنظر في القرآن الكريم في هذا الحقل هو: أنه مُلأت جوانبه من اسم الله تعالى بكافة سُوَرِه وصفحاته ، وهو كتاب الله التربوي الذي علينا أن نتعلم منه أن نملأ كافة أرجاء حياتنا بذكره جل اسمه.

كما أن ذلك التكرار المذهل لأسماء الله وصفاته - صفات الجمال والجلال - في القرآن الكريم، أتى بشكل رائع سلس محبَّبإلى القلوب بل وآسرٍ لها، مع أن تكرر ذكر الشيء كثيراً ممل عادةً لكن المشهود في القرآن الكريم أن ذلك هو من أهم عوامل شدّ القلوب إلى القرآن نفسه.

ولنتدبر في بعض الإحصاءات عن مدى تكرار أسماء الله وصفاته في القرآن الكريم:

فقد تكرر لفظ الجلالة (الله) في القرآن الكريم 536 مرة.

كما تكرر اسم (الرحمن) 119 مرة.

وتكرر اسم (الرحيم) 119 مرة كذلك.

وتكرر اسم (العزيز) أكثر من 50 مرة.

وتكررت (ربنا) 72 مرة.

كما تكررت كلمة (رب) مئات المرات، وهكذا.

ولعل مما يعد من وجوه إعجاز القرآن الكريم هو هذا التكرار المذهل في كل صفحة عشرة أو عشرين أو ثلاثين مرة لكن بما يشد الإنسان أكثر فأكثر إلى القرآن الكريم مما لا نجده في أي كتاب آخر في الكون كله، وحتى نهج البلاغة، الآتي بعد القرآن الكريم كأعظم كتاب في الكون، لم يتميز بهذه الميزة المذهلة.

ص: 84

ليبدأ التاجر والمحامي والطبيب والمدرس كلَّ خطوة بذكر الله

والمطلوب من المجتمع الإيماني أن يتأسى بما صنعه الله تعالى في كتابه قدر المستطاع: فعلينا أن لا نبدأ عملاً إلا بالبسملة أو الحمد له تعالى، كما ينبغي أن لا نلتقي بأحد إلا وأن نذكر اسم الله تعالى بعد السلام عليه أو قبله، بل ولا يبيع التاجر عقاراً أو البقال فاكهة أو المزارع داجناً أو ماشيةً إلا ويذكر الله قبل ذلك، وعلى المشتري مثل ذلك.

وكذلك في المدارس من الروضة إلى الجامعة: فإن المفروض أن يبدأ المعلم بذكر الله تعالى؛ بالبسملة والحمدلة وشبههما.

وما أعظم الأثر التربوي لذلك كله، ذلك أنّ تذكّر الله تعالى فيمختلف الحالات يحدث تحولاً كبيراً في روح الإنسان وقلبه ونفسه وجسده أيضاً,

وقد قال تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ»(1).

ص: 85


1- سورة آل عمران: 190 - 195.

كيف نخاطب المَلَكين عند الدخول إلى بيت الخلاء؟

ولقد علمتنا الروايات الشريفة ضرورة ذكر الله تعالى بل وكيفية ذكره في مختلف الحالات وحتى عند دخول بيت الخلاء(1) أيضاً فقد ورد:

عن إبراهيم بن عبد الحميد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول إنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان إذا أراد قضاء الحاجة وقف على باب المذهب ثمَّ التفت يميناً وشمالاً إلى ملكيه فيقول: «أَمِيطَا عَنِّي فَلَكُمَا اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ لَا أُحْدِثَ حَدَثاً حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكُمَا»(2).

فمن المستحب ذلك، وما أعظم الأثر التربوي له؛ إذ إنه يذكّر الإنسان بالملكين اللذين هما معه دائماً وإنه «إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»(3) ويذكّره بما هو أعظم وهو أن الله حاضر ناظر، وأنه يعاهد الملكين بالعهدالإلهي على أنه لا يحدث شيئاً حتى يخرج، وفي ذلك تنبيه لمرحلة ما بعد الخروج من المرافق أيضاً إذ إنه سوف يتذكر حينئذٍ الملكين وأنهما عادا إلى صحبته والرقابة عليه ويتذكر فوق ذلك أن الله تعالى حاضر ناظر في شتى الحالات فلا يطغى ولا يعصي ولا يظلم ولا يعتدي.

وكذلك على الإنسان أن يتذكر الله تعالى عند كل حركة وسكنة فإذا رفع يده ليضرب زوجته أو ابنه أو من هو أضعف منه تذكر أن فوقه جبار السماوات والأرض وأنه لا يفوته ظلم ظالم وإن عذابه أشد وأخزى، وكم سيحدث ذلك من الفرق في حياة الإنسان!

ص: 86


1- دورة المياه أو المرافق.
2- التهذيب: ج1 ص351.
3- سورة ق: 17 - 18.

الحكمة من قول الإمام السجاد (عليه السلام) (آه من القصاص)

وقد ورد عن الإمام السجاد (عليه السلام) أنه التَاثَتْ عَلَيْهِ نَاقَتُهُ فَرَفَعَ الْقَضِيبَ وَأَشَارَ إِلَيْهَا وقال: «لَوْلَا خَوْفُ الْقِصَاصِ لَفَعَلْتُ»، وَفِي رِوَايَةٍ «آهِ مِنَ الْقِصَاصِ وَرَدَّ يَدَهُ عَنْهَا»(1).

والمستظهر: أن ذلك كان في مقام التعليم لنتعلم نحن ولم يكن على ظاهره؛ لوضوح أن الإمام لا يفعل المكروه وترك الاولى فكيف بالمحرم، لو استظهر من قوله: «لَوْلَا خَوْفُ الْقِصَاصِ» حرمة هذا الضرب منطلقاً من ان الحرام هو الذي يستوجب القصاص لا الجائز شرعاً، وفيه تامل.

وهل يعقل أن يهمّ الإمام (عليه السلام) بالحرام - لو تم الاستظهار -؟ بل هل يعقل أن يبدأ ببعض مقدماته؟ على أنه لو كان مكروهاً أو خلاف الأولى لما كان من الوارد أن يفعله الإمام، فلا ريب أنه لتنبيهنا نحن وتعليمنا على أن نراقب الله تعالى في كل حال، فكلما همّ الإنسان بإيذاء غيره أو باغتيابه أو الكذب عليه أو بالغش والخداع والرشوة وأكل المال بالباطل، تذكر الله والآخرة والقصاص والحساب والعتاب والعقاب فكان في ذلك أكبر رادع له عن كلمعصية بل عن كل تخاذل عن أي عمل من الأعمال الصالحة.

ص: 87


1- مستدرك الوسائل: ج18 ص262.

ص: 88

الفصل الثاني: مقاصد الشريعة ومقاصد المقاصد

اشارة

ص: 89

ص: 90

رحلة استلهام مقاصد الشريعة يمكنها أن تمر بواحدة من أعظم الآيات الكريمة التي تلقي الضوء وتكشف القناع عن إحدى أهم المقاصد الكبرى في عالم التكوين وعالم التشريع، وهي قوله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ»(1)

و«وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ»(2) فإن من الممكن أن نستلهم منها ومن آيات أخرى مقاربة ومن العديد من الروايات الشريفة، بصائر مفتاحية في مباحث (مقاصد الشريعة) وأسس التشريع والغايات التي توخاها الشارع الأقدس لدى تشريع الأحكام وسنّ القوانين، ومن تلك الاستلهامات والبصائر:

البصيرة الأولى: للشريعة مقاصد وللمقاصد مقاصد

اشارة

البصيرة الأولى: إن للشريعة مقاصدَ وللمقاصد مقاصد أخرى، وبعبارة أخرى: أن للشريعة مقاصد عظمى تنشعب منها مقاصد أخرى.

فمثلاً: حقن الدماء وصيانة الأعراض وحفظ الأموال تعد من مقاصد الشريعة، أي: مما شرعت مجموعة من التشريعات للمحافظة عليها كحرمة السرقة والغصب ومصادرة الأموال والرشوة والغش وغيرها لأجل المحافظة على

ص: 91


1- سورة آل عمران: 159.
2- سورة هود: 118- 119.

الأموال، وهي مقاصد متفرعة عن المقصد الأسمى للشريعة وهو الرحمة الإلهية إذ يقول الله تعالى: «وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ»(1).

اللين مقصد للشريعة، ومقصد المقصد هو الرحمة الإلهية

وفي آية البحث نجد أن المقصد الأسمى هو «رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ» وأن من هذه الرحمة تفرع مقصد آخر هو لين الرسول (صلي الله عليه وآله) قولاً وقلباً، ثم تفرعت من هذا المقصد الثاني سلسلة من الأحكام: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ».

فاللين والرفق واللاعنف هي من مقاصد الشريعة والتي تتفرع عنها سلسلة كبيرة من الأحكام، كما أنها بدورها متفرعة عن المقصد الأعظم للشريعة وهو (الرحمة) وأيضاً (الحكمة).

وذلك هو ما تشير إليه الروايات الشريفة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام أو بدلالة الاقتضاء أو الإيماء والتنبيه والإشارة، وسنشير إلى بعض الروايات فقط:

الإمام (عليه السلام): لا يعرض لي بابان كلاهما حلال إلا أخذت باليسير منهما

فقد ورد في الرواية كما مضى عن حنان بن سدير قال: كنت أنا وأبي وأبو حمزة الثُّمالِي وعبد الرَّحيمِ الْقصير وزياد الْأحْلام حجَّاجاً فدخلنا على أبي جعفرٍ (عليه السلام) فرأى زياداً وقد تسلَّخ جلْده، فَقَالَ (عليه السلام) لَهُ: «مِنْ أَيْنَ أَحْرَمْتَ؟» قال: من الكوفة. قَالَ (عليه السلام): «وَلِمَ أَحْرَمْتَ مِنَ الْكُوفَةِ؟» فقال: بلغني عن بعضكم أنَّه قال: ما بعد من الْإحرام فهو أعظم للأجر. فَقَالَ (عليه السلام): «مَا بَلَّغَكَ

ص: 92


1- سورة هود: آية 118 - 119.

هَذَا إِلَّا كَذَّابٌ».

ثم قال (عليه السلام) لأبي حمزة الثُّمَالِي: «مِنْ أَيْنَ أَحْرَمْتَ؟» فقال: من الرَّبذَة. فقال (عليه السلام) له: «وَلِمَ؟ لِأَنَّكَ سَمِعْتَ أَنَّ قَبْرَ أَبِي ذَرٍّ بِهَا فَأَحْبَبْتَ أَنْ لَا تَجُوزَهُ».

ثمَّ قال (عليه السلام) لأبي وعبد الرحيم: «مِنْ أَيْنَ أَحْرَمْتُمَا؟» فقالا: من العقِيقِ. فَقَالَ (عليه السلام): «أَصَبْتُمَا الرُّخْصَةَ وَاتَّبَعْتُمَا السُّنَّةَ وَلَا يَعْرِضُ لِي بَابَانِ كِلَاهُمَا حَلَالٌ إِلَّا أَخَذْتُ بِالْيَسِيرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ يَسِيرٌ يُحِبُّ الْيَسِيرَ وَيُعْطِي عَلَى الْيَسِيرِ مَا لَا يُعْطِي عَلَىالْعُنْفِ»(1).

وقد مضى بعض فقه الحديث في هذه الرواية المباركة.

أحب الأعمال لله الإيمان به والرفق بعباده

كما أن مما قد يستظهر منه ارتقاء الرفق واللين إلى مصاف مقاصد الشريعة هو: ما ورد في الحديث (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلي الله عليه وآله): «مَا مِنْ عَمَلٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالرِّفْقِ بِعِبَادِهِ، وَمَا مِنْ عَمَلٍ أَبْغَضَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْعُنْفِ عَلَى عِبَادِه»(2).

وذلك هو الغريب حقاً أن يكون أحب عمل لله تعالى بعد الإيمان هو الرفق بعباده، بل يصرح الرسول (صلي الله عليه وآله) بأنهما أحب إلى الله والرسول من أي عمل آخر بما يشمل مختلف أنواع العبادات مما يستدعي عقد بحث خاص كلامي عن موقع الرفق بالعباد بين العبادات مع وجود ما هو ركن الدين فيها، وعن ما هو مقتضى الجمع بين الروايات وهل بعضها ناظر إلى جهة خاصة أو منصرف أو أن المحبوبية أمر والتكليف لمصلحة ملزمة أمر آخر؟ ولعله يأتي الكلام عن ذلك.

ص: 93


1- الإستبصار: ج2 ص162.
2- بحار الأنوار: ج72 ص54.

من شروط الوالي أن يكون الأفضل حلماً

كما نجد أن أمير المؤمنين (عليه السلام) اعتبر في عهده لمالك الأشتر من مواصفات الحاكم والوالي: «أَفْضَلَهُمْ حِلْماً» و«مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَ...» فقال: «فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِإِمَامِكَ وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ(1)

وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ وَيَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ مِمَّنْ لَا يُثِيرُهُ الْعُنْفُ وَلَا يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْف»(2).

البصيرة الثانية: موقع مقاصد الشريعة في الفقه الإمامي

اشارة

البصيرة الثانية: إن من المعروف اهتمام أهل العامة بفقه المقاصد، كما أن من المعروف - في المقابل - إهمال علماء الشيعة لفقه مقاصد الشريعة؛ ولذا لا ترى في كتب اصولية مثل المعالم والرسائل والكفاية ولا في كتب فقهية مثل المسالك والحدائق والجواهر ونظائرها بحوثاً عن فقه المقاصد، وإن وجدت إشارات وكلمات لكنها لا ترقى إلى مستوى (البحث) كسائر ما بحثوه باستيعاب فلاحظ بحثهم للاستصحاب مثلاً وقارنه بما أشاروا به إلى بحث المقاصد.

لماذا اهتم العامة بفقه المقاصد وأهملها الشيعة؟

والسر في ذلك واضح؛ فإن أهل العامة عانوا من نقص ذريع في الروايات التي تبين الشرائع والأحكام لعدم رجوعهم إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من جهة، ولسد عمر باب الرواية عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) من جهة

ص: 94


1- فكلما عرض له ما يوجج غضبه، تباطء في التفاعل والاستجابة لمثيرات الغضب بل تعامل بمنتهى الهدوء والحكمة.
2- مستدرك الوسائل: ج13 ص164.

أخرى؛ إذ كان يعاقب على الرواية عنه ويقول: «حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّه»(1) لذا التجأوا إلى القياس والاستحسان، وكانت مقاصد الشريعة لديهم من أبواب تنقيح القياس والاستحسان وسد الذرائع.

أما علماء الشيعة فقد أغنتهم الروايات المتكاثرة الواصلة عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) وعن المعصومين (عليهم السلام) طوال حوالي قرنين ونصف، عن اللجوء إلى غير الاستنباط من النصوص الصادرة عن الرسول (صلي الله عليه وآله) والثقل الآخر حسب حديث الثقلين، إضافة إلى وضوح بطلان القياس والاستحسان إذ «إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَا يُصَابُ بِالْعُقُولِ النَّاقِصَةِ وَالْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ وَالْمَقَايِيسِ الْفَاسِدَةِ»(2) لمجهولية ملاكات الأحكام لدينا؛ فانها وإن عُلِم بعضها أو الكثير منها إجمالاً إلا أن عدم الإحاطة بها بأجمعها وعدم معرفة تزاحماتها والموانع عن كل واحد منها أو الشرائط لها وسائر معادلاتها، أوجب استحالة استخراج الحكم الإلهي عبر القياسوالاستحسان.

وجه ثانوي لضرورة طرق باب فقه المقاصد

اشارة

ولكن ومع ذلك كله نقول ما يفتح باباً جديداً لضرورة طرق باب فقه مقاصد الشريعة في علم الكلام، بل وعلم الفقه والأصول وغيرها، وعقد فصل خاص لها لا لاستنباط الأحكام منها؛ إذ لا يمكن ذلك لما سبق، بل لجهات أخرى تعد عوامل مساعدة تكميلية.

أ: الفائدة الكلامية لفقه المقاصد

أولاً: الفائدة الكلامية، فإن معرفة الغرض من الخلقة والمقاصد العامة

ص: 95


1- الأمالي (للمفيد): ص36.
2- مستدرك الوسائل: ج17، ص262.

للشريعة استناداً إلى نصوص الكتاب والسنة، يثري علم الكلام ويمنحه بعداً آخر أكثر حيوية وفاعلية؛ إذ يتكفل بدفع كثير من الشبهات التي قد يطرحها أتباع المذاهب الأخرى أو التي قد يسأل عنها الشباب الحائر، إضافة إلى أنه يزيد الكثير من الناس اطمئناناً بالشرع الأقدس وهو مطلوب في حد ذاته، «قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي»(1).

ويتضح ذلك أكثر عندما نعرف أن بعض المذاهب والأديان بُنيت على العنف والقسوة والشدة بشكل عام أو في الجملة، فالوهابية مثلاً بُنيت على العنف الشديد وعلى تكفير عامة المسلمين لمجرد أنهم «يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ»(2) بالتوسل بالأنبياء والأوصياء أو يتبركون بالمشاهد المشرفة كما يفعله عامة المسلمين، وهي التي أنتجت معاملها القاعدة وداعش وغيرهما كنتيجة طبيعية لما بني عليه مذهبهم من العنف في مجالات العقيدة والشريعة والسلوك.

أما الإسلام الأصيل المستلهم من القرآن الكريم وسنة الرسول وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) فقد بني على الرفق والرحمة واللين والمداراة والمحبة، وتدل على ذلك متواتر الروايات.

وفي الروايتين التاليتين أكبر الدلالة:قال الإمام الصادق (عليه السلام):«أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ إِمَارَةَ بَنِي أُمَيَّةَ كَانَتْ بِالسَّيْفِ وَالْعَسْفِ وَالْجَوْرِ وَأَنَّ إِمَامَتَنَا بِالرِّفْقِ وَالتَّأَلُّفِ وَالْوَقَارِ وَالتَّقِيَّةِ وَحُسْنِ الْخُلْطَةِ وَالْوَرَعِ وَالِاجْتِهَادِ فَرَغِّبُوا النَّاسَ فِي دِينِكُمْ وَفِي مَا أَنْتُمْ فِيهِ»(3) فهذا هو الفارق

ص: 96


1- سورة البقرة: 260.
2- سورة الإسراء: 57.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص164

بين الإمامتين إمامة الأوصياء بالحق «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا»(1)

وإمامة أئمة الجور: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ»(2).

وعن رسول الله (صلي الله عليه وآله) أنه قال: «حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى الْهَيْنِ اللَّيْنِ السَّهْلِ الْقَرِيبِ»(3)

والمراد من القريب: القريب من الناس والذي لا يحجبه عنهم حِجاب وحُجّاب، كما داب عليه الحكوميون والساسة وغيرهم، وقد كانت ولا تزال سيرة المراجع الكرام على فتح ابوابهم للمراجعين والمحتاجين والمستفسرين، وكان السيد الوالد (رحمة الله) قد حدد يومياً ساعة من الظهر قبل الزمن للقاء عامة الناس بدون مواعيد مسبقة، وكذلك يفعل السيد العم (دام ظله)(4) وعدد من الأعلام الكرام.

والمراد من السهل: السهل في التعامل والقضاء والاقتضاء.

وعن النبي (صلي الله عليه وآله) قال: «الْمُؤْمِنُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُون»(5).

ب: الفائدة الاجتماعية لفقه المقاصد

ثانياً: إن مقاصد الشريعة تصلح أن تكون المرشد العام للأمة في كيفية العِشرة والمعاشرة والتعامل مع الآخرين؛ في العشائر والأحزاب والاتحادات والنقابات وفي الشركات والمؤسسات وفي الحكومة وغيرها.فهي تصلح كمنهج حياة وموجه عام؛ ولذا ورد: «مَا وُضِعَ الرِّفْقُ عَلَى

ص: 97


1- سورة السجدة: آية 24.
2- سورة القصص: آية 41.
3- بحار الأنوار: ج 64 ص357.
4- سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي K.
5- الكافي: ج2 ص234.

شَيْ ءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا وُضِعَ الْخُرْقُ عَلَى شَيْ ءٍ إِلَّا شَانَه»(1).

فإذا دار الأمر بين أن يتعامل الزوج مع زوجته أو الأب مع ابنه أو المعلم مع تلميذه بالرفق أو العنف (ولنفرض مرتبة جائزة منه) كانت مقاصد الشريعة هي المرشد للتعامل بالرفق بل بمنتهى اللطف، وهكذا في تعامل القيادات مع الأتباع والأعضاء والجماهير، بل حتى وفي سنّ القوانين، فمثلاً لو فرضنا جواز سنّ الضرائب - وهي محرمة قطعاً وبدعة(2) - ودار الأمر بين سنّها لتنبسط يد الدولة أكثر أو عدم سنّها ليكون الناس في سعة وراحة، كان الثاني أولى قطعاً حسب فقه المقاصد وحسب المستفاد من ذوق الشريعة وسيرة الرسول (صلي الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) ولذا قال (صلي الله عليه وآله): «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَة»(3).

ولذلك نجد أن الناس يحبون من يتعامل معهم برفق ومن ينسى أخطاءهم ويصفح عنهم، فكما تحب أن يتعامل معك من هو فوقك بالرفق واللين فتعامل مع هو من دونك باللطف واللين كذلك.

ونجد في تعبير الأمير (عليه السلام) أكبر الدلالة في عهده للأشتر: «مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ.»

وفي التعبير ب-(يستريح) لطف بالغ وحكمة كبرى؛ إذ يستفاد منه أنه من المحبّذ - سيكولوجياً - أن يستريح المرء نفسياً من العذر، أي اعتذار من ظلمه أو آذاه أو أزعجه

ص: 98


1- مستدرك الوسائل: ج11 ص292.
2- إذ لا ضرائب في الإسلام إلا الخمس والزكاة والجزية والخراج وهي كافية وافية، والدول غير صائبة في دعوى حاجتها للضرائب؛ إذ في مواردها الطبيعية خاصة للتي تمتلك حقول النفط وشبهها الكفاية وأكثر، بل الأموال تصب غالباً - ومع الأسف - في تكريس الاستبدادية في الدول الاستبدادية.
3- عوالي اللئالي: ج1 ص381.

ثم ينسى بعدها كل ما فعله ذلك الآخر (الصديق، الزوج، الزوجة، الشريك.. الخ) في حقه الشخصي، عكس ما يصنعه البعض حيث يتشددون في عدم قبولالأعذار متهمين المعتذر بأنه تبرير بارد أو مرفوض أو أنه عذر أقبح من ذنب.

والسبب واضح في حسن قبول الاعتذار؛ فإن الاعتذار دليل على الإذعان بقبح الكبرى ومجرد محاولة توجيه الصغرى، وهذا أفضل بكثير ممن يرفض قبح الكبرى أو يصر على العناد بارتكاب الصغرى!

ج: من الفوائد الفقهية لفقه المقاصد
اشارة

ثالثاً: إن مقاصد الشريعة وإن لم يمكن استثمارها مباشرةً في عملية الاستنباط للأحكام الشرعية؛لما مضى، لكنها تصلح كعوامل مساعدة عضيدة في عملية الاستنباط.

وبعبارة أخرى: ونظراً لأهمية مقاصد الشريعة في أبواب التزاحم، نطرح مرة أخرى ولكننا ببيان آخر، دور مقاصد الشريعة في باب التزاحم وبأمثلة أخرى، فنقول:

إن تشخيص مقاصد الشريعة أمر جوهري في باب التزاحم في مختلف مفاصل الحياة، بل إن ذلك يعدّ من أعقَدِ ما يواجهه كل إنسان في شتى أبعاد حياته حيث قد تتزاحم الأضرار والمنافع أو الاضرار والاضرار المضادة أو المنافع والمنافع المقابلة عند المفاضلة والموازنة بين قرارين صعبين أو حتى عاديين في شأنٍ من شؤون الحياة سواء في بعدها الاقتصادي أم الاجتماعي أم غير ذلك.

ولنضرب لذلك عدداً من أهم النماذج في فقه الدولة وفي فقه المجتمع.

ص: 99

1. دوران الأمر بين التعزير أو السجن أو الغرامة وبين الخدمة التطوعية

إن المجرم - سواء أكان مجرماً حقاً أم كان متهماً بالجريمة،وسواء أكانت الجريمة جريمة في منطق الشرع والإنسانية؛ كجريمة القتل والجرح والسرقة والاختلاس والارتشاء والاغتصاب وشبه ذلك ، أم كانت جريمة في منطق القانون الوضعي؛كجريمة اجتياز الحدود دون جواز وجنسية وفيزا وشبه ذلك، وجريمة إحياء أو بناء الأراضي الموات دون استئذان من الدولة وشبه ذلك - يواجه هذا المجرم بعقوبة تتراوح بين التعزير والسجن والغرامة المالية وشبه ذلك(1)،

ولكننا إذا انطلقنا من منطلق أن الرحمة هي من مقاصد الشريعة الأساسية فإنه ستنفتح أمام الفقيه أو الحاكم المنتخب من قبل الناس أو حتى مطلق الحاكم إذا كان يتمتع ببعض الحكمة، خيارات أخرى تضاف إلى الخيارات العنيفة الأولى، ولعلها أحياناً - بنعومتها - تكون في المدى الطويل بل حتى المتوسط والقريب أكثر تأثيراً وفاعلية من تلك العقوبات الشديدة.

ومن الخيارات الأخرى: الخدمة التطوعية الإلزامية.

ومن الخيارات الأخرى: التعلم أو التعليم التطوعي الإلزامي، والمقصود من التطوعي أي ما كان بلا أجر فلا يتناقض مع الإلزام بها.

وذلك يعني: أن للقضاء أو للحكومة أو أية جهة ذات علاقة، أن تفرض على من ارتكب بعض الجرائم، وليس كل نوع منها، عقوبة الخدمة التطوعية لفترة محددة طويلة أو قصيرة في ميتم أو مشفى أو مدرسة أو مسجد أو أية مؤسسة إنسانية أو دينية أخرى.

ص: 100


1- كالحدود في مواردها.

فمن ارتكب مخالفة مرورية أو دفع رشوة أو ارتشى أو عطّل المراجعين دون وجهٍ أو شبه ذلك، يمكن أن يفرض عليه عقوبةً له بدل السجن، مثل هذه الخدمة بمدة تتناسب مع حجم جريمته أو يفرض عليه أن يحفظ القرآن الكريم أو بعضه أو الصحيفة السجادية أو أن يدرس مباحث في علم الأخلاق أو حتى في الطب أو الهندسة أو المحاماة أو في تعلم وإتقان قيادة السيارات بشكل أفضل وغير ذلك.

ولقد سلكت بعض الدول المتطورة ذلك المسلك وكانت النتائجبشكل عام إيجابية مثمرة.

ومن الأسباب الهامة وراء ذلك: إن الخدمة التطوعية، والتعلم المرشّد والمختار بعناية تتناسب مع شخصية ذلك العاصي أو المجرم، هي في الواقع دورة تربوية قد تعيد صقل شخصيته وصياغة أولوياته إضافة إلى أنها تصب طاقته في بناء المجتمع وخدمته أو في تنمية كفاءاته التي تعود إلى خدمة المجتمع من جديد.

وذلك هو ما يمكن أن نطلق عليه بتزاحم (التأديب مع التحبيب) أو (التأديب في ضمن معادلة التحبيب) أو (العقوبة في قالب المثوبة).

2. نماذج من حقوق السجين في الإسلام
اشارة

إن السجين سجين بجسمه وليس سجيناً بحقوقه؛ ذلك أن حقوقه المشروعة لا يجوز انتهاكها أبداً، والأدلة لا تدل على أكثر من: أنه يسجن في الموارد المحدودة شرعاً - كالمسجون في الدَّين أو المتهم -، ولكن لا يجوز فيما عدا ذلك مصادرة حقوقه الإنسانية العامة والخاصة، بل إن بعض الفقهاء استظهر جملة من المسؤوليات تقع على كاهل الحاكم الشرعي تجاه السجين وعليه أن يغطي نفقاتها من بيت المال.

ولعل بعض ما استنبطه السيد الوالد (رحمة الله) في هذا الحقل يعود للعناوين

ص: 101

الأولية؛ كأصالة الحرية والناس مسلطون وشبه ذلك، وبعضه يعود للعناوين الثانوية ومراعاة المصالح العامة والعناوين المقدمية؛ كالمحافظة على سمعة الإسلام والمسلمين وشبه ذلك، وبعضه يعود إلى (ولاية التهذيب والتأديب) التي ارتأى جمع من الفقهاء أنها ثابتة للفقيه الجامع للشرائط.

فمثلاً ذهب السيد الوالد (رحمة الله) في كتاب (كيف ينظر الإسلام إلى السجين؟) إلى أن من الواجب تكفل الحقوق التالية، وغيرها، للسجين:

الخروج من السجن في الأعياد ولزيارة المرضى وحضور الأعراس!

قال (رحمة الله): (يسمح للسجين بالخروج لحضور الأعياد الدينية وسائر المراسيم المهمة كيوم وفاة الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله)، وسائر المعصومين (عليهم السلام)، كما يسمح له بحضور زيارة مرضاه وتشييع جنائزهم وحضور أعراسهم ونحو ذلك مع الكفيل أو نحوه.

فعن الجعفريات بسنده إلى جعفر بن محمد عن أبيه(عليهما السلام): «أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) كَانَ يُخْرِجُ أَهْلَ السُّجُونِ مِنَ الْحَبْسِ فِي دَيْنٍ أَوْ تُهَمَةٍ إِلَى الْجُمُعَةِ فَيَشْهَدُونَهَا وَيُضَمِّنُهُمُ الْأَوْلِيَاءَ حَتَّى يَرُدُّونَهُمْ»(1).

وعن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُخْرِجَ الْمَحْبُوسِينَ فِي الدَّيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَيَوْمَ الْعِيدِ إِلَى الْعِيدِ، فَيُرْسِلَ مَعَهُمْ فَإِذَا قَضَوُا الصَّلَاةَ وَالْعِيدَ رَدَّهُمْ إِلَى السِّجْنِ»(2) إلى غيرهما من الروايات(3)(4).

ص: 102


1- الجعفريات: ص44 باب إخراج أهل السجون.
2- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص31 ح3265 ب2.
3- راجع وسائل الشيعة: ج7 الباب 21، وكذا مستدرك الوسائل: ج6 الباب 17.
4- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص13.
السجن بالأقساط، وللسجين اختيار مكان السجن

وقال (رحمة الله): (للسجين أن يطلب نقل سجنه من مكان إلى مكان آخر، إذا لم يكن محذور للحاكم في ذلك، مثلاً: إن كان سجين في بغداد فمن حقه أن يطلب نقله إلى البصرة أو بالعكس، فإن كلّي السجن من حق الحاكم لا خصوصياته.

بل احتملنا في(الفقه) صحة السجون الأقسَاطية، والسجن في بيت أو نحوه إذا أراد السجين ذلك ولو في دار نفسه إذا لم يكن فيه تكليف زائد على الدولة، أو كان السجين بنفسه يتحمل التكاليف الزائدة، هذا مع ضمان بقائه بحيث لا يمكن هروبه كما إذا وعد بأن لا يهرب والحاكم يعلم أن كلامه صحيح، إلى غير ذلك)(1).

مكافأة السجين والأجرة العادلة

وقال (رحمة الله): (المكافأة العادلة، إذا عمل السجين أعمالاً يدوية أو علمية كالتدريس أو ما أشبه، يُكافأ مكافأة عادلة وفق النظام في الخارج، ويسمح له بإنفاق شيء من مكسبه على حاجاته غير الممنوعة وإرسال جزء لعائلته، كما للمؤسسة أن تحتفظ بجزء من مكاسبه له إذا أراد ذلك فيتسلمها عند الخروج، سواء عندها أم عند مصرف من المصارف)(2).

إخبار عوائل السجناء بأخبارهم

وقال (رحمة الله): (خبر الاعتقال وما أشبه، يلزم إخبار أُسرة السجين بحبسه ابتداءً، كما أنه يلزم إخبارهم بمرض السجين أو موته أو نقله إلى سجن آخر أو ما

ص: 103


1- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص14.
2- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص19.

أشبه ذلك.

كما يلزم إخبار السجين نفسه بموت أحد أقربائه أو مرضه، وقد تقدم أنه يلزم الإذن للسجين بزيارة المريض وتشييع القريب إلى غير ذلك مما سبق.

وإذا أُريد نقله إلى مكان آخر يجب أن يكون النقل بواسطة مريحة، والمصارف على نفسه إن أراد هو النقل وكان قادراً على المصارف وإلا فعلى إدارة السجن)(1).

الدراسة في السجن

وقال (رحمة الله): (يلزم إعداد الدراسة ومقوماتها بالنسبة إلى الدارسين والأميين والصغار وما أشبه حتى لا تضيع أوقاتهم بدون دراسة لمن يرغب فيها)(2).

الشكاوى

وقال (رحمة الله): (يلزم تهيئة الفرص أمام كل سجين بتقديمشكاواه وما يطلبه ويريده في كل يوم وفي كل وقت أراد ذلك، إلى مدير السجن أو إلى المفتش الخاص أو إلى غيرهما ممن يهمه الأمر.

كما أنه يجب إخبار المسجونين بجواز الاتصال بأسرهم وأصدقائهم بمراسلة أو زيارة أو نحو ذلك)(3).

حقوق السجين وزائره

قال (رحمة الله): (وإذا جاء إنسان إلى السجين فلا يحق لإدارة السجن الإنصات

ص: 104


1- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص15.
2- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص18.
3- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص12.

إليهما أو جعل حاجز من زجاج أو ما أشبه فاصلاً بينهما، من غير فرق بين أن يكون المسجون من أهل البلد أو من غير أهل البلد.

كما أنه إذا أراد الاتصال بمحامٍ أو جمعية خيرية أو هيئة أو ما أشبه يجب تلبية طلبه، نعم إذا كان المسجون خطراً - وذلك حسب تشخيص الحاكم الشرعي وحُكمِهِ كتابةً - كان لإدارة السجن تحديده في بعض الاتصالات بالقدر الذي قرره الحاكم في كتابة رسمية)(1).

المكتبة العامة وحرية الوصول لوسائل الأعلام

وقال (رحمة الله): (المكتبة العامة ومتابعة الأنباء، يسمح للسجناء بالإطلاع على الأنباء بمختلف وسائلها.. كالصحف والمجلات والإذاعة والتلفاز والنشرات والفيديوهات وما أشبه.

كما أنه يلزم إيجاد مكتبة حافلة لجميع السجناء رجالاً ونساءً وأطفالاً بحيث تكون مزودة بكل ما يحتاجونه من الكتب.

وإذا احتاج المسجون إلى كتاب آخر ليس في المكتبة يلزم على إدارة السجن تحصيل الكتاب له سواء بماله إن كان له مال أو بمال إدارة السجن)(2).

إقامة السجناء للشعائر الدينية والحج وزيارة المشاهد

وقال (رحمة الله): (يلزم السماح لكل مسجون بممارسة شعائره الدينية من صلاة وصيام وما أشبه، وهكذا أن يكون عنده القرآن الكريم والكتب الدينية ككتب الأدعية والزيارات وما أشبه.

ص: 105


1- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص12.
2- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص12.

كما أنه إذا أراد السجين ممثلاً دينياً وعالم دين يسأله ويرجع إليه يلزم تلبية حاجته.

ويسمح للمسجونين بالقيام بصلاة الجماعة سواء أمَّ بعضهم بعضاً أم جاء الإمام من الخارج، وفي أيام شهر رمضان يلزم أن يحضر لهم الطعام فطوراً وسحوراً بالنسبة إلى الصائمين، وفي أيام الحج يلزم السماح للمستطيع منهم بالحج مع أخذ كفالة أو ما أشبه لرجوعه إلى السجن.

كما يلزم السماح له بوفاء نذره من زيارة بعض المراقد المقدسة مع أخذ الكفيل أو ما أشبه ذلك، وكذلك إذا كان نذره الاعتكاف.

وإذا أراد مكاناً انفرادياً لنفسه لمطالعة أو حفظ أو عبادة أو ما أشبه وجب توفيره له.

وهكذا في غير المسلم إذا كانت له شعائر خاصة فيلزم السماح له بأداء شعائره أيضاً)(1).

حضور التلامذة والجمهور في السجن

وقال (رحمة الله): (يسمح لتلاميذه إذا كان مدرِّساً، ولرواد منبره إذا كان خطيباً، في الحضور عنده لإلقاء الدرس عليهم أو إلقاء المواعظ، وكذلك يسمح لمن يتباحثون معه بارتياد السجن للمباحثة بشرط عدم إيذاء الآخرين)(2).

توفير مقومات الراحة النفسية للسجين

(إذا كان السجين يمرّ بأزمة نفسية يلزم السماح له بمراجعة الطبيب النفسي، وكذا إذا لم يكن يشعر هو بذلك أحضرت له إدارةالسجن الطبيب النفسي، وإذا

ص: 106


1- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص13.
2- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص9.

احتاج لأن ينقل إلى المستشفى للعلاج نقل إليه، كما يلزم توفير ما يوجب الارتياح النفسي للسجين وعدم ما يسبب الانزعاج وما أشبه)(1).

وقال (رحمة الله): (اتخاذ المحامي، إذا أراد السجين أخذ محامٍ للدفاع عنه كان له ذلك، وهكذا إن احتاج إلى مترجم، ثم إذا كان له مال صرف من مال نفسه وإلا فالصرف من مال دائرة السجون)(2).

حرمة التعذيب مطلقاً

وقال (رحمة الله): (لا للتعذيب مطلقاً، يمنع منعاً باتاً العقوبات اللاإنسانية والقاسية بالنسبة إلى السجناء ولو كانت بذريعة التأديب، فلا يجوز وضع السجين في زنزانة منفردة، ولا في مكان مظلم، ولا ملء الزنزانة بالماء، ولا ربطه بالحائط، ولا ما أشبه ذلك من أساليب التعذيب.

كما يمنع مطلق وسائل الإكراه في أخذ الاعتراف، من السلاسل والأغلال والتثقيل بالحديد وغيرها)(3).

تعيين مفتش محايد أو من الجهة المنافسة

وقال (رحمة الله): (يلزم أن يكون هناك مفتش عن أحوال السجناء، وأنه هل تطبق القوانين المرتبطة برعاية السجين في كل النواحي المذكورة أم لا؟

ومن الضروري أن لا يكون المفتش من نفس خط إدارة السجن لإمكان تواطئهم على السجين، بل يكون من خط آخر كحزب معارض أو ما أشبه ذلك.

وإذا رأى المفتش ثغرة وعلم بأن إدارة السجن لا تهتم بالأمر رفع الأمر إلى

ص: 107


1- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص10.
2- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص11.
3- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص11.

الجهات العليا لإصلاح تلك النواقص)(1).

ليس تأديب السجناء من صلاحية إدارة السجون

و قال (رحمة الله): (لا يحق لإدارة السجن تأديب السجناء، بل اللازم عند إساءتهم مراجعة الشرطة، فيلزم أن يكون فصل بين السجن والشرطة، وكأن السجين إنسان حر في خارج السجن فكيف كان يُعامَل معه حينذاك، كذلك يعامل معه داخل السجن.

ولا يحق لإدارة السجن بإعطاء الصلاحية لبعض السجناء لتأديب الآخرين.

نعم لا بأس بتدريس بعض السجناء بعضهم الأخلاق أو ما أشبه من العلوم الدينية والدنيوية، أو عقدهم حلقات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها.. يديرها بعض السجناء للآخرين)(2).

لا يجوز فرض ملابس خاصة

و قال (رحمة الله): (ليس من حق إدارة السجن الضغط على السجين بأن يلبس ملابس خاصة وإنما هو حسب اختياره).

توفير الرعاية الصحية المتكاملة للسجناء

و قال (رحمة الله): (يلزم توفير الشروط الصحية للسجناء، من حيث السعة والهواء والإضاءة والتدفئة والتبريد والأدوات الصحية حتى لقضاء الحاجة مع لياقتها ونظافتها، وتهيئة حمامات كافية يراعى فيها مقتضيات الفصول السنوية،

ص: 108


1- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص10.
2- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص11.

فيتوفر فيها الماء الحار والماء البارد وما أشبه، ويكون الذهاب إلى الحمام حسب حاجة ورأي السجين نفسه، واللازم صيانة هذه الأماكن ونظافتها باستمرار من قبل الدولة.

ومن اللازم أيضاً أن يتوفر للسجين ما يلزمه من الأطباء والأدوية وأن يسهل عليه مراجعة أي طبيب شاء حتى في خارج السجن)(1).

حرية إجراء المعاملات والقيود

وقال (رحمة الله): (حرية السجين في إجراء جميع المعاملات، من البيع والشراء والرهن والإجارة والمضاربة والمزارعة والمساقاة والحوالة وحتى الكفالة في صورها الممكنة، وغيرها، سواء في داخل السجن أم خارجه، بواسطة الهاتف أم عبر الوكيل أم ما أشبه)(2).

حرية النكاح والطلاق والشهادة والوصية والولاية

وقال (رحمة الله): (ممارسة عقد النكاح أو الطلاق بأقسامه المختلفة، لنفسه أو غيره ممن كان وكيلاً عنه أو وليّاً عليه، سواء بالنسبة إلى السجناء أم الخارجين عن السجن، ويصح كونه شاهد الطلاق أو النكاح حيث المستحب الاشهاد فيه، وكذلك بالنسبة إلى كونه وصياً أو موصياً أو متولياً لوقف أو ما أشبه ذلك)(3).

حق ممارسة الخطابة والكتابة وما أشبه

وقال (رحمة الله): (ممارسة الخطابة والتعليم والكتابة بمختلف أشكالها وحتى

ص: 109


1- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص8.
2- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص6.
3- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص6.

للجرائد والمجلات، وإلقاء الخطب والمحاضرات وعرض التمثيليات لمن في داخل السجن أو خارجه، بواسطة الراديو أو التلفزيون أو ما إلى ذلك)(1).

ممارسة المهن المختلفة

وقال (رحمة الله): (ممارسة المهن كالنجارة والحدادة والحياكة والنقش وصنع المصنوعات اليدوية وغيرها، وما أشبه)(2).

حق الرياضة

وقال (رحمة الله): (توفير الأماكن الخاصة للرياضة، بالاضافة إلى ساحة واسعة يستطيع السجين من خلالها التمشي).

الهوايات الشخصية

وقال (رحمة الله): (يلزم السماح له بالاهتمام بهواياته الشخصية كتعليق اللوحات والزخرفات وجعل المزهريات وما أشبه، وحتى الحيوانات الأليفة وغير الأليفة مما تحفظ في الأقفاص، كالهرة والدجاجة والإوزة وطيور الحب والبلابل، بل وحتى مثل الفهد وما أشبه ذلك، مع مراعاة الموازين).

اللقاء بالعائلة

وقال (رحمة الله): (يلزم أن يسمح للسجين بزيارة عائلته له في أيّ وقت شاؤوا، وكذلك بالنسبة إلى المرأة زيارة زوجها لها، كما يسمح للسجين ببقاء عائلته معه)(3).

ص: 110


1- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص6.
2- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص7.
3- كيف ينظر الإسلام إلى السجين: ص7.

ومن ذلك كله نكتشف أن الاتجاه العام للفقيه لو كان هو مسلك الرحمة واللين انطلاقاً من إحاطته بمذاق الشريعة السمحاء وبإنطلاقه مِن مثل الآية الشريفة: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» أنتج ذلك كله في حقل تأطير القوانين أو تطبيق أي كلي منها على هذا المصداق أو الصنف أو كيفية استنباطها بعناوينها الأولية أو الثانوية أو الولائية (الولوية) منهجية عامة شاملة في حقوق السجين وغيره، عكس ما لو كان الاتجاه العام له هو الشدة والقسوة والعنف وشبه ذلك، وههنا يتجلى بالضبط دور وموقع التدبر في مقاصد الشريعة السمحاء. فتأمل!

3. صلاة الجماعة الموحدة في الحرم المكي والمدني، أو المتعددة

إن من البدع التي أسسها الوهابيون التوحيد القسري لصلاةالجماعة في الحرم المكي وفي المدينة المنورة، وذلك على خلاف السيرة المستمرة للمسلمين شيعةً وسنةً على امتداد التاريخ في مكة المكرمة والمدينة المنورة والنجف الأشرف وكربلاء المقدسة وفي مشهد وقم المقدستين وغيرها من المشاهد المشرفة، فقد كانت تقام في المسجد الحرام صلوات جماعة متعددة وكان في فترة من الزمن لكل مذهب من المذاهب الأربعة إمام جماعة، وفي المشاهد المشرفة كان مراجع تقليد متعددون أو علماء كبار عديدون يقيمون الصلاة في أطراف الصحن الشريف وداخل الحرم المطهر.

وذلك هو مقتضى القاعدة، فكما أن باب الاجتهاد مفتوح وكما توجد هنالك تعددية في المرجعية فكل من اجتمعت فيه الشرائط له أن يطرح نفسه للتقليد وللناس أن يقلدوه، كذلك يلزم أن يفتح الباب لكل جامع للشرائط أن يقيم الصلاة في جانب من جوانب الحرم الشريف أو الصحن المبارك، وذلك أيضاً

ص: 111

مقتضى الحرية الإسلامية و(الناس مسلطون...) ومقتضى التنافس المحبذ شرعاً، قال تعالى «وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ»(1).

وكما لا يصح منع الناس من بناء حسينيات متعددة أو مساجد متكثرة بحجة أن بناء مسجد واحد واسع كبير يصلي فيه الناس جميعاً خلف إمام واحد، هو الأكثر هيبة وعظمةً، من مساجد وحسينيات كثيرة صغيرة حتى ومتوسطة، كذلك لا يصح منع أي عالم وعادل من إقامة صلاة الجماعة في المشاهد المشرفة ولو صلى خلفه شخصان.

إضافة إلى أن ذلك أقرب لذوق الشارع أيضاً من جهات أخرى فإن الله تعالى يقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(2) فإذا كان الله تعالى قد جعل الناس شعوباً وقبائل مع أنه كان من الممكن أن يجعلهم شعباً واحداً وبدون قبائل أو من قبيلة واحدة، إلا أن حكمته البالغة اقتضت إيجاد أنواع من التعددية مع الأمر بصبها في الأهداف الإيجابية«لِتَعَارَفُوا».

ومجمل القول: إنه في باب التزاحم لا شك في أرجحية التعددية والتمسك بأصالة الحرية (حرية كل أحد في إقامة صلاة الجماعة، وحرية كل إنسان في انتخاب من شاء من أئمة الجماعة) وفسح المجال لمختلف جامعي الشرائط، من مجرد التمسك بمظهر الوحدة بفرض إمام جماعة واحد على الجميع بحيث لا يكون للناس أي خيار آخر، خاصة وإن التطبيق أيضاً لنظرية الوحدة هذه عادة تطبيق سيء خاطئ أو مشوه أو مرجوح؛ إذ لو فرض أن إمام الجماعة كان هو الأعلم على الإطلاق أو كان هو المرجع الأعلى للمسلمين لكان لفرضه في مكة

ص: 112


1- سورة المطففين: 26.
2- سورة الحجرات: 13.

أو غيرها وجهٌ وإن كان مع كل ما ذكرناه مرجوحاً، لكنّ الواقع الخارجي يشهد بأن المفروض للإمامة هو شخص واحد من المذهب الوهابي الذي ترفضه كافة مذاهب المسلمين المشهورة، أو فليكن من إحدى المذاهب المشهورة، أفيبرر مجرد شعار الوحدة أن يفرض غير الأعلم الأعدل على الجميع؟!

إن مقتضى الرحمة بالناس وبالعلماء والعدول ومقتضى اللين هو عدم منع إقامة صلوات جماعة متعددة في مختلف الأماكن العامة التي تهوي إليها قلوب كافة المسلمين أو شيعة أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين، كما أن مقتضى الرحمة الشاملة إقرار نظام التعددية الإيجابية في مختلف المجالات والحقول قال تعالى: «وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ».

د: من الفوائد الأصولية والتقنينية لفقه المقاصد
اشارة

رابعاً: ويمكن أن نستنبط فوائد هامة لفقه المقاصد لا لاستنباط الحكم الشرعي منها مباشرة بل في جوانب أخرى نشير ههنا لأهمها بإيجاز، وأما التفصيل فبحاجة إلى كتابة كتاب مستقل معمق في بحث جوانب القضية والأخذ والرد فيها:

1. اللين والرفق الموازن الاستراتيجي للاحتياط
اشارة

إن بعض مقاصد الشريعة - ولنقتصر الآن على الرحمة واللينوالرفق باعتبار أن محور البحث هو الآية الشريفة - تعد الموازن الاستراتيجي للاحتياط؛ ذلك أن سيرة كثير من العلماء جرت على تحبيذ الاحتياط والسوق إليه؛ باعتبار أنه حسن على كل حال، لأنه موجب للتحفظ على مصلحة الواقع حتماً، ولكن إذا ثبت أن اللين والرحمة والتسهيل هي من مقاصد الشريعة - كما أسلفنا - فإن

ص: 113

ذلك قد يوجب عدم الاندفاع في الاحتياط في الفتوى (وهو غير الفتوى بالاحتياط)، بل إن النتيجة تكون إلى التخيير بينها إن تساوت المصلحتان فرضاً(1)، أو ترجيح جانب مصلحة التسهيل واللين والرفق على جانب الإحراز القطعي لمصلحة الواقع؛ وذلك هو ما قد تشهد به العديد من الروايات.

(سوق المسلمين) امارة تسهيلية تنبعث من مقصد اللين والرحمة

ومنها: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي الْجَارُودِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنِ الْجُبُنِّ؟ فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى أَنَّهُ يُجْعَلُ فِيهِ الْمَيْتَةُ. فَقَالَ (عليه السلام): «أَمِنْ أَجْلِ مَكَانٍ وَاحِدٍ يُجْعَلُ فِيهِ الْمَيْتَةُ حُرِّمَ(2)

فِي جَمِيعِ الْأَرَضِينَ؟! إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مَيْتَةٌ فَلَا تَأْكُلْهُ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ فَاشْتَرِ وَبِعْ وَكُلْ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْتَرِضُ السُّوقَ فَأَشْتَرِي بِهَا اللَّحْمَ وَالسَّمْنَ وَالْجُبُنَّ، وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ كُلَّهُمْ يُسَمُّونَ، هَذِهِ الْبَرْبَرَ وَهَذِهِ السُّودَانَ»(3).

ومن الواضح أن الكلام في الشبهة غير المحصورة ،وأن «وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ كُلَّهُمْ يُسَمُّونَ» ليس من دائرة شبهة الكثير في الكثير الموجب لتنجز العلم الإجمالي.

وذلك كله مع أن إحراز مصلحة الواقع بالاحتياط ممكنة، بل كان من الممكن أن يقيد الإمام(عليه السلام) الاقتحام في الأكل منها بصورة عدم العسر والحرج، فإطلاق القول ب« وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ فَاشْتَرِوَبِعْ وَكُلْ» و«وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْتَرِضُ السُّوقَ فَأَشْتَرِي بِهَا اللَّحْمَ وَالسَّمْنَ وَالْجُبُنَّ، وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ كُلَّهُمْ يُسَمُّونَ هَذِهِ الْبَرْبَرَ وَهَذِهِ السُّودَانَ» دليل على أرجحية مصلحة التسهيل والرفق على مصلحة

ص: 114


1- مصلحة إدراك الواقع ومصلحة التسهيل.
2- أي الجبن.
3- وسائل الشيعة: ج25 ص119.

الاحتياط. ولتحقيق ذلك والأخذ والرد فيه مجال آخر، إذ الكلام كما سبق إنما هو بنحو الإشارة.

(اليد) أمارة أخرى تسهيلية من منطلق اللطف والرحمة

ومنها: عن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ وَعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاسَانِيِّ جَمِيعاً عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ يَحْيَى عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَرَأَيْتَ إِذَا رَأَيْتُ شَيْئاً فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَيَجُوزُ لِي أَنْ أَشْهَدَ أَنَّهُ لَهُ؟ قَالَ (عليه السلام): «نَعَمْ»، قَالَ الرَّجُلُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ فِي يَدِهِ، وَلَا أَشْهَدُ أَنَّهُ لَهُ، فَلَعَلَّهُ لِغَيْرِهِ! فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «أَفَيَحِلُّ الشِّرَاءُ مِنْهُ؟» قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «فَلَعَلَّهُ لِغَيْرِهِ، فَمِنْ أَيْنَ جَازَ لَكَ أَنْ تَشْتَرِيَهُ وَ يَصِيرَ مِلْكاً لَكَ ثُمَّ تَقُولَ بَعْدَ الْمِلْكِ هُوَ لِي وَتَحْلِفَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَنْسِبَهُ إِلَى مَنْ صَارَ مِلْكُهُ مِنْ قِبَلِهِ إِلَيْكَ(1)؟» ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «لَوْ لَمْ يَجُزْ هَذَا لَمْ يَقُمْ لِلْمُسْلِمِينَ سُوقٌ»(2).

ومن الواضح أن جعل قاعدة اليد أمارة حسب الحدود الواسعة التي جعلها الشارع أمارة فيه إلى درجة صحة الشهادة أنها له مع أنها في يده فقط، والتي أثارت استغراب السائل في هذا المورد، دليل على أن هنالك مصلحة مزاحمة أخرى غير مصلحة إدراك الواقع اقتضت هذا التشريع، والمستظهر أنها مصلحة التسهيل والرفق بالمسلمين ولعل لسان «لَوْ لَمْ يَجُزْ هَذَا لَمْ يَقُمْ لِلْمُسْلِمِينَ سُوقٌ» ناطق بذلك.

ص: 115


1- وبعبارة أخرى: كيف ترتضي الفرع وتقبل به ولا تقبل الأصل مع أن هذا الفرع إنما هو من فروع ذلك الأصل ومما يترتب عليه؟
2- الكافي: ج7 ص387.
2. مقاصد الشريعة تصلح مؤيداً لدعوى الانصراف أو العكس

إن مقاصد الشريعة قد(1) تصلح مساعدة على دعوى الانصراف أو تأكد دعوى العدم، فإن الفقهاء كثيراً ما يستندون في عدم شمول عامٍ لحصةٍ من الحصص إلى دعوى الانصراف عنها رغم الشمول لفظاً، والمقاصد لو أذعن بها الفقيه قد تكون إحدى الأدلة أو على الأقل المؤيدات على الانصراف.

فمثلاً ارتأى العديد من الفقهاء أن المتنجس الأول منجس، أما المتنجس الثاني فليس بمنجس إذا لاقى غير المائع، بينما الرأي الآخر: هو أن المتنجس الثاني منجس دون الثالث، والرأي الآخر: أن المتنجس الثالث منجس دون الرابع فصاعداً، وقيل: المتنجس منجس مطلقاً، فلو لاقت اليد اليسرى مثلاً نجاسة كالبول فجفّت فلاقت اليد اليمنى الرطبة اليد الأولى تنجست فلو لاقت الثوب المرطوب تنجس على رأي ولم ينجس على رأي آخر فعلى عدم التنجس فلو لاقى الثوب شيئاً آخر كالجدار لم يتنجس وقيل بل يتنجس مطلقاً فتوى أو احتياطاً.

فقد يكون الانصراف هو وجه دعوى عدم منجسية غير المتنجس الأول، أو عدم سراية النجاسة إلى سلسلة لا متناهية، وقد يكون من مؤيدات الانصراف أن تسلسلها إلى ما لا نهاية خلاف الرفق بالخلق والرحمة بهم.

وكذلك لو قيل: بانصراف نجاسة الدم عن الذرات غير المرئية، فإن قاعدة الرحمة واللطف معينة مساعدة، بل لو قيل بأن الوجه هو عدم صدق الدم عرفاً عليها فإن جعل الشارع الموضوع هو خصوص العرفي منه لا الدقي أيضاً يتجانس إن لم ينبعث عن الرحمة الإلهية ومصلحة التسهيل. فتأمل!

ص: 116


1- يلاحظ قولنا (قد) ههنا وفيما سبق.
3. مقاصد الشريعة تصلح مرجِّحاً في باب التعارض

إن مقاصد الشريعة تصلح مرجحات في باب التعارض، بناءعلى التعدي عن المرجحات المنصوصة (كالشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامة بل ومثل «الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَأَفْقَهُهُمَا وَأَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَأَوْرَعُهُمَا»(1) إن قيل بأنها من مرجحات الرواية لا الحاكم والحق خلافه) إلى غير المنصوصة كما هو مسلك الشيخ الأنصاري (رحمة الله) وحينئذٍ فإن مقاصد الشريعة تصلح كمرجّح غير منصوص لدى تعارض الروايتين.

فلو ورد حديث بالحرمة، وآخر بالكراهة أو الجواز، كانت مقتضى الرحمة واللين والرفق بالعباد ترجيح الكراهة أو الجواز، وكذا لو تباين خبر دال على الوجوب مع آخر دال على الجواز، ولا يخفى أنه يكون مرجحاً مضمونياً.

وما ذكر ههنا ليس إلا طرحاً أولياً للبحث وليس المقصود منه حالياً تبني أي شيء مما سبق؛ إذ ذلك يستدعي مزيداً من التدبر والتأمل والتحقيق والفحص، وإنما طرح لفتح هذا الباب كي يتناوله الأعلام بالأخذ والرد والنقاش كائناً ما كانت النتيجة حتى وإن كانت الرفض المطلق؛ ألا ترى أن بحث حجية الشهرة أو الإجماع المنقول مما يبحث عنه في علم الأصول، مع وضوح أن الكثيرين ذهبوا إلى عدم حجيتها إلا أن هذا المبنى لم يلغِ ضرورة بحثهما في علم الأصول وإن كانت النتيجة السلب. فتدبر جيداً والله الهادي العالم.

4. مقاصد الشريعة تصلح مرجحاً في باب التزاحم وتشخيص الأهم وتقديمه

ثم إن مقاصد الشريعة التي تستقى من الكتاب العزيز والروايات المعتبرة،

ص: 117


1- الكافي: ج1 ص67.

يمكن أن تكون لها المرجعية الكبرى في باب التزاحم(1) وفي تشخيص الأهم من المهم، فإذا تزاحم أمران لكل منهما مصلحة فإنه يقدم الأهم - إلزاماً - إن كانت المصلحة الراجحة بحد المنع من النقيص - وترجيحاً - إن لم تبلغ ذلك الحد، لكن ما هو الأهم؟ كثيراً ما يتحيّر العقلاء أو المتشرعة في تحديده سواء فيالشؤون الفردية أم الاجتماعية أم في شؤون الحكومة.

وهنا تبرز أهمية تحديد مقاصد الشريعة الأساسية والفرعية في تشخيص الأهم من المهم.

وذلك تارة يكون في دائرة الشؤون الشخصية، وأخرى يكون في الفقه الاجتماعي وفقه الدولة الإسلامية، فلنبدأ بفقه الدولة والفقه الاجتماعي ولنضرب لذلك بعض الشواهد:

المشهور تقدم حق الناس على حق الله

اشارة

فقد نسب إلى المشهور تقدم حق الناس على حق الله قال السيد العم (دام ظله): (خامسها: إن المشهور بين الفقهاء: تقدّم حقّ الناس عند التزاحم مع حقّ الله، ولعلّه المرتكز في أذهان المتشرّعة)(2)،

و(وقد يؤيّد ارتكاز المتشرعة على أهمية حق الناس بما ورد في الحج وغيره: من أنّ الحاجّ يغفر له، فقال الراوي: حتى حق الناس. حيث يدلّ على إنّ مرتكز الراوي كان على إنّ حق الناس أهمّ، ولذا سأل عنه، لظهور المقام في السؤال عن الأهم)(3).

نعم ناقش العديد من الفقهاء في ذلك صغرى وشهرة، كما نقل

ص: 118


1- وهو غير باب التعارض السابق الذكر، كما لا يخفى.
2- بيان الأصول (التعادل والترجيح): ج9 ص22.
3- بيان الأصول (التعادل والترجيح): ج9 ص23.

السيد العم (دام ظله) تفصيله في كتابه فراجع.

وقد استدل الذين ذهبوا إلى تقدم حق الناس بوجوه؛ منها: (وقد يذكر للزوم الترجيح بحق الناس وجوه: أحدها: إنّ في حقّ الناس اجتماع حقّين، لأن الله تعالى هو الذي جعل حق الناس، فهو حق الله أيضاً)(1).

ونكرر ههنا أن البحث ههنا ليس بالأساس لتبني إحدى الآراء والمناقشة والأخذ والرد في الأدلة، فإن ذلك يستدعي مجلداً ضخماً بل الإشارة فقط إلى العديد من الروايات، وأن فتاوى جمع معتد به من الفقهاء على ذلك.

أ: في دائرة الفقه الاجتماعي وفقه الدولة
تقديم الكذب على ضياع أموال الناس

أ - إن الكذب من المحرمات الكبيرة بلا شك، والقسم كاذباً أشد حرمة بدون ريب، لكن لو توقف إنقاذ مال الناس على الكذب بل والقسم كاذباً فقد يقال: بارتكاب الكذب لإنقاذ أموال الناس.

وذلك ما دلت عليه الروايات؛ فمنها: ما ذكرها السيد العم (دام ظله) في كتاب بيان الأصول قال: (في تزاحم الكذب - الذي حرمته من حق الله تعالى - مع التسبيب لإضاعة حقّ الناس من بدن أو مال - الذي حرمته من حقّ الناس - فقد وردت بتقديم حق الناس فيه طائفة من الروايات؛ ومنها: الموثق (قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): «إنّ معي بضائع للناس ونحن نمرّ بها على هؤلاء العشّار، فيحلّفونا عليها، فنحلف لهم؟ فقال (عليه السلام): «وددت إنّي أقدر على أن أُجيز أموال المسلمين كلّها وأحلف عليها»(2) ونحوه غيره مما لا يجازف مدّعي تواتره

ص: 119


1- بيان الأصول (التعادل والترجيح): ج9 ص19.
2- وسائل الشيعة: ج23 ص227.

معنىً أو إجمالاً.

وقد افتى بمضمونه الفقهاء، وربما ادعى الإجماع عليه، والتسالم مسلّم(1)(2).

لو دار الأمر بين تزويج الزانية أو إجراء الحد عليها

ب - لو دار الأمر بين تزويج الزانية أو إجراء الحد عليها؛ فإن المعروف أن الزانية (لا عن إكراه) يجري عليها الحد بالجلد مائة جلدة إذا كانت غير محصنة، ولكن الحاكم الشرعي إذا رأى أن حدّها لا يحل المشكل؛ لأن الزنا كثيراً ما ينشأ من الحاجة الجنسية وكثيراً ما ينشأ من الفقر والحاجة المادية، فارتأى أن الأصلح تزويجها للوفاء بكلتا الحاجتين وللقضاء على جذور الفساد، فلا شك في هذه الصورة في أرجحية أو تعيّن - حسبما يرى الحاكم الشرعي -تزويجها لأنه يقلع مادة الفساد، أما إجراء الحد فقد يشكل رادعاً مؤقتاً لكنها ستعود ولو سراً نظراً لاحدى الحاجتين.

ولذا ورد أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) عندما تصدى لأمر الحكومة أمر في ملف الزانيات بأن يزوّجن ثم خطط لتزويجهن فتزوجن بأجمعهن.

نعم قد يكون الزنا لخبث في ذات المرأة أو الرجل فهنا يكون الحد هو الرادع إلى درجة كبيرة.

لو دار الأمر بين قرار الحرب أو السلم

ج - وفي أمر الحكومة لو دار الأمر بين أن تدخل الدولة الإسلامية أو الوطنية أو المنتخبة في معاهدة سلم وسلام مع دولة أخرى وبين أن تدخل في

ص: 120


1- انظر المكاسب المحرمة للشيخ الأنصاري رحمة الله وحواشيها وشروحها في مسألة مسوّغات الكذب.
2- بيان الأصول (التعادل والترجيح) ج9 ص26-27.

حرب معها، مع فرض أن العدو يستفز الدولة الإسلامية باستمرار وأن الدخول إلى الحرب من وجهة نظر مجلس الشعب مثلاً أمر مبرّر تماماً ولكن أمكن الصلح والسلم ولو بتحمل بعض الخِفة والاستضعاف في المقياس الدولي أو كان ذلك متوقفاً على دفع أموال باهضة للدولة المستفزة، ثم وجدنا أن الناس - مع ذلك - يميلون إلى السلم والصلح، فإن الأرجح - مبدئياً - الرفق بالناس وترجيح السلم بدل الخوض في الحرب بأهوالها وإن كانت لها مكاسب نفسية وسياسية كبرى، وذلك لأن دفع المضرة البالغة أولى من جلب المنفعة الكبيرة، ولأن مقتضى الرحمة بالناس هو ذلك.

وقد قال تعالى في مورد آخر: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ»(1)

ولعل وجه الأمر بالتوكل على الله تعالى: أن العدو قد يتخذ السلم خدعة وذريعة للهجوم المباغت أو غير ذلك ولكن مع ذلك فالسلم أرجح مع الأخذ بسبل الاحتياط كاملة كما لا يخفى.

ب: في دائرة الشؤون الشخصية:
اشارة

وأما في دائرة الشؤون الشخصية فإليكم بعض الأمثلة:

لو دار الأمر بين الغُسل أو سقي الحيوان

أ - لو دار أمر المكلف إذا لم يكن عنده من الماء إلا بمقدار الغسل أو الوضوء بين: أن يغتسل أو يتوضأ به ليصلي الصلاة الواجبة وبين أن يعطي هذا الماء لحيوان عطشان ظامئ يملكه في داره أو مزرعته، فقد صَرَّحَ عدد من الفقهاء بوجوب إعطائه للحيوان(2)؛ لأنه واجب النفقة عليه، وعليه فإنه ليس (واجداً

ص: 121


1- سورة الأنفال: 61.
2- الروضة البهية: ج1 ص448/ منتهى المطلب: ج1 ص135/ تذكرة الفقهاء: ج1 ص61.

للماء)؛ إذ قال تعالى: «فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً»(1)

فإن عدم الوجدان التشريعي - لأن الشارع أمره بإعطائه للحيوان - كعدم الوجدان التكويني يوجب انتقال وظيفته للتيمم.

و(لأنه واجب النفقة عليه) هو ما علّله به الفقهاء، لكن لذلك بُعداً أعمق في مقاصد الشريعة وفي بُعد الرحمة الإلهية الشاملة للحيوان أيضاً.

كما لنظائره جذر أعمق في مسألة التزاحم بين حقوق الله وحقوق الناس كما سبقت الإشارة إليه.

لو دار الأمر بين الصوم وإطعام المضطر

ب - لو كان المكلف في شهر رمضان لا يملك إلا طعام السحور ودار الأمر بين: أن يعطيه لفقير يتضور جوعاً وبين أن يتسحر به ليقدر على الصيام - بحيث إذا لم يتسحر لم يمكنه الصيام قطعاً - فإن الفقير إذا كان في معرض الخطر وجب عليه أن يقدمه له وحرم عليه أن يتسحر به.

لو دار الأمر بين الحج وتسديد الدين
اشارة

ج - ولو دار الأمر بين: أن يسدد دين الناس عليه وبين أن يحج حجاً قد استقر في ذمته - بأن كان مستطيعاً في الأعوام السابقة ولم يحج عمداً، فإنه حينئذٍ لو مات قيل له (مت إن شئت يهودياً أونصرانياً)(2).

هنا احتمل جمع من الفقهاء تقديم حق الناس على حق الله، فالواجب عليه أن يسدد دين الناس بذلك وإن فَقَد بذلك القدرة على أن يحج،

ص: 122


1- سورة النساء: آية 43.
2- قول النبي (صلي الله عليه وآله): «مَنْ مَاتَ وَ لَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّا». وسائل الشيعة: ج11 ص32

قال السيد الطباطبائي اليزدي (رحمة الله) في مسألة التزاحم بين أداء الدَين المطالب الحال، وبين الحجّ المستقرّ في الذمّة ما ترجمته: (وإن كان يحتمل تقدم الدَين إذا كان الديّان مطالبين، من جهة إنّه حقّ الناس، لكن يحتمل تقدّم الحجّ أيضاً، من جهة المبالغات والتأكيدات الواردة فيه ...)(1)(2).

نعم احتمل بعض الفقهاء: ترجيح الحج لأنه استقر في ذمته، وأمره شديد جداً حسب الروايات الكثيرة، وقال بعض: بالتخيير.

1. مقاصد الشريعة مرجح لرفض قاعدة الغاية تبرر الوسيلة
اشارة

سبق: أن مقاصد الشريعة تستبطن كنوزاً معرفية في الأبعاد الكلامية والتفسيرية والفكرية، كما أنها تكشف لنا العديد من أبعاد التشريعات الإلهية، ونضيف ههنا أنه يمكن الاستناد إليها، كمؤيد وبمعونة الارتكاز المتشرعي ومناسبات الحكم والموضوع، في رفض مجموعة من القواعد اللاأخلاقية، ومنها قاعدة الغاية تبرر الوسيلة، ولعل المثال الفقهي التالي يعدّ من مصاديق ذلك:

أ: هل يجوز الغدر مع الكفار؟
اشارة

فقد طرح الفقهاء مسألة الغدر مع الكفار، وذهب جمع منهم إلى جوازه؛ مستدلين بأدلة قوية في بادي النظر، قال السيد الوالد (رحمة الله): (هل يجوز الغدر بالكفار أم لا؟ احتمالان: أ - الجواز؛ لأنه لا حرمة لهم، ولأن إبادة الكفر لإنقاذ الناس من براثن الظلم والضلال أهم، ولأنه نوع من الخدعة الجائزة، ولمناط الخدعة، ولأنهم يغدرونطبيعةً فالغدر معهم من باب كلي: «فَاعْتَدُوا

ص: 123


1- رسالة السؤال والجواب: ص118.
2- بيان الأصول (التعادل والترجيح): ج9 ص20.

عَلَيْهِ»(1)،

إذ قد تقدم أنه لا يلزم كون الرد بالمثل من جميع الجهات. وفي نهج البلاغة: «الْوَفَاءُ لِأَهْلِ الْغَدْرِ غَدْرٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْغَدْرُ بِأَهْلِ الْغَدْرِ وَفَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ تعالى»(2)(3).

أقول: إن دليل الأهم والمهم دليل عقلائي عليه بناؤهم وسيرتهم، بل هو فطري في الجملة، فإن حياء العقلاء تبتني عليه وكذلك قاعدة الاعتداء بالمثل، ولكن ومع ذلك ذهب مشهور الفقهاء إلى حرمة الغدر واستدلوا بالآيات والروايات، قال السيد الوالد (رحمة الله):

الدليل على حرمة الغدر و نقض العهد حتى مع الكفار

(ب - والعدم، وهذا هو الذي اختاره المشهور، مستندين إلى جملة من النصوص، بل ادعى بعضهم عدم الخلاف فيه، حاملين للروايات(4)

على الوجوب، بالإضافة إلى قوله سبحانه: «فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقيمُوا لَهُمْ»(5)، خلافاً للقول الأول الذي حملها(6) على ضرب من الاستحباب.

وهذا القول هو الأقرب؛ لما تقدم من جملة من الروايات الناهية عن الغدر الذي هو نقض العهد، بخلاف الخدعة التي هي الالتواء في القول والفعل في حالة الحرب، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خبر لأصبغ بن نباتة في أثناء خطبة له: Sلولا كراهة الغدر لكنت من أدهى الناس، إلاّ أن لكل غدرة فجرة، ولكل فجرة

ص: 124


1- سورة البقرة: 194.
2- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الحكمة: 259.
3- الفقه (الجهاد): ج47/1 ص218.
4- أي روايات وجوب الوفاء بالعهد.
5- سورة التوبة: 7.
6- أي الآية، وكذا الروايات.

كفرة، ألا وإن الغدر والفجور والخيانة في النارR(1).

وفي خبر طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، سألهعن فرقتين من أهل الحرب لكل واحدة منهما مَلِكٌ على حدة، اقتتلوا ثم اصطلحوا ثم إن أحد الملكين غدر بصاحبه فجاء إلى المسلمين فصالحهم على أن يغزوا تلك المدينة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا، ولا أن يأمروا بالغدر، ولا يقاتلوا مع الذين غدروا، ولكنهم يقاتلون المشركين حيث وجدوهم، ولا يجوز عليهم ما عاهدوا عليه الكفار»(2)(3).

إلى غيرها من الروايات المذكورة في المستدرك في باب تحريم الغدر من كتاب الجهاد.

فلاحظ التعميم الواسع في الرواية الشريفة: فإنه 1 - لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا، 2- ولا أن يأمروا بالغدر، 3 - ولا أن يقاتلوا مع الذين غدروا، وهذا الثالث أقوى دلالةً إذ يحرم القتال حتى مع الذين غدروا بدولة أخرى مع أنه ليس بيننا وبينها عهد.

وقال (رحمة الله): (وتتمة المروي عن علي (عليه السلام) دليل على الحرمة، و(لا ينبغي) يحمل على الحرمة بالقرينة الموجودة في الرواية، فإنه يستعمل في الحرام والمكروه والمستحيل، مثل: «وَما يَنْبَغي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً»(4). ومن المعلوم أن السرايا كانت تمر ببعض من عاهدهم النبي (صلي الله عليه وآله)، بالإضافة إلى أن معناه: إن أعطيتم الأمان لأحد فلا تنقضوه، فالقول بالحرمة هو المتعين)(5).

ص: 125


1- الوسائل: ج11 ص52.
2- الوسائل: ج11 ص51.
3- الفقه (الجهاد): ج47/1 ص218 - 219.
4- سورة مريم: 92.
5- الفقه (الجهاد): ج47/1 ص219.

أقول: وتوضيح المسألة: في ضمن نقاط:

الغدر مغاير للخدعة

1- إن الغدر غير الخدعة، إذ الغدر يعني نقض العهد مع الطرف الآخر رغم أنه لم ينقضه فهذا هو المحرم، وهذا الحكم هو منتهى الإنسانية والرحمة إذ لا يجوز أن ننقض العهد معهم رغم أننا يمكننا بنقض العهد أن ننتصر عليهم ونصل للأهم في مستوى الفهمالعرفي.

أما الخدعة فليست في حالة وجود العهد والمعاهدة بل هي في حالة الحرب وشبهها حيث لا يوجد عهد بيننا وبينهم، ومن ذلك ما صنعه أمير المؤمنين (عليه السلام) مع عمرو بن ودّ العامري إذ قال الأمير (عليه السلام) له: (ما كنت لأقاتل اثنين) ونظر الأمير إلى جهة خلف عمرو فظن عمرو أن أحد أصحابه قد جاء ليُعينه ويساعده فنظر إلى الخلف فانتهزها الأمير (عليه السلام) فرصة فضربه ضربة قطع بها رجله، وقال (الحرب خدعة).

والخدعة في الحرب(1) جائزة؛ لأن الحرب مبنية على ذلك ولا عهد بين الطرفين، عكس الغدر.

ب: الغدر مع الكفار والبغاة المسلمين وغيرهم

2- إن البحث يمكن تعميمه - ببعض أدلته - للغدر مع غير الكفار أيضاً، فإنه حرام ما دمنا قد أبرمنا عهداً معهم.

ج: حرمة نقض العهود الاقتصادية والحقوقية وغيرها

3 - إن البحث يمكن تعميمه أيضاً - ببعض أدلته - لغير الجانب العسكري

ص: 126


1- أي الحرب المشروعة لا الحروب العدوانية المتداولة في عالم اليوم بل في كل الأزمنة تقريباً!

أيضاً، فكما يحرم نقض العهود العسكرية يحرم نقض العهود الاقتصادية أو الحقوقية والثقافية ونظائرها، مع الدول الأخرى حتى إذا استكشفنا فوائد كثيرة تعود لنا من نقض العهد.

وذلك كله يكشف عن منتهى إنسانية الإسلام والشريعة وابتنائها على القيم الأخلاقية والمثل العليا بالدرجة الأساس وعلى الرحمة حتى بالعدو مهما كان وترجيح الالتزام بالكلمة والعهد على كافة المصالح الأخرى، ونكتشف منها أيضاً أن (الغاية لا تبرر الوسيلة) في منظار مقاصد الشريعة أبداً.

2. تغيير الاتجاه العام للتقنين في إطار المسائل الشرعية
اشارة

إن مباحث مقاصد الشريعة قد تغيّر - إذا أذعنّا بها - الاتجاه العام لعملية الاستنباط الفقهي، أو للتقنين في مجالس الأمة والبرلمان، أو في مرحلة وضع اللوائح والنظم للوزارات والشركات، فكما أن الشاكلة النفسية- من قسوة وعنف نفسي أو لين ورحمة نفسانية أو تأنٍّ وعجلة أو غيرها- تحدّد ذلك كله، كذلك الشاكلة الفكرية والبُنى والأسس والأرضية العامة التي ينطلق منها المقنن في مجلس الأمة أو واضع النظم واللوائح في الوزارات أو الشركات أو في الأحزاب والمنظمات أو حتى المؤسس للعادات والتقاليد(1) في العشائر أو العوائل أو الشعوب والأمم، أو حتى المشجِّع عليها.

فلو كانت الشاكلة النفسية والفكرية على المركزية المطلقة و الاستبداد والسلطوية والعنف والشدة فمن الطبيعي أن يكون واضع القانون أو جاعل النظم أو مؤسس العادات والتقاليد، حريصاً على تقييد حريات الناس بإضافة قيدٍ ثم قيدٍ آخر ثم قيود متتالية على مختلف مناحي حياتهم.

ص: 127


1- الحسنة أو السيئة، الكابتة للحريات أو الهادمة للقيود والسدود والمحطمة للاغلال والآصار.

وذلك على العكس ممن شاكلته النفسية والفكرية كانت على الشوريّة والحرية والحب والرحمة والرفق بالناس، فإنه من الطبيعي أن يحاول تخفيف القيود عنهم وإطلاق الحريات لهم وفسح المجال أمامهم للحركة والانطلاق نحو آفاق التقدم والازدهار والرقي والكمال، ولذا قال تعالى: «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ»(1).

نماذج من القوانين الكابتة في الحكومات السلطوية

ومن هنا نجد أن الدول والحكومات السلطوية ميّالة إلى وضع قوانين كابتة للحريات وزيادتها باستمرار، وهذا بعض الأمثلة:

الأول: منع الناس من بناء الأراضي الموات أو زراعتها أو بناء المعامل والمصانع والمنازل عليها، إلا بإجازة من الدولةورخصة وبقيود مشددة مع أن «الْأَرْضَ لِلَّهِ وَ لِمَنْ عَمَرَهَا»(2).

الثاني: منع الناس من إعادة بناء دارهم أو بناء غرفة أخرى في منزلهم إلا بإجازة ورخصة، في الكثير من الدول.

الثالث: منعهم حتى من هدم حائط أو أي تغيير داخلي إلا بإجازة في بعض الدول.

الرابع: منع أصحاب الشركات والمحلات من نصب لوحة أو لافتة أو قطعة على المحل تحمل اسم المحل أو الشركة إلا بإجازة من البلدية في العديد من الدول، والأغرب أنها تفرض عليهم ضريبة على ذلك! كما تفرضها على البنود السابقة أيضاً!

ص: 128


1- سورة الأعراف: آية 157.
2- الكافي: ج5 ص279.
منع تربية الماشية والطيور في المنازل

الخامس: والأغرب أن بعض الدول المستبدة(1) والديمقراطية(2) سنّت قانوناً بمنع اقتناء الدواجن، كالدجاج والشياة وشبهها، في البيوت والمنازل، مما يعني حرمان الملايين من العوائل من البيض المنتج داخل البيت أو من توالد الدجاج والشياة وتكاثرها فيحرمها من مصدر رزق ومن مصدر متعة أيضاً.

السبب الحقيقي: رغبة الشركات الكبرى في احتكار إنتاجها

ومن الطبيعي أن يُنظِّر السلطويون قراراتهم والقيود التي يضعونها على الناس والتي يزيدون منها يوماً بعد يوم، بفلسفة وعلة تبدو مقبولة لعامة الناس كي لا يتململ الناس منهم أو ينتفضوا ضدهم أو يسقطوهم في الانتخابات أو بالمظاهرات والإضرابات.

فمثلاً - وحسب العديد من أهل الخبرة - فإن الباعث الأساسلمنع الناس من اقتناء الدواجن هو: الاستجابة لضغط الشركات الكبرى التي تنتج اللحوم والبيوض والألبان ومشتقاتها وتبيعها للناس؛ وذلك لأن ذلك المنع يزيد من الحاجة إلى تلك الشركات ويزداد الطلب على شراء منتجاتها بشكل هائل عما لو كانت مئات الألوف من الأسر تمتلك الدواجن وتحصل على قسط وافر من حاجتها إلى اللبن أو البيض أو اللحم منها.

ص: 129


1- البحرين مثلاً حيث صوّت البرلمان في العام 2015م على حظر تربية الماشية والطيور وما في حكمها في المنازل والوحدات السكنية وملحقاتها!.
2- بريطانياً مثلاً.
السبب الظاهري: منع انتشار الأمراض

ولكن هل يعقل أن تبين الحكومة أو المشرّع بالسبب الواقعي؟! كلا وألف كلا.. بل المخرج الذي سوّقوا له هو: أن اقتناء تلك الدواجن يسبب أمراضاً لأهل المنزل، فضرورات الأمن الصحي اضطرتنا لسنّ تلك القوانين حفاظاً على صحتكم.

والغريب أنهم في الوقت الذي يمنعون فيه الناس من اقتناء الدواجن فإنهم يجيزون لهم اقتناء الكلاب والقطط مع أن المكروبات والفايروسات والأمراض التي يمكن أن تنقلها الكلاب والقطط لأهالي المنزل - خاصة وأن كثيراً منها تعيش داخل المنزل - لا تقل من الأمراض التي يمكن أن تنقلها الدواجن، خاصة وأنها تعيش عادة في الحديقة الخلفية للمنازل.

أساس مشكلة الاستبداد في رضا الجماهير والنخبة به

ثم إن المشكلة في القوانين الكابتة للحريات، والتي تزداد يوماً بعد يوم بألف عذر وعذر، ليست - بالأساس - في المنطلقات السلطوية والشاكلة الفكرية والنفسية للحكام والمشرِّعين والرؤساء وذوي السلطات، بل هي - قبل ذلك - في الكثير من الناس والجماهير وأعضاء الأحزاب وأفراد العشيرة والكثير من طلاب الحوزة أو الجامعة، التي تتقبل هذه القيود بل وتتفاعل معها بل وتكون في كثير من الأحيان أشد حماساً في الدفاع عنها من المشرعين بأنفسهم.

فلاحظوا مثلاً قوانين الحدود الجغرافية، وقوانين الجوازاتوالجنسية، وقوانين الضرائب والمكوس، وقوانين منع إحياء الأراضي واستصلاحها، وقوانين تقييد الدخول والخروج والإقامة والتجارة والاستيراد والتصدير وغيرها،

ص: 130

فإن أشد الناس دفاعاً عنها هم الكثير من المثقفين والكثير من الطبقة المستضعفة والكثير ممن تسحقه تلك القوانين بعجلاتها الرهيبة.

والسر الكامن وراء ذلك هو: أنه قد جرى غسيل مخ شامل للناس طوال عشرات السنين وتطوّعت الألوف من الأقلام لإقناع الناس والمثقفين والطلبة بالضرورات الداعية إلى ذلك من ضرورات أمنية إلى أخرى اقتصادية إلى ثالثة صحية وغيرها.

وذلك كله إضافة إلى أن الإنسان بطبعه يألف ما فتح عينه عليه بل وينفر أو يخاف من غيره وإن كانت فيه حريته وتقدمه وازدهاره، ولنتصور إنساناً ولد في السجن ولم يعرف غير السجن وحدوده ونوع الطعام الذي يقدمه له السجان وشتى القوانين الثابتة، فإنه قد لا يتصور وجود عالم رحب وقوانين سمحة تغاير ما ألِفه، بل لعله لو علم بذلك خاف من الضياع فيه - في العالم الرحب الواسع الكبير - وفضّل السجن الصغير المأمون المعلوم الأبعاد على العالم الكبير الفسيح الخَطِر المجهول الأبعاد.

ولذلك كان الكثير من العبيد الذي حررهم أسيادهم في أمريكا، يعودون بطوع إرادتهم بل وبإصرار إلى أسيادهم ليستعبدوهم من جديد وذلك لأنهم لم يتعلموا بل كانوا لا يمكنهم العيش بدون سلطة مركزية وقوة قاهرة تؤمِّن لهم حياة رقٍّ مستقرة خالية من التحديات والمخاطر، إذ انه يضمن فيها لقمة العيش والسكن عكس ما لو تحرّر فأين يسكن؟! وماذا يأكل؟! وكيف يعمل؟!

كتلة التحرير من القوانين الكابتة في مجلس الأمة

ولذلك كله ارتأى السيد الوالد (رحمة الله) في موسوعة الفقه أن من الضروري تشكيل كتلة في مجلس الأمة باسم كتلة التحرير قال (رحمة الله): (ثم لا يخفى أن أوعية

ص: 131

الحرية، كما تحفظ الحرية، فإنها تنمي الحرية؛ إذ كل من الحرية والديكتاتورية قابلةللنمو، كالأشجار القابلة لها، مثلاً المستبد يحدد أسفار الناس، ثم بنائهم للعمارات، ثم كتابتهم، ثم إبدائهم للآراء، ثم مداخلهم للمال ثم مصارفهم له إلى غير ذلك، وبالعكس أوعية الحرية تحررهم عن الضرائب الباهضة، وعن قيود سفرهم وحضرهم، وزواجهم وبنائهم، وغير ذلك.

ولذا كان من الضروري في الحكومات (الاستشارية) وجود كتلة في (مجلس الأمة) للتحرير، شأنها سن القوانين المحررة تدريجياً ... وذلك بالإضافة إلى أنه: 1- عمل إنساني يحكم به العقل، 2- هو أمر شرعي واجب: أ - لقاعدة الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم(1)، فكل سلب لحرية من حرياتهم، إسقاط لجانب من التسلط على أنفسهم وأموالهم، فهو منكر تجب إزالته، ب - ولقاعدة لا يُتوى حق امرء مسلم(2)، ج - ولأن العقل إذا حكم فقد حكم به الشرع لتلازمهما في سلسلة العلل - كما قرر في الأصول - إلى غير ذلك من الأدلة)(3).

وكما نرى فإنه (رحمة الله)اعتبر القوانين الكابتة منكراً تجب إزالته كما أن شرب الخمر والزنا والسرقة هي من المنكرات.

والحاصل: إنه كما يجب تحرير البلاد من الاستعمار الخارجي العسكري ومن أمثال إسرائيل الغاصبة، كذلك يجب تحرير البلاد من القوانين الكابتة التي وضعها المستبدون وأياديهم وكان عليهم أن يحاربوا قوانينهم الجائرة قبل ومع محاربتهم للدول المستعمِرة، وذلك لأن الذي سلّطهم علينا هو إعراضنا عن

ص: 132


1- بحار الأنوار: ج2 ص272.
2- مستدرك الوسائل: ج3 ص215.
3- الفقه (السياسة): ج 106/2 ص75-76.

قوانين القرآن الحيوية؛ ومنها: قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ»(1)

وقوله: «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ»(2)

و«وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ»(3).

لجنة التحرير من القوانين الكابتة في الأحزاب والعشائر

أقول: والمسألة عامة سيّالة، فإن من الواجب أيضاً تشكيل لجنة في كل حزب وفي كل عشيرة وفي كل نقابة واتحادية وفي كل مؤسسة كبيرة من مؤسسات المجتمع المدني، تكون مهمتها ترصُّد القوانين والنُّظم الكابتة والعادات والتقاليد والأغلال المجحفة في حق العامل أو الموظف أو المزارع أو العضو أو الزوجة أو البنت أو الأب أو الابن، ثم إلغاؤها وإزالتها فإن (العافية) تبدأ بخطوة تليها خطوة فخطوات.

وحيث إن من الواضح أن إلغاء كثير من القوانين لا يمكن أن يكون دفعة واحدة لما يستتبع - إن كان بدون إعداد واستعداد - من الاضطراب أو الفوضى أو سوء التعامل، لذلك كانت مهمة اللجنة هي (سنّ القوانين المحرِّرة تدريجاً) كما قاله (رحمة الله)، لكن بشرط أن لا يُتّخَذ ذلك ذريعةً للتملص في نهاية المطاف من إلغاء القوانين الكابتة أو للتباطؤ أكثر مما تستدعيه الضرورة القصوى.

3. تأثيرات مقاصد الشريعة في تقنين القواعد الفقهية والاجتماعية والسياسية
اشارة

سبق: إن الرحمة من أهم مقاصد الشريعة، بل هي والحكمة منشأ عالم

ص: 133


1- سورة النحل: 90.
2- سورة الأعراف: 157.
3- سورة المطففين: 26.

التكوين وعالم التشريع جميعاً، ولهذا المقصد المفتاحي من مقاصد الشريعة تجليات تشريعية عظمى، وسنقتصر ههنا على مظهرين وتجليين من تلك التجليات أحدهما مشهور، طرقه الفقهاء في كتب القواعد الفقهية وفي الفقه والأصول بشكل موّسع والآخر هو ما نستظهر ضرورة تقنينه استناداً إلى أدلة أصولية فقهية عديدة يعضدها هذا المقصد الهام من مقاصد الشريعة: أما المشهور فهو:

أ: الرحمة الإلهية في محور قاعدتي الإمضاء والإلزام
اشارة

وهاتان قاعدتان أساسيتان عامتان:

الأولى: (قاعدة الإمضاء)، وتعني: إن ما كان لأهل الكتاب من الأحكام التي تصب في صالحهم فهو ممضى شرعاً لهم على الرغممن أننا نرى أنهم على خطأ وباطل، لكن الرحمة الإلهية اقتضت ما صرح به الحديث الشريف: «يَجُوزُ - أي يمضي وينفذ - عَلَى أَهْلِ كُلِّ ذِي دِينٍ مَا يَسْتَحِلُّونَ»(1).

الثانية: (قاعدة الإلزام)، وتعني: أن أحكامهم التي عليهم هي الأخرى تكون نافذة المفعول في حقهم وإن كانت باطلة لدينا، فلو رجعوا إلى قضاتنا وقضائنا كان للقاضي الحكم عليه على طبق دينهم أو على طبق ديننا، موكَلاً ذلك إلى اختيارهم وإرادتهم.

والمنطلَق الأول لقاعدة الإلزام والإمضاء هو قوله تعالى: «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ»(2)

وقد فصلنا الحديث عن هذه الآية الكريمة في مباحث الالزام، وفي كتاب (بحوث في التفسير والتدبر)، كما تدل عليه الروايات الشريفة، ومنها: «أَلْزِمُوهُمْ بِمَا أَلْزَمُوا (بِهِ) أَنْفُسَهُمْ»(3).

ص: 134


1- الإستبصار: ج4 ص148.
2- سورة الكافرون: 6.
3- وسائل الشيعة: ج26 ص319.
لا تؤخذ الزكاة والخمس من الكفار رغم أنهم مكلفون بالفروع

قال السيد الوالد رضوان الله عليه في الفقه الجهاد: (وقد ذكرنا في شرح العروة أنهم لا تؤخذ منهم الزكاة والخمس وإن كانا واجبين عليهم، بمقتضى مخاطبة الكفار بالفروع كخطابهم بالأصول، وإنما لا يؤخذان منهم لأن مقتضى إقرارهم على دينهم ذلك، كما لا يؤمرون بالصلاة والصيام والحج وسائر أحكام الإسلام إلاّ ما دل الدليل الخاص عليه)(1).

وعلى ضوء قاعدة الإمضاء فإنه: لو تزوج مجوسيُّ أمّه مثلاً - وذلك من أقبح المنكرات لدينا ولدى كافة الملل والنحل إلا أنه لديهم جائز - فإنه يُمضى ولا يعاقب ولا يلاحق قانونياً ولا اجتماعياً، بل تجرى عليه أحكام الزوجية، وعليه: فلو ماتت وَرِث منها إرثين؛ من جهة كونه ولداً ومن جهة كونه زوجاً لها، كما أنه لو مات هو فإنها ترث منه إرثين باعتبارها أماً وباعتبارها زوجة.وهكذا لو طلق العامي زوجته بطلاق باطل عندنا، صح ونفذ.

ولذا عبر المشهور عن مفاد قاعدة الإلزام والإمضاء ب-: أنه حكم واقعي ثانوي وليس بحكم ظاهري كما هو حال الأصول العملية.

وقد فصلنا الكلام عن قاعدة الإلزام في كتاب مستقل وهو (فقه قاعدة الإلزام والإمضاء).

وأما ما نستظهره فهو:

ب: الرحمة الإلهية في محور كونفدرالية شرائح المقلدين
اشارة

المستظهر: أنه لو قامت دولة إسلامية جامعة للشرائط، بمعنى أن تكون

ص: 135


1- الفقه (الجهاد): ج48/2 ص23.

- أسماً ومسمّىً إسلامية تعمل بقوانين الإسلام في السياسة والاقتصاد والحقوق وغيرها - وانتخب الناس بملأ رضاهم فقيهاً جامعاً للشرائط أو مجموعة من الفقهاء(1):

يحرم على الفقيه الحاكم أن يفرض آراءه على مقلدي سائر المراجع

فإنه لا يجوز له أن يفرض آراءه الفقهية على مقلدي سائر المراجع، بل يكون لكل مرجع ولمقلديه الحق في العمل على حسب ما يرتأيه من غير أن تنفذ عليهم الأحكام الولائية (الولوية) أو غيرها.

نعم لهم إن شاءوا إتباعه بناء على جواز العدول في التقليد(2).

وعليه: فلو كان رأي الفقيه وجوب فرض الضرائب لحالةٍ ثانويةٍ طارئة أو كأصل أولي في نظره، فإنه ينفذ على مقلديه فحسب، أماالفقيه الآخر الذي يرى حرمة الضرائب أو لا يرى وجوبها فيجب أن يكون مقلدوه مُعفَون من الضرائب.

وكذلك لو كان رأي الفقيه الحاكم فرض الحدود والكمارك والجنسية والجوازات والفيزا والإقامة وغيرها من القيود التي ما أنزل الله بها من سلطان، وكان رأي مرجع آخر حرمة ذلك، وجب على الحاكم الشرعي التعامل - قانونياً - مع مقلدي كل مرجع على حسب فتاوى مراجعهم فإن آرائهم هي الحجة في حقهم.

ص: 136


1- وقد فصل المؤلف في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الاسلامية بحث فقهي اصولي على ضوء الكتاب والسنة والعقل): أنه لا يجوز للفقيه أن يفرض نفسه على الناس، بل إنهم إن اختاروه بملأ إرادتهم ثبتت له السلطة والولاية في حدود تفويضهم لها إليه، وحسب السقف الزمني المقرر له كخمس سنين مثلاً، وذلك يعني أن ولايته اقتضائية وإن كان الأعلم ولا تكون فعلية إلا بانتخاب الناس).
2- إن أدرجنا المسألة في التقليد وليس كذلك كما فصلناه في كتاب الشورى.

وكيف نلتزم بقاعدة الإمضاء والالزام بالنسبة لأهل العامة والكفار، ولا نلتزم بها بالنسبة لفقهاء أهل البيت (عليهم السلام) ومقلديهم؟

وقد فصلنا في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) البحث عن ذلك وأدلته، وذكرنا أيضاً: أن باب الفتوى غير باب الحكم، وأنهما غير باب الحكومة والشؤون العامة، وأن الذي نستظهره تبعاً للسيد الوالد (رحمة الله) وبعض آخر من الفقهاء: أن ولاية الفقيه غير فعلية ولا منجزة إلا برضا الناس به أولاً، وأنّ الولاية هي لمجموع الفقهاء ثانياً، بمعنى: أن الفقيه الواحد لا يصح أن يتولى الحكم بمفرده ولا أن يستفرد بالقرار، بل يجب أن يكون الأمر شورى بين الفقهاء وشورى بين الناس باختيارهم شورى الفقهاء لقوله تعالى «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»(1) ولغير ذلك من الأدلة على التفصيل المذكور في الكتاب.

وإذا عدلنا عن ذلك وتنازلنا عنه فرضاً فلا مناص من اشتراط رضا الناس بالفقيه في ثبوت الولاية - بحدودها - له عليهم.

فرق باب الحُكم عن باب الحكومة

وأما باب (الحكم) فقد ذكر المشهور: أن حكم الفقيه نافذ على سائر الفقهاء، ولكن يرد عليه:

أولاً: إنه لا ينفذ إذا علموا خطأه أو خطأ مستنده.

وثانياً: إنه على فرض التسليم به فإن حكم الأسبق منهم نافذ لاالحاكم المتصدي فقط، فإذا أصدر أحد المراجع وإن كان مغموراً حكماً نفذ حتى على المرجع الحاكم!، ولا مرجِّحية لكونه حاكماً أبداً إذ ليس مقياس نفوذ قول الفقيه هو السلطنة والقوة أبداً بل هو اجتماع شرائط المرجعية فيه واسبقيته في إصدار

ص: 137


1- سورة الشورى: 38.

الحكم (حسب هذا المبنى).

وثالثاً: إن باب الحكم غير باب الحكومة؛ فإن الحكومة هي في الشؤون العامة كالحرب والسلم والمعاهدات الدولية والسياسة النقدية للبلاد، الخ وهي التي تجب فيها الشورى واختيار الناس، وأما الحكم فهو في الموضوعات التي لم تكن من دائرة الشؤون العامة كالهلال وشبهه، فهذا هو الذي يكون حكم الأسبق منهم هو النافذ في حق الآخرين.

وتفصيل ذلك أخذاً ورداً ومناقشةً وأجوبةً من زاوية أصولية وفقهية موكول إلى كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) إنما الذي نريد طرحه هنا هو تقريب هذه النظرية عقلائياً، فنقول:

إن ما ندعو إليه ونستظهره هو إحدى صيغتين: الفدرالية الفقهائية أو الكونفدرالية المرجعية، والفدرالية والكونفدرالية صيغتان عقلائيتان لا شك فيهما .. وتوضيح ذلك:

ما هو المقصود بالفدرالية؟

1- الفدرالية هي: (شكل من أشكال الحكم تكون السلطات فيه مقسمة دستوريا بين حكومة مركزية ووحدات حكومية أصغر (الأقاليم، الولايات)، ويكون كلا المستويين المذكورين من الحكومة معتمداً أحدهما على الآخر وتتقاسمان السيادة في الدولة.

أما ما يخص الأقاليم والولايات فإنها تعتبر وحدات دستورية لكل منها نظامها الأساسي الذي يحدد سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية ويكون وضع الحكم الذاتي للأقاليم، أو الجهات أو الولايات منصوصاً عليه في دستور الدولة بحيث لا يمكن تغييره بقرار أحادي من الحكومة المركزية.

ص: 138

والحكم الفدرالي واسع الانتشار عالمياً، وثمانية من بين أكبردول العالم مساحة تحكم بشكل فدرالي، وأقرب الدول لتطبيق هذا النظام الفدرالي على المستوى العربي هي دولة الإمارات العربية المتحدة ، أما على المستوى العالمي فهي دولة الولايات المتحدة الأمريكية.

ما هو المقصود بالكونفدرالية؟

2- الكونفدرالية هي: (الاتحاد الكونفدرالي هو رابطة، أعضاؤُها دول مستقلة ذات سيادة، وهي التي تفوض بموجب اتفاق مسبق بعض الصلاحيات لهيئة أو هيئات مشتركة لتنسيق سياساتها في عدد من المجالات وذلك دون أن يشكل هذا التجمع دولة أو كيانا وإلا أصبح شكلا آخرا يسمى بالفدرالية.

والكونفدرالية تحترم مبدأ السيادة الدولية لأعضائها وفي نظر القانون الدولي تتشكل عبر اتفاقية لا تُعدَّل إلا بإجماع أعضائها.

وفي السياسة الحديثة، فالكونفدرالية هي اتحاد دائم للدول ذات السيادة للعمل المشترك فيما يتعلق بالدول الأخرى. وعادة ما تبدأ بمعاهدة ولكنها غالباً ما تلجأ في وقت لاحق لاعتماد دستور مشترك، وغالباً ما تنشأ الكونفدراليات للتعامل مع القضايا الحساسة مثل الدفاع والشؤون الخارجية أو العملة المشتركة، حيث يتعين على الحكومة المركزية توفير الدعم لجميع الأعضاء.

وفي سياق آخر تستعمل كلمة الكونفدرالية لوصف نوع من الهيئات التي يكون أحد مكوناتها شبه مستقل مثل الكونفدراليات الرياضية أو النقابية.

وتختلف طبيعة العلاقة بين الدول التي تشكل الكونفدرالية بشكل كبير، وبالمثل، فإن العلاقة بين الدول الأعضاء والحكومة المركزية فيما يختص بتوزيع

ص: 139

السلطات فيما بينها متغير بدرجة كبيرة أيضاً. بعض الكونفدراليات تتمتع بمرونة مماثلة للمنظمات الحكومية الدولية، في حين أن الكونفدراليات المتشددة قد تشبه الاتحادات الفدرالية.

ومن أبرز الكونفدراليات الحديثة الاتحاد الأوروبي، أما كنداوسويسرا وبلجيكا، فتعتبر فدراليات)(1).

الفدرالية في دائرة مقلدي المراجع في إطار الدولة الإسلامية

ومقتضى قاعدة العدل والإنصاف وغيرها: أن يكون وضع المرجعيات الدينية وجماهير المقلدين بالنسبة إلى الدولة كوضع الفدراليات بأن يجري تقسيم الصلاحيات القانونية والحقوقية دستورياً في مختلف المجالات من مناهج التعليم في المدارس والجامعات إلى الضرائب، ومن قوانين التجارة إلى قوانين العقود والإيقاعات إلى أبواب القضاء والإرث إلى غير ذلك.

نعم يستثنى من ذلك: الحوادث العامة الارتباطية والتي لا يمكن التفكيك بينها أبداً، وقد جرت قوانين الفدراليات على استثناء بعض الوزارات من تفويض الصلاحيات وهي وزارات الدفاع والخارجية والداخلية، ولكنه نافذ بالنسبة إلى مقلدي المراجع الآخرين في الجملة فقط وذلك لأنه ليست كل قضايا الدفاع والداخلية والخارجية حقائق ارتباطية لا يمكن التفكيك بينها هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإن اللازم في القضايا الارتباطية هو أن تكون المرجعية لمجلس شورى يتشكل من عامة مراجع التقليد ويكون الحكم النافذ هو ما حكمت به أكثريتهم.

ص: 140


1- من الموسوعة الحرة (ويكيبيديا).
الكونفدرالية في دائرة مقلدي المراجع

بل نقول: إن من الممكن أن تكون صيغة الكونفدرالية هي الحاكمة بين المرجعيات الدينية والدولة الإسلامية فتكون السيادة من الأساس موزعة على أساس تقليد الناس، والذي هو أمر اختياري طوعي، لا على مقياس الولادة في أرض معينة ذات حدود جغرافية خاصة.

وهذا أقرب جداً للإنسانية والعدالة، إذ توزيع السيادة علىأساس تقليد الناس هو في الواقع قمة الديمقراطية والحرية فلكل إنسان حرية الاختيار أولاً وفي مرحلة العلة المحدثة ثم له الحرية ثانياً وفي مرحلة العلة المبقية بأن ينتقل من داخل دائرة إلى دائرة أخرى في المرجعين المتساويين أو في المجهول حالهما أو لدى التحير، بل مطلقاً حسب المنصور؛ إذ لا يتعين تقليد الأعلم كما فصلناه في كتاب (تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول)(1).

أما الحدود الجغرافية والولادة أباً عن جد في بلدٍ ما أو حتى ولادة الشخص في البلد أو كونه من قومية أو جنس أو عرق معين فإن هندسة الحقوق والقوانين السيادية لتكون قائمة على تلك الأسس غير الاختيارية يعد من أسوأ أنواع الاستبداد والظلم والاوليغارشية.. وللبحث صلة.

4. مقاصد الشريعة تحدد مسار الفكر واتجاه القيادة والإدارة
اشارة

إن من جهات أهمية البحث المستوعب والشمولي والدقيق عن مقاصد الشريعة هو أنها تضطلع بتحديد المسار العام لعملية الاستنباط الفقهي والاتجاه العام للتفكير والتوجه العام للقائد والقيادة على أي مستوى كانت.

ص: 141


1- هذا مع قطع النظر عن أن الشؤون العامة ليست من دائرة التقليد بالمعنى المصطلح فلها أحكامها الخاصة، كما فصلناه في كتاب (شورى الفقهاء).

ويمكننا أن نستعرض ذلك على مستويين: مستوى علم النفس، ومستوى علم الفقه.

التفكير الشمولي والتجزيئي في منظار علم النفس

أما على مستوى علم النفس، فقد أثبتت الدراسات المستفيضة في علم النفس والأعصاب المخ، ودلّت التجارب الميدانية على أن الناس يفكرون بطريقتين، وأن التفكير ينقسم إلى قسمين: القسم الأول التفكير الشمولي والقسم الثاني: التفكير التجزيئي.

القسم الأول: التفكير الشمولي، وهو التفكير الذي يضع المفردات سواء أكانت هامة أم هامشية، في سياقاتها العامة فينظر إلى الصورة العامة والسياق العام والنسق العام ويدرس القضية أو الحادثة أوالمسألة أو المعادلة في ضمن الإطار العام والصورة الأكبر.

القسم الثاني: التفكير التجزيئي، وهو التفكير الذي يقوم بعزل القضايا المفردة عن جوِّها العام وسياقها الطبيعي ويركز العدسات على المفردة بذاتها وبما لها من الخصوصيات.

ومن الواضح أن السياق العام والإطار الكلي (قد) يغير من دلالات القضية والحادثة أو المفردة والنص، والتعبير ب-(قد) دقيق لأنه لا إطلاق لذلك، بل قد تعصى بعض النصوص أو الحوادث عن أن يؤثر فيها السياق أو الإطار العام، كما فصلناه في كتاب (نقد الهرمينوطيقا ونسبية اللغة والحقيقة والمعرفة) وكتاب (نسبية النصوص والمعرفة: الممكن والممتنع).

وقد أجرى علماء النفس تجارب كثيرة في هذا المضمار، نشير ههنا إلى تجربتين منها:

ص: 142

مراقبة حركة الأعين تكشف نوعية المفكر

الأولى: أعطى الباحثون صوراً عديدة تتضمن مشاهد معينة لأشخاص مختلفين من بلاد الشرق والغرب، ثم ركزوا على تتبع حركة أعين الأفراد ونقطة تركيزهم وههنا اكتشفوا أن الأشخاص ذوي التفكير الشمولي يركزون على خلفية الصورة والمشاهد الخلفية التي احتضنتها بدل التركيز - أو بنفس درجة التركيز - على محور الصورة الذي التقطت الصورة لأجله.

أما الأفراد ذوي التفكير التجزيئي فإنهم يركزون على المحور الذي التقطت الصورة لأجله، بالأساس.

ولنتصور أن المصور التقط صورة لصائد يصيد سمكة، فالمفكر التجزيئي تكون محطة تركيزه الصائد والسمكة والصنارة، أما الشمولي فإنه يركز أكثر - أو بدرجة مساوية - على الخلفية العامة للمشهد كالبحر الهادئ أو الهائج وأمواجه المتكسرة والغيوم المتجمعة في كبد السماء في الأفق البعيد وشبه ذلك.

ومن الواضح أن هذه كلها مؤشرات على نمط وشاكلة تفكيرالإنسان، وهي - كما نؤكد دائماً - بنحو المقتضي وليست بنحو العلة التامة.

انتخاب المفردات مرآة لنوع التفكير

الثانية: أعطى الباحثون قصاصات تحتوي على ثلاث كلمات مثل (قطار، سيارة، مسار) وطلبوا من أشخاص مختلفين انتخاب كلمتين فقط، وكانت النتيجة أن ذوي التفكير التجزيئي اختاروا كلمة قطار وسيارة، لأنهما كمفردتين تشكلان قيمة كبيرة لهم، أما ذووا التفكير الشمولي فاختاروا (قطار - مسار) أو (سيارة - مسار) إذ كان وعيهم الباطن يدفعهم لتكوين صورة أوسع وهي (قطار

ص: 143

في مسار مثلاً).

ويمكنكم أيضاً تجربة كلمات ثلاث أخرى مثل (علم، عمل، هدف) فالتجزيئي يختار مفردتي (علم - عمل) لما لهما من الأهمية، أما الشمولي فيختار (علم - هدف) أو (عمل - هدف) إذ إنه يرى العلم بلا هدف بلا معنى فإن العلم الهادف هو النافع والمطلوب لا غير فيكون قد وضع الكلمتين في سياق عام مفهوم.

التفكير الشمولي ومقاصد الشريعة في عملية الاستنباط الفقهي

وأما على المستوى الفقهي، فلنضرب لذلك مثلاً هاماً من كتاب الحج في إحدى أهم مسأئله التي يبتلى بها الناس عادة، وإن كان هذا المثال سيعود بنا في جوهره إلى مرجحية مقاصد الشريعة لبعض الروايات في باب التعارض:

تقديم الطوافين على الوقوفين في الحج، اختياراً

والمسألة هي: إن أعمال الحج متسلسلة متعاقبة حسب جدول زمني وترتيب خاص بينها(1): فيجب مثلاً الوقوف بعرفات، ثمبالمشعر، ثم أداء مناسك منى الثلاث ثم طواف الزيارة وركعتاه والسعي وطواف النساء وركعتاه،

ص: 144


1- وقد جمعها الشيخ البهائي رحمة الله الفقيه المعروف في الأبيات التالية معتمداً على أول حرف من كل عمل: (أطرست) للعمرة اجعل نَهَج أو و ارنحط رسطرم رِلجح ف-: أ = إحرام، ط = طواف، ر = ركعتاه، س = سعي، ت = تقصير. أما الحج: أ = إحرام، و = الوقوف بعرفات. و = الوقوف بالمشعر، إ = الافاضة إلى منى. ر = رمي، ن = نحر، ح = حلق، ط = طواف الزيارة، ر = كعتاه، س = السعي، ط = طواف النساء، ر = ركعتاه، م = مبيت بمنى، ر = الرمي فهذه كلها للحج.

ولا يجوز ولا يصح تقديم الطوافين والسعي على الوقوفين من غير عذر حسب المشهور الذي كاد أن يكون إجماعياً.

ولكن ذهب إلى خلاف ذلك جمع قليل جداً فقالوا: بأنه يجوز حتى اختياراً ومن غير عذر تقديم الطوافين على الوقوفين وأعمال منى.

والسبب في الاختلاف وجود طائفتين من الروايات تبدوان متعارضتين.

وننقل هنا كلام السيد الوالد (رحمة الله)في الفقه أولاً ثم نتوقف لاستكشاف كيفية مدخلية فقه المقاصد في ترجيح هذه الطائفة على تلك أو العكس.

قال السيد الوالد (رحمة الله) في الفقه (الحج): ((مسألة 33): المشهور أنه يجب على المتمتع تأخير الطواف والسعي للحج حتى يقف بالموقفين ويأتي بمناسك منى.

قال في الجواهر: بلا خلاف محقق معتد به أجده، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكي منها مستفيض أو متواتر، بل في محكي المعتبر والمنتهى والتذكرة نسبته إلى إجماع العلماء كافة(1).

خلافاً للمحكي عن ظاهر الخلاف والتذكرة ومحتمل التحرير وجماعة من متأخري المتأخرين فقالوا بجواز التقديم اختياراً.

وإنما وقع الاختلاف لوجود طائفتين من الأخبار تدل على كلا القولين.

أما القول الأول: فقد استدل عليه بخبر أبي بصير، قلت: رجلكان متمتعاً فأهلّ بالحج، قال (عليه السلام): «لا يطوف بالبيت حتى يأتي عرفات، فإن هو طاف قبل أن يأتي منى من غير علة فلا يعتد بذلك الطواف»(2)... )(3).

و(أما القول الثاني: فقد استدل بجملة أخرى من الروايات، مما توجب

ص: 145


1- الجواهر: ج19 ص391 في وجوب تأخير الطواف السطر 18.
2- الوسائل: ج8 ص203 الباب 13 من أبواب أقسام الحج ح5.
3- الفقه (الحج): ج45 ص259.

الجمع بين الطائفتين بحمل الأولى على خلاف الأفضل، كموثقة إسحاق، عن رجل يحرم بالحج من مكة ثم يرى البيت خالياً فيطوف قبل أن يخرج، عليه شيء، قال: «لا»(1).

وصحيحة علي بن يقطين، عن الرجل المتمتع يهلّ بالحج ثم يطوف ويسعى بين الصفا والمروة قبل خروجه إلى منى، قال: «لا بأس»(2)...)(3).

الجمع الدلالي بين الطائفتين من الروايات

ثم قال: (والجمع الدلالي بين الطائفتين بعد إسقاط ضعيف الدلالة منهما يقتضي جواز التقديم.

وهذا هو الذي يقتضيه الاعتبار، فإن كثرة الحجاج يقتضي أن يجوز ذلك لئلا يقعوا في العسر بلزوم طوافهم وسعيهم كلهم مرة واحدة بعد الحج، خصوصاً عند من يرى أن وقتهما إلى ثلاثة أيام بعد العيد)(4).

قاعدة اليسر من المرجِّحات غير المنصوصة لدى التعارض

وتوضيحه: إن قوله تعالى: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ» يكشف عن واحد من (أهم) مقاصد الشريعة، ولكن حيث إن من الواضح أنها(5) تشكل إحدى الملاكات ولذا لا يمكن استنباط الحكممنها مباشرة، إذ لا يعلم لعل هناك ملاكاً آخر أقوى مزاحِماً لملاك التيسير كما في الجهاد والخمس والزكاة

ص: 146


1- الوسائل: ج8 ص203 الباب 13 من أبواب أقسام الحج ح7.
2- الوسائل: ج8 ص203 الباب 13 من أبواب أقسام الحج ح3.
3- الفقه (الحج) ج45 ص261.
4- الفقه (الحج): ج45 ص261 - 262.
5- إرادة اليسر.

والحج وغيرها.

ولكن ومع ذلك، وفي الاتجاه المقابل، فإن مقاصد الشريعة، كدليل اليسر، يمكن أن تعتبر مرجحاً في باب تعارض الأخبار بناء على التعدي من العلل المنصوصة إلى غيرها حسب ما ذهب إليه الشيخ (رحمة الله) والعلل المنصوصة مثل ما ورد في مرفوعة العلامة عن زرارة: «خُذْ بِمَا اشْتَهَرَ بَيْنَ أَصْحَابِكَ وَ دَعِ الشَّاذَّ النَّادِرَ»، فقلت: يَا سَيِّدِي إِنَّهُمَا مَعاً مَشْهُورَانِ مَرْوِيَّانِ مَأْثُورَانِ عَنْكُمْ!

فَقَالَ (عليه السلام): «خُذْ بِقَوْلِ أَعْدَلِهِمَا عِنْدَكَ وَأَوْثَقِهِمَا فِي نَفْسِكَ»، فقلت: إنَّهُمَا مَعاً عَدْلَانِ مَرْضِيَّانِ مُوَثَّقَانِ! فَقَالَ (عليه السلام): «انْظُرْ مَا وَافَقَ مِنْهُمَا مَذْهَبَ الْعَامَّةِ فَاتْرُكْهُ وَخُذْ بِمَا خَالَفَهُمْ». قلت: رُبَّمَا كَانَا مَعاً مُوَافِقَيْنِ لَهُمْ أَوِ مُخَالِفَيْنِ فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟! فَقَالَ (عليه السلام): «إِذَنْ فَخُذْ بِمَا فِيهِ الْحَائِطَةُ لِدِينِكَ وَاتْرُكْ مَا خَالَفَ الِاحْتِيَاطَ»، فقلت: إِنَّهُمَا مَعاً مُوَافِقَانِ لِلِاحْتِيَاطِ أَوْ مُخَالِفَانِ لَهُ فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟! فَقَالَ (عليه السلام): «إِذَنْ فَتَخَيَّرْ أَحَدَهُمَا فَتَأْخُذَ بِهِ وَتَدَعَ الْأَخِيرَ»(1).

ومثل ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة: «الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَأَفْقَهُهُمَا وَأَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَأَوْرَعُهُمَا وَلَا يَلْتَفِتْ إِلَى مَا يَحْكُمُ بِهِ الْآخَر»(2) بناء على شمول ذلك للأخبار وعدم اختصاصه بباب القضاء.

وأما دليل «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ» فإنه ليس من المرجحات المنصوصة في باب تعارض الأخبار، ولكنّ من يرى التعدي عن المنصوصة إلى غيرها لقرائن ذكرها الشيخ (رحمة الله) وغيره (وقد فصلناها في بعض الكتب(3) فإن له أن يرجح روايات صحة تقديم الطوافين على الوقوفين، استناداً إلى قاعدة التيسير، وذلك

ص: 147


1- عوالي اللئالي: ج4 ص133.
2- الكافي: ج1 ص67.
3- يراجع كتاب (تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول) وغيره.

كان توضيحاً للمبنى الذي رجّح به السيد الوالد (رحمة الله) طائفة أخبار جواز التقديم، مما يكشف عن أهمية مقاصد الشريعة في معادلةالاستنباط لو كان نظر الفقيه إيجابياً تجاهها ولكن - وبلا شك - في ضمن ضوابط الاستنباط.

نعم قال بعد ذلك: (كما أن فعل النبي (صلي الله عليه وآله) لهما بعد منى يؤيد قول المشهور، لكن موافقة الأخبار الأولة للمشهور وموافقة الأخبار الثانية للعامة كما قيل، يوجب عدم إمكان الفتوى بجواز التقديم، فالاحتياط بالتأخير لغير المضطر لا بد من رعايته، وإن كان قُربُ اتحاد حكمي التمتع والمفرد(1)

مع جواز التقديم في المفرد يقوي جواز التقديم في التمتع أيضاً)(2).

لكنه - حسبما نُقل عنه مكرراً - فإنه في أواخر عمره المبارك يبدو أن مقصد التيسير تقوّى في نظره أكثر، فرفع يده عن الاحتياط الوجوبي أيضاً وأجاز- حسب المنقول - تقديم الطوافين على الوقوفين للمختار من غير عذر.

وأخيراً: يمكن إلقاء الضوء على مدى أهمية الإطار العام ومدخلية السياق في التغيير الشامل أو النسبي(3)

لاتجاه دلالة المفردة أو النص أو في كيفية التأثير في عملية الاستنباط، بالشجرة في الغابة فإن الغابة لها هيئة اجتماعية خاصة وقد يعبر عنها بالعلة الصورية، ولهذه الهيئة آثار على البيئة وغيرها ولكن الأشجار لو انفصلت عن بعضها البعض فكان الفاصل بين كل شجرة وأخرى كيلو متراً مثلاً فإن هذه الأشجار لا تمتلك حينئذٍ التأثير على البيئة ولا تكون حينئذٍ مأوى للحيوانات ولا تصلح محلاً للارتياد والنزهة أو شبه ذلك(4).

ص: 148


1- في الحج الافرادي.
2- الفقه (الحج): ج45 ص262.
3- وأحياناً لا هذا ولا ذاك.
4- فصلنا الكلام عن ذلك في بعض بحوث العام الماضي.
5. مقاصد الشريعة: في الدوران بين التعيين والتخيير
اشارة

إن من ثمرات مباحث مقاصد الشريعة وتجلياتها: ما يظهر في تحديد مصداق (التعيين) في قاعدة (الدوران بين التعيين والتخيير)على خلاف ما هو المعهود في بعض تطبيقات القاعدة فقهياً وأصولياً؛ إذ تفيدنا المقاصد وجهاً آخر مزاحِماً للوجه الذي يذكر عادة لترجيح هذا الطرف باعتباره ذا مزية محتملة على الطرف الآخر المساوي للطرف الأول في أحسن الفروض، ولا بد لتوضيح ذلك من التمهيد ببيان القاعدة فنقول:

إذا دار الأمر من جهة عجز المكلف في مرحلة الامتثال عن الجمع بين الأمرين أو لعدم إمكان الجمع بينهما ذاتاً، بين امتثال هذا الفرد من الواجب أو ذاك الفرد وكان أحدهما يتمتع بمزية محتملة على الآخر وجب حسب هذه القاعدة العمل به خاصة؛ لأنه واجب على كل تقدير وبه يتحقق الامتثال على مختلف الفروض عكس الآخر.

فلو وجد غريقان أحدهما جندي عادي، والآخر من المحتمل أن يكون قائد الجيش (الذي لو غرق لانهار الجيش كله)، فإنه لو عْلِم أنه قائد الجيش وجب إنقاذه خاصة - مادام الشخص لا يمكنه إنقاذهما معاً - ولم يكن مجال للقاعدة(1)

إنما الكلام في صورة الاحتمال، إذ هنا يحدث الدوران بين تعيين إنقاذ هذا إن كان قائد الجيش أو التخيير بينه وبين إنقاذ الآخر إن كان جندياً عادياً مثله، فهنا يحكم العقل - كما ذكروا - بلزوم إنقاذ المحتمل كونه قائداً للجيش.

إذا عرفت ذلك فلنستعرض عيِّنات معبّرة عن الموازن لمرجحية (الأعلمية)

ص: 149


1- إلا لو شك في أصل مرجحية كونه قائداً واحتملت المدخلية فقط، فإن هذا مصداق أخر من مصاديق دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

- في المثال المشهور - في معادلة الدوران بين التعيين والتخيير:

تقليد الأعلم أو الأورع

أ - إذا دار الأمر بين (تقليد الأعلم) و(تقليد الأورع)، فإن المرجّح لتقليد الأعلم هو أقربية نظره للإصابة والمطابقة للواقع(1)؛لذا استند البعض في تَعيُّن تقليده إلى ذلك ولو لاحتمال مدخلية الأقربية للإصابة في تعين تقليده.

ولكننا إذا استضأنا بفقه مقاصد الشريعة فإننا سنجد جهة أخرى واقعية تساوي جهة الأقربية - إن لم ترجح عليها - وهي: جهة (أشدية تثبُّت الأورع) المقتضي للتحرز عن الخطأ بالتحقيق والتدقيق الأكثر والمانع عن كونه جربزياً يقتحم في مخالفة المشهور أو في الفتوى بقول مطلق بجسارة وجرأة توقع صاحبه - في الكثير من الأحيان - في المخالفة.

ولئن كان مرجع ذلك إلى مقابلة جهة الأقربية في الأعلم بجهة أقربية من نوع آخر في الأورع، فإن الجهة الأخرى المزاحِمة في العيّنات الآتية هي من سنخ آخر فلاحظ:

ب - إذا دار الأمر بين تعين تقليد الأعلم والتخيير بينه وبين تقليد العالم، فأن جهة الأقربية تزاحم بجهة التيسير في التخيير بينهما وهي جهة يريدها الله تعالى بصريح الآية الشريفة: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ»(2)

عكس ملاك الأقربية للواقع الذي لم يذكر المشهور له دليلاً صحيحاً سنداً صريحاً دلالة!

ص: 150


1- مع قطع النظر عن المناقشة في ذلك صغرىً: بأنه لا إطلاق لذلك إذ كثيراً ما يكون رأي المفضول موافقاً للأعلم من الأموات أو للمشهور أو للاحتياط أو لغير ذلك، وكبرىً: بأنه لا يدل على أكثر من الرجحان دون الوجوب مع قطع النظر عن الإشكال أعلاه - راجع للتفصيل (تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول).
2- سورة البقرة: آية 185.

وعلى أي فإن من البديهي أن الضغط على الناس لتقليد الأعلم في الفقه أو للرجوع إلى الأعلم من الأطباء أو سائر الخبراء، تضييق عليهم وتشديد إذ الناس يراجعون الفقيه أو الطبيب وسائر الخبراء (والجامع هو كونه أهل الخبرة كما أن الدليل مشترك وهو رجوع الجاهل للعالم)، لجهات أخرى منضمّة لا لمجرد أعلميته، فيراجعونه مثلاً لعلميته زائداً قُرب عيادته مثلاً أو أرفقيته بالمريض أو لصداقته معه أو قرابته أو غير ذلك، وكذلك الرجوع للفقيه فان من (التيسير على الناس) السماح لهم بتقليد غير الأعلم (الجامع للشرائط طبعاً) لجهات أخرى يرونها دخيلة في وجه انتخابهم له ككونه أورع أو كونه شديد الاهتمام بتربية الناس أو بالخدمات والنشاطات والمؤسسات أو شبه ذلك.

الدراسة عند الأعلم أو الأفضل الأكمل

ج - إذا دار الأمر بين (الدراسة عند الأعلم) أو (الدراسة عند الأفضل تربيةً للطلاب والأكثر تواضعاً والأحسن أخلاقاً) فإن جهة الأقربية في الأعلم الموجبة لاقوائية (التعليم وأفضليته) تزاحم بجهة التميّز الأخلاقي الموجبة لاقوائية (التزكية والتربية) قال تعالى: «وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»(1) «وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»(2).

الطبيب الأعلم أو الطبيب الأرفق

د - إذا دار الأمر بين الطبيب الأعلم وبين الطبيب الأرفق بالمريض، كانت الأرفقية جهة منافسة لجهة الأقربية، وذلك أن بعض الأطباء عنيف مع المريض إذ إنه يختار الأدوية العنيفة الصعبة أو يختار أصعب الحلول على أسهلها - فيرجح

ص: 151


1- سورة البقرة: 129.
2- سورة آل عمران: 164.

العملية الجراحية على غيرها مثلاً - عكس الآخر فإنه وإن كان غير أعلم فرضاً لكنه أرفق بالمرضى لذا نجدهم قد يرجحونه.

انتخاب الرئيس الأعلم أو الأكثر استشارة

ه- - إذا دار الأمر بين انتخاب الرئيس - رئيس الجمهورية، أو الحزب أو العشيرة أو النقابة والاتحادية أو الشركة أو أية مؤسسة أخرى - الأعلم وبين انتخاب الرئيس الأكثر استشارة من الأعوان والمستشارين والناس، فإنه لا شك في أن (أكثرية المشورة) تعد جهة مزاحمة لجهة (الأقربية الناشئة من الأعلمية)، إذ إنها تورث جهة أقربية أخرى ناشئة من تلاقح العقول.

القائد الأعلم أو الأكثر اهتماماً بالناس

و - إذا دار الأمر بين انتخاب القائد الأعلم وبين انتخاب القائد الأكثر اهتماماً بالناس وطبقاتهم واحتياجاتهم - من طرق ومواصلاتوكهرباء وماء وغيرها، و من فقراء وأرامل وأيتام وغيرهم -، فلا شك أنه لا يصح حينئذٍ القول ب-: أن قاعدة الدوران تقتضي تعيين اختيار الأعلم بل على العكس تقتضي تعيين اختيار الأكثر اهتماما بالناس.

التحالف مع الأعلم أو مع الأقوى

ز - إذا دار الأمر بين التحالف مع الأعلم أو التحالف مع الأقوى - كدولة أو عشيرة أقوى وأخرى أعلم - فالأمر كذلك.

ولا يخفى: أن درجات الأعلمية ودرجات الجهة الأخرى المزاحِمة، هي ذات مدخلية أيضاً في تعيين هذا الطرف أو ذاك، رجحاناً أو وجوباً مما يحتاج كل ذلك وما سبقه إلى عقد دراسة خاصة فقهية - أصولية على ضوء معطيات باب

ص: 152

التزاحم، حول ذلك وذلك ما لعلنا نوفق له في مباحث الأصول: كتاب التزاحم.

ولنذكر مثالاً من نوع آخر:

تعيين المسؤول المتشدد أو الطيب المتسامح

ح - إذا دار الأمر بين تعيين جهاز ضريبي في الوزارة خبير جداً بطرق استخراج الضرائب من الناس بشتى الطرق كما هو خبير أيضاً بكافة سبل التحايل للفرار من الضريبة (بدءاً من ميزانية الكهرباء في منزل الفقراء ووصولاً إلى المحلات والشركات التي قد تتلاعب بالأوراق لتظهر الأرباح أقل فتكون الضرائب أقل بالتبع) وبين خبير آخر متسامح متساهل لا يعصر الناس عصراً بل يمشي على الطرق المعهودة (وهذا كله على فرض صحة الضريبة وقد سبق مراراً أنها بدعة وحرام شرعاً، وقد ورد عن نوف البكالي في حديث: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال له: «يَا نَوْفُ، إِنَّ دَاوُدَ (عليه السلام) قَامَ فِي مِثْلِ هَذِهِ السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: إِنَّهَا لَسَاعَةٌ لَا يَدْعُو فِيهَا عَبْدٌ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَشَّاراً، أَوْ عَرِيفاً...»(1)،لكن الكلام فيمن يذعنون بضرورة الضريبة، بل يمكن فرض الكلام فيما لو أمكن كلا الأمرين في الضرائب الشرعية الأربع: الخمس والزكاة على المسلمين والجزية والخراج على الكفار) فأيهما الأرجح: المتشدد في استخراج الضريبة أو الأرفق بالناس؟ لا شك أن الدول ترجح المتشدد إذ الدول هي المصداق الأبرز للجهات الجشعة إلى الأموال والتي لا تتوانى عن عصر الناس عصراً كي تحصل على المزيد ثم المزيد من الأموال.

لكن الشرع يرجِّح الثاني - المتسامح الميسِّر - كما سيأتي، بل والعقل أيضاً؛ إذ المعادلة عقلاً هي (الإنسان أولاً)، وأما معادلة (المال أولاً) فهي معادلة مادية

ص: 153


1- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الحكمة: 104.

بحتة صرفة وقد جاء في الإنجيل: «السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ، لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ»(1) والمعنى دقيق وعميق ولطيف، ويؤيده الاعتبار فليس من الإنجيل المحرّف - قاعدةً والله أعلم، فتدبر.

قواعد علوية (عليه السلام) ذهبية في جباية الصدقات والضرائب

والرواية الآتية تعد من أروع الروايات في هذا الحقل:

قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): Sبَعَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مُصَدِّقاً مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى بَادِيَتِهَا فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ انْطَلِقْ وَعَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا تُؤْثِرَنَّ دُنْيَاكَ عَلَى آخِرَتِكَ، وَكُنْ حَافِظاً لِمَا ائْتَمَنْتُكَ عَلَيْهِ، رَاعِياً لِحَقِّ اللَّهِ فِيهِ، حَتَّى تَأْتِيَ نَادِيَ بَنِي فُلَانٍ، فَإِذَا قَدِمْتَ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ، ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ حَتَّى تَقُومَ بَيْنَهُمْ وَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قُلْ لَهُمْ: يَا عِبَادَ اللَّهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللَّهِ لآِخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ، فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّونَ إِلَى وَلِيِّهِ؟ فَإِنْ قَالَ لَكَ قَائِلٌ: لَا، فَلَا تُرَاجِعْهُ، وَإِنْ أَنْعَمَ لَكَ مِنْهُمْ مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تَعِدَهُ إِلَّا خَيْراً.

فَإِذَا أَتَيْتَ مَالَهُ فَلَا تَدْخُلْهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّ أَكْثَرَهُ لَهُ، فَقُلْ: يَا عَبْدَ اللَّهِأَتَأْذَنُ لِي فِي دُخُولِ مَالِكَ، فَإِنْ أَذِنَ لَكَ فَلَا تَدْخُلْهُ دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ فِيهِ وَلَا عَنِفٍ بِهِ، فَاصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ أَيَّ الصَّدْعَيْنِ شَاءَ، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضْ لَهُ، ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقِيَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَأَيَّهُمَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضْ لَهُ، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ مَالِهِ، فَإِذَا بَقِيَ ذَلِكَ فَاقْبِضْ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ وَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ، ثُمَّ اخْلِطْهَا وَاصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلًا حَتَّى تَأْخُذَ حَقَّ اللَّهِ فِي مَالِهِR(2)

ص: 154


1- إنجيل مرقس: 2، 27.
2- الكافي: ج3 ص536.

وفي هذه الرواية إضاءات وإرشادات وقواعد هامة:

أ - «فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُم» عكس ما نرى من جُباة الضرائب في الكثير من الدول إذ يقتحمون البيوت أو الشركات أو غيرها دون استئذان أو إذا كان مع إذن فبطريقة مفاجئة مربكة لأصحاب البيوت أو المحلات والشركات، والمطلوب هو الابتعاد عن هتك حمى الناس وحريمهم بالنزول خارج منازلهم (أو محلاتهم) بل خارج أحيائهم عند مجرى النهر فقط.

ب - «بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ» غير متكبر عليهم ولا متجبر، بل كن وقوراً كوقار العلماء، ذا سكينة كسكينة الأولياء.

ج - «ثُمَّ قُلْ لَهُمْ: يَا عِبَادَ اللَّهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللَّهِ لآِخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ، فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّونَ إِلَى وَلِيِّهِ؟»، وهذا السؤال وبهذه الطريقة الطيبة البسيطة يكشف عن أصل أصيل أصّله الدين الإسلامي في شتى مناحي الحياة، ومنها الحياة الاقتصادية التي تعد من أخطر المناحي والتي يكثر فيها الكذب والغش عادة، وهو أصالة الصحة في عمل المسلم بل وفي قوله أيضاً، وهذا الأصل يؤكد الاعتماد على جواب الناس - من مزارعين ورعاة ومُلّاك للزكاة وغيرها، كقاعدة عامة.

د -«فَإِنْ قَالَ لَكَ قَائِلٌ لَا فَلَا تُرَاجِعْه» وهذا نظير قاعدة (هن مصدّقات) وهي (هم مصدّقون) وإن كان الأمر مما يمكن استجلاء حقيقة حاله بالتحقيق وليس مما لا يُعلم إلا من قبله أو قبلها، وذلك كله من أبرز مظاهر (اللين) في الإسلام في تجلياته القانونية والحقوقية.ه- - «فَإِذَا أَتَيْتَ مَالَهُ فَلَا تَدْخُلْهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّ أَكْثَرَهُ لَهُ» وفي هذا درس كبير للحكومات والسلطات والأقوياء بأن يراعوا حق الضعفاء إلى أبعد حد، حتى لو

ص: 155

كانوا شركاء في الحق، لكن مادام أكثر الحق للغير فلا يجوز للحاكم وعماله حتى أن يدخل إلى ساحة المال المشترك!

و - «فَاصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ أَيَّ الصَّدْعَيْنِ شَاءَ، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضْ لَهُ، ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقِيَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَأَيَّهُمَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضْ لَهُ، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ مَالِهِ» وتخيير المالك في الاختيار وبتلك الطريقة المتدرجة المتصاعدة دليل آخر على منتهى الرحمة واللين واللطف في التشريعات الإسلامية.

ز - «وَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ» وذلك منتهى اللطف والرفق، فإن الإقالة لدى الاستقالة من مكارم الأخلاق وفضائل السلوك والسِّيَر، وقد صاغها الإمام (عليه السلام) ههنا صياغة قانونية حقوقية، وظاهر النهي أنه بنحو القضية الحقيقية وإلا فبجهةٍ مولويةٍ.

ولنختم الكلام بالإشارة إلى حادثة ذات دلالة بليغة على مدى التأثير الكبير الذي تتركه الرحمة والإحسان على الإنسان مما قد يكون السبب الأساس في تغيير مستقبل إنسان تماماً، وإنقاذه من الضلال إلى الهدى، ومن الخلود في جهنم إلى الحبور في جنات الله الواسعة:

يهودي يسرق يومياً ثم يُسلِم بمفاجأة

فقد نقل: أن يهودياً من عائلة يهودية معروفة أسلم، وكان ذلك مثار استغراب لأن اليهود قلّما يسلمون عكس النصارى وغيرهم إذ ما أكثر من أسلم منهم، وكان اليهود - إلا من خرج بالدليل - على مر التاريخ العدّو الأول للإسلام والمسلمين قال تعالى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ

ص: 156

قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لايَسْتَكْبِرُونَ»(1).

نعم يستثنى من ذلك كله فترة من زمن الرسول (صلي الله عليه وآله) حيث إنه (صلي الله عليه وآله) بسلسلة من مواقفه وأخلاقه الربانية المذهلة أحدث تموجاً هائلاً في اليهود حتى ورد عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) في الرواية أن النبي (صلي الله عليه وآله) قال: «أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ وَعَلِيٌّ (عليه السلام) أَوْلَى بِهِ مِنْ بَعْدِي»، فقيل له: ما معنى ذلك؟ فقال (عليه السلام): «قَوْلُ النَّبِيِّ (صلي الله عليه وآله) مَنْ تَرَكَ دَيْناً أَوْ ضَيَاعاً فَعَلَيَّ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ فَالرَّجُلُ لَيْسَتْ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وِلَايَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلَيْسَ لَهُ عَلَى عِيَالِهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ إِذَا لَمْ يُجْرِ عَلَيْهِمُ النَّفَقَةَ، وَالنَّبِيُّ (صلي الله عليه وآله) وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وَمَنْ بَعْدَهُمَا أَلْزَمَهُمْ هَذَا، فَمِنْ هُنَاكَ صَارُوا أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَمَا كَانَ سَبَبُ إِسْلَامِ عَامَّةِ الْيَهُودِ إِلَّا مِنْ بَعْدِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلي الله عليه وآله) وَإِنَّهُمْ آمَنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى عِيَالَاتِهِمْ»(2).

وعلي أي: عندما أسلم ذلك اليهودي المعروف، سأله البعض عن السبب فأجاب: كنت طفلاً صغيراً وكانت أمي ترسلني إلى المحل القريب لشراء الحاجيات المنزلية يومياً، وكان في ركن من المحل حلويات معروضة للبيع (شوكولاته) فكنت أنتهز فرصة غفلة صاحب المحل بينما هو يعد الحاجيات وأسرق قطعة حلوى أو شكولاته يومياً، واستمررت على تلك الحال شهراً أو أكثر وأنا معجب بشطارتي ومنذهل لغباء صاحب المحل!!

ثم في يوم من الأيام غفلت عن سرقة القطعة من الحلوى فأخذت الحاجيات وخرجت وإذا بي أجد صاحب المحل يناديني وبيده قطعة حلوياتي المفضلة: تعال يا بُني وخذ قطعة الحلوى هذه، فقد نسيت أن تأخذها اليوم!

ص: 157


1- سورة المائدة: 82.
2- الكافي: ج1 ص416.

يقول اليهودي: أذهلني تصرفه وأندهشت لسماحته وأخلاقه وطيبته وإحسانه، وأنا الذي أسمع عن المسلمين كل سوء!ويستمر اليهودي قائلاً: غرقت في بحر من الخجل وأخذت الحلوى على استحياء وعجل! وأنا معجب لغفلتي أنا وذكائه هو! ثم إن ذلك أحدث في كياني هزة عنيفة وجعلتني أشكك في كل ما كان يقوله أبي وأمي وقومي عن الإسلام وقررت أن أحقق عن الإسلام أكثر عندما أكبر، وهكذا كان فقد أسلمت بعد تحقيق مضني ولكن الزناد القادح كان هو موقف إنساني تجلت فيه الرحمة واللين والإحسان في سلوك رجل مسلم واحد!

لو كان المسلمون جميعاً كذلك

أقول: تصوروا لو كان المسلمون جميعاً كذلك، بل لو كان أكثرهم كذلك، بل لو كان عشرون بالمائة منهم كذلك؛ الطبيب والمحامي والمهندس، والفلاح والبقال والعطار، والجامعي والحوزوي، والوزير والسفير والأمير والرئيس والقائد والمقود، ألم يكن يتحول وجه الأرض؟! وألم نكن نشهد من جديد تجلياً آخر لقوله تعالى: «إِذَا جَاءَ نَصْ-رُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً»(1)؟!!

والمفتاح لذلك كله هو أن نذعن بأن (الرحمة) بفروعها ومنها (الإحسان) هي من أهم مقاصد الشريعة، وأن نعمل على طبق ذلك أيضاً .. أليس كذلك؟!

6. مقاصد الشريعة: في حجية الطرق والأمارات والتقليد والظنون المطلقة
اشارة

سبق أن (الرحمة الإلهية) هي من مقاصد الشريعة بل إنها من أهمها على

ص: 158


1- سورة النصر: آية 1 - 3.

الإطلاق بل إنها مع (الحكمة) هما اللذان عليها مدار عالم التشريع والتكوين، ولولا حكمته جل اسمه لأعطى بمقتضى رحمته العطايا والمِنَح بلا حساب لكل أحد وفي كل الحقول ولكن (قيّدت حكمته رحمته).

ولنتوقف الآن عند بعض أجلى مظاهر الرحمة الإلهية وهما:

من مجالي الرحمة: إمضاء حجية الطرق والامارات

الأول: إمضاء أو جعل - على المسلكين - حجية الأمارات والطرق العقلائية؛ كخبر الثقة وقول أهل الخبرة والظواهر وغيرها (كالشهرة والإجماع المنقول وقول اللغوي على القول بحجيتها كما هو المختار)، فإن ذلك من رحمة الله تعالى أنه اكتفى في امتثال أوامره ونواهيه بالوصول إليها وإلى كيفياتها بالظنون وإن سميت بالمعتبرة؛ إذ كان يمكن له جل اسمه أن يوجب تحصيل العلم كالخبر المتواتر والمحفوف بالقرينة القطعية وما أشبه، فإن عجز عنه أوجب عليه الاحتياط وإن أوقعه في العسر والحرج؛ إذ حق الله على العبد أعظم من ذلك بما لا يبلغ مداه عقل بشر فليقع في بعض العسر تحصيلاً لرضا الرب وامتثالاً لأوامره ونواهيه، لكنه من عظيم رحمته وفضله اكتفى عن العلم وعن الاحتياط بالظنون الخاصة(1).

وتجويز التقليد

الثاني: وكذلك الحال في التخيير بين الاجتهاد والتقليد والاحتياط، فإنه لولا رحمته ولطفه وفضله على العباد لكان مقتضى القاعدة أن يوجب عليهم الاجتهاد أو الاحتياط دون التقليد، وذلك كما أوجب عليهم الاجتهاد في أصول

ص: 159


1- فصلنا في مباحث (الحقوق: حق الخلو والسرقفلية) الكلام عن عدم حاجة الطرق العقلائية التي اعتمد عليها العقلاء بما هم عقلاء، إلى الإمضاء ولو بعدم الردع، واستظهرنا هنالك أن حجيتها ذاتية تنجيزية باعتبارها مستندة إلى العقل أو الفطرة فراجع.

الدين والذي أدعي عليه الإجماع مكرراً وإن نقل الشيخ (رحمة الله) فيه احتمالات وأقوال، وذهب السيد الوالد (رحمة الله) - فيما اتذكره عنه - إلى صحة التقليد فيها، وعليه: فإن تجويزه تعالى التقليد في الأحكام الفرعية لهو من رحمته جل وعلا.

ثم إن إيجاب الاجتهاد في الأحكام الشرعية الفرعية على قسمين؛ فتارة يوجب ذلك للمكلف العسر والحرج كما في الكثير من الناس وأخرى لا يوجب كما في الكثيرين أيضاً، ولولا لطفه ورحمته لأوجبه، أو الاحتياط حتى فيمن يوقعه ذلك في أشد العسر والحرجوذلك لضرورة أن أحكام الله أهم وأسمى وأجل شأناً من أن نرفع اليد عنها لمجرد وقوعنا في عسر وحرج لولا أنه سبحانه هو الذي منّ علينا بذلك.

سلمنا، لكن كان مقتضى القاعدة إيجاب الاجتهاد أو الاحتياط على من لا يوقعه تكليفه بأحدهما في العسر والحرج ككثير من التجار والشباب وغيرهم ممن له متسع من الوقت فيصرفه في زيادة ثروته أو في لهوه ولعبه، فليصرفه بدل ذلك في الاجتهاد والتفقه في دين الله! إذ أليس ذلك أسمى وأعلى وأجل بل وأوجب؟!

فذلك كله هو المجلى الأولى للرحمة وهو إمضاء حجية الطرق والامارات على تقدير القول بالانفتاح.

ومن مجالها: حجية الظنون المطلقة على الانسداد

الثالث: الحجية - أو إمضائها - للظنون المطلقة على فرض القول بالانسداد.

وتوضيح ذلك في ضمن الأمور التالية:

أ - إن مقدمات الانسداد هي:

إن هنالك أحكاماً كثيرة فعلية يُقطَع بعدم الرفع الشارع يده عنها.

وإن باب العلم قد أنسد فيها.

ص: 160

وإن العمل بالاحتياط موجب للعسر والحرج.

وإن البراءة مستلزمة للخروج من الدين، وكذا الرجوع إلى الأصول الأربعة كل في مورده.

وإن القرعة كذلك مستلزمة للخروج من الدين، إضافة إلى قصور أدلتها عن العموم إلا لما قام عليه العمل.

فبقي العمل بالظن المطلق لأنه الراجح وفي عدم جعل الحجية له ترجيح المرجوح.

ب - إن نتيجة مقدمات الانسداد هذه هي: إما مطلقة وإما مهملة، والبحث فيها يقع تارة على الكشف وأخرى على الحكومة وذلك في ثلاث مناحي:1 - إنها مطلقة من حيث المنشأ.

2 - إنها مطلقة من حيث المتعلَّق.

3 - إنها مطلقة من حيث المراتب.

أو إن نتيجة تلك المقدمات مهملة من حيث تلك النواحي الثلاثة كلها أو بالتفصيل.

حجية كافة مناشئ الظن على الانسداد

ج - فقد يقال: بأن مقتضى الرحمة الإلهية - كمقتضٍ وكمؤيد لا كدليل إذ سبق أن مقاصد الشريعة ليست أدلة بل هي مجرد مقرِّبات ومؤيدات فلا بد من ملاحظة مقتضى الأدلة في كل مورد ومقام - أن تكون نتيجة مقدمات الانسداد مطلقة من حيث مناشئ الظن، ومناشئ الظن:

منها: الشهرة بأقسامها الثلاثة.

ومنها: الإجماع المنقول.

ومنها: قول المؤرخ.

ومنها: قول اللغوي.

ص: 161

ومنها: قاعدة التسامح.

وذلك لأن من التسهيل على العباد اعتبارها بأجمعها حجة بدل التشديد عليهم بلزوم التحقيق المستوعب في اللغة مثلاً بمراجعة أقوال العديد من اللغويين حتى يحصل الاطمئنان.. وهكذا الإجماع المنقول وغيره.

بل نقول: إن بناء العقلاء على ذلك أيضاً(1)

ولو في الجملة؛ ألا تراهم يراجعون في غير الشؤون الخطيرة العطار أو الصيدلاني أو أحد كبار السن في تطبيب المريض مرضاً غير خطير.

وألا تراهم يسألون عن الطريق ولو من الطفل الصغير؟ هذا كله إن لم نقل بحجية ما سبق وما سيأتي من باب الظن الخاص، كما فصلنا الكلام عن ذلك في الأصول.

حجية الظن المطلق في المواعظ والمصائب وغيرها

د - وقد يقال بأنها مطلقة من حيث المتعلق (فإذا كانت مهملةاقتصر فيها على القدر المتيقن وهو أيضاً - بقَدَرِه - رحمة في مقابل عسر إيجاب الاحتياط) والمتعلَّق يعني ما تعلق به الظن.

والمتعلق الذي يكون الظن فيه حجة على أقسام وأنواع: المواعظ، والسنن، والتاريخ، والمصائب والعلوم النظرية العادية:

حجية الظن العام في المواعظ

أولاً: المواعظ، فإنه ليس المطلوب في الموعظة، بذكر قصة فيها عبرة أو شبه ذلك، تنقيح سلسلة الإسناد والثبوت السندي حسب مقاييس علم الرجال أبداً،

ص: 162


1- وعليه: فقد رجعنا إلى باب الانفتاح.

ولذا جرت سيرة العقلاء بما هم عقلاء على عدم مطالبة الواعظ بما هو واعظ بسلسلة سنده إلى الموعظة الكذائية وتوثيق رجالها.

بل نقول: إن ذلك مدعاة لأغلاق باب المواعظ أو تحجيمها بقدر كبير، بل إن ما ذكرناه فطري وعقلائي، وهو مجلى من مجالي رحمة الله تعالى بخلقه أن فطرهم على قبول الموعظة بدون توقيفها على التحقيق السندي فيها؛ إذ لو كان كذلك لقصرت اليد عن أكثر المواعظ؛ إذ ان أكثرها لا سند تامّ لها حسب مقاييس علم الرجال، بل ولفقد الكثير من الباقي منها تأثيره إذ سوف ينصرف الذهن حينئذٍ إلى سند الموعظة بدل التفاعل معها والتأثر بها، وأيضاً سيجرى تخصيص قسم من الوقت المخصص للموعظة عادة للبحث السندي عنها فتتقلص مساحة الموعظة إلى حدّ ما مع أن مساحتها، عادة، بالأصل قليلة.

والحاصل: إنه كان من رحمة الله تعالى أن جعل المواعظ حجة على السامعين هادية لهم ومرشدة من غير توقيف لحجيتها على كون إسنادها تاماً في كافة حلقات السند بل تكفي النصيحة المرسلة أو المهملة سنداً، نعم لا شك في أنها -كالمسانيد التامة سنداً دون شك- لا بد أن لا تبتلى بالمعارض الأقوى أو مطلق ما يوجب طرحها.

حجية الظن العام في المصائب

ثانياً: المصائب، وأجلى مصاديقها المصائب الواردة على أهل بيت العصمة والطهارة صلوات الله عليهم أجمعين، فإن الظنون المطلقة فيها حجة ولا تتوقف حجيتها على توفر المقاييس الرجالية الحدّية فيها أبداً وإلا لكان نقضاً للغرض وإغلاقاً لحيِّز كبير من أبواب «أَحْيُوا أَمْرَنَا»(1) وSمَنْ بَكَى وَأَبْكَى فِينَا مِائَةً

ص: 163


1- الأمالي الطوسي: ص58.

فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ بَكَى وَأَبْكَى خَمْسِينَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ بَكَى وَأَبْكَى ثَلَاثِينَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ بَكَى وَأَبْكَى عِشْرِينَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ بَكَى وَأَبْكَى عَشَرَةً فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ بَكَى وَأَبْكَى وَاحِداً فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ تَبَاكَى فَلَهُ الْجَنَّةُR(1) ولعل السبب في اختلاف العدد هو مراتب الجنة أو مراتب الإبكاء أو الأصل والفضل مما فصلناه في بعض البحوث الأخرى، وأيضاً المئات من الروايات المحرضة على الحزن والبكاء والإبكاء والتفاعل العاطفي (إضافة لسائر أنواع التفاعل) مع قضية الإمام الحسين (عليه السلام).

حجية الظن العام في الآداب والسنن

ثالثاً: الآداب والسنن، ولذا ذهب المشهور إلى (التسامح في أدلة السنن) استناداً إلى قوله (صلي الله عليه وآله): «مَنْ بَلَغَهُ ثَوَابٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى عَمَلٍ فَعَمِلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْتِمَاسَ ذَلِكَ الثَّوَابِ أُوتِيَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَدِيثُ كَمَا بَلَغَهُ»(2) وعنه (عليه السلام): «مَنْ سَمِعَ شَيْئاً مِنَ الثَّوَابِ عَلَى شَيْ ءٍ فَصَنَعَهُ كَانَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا بَلَغَهُ»(3) و«أَنَّ مَنْ بَلَغَهُ شَيْ ءٌ مِنَ الْخَيْرِ فَعَمِلَ بِهِ كَانَ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ مَا بَلَغَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا نُقِلَ إِلَيْهِ»(4).

إضافة إلى ذلك فإن الفلسفة والحكمة في ذلك هو عقلائية ذلك فإن بعث الناس نحو مكارم الأخلاق مطلوب، والآداب والسنن هي من مكارم الأخلاق ولا حاجة في بناء العقلاء وسيرتهم إلى التثبتالسندي في أمثال ذلك.

هذا كله فيما إذا قلنا - كما قال المشهور - ب-: استفادة الاستحباب من

ص: 164


1- بحار الأنوار: ج44 ص288.
2- الكافي: ج2 ص87.
3- الكافي: ج2 ص87.
4- وسائل الشيعة: ج1 ص82.

روايات من بلغ، أما إذا قلنا: بأنها تفيد إعطاء الثواب لمن بلغه على العمل الثواب، فإنه تفضل من الله تعالى ومنّ وإن لم يثبت به الاستحباب، لكن المطلوب على أية حال هو الأثر، والثمرة بمجرد بلوغ الثواب على عمل بدون حاجة إلى تحقيق السند ثابتة حاصلة وإن لم يثبت خصوص الاستحباب كحكم من الأحكام الخمسة، أفليس ذلك من رحمة الله بعباده ولطفه؟

حجية الظن العام في التاريخ

رابعاً: التاريخ، فإن بناء العقلاء في القضايا التاريخية، في غير ما وقع الخلاف فيها أو قامت قرائن على الكذب فيها أو شبه ذلك، على الاتكال على نقل المؤرخ فيها وإن لم تكن متصلة الإسناد، وعلى ذلك الفطرة أيضاً؛ ولذا نجد كافة الأمم يعتمدون في تأريخهم على ما يذكره مؤرخوهم دون مطالبة بسند متصل أو قرائن قطعية، بل لولا ذلك لانقطعت صلة الأمم بتأريخها وانفرطت عرى تلاحم المجتمع بعضه ببعض.

وذلك من عظيم رحمة الله تعالى أن فتح باب التصديق والاعتقاد الساذج بالتأريخ دون توقيف ذلك على توّفر ضوابط علم الرجال الصعبة.

التفريق بين مقام الواعظ ومقام المحقق

نعم، لا بد من التفريق بين مقامين: مقام الواعظ الذي ينقل قصةً أو حدثاً تأريخياً، ومقام المؤرخ أو الباحث الذي يعد رسالة ماجستير أو دكتوراه مثلاً؛ ولذا نجد الأمم أيضاً يفرقون بين المقامين ففي المقام الثاني يشترطون التحقيق والبحث والفحص والمقارنة والجرح والتعديل بعكس الأول، ولو عَكَسَ كلٌّ منها لاستحق اللوم والعتاب:

ص: 165

ألا ترى الباحث والمؤرخ والمنقب في الاركيولوجيا(1)

وشبهها لو اكتفى بالسرد المجرد لما كانت لاطروحته الجامعية أو دراسته العلمية أية قيمة؟

وألا ترى - في الاتجاه المقابل - الواعظ أو المربي والموجّه الجماهيري العام لو انشغل بتحقيقات علمية دقيقة عن المعلومة التأريخية لكان خارجاً عن المحيط الذي كان يجب عليه أن يسبح فيه، وعُدّ ذلك منه خلاف الحكمة، كما سوف ينفضّ عنه الجمهور؟!

حجية الظن العام في العلوم العادية

خامساً: بل وكذلك الحال في العلوم النظرية العادية، فمثلاً كم هو عدد سكان الصين؟ والجواب الذي يُنتظر من الخبير هو الجواب الدّقي حسب آخر الإحصاءات المعتمدة، أما الجواب الذي لعامة الناس أن يجيبوا به أبناءهم أو أصدقائهم فهو الجواب التقريبي، فتأمل.

ص: 166


1- الأركيولوجيا : (Archaeology) [أو علم الآثار] هي فرع علم الإنسان الذي يركز على المجتمعات والثقافات البشرية الماضية وليس الحاضرة. وتدرس (تحديداً) المصنوعات الحرفية ك-(الأدوات ، الأبنية ، الأوعية ...) أو ما بقي منها، والتي استمرت بالتواجد للوقت الحاضر، وأيضاً الأحافير الإنسانية . وتنظر إلى البيئات الماضية ، لكي يُفهَم مدى تأثير القوى الطبيعية ك-(المناخ والطعام المتواجد) [على سبيل المثال] على تشكيل الثقافة الإنسانية. يدرس بعض الأركيولوجيون الثقافات التي تواجدت قبل تطور الكتابة ، أي في فترة (ما قبل التاريخ) (prehistory) . إن الدراسة الأركيولوجية لحقبات تطور البشرية منذ التواجد البشري وحتى فترة تصل إلى عشرة آلاف عام قبل الميلاد [أي حتى بدء الثورة الزراعية] تدعى (باليوأنثروبولوجي) (Paleoanthropology) [علم الإنسان القديم] . أما دراسات حقبات زمنية أحدث، من خلال البقايا المادية والوثائق المكتوبة ، فتدعى الأركيولوجيا التأريخية.

وذلك كله في غير القضايا الخطيرة، أما الخطيرة كالدماء والفروج والأموال فلا يكتفي العقلاء بمجرد نقلٍ عن مصدرٍ بدون تثبتٍ من سلسلة الإسناد، ولذلك لم يكن من الصحيح الاعتماد على نقل مؤرخ في استنباط حكم شرعي أبداً حتى في غير الدماءوالأعراض والأموال؛ لأنها من شأنها أن يتثبت فيها إذ بنيت على التحقيق والفحص والبحث والجرح والتعديل.

حجية بعض مراتب الظن على الانسداد

ه- - إنها - مقدمات الانسداد - مطلقة أو مهملة من حيث المراتب، والمراد من المراتب مراتب الظن، فإن نتيجة مقدمات الانسداد قد يقال: بأنها مطلقة من حيث مراتب الظن(1).

والمستظهر: أن نتيجة الانسداد مهملة من حيث المراتب، بمعنى أن نتيجتها حجية الظنون الأقوى فإن وَفَتْ ولم يكن في الإلزام بالاحتياط بما عداها عسر وحرج فبها، وإلا تدرّجنا في النزول حتى يتحقق الأمران (الوفاء بالمعظم من الأحكام أو بما لا علم بعده بثبوتها وعدم العسر والحرج في الإلزام بالاحتياط في الباقي).

ولا يخفى: إن تقريرنا لبعض متعلقات الظن أو غيرها كان بحيث ينطبق على الانفتاح أيضاً.

والبحث عن مقاصد الشريعة بحث مترامي الأطراف، وقد ذكرنا جوانب منه في بحث أكثر تخصصية في ضمن مباحث الاجتهاد والتقليد في كتاب (مبائ

ص: 167


1- (متدرجةً من ال60% فرضاً إلى ال80% مثلاً بناء على أن دون الستين شك عرفاً وأن ما فوق الثمانين ظن معتبر عقلائياً، وهذا لمجرد التقريب وإلا فالمرجع في صدق الشك والظن والاطمئنان وغيرها هو العرف ويختلف صدقها، من حيث النسبة الكمية، باختلاف المتعلَّق والحالات والظروف مما يحتاج إلى عقد بحث خاص.

الاستنباط) مبحث (مقاصد الشريعة) على أن ما ذكرناه هنا هو مقتضى البحث الصناعي البدوي، وأما الفتوى فهي بحاجة إلى تثبّت أكثر بما يفي للمبحث بحقه والله الهادي المستعان.

ختاماً

وختاماً نشير الى امرين:الأمر الأول: إن بعض الصغريات والمصاديق التي سقناها في طي البحث قد تتزاحم فيها مصالح ومفاسد وملاكات شتى، فمثلاً الناس مسلطون قاعدة مسلمة، وكذا الرحمة الإلهية مقصد مسلم من مقاصد الشريعة، واللين من مصاديق الرحمة، لكن قد تتزاحم سلطنة الشخص بسلطنة شخص آخر أو بالمصلحة العامة أو بملاك آخر من الملاكات العقلائية، لكن حيث خفيت علينا ملاكات الأحكام: 1- فلا يعلم ما هي العلة التامة منها، 2 - ولا ما هو بضميمة غيره هو العلة التامة 3 - ولا ما هو بعد الكسر والانكسار علة 4 - ولا نسبة تأثير هذا العامل أو ذاك، لذا كان الواجب أخذ أحكام الموضوعات من الشارع الأقدس مما بحث الفقهاء والأصوليون جانباً منها في باب التزاحم من الأصول.

والبحث في هذا الحقل طويل يحتاج إلى استفراع الوسع في الكبرى والصغرى.

أما الكبرى؛ فمثلاً: هل حق الله مطلقاً هو المقدم أم حق الناس هو المقدم، أو يقال بالتفصيل؟

وذلك مما يستدعي بحث أطرافه واستيعاب جوانبه في كتاب مستقل.

وأما الصغرى؛ وإجمال القول فيها: أن تشخيصها بيد الفقيه الجامع للشرائط في باب الفتوى، واما في باب الحكومة والشئون العامة فالمرجع أكثرية

ص: 168

شورى الفقهاء المرضيين من قبل غالب الناس على ما فصله السيد الوالد رضوان الله تعالى عليه في العديد من كتبه(1)، وعلى ما فصلنا شروطه وحدوده و معاييره وضوابطه في كتاب ( شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية).

الأمر الثاني: إن بعض الأفكار والاطروحات التي تضمنها البحث، إنما هي اطروحات وأفكار أولية، بحاجة الى مزيد بحث وتنقيحو كسر وانكسار واخذ ورد، و تقييمها و عرضها على مختلف الملاكات المعتبرة، ليتم الوصول الى النتيجة النهائية، وقد بحثنا جوانب من ذلك في ضمن مناقشة مع صاحب الجواهر رضوان الله تعالى عليه في هذا الموضوع، في مبحث مقاصد الشريعة من كتاب (مبادئ الاستنباط) فليضم ما هنالك الى ما ههنا، وليتدبر في جوانب المطلب جيداً.

كما أن ما طرح أيضاً من المسائل الفقهية جرى البحث في بعض منها حسب الصناعة الفقهية، وليس بعنوان التبني أو البت في الحكم.

وسنكون شاكرين لمن يساهم في ترشيد البحث بنقد أو جرح وتعديل أو إضافة وتنقيح و انضاج.

هذا والله هو الهادي إلى سواء السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين.

ص: 169


1- وقد استوعبت دراسة صادرة عن مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث الكلام عن نفوذ حكم الفقيه على حسب راي الامام الشيرازي قدس سره فليراجع كتاب (دراسة في حدود ولاية الفقيه في فقه الإمام الشيرازي قدس سره) في موقع الإمام الشيرازي:alshirazi.com وموقع التقى الثقافية: m-alshirazi.com وموقع النبأ: annabaa.org

بسم الله الرحمن الرحيم

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى حُجَّتِكَ وَوَلِيِّ أَمْرِكَ وَصَلِّ عَلَى جَدِّهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِكَ السَّيِّدِ الْأَكْبَرِ وَصَلِّ عَلَى عَلِيٍّ أَبِيهِ السَّيِّدِ الْقَسْوَرِ وَحَامِلِ اللِّوَاءِ فِي الْمَحْشَرِ وَسَاقِي أَوْلِيَائِهِ مِنْ نَهَرِ الْكَوْثَرِ وَالْأَمِيرِ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ الَّذِي مَنْ آمَنَ بِهِ فَقَدْ ظَفَرَ(1) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَقَدْ(2) خَطَرَ وَكَفَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ وَعَلَى نَجْلِهِمَا الْمَيَامِينِ الْغُرَرِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَمَا أَضَاءَ قَمَرٌ وَعَلَى جَدَّتِهِ الصِّدِّيقَةِ الْكُبْرَى فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ بِنْتِ مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى وَعَلَى مَنِ اصْطَفَيْتَ مِنْ آبَائِهِ الْبَرَرَةِ وَعَلَيْهِ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ وَأَتَمَّ وَأَدْوَمَ وَأَكْبَرَ وَأَوْفَرَ مَا صَلَّيْتَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْفِيَائِكَ وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ.

وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلَاةً لَا غَايَةَ لِعَدَدِهَا وَلَا نِهَايَةَ لِمَدَدِهَا وَلَا نَفَادَ لِأَمَدِهَا اللَّهُمَّ وَأَقِمْ(3)

بِهِ الْحَقَّ وَأَدْحِضْ بِهِ الْبَاطِلَ وَأَدِلْ بِهِ أَوْلِيَاءَكَ وَأَذْلِلْ بِهِ أَعْدَاءَكَ.

ص: 170


1- (شَكَرَ).
2- (وَ مَنْ أَبَا فَقَدْ).
3- (أَعِزَّ).

وَصِلِ اللَّهُمَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وُصْلَةً تُؤَدِّيَ إِلَى مُرَافَقَةِ سَلَفِهِ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْيَأْخُذُ بِحُجْزَتِهِمْ وَيُمَكَّنُ(1)

فِي ظِلِّهِمْ وَ أَعِنَّا عَلَى تَأْدِيَةِ حُقُوقِهِ إِلَيْهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي طَاعَتِهِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.

وَامْنُنْ عَلَيْنَا بِرِضَاهُ وَ هَبْ لَنَا رَأْفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَدُعَاءَهُ وَخَيْرَهُ مَا نَنَالُ بِهِ سَعَةً مِنْ رَحْمَتِكَ وَ فَوْزاً عِنْدَكَ وَ اجْعَلْ صَلَاتَنَا بِهِ مَقْبُولَةً وَ ذُنُوبَنَا بِهِ مَغْفُورَةً وَ دُعَائَنَا بِهِ مُسْتَجَاباً وَاجْعَلْ أَرْزَاقَنَا بِهِ مَبْسُوطَةً وَهُمُومَنَا بِهِ مَكْفِيَّةً وَحَوَائِجَنَا بِهِ مَقْضِيَّةً وَأَقْبِلْ إِلَيْنَا بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ وَاقْبَلْ تَقَرُّبَنَا إِلَيْكَ وَانْظُرْ إِلَيْنَا نَظِرَةً رَحِيمَةً نَسْتَكْمِلُ بِهَا الْكَرَامَةَ عِنْدَكَ ثُمَّ لَا تَصْرِفْهَا عَنَّا بِجُودِكَ وَاسْقِنَا مِنْ حَوْضِ جَدِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِكَأْسِهِ وَبِيَدِهِ رَيّاً رَوِيّاً هَنِيئاً سَائِغاً لَا ظَمَأَ بَعْدَهُ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين.

ص: 171


1- (وَيَمْكُثُ).

فهرس المصادر

* القرآن الكريم

* نهج البلاغة، المختار من كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، لجامعه الشريف الرضي محمد بن الحسين بن موسى (رحمة الله).

* الكافي الشريف/ للشيخ محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني (رحمة الله)، الناشر: دار الكتب الإسلامية، الطبعة الرابعة: 1407.

1. الإرشاد/ للشيخ المفيد (رحمة الله)، عدد الأجزاء: جزءان في مجلد واحد، الناشر: المؤتمر للشيخ المفيد (رحمة الله) - قم، 1413ه-.

2. الأمالي/ للشيخ محمد بن علي بن بابويه الصدوق (رحمة الله)، الناشر: كتابجي، الطبعة السادسة: 1416.

3. الاحتجاج على أهل اللجاج/ للشيخ أحمد بن علي الطبرسي (رحمة الله)، الناشر: نشر المرتضى (عليه السلام)، الطبعة الأولى: 1403.

4. الاستبصار/ للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي(رحمة الله)، الناشر: دار الكتب الإسلامية، الطبعة الأولى: 1390 ه-

5. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار أئمة الأطهار (عليهم السلام)/ للشيخ محمد باقر المجلسي (رحمة الله)، الناشر: مؤسسة الأعلمي، الطبعة الأولى: 2008م

6. تهذيب الاحكام/ للشيخ ابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (رحمة الله)،

ص: 172

الناشر: دار الكتب الإسلامية، الطبعة الرابعة: 1407

7. سفينة البحار ومدينة الحِكَم والآثار/ للشيخ عباس القمي (رحمة الله)، الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية:1416 ه-.

8. غرر الحكم ودرر الكلم/ للشيخ عبد الواحد بن محمد التميمي الأمدي (رحمة الله)، الناشر: دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الثانية: 1410 ه-

9. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل/ للشيخ محمد حسين بن محمد تقي النوري 6، الناشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) ، الطبعة الأولى:1408 ه-

10. من لا يحضره الفقيه/ للشيخ محمد بن علي بن بابويه الصدوق (رحمة الله)، الناشر: جماعة المدرسين بقم، الطبعة الثانية: 1413 ه-

11. وسائل الشيعة/ للشيخ محمد حسن الحر العاملي (رحمة الله)، الناشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)، الطبعة الأولى: 1409 ه-.

12. ارشاد القلوب إلى الصواب/ للشيخ حسن بن محمد الديلمي (رحمة الله)، الناشر: الشريف الرضي، الطبعة الأولى: 1412 ه-.

13. الخصال/ للشيخ محمد بن علي ابن بابويه (رحمة الله)، الناشر: جامعة المدرسين في قم المقدسة، الطبعة: الأولى 1404 ه-.

14. المحاسن/ للشيخ أحمد بن محمد بن خالد البرقي (رحمة الله)، الناشر: دار الكتب الإسلامية، الطبعة: الثانية 1371 ه-.

15. كشف الريبة/ للشيخ زين الدين بن علي الشهيد الثاني (رحمة الله)، الناشر: دار المرتضوي للنشر، الطبعة الثالثة: 1390 ه-.

16. مكارم الأخلاق/ للشيخ حسن بن فضل الطبرسي (رحمة الله)، الناشر: الشريف الرضي، الطبعة الرابعة: 1412 ه-.

ص: 173

17. الجعفريات/ للشيخ محمد بن محمد ابن الأشعث (رحمة الله)، الناشر: مكتبة النينوى الحديثة، الطبعة الأولى.

18. المكاسب/ للشيخ مرتضى الأنصاري (رحمة الله)، الناشر:لجنة تحقيق تراث الشيخ (رحمة الله).19. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام/ للشيخ محمد حسن النجفي (رحمة الله)، الناشر: دار إحياء التراث العربي، الطبعة السابعة.

20. عوالي الليالي العزيزية في الأحاديث الدينية/ للشيخ محمد بن زين الدين ابن ابي جمهور (رحمة الله)، الناشر: دار سيد الشهداء للنشر، الطبعة الأولى: 1405 ه-.

21. موسوعة الفقه/ للسيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمة الله).

22. بيان الأصول/ للسيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله).

23. كيف ينظر الإسلام إلى السجن/ للسيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمة الله)، الناشر: مؤسسة المجتبى للطباعة والنشر، الطبعة الأولى: 1420ه-.

24. مجمع البحرين/ للشيخ فخر الدين بن محمد الطريحي (رحمة الله)،الناشر: مرتضوي، الطبعة الثالثة: 1416.

ص: 174

ص: 175

الفهرس

كلمة مؤسسة التقى الثقافية 7

الفصل الأول

بصائر النور في آية الرحمة/9

بصائر النور في آية الرحمة واللين والاستشارية 11

بصائر النور في آية اللين والاستشارة 12

البصيرة الأولى: الاستشارية فرع من فروع الرحمة الإلهية 12

البصيرة الثانية: موقع (ما) في «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ 13

أقسام (ما) الاسمية والحرفية 14

الأقسام الأربع ل-(ما) الاسمية 14

الأقسام الأربع ل-(ما) الحرفية 15

الخلاف في موقع (ما) في الآيات والمراد منها 16

روعة الإبهام وجمال الإجمال. 17

أنواع الجمال وأقسامه 17

منهجية دمج العمق بالسطح وجمع الظاهر بالباطن. 18

1- جمالية التأليف من محكم ومتشابه 18

2- التركيبة الفريدة لبعض الأدوية 18

ص: 176

3- ظاهر المخلوقات الساكن وباطنها النشط. 19

4- الشعاع النوري الرابط بين الآيات غير المترابطة 19

5 - ولكلمات المعصومين (عليهم السلام) ظاهر ومعاني كثيرة 21

الروعة كل الروعة في عنصر المفاجأة 21

الهدية مثالاً. 22

(ما) في «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ» و تحريك الفكر والعقل. 23

محتملات معنى (ما) في «فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ». 23

البصيرة الثالثة: هل نستشير العاصي الجاهل أو المتدين العاقل. 25

مواصفات المستشار وشروطه 26

1. العقل. 27

2. الحرية والتدين. 27

3. الصداقة والمؤاخاة 28

4. إحاطة المستشار بكافة المعلومات والجهات.. 28

وجهان للجمع بين ما يستفاد من الاية و بين مواصفات المستشار. 30

البصيرة الرابعة: المراد من «لِنْتَ لَهُمْ» اللين التكويني. 32

العِبرة: اختاروا القائد الليّن الرفيق بطبعه 32

اللين اختياري اقتضائي. 33

محورية اللين والرفق في الروايات الشريفة وتصنيف العلماء. 34

العالم الذي يخزن علمه ويمنعه من الناس في الدرك الأول من النار. 35

والذي إذا وُعِظ أنف وإذا وَعَظَ عنّف في الدرك الثاني من النار. 35

وَعَنَّفُوهُمْ فِي دِينِهِمْ 36

ص: 177

الطغاة في مواجهة الآيات البيّنات.. 37

من فقه رواية: « وَلَا يَعْرِضُ لِي بَابَانِ ..» و نسبتها مع (أفضل الأعمال أحمزها) 37

من المحرمات اختراع تعقيدات وتشديدات مبتدعة في الشريعة 38

مرجوحية النذر والقسم والعهد حتى على الطاعات! 39

البصيرة الخامسة: اللين مغاير للضعف.. 40

البصيرة السادسة: اللين يقابل الفظاظة، وله حكمه 41

البصيرة السابعة: اللين والشدة ضدان لهما ثالث.. 41

البصيرة الثامنة: نسبة اللين مع الرفق. 41

إن لكل شيء قفلاً وقفل الإيمان الرفق. 42

ماذا يعني الرفق يُمن وبركة؟ 43

قواعد حقوقية مستقاة من الرحمة والرفق، في الحوزة والجامعة والمدارس.. 44

أولاً: الجامعة 44

الدراسة عن بُعد 44

منح الشهادة من دون دراسة سابقة 45

عدم نقل الطلاب إلى محافظات ومدن أخرى. 45

ثانياً: الحوزة العلمية 46

الدراسة الدينية والأكاديمية 46

إلغاء الفيزا والإقامة عن طلاب العلوم الدينية والبشرية 46

إلغاء الامتحانات لطلاب العلوم الدينية 48

ثالثاً: المدارس.. 49

إلغاء الزِيّ الموحد الإجباري. 49

ص: 178

إلغاء التشدد في امتحانات المدارس.. 50

الرفق أجمل خلائق الله.. 50

الأحب إلى الله هو الأرفق بصاحبه 51

إن الله رفيق يحب كل رفيق بالناس.. 51

البصيرة التاسعة: الرحمة للجميع تكويناً وتشريعاً 52

البصيرة العاشرة: معضلة تدافع مادة العفو وهيئة الأمر. 54

حل المعضلة 55

العفو اختياري مستحب بعنوانه الأولي وواجب بالعنوان الثانوي. 55

البصيرة الحادية عشرة: ظاهر الآية وجوب العفو والاستغفار والاستشارة 56

البصيرة الثانية عشرة: الأمر في الآية مولوي للوجوب وليس إرشادياً 57

هل المصرّ على ترك الاستشارة والعفو، فاسق. 57

الاستدلال على إرشادية الأمر بالعفو والاستشارة 58

الأجوبة 58

السر في خروج الناس من دين الله أفواجاً أو صدّهم عن الدخول فيه 59

ملامح من رحمة النبي الأعظم (صلي الله عليه وآله) بالناس ورفقه بهم وأُبوّته لهم 60

أ: كان (صلي الله عليه وآله) يجلس على دكان من طين! 60

ب: وكان لا يعاتب الرجل بشكل مباشر. 61

ج: وكان لا ينصرف عن صاحبه حتى يكون هو المنصرف! 62

د: وكان (صلي الله عليه وآله) يتجنب حتى المنفِّرات البسيطة 62

البصيرة الثالثة عشرة: العلاقة التفاعلية بين غلظة القلب وفظاظة الجوارح. 63

البصيرة الرابعة عشرة: تأثيرات تموجات حالة القلب على العلاقات الاجتماعية 64

ص: 179

البصيرة الخامسة عشرة: الانفضاض وليد مجموع الصفتين. 65

الغلظة والفظاظة حقائق تشكيكية فالانفضاض درجات حسب درجاتهما 65

لقطات ومشاهد اخرى من لين النبي (صلي الله عليه وآله) ورحمته ورفقه بالناس 66

أ: من مواصفاته النموذجية في التعامل مع الناس.. 67

ب: كان (صلي الله عليه وآله) يغمس يده في المياه الباردة كل صباح. 68

ج: تعامله (صلي الله عليه وآله) مع الأصحاب تعامل الأخ مع الأخ. 68

د: من توجيهاته (صلي الله عليه وآله): تصدقوا بأعراضكم على الناس! 69

معنى العِرض... 69

البصيرة السادسة عشرة: اللين الشخصي والتقنيني والقيادي. 70

النسبة بين الرفق والعنف.. 71

تجليات الرفق واللين بمستوياتها الثلاث في الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله) 71

أولاً: اللين على مستوى التشريع والتقنين. 71

وساطة النبي (صلي الله عليه وآله) لتخفيف الصلوات اليومية من خمسين صلاة إلى خمسة! 72

ثانياً: اللين على المستوى الولوي والقيادي. 73

ثالثاً: اللين على المستوى الشخصي. 74

نماذج اخرى متألقة من الليّن النبوي (صلي الله عليه وآله) 74

البصيرة السابعة عشرة: العفو والمغفرة والاستشارة من أهم أسس السِّلم الأهلي. 76

خيانة الجنود في أُحد، وموقف الرسول (صلي الله عليه وآله) النادر المذهل. 77

القائد الذي أحرق رسائل خيانة ضبّاطِهِ فاستماتوا في القتال! 79

البصيرة الثامنة عشرة: المعنى الدقيق ل-(العفو) 80

ماذا يعني (على الدنيا بعدك العفاء)؟ 81

ص: 180

البصيرة التاسعة عشرة: ربط كافة مناحي الحياة بذكر الله تعالى. 83

أسماء الله تملأ صفحات القرآن بشكل مذهل. 84

ليبدأ التاجر والمحامي والطبيب والمدرس كلَّ خطوة بذكر الله.. 85

كيف نخاطب المَلَكين عند الدخول إلى بيت الخلاء؟ 86

الحكمة من قول الإمام السجاد (عليه السلام) (آه من القصاص) 87

الفصل الثاني

مقاصد الشريعة ومقاصد المقاصد/89

البصيرة الأولى: للشريعة مقاصد وللمقاصد مقاصد 91

اللين مقصد للشريعة، ومقصد المقصد هو الرحمة الإلهية 92

الإمام (عليه السلام): لا يعرض لي بابان كلاهما حلال إلا أخذت باليسير منهما 92

أحب الأعمال لله الإيمان به والرفق بعباده 93

من شروط الوالي أن يكون الأفضل حلماً 94

البصيرة الثانية: موقع مقاصد الشريعة في الفقه الإمامي. 94

لماذا اهتم العامة بفقه المقاصد وأهملها الشيعة؟ 94

وجه ثانوي لضرورة طرق باب فقه المقاصد 95

أ: الفائدة الكلامية لفقه المقاصد 95

ب: الفائدة الاجتماعية لفقه المقاصد 97

ج: من الفوائد الفقهية لفقه المقاصد 99

1. دوران الأمر بين التعزير أو السجن أو الغرامة وبين الخدمة التطوعية 100

2. نماذج من حقوق السجين في الإسلام 101

ص: 181

الخروج من السجن في الأعياد ولزيارة المرضى وحضور الأعراس! 102

السجن بالأقساط، وللسجين اختيار مكان السجن. 103

مكافأة السجين والأجرة العادلة 103

إخبار عوائل السجناء بأخبارهم 103

الدراسة في السجن. 104

الشكاوى. 104

حقوق السجين وزائره 104

المكتبة العامة وحرية الوصول لوسائل الأعلام 105

إقامة السجناء للشعائر الدينية والحج وزيارة المشاهد 105

حضور التلامذة والجمهور في السجن. 106

توفير مقومات الراحة النفسية للسجين. 106

حرمة التعذيب مطلقاً 107

تعيين مفتش محايد أو من الجهة المنافسة 107

ليس تأديب السجناء من صلاحية إدارة السجون. 108

لا يجوز فرض ملابس خاصة 108

توفير الرعاية الصحية المتكاملة للسجناء. 108

حرية إجراء المعاملات والقيود 109

حرية النكاح والطلاق والشهادة والوصية والولاية 109

حق ممارسة الخطابة والكتابة وما أشبه 109

ممارسة المهن المختلفة 110

حق الرياضة 110

ص: 182

الهوايات الشخصية 110

اللقاء بالعائلة 110

3. صلاة الجماعة الموحدة في الحرم المكي والمدني، أو المتعددة 111

د: من الفوائد الأصولية والتقنينية لفقه المقاصد 113

1. اللين والرفق الموازن الاستراتيجي للاحتياط. 113

(سوق المسلمين) امارة تسهيلية تنبعث من مقصد اللين والرحمة 114

(اليد) أمارة أخرى تسهيلية من منطلق اللطف والرحمة 115

2. مقاصد الشريعة تصلح مؤيداً لدعوى الانصراف أو العكس.. 116

3. مقاصد الشريعة تصلح مرجِّحاً في باب التعارض... 117

4. مقاصد الشريعة تصلح مرجحاً في باب التزاحم وتشخيص الأهم وتقديمه 117

المشهور تقدم حق الناس على حق الله.. 118

أ: في دائرة الفقه الاجتماعي وفقه الدولة 119

تقديم الكذب على ضياع أموال الناس.. 119

لو دار الأمر بين تزويج الزانية أو إجراء الحد عليها 120

لو دار الأمر بين قرار الحرب أو السلم 120

ب: في دائرة الشؤون الشخصية: 121

لو دار الأمر بين الغُسل أو سقي الحيوان. 121

لو دار الأمر بين الصوم وإطعام المضطر. 122

لو دار الأمر بين الحج وتسديد الدين. 122

1. مقاصد الشريعة مرجح لرفض قاعدة الغاية تبرر الوسيلة 123

أ: هل يجوز الغدر مع الكفار؟ 123

ص: 183

الدليل على حرمة الغدر و نقض العهد حتى مع الكفار. 124

الغدر مغاير للخدعة 126

ب: الغدر مع الكفار والبغاة المسلمين وغيرهم 126

ج: حرمة نقض العهود الاقتصادية والحقوقية وغيرها 126

2. تغيير الاتجاه العام للتقنين في إطار المسائل الشرعية 127

نماذج من القوانين الكابتة في الحكومات السلطوية 128

منع تربية الماشية والطيور في المنازل. 129

السبب الحقيقي: رغبة الشركات الكبرى في احتكار إنتاجها 129

السبب الظاهري: منع انتشار الأمراض... 130

أساس مشكلة الاستبداد في رضا الجماهير والنخبة به 130

كتلة التحرير من القوانين الكابتة في مجلس الأمة 131

لجنة التحرير من القوانين الكابتة في الأحزاب والعشائر. 133

3. تأثيرات مقاصد الشريعة في تقنين القواعد الفقهية والاجتماعية والسياسية 133

أ: الرحمة الإلهية في محور قاعدتي الإمضاء والإلزام 134

لا تؤخذ الزكاة والخمس من الكفار رغم أنهم مكلفون بالفروع. 135

ب: الرحمة الإلهية في محور كونفدرالية شرائح المقلدين. 135

يحرم على الفقيه الحاكم أن يفرض آراءه على مقلدي سائر المراجع. 136

فرق باب الحُكم عن باب الحكومة 137

ما هو المقصود بالفدرالية؟ 138

ما هو المقصود بالكونفدرالية؟ 139

الفدرالية في دائرة مقلدي المراجع في إطار الدولة الإسلامية 140

ص: 184

الكونفدرالية في دائرة مقلدي المراجع. 141

4. مقاصد الشريعة تحدد مسار الفكر واتجاه القيادة والإدارة 141

التفكير الشمولي والتجزيئي في منظار علم النفس.. 142

مراقبة حركة الأعين تكشف نوعية المفكر. 143

انتخاب المفردات مرآة لنوع التفكير. 143

التفكير الشمولي ومقاصد الشريعة في عملية الاستنباط الفقهي. 144

تقديم الطوافين على الوقوفين في الحج، اختياراً 144

الجمع الدلالي بين الطائفتين من الروايات.. 146

قاعدة اليسر من المرجِّحات غير المنصوصة لدى التعارض... 146

5. مقاصد الشريعة: في الدوران بين التعيين والتخيير. 149

تقليد الأعلم أو الأورع. 150

الدراسة عند الأعلم أو الأفضل الأكمل. 151

الطبيب الأعلم أو الطبيب الأرفق. 151

انتخاب الرئيس الأعلم أو الأكثر استشارة 152

القائد الأعلم أو الأكثر اهتماماً بالناس.. 152

التحالف مع الأعلم أو مع الأقوى. 152

تعيين المسؤول المتشدد أو الطيب المتسامح. 153

قواعد علوية (عليه السلام) ذهبية في جباية الصدقات والضرائب.. 154

يهودي يسرق يومياً ثم يُسلِم بمفاجأة 156

لو كان المسلمون جميعاً كذلك. 158

6. مقاصد الشريعة: في حجية الطرق والأمارات والتقليد والظنون المطلقة 158

ص: 185

من مجالي الرحمة: إمضاء حجية الطرق والامارات.. 159

وتجويز التقليد 159

ومن مجالها: حجية الظنون المطلقة على الانسداد 160

حجية كافة مناشئ الظن على الانسداد 161

حجية الظن المطلق في المواعظ والمصائب وغيرها 162

حجية الظن العام في المواعظ. 162

حجية الظن العام في المصائب.. 163

حجية الظن العام في الآداب والسنن. 164

حجية الظن العام في التاريخ. 165

التفريق بين مقام الواعظ ومقام المحقق. 165

حجية الظن العام في العلوم العادية 166

حجية بعض مراتب الظن على الانسداد 167

ختاماً 168

فهرس المصادر. 172

الفهرس.. 176

كتب أخرى للمؤلف.. 187

ص: 186

كتب أخرى للمؤلف

1. أضواء على حياة الإمام علي (عليه السلام)، مطبوع.

2. التصريح باسم الإمام علي (عليه السلام) في القرآن الكريم، مطبوع.

3. لماذا لم يصرح باسم الإمام علي (عليه السلام) في القرآن الكريم؟، مطبوع.

4. استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، مطبوع.

5. شعاع من نور فاطمة الزهراء (عليها السلام)، دراسة عن القيمة الذاتية لمحبة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، مطبوع.

6. تجليات النصرة الإلهية للزهراء المرضية عليها السلام، مطبوع.

7. لمحات من حياة الإمام الحسن (عليه السلام)، مطبوع.

8. الإمام الحسين (عليه السلام) وفروع الدين، دراسة عن العلاقة الوثيقة بين سيد الشهداء(عليه السلام) وبين كل فرع فرع من فروع الدين، مطبوع.

9. شرعية وقدسية ومحورية النهضة الحسينية (عليه السلام)، مطبوع.

10. المرابطة في زمن الغيبة الكبرى، مطبوع.

11. السيد نرجس (عليها السلام) مدرسة الأجيال، مطبوع.

12. دروس وعبر من الكلمات القصار من نهج البلاغة، مخطوط.

13. بحوث في العقيدة والسلوك، مجموعة محاضرات على ضوء الآيات القرآنية الكريمة، ألقيت في الحوزة الزينبية وفي النجف الأشرف، مطبوع.

14. إضاءات في التولي والتبري، مطبوع.

ص: 187

15. دروس في أصول الكافي - الجزء الأول كتاب العقلوالجهل، مخطوط.

16. كونوا مع الصادقين، بحوث تفسيرية في الآية الشريفة «كونوا مع الصادقين»، مطبوع.

17. لمن الولاية العظمى؟ مطبوع.

18. توبوا إلى الله، مطبوع.

19. شرح دعاء الافتتاح، مخطوط.

20. بصائر الوحي في الإمامة، مطبوع.

21. سوء الظن في المجتمعات القرآنية، مطبوع.

22. مقتطفات قرآنية، مطبوع.

23. مناشئ الضلال ومباعث الانحراف، مطبوع.

24. ملامح النظرية الإسلامية في الغنى والثروة والفقر والفاقة، مطبوع.

25. شورى الفقهاء دراسة فقهية أصولية، مطبوع.

26. رسالة في قاعدة الإلزام، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.

27. فقه التعاون على البر والتقوى، مطبوع.

28. فقه الخمس، تقرير دروس الخارج في الحوزة العلمية الزينبية، مخطوط.

29. فقه المكاسب مباحث البيع، مخطوط.

30. فقه المكاسب المحرمة - حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد، مطبوع.

31. فقه المكاسب المحرمة - مباحث الرشوة، مطبوع.

32. فقه المكاسب المحرمة - حرمة الكذب ومستثنياته، مطبوع.

ص: 188

33. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في التورية موضوعاً وحكماً، مطبوع.

34. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في الكذب في الإصلاح، مطبوع.35. فقه المكاسب المحرمة - احكام اللهو واللغو واللعب وحدودها، مطبوع.

36. فقه المكاسب المحرمة - مباحث النميمة، مخطوط.

37. فقه المكاسب المحرمة - مبحث النجش، مخطوط.

38. فقه المكاسب المحرمة - مبحث التعامل بالدراهم المغشوشة والبضائع المقلدة، مخطوط.

39. رسالة في الحق والحكم التعريف والضوابط والاثار، مخطوط.

40. الاجتهاد في أصول الدين، مخطوط.

41. الاجتهاد والتقليد والاحتياط، تقريرات درس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.

42. الأصول مباحث القطع، مخطوط.

43. الأوامر المولوية والإرشادية، مطبوع.

44. التبعيض في التقليد، مخطوط.

45. تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول، مطبوع.

46. التقليد في مبادئ الاستنباط، مخطوط.

47. الحجة؛ معانيها ومصاديقها، مطبوع.

48. حجية مراسيل الثقات المعتمدة (الصدوق والطوسي قدس سرهما نموذجاً)، مطبوع.

49. رسالة في أجزاء العلوم ومكوناتها، مطبوع.

ص: 189

50. رسالة في فقه مقاصد الشريعة، مخطوط.

51. فقه الرؤى، دراسة في عدم حجية الأحلام على ضوء الكتاب والسنة والعقل والعلم، مطبوع.

52. مباحث الأصول، التعادل والتراجيح، مخطوط.

53. مباحث الأصول، رسالة في الحكومة والورود، مخطوط.

54. المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول، مطبوع.

55. المبادئ والضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية، مخطوط.56. رسالة في نقد الكشف والشهود، مخطوط.

57. نسبية النصوص والمعرفة... الممكن والممتنع، مطبوع.

58. نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة، مطبوع.

59. مدخل إلى علم العقائد، نقد النظرية الحسية، مطبوع.

60. ملامح العلاقة بين الدولة والشعب، مطبوع.

61.

معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي، مطبوع.

62. الخط الفاصل بين الأديان والحضارات، مطبوع.

63. الحوار الفكري، مطبوع.

64. الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي، مطبوع.

ص: 190

ص: 191

دروس في التفسير والتدبر

6

مقاصد الشريعة

ومقاصد المقاصد

الرحمة واللين انموذجاً

منشورات:

مؤسسة التقى الثقافية

النجف الأشرف

7810001902 00964

m-alshirazi.com

ص: 192

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.