اثر رأس الإمام الحسین في أحياء فکر التوحيد وتوحید الفكر في ضوء التربية الوظيفية والضمير الجمعي

هوية الکتاب

اثر رأس الإمام الحسین في أحياء فکر التوحيد وتوحید الفكر في ضوء التربية الوظيفية والضمير الجمعي

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية ببغداد 2031 لسنة 2019 مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP41.76 .H37 A8 2019 LC المؤلف الشخصي: الحسني، نبيل قدوري، 1965 -، مؤلف. العنوان: أثر رأس الإمام الحسين عليه السلام في إحياء فكر التوحيد وتوحيد الفكر في ضوء النظرية الوظيفية والضمير الجمعي: دراسة بينية. بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني الكربلائي.

ISBN 9789933582463

بيانات الطبع: الطبعة الأولى. بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 1440/2019 للهجرة. الوصف المادي: 216 صفحة؛ 24 سم. سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 669). سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ 175).

ص: 1

اشارة

ISBN 9789933582463 رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية ببغداد 2031 لسنة 2019 مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP41.76 .H37 A8 2019 LC المؤلف الشخصي: الحسني، نبيل قدوري، 1965 -، مؤلف. العنوان: أثر رأس الإمام الحسين عليه السلام في إحياء فكر التوحيد وتوحيد الفكر في ضوء النظرية الوظيفية والضمير الجمعي: دراسة بينية. بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني الكربلائي. بيانات الطبع: الطبعة الأولى. بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 1440/2019 للهجرة. الوصف المادي: 216 صفحة؛ 24 سم. سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 669). سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ 175). سلسلة النشر: (سلسلة دراسات في آل علي، الإمام الحسين عليه السلام؛ 4). تبصرة ببليوجرافية: يتضمن هوامش، لائحة المصادر (الصفحات 199-210). موضوع شخصي: الحسين بن علي (علیه السلام)، الإمام الثالث، 61-4 للهجرة - تأثير. مصطلح موضوعي: رأس الإمام الحسين - تأثير. مصطلح موضوعي: رأس الإمام الحسين - معاجز. مصطلح موضوعي: التاريخ الإسلامي - العصر الأموي. مصطلح موضوعي: الأنثروبولوجيا الاجتماعية - العصر الأموي. مصطلح موضوعي: أهل البيت (عليهم السلام) والتوحيد. اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة دراسات في آل علي (علیه السلام) (4) -أولاده : الإمام الحسين (علیه السلام) اثر رأس الإمام الحسین في أحياء فکر التوحيد وتوحید الفكر في ضوء التربية الوظيفية والضمير الجمعي دراسه بينية تألیف السید نبیل الحسني الکربلائي اصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الاولى 1440 ه / 2019 م العراق: کربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة www.inahj.org Email: inahj.org@gmail.com موبایل: 07815016633 - 07728243600

ص: 4

الإهداء

إلى أول من دافع عن التوحيد بعد انقطاع الوحي والذكر المجيد..

إلى من وقفت بوجه الطاغوت والمعاند العتید..

إلی من تأتي مر بها يوم الوعد الوعيل..

تنظرُ رأس ولادها الشهيد..

إلى مولاتي وسيدني وجدتي بقية النبوة وصفية المصطفى وقرة عينه صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها أهدي كتابي هذا - خادمكم وولدكم نبيل -

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحیم

مقدمة المؤسسة:

الحمد الله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءَهُ العادُّون، ولا يؤدِّي حقه المجتهدون، والصلاة والسلام على خير خلقه، وخاصة أنبيائه، وصفوة رسله، أبي القاسم محمد و آله الأخيار الهداة الأبرار.

وبعد:

فإنَّ من الحقول المعرفية التي زخرت بها حياة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) التي نحتاج إلى دراستها وجني ثمارها هي حياة آل علي (عليهم السلام) المتضمنة تلك الذوات المقدسة، وهم (والداه، وأولاده، وأزواجه) لا سيما سیدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء وابنيها الحسن والحسين (عليهم الصلاة والسلام)؛ لتستقر ضمن السلسلة العلمية البحثية الموسومة ب (سلسلة دراسات في آل علي (عليهم السلام) التي تسعى المؤسسة بواسطتها إلى بيان ما لهذه الذوات من إسهامات في الحياة الإسلامية ومسار الحركة الفكرية فيها.

ص: 7

وما هذه الدراسة التي بين أيدينا والموسومة ب (أثر رأس الإمام الحسين (عليه السلام) في إحياء عقيدة التوحيد وتوحيد الفكر في ضوء النظرية الوظيفية والضمير الجمعي) إلّا واحدة من هذه الدراسات التي توضع بين يدي القارئ الكريم لبيان الآثار التي أوجدها رأس الإمام الحسين (عليه السلام)، وهو يتلو القرآن في الكوفة والشام وما بينهما في عقيدة المسلمين وإعادتهم إلى التوحيد الذي جاء به القرآن والنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وذلك عبر الحقول المعرفية المعاصرة في الأنثروبولوجيا الثقافية والبنائية الوظيفية، ودراسة المتغيرات التي أوغلت في ثوابت الفكر القرآني، مما تطلب أن يكون هناك تدخلٌ إلهيٌّ يمكّن الأمة من استعادة ثوابتها في التوحيد. فجزى الله الباحث على ما قدمه في بحثه خير الجزاء، ونسأله التوفيق لإحياء تراث سيرة أمير المؤمنين الإمام علي وآله (عليهم السلام).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

شعبة الشؤون العلمية مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 8

مقدمة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها، و تمام منن والاها، والصلاة والسلام على خير خلقه، وخاصة أنبيائه، وصفوة رسله أبي القاسم محمد وآله الأخيار الهداة الأبرار الأطهار.

أما بعد:

فإنَّ معرفة التوحيد والطريق إليه وحقيقته والعلم بر موزه هو المحرز لرضا الله (عزّ وجل)؛ وبخلافه يضل الإنسان عن التوحيد في الدنيا ويخسر الآخرة.

وها هو التاريخ الإنساني مليء بالحوادث والأخبار الكاشفة عن هلاك الأمم ودمارها حينما أضلت الطريق إلى التوحيد، واتبعت طريقًا أخر وضعه لها قادة الانحراف والشبهات، فهلكوا وأُهلكوا؛ وما هذه الأمة إلّا واحدة من تلك الأمم التي وقعت فيها الشبهات، ونهشتها الفتن والمحدثات، فتفرقت إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها توحد الله لكنها في النار خالدة إلا فرقة واحدة، فما هي الأسباب؟ وماذا جرى لعقيدة المسلمين في التوحيد حتی نری شمر بن ذي الجوشن يحتزّ رأس ابن بنت نبيه (صلى الله عليه وآله)، ثم يدعوا الله تعالى بعد أداء فريضة الصلاة ويسأله العفو والمغفرة فيقول: (اللهم إنَّك تعلم أنّي شريف فاغفر لي).

ص: 9

فيسأله السائل متعجبًا: كيف يغفر الله لك وقد أعنت على قتل ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!!!

فيرد على السائل ناهرًا وموبخًا فيقول:

(ويحك فكيف نصنع، إنَّ أمراءنا هؤلاء أمرونا بأمرٍ فلم نخالفهم، ولو خالفناهم كنا شرًا من هذه الحمر الشقاء)!!

فما الذي فعله الأمراء في عقيدة التوحيد کي یری قاتل الإمام الحسين (عليه السلام) أنَّ طاعة الأمير تدخل الجنة ولو بقتل أبناء الأنبياء، وأنَّ مخالفتهم أشقى وأشر من البهائم؟!

وعليه:

فقد استلزمت الإجابة عن هذا السؤال الخوض في دراستين منفصلتين، تناولت الأولى دراسة المجتمع الإسلامي منذ أن بُعث النبي الأكرم (صلى الله علیه و آله) إلى عام 61 للهجرة النبوية، وهو العام الذي استشهد فيه الإمام الحسين (عليه السلام) و حمل رأسه على رمح طويل ليطاف به في المدن ويصلب على أبوابها وقد وسمناها ب: (اغتيال التوحيد في ضوء الأنثروبولوجيا العقدية والبنائية الوظيفية) والخروج بنتائج وحقائق ترشد إلى وقوع عملية اغتيال عقيدة التوحيد الذي جاء به القرآن والنبي (صلى الله عليه وآله)، وقد استعنا بأحدث النظريات العلمية في دراسة الإنسان وثقافته وعقيدته؛ فضلًا عن أن الدراسة قد أصلت لحقل معرفي جديد في الأنثروبولوجيا والمثاقفة.

وتناولت الدراسة الثانية - وهي هذه التي بين أيدينا - آثار رأس الإمام الحسين (عليه السلام) في إحياء عقيدة التوحيد وتوحيد الفكر في ضوء

ص: 10

النظرية الوظيفية والضمير الجمعي.

فقد احتاج هذا المجتمع إلى تدخل إلهي لإنقاذ الأمة من تغيير هويتها في التوحيد؛ فكان ذلك عبر المظاهر الإعجازية التي تلازمت مع رأس ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يقرأ القرآن، ويتلو آياته، ويكلم الناس وهو على رمح طويل، يطاف به في المدن الإسلامية من الكوفة إلى الشام وأزقتهما وطرقهما وليصلب على أبوابهما وهو يتلو سورة الكهف ويكرر قوله تعالى :

«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا»(1).

فقد تناولت هذه الدراسة الآثار التي حققتها هذه المظاهر الإعجازية للرأس المقدس في إعادة الوعي الفردي والجمعي و تحريك ضمير الأمة ضمن إجراءات النظرية البنائية الوظيفية لبيان تحقق (الضمير الجمعي) في أهم المراكز الإسلامية وهما المدينة المنورة في خلعها للخليفة وقتال جيشه، وفي مدينة الكوفة وإنهائها للعملية التثاقفية في التأسف والندم على تضييع ثقافة التوحيد القرآني والنبوي وإعلان التوبة من التقصير في نصر رموز التوحيد وهم عدل القرآن وعترة النبي (صلى الله عليه وآله).

ولذا:

فقد تكونت الدراسة من ثلاثة فصول تفرعت إلى مجموعة من المباحث.

فكان الفصل الأول يتضمن دراسة المعطيات التاريخية لعملية صلب رأس الإمام الحسين (عليه السلام) وتلاوته للقرآن الكريم ومراحل طوفه وتسييره في المدن والطرقات، وظهور جملة من المظاهر الإعجازية للرأس المقدس (عليه السلام).

ص: 11


1- سورة الكهف: الآية 9

فيما خصص الفصل الثاني لدراسة آثار المظاهر الإعجازية لرأس الإمام الحسين (عليه السلام) في إحياء عقيدة التوحيد.

وبيان علّة قراءة الرأس الشريف للقرآن؛ ثم بیان علّة تكرار تلاوته لآية الكهف.

أما الفصل الثالث: فقد درس أثر الرأس الشريف في خلق الضمير الجمعي وتكوين الوظيفية البنائية في المجتمع الإسلامي؛ لاستعادة توحید القرآن والنبوة.

وقد ختمت الدراسة بجملة من النتائج التي توصلت إليها عبر مناهج البحث وفرضية الدراسة ونوعها وهو كالآتي:

فرضية الدراسة:

تفترض الدراسة أن فكر التوحید مکنون في رموزه و حملته، وأن عملية اغتيال التوحيد جرت في الأمة مرتين، الأولى في الفكر، والثانية في الرمز؛ وأنَّ إعادة إحياء التوحيد تكمن في إحياء الفكر والرمز، وأنَّ العملية الإجرائية لإعادة الحياة إلى الرمز بعد اغتياله وقعت - كذلك - في الأمة مرتين.

الأولى: في ديمومية الحياة لرأس الإمام الحسين (عليه السلام)، فكان فكر التوحيد حيًا بما ظهر من الرأس الشريف من آيات ومعاجز و آثار مكونة بذلك أنماطًا وأنساقًا ثقافية واجتماعية وإصلاحية.

والثانية: في تلبس الفكر الإصلاحي في مجموعة من الأفراد وتحقق النظرية البنائية الوظيفية في خلق تاوعي الفلردي والجمعي والوصول إلى الضمير الجمعي في عواصم الخلافة (أي: المدينة والكوفة)، وتوحيدهم في الرجوع

ص: 12

إلى ثقافتهم الأصيلة، وانتفاضتهم لانتزاع التوحيد القرآني والنبوي من قيود ثقافة توحيد الخلافة وأنساقها وإجراءاتها التثاقفية والاجتماعية.

فكان لرأس الإمام الحسين (عليه السلام) وما شهده الناس من مظاهر إعجازية الأثر البالغ في إحياء فكر التوحيد في أمة التوحيد.

منهج البحث:

اعتمد الباحث في هذه الدراسة على ثلاثة مناهج، وهي: المنهج الاستقرائي، والمنهج الوصفي، والمنهج التحليلي، وقد استعان الباحث بهذه المناهج في دراسة المعطيات التاريخية والروائية والعقدية والثقافية والاجتماعية والأنثروبولوجية؛ وذلك في استنطاق النصوص والأحداث والمظاهر الإعجازية للرأس المقدس (عليه السلام) للوصول إلى نتائج وكشوفات معرفية جديدة تسهم في إصلاح الإنسان والمجتمع والرجوع به إلى هويته القرآنية والنبوية والتمسك بالثقلين كتاب الله وعترته أهل بيته (عليهم السلام).

نوع الدراسة: (بينية - interdisciplinary)

اعتمد الباحث في هذه الدراسة على أهم الطرق العلمية في بناء النتائج المعرفية والفكرية.

إذ تعد الدراسات البينية من أهم ما توصلت إليه المناهج العلمية في طرق جمع المعلومة وإعادة بلورتها في نتاج معرفي جديد، يرتكز على الممازجة والمزاوجة بين الحقول المعرفية المتعددة للوصول إلى نتاج معرفي وفكري جديد یُمکّن الباحثين والدارسين من فهم مادة البحث سواء أكانت هذه

ص: 13

المادة الإنسان وما يصدر عنه أو ما يختلج في مكنون نفسه ضمن العلوم الإنسانية، أم ما ارتبط بالعلوم الأساسية والتطبيقية والاجتماعية.

إذ تهدف الدراسات البينية إلى (تعظيم الاستفادة من التوجهات الفكرية للتخصصات المشاركة، وتحقيق الإبداع في طرق التفكير والتكامل في المعرفة وليس وحدتها)(1).

مما يحقق أيضًا (تكامل المعارف الإنسانية على اختلاف مجالاتها لتظهر علوم وكشوف جديدة نافعة للبشرية)(2).

وهذا ما توصلت إليه الدراسة في إظهارها لمعارف و حقائق جديدة ارتبطت في أهم ركن من أركان عقيدة المسلمين وثقافتهم، أي: التوحيد وعملية اغتياله بأنساق ثقافة توحيد الخلافة.

ومن ثم ليجد القارئ أنَّ الآثار والمظاهر الإعجازية لرأس الإمام الحسين (عليه السلام) قد أعادت الحياة إلى التوحيد ووحدة الفكر نحو أهل التوحيد والقرآن، وأنَّ المسلم لا يمكن له أن يدرك التوحيد الذي جاء به النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله) ما لم يأخذه ممن رأسه يتلو القرآن على رمح طویل، يردد قول الله تعالى:

«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا».

فكان من أعجب آیات الله ومصاديق التوحيد والسبيل إليه.

ص: 14


1- تزاوج الاختصاصات: ثراء معرفي و معني، نجيب عبد الواحد؛ 3 يونيو 2017؛ الدراسات البينية / التعليم العالي
2- صحيفة المدينة، يوم الاثنين 28 شوال 1440 - 1 يوليو 2019 م

فسلام من الله عليه يوم ولد، ويوم أستشهد، ويوم تلي رأسه القرآن مصلوبًا على أبواب المدن، ومرفوعًا على الرماح يطاف به في طرقات الكوفة، وأسواق الشام ليحيي التوحيد في أمة التوحيد، بعد أن اغتالته سيوف توحيد الخلافة.

وسلام عليه يوم يبعث حيًا يجتاز صفوف يوم الحساب، مقبِلًا على أُمه فاطمة (علیها السلام) وقد نُصِب لها قُبّة من نور، واضعًا رأسه على يده «فإذا رأته شهقت شهقةً لا يبقى في الجمع ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا عبد مؤمن إلّا بکی لها».

فسلام وألف سلام لرأسك المقطوع ...

خادمك وولدك نبيل

ص: 15

ص: 16

التمهيد

أولًا- تعريف الفكرفي اللغة والاصطلاح.

ألف- الفكر لغة.

ورد معنى المفردة في المعاجم اللغوية في صياغة الدلالة والتعريف، وهي كالاتي:

1. قال الجوهري (ت 393 ه) في بيان معنى الفكر: (التفكر، التأمل، والاسم الفكر، والفكرة، والمصدر الفكر بالفتح، ويقال: ليس لي في. (هذا الأمر فكر، أي ليس لي فيه حاجة، ورجل فكير: أي كثير التفكير)(1).

2. وقال ابن فارس (ت 395 ه): (الفاء والكاف والراء، تردد (القلب في الشيء، يقال: تفكر إذا ردد قلبه معتبراً)(2).

3. قال ابن سيده (ت 458 ه): (الفكرة: إعمال الخاطر في الشيء (والجمع فكّر)(3).

4. وقال الفيروز آبادي (ت 817 ه): (الفكر بالکسر، ويفتح: إعمال النظر في الشيء كالفكرة والفكري بكسرهما والجمع أفكار)(4)

أقول: ويمكن أن نستخلص من هذه التعاريف، أن الفكر هو:

إشغال القلب أي العقل في التأمل عبر النظر في الشيء.

ص: 17


1- الصحاح للجوهري: ج 2، ص 783
2- معجم مقاییس اللغة لابن فارس: ج 4، ص 446
3- المخصص لابن سيد: السفر الثالث عشر: 745
4- القاموس المحيط: ج 2، ص 111

باء- تعريف الفكر في الاصطلاح.

1. قال شيخ الطائفة الطوسي (رحمه الله) (ت: 460 ه):

(والفكر هو التأمل في الشيء المفكر فيه، والتمثيل بينه وبين غيره، وبهذا يتميز من سائر الأعراض من الإدارة والاعتقاد وليس في المتعلقات بأغيارها شيء يتعلق بكون الشيء على صفة أو ليس عليها غير النظر - والنظر هو الفكر -)(1).

2. وقال الجرجاني (ت: 811 ه):

(إعمال النظر والتأمل في مجموعة من المعارف لغرض الوصول إلى معرفة جديدة، وهو بهذا عملية يقوم بها العقل أو الذهن بواسطة الربط بين: (المدركات أو المحسوسات واستخراج معاني غائبة عن النظر المباشر)(2).

3. وقيل هو:

(حركة النفس نحو المبادي والرجوع عنها إلى المطالب)(3).

4. وقيل أيضاً:

(حركة النفي في المعقولات بخلافها في المحسوسات فإنَّها تخييل لا فکري)(4).

ص: 18


1- الاقتصاد للشيخ الطوسي: ص 94
2- التعريفات للجرجاني: 55
3- معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية المحمود عبد الرحمن: ج 3، ص 52
4- المصدر نفسه

5. وقيل:

(إعمال العقل بالمعلوم للوصول إلى المجهول)(1).

6. ويقول جميل صليبا:

(إنَّ الفكر يطلق على الفعل الذي تقوم به النفس عند حركتها في المعقولات أو يطلق على المعقولات نفسها؛ فإذا أطلق على فعل النفس دل على حركتها الذاتية وهي النظر والتأمل، وإذا أطلق على المعقولات دل على: المفهوم الذي تفكر فيه النفس)(2).

أقول: ويمكن أن نستخرج من هذه التعريفات:

إنّ الفكر اصطلاحاً هو التأمل والنظر في أمرٍ ما بقصد الوصول إلى معلومة جديدة وتكون معرفة حول الشيء المفكر فيه.

ثانيًا- تعريف التوحيد في اللغة والاصطلاح.

ألف- التوحيد لغة:

1. قال أبو الحسن الجرجاني (ت: 811 ه) في التعريفات، التوحيد هو: (الحكم بان الشيء واحد والعلم بأنَّه واحد)(3).

ص: 19


1- معجم لغة الفقهاء، لمحمد قلعجي: ص 349
2- المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والانجليزية واللاتينية، جميل صليبا: ج 2، ص 156، دار الكتاب اللبناني
3- التعريفات للجرجاني: ص 73 بتحقيق محمد باسل، ط 2 دار الكتب العلمية بيروت 1983 م

2. وقال الزبيدي (ت: 1205 ه):

(إذا وصف الله (عزَّ وجلَّ) بالواحد فمعناه هو الذي لا يصح عليه التجزؤ ولا التكاثر)(1).

باء- تعريف التوحيد في الاصطلاح:

1. قال الشيخ الصدوق (ت: 381 ه) في معنى التوحيد:

(أسم للعلم الذي يبحث فيه عن الله تعالى وصفاته وأفعاله، وأما نفي التشبيه فهو من باب ذکر الخاص بعد العام لأهميته)2.

2. وقال الصدوق في الاعتقادات:

(وأنَّه تعالى شيء لا کالأشياء، أحد، صمد، لم يلد فيورث ولم يولد فيشارك، ولم يكن له كفء أحد، ولا ند، ولا ضد، ولا شبه، ولا صاحبة، ولا مثل، ولا نظير، ولا شريك)(2).

3. وقال الشيخ المفيد (ت 413 ه) في معنى التوحيد هو أن يعتقد الإنسان بأن (الله تعالى واحد في الإلهية والأزلية لا يشبهه شيء ولا يجوز أن يماثله شيء، وانَّه فرد في المعبودية لاثاني له فيها على الوجوه كلها والأسباب)(3).

ص: 20


1- تاج العروس للزبيدي: ج 10 ص 529؛ ط مکتبة الحياة، بيروت
2- الاعتقادات للصدوق: ص 22 بتحقيق عصام عبد السيد، مطبعة مهر - قم، نشر المؤتمر العلمي للشيخ المفيد ط 1 سنة (1413 ه)
3- أوائل المقالات، للشيخ المفيد: ص56، طبع سنة (1371 ه)

ثالثًا- تعريف (فكر التوحید).

بالنظر إلى التعريفات المشتملة على بيان معنی مفردة (الفكر) و (التوحيد) وتوظيف هذه المعاني في الخروج بتعريف الفكر التوحيد، وهو: أشغال القلب والعقل بالتأمل في الدلائل والمظاهر والآيات والصفات والأضداد بقصد الوصول إلى المعرفة وهو أول الدين.

وتعد المعرفة أول المراتب في سلَّم التوحيد الذي بنى مرتكزاته الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فيقول:

أَوَّلُ الدِّینِ مَعْرِفَتُهُ، وَکَمالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِیقُ بِهِ، وَکَمالُ التَّصْدِیقِ بِهِ تَوْحِیدُهُ، وَکَمالُ تَوْحِیدِهِ الْإِخْلاصُ لَهُ، وَکَمالُ الْإِخْلاصِ لَهُ نَفْیُ الصِّفاتِ عَنْهُ».

ويعد نفي الصفات الذي هو كال الإخلاص لله (عزَّوجل) مرکوز فکر التوحيد عند أئمة العترة النبوية وفيه اختلفت المنظومة الفكرية في الأمة فبين القول بالصفاتية الجسمية والمكانية والضدية وبين ثبوت ليس كمثله شيء والتنزيه عن كل أمرٍ مشين. نشأت الفرق وتعددت المذاهب وظهر في الأمة توحیدان، توحيد القرآن والعترة النبوية (عليهم السلام) وتوحيد الخلافة.

فارتكز الأول وهو توحيد القرآن والعترة على أن الطريق الموصل إلى الله تعالى وإحراز رضاه ودخول جنته هو التمسك بالقرآن والعترة والأخذ بما يرد عنها ونبذ مايرد في خلافهما.

وكان مرکوز توحيد الخلافة مبايعة الخليفة كي لا يموت المسلم وليس في عنقه بيعة فيموت ميتةً جاهلية، وبذل الطاعة للخليفة والتسليم لأمره؛ فهي

ص: 21

المحرز لرضا الله ودخول جنته، وأنَّ معصية أمر الخليفة والخروج على طاعته يوجب القتل والدخول إلى النار.

فسار الناس على ذلك منذ الجلوس في مجلس الخلافة عام (11، للهجرة النبوية) والى يومنا هذا؛ فمن خالف سنة العمریان ورفض الإئتمام بهما كان رافضياً مهدور الدم والمال والعرض.

حتی أذن الله تعالى فأزاح الهم وكشف سحائب الجهل فأظهرت آیاته التي تلازمت مع الرأس المقدس (عليه السلام) صدق دعوى العترة النبوية حينما شاهد المسلمون رأس ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتلو القرآن على رمح يطاف به في البلاد فانقذ الله به العباد.

ولذا: استطاعت هذه المظاهر الإعجازية على توحيد الفكر في الرجوع إلى عقيدة توحيد العترة النبوية (عليهم السلام)، ونبذ توحيد الخلافة، فاستبصر من كان له قلب «أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ».

رابعًا- النظرية البنائية الوظيفية (The structure Function).

إن من مقتضيات دراسة المجتمع والتحولات الفكرية فيه هو الرجوع إلى النظريات المعاصرة في علم الاجتماع، ومنها النظرية البنائية الوظيفية، كما تسمى أيضًا ب (نظرية الأنساق العامة) وغيرها من الأسماء.

ولقد حظيت هذه النظرية بمجال واسع من الاهتمام لدى المهتمين بدراسة المجتمع إذ (تعد البنائية الوظيفية من النظريات السويسولوجية التي شغلت حيزًا كبيرًا في أدبيات علماء الاجتماع خاصة في بداية القرن العشرين،

ص: 22

واحتلت مكانة مرموقة بين نظرياته؛ ونشير في هذا السياق إلى أن هذه النظرية لم تأت نتيجة جهد عالم بعينه، بل تضافرت جهود العديد منهم في مجالي علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية في أرساء دعائم هذا التيار)(1).

وفي ظهور هذه النظرية من حيث الزمان فقد ظهرت (في أعقاب كل من البنوية الإجتماعية على ايدي كلًا من (کلاوس ليفي ستراوس) و (كلودن ویزبر) عندما نشر العالمان كتابي (أبنية القرابة) والطوطمية) على التوالي.

والوظيفة على ايدي كلًا من ماكس فيبر، و أميل دوركايم، و ولیم کراهام سنمر، في مؤلفاتهم المنشورة (الدين والاقتصاد) وتقسيم العمل في المجتمع) و (طرق الشعوب) علما بأن ظهورها کان کرد فعل للتراجع والضعف والاخفاق الذي منيت به كل من البنوية والوظيفية، لكون كل منهما أحادية الجانب.

ذلك أن البنوية تفسر المجتمع والظاهرة الاجتماعية وفقًا للاجزاء والمكونات والعوامل المفردة التي يتكون منها البناء الاجتماعي بعيدة عن هذه الأجزاء والنتائج المتمخضة عن وجودها.

في حين أن الوظيفة تفسر الظاهرة الإجتماعية تفسيرًا يأخذ بعين الاعتبار نتائج وجودها وفعالياتها بعيدًا عن بنائها والأجزاء التي تتكون منها.

لهذا ظهرت النظرية النبوية الوظيفية لتنظر إلى الظاهرة أو الحادثة الاجتماعية على انها وليدة الأجزاء أو الكيانات النبوية التي تظهر في وسطها

ص: 23


1- البنائية الوظيفية أو دارسة الواقع أو المكانة؛ للأستاذ حمیدشة نبيل؛ مجلة البحوث والدراسات الإنسانية، جامعة أوت سکیکدة؛ العدد (5)

وان لظهورها وظيفة اجتماعية لها صلة مباشرة أو غير مباشرة بوظائف الظواهر الأخرى المشتقة من الأجزاء الأخرى للبناء الاجتماعي)(1).

ويرى الوظيفيون أو رواد النظرية الوظيفية لاسيما (روبرت ميرتون) (سنة 1957 م) أن الإطار العام للنظرية البنائية الوظيفية يكمن في جملة من (الافتراضات والتي يمكن حصرها فيما يلي:

1- النظر إلى المجتمع على أنه نظام يتكون من عناصر مترابطة، زتنظیم نشاط هذه العناصر بشكل متكامل.

2- يتجه هذا المجتمع في حركته نحو التوازن، ومجموع عناصره تضمن استمرار ذلك، بحيث أنه عندما يحدث أي خلل في هذا التوازن فإن القوى الاجتماعية سوف تنشط لإستعادة هذا التوازن.

3- كل عناصر النظام والانشطة المتكررة فيه تقوم بدورها في المحافظة على استقرار النظام.

4- الأنشطة المتكررة في المجتمع تعتبر ضرورة لاستمرار وجوده، وهذا الاستمرار مرهون بالوظائف التي يحددها المجتمع للأنشطة المتكررة تلبية لحاجته)(2)

ولقد سعى رواد هذه النظرية إلة وضع جملة من المبادئ الأساسية

ص: 24


1- النظرية البنائية الوظيفية، ظهورها، روادها مبادئها، وتطبيقاتها العالمية؛ جامعة ابن طفيل - القنيطرة، بتاریخ 26 مایو 2015 م
2- نظريات الاعلام واتجاهات التأثير، تأليف: محمد بن عبد الحميد، ص 131 ط 2، عالم الكتب، القاهرة، 2000 م

المتكاملة التي (كل مبدأ فيها يكمل المبدأ الآخر، منها:

1- يتكون المجتمع او المجتمع المحلي او المؤسسة أو الجماعة مهما یکن غرضها وحجمها من اجزاء ووحدات مختلفة بعضها عن بعض وعلى الرغم من اختلافها الا انها مترابطة ومتساندة ومتجاوبة واحدتها مع الاخرى.

2- المجتمع او الجاعة او المؤسسة يمكن تحليلها تحليلا بنيويا وظيفيا الى اجزاء و عناصر اولية أي ان المؤسسة تتكون من اجزاء او عناصر لكل منها وظائفها الاساسية.

3- ان الاجزاء التي تحلل اليها المؤسسة او المجتمع او الظاهرة الاجتماعية انما هي اجزاء متكاملة فكل جزء يكمل الجزء الاخر وان أي تغيير يطرأ على احد الاجزاء لابد ان ينعكس على بقية الاجزاء وبالتالي يحدث مایسمی بعملية التغير الاجتماعي.

من هنا: تفسر النظرية البنيوية الوظيفية التغير الاجتماعي بتغير جزئي يطرأ على احد الوحدات او العناصر التركيبية وهذا التغير سرعان ما يؤثر في بقية الاجزاء)(1).

وعرفت النظرية البنائية الوظيفية بتعريفات عديدة منها:

(اتجاه فكري في علم الاجتماع يتألف من عنصرين أساسين ومترابطين يتمثلان في نموذج تصوري للمجتمع، وإطار منهجي لتحليل هذا المجتمع.

ص: 25


1- النظريو البنائية الوظيفية، ظهورها، روادها؛ جامعة ابن الطفيل، القنيطرة؛ بتاريخ 26 مایو، 2015 م

ويعد مفهوم النسق هو الأساس الفكرية للوظيفية، ولقد دخل هذا المفهوم إلى علم الاجتماع من مصدرين، هما الكلاسيكي ويتمثل في الآراء الوظيفية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والمصدر المعاصر في نظرية الأنساق)(1).

ولقد ساهم كلًا من (رادکیلف بروان) و (أميل دور کایم) و (تالکوت بارسونز) بالبناء المفهومي للنظرية البنائية الوظيفية.

وذلك أن ((رادکیلف بروان)) يرى أن (المجتمع كلٌ متكاملٌ يسعى إلى الحفاظ على استمراريته، وأكد على الوحدة الوظيفية لكل نسق اجتماعي، وعلى تنظيمها مع بعضها لتسهم في تحقيق هدف معين، وأعتبر بشكل متميز كلا من مفهومي الوظيفية والبنائية أداتي تحليل ضرورتين لفهم كل عنصر اجتماعي أو ثقافي)(2).

في حين كان التأثير المتميز في نضوج هذه النظرية في الدراسات الاجتماعية يعود إلى ((أميل دوركايم)) وذلك لكونه (أول من استعمل النظرية الوظيفية بشكل منظم في تفسيره لجوانب اجتماعية متعددة عبر سؤاله عن الأدوار الوظيفية التي قامت بها هذه الحقائق الاجتماعية في المحافظة على النظام الاجتماعي كنظام كلي، فقد وجد أن الذي يمتلك وظيفة إرساء مجموعة من القيم الشائعة التي تعزز الوحدة والتماسك لدى من يؤمنون بتلك المعتقدات هو من يبني المجتمع، والمدارس كذلك لها وظيفة نقل الثقافة من جيل إلى جيل)(3).

ص: 26


1- النظرية الوظيفية ومفهوم النسق الاجتماعي، جامعة ابن الطفيل، علم الاجتماع، مقال نشر بتاريخ 26 / مايو / 2015 م
2- الاتصال ونظرياته المعاصرة، حسن عماد، ليلى حسين السيد، ص 124، ط الدار المصرية اللبنانية، القاهرة لسنة 2006 م
3- نظرية علم الاجتماع طبيعتها وتطورها، نیوکولا تیماشیف؛ ترجمة: محمود عودة وأخرون، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية لسنة 1999 م: ص 405

في حين يعود تحليل المجتمع ودراسته عبر النسق في النظرية البنائية الوظيفية للعالم الأمريكي ((بارسونز)) فهو يرى أن (المجتمع بمثابة نسق أو نظام أو بناء يشمل مجموعة من العلاقات الثابتة نسبيًّا بين الأفراد).

ولقد اهتم (بارسونز) بشكل كبير بالفعل الاجتماعي بكومة الوحدة الأساسية للحياة الاجتماعية (فما من صلة تقوم بين الأفراد والجماعات، إلا وهي مبنية على الفعل الاجتماعي، وما أوجه التفاعل الاجتماعي إلا أشكال للفعل التي تتباين في اتجاهاتها وأنواعها ومساراتها، ولهذا يعد الفعل عنده الوحدة التي يستطيع الباحث من خلالها رصد الظواهر الاجتماعية وتفسير المشكلات التي يعاني منها الأفراد، وتعاني منها المؤسسات على اختلاف مستويات تطورها)(1).

وتشهد الدراسة التي بين ايدينا مجموعة من الأفعال الاجتماعية التي سبقت استشهاد الإمام الحسين (عليه الصلاة السلام) وبهذه الطريقة المأساوية والمفجعة أو التي أعقبت الاستشهاد وما ظهر من التأثير في الأفعال الاجتماعية سواء على مستوى الفردانية أو الجماعية في المدن الإسلامية وهي (الكوفة والشام وما كان بينهما من قرى ومحطات - کما سیمر بیانه -.

ولذا: شكّل الفعل الاجتماعي لدى بارسونز وتطويره للنظرية البنائية الوظيفية عاملًا أساس في دراسة المجتمعات وتكوينها وذلك أن الفعل الاجتماعي هو (سلوك إرادي لدى الإنسان لتحقيق هدف محدد، وغاية بعينها، وهو يتكون من بنية تضم الفاعل بما يحمله من خصائص وسمات تميزه من غيره من الأشخاص.

ص: 27


1- علم الاجتماع السوسيولوجي؛ مدونة علم الإجتماع المغربي

وموقف يحيط بالفاعل ويتبادل معه التأثير؛ وموجهات قيمية وأخلاقية تجعل الفاعل يميل إلى ممارسة هذا الفعل أو ذاك، والإقدام على ممارسة هذا السلوك أو غيره)(1).

وهذا ما سعى الباحث إليه في هذه الدراسة، أي دراسة سلوك الإنسان وما الذي جعله يميل إلى ممارسة هذا الفعل أو ذلك، والأقدم على ممارسة هذا السلوك أو غيره.

ودراسة أنماط استجابته ضمن النسق الاجتماعي والنسق الثقافي والنسق الشخصي.

وسيمر في مباحث الدراسة المزيد من البيان حول هذه النظرية واثرها في دراسة المجتمع الإسلامي وبيان الآثار التي أدت إلى تغيير فكر التوحيد وخلق عقيدة مخالفة للمنظومة الفكرية التي جاء بها القرآن والنبي (صلى الله عليه وآله).

خامسًا- الأنثروبولوجيا الثقافية (Cul Thru Anthropology).

لقد استعان الباحث - وكما مرت الإشارة إلى ذلك في المقدمة - بالحقل المعرفي الأنثروبولوجي أو كما يعرف ب (علم الإناسسة).

والأنثروبولوجيا: هي في الأصل كلمة يونانية مكونة من (anthropos) ومعناها الإنسان، ومن (logos) ومعناها: (علم). مكونة بذاك المصطلح، وهو (anthropology)، أي: علم الإنسان.

ص: 28


1- المصدر نفسه

وقد عرّفها جملة من الباحثين، فكانت منها:

1- تعريف مارغريت ميد (1901 م – 1979 م) وقد خلصت في تعريفها عبر المجال الذي يسلكه الباحث وهو: (وصف الخصائص البيولوجية، والثقافية للجنس البشري عبر الأزمان، وفي مختلف المناطق، و تحليل الصفات البيولوجية والثقافية والمحلية كأنساق مترابطة ومتغيرة، ووصف النظم الاجتماعية والتكنولوجية وتحليلها، والبحث في الإدراك العقلي للإنسان و ابتکاراته ومعتقداته ووسائل اتصالاته)(1).

2- وقال عيسى الشماس في تعريف الأنثروبولوجيا بأنها: (العلم الذي يدرس الإنسان من حيث هو كائن عضوي حي، يعيش في مجتمع تسوده نظم و أنساق اجتماعية في ظل ثقافة معينة، ويقوم بأعمال متعددة، ويسلك سلوکًا محدودًا وهو ایضًا العلم الذي يدرس الحياة البدائية والحياة الحديثة المعاصرة، ويحاول التنبؤ بالمستقبل الإنسان معتمدًا على تطوره عبر التاريخ الإنساني الطويل، ولذا: يعتبر علم دراسة الإنسان علمًا متطورًا، يدرس سلوكه وأعماله)(2).

3- وعرّفه علي عبد الله الجباوي، ب (ذلك العلم الشمولي الذي يدرس الإنسان وأعماله، الذي تتمحور أبحاثة حول طبيعة الإنسان كمخلوق ينتمي إلى العالم الحيواني، وإنه الوحيد الصانع للثقافة، ومبدعها، والقادر على التفكير المجرد، والعيش ضمن جماعة، يرتبط أفرادها بروابط اجتماعية، وثقافية، وروحية غير ثابتة، لارتباطها بظروف متنوعة، ومتحركة، تحيط بهذه

ص: 29


1- قصة الأنثروبولوجيا فصول في تاريخ علم الإنسان، حسين فهيم: ص 13؛ سلسلة عالم المعرفة، الكويت تسلسل (98)، (1986 م)
2- مدخل إلى علم الإنسان، لعيسى الشاس، ص 13 - 14

الجماعة أو تلك التي تختلف في الزمان والمكان، والتي تنعكس بدورها على تلك الروابط مما يجعلها تتباين شكلًا ومضمونًا)(1).

ومن هذه التعاريف وغيرها:

(يرى علماء الأنثروبولوجيا أن المهمة الأساسية لعلم الأنثروبولوجيا هي تمكيننا من فهم أنفسنا عن طريق فهم الثقافات الأخرى فعلم الأنثروبولوجيا أكثر وعيا بالوحدة الأساسية للإنسان، مما يسمح لنا أن نقدر ونفهم بعضنا البعض)(2).

ولذلك اهتم علماء الأنثروبولوجيا بهذه الثقافات لكونها أحد الطرق التي ترشدنا إلى معرفة الإنسان في هذا المجتمع أو ذاك وإلى معرفة الروابط المشتركة بين هذه المجتمعات، لأن الغرض هو معرفة هذا الإنسان.

ومن هنا يقول عالم الاجتماع البريطاني ماكس فيبر: (إنه لفهم مجتمع ما يبغي أن نستعمل فهم الأهالي، ويسمي ماكس فيبر - علم اجتماعه بعلم الاجتماع الفعلي، ويسمى المدروس الفاعل الاجتماعي.

ويقول:

إن الباحث قد لا يستطيع أن يتجرد، ولكن أهم وسائل تجرده و موضوعيته هو أنه يسعى إلى السؤال الملح والدائم:

لماذا يتصرف هؤلاء الناس بهذه الصورة؟.

ص: 30


1- علم خصائص الشعوب، علي عبد الله الجباوي، ص 7
2- الإسلام والأنثروبولوجيا لأحمد باقدر: ص 85

فهم قد يتصرفون في ظاهرة واحدة، وربما بشروط واحدة، ولها معان ودلالات مختلفة)(1).

فهم يتصرفون في ظاهرة واحدة، على الرغم من اختلاف قبائلهم؟، بمعنى لم يكن السبب في جمعهم القرابة وصلة الدم، کما لم يكن السبب دینیًّا، بمعنى لم يكن الطرفان من ملتين مختلفتين فكلهم على دين الإسلام ومن تجمعوا لقتله هو ابن بنت نبيهم (صلى الله عليه وآله)، فلماذا يتصرفون بهذه الصورة، (وربما بشروط واحدة)، وهو النزول على حكم یزید بن معاوية، أو الحرب، هذا السؤال يدفعنا إلى الرجوع إلى علم الأنثروبولوجيا لدراسة هذه الظاهرة التي اختص بها الإنسان الكوفي في يوم الطف.

ولقد تطور هذا الحقل المعرفي وبرزت فيه جملة من التخصصات التي أخذت تدرس سلوك الإنسان وأنماط تفكيره والمؤثرات في بناء ثقافته ومفاهيمه فكان من هذه التخصصات: الأنثروبولوجيا الثقافية وتفرعاتها. (Anthroplgy Cultur)

وتعرف الأنثروبولوجيا الثقافية، بأنها: (ذلك العلم الذي يهتم بدراسة الثقافة الإنسانية، ويعني بدراسة أساليب حياة الإنسان، وسلوكاته النابعة من ثقافته، وهي تدرس الشعوب القديمة، كما تدرس الشعوب المعاصرة)(2).

وقد أخضعت هذه الدراسة إلى معطيات هذا العلم ومرکوزه الذي اهتم به العلماء وهو التثاقف والمثاقفة لدراسة المتغيرات في ثقافة المجتمع المسلم في

ص: 31


1- المصدر نفسه: ص 35
2- مقدمة في الأنثروبولوجيا العامة، رالف. ل. هو يجر بيلز: ص 21

النصف الأول من القرن الهجري، وذلك لفهم هذه السلوكيات التي ظهرت لدى الصحابة والتابعين لتصل إلى ذروتها في مأساة الإسلام في كربلاء.

سادسًا - التثاقف و (المثاقفة) Acculturation

يحتل مصطلح التثاقف مكانته النشوئية والمفهومية والتطويرية في علم الأنثروبولوجيا الثقافية (الأناسة الثقافية) وهو ما زال يشغل حيزًا واسعًا و في الدراسات الأنثروبولوجيا لا سيما شهود الثقافة العالمية مرحلة الاتصال المباشر والسريع عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

ومن ثم نجده، أي التثاقف حاضرًا في الأبحاث الأناسية المعاصرة وذلك عبر إعادة دراسة التثاقف من حيث المفهوم والأثر والخصائص والإجراءات، وللوقوف على معرفة التثاقف فلا بد من المرور بالأمور الآتية :

ألف- تعريف التثاقف.

إن زيادة الاهتمام بمصطلح التثاقف في الدراسات الأنثروبولوجية وذلك بفعل المتغيرات الثقافية وأنماطها والتسارع والتقارب والاحتكاك بين الثقافات الإنسانية مما جعل زيادة في ظهور التعريفات الخاصة به، فكان منها:

1- تأثر الثقافات بعضها ببعض نتيجة الاتصال بين الشعوب والمجتمعات مهما كانت طبيعة هذا الاتصال(1).

2- التأثير الثقافي المتبادل فيما بين ثقافتين مختلفتين بعد حدوث احتكاك مطول

ص: 32


1- مدخل إلى علم الإنسان، لعيسى الشاس: 146 طبع اتحاد الكتاب العرب / دمشق

بينها بحيث تتعدل المسالك الثقافية والاجتماعية عند أحد الفرقاء أو عند الاثنين(1).

3- وعرّفه العالم الأمريكي الأنثروبولوجي مايرز هير سكوفيتش (1895 م - 196 م):

(الظواهر التي تنتج عن الاتصال المستمر والمباشر بين المجموعات من الأفراد ذوي الثقافات المختلفة فضلًا عن التغييرات في الثقافات الأصلية)(2).

4- وعرّفه دوني کوش: (مجموع الظواهر الناتجة من تماس موصول ومباشر بين مجموعات أفراد ذوي ثقافات مختلفة تؤدي إلى تغيرات في النماذج الثقافية الأولى الخاصة بإحدى المجموعتين أو كلیهما)(3).

5- تغير ثقافي يحصل في ظروف معينة بموجب اتصال بين ثقافتين أو أكثر متناقضتين تناقضا ظاهریًّا، ويتضمن التثاقف عددًا كبيرًا من المتغيرات(4).

باء- التثاقف من الخارج.

إن قراءة التعريفات السابقة للتثاقف من حيث البنية النشوئية للمصطلح يتضح أنها مرت بمراحل من التطور المفهومي والبنائي الذي لا يكاد ينفك عن جوهر مفهوم التثاقف ذاته.

ص: 33


1- معجم العلوم الاجتماعية، لفريدريك معتوق: ص 20 ط أكادیمیا - بيروت
2- من التثاقف إلى عمليات المثاقفة، تقديم وترجمة أحمد رباص anfasse.okg
3- مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، دوني كوش، ترجمة منير السعداني ص 93 ط مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت 2007)
4- المعجم التربوي لسعدية الجهوية: ص 3، ط / المركز الوطني للوثائق التربوية - الجزائر 2009 م

ص: 34

الفصل الأول رأس الإمام الحسین (علیه السلام) بین الصلب وتلاوة القرآن

ص: 35

ص: 36

توطئة

إن المتغيرات الجذرية في عقدية المجتمع الإسلامي ورسوخها في أذهان الناس، حتى تبلورت ضمن جملة من الأحداث التي قادها بعض الرموز من الصحابة في مختلف الميادين الحياتية، قد أدت إلى تعري هذه العقيدة الجديدة وانکشافها للجميع على أرض کربلاء فما كان مستحسنًا ومقبولًا، ظهر قبیحًا ومرفوضًا لا سيما لدى أولئك الذين وجدوا أنفسهم أنَّهم من حملة الإسلام وأنصاره، وأنّهم أبناء أولئك الصحابة الذين سبقوا إلى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وجاهدوا بين يديه وناصروه.

فضلًا عن أنّ العامة من المسلمين قد تلقوا بفعل مجريات يوم عاشوراء وما جرى على ابن بنت نبيهم (صلى الله عليه وآله) وحُرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) صدمة عقدية أعادت كثيرًا منهم إلى رشده وأزاحت عن بصيرتهم الغشاوة، وبددت عنهم ظلمات الغفلة، وهم يرون رأس الإمام الحسين (عليه السلام) يتلو القرآن من فوق الرمح، ويرى بكاء السماء تمطر دمًا، وكذا حال الشجر والحجر وغيرها من الآيات والمعاجز التي تبعت الحادثة ورافقت رحلة الرأس المقدس وهو ينقل من بلد إلى بلد.

وإذا بالسلطة الأموية قد استدرجها الله تعالى لتقتل نفسها بنفسها، وتعيد إلى المسلمين رشدهم وعقيدتهم في التوحيد المحمدي، وتخرجهم من قيود سنة العمريان والأمويان وتوحيد الخلافة؛ فشاءوا شيئًا، وشاء الله (عزّ وجلّ) شيئًا آخر، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين، فاستدرجهم الله ببغيهم وظلمهم إلى حيث لا يشعرون وعاد التوحيد المحمدي إلى أمة التوحيد.

ص: 37

وها هو الرأس المقدس يبث الروح في التوحيد ويعيد له الحياة لينمو في أمة التوحيد ويوحدّ فکرها، فكان من أعجب الحلول التي اختارها الله تعالى لخير أمة أخرجت للناس.

وذلك إنّ مركوز الإصلاح لعقيدة التوحيد هو ما ظهر من الرأس المقدس (عليه السلام) من مظاهر مخالفة للطبيعة البشرية، وأثار هذه المظاهر على الإنسان في الحقل العقدي والنفسي والاجتماعي، ومن ثم ليطال الإصلاح الإنسان والمجتمع، سواء في زمن الحدث ومن شهده أم من جاء بعد ذلك وهو يسمع أو يقرأ ما دونه المؤرخون والمحدثون عن هذه المظاهر الإعجازية.

وعليه:

يشتمل الفصل على مبحثين: الأول نبدأه ببيان رحلة رأس الإمام الحسين (عليه السلام) في المعطيات التاريخية والحديثية لدى المسلمين، ثم يتبعه الثاني بيان المظاهر الإعجازية والآيات الربانية للرأس المقدس (عليه السلام).

ص: 38

المبحث الأول طواف الرأس المقدس (علیه السلام) في المدن الإسلامیة وصلبه

ص: 39

ص: 40

المسألة الأولى: إخراج رأس الإمام الحسين (علیه السلام) من كربلاء عاجلًا.

أجمع المؤرخون على إخراج الرأس المقدس (عليه السلام) من كربلاء في يوم العاشر من شهر محرم الحرام، ولم يمهل عمر بن سعد بن أبي وقاص في بقاء رأس الإمام الحسين (عليه السلام) مع نساء النبوة والأطفال، وأخذهم سبايا إلى والي الكوفة عبيد الله بن زياد، وقد جاءت أقوالهم لتؤكد أنّ إخراج الرأس الشريف (عليه السلام) كان من ساعة استشهاد سيد شباب أهل الجنة.

1- قال الدينوري (ت: 282 ه) وابن العديم الحلبي (ت: 660 ه).

(وبعث عمر بن سعد برأس الحسين (عليه السلام) من ساعته إلى عبيد الله بن زیاد مع خولّی بن یزید الأصبحي، وأقام عمر بن سعد بكربلاء بعد مقتل الحسين (عليه السلام) يومين، ثم أذن في الناس بالرحيل، وحملت الرؤوس على أطراف الرماح)(1).

الرواية تدلّ بوضوح على الإسراع في إخراج الرأس المقدس (عليه السلام) وذلك بدلالة لفظ: (من ساعته)؛ ومما يدل على ذلك أيضًا الرواية الأتية:

2- وقال البلاذري (ت: 279 ه) والطبري (ت: 310 ه)، وابن كثير (ت: 774 ه).

ص: 41


1- الأخبار الطوال للدينوري: ص 259؛ بغية الطلب في تاريخ حلب: 660 ص 263

(وبعث عمر برأس الحسين (عليه السلام) من يومه مع خولّی بن یزید الأصبحي من حمير، وحميد بن مسلم الأزدي إلى ابن زیاد، فأقبلا به لیلاً فوجدا باب القصر مغلقاً)(1).

ويكشف وصولهما إلى قصر الإمارة في الليل عن سرعة إخراج الرأس الشريف من كربلاء في يوم العاشر من المحرم.

أما العلة في سرعة إخراج رأس الإمام الحسين (عليه السلام) من كربلاء فتعود إلى بعض الأمور، منها:

1- إيصال خبر حسم المعركة عسكريا إلى والي الكوفة وقتل ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).

2- إشاعة الرعب في نفوس الموالين الذين تخفوا لكي لا يظفر بهم ابن زیاد.

3- منع وصول المدد من أهل البصرة لا سيما وأن الإمام الحسين (عليه السلام) بعث إليهم کتابًا.

4- قطع الطريق على بعض القيادات العشائرية في محاولتها للإنتفاع من خروج الإمام الحسين (عليه السلام)، لا سيما وأنَّ الكوفة متغيرة في أحوالها.

5- الوصول إلى بيت قائد الجيش لغرض طمأنتهم على سلامة عمر بن سعد، وهو ما أورده أبو مخنف عن سلمان بن أبي راشد عن حمید بن مسلم

ص: 42


1- أنساب الإشراف: ج 3 ص 206 تاريخ الطبري: ج 4 ص 348؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 8 ص 206؛ اللهوف للسید ابن طاووس: ص 84؛ جواهر المطالب للباعوني الدمشقي: ج 2 ص 290؛ نهاية الارب للنويري: ج 20 ص 463 الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 4 ص 80؛ الارشاد للمفيد: ج 2 ص 113

قال: (دعاني عمر بن سعد فسر حني إلى أهله لأبشرهم بفتح الله عليه و بعافيته فأقبلت حتى أتيت أهله فأعلمتهم بذلك)(1).

6- للحصول سريعًا على ما تمّ الإتفاق عليه فيما بينهما، أي الحصول على ملك الري.

7- نیل المنزلة عند ابن زیاد وذلك بما نقله مسروق بن وائل، بقوله:

(كنت في أوائل الخيل ممن سار إلى الحسين (عليه السلام) فقلت: أكون في أوائلها لعلي أصيب رأس الحسين فأصيب به منزلة عند عبيد الله بن زیاد)(2).

وعليه:

لم يسجل لنا التاريخ ظهور آیاتٍ للرأس المقدس في كربلاء، ولعل السبب في ذلك يعود إلى سرعة إخراج الرأس (عليه السلام) من كربلاء من ساعة وقوع الفاجعة كما دلّ عليه لفظ: ((من ساعته)) ووصوله إلى الكوفة ليلًا، مما يرشد إلى أنّ الأمر وقع عصر يوم عاشوراء أو قبل الغروب، ليستغرق إيصال رأس الإمام الحسين (عليه السلام) بید خولّي بن يزيد (لعنه الله)، ويرافقه حمید بن مسلم بضع ساعات، وذلك أنَّ المسافة التي يقطعها الحصان في سرعته القصوى سبعين كيلو مترًا في الساعة، وفي حالاتٍ نادرة قد تصل السرعة إلى ستة وسبعين كيلو مترًا في الساعة(3).

ص: 43


1- مقتل الحسين (عليه السلام) لأبي مخنف: ص 204؛ تاریخ الطبري: ج 4 ص 349
2- مقتل أبو مخنف: ص 126؛ تاریخ الطبري: ج 4 ص 328
3- وهي السرعة التي حققها الحصان المسمى ب (Winning Brew) على يد المدرب الامريكي (فرانسيس فيتالي) في سباق مدينة بنسليفنا في 14 / مايو / 2008

وهذا يعني أن الوقت المستغرق بين كربلاء والكوفة ربّما كان ساعتين وهذا يدل على أنّ إخراج الرأس الشريف کان قبل الغروب، وأن سبب إغلاق أبواب قصر الأمارة عند وصول خولّی بن یزید کما تنص الرواية التاريخية لا يعود إلى التأخير في الوصول أو طول المسافة، وإنمّا إلى الوضع الأمني في الكوفة الذي يستلزم هذه الإجراءات في إغلاق أبواب قصر الإمارة بعد المغرب.

المسألة الثانية: صلب رأس الإمام الحسين (علیه السلام) في الكوفة ودمشق والمدينة.

تناولت المصادر التاريخية تدوين هذه المأساة وكشفت عن حجم الإجرام الذي اقترفه الأمويون حكامًا وأشياعًا في المدن الإسلامية؛ وذلك في صلب رأس الإمام الحسين (عليه السلام) في الكوفة ودمشق والمدينة ليشهده الناس جميعًا في هذه المدن، ومن ثم فلهذا الحدث آثاره القوية على عقيدة التوحيد وخلق أنساقٍ جديدة في الثقافة والمجتمع مما كوَّن رشدًا ووعيًا لدى الأمة وأن تفاوتت مظاهر التأثير في هذه المدن.

أما كيفية وقوع الحدث في المعطيات التاريخية فكانت كالاتي:

أولًا- صلب الرأس الشريف في الكوفة.

روى أبو مخنف (ت 157 ه) والبلاذري (ت 279 ه) واليعقوبي (ت 284 ه) والطبري (ت 310 ه) وغيرهم:

أنَّ عبيد الله بن زیاد (لعنه الله) نصب رأس الحسين (عليه السلام) بالكوفة وجعل يدار به فيها، ثم دعا زحر بن قیس الجعفي فسرح معه برأس الحسين

ص: 44

(عليه السلام) ورؤوس أصحابه وأهل بيته إلى يزيد بن معاوية(1).

وقد ذكرت الروايات أن هناك آيات ظهرت للرأس الشريف في الكوفة وفي مواضع مختلفة - کما سیمر بیانه لاحقًا - فضلًا عن بعض المشاهد التي ترصد أثار الرأس الشريف على بعض الناس كزيد بن أرقم وغيره مما أعطى بيانًا لحقيقة الآثار الإصلاحية التي أحدثها الرأس في المتجمع والإنسان وهذا ما سنتناول بيانه في الفصل القادم.

ثانيًا- صلب الرأس الشريف في دمشق.

ذكر المؤرخون أنَّ الرأس الشريف حينما وصل إلى يزيد بن معاوية أمر بصلبه في دمشق ثلاثة أيام، وهو ما رواه ابن عساكر والذهبي(2).

أما ابن حبيب البغدادي (ت 245 ه)؛ والحلبي (ت 1044 ه)(3) فقد أشارا إلى أنَّ يزيد صلب الرأس الشريف (عليه السلام) في دمشق من دون الإشارة إلى عدد الأيام التي بقي فيها مصلوبًا.

أمّا مجريات الآيات والمعجزات التي حصلت لرأس الإمام الحسين (علیه السلام) في دمشق وقبل وصوله إليها، أي في طريقه من الكوفة إلى الشام فسيمر بیانه لاحقًا.

ص: 45


1- مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) لابن مخنف: ص 208؛ أنساب الأشراف للبلاذري: ج 3 ص 212؛ تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 23؛ تاریخ الطبري: ج 4 ص 315؛ تاریخ ابن عساکر: ج 18 ص 445؛ المنتظم لابن الجوزي: ج 5 ص 341؛ الوافي بالوفيات للصفدي: ج 14 ص 127؛ تاریخ مكة للحنفي: ص 284؛ بغية الطلب للعقيلي: 74
2- تاریخ ابن عساکر: ج 19 ص 160؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 5 ص 107؛ سیر أعلام النبلاء: ج 3 ص 319
3- المحبر لابن حبيب البغدادي: ص 490 ص؛ السيرة الحلبية: ج 3 ص 157

ثالثًا- صلب الرأس الشريف في المدينة النبوية. ذكر ذلك ابن حبيب البغدادي (ت 245 ه). فقال:

(وبعث - أي يزيد بن معاوية - برأس الحسين (عليه السلام) فنصب بالمدينة)(1).

وذكر الذهبي وابن سعد: أن يزيد بعث برأس الحسين (عليه السلام) إلى عامله على المدينة(2) عمرو بن سعید بن العاص، ولم يذكر الصلب.

وتكشف هذه المعطيات التاريخية أن الرأس المقدس (عليه السلام) قد صلب في العواصم الإسلامية الثلاثة، وهي:

1- عاصمة النبوة والخلافة والموسومة (بالخلافة الراشدة)، وهي المدينة المنورة.

2- عاصمة الخلافة الراشدة الثانية وهي الكوفة.

3- عاصمة الخلافة الأموية وهي دمشق.

وعليه:

فقد شهدت عواصم الخلافة الإسلامية هذا الحدث المروّع والجريمة البشعة والانتهاك المخزي لحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وليشهد ذلك من بقي من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبنائهم والتابعين لهم.

ص: 46


1- المحبر: ص 491
2- تاريخ الإسلام: ج 5 ص 20، ترجمة الإمام الحسين من الطبقات الکبری: ص 84

فقد شاء الله تعالى وكما أخبر سيد الشهداء (عليه السلام) عن ذلك منذ اللحظات الأولى لخروجه إلى كربلاء فقال ((شاء الله أن يراني قتيلا)) وأن يتم أصلاح التوحيد في هذه العواصم، وأن تشهد جملة من الآيات والمعجزات التي رافقت رحلة الرأس المقدس، وأعادت كثيرًا منهم إلى التوحيد القرآني والنبوي وليحفظ الله جلّ شأنه دينه الذي اصطفاه على الأديان في رمز التوحيد وابن سيد الخلق أجمعين (صلى الله عليه وآله).

فكيف جرت هذه الآيات الإلهية والمعاجز الربانية التي شهدها الناس من رأس الإمام الحسين (عليه السلام)، وما هو تأثيرها عليهم وعلى عقيدتهم وأفكارهم وأنساقهم الثقافية والاجتماعية؟

هذا ما سنتناوله في المبحث القادم.

ص: 47

ص: 48

المبحث الثاني المظاهر الإعجازیة للرأس المقدس (علیه السلام) في المعطیات التاریخیة

ص: 49

ص: 50

سجل التاريخ الإسلامي جملة من المظاهر الإعجازية لرأس الإمام الحسين (عليه السلام) في هذه الرحلة المأساوية من الكوفة، إذ شهدت جملة من المظاهر ثم في الطريق منها إلى دمشق، ثم من دمشق إلى المدينة، ثم العودة إلى الشام، ومنها إلى كربلاء في العشرين من صفر، وهو ما كشفته المصادر التاريخية وبات مشهورًا بين الناس إلى يومنا هذا.

إلّا أنّ الذي نحن بصدده في هذه الدراسة هي تلك المظاهر الإعجازية للرأس المقدس (عليه السلام)، ودراسة آثارها العقدية والثقافية والاجتماعية.

لا سيما في مدينة الكوفة ودمشق وما بينهما، إذ إنَّ دراسة هذه الرحلة ترشد إلى أنّ هذه المظاهر الإعجازية قد وقعت في هذه الأماكن الثلاثة، أي الكوفة، وفي الطريق إلى الشام وفي دمشق کما سیمر بیانه.

وعليه:

فإنّ التدبير الإلهي لهذه المظاهر الإعجازية قد رسم عينة الإصلاح وارتداداتها على الناس في هذه المدن، لاسيما وأنّها مناطق أهل الجريمة قادةً وأتباعًا، ومن ثم لم يسجل لنا التاريخ أي مظهر من مظاهر الإعجاز والآيات الربانية التي حدثت لرأس الإمام الحسين (عليه السلام) في المدينة المنورة.

ولعل ارتدادات ما حدث في هذه المدن من الإعجاز سيكون أقوى في تلقي الصدمة وتحقيق هدفها في إعادة المسلمين إلى التوحيد المحمدي.

أما هذه المظاهر الإعجازية فكانت كالاتي:

ص: 51

المسألة الأولى: ظهور أولى الآيات الإعجازية للرأس المقدس في الكوفة ليلة الحادي عشر.

الرأس الشريف في الكوفة في ليلة الحادي عشر من المحرم وظهور أولى الآيات له.

يروي البلاذري والطبري وغيرهما من المؤرخين:

أنّ خولّی بن یزید حينما أقبل إلى الكوفة ووجد باب قصر الأمارة مغلقًا (أتى منزله - ومعه رأس الإمام الحسين (عليه السلام) - فوضعه تحت إجانة في منزله وله امرأتان: امرأة من بني أسد، والأخرى من الحضرميين، يقال لها النوار ابنة مالك بن عقرب، وكانت تلك الليلة ليلة الحضرمية، قال هشام فحدثني أبي عن النوار بنت مالك قالت: أقبل خولي برأس الحسين فوضعه تحت إجانة في الدار ثم دخل البيت فأوى إلى فراشه، فقلت له: ما الخبر؟ ما عندك؟ قال: جئتك بغنى الدهر هذا رأس الحسين معك في الدار، قالت، فقلت: ويلك جاء الناس بالذهب والفضة وجئت برأس ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)!، لا والله لا يجمع رأسي ورأسك بيت أبدًا، قالت فقمت من فراشي فخرجت إلى الدار فدعا الأسدية فأدخلها إليه وجلست أنظر، قالت: فوالله ما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الإجانة، ورأيت طيرًا بيضًا ترفرف حولها، قال: فلما أصبح غدا بالرأس إلى عبيد الله بن زیاد)(1).

وتكشف الرواية عن جملة من الأمور:

ص: 52


1- أنساب الأشراف: ج 3 ص 206؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر» ج 3 ص 217؛ تاريخ الطبري: ج 4 ص 348؛ مثير الأحزان لابن نما: ص 66؛ الكامل في التاريخ: ج 4، ص 80؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 8 ص 206

1- إنّها أولى الآيات التي ظهرت ورافقت الرأس المقدس من كربلاء إلى المدن الإسلامية.

2- وجود كثيرٍ من المسلمين رجالًا ونساءً على وعي معرفي بمنزلة الإمام الحسين (عليه السلام)، وأنّهم على خلاف مع السلطة الأموية.

3- وجود الأرضية النفسية والفكرية التي تصلح لإنبات عقيدة التوحيد القرآني والمحمدي في نفوس المسلمین کما سیمر في المباحث القادمة.

المسألة الثانية: قراءة الرأس المقدس لسورة الكهف في الكوفة وتحنحنه قبل القراءة.

إنَّ مما سجله التاريخ أنّ رأس الإمام الحسين (عليه السلام) بعد أن أدخل على عبيد الله بن زياد، وأمره بإدخال الناس إلى قصر الإمارة، وما جرى بينه وبين الرأس المقدس - والذي سنورده لاحقًا - قام فأمر بأن يطاف بالرأس المقدس في أزقة الكوفة؛ ثم بصلبه في منطقة تدعى بالصيارفة، وفي هذه الحركة والتجوال برأس الإمام الحسين (عليه السلام) ظهر ما لم يكن متوقعًا؛ بل ولم يخطر على بال أحدٍ من الناس أن يرى رأس الإمام الحسين (عليه السلام) يقرأ القرآن، وقد اختار منه سورة الكهف، فكان هذا الحدث العجيب كالاتي:

أولًا- تحنحن الرأس وتلاوته سورة الكهف.

روی ابن شهر آشوب قائلًا:

(روى أبو محنف عن الشعبي: أنَّه صُلَب رأس الحسين بالصيارف في الكوفة فتنحنح الرأس وقرأ سورة الكهف إلى قوله:

ص: 53

«إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى»(1).

ثانيًا- تلاوة الرأس المقدس لقوله تعالى «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ».

وفي أثر رواه أيضا ابن شهر آشوب فقال:

(أنهم لما صلبوا رأسه على الشجرة سمع منه:

«وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»(2))(3).

ثالثًا- سماع زيد بن أرقم الرأس المقدس يتلوا آية الكهف.

روى الشيخ المفيد (عليه الرحمة والرضوان)، والطبرسي (ت: 548 ه) والمشغري (ت: 664 ه) عن زيد بن أرقم، أنَّه قال:

(مرّبيّ - أي رأس الإمام الحسين (عليه السلام) - وأنا في غرفة، فلما حاذاني سمعته يقرأ:

«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا»(4).

فَقَفَّ والله شعري، ونادیت:

رأسك والله يابن رسول الله أعجب وأعجب!!(5).

ص: 54


1- سورة الكهف، الآية: 13
2- سورة الشعراء، الآية: 227
3- مناقب آل ابي طالب لابن شهر آشوب: ج 3 ص 218
4- سورة الكهف، الآية: 9
5- الإرشاد: ج 2 ص 117؛ اعلام الوری ج 1 ص 473، الدر النظيم

وقد سجل التاريخ حضور زيد بن أرقم في مجلس عبيد الله بن زياد ومواجهته له حينما رآه ينكت ثغر الإمام الحسين (علیه السلام)؛ کما سیمر بيانه في دراسة الآثار الإصلاحية التي أحدثها الرأس المقدس (علیه السلام) لكن الروايات لم تتناول مشاهدة زيد بن أرقم وسماعِه رأس الإمام الحسين (علیه السلام) وهو يقرأ القرآن.

ولعل أول من ذكر ذلك - بحسب ما توفر لدي من مصادر - هو الشيخ المفيد (عليه الرحمة والرضوان)، ثم نقل عنه المؤرخون ذلك في مصنفاتهم إلا أنّ هذا الأمر لم يكن بمعارض لهذه الحقيقة التاريخية والإعجازية التي ظهرت للرأس المقدس في قراءته للقرآن، أو تكلمه مع بعض الناس سواء كان ذلك في الطريق بين الكوفة والشام، أم في نصب الرأس في دمشق وطوافهم به في أزقتها وسماع عمرو بن المنهال لهذه القراءة وتحديثه بما رأى من الآيات للرأس المقدس کما سیمر لاحقًا.

أما ما تبع الآيات التي ظهرت للرأس المقدس في الكوفة فيقول، الشيخ المفيد:

(ولما فرغ القوم من الطواف به بالكوفة؛ ردوه إلى باب القصر، فدفعه ابن زیاد إلى زحر بن قيس، ودفع إليه رؤوس أصحابه، وسرحه إلى يزيد بن معاوية، عليهم لعائن الله ولعنة اللاعنين في السموات والأرضيين(1)، وأنفذ معه أبا بردة بن عوف الأزدي، وطارق بن أبي ظبيان في جماعة من أهل الكوفة حتی ورودوا بها على يزيد بدمشق)(2).

ص: 55


1- اللهم آمين بعدد ما أحاط به علمك ومنتهی عدلك و حكمك وقضاءك، وعلى من أسس أساس الظلم والجور على نبيك وعترته الأخيار وصلواتك عليهم أجمعين
2- الارشاد للمفيد: ج 2 ص 118

رابعًا- مخاطبة الرأس المقدس لأحد الرجال الذين يتناوبون على حمله.

إنّ من المعاجز والآيات التي سجلها التاريخ هي مخاطبة رأس الإمام الحسين (عليه السلام) لأحد الرجال الذين كانوا يحملون الرأس، والظاهر أن تعدد الرجال الذين أرسلهم عبيد الله بن زیاد هو لحراسة الرأس من أن يسرق، وللتناوب على حمله؛ وفي ذلك يروي السيد هاشم البحراني فيقول:

(روی هلال بن معاوية، قال:

رأيت رجلًا يحمل رأس الحسين (عليه السلام) في محلاة فرسه، فسمعت أذناي، ووعى قلبي، والرأس يقول:

(فرقت بين رأسي وجسدي فرق الله بين لحمك و عظمك، وجعلك آية ونکالًا للعالمين، فرفع سوطًا كان معه ولم يزل يضرب به الرأس حتی سکن.

قال:

فرأيت ذلك الرجل وقد أتي به إلى المختار بن أبي عبيد، فشرح لحمه، وألقاه للكلاب وهو حي، وكلما قطعت منه قطعة صاح وغلب على عقله، فيتوسل حتی یؤب إليه عقله، ثم يفعل به مثل ذلك حتى جعله عظامًا مجردة، ثم أمر به فقطعت مفاصله فأتیت المختار فأخبرته بفعله وبما سمعت من كلام الرأس)(1).

ص: 56


1- مدينة المعاجز: ج 4 ص 100

وعليه:

فهذا ما تم ذكره في الآيات والمعاجز التي ظهرت من الرأس المقدس في الكوفة؛ أما ما يتعلق بالمعاجز التي ظهرت من الرأس المقدس (عليه السلام) في الطريق إلى الشام فكانت كالاتي:

المسألة الثالثة: المظاهر الإعجازية للرأس المقدس في طريقه إلى الشام.

تفيد المصادر التاريخية والحديثية أن الحوادث الإعجازية التي ظهرت في رحلة رأس الإمام الحسين (عليه السلام) من الكوفة والشام قد تعددت وتنوعت، والظاهر أنَّ ذلك عائد إلى بعض الأمور.

1- تعدد الأمكنة والبلدات التي مرَّ بها حمل الرأس المقدس (عليه السلام) في طريقة إلى الشام.

2- تنوع الفئات الاجتماعية التي مرَّ بها رأس الإمام الحسين (عليه السلام) کاليهود والنصارى، فقد دون المؤرخون ما ظهر من الآيات والمعاجز في الأديرة النصرانية واليهودية.

3- إنَّ التعدد في المظاهر ومشاهدتها من غير المسلمين له من الآثار المتعددة في العقيدة وتكوين أنساق ثقافية واجتماعية تدفع للإصلاح ومواجهة الظلم.

لم تنحصر هذه الآيات الإعجازية في قراءة رأس الإمام الحسين (عليه السلام) وإنّما ظهور آيات أخرى مما ترك أثرًا قويًا في عملية الإصلاح التي تلازمت مع رحلة رأس الإمام الحسين (عليه السلام)، فكانت هذه الآيات والمعاجز كالآتي:

ص: 57

أولًا- ظهور يدٍ تكتب بقلم من حديد في أول ليلة من المسير إلى دمشق.

أخرج الطبراني (ت: 360 ه)، وابن المغازلي (ت: 483 ه) وغيرهم عن أبي لهيعة عن أبي قبيل قال:

لما قتل الحسين بن علي (عليه السلام) أخذوا الرأس وأسَرّوا به، فلما صار الليل قعدوا يشربون ويتحيّون بالرأس، فخرجت عليهم کَفٌّ من حائطٍ فيها فَلَم من حديد وكتبت سَطرًا بدم:

اَتَرْجُوا اُمَّةً قَتَلَتْ حُسَیْنا *** شَفاعَةَ جَدِّهِ یَوْمَ الْحِسابِ(1)

وفي لفظ الطبراني:

(أحتزوا رأسه وقعدوا في أول مرحلة يشربون النبيذ يتحيّون بالرأس فخرج عليهم قلم من حديد من حائط فكتب بسطر دم:

اَتَرْجُوا اُمَّةً قَتَلَتْ حُسَیْنا *** شَفاعَةَ جَدِّهِ یَوْمَ الْحِسابِ

فهربوا وتركوا الرأس ثم رجعوا)(2).

2- وقد تناولت العديد من المصادر هذا البيت من الشعر دون ذکر الآيات الإعجازية التي أظهرته، فضلًا عن أنّ هذا البيت الشعري قد وجد

ص: 58


1- مناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام): ص 311 حدیث 393
2- المعجم الكبير للطبراني: ج 3 ص 123

مکتوبًا في بعض الكنائس(1).

ثانيًا- مظهر النور الذي شاهده الراهب النصراني.

أخرج الراوندي (ت: 573 ه) هذا المظهر الإعجازي بمزيد من التوضيح والمجريات مما يعكس اتساع شهرة هذا الحدث، واهتمام الناس به وتكرره في أماكن متعددة، أي ظهور هذه اليد وكتابتها لهذا البيت، ومما يدل عليه: ظهورها في دير من الأديرة، ورؤية راهب الدير لنور ساطع من الرأس إلى السماء، وقد أخرج الحدث الراوندي وغيره، فقال:

(حدثنا أحمد بن عبد الرحمن عن أبي الحسن بن عمر وعن سلمان بن مهران الأعمش قال: بينا أنا في الطوف بالموسم إذ رأيت رجلًا يدعو وهو يقول:

اللهم اغفر لي، وأنا أعلم أنك لا تفعل.

قال: فارتعدت لذلك، فدنوت منه وقلت: يا هذا أنت في حرم الله وحرم رسوله (صلى الله عليه وآله)، وهذه أيام حرم في شهر عظيم، فلم تيأس من المغفرة؟

قال: يا هذا ذنبي عظيم. قلت: أعظم من جبل تهامة؟! قال: نعم.

ص: 59


1- ينظر في ذلك: الأمالي للصدوق: ص 193؛ مناقب الامام علي (عليه السلام) للكوفي: ج 2 ص 22؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9 ص 199؛ الاستیعاب لابن عبد البر: ج 1 ص 396؛ نظم درر السمطين: ص 119؛ تاریخ دمشق لابن عساکر: ج 14 ص 243؛ تهذيب الكمال للمزي: ج 6 ص 442

قلت: يوازن الجبال الرواسي؟! قال: نعم، فان شئت أخبرتك.

قلت: أخبرني. قال: أخرج بنا عن الحرم. فخرجنا منه.

فقال لي: أنا أحد من كان في العسكر المشؤوم، عسکر عمر بن سعد (عليه اللعنة)، حين قتل الحسين بن علي (عليه السلام)، وكنت أحد الأربعين الذين حملوا الرأس إلى يزيد من الكوفة، فلما حملناه على طريق الشام نزلنا على دير للنصارى، وكان الرأس معنا مركوزًا على رمح، ومعه الأحراس، فوضعنا الطعام وجلسنا لنأكل، فإذا بكف في حائط الدير تكتب:

أترجو أمة قتلت حسينا *** شفاعة جده يوم الحساب

قال: فجزعنا من ذلك جزعًا شديدًا، وأهوى بعضنا إلى الكف ليأخذها، فغابت ثم عاد أصحابي إلى الطعام، فإذا الكف قد عادت تكتب مثل الأول:

فلا والله ليس لهم شفيع *** وهو يوم القيامة في العذاب

فقام أصحابنا إليها، فغابت [ثم عادوا إلى الطعام] فعادت تكتب:

وقد قتلوا الحسين بحكم جور *** وخالف حكمهم حكم الكتاب

فامتنعت عن الطعام، وما هنأني أكله، ثم أشرف علينا راهب من الدير، فرأى نورًا ساطعًا من فوق الرأس، فأشرف فرأى عسكرا، فقال الراهب

ص: 60

للحراس: من أين جئتم؟ قالوا: من العراق، حاربنا الحسين.

فقال الراهب: ابن فاطمة، وابن بنت نبيكم، وابن ابن عم نبيكم؟! قالوا: نعم.

قال: تبًا لكم، والله لو كان لعیسی بن مریم ابن لحملناه على أحداقنا، ولكن لي إليكم حاجة. قالوا: وما هي؟ قال: قولوا لرئيسكم: عندي عشرة آلاف دينار ورثتها من آبائي، ليأخذها مني ويعطيني الرأس، يكون عندي إلى وقت الرحيل، فإذا رحل رددته إليه. فأخبروا عمر بن سعد(1) بذلك، فقال: خذوا منه الدنانير وأعطوه إلى وقت الرحيل فجاؤوا إلى الراهب، فقالوا: هات المال حتى نعطيك الرأس. فأدلى إليهم جرابين في كل جراب خمسة آلاف دينار، فدعا عمر بالناقد(2) والوزان، فانتقدها ووزنها ودفعها إلى جارية له، وأمر أن يعطى الرأس. فأخذ الراهب الرأس، فغسله ونظفه، وحشاه بمسك وكافور [كان] عنده، ثم جعله في حريرة(3)، ووضعه في حجره، ولم يزل ينوح ويبكي حتى نادوه وطلبوا منه الرأس، فقال: يا رأس والله ما أملك إلا نفسي، فإذا كان غدا فاشهد لي عند جدك محمد أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا (صلى الله عليه وآله) عبده ورسوله، أسلمت على يديك وأنا مولاك. ثم قال لهم: إني أحتاج أن أكلم رئیسكم بكلمة، وأعطيه الرأس.

ص: 61


1- قال الشيخ المفيد: ان الذي سار بالرؤوس والنساء سبايا إلى الشام هو زحر بن قیس. وقال السيد ابن طاووس: انه مخفر بن ثعلبة العايذي. راجع البحار: 45/ 124، والعوالم: 17/ 425
2- الناقد هنا: هو الذي يميز الصحيح من المزيف
3- هي القطعة من الحرير

فدنا عمر بن سعد منه فقال: سألتك بالله، وبحق محمد (صلى الله عليه وآله) ألا تعود إلى ما كنت تفعله بهذا الرأس، ولا تخرج هذا الرأس من هذا الصندوق. فقال له: أفعل. فأعطاهم الرأس ونزل من الدير، فلحق ببعض الجبال يعبد الله. ومضى عمر بن سعد، ففعل بالرأس مثل ما كان يفعل في الأول. فلما دنا من دمشق، قال لأصحابه: انزلوا. وطلب من الجارية(1) الجرابين، فاحضرا بين يديه، فنظر إلى خاتمه، ثم أمر أن يفتحا، فإذا الدنانير قد تحولت خزفية، فنظروا في سكتها فإذا على جانب مكتوب:

«وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ»(2).

وعلى الوجه الآخر:

«وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»(3).

فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، خسرت الدنيا والآخرة.

ثم قال لغلمانه: اطرحوها في النهر. فطرحت، فدخل دمشق من الغد، وأدخل الرأس إلى يزيد (عليه اللعنة)، فابتدر قاتل الحسين إلى يزيد، فقال:

املا ركابي فضة أوذهبا *** إنَّي قتلت الملك المحجبا

قتلت خير الناس اما وأبا *** ضربته بالسيف حتى انقلبا)(4)

ص: 62


1- خازنه «العوالم»
2- سورة إبراهيم: 42
3- سورة الشعراء: 227
4- الخرائج والجرائح: ج 2 ص 578 - 580؛ الدر النظيم للمشغري: ص 561 - 563

وممن روى هذا المظهر الإعجازي مختصرًا الحافظ ابن حبان (ت 354 ه) في بيان لحال بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال:

(ثم أنفذ عبيد الله بن زياد رأس الحسين (عليه السلام) إلى الشام مع أسارى النساء والصبيان من أهل بیت رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أقتاب مکشفات الوجوه والشعور.

فكانوا إذا نزلوا منزلًا أخرجوا الرأس من الصندوق وجعلوه في رمح وحرسوه إلى وقت الرحيل ثم أعيد الرأس إلى الصندوق ورحلوا...)(1).

ثم يورد الحديث ومجرياته وما ظهر من المظاهر الإعجازية.

ثالثًا- رؤية أحد الجند الحاملين للرأس المقدس غمامة بيضاء من النور.

ومن الآيات الإعجازية التي ظهرت في الطريق إلى الشام نزول غمامة بيضاء من النور إلى الخيمة التي فيها رأس الإمام الحسين (عليه السلام) ورأيت أحد الجند الذين كلفوا بالخروج وحمل الرأس إلى الشام.

وفي هذا الحدث يقول ابن شهر آشوب (ت: 588 ه) عن کتاب کنز الذاکرین:

(قال الشعبي: رأيت رجلًا متعلقًا بأستار الكعبة، وهو يقول:

أغفر لي ولا أراك تغفر لي، فسألته عن ذنبه فقال: كنت من الوكلاء على رأس الحسين وكان معي خمسون رجلًا فرأيت غمامة بيضاء من نور قد نزلت من السماء إلى الخيمة وجمعًا كثيرًا أحاطوا بها، فإذا فيهم آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، ثم نزلت أخرى وفيها النبي وجبرائيل وميكائيل وملك

ص: 63


1- الثقات لابن حبان: ج 2 ص 312 - 313

الموت فبكى النبي وبكوا معه جميعًا فدني ملك الموت وقبض تسعا وأربعين فوثب على رجلي (رجل) فوثبت على رجلي وقلت يا رسول الله الأمان الأمان فوالله ما شایعت في قتله ولا رضيت، فقال: ويحك وأنت تنظر إلى ما یکون؟ فقلت نعم، فقال: يا ملك الموت خل عن قبض روحه فإنّه لا بد أن يموت يومًا، فتركني وخرجت إلى هذا الموضع تائبا على ما كان مني)(1).

رابعًا- رأس الإمام الحسين (عليه السلام) يتحدث مع راهب نصراني في مدينة قنسرين.

ومن الآيات والمظاهر الإعجازية التي رافقت رأس الإمام الحسين (عليه السلام) في طريقه إلى الشام هي: حديث الرأس المقدس مع أحد الرهبان في مدينة قنسرین.

قال ابن شهر آشوب نقلًا من كتاب الخصائص للنطنزي (لما جاؤوا برأس الحسين ونزلوا منزلًا يقال له قنسرین، اطلع راهب من صومعته إلى الرأس، فرأى نوراً ساطعًا يخرج من فيه ويصعد إلى السماء، فأتاهم بعشرة آلاف درهم وأخذ الرأس وأدخله صومعته فسمع صوتًا ولم ير شخصًا، قال: طوبى لك وطوبى لمن عرف حرمته، فرفع الراهب رأسه قال: يا رب بحق عيسی تأمر هذا الرأس بالتكلم معي، فتكلم الرأس وقال: يا راهب، أيُّ شيء تريد! قال من أنت؟ قال: أنا ابن محمد المصطفى، وأنا ابن علي المرتضى، وأنا ابن فاطمة الزهراء، وأنا المقتول بکربلاء، أنا المظلوم أنا

ص: 64


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3 ص 217؛ البحار للمجلسي: ج 45 ص 303

العطشان، فسكت، فوضع الراهب وجهه على وجهه، فقال: لا أرفع وجهي عن وجهك حتى تقول أنا شفيعك يوم القيامة، فتكلم الرأس فقال: ارجع إلى دين جدي محمد، فقال الراهب: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله، فقبل له الشفاعة، فلما أصبحوا أخذوا منه الرأس والدراهم، فلما بلغوا الوادي نظروا الدراهم قد صارت حجارة. قال الجوهري الجرجاني :

حتى يصيح بقنسرین صاحبها *** یا فرقة الغي يا حزب الشياطين

أتهزؤن برأسٍ بات منتصبًا *** على القناة بدين الله يؤميني

آمنت ويحكم بالله مهتدیًا *** وبالنبي وحب المرتضى ديني

فجدلوه صريعًا فوق وجنته *** وقسموه بأطراف السكاكين)(1)

خامسًا- الرأس المقدس يتحدث مع ابن وكيدة.

أخرج محمد بن جرير (الإمامي) بسنده، عن الحارث بن وكيدة، قال:

(كنت فيمن حمل رأس الحسين، فسمعته يقرأ سورة الكهف، فجعلت أشك في نفسي وأنا أسمع نغمة أبي عبد الله ، فقال لي:

«یا بن وكيدة، أما علمت أنا معشر الأئمة أحياء عند ربنا نرزق».

قال: فقلت في نفسي: أسوق رأسه.

فنادى:

ص: 65


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3 ص 217؛ مدينة المعاجز للبحراني: ج 4 ص 113

یا بن وكيدة، ليس لك إلى ذاك سبيل، سفكهم دمي أعظم عند الله من تسييرهم رأسي، فذرهم «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ»(1))(2).

ويتضح من ذلك إن هذه المظاهر الإعجازية كانت على طول الطريق بين الكوفة ودمشق، وإنَّها بدأت من أول ليلة من ليالي المسير إلى أن وصلوا إلى مدينة دمشق، فكانت لرأس الإمام الحسين (عليه السلام) جملة من المظاهر الإعجازية الأخرى، وهو ما سنتناوله فيما يلي:

المسألة الرابعة: المظاهر الإعجازية التي ظهرت لرأس الإمام الحسين (علیه السلام) في دمشق.

تكشف الروايات التاريخية والحديثية جملة من المظاهر الإعجازية التي ظهرت وتلازمت مع رأس الإمام الحسين (عليه السلام) في مدينة دمشق ومن الساعات الأولى لدخوله هذه المدينة، وهي كالاتي:

أولًا- فواح الطيب من الرأس المقدس عند إدخاله على يزيد.

روی این شهر عن أبي مخنف فقال:

(لما دخل بالرأس على يزيد كان للرأس طيب قد فاح على كلِّ طيب)(3).

ص: 66


1- سورة غافر، الآية: 71
2- دلائل الامامة: ص 188
3- مناقب آل أبي طالب: ج 3 ص 318

ثانيًا- سماع عمرو بن المنهال رأس الإمام الحسين (علیه السلام) وهو يقرأ القرآن.

أخرج محمد بن سليمان الكوفي (ت: 300 ه) وابن عساکر (ت: 571 ه) وغيرهم عن المنهال بن عمرو، انه قال:

رأيت رأس الحسين (عليه السلام) على الرمح وهو يتلو هذه الآية:

«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا».

فقال رجل من عرض الناس:

رأسك يا بن رسول الله أعجب)(1).

وفي لفظ آخر أخرجه ابن حمزة الطوسي (ت: 560 ه) قال المنهال بن عمرو:

(أنا والله رأيت رأس الحسين (صلوات الله عليه) على قناة يقرأ القرآن بلسان ذلق ذرب، يقرأ سورة الكهف حتى بلغ:

«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا»

فقال رجل: ورأسك والله أعجب یا ابن رسول الله من العجب)(2).

ثالثًا- مخاطبة رأس الإمام الحسين (عليه السلام) رجلًا يقرأ القرآن بدمشق.

تفيد النصوص الروائية أنّ المنهال بن عمرو قد سمع رأس الإمام الحسين (عليه السلام) وهو يتلوا القرآن وقد اختار منه سورة الكهف ؛ وفي رواية أخرى أخرجها جملة من الحفاظ: أنّ عمرو بن المنهال سمع رأس الإمام الحسين (عليه

ص: 67


1- مناقب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) للكوفي ج 2 ص 267
2- الثاقب في المناقب لابن حمزة: ص 333

السلام) مخاطب رجلًا من أهل دمشق كان يقرأ القرآن حتى أذا وصل إلى قوله:

«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا».

أنطق الله الرأس المقدس فكلم قارئ القرآن. والرواية كالاتي:

أخرج الرواندي (ت: 573 ه) وابن عساکر (ت: 570 ه) والسيوطي (ت: 911 ه) والمنوي (ت: 1031 ه) وغيرهم:

(عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، قال: (أنا والله رأيت رأس الحسين بن علي - عليهما السلام - حين حمل وأنا بدمشق وبين يدي الرأس رجل يقرأ سورة الكهف حتى بلغ قوله تعالى:

«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا».

قال: فأنطق الله الرأس بلسان ذرب فقال:

«أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي»(1).

وأردف المناوي هذه الرواية بقوله:

(وتفصيل قصة قتله تمزق الأكباد و تذيب الأجساد فلعنة الله على من قتله، أو رضي أو أمر، وبعدًا له کما بعدت عاد، وقد أفرد قصة قتله خلائق بالتأليف...)(2).

ص: 68


1- تاریخ ابن عساکر: ج 60 ص 370؛ الخرائج والجرائح للرواندي: ج 2 ص 577؛ كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبیب (صلى الله عليه وآله): ج 2 ص 127؛ فيض القدير للمناوي: ج 1 ص 265؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 45 ص 188
2- فيض القدير: ج 1 ص 265

رابعًا- قراءة الرأس المقدس لقوله «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ».

روی ابن عساکر (ت: 571 ه) والصفدي (ت: 764 ه) عن سلمة بن کھیل الحضرمي قال:

(رأيت رأس الحسين بن علي عليه السلام - على القنا وهو يقول:

«فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»(1))(2).

وقد أورد الصفدي في الوافي ترجمة لسلمة بن کھیل، فقال:

(من علماء الكوفة الأثبات على تشیع كان فيه؛ وقال فيه أبو حاتم:

((ثقة متقن))، وقال النسائي صاحب السنن فيه: ((ثقة ثبت))(3).

وتكشف الترجمة عن صحة الرواية التي رواها سلمة بن كهيل فضلًا عن أن هذا المظهر الإعجازي يمكن أن يكون في الكوفة؛ وذلك لكون سلمة من علماء الكوفة.

خامسًا- سماع الرأس المقدس في دمشق يقول: لا قوة إلا بالله.

روی ابن شهر آشوب (ت: 588 ه) في المناقب:

إنَّ رأس الإمام الحسين (عليه السلام)، (سمع صوته بدمشق يقول: لا قوة إلا بالله)(4).

ص: 69


1- سورة البقرة، الآية: 137
2- تاریخ ابن عساکر: ج 22 ص 117؛ الوافي بالوفيات للصفدي:ج 15 ص 20
3- المصدر السابق
4- مناقب آل أبي طالب: ج 3 ص 318

فهذه جملة من المظاهر الأعجازة التي شاهدها الناس وتحدثوا بها، والتي أختصت برأس الامام الحسين (عليه السلام) حصرًا، أي بمعنى: أنَّ المظاهر الإعجازية والآيات الربانية والكونية التي ترافقت مع وقوع هذه الجريمة كثيرة جدًا، ومتنوعة مكانًا وكيفية كمطر السماء دمًا أو حمرة السماء أو نوح الجن أو خروج الدماء من الأشجار، أو ما لحق بقتلة الإمام الحسين (عليه السلام) من هلاك وفناء، وغير ذلك ممّا أورده المؤرخون وأصحاب المقاتل في كتبهم وتحدّث به الناس في مجالسهم.

فكل هذه المظاهر الإعجازية كان لها كثير من الآثار الفاعلة والقوية في إحداث صدمة في عقيدة المسلمين وإصلاحها وتوحيد فكر كثير منهم إلى جهة الحق والدعوة إليه، ومحاربة الطاغوت والبراءة منه و اجتنابه.

وهذا ما سنتناوله في الفصلين القادمين، وهما: بيان الآثار الإصلاحية للمظاهر الإعجازية للرأس المقدس على عقيدة التوحيد؛ وبیان آثار هذه المظاهر في المعطيات الأنثروبولوجية وخلق الوعي الفردي والجمعي في الأمة التحقيق هدف الرسالة، وهو بقاء الإسلام والتوحيد.

ص: 70

الفصل الثاني آثار المظاهر الإعجازیة لرأس الإمام الحسین (علیه السلام) في إحیاء توحید الفکر

ص: 71

ص: 72

نتناول في هذا الفصل مفهوم المعجزة ودلالتها في المعطى القرآني، ومفهومها ودلالتها في المعطي الروائي والفكر الإسلامي، ثم بيان علة قراءة رأس الإمام الحسين (عليه السلام) لسورة الكهف، ودلالة اختصاص ذلك في عقيدة التوحيد، ثم نتناول دارسة تكرار وقوع هذه المظاهر الإعجازية وتلاوة القرآن وارتداداتها في إصلاح التوحيد، وذلك ضمن مجموعة من المباحث، وهي كالاتي:

ص: 73

ص: 74

المبحث الأول مفهوم المعجزة ولالتها في المعطي القرآني والروائي

ص: 75

ص: 76

إن مفردة (المعجزة) لم ترد في كتاب الله (عزّ وجلّ) وإنَّما أستخرج مفهومها ودلالتها منه عبر الآيات التي كشفت حياة الانبياء وتبليغهم عن النبوة والرسلة ومادعوا الناس إليه

وقد تفاوتت المظاهر الإعجازية، أي (المعجزة) في سيرة الأنبياء في الآيات القرآنية ودواعي وقوعها بين طلب الناكرین والمعاندين والمكذبين للأنبياء (عليهم السلام)، وبين أن يأتي الأنبياء (عليهم السلام) بهذه المعجزات ابتداءً دون أي طلب أو تحدٍ أو تكذيب لهذا أو ذاك، ومثاله نبي الله عیسی بن مریم (عليه السلام) إذ يظهر لنا القرآن الكريم أنّ المعجزة ظهرت من دون أي مقدمات جماهيرية لذلك، فأنطقه الله تعالى وهو في المهد.

قال (عزَّ وجلّ):

«فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا»(1).

في حين نجد قوم نبي الله موسى (عليه السلام) يطالبونه بما هو أعظم من المعجزة قال تعالى:

«وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ»(2).

ص: 77


1- سورة مريم، الآية 29 - 30
2- سورة البقرة، الآية: 55

ولذلك: فإنّ الرجوع إلى القرآن الكريم يكشف عن جملة من الآيات تظهر مفهوم هذه المظاهر الإعجازية، وهي كالاتي:

المسألة الأولى: مفهوم المعجزة في القرآن.

إن مفهوم المعجزة ودلالتها ودواعي وقوعها كشفته جملة من الآيات القرآنية، معبّرة عنها ب (الآية تارة:

«قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ»(1).

وبالبينة تارة:

«قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ»(2).

وبالبرهان تارة ثالثة:

«فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ»(3).

وبالسلطان رابعة:

«فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ»(4).

لما في هذه الألفاظ من اندماج بين وحي اللفظ وبصيرة العقل وقوّة الحجّة ومنطق البرهان، فتحاكي وجدان الإنسان وقلبه وعقله وفطرته وبصره

ص: 78


1- سورة الأنعام، الآية 110
2- سورة الأعراف، الآية: 73
3- سورة القصص، الآية: 32
4- سورة إبراهيم، الآية: 10

وبصيرته بما يقطع أمامه سبل الشكّ، ويزيح ظلمات الوهم. فالآيات علائم ودلالات ظاهرة، كما أنّ دلالاتها واضحة سواء كانت دلالة عقليّة أو حسيّة، والبرهان إظهار للحجّة بموازين العقل والحكمة، وهو أوكد الأدلَّة المحفّزة لكوامن الصدق والتصديق؛ لذلك يقتضي الصدق لا محالة، والسلطان لما فيه من سلطنة وهيمنة على القلب والعقل تدعو إلى الإيمان، وتدفع الشكوك والأوهام، ولا يبعد أن تكون الآية لعموم الناس لأنّ الحب طريقهم إلى الإيمان واليقين غالبا، والبيّنة في مواقع إظهار ما يخفى على الناس معرفته، والبرهان لمن كان من أهل العقول والأفكار، والسلطان لتسلَّطه على أهل العلم والحكمة من الناس. هذا من حيث خصوصيّات كلّ لفظ منها)(1).

المسألة الثانية: مفهوم المعجزة في اللغة والاصطلاح.

أولًا- المعجزة لغة.

قال ابن منظور (ت: 711 ه):

(الَعجِزَةُ): بفتح الجيم وكسرها، مفعلة من العَجز: عدم القدرة.

واعجزه الشيء: عجز عنه.

والتَّعجِيزُ: التَّثبِيط، وكذلك إذا نسبته إلى العَجز.

وعَجَّزَ الرجلُ وعاجَزَ: ذهب فلم يُوصَل إِليه.

وقوله تعالى في سورة سبأ:

ص: 79


1- تقریب القرآن إلى الأذهان للسيد محمد الشيرازي: ج 1 ص 5 - 6

«وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ»

قال الزجاج: معناه ظانِّين أَنهم يُعجِزُوننا؛ لأَنهم ظنوا أَنهم لا يُبعثون وأَنه لا جنة ولا نار، وقيل في التفسير: مُعاجزين معاندین وهو راجع إِلى الأَوّل، وقرئت مُعَجِّزين، وتأويلها أَنهم يُعَجِّزُون من اتبع النبي (صلى الله عليه وآله)، ويُثَبِّطُونهم عنه وعن الإِيمان بالآيات وقد أَعجَزهم.

وفي التنزيل العزيز:

«وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ».

قال الفراء: يقول القائل كيف وصفهم بأَنهم لا يُعجِزُونَ في الأَرض ولا في السماء وليسوا في أَهل السماء؟ فالمعنى ما أَنتم بمُعجِزِينَ في الأرض ولا من في السماء بمُعجِزٍ، وقال أَبو إِسحق: معناه، والله أَعلم، ما أَنتم بمُعجِزِين في الأَرض ولو كنتم في السماء، وقال الأَخفش: معناه ما أَنتم بمُعجِزِين في الأَرض ولا في السماء)(1).

ثانيًا- المعجزة اصطلاحًا.

أما أصل مفهوم لفظ المعجزة في الاصطلاح فقد جاء فيه بعض أقوال علاء الطائفة وغيرهم.

1- قال الشريف المرتضى (ت: 436 ه):

(الفعل الناقض للعادة يتحدى به الظاهر في زمان التكليف لتصديق مدع في دعواه.

ص: 80


1- لسان العرب: ج 5 ص 369

وقيل:

أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة.

وقلنا (مقرون بالتحدي) لئلّا يتحد الطالب معجزة غير حجة لنفيه، وليتميز عن الإرهاصات والكرامات.

وقلنا: (مع عدم المعارضة) لتمييز عن السحر والشعوذة)(1).

2- قال العلامة الحلي (ت: 726 ه):

(ثبوت ما ليس بمعتاد أو ما هو معتد مع خرق العادة ومطابقة الدعوى)(2).

3- قال السيوطي (ت: 911 ه):

(أعلم أن المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة وهي إما حسية، وإما عقلية)(3).

4- قال العلامة الطباطبائي (ت: 1402 ه):

(هو الأمر الخارق للعادة، الدال على تصرف ما وراء الطبيعة في عالم الطبيعة ونشأة المادة، لا بمعنى الأمر لضرورة العقل)(4).

5- قال السيد أبو القاسم الخوئي (ت: 1413 ه):

ص: 81


1- رسائل الشريف المرتضى: ج 2 ص 283
2- کشف المراد في شرح تجرید الاعتقاد: ص 474
3- الإتقان للسيوطي: ج 2 ص 311
4- الميزان في تفسير القرآن: ج 1 ص 73

(أن يأتي المدعي لمنصب من المناصب الإلهية بما يخرق نوامیس الطبيعة ويعجز عنه غيره، شاهدًا على صدق دعواه).

ويحدد السيد الخوئي (عليه الرحمة والرضوان) جملة من الضوابط والقيود لتحقق معنى المعجزة في الاصطلاح ومفهومها، وذلك خشية أن تحدث مخالفة هذا المفهوم للمصاديق الخارجية في دعوى المدعي وما يأتي به، فيقول:

(وإنما يكون المعجز شاهدا على صدق ذلك المدعي إذا أمكن أن يكون صادقا في تلك الدعوى. وأما إذا امتنع صدقه في دعواه بحكم العقل، أو بحكم النقل الثابت عن نبي، أو إمام معلوم العصمة، فلا يكون ذلك شاهدا على الصدق، ولا يسمى معجزا في الاصطلاح وإن عجز البشر عن أمثاله:

مثال الأول: ما إذا ادعى أحد أنه إله، فإن هذه الدعوى يستحيل أن تكون صادقة بحكم العقل، للبراهين الصحيحة الدالة على استحالة ذلك.

ومثال الثاني: ما إذا ادعى أحد النبوة بعد نبي الإسلام، فإن هذه الدعوى كاذبة قطعا بحكم النقل المقطوع بثبوته الوارد عن نبي الإسلام، وعن خلفائه المعصومين بأن نبوته خاتمة النبوات، وإذا كانت الدعوى باطلة قطعا، فماذا يفيد الشاهد إذا أقامه المدعي؟ ولا يجب على الله جل شأنه أن يبطل ذلك بعد حكم العقل باستحالة دعواه، أو شهادة النقل ببطلانها. وقد يدعي أحد منصبا إلهياثم يأتي بشيء يعجز عنه غيره من البشر ويكون ذلك الشيء شاهدًا على كذب ذلك المدعي، کما یروى أن مسيلمة تفل في بئر قليلة الماء ليكثر ماؤها فغار جميع ما فيها من الماء، وأنه أمر يده على رؤوس صبيان

ص: 82

بني حنيفة وحنكهم فأصاب القرع كل صبي مسح رأسه، ولثغ كل صبي حنكه(1) فإذا أتى المدعي بمثل هذا الشاهد لا يجب على الله أن يبطله، فإن في هذا كفاية لأبطال دعواه، ولا يسمى ذلك معجزا في الاصطلاح. وليس من الإعجاز المصطلح عليه ما يظهره الساحر والمشعوذ، أو العالم ببعض العلوم النظرية الدقيقة، وإن أتی بشيء عنه غيره، ولا يجب على الله إبطاله إذا علم استناده في عمله إلى أمر طبيعي من سحر، أو شعبذة، أو نحو ذلك وإن ادعی ذلك الشخص منصبا إلهيا، وقد أتى بذلك الفعل شاهدا على صدقه، فإن العلوم النظرية الدقيقة لها قواعد معلومة عند أهلها، وتلك القواعد لا بد من أن توصل إلى نتائجها، وإن احتاجت إلى دقة في التطبيق، وعلى هذا القياس تخرج غرائب علم الطب المنوطة بطبائع الأشياء، وإن كانت خفية على عامة الناس، بل وإن كانت خفية على الأطباء أنفسهم. وليس من القبيح أن يختص الله أحدا من خلقه بمعرفة شيء من تلك الأشياء، وإن كانت دقيقة وبعيدة عن متناول أيدي عامة الناس، ولكن القبيح أن يغري الجاهل بجهله، وأن يجري المعجز على يد الكاذب فيضل الناس عن طريق الهدى)(2).

المسألة الثالثة: علة اختصاص الأنبياء والأئمة بالمعجزة وأثرها في العقيدة.

يروي الشيخ الصدوق (رحمه الله) بیان علة ظهور المعاجز على أيدي الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) وذلك عبر الحديث الذي جرى بين أبي بصير

ص: 83


1- الكامل لابن الأثير ج 2 ص 138
2- البيان في تفسير القرآن: ص 33 - 34

والإمام الصادق (عليه السلام)، فيساله (عليه الرحمة والرضوان) قائلًا:

(لأي علة أعطى الله (عزَّ وجلّ) أنبياءه ورسله، وأعطاكم المعجزة؟

فقال (عليه الصلاة والسلام):

«ليكون دليلًا على صدق من أتی به، والمعجزة علامة لله لا يعطيها إلا أنبيائه ورسله، وحججه ليعرّف به صدق الصادق من كذب الكاذب»)(1).

أذن:

جوهر المعجزة ومركوزها وعلة وجودها في حياة الأنبياء والمرسلين والأئمة المعصومين (عليهم السلام أجمعين) هو صدق ما أتي به النبي أو الرسول أو الإمام (صلوات الله عليهم أجمعين).

وأن مرکوز هذه المصداقية هو النسبة إلى الله (عزَّ وجلّ)؛ بمعنى:

قدسية صاحب الدعوة وارتباطه التعييني به (عزَّ وجلّ) فيعجز عند ذلك كل مدعٍ لمنصب من المناصب التي جعلها الله تعالى لخاصة عباده، ومنها: منصب الخلافة كما كان في حال آدم (عليه السلام) وخلافته لله في أرضه، فوجدت الملائكة أنها الأولى والأقدس وفيها من السمات والصفات ما يؤهلها لهذا المنصب.

ولأنها كانت في وهم وعجزت عن أن تأتي بأسماء هؤلاء وتمكن نبي الله آدم (عليه السلام) من أن يأتي للملائكة بما عجزوا عنه، كان هو الصادق في استحقاقه لمنصب الخلافة.

ص: 84


1- علل الشرائع: ج 1 ص 122

قال (عزَّ وجلّ):

«وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»(1).

فكانت المعجزة حينها بعلم آدم الأسماء وعجز الملائكة عنها أوضح بيانٍ لعلة وقوع المعجزة في حياة الأنبياء والأئمة، وهي صدقهم في نسبتهم إلى الله تعالى وعجز غيرهم عن هذه النسبة وإن كانوا من الملائكة.

ولذا: أخبر الله عنهم بقوله (عزَّ وجلّ):

«إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»

وعليه:

كان لا بد من وجود المعجزة لدى أي نبي من الأنبياء أو الرسل أو الأئمة (عليهم السلام) وكل منهم بحسب زمانه و مقتضیات دعوته إلى الله تعالى، و (أن يقيم شاهدا واضحا يدل على صدقه في الدعوى، وأمانته في التبليغ، ولا يكون هذا الشاهد من الأفعال العادية التي يمكن غيره أن يأتي بنظيرها، فينحصر الطريق بما يخرق النواميس الطبيعية، وإنما يكون الإعجاز دليلا على صدق المدعي، لأنّ المعجز فيه خرق للنواميس الطبيعية، فلا يمكن أن يقع من أحد إلا بعناية من الله تعالى، وإقدار منه، فلو كان مدعي النبوة كاذبا في دعواه، كان إقداره على المعجز من قبل الله تعالى إغراء بالجهل وإشادة

ص: 85


1- سورة البقرة، الآية: 31

بالباطل، وذلك محال على الحكيم تعالى. فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالة على صدقه، وكاشفة عن رضا الحق سبحانه بنبوته)(1).

إن كان نبيًا وبرسالته إن كان رسولًا، وبإمامته إن كان إمامًا وهو ما نجده في المظاهر الإعجازية التي رافقت رأس الإمام الحسين (عليه السلام) منذ وصوله إلى الكوفة في ليلة الحادي عشر من المحرم، کما ثبت في النصوص التاريخية وإلى حين مدفنه.

فكل هذه المعاجز الإلهية هي كاشفة عن صدق دعوته في الإمامة الإلهية وخلافة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبیان کذب خصمائه الذي جلسوا في مجلس الخلافة منذ أن توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلى يومنا هذا.

وعليه:

فإن هذه المعاجز هي من اللطف الإلهي بالعباد؛ وذلك بغية إرجاعهم إلى جادة الحقّ والصواب وثبات العقيدة، وذلك حينما تتبدد شبهات المبطلين والمنتحلين للمناصب الإلهية كالخلافة وكالإمامة والتشريع؛ لا سيما وأننا وجدنا عبر هذه الدراسة التغير الواسع في مفهوم التوحيد الذي أوجدته خلافة العمريان وسنتها والأمويان ومثاقفتهما.

مما اقتضى أن تكون هذه المظاهر الإعجازية بما يفوق الإمكانات التي بذلها أرباب الخلافة في نصف قرن من الزمن، وهو ما سنتناوله في المبحث القادم الذي نبحث فيه أنَّ علة معجزة رأس الإمام الحسين (عليه السلام) تكمن في قراءة القرآن وليس في مجرد نطقه.

ص: 86


1- البيان للسيد الخوئي، ص 36

المبحث الثاني علّة قراءة رأس الإمام الحسین (علیه السلام) للقرآن

ص: 87

ص: 88

إن الوصول إلى معرفة العلة التي كانت سببًا لقراءة رأس الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) للقرآن في جملة من المظاهر الإعجازية يستلزم الرجوع إلى جذور انحراف الأمة عن القرآن المحمدي، بمعنى آخر: إن الأمة أخذت بظاهر القرآن وتركت باطنه ومعرفته، قد عملت باللفظ وتركت المعنى والدلالة، قد استمسكت بالمتشابه وتركت المحكم؛ وهذا أولاً.

ثانيًا - إن الأيديولوجية التي جاءت بها خلافة العمريان والأمويان قد اقتضت التضرع بالقرآن في مواجهة العترة النبوية وذلك ضمن اجراءات متعددة استمرت نصف قرن، لتنضج وتفرز محتواها في يوم عاشوراء.

ثالثًا - سريان ذلك في جميع الأمصار والمدن الإسلامية حتى أصبح صنعة الناس ومهنتهم وموضع تمایز هم فيما بينهم، فأصبح القراء للقرآن هم أهل التقوى والورع والرجوع في أخذ الصالح من الأمور، فضلًا عن تشكيلهم نسقًا اجتماعيًا وثقافيًا واسعًا في الشام والكوفة - کما سیمر بیانه - ليتم استثمارهم في دعم مشروع الخلافة وثبات الحكم.

من هنا:

نجد أن العلة في قراءة الرأس المقدس للقرآن تعود إلى جذور عقدية وثقافية واجتماعية وسياسية، ونقصد بها سياسية العمريان في توجيه المجتمع الإسلامي للفظ دون الحكم؛ فكان للمسلمين توحيد اللفظ دون التنزيه عن الوثنية. وهو ما سنتناوله في هذا المبحث.

ص: 89

المسألة الأولى: مواجهة شعار (حسبنا كتاب الله) فكتاب الله يتلى من على الرمح.

لا يخفى على الباحث والقارئ إن شعار (حسبنا کتاب الله) الذي رفعه عمر بن الخطاب في رزية يوم الخميس، حين طلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قرطاسًا ليكتب لهم كتابًا لن يضلوا به من بعده فمنعهم عمر بن الخطاب متذرعًا بكتاب الله، ونفي الحاجة إلى أن يكتب لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك الكتاب، فامتنع الصحابة من الامتثال لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعصوه وخالفوه؛ بل وخالفوا كتاب الله (عزَّ وجلّ) الذي أدعى ابن الخطاب کفايته واحتسابه به، فها هو أنه يخاطبهم في أناء الليل وأطراف النهار صارخًا فيهم بقوله تعالى:

«وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ»(1).

فهذا الشعار الذي أسس له ابن الخطاب في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد سار عليه العمريان والأمويان في نصف قرن، ومنع تحت رايته حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتدوينه، وحفظه، وقراءته، وتحديث الناس به - کما مرَّ في مباحث الفصل الأول من الدراسة -.

فها هو اليوم يتصدع أمام هذه المعجزة الإلهية.

فكتاب الله تعالى الذي دعت أرباب السلطة الاكتفاء به ودفع العترة النبوية وفصلها عنه، وتضليل الناس، بذلك يعيد إلى الناس رشدهم ويزيل

ص: 90


1- سورة النساء، الآية: 14

عنهم أوهام السلطة وتظليلها لهم فها هو القرآن يتلى من على الرمح من رأس مقطوع يتحنحن قبل أن يبدأ بتلاوة القرآن، ويكرر التلاوة في الأسواق والطرقات والحارات والمدن.

وكأنه يخاطب ضمائرهم: إن کنتم بكتاب الله متمسكين ولله موحدين فهذا هو القرآن الناطق، وليس الخلافة والخليفة ولا الشيخان وسنتهما، فما لكم كيف تحكمون!!.

ومن ثم:

فقد تصدع شعار (حسبنا کتاب الله) في نفوس كثير من المسلمين، وتلاشى في نفوس بعضهم الآخر فعاد إليهم رشدهم ورجعوا إلى الأخذ بوصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) في التمسك بكتاب الله والعترة النبوية (صلوات الله وسلام عليهم أجمعين).

إذن:

إنّ السبب الأول من أسباب علة قراءة الرأس المقدس للقرآن الكريم كان هو لمواجهة شعار (حسبنا کتاب الله) الذي رفعه عمر بن الخطاب في رزية يوم الخميس.

المسألة الثانية: مواجهة فتنة (رفع المصاحف على الرماح)، فها هو القرآن يُتلى من على الرمح.

لم يكن حدث رفع المصاحف على الرماح في يوم صفين بأعظم خطرًا من رفع شعار (حسبنا کتاب الله) في رزية يوم الخميس، فكلاهما قسما ظهر التوحيد.

ص: 91

فهناك قيل للنبي (صلى الله عليه وآله) دعوه أنه ليهجر، وهنا قیل (لا حكم إلا لله) وكفروا عليًا (عليه السلام) وهو التوحيد.

فكان مقتضى المشيئة الإلهية أن يقرأ رأس الإمام الحسين (عليه السلام) القرآن ويتلو آياته من على الرمح.

إلا أن حال الأمة في المقامين يختلف؛ ففي رزية يوم الخميس كان الحضور ثلّة من الصحابة الذين تخلفوا عن الالتحاق بسرية أسامة بن زيد على الرغم من سماعهم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«جهزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف عنه»(1).

وهنا في النهروان اجتمع الآلاف من المسلمين على قتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهذا يدل على نجاح سنة الشيخين وأيدلوجية حسبنا کتاب الله في الأمة، فكان حينها لا ينفع الإعجاز في إرجاع الناس إلى رشدهم وإلى جادة الصواب في التمسك بالإمام علي (عليه السلام) و محاربة أعداء التوحيد؛ وذلك لغلبة الشبهات وتغلغلها في المنظومة المفاهيمية للأمة.

ولذلك خاطبهم لما أخذوا ينادون: لا حكم إلا الله، فرد عليهم قائلًا:

«كلمة حق يراد بها باطل، حکم الله انتظر فیکم، لكم عندنا ثلاث خصال ما کنتم معنا، فلا نمنعكم مساجد الله أن تصلوا فيها، ولا نمنعكم الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا أبتدء کم بحرب حتى تبتدعوا؛ لقد أخبرني الصادق عن

ص: 92


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 1 ص 52؛ المواقف للايجي: ج 3 ص 650؛ الملل والنحل للشهرستاني: ج 1 ص 23

الروح الأمين عن رب العالمين: إنه لا يخرج عليكم(1) فئة قلت أو كثرت إلى يوم القيامة إلا جعل الله حتفها على أيدينا، وأن أفضل الجهاد جهادكم، وأفضل المجاهدين من قتلكم، وأفضل الشهداء من قتلتموه، فاعملوا ما أنتم عاملون، فيوم القيامة يخسر المبطلون ولكل نبأ مستقر فسوف تعلمون»(2).

وما كان هؤلاء إلا نتيجة لرفع المصاحف على الرماح وتجلي توحید الخلافة فيهم، فوقعوا في الخديعة وانقادوا للمكيدة وانساقوا للشبهات وتخلوا بر عن المحكمات.

فناداهم أمير المؤمنين علي (عليه السلام):

«ويحكم ما رفعوها إلّا لأنكم تعلمونها ولا يعلمون بها، وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهاء ومكيدة»، فقالوا له:

إنه لا يسعنا أن ندعي إلى كتاب الله فنأبی أن نقبله، فقال: «ويحكم إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم الكتاب، فقد عصوا الله فيما أمرهم به، ونبذوا كتابه، فامضوا على حقكم و قصد کم، وخذوا في قتال عدوکم، فإن معاوية، وابن العاص، وابن أبي مُعَيط، وحبیب بن مسلمة، وابن النابغة، وعددًا غير هؤلاء ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وأنا أعرف بهم منکم، صحبتهم أطفالا ورجالا، فهم شر أطفال ورجال»(3).

ص: 93


1- أي: (لا يخرج عليكم أهل البيت فئة ...)
2- مناقب الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) لسليمان الكوفي: ج 2 ص 341؛ المبسوط للشيخ الطوسي: ج 7 ص 265
3- مروج الذهب للمسعودي: ج 2 ص 391

فكان جوابهم له (عليه الصلاة والسلام) وعلى لسان قراء القرآن بأعجب من حادثة رفع المصاحف على الرماح مما یکشف جليًا الحكمة في تلاوة رأس الإمام الحسين (عليه السلام) للقرآن وتكرار هذه القراءة في الكوفة إلى الشام بمعنى: أنّ القرّاء هم أكثر الناس حينذاك وقوعًا في الفتنة؛ والعلة في ذلك أنهم شربوا حب الشيخين وسنتهما وتوحيدهما وتلبسوا بالأنماط الثقافية للخلافة، فإن بايعوا الإمام علي (عليه السلام) بالخلافة كانت بيعتهم ترتكز على مفهوم الخلافة السلطوية السياسية ومن ثم يجيزون لأنفسهم خلع هذه البيعة وقتال علي (عليه السلام) وإن كانوا بالأمس يقاتلون بين يديه.

ولذا: ردَّ القراء، وزعيمهم مسعر بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي في عصابة معهما من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين(1):

ياعلي أجب إلى كتاب الله (عزَّ وجلّ) إذ دعيت إليه وإلا ندفعك برمتك إلى القوم، أو نفعل بك کما فعلنا بابن عفان؛ إنه علينا أن نعمل بما في كتاب الله (عزَّ وجلّ) فقبلناه، والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك(2).

وعليه:

كان القراء والمسلمين بحاجة إلى تدخل إلهي في إنقاذ الإسلام ودين الله من أولئك الظالمين الذين جهدوا على طمس معالم الإسلام والقضاء عليه، وأن يفدى هذا الدين بذبح عظيم، وهو الحسين؛ ومن أعظم منه فداءً لدين الله، وفي كل ما جرى يوم الطف مظهر من مظاهر التدخل الإلهي فكان منها

ص: 94


1- وقعة صفين لنصر بن مزاحم: ص 489
2- تاريخ الطبري: ج 4 ص 34

هذه المظاهر الإعجازية في قرأة الرأس المقدس للقرآن وهو مرفوع على رمح طويل يطاف به في المدن والأسواق فكان رأس الإمام الحسين (عليه السلام) هو المصحف، والمصحف هو الرأس لعلهم يعقلون.

المسألة الثالثة: مواجهة النسق الاجتماعي والثقافي لقُرّاء القرآن ودعمهم لأيديولوجية الخلافة.

لقد عملت الخلافة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) على وضع أيديولوجية تجرید کتاب الله (عزَّ وجلّ) من محتواه مع المحافظة على ظاهره وتحفيز المسلمين لاسيما الطبقة الأولى من الصحابة على تحفيظه وتلاوته وذلك أنَّ الشعار الذي رفعه عمر بن الخطاب، أي (حسبنا کتاب الله) لم يقتصر على خلق نمط ثقافي وعقدي جديد في الأمة، وإنّما خلق نسقٍ ثقافي اجتماعي ينطوي تحته قراء القرآن ودعمهم وتحفيزهم وبذل الجاه لهم، بغية تسخيرهم لأهداف السلطة المرتكزة على دوام الخلافة السلطوية.

ولقد ركزت أحدث الدراسات الأنثروبولوجية الاجتماعية والثقافية على آثار الأنساق في تغيير المنظومة الفكرية والمفاهيمية، وتحويلها في خدمة السلطة؛ ولذا: لا بدّ من التعريف بالنسق:

أولًا- معنى النسق في اللغة والاصطلاح.

قال ابن منظور:

(النسقُ من كل شيء: ما كان على طريقة نظامٍ واحد، عام في الأشياء وقد نسقتهُ تنسيقًا.

ص: 95

وقال ابن سيده: نسق الشيء ينسقه نسقًا؛ ونسقه نظمه على السواء، وتنسق هو تناسق، والاسم النسق، وقد انتسقت هذه الأشياء بعضها إلى بعض - أي تنسقت -.

والنحويون يسمون حروف العطف حروف النسق لأن الشيء عطفت عليه شيئًا بعده جرى مجرى واحدًا.

ويقال: ناسق بين الأمرين، أي تابع بينهما)(1).

ويُفاد من هذا المعنى: تتابع الأمور والأشياء سواء كانت مادية أو فكریه أو ثقافية على نظام واحد متصل بعضها ببعض ويتلو بعضها بعضًا.

وهو ما شهده المجتمع الإسلامي خلال خلافة الإمام علي (عليه السلام) وما تلاه من حكومة بني أمية وبني العباس من تتابع سنة الشيخين واجتهاداتهما في الأمة جيلًا بعد جيل ولم يحدث على هذا الاجتهاد أي تغيير، ومنها صلاة التراويح وغيرها من حذف وإضافة في الأذان والطلاق الثلاثي في مجلس واحد وغيرها من الاجتهادات.

أما لو جئنا إلى النسق الثقافي فقد تجلى بشكل جلي وفي مظاهر متعددة - کما سيمر لاحقًا - وذلك بعد بيان معنى النسق الثقافي والاجتماعي، كما يلي:

ثانيًا- معنى النسق الثقافي ومفهومه.

تناول المختصون في علوم اللغة والعلوم الاجتماعية النسق الثقافي بجملة من التعريفات التي يتضح عبرها أثر النسق في تكوين نظام تفاعلي فيما

ص: 96


1- لسان العرب: ج 10 ص 353؛ مادة النَسَقَ

بين أفراد المجموعة الواحدة، تربطهم علاقات مرتكزة على مجموعة من القيم والمعايير التي يؤمن بها أفراد هذه المجموعة؛ لتنتظم معها سلوكياتهم وتوجهاتهم الفكرية والحياتية:

ومن هذه التعريفات:

1- عرّفه تالکوت بارسونز، بأنّه: (نظام يتطور على أفراد مفتعلين تتحدد علاقتهم بعواطفهم وأدوارهم التي تنبع من الرموز المشتركة والمقررة ثقافيًا في إطار هذا النسق وعلى نحو يغدو معه مفهوم النسق أوسع من مفهوم البناء الاجتماعي).

وأشار بارسونز في كتابه (بنية الفعل الاجتماعي) إلى أنَّ: (النسق يرتكز على معايير وقيم تتشكل مع الفاعلين الآخرين جزءا من بنية الفاعلين).

2- وقال أ. د جمال مجناح:

(يمكننا أن نعد النسق الثقافي باعتباره أحد أنواع الأنساق الاجتماعية بأنه: مجموعة من العلاقات المترابطة، لما لها من مرونة ومرجعية دلالية خاصة)(1).

3- وعرّف النسق في أبسط معانيه العلائقية أو الارتباط أو التساند، (حينما تؤثر مجموعة وحدات وظيفية بعضها في بعض فأنه يمكن القول أنها تؤلف نسقًا)(2).

4- ويعد (ليفي شتراوس) من أوائل الذين نقلوا مصطلح (النسق) إلى الحقل الثقافي في دراسته (الأنثروبولوجيا البنيوية عام 1957) مؤكدًا على

ص: 97


1- ألأنساق الثقافية المضمرة، لجمال مجناح: ص 1
2- النسق الثقافي في الكتابة لعبد الرحمن عبد الدايم: ص 15 جامعة مولودي - الجزائر

وجود كلي أو شامل وعالمي سابق عن الأنساق أو الأنظمة الفردية للنصوص؛ فظاهرة اللغة والثقافة ذات طبيعة واحدة الثقافة(1).

5- ويتكون النسق من مجموعة من العناصر أو من الأجزاء التي يرتبط بعضها ببعض مع وجود متميز أو مميزات بين كل عنصر وآخر، وإعتمادًا على هذا التحديد يمكن استخلاص عدة خصائص للنسق:

أ- إن كل شيء مكون من عناصر مشتركة ومختلفة فهو نسق.

ب- له بنية ظاهرية وداخلية.

ج- له حدود مستقرة بعض الاستقرار يتعرف عليها الباحثون.

د- قبوله من المجتمع، لأنه يؤدي وظيفة لا يؤديها نسق آخر.

فيستطيع مفهوم النسق الوفاء بكثير من متطلبات التحليل الوظيفي، ولعل أهمهما أنه يمكننا على مستوى التجريد من التعرف على النشاطات المختلفة والخصائص المتميزة للمجتمع ككل(2).

ومن ثم فالنسق الثقافي هو: مجموعة آليات معرفية وفكرية لفئة اجتماعية ما أو لإيدولوجيا مترابطة ومتمايزة ومتفاعلة تخص المعارف والفنون والأخلاق والمعتقدات واللغة وغيرها من أنساق المجتمع، وتتصف بالمرونة في الانتقال بين الأفراد والجماعات والأجيال، كما أنه سريع التأثير في الخطابات الاجتماعية(3).

ص: 98


1- الأنساق الثقافية المضمرة، جمال مجناح: ص 2
2- النسق الثقافي في الكتابة، عبد الرحمن عبد الدايم، ص 40 جامعة مولودي كلية الآداب؛ الجزائر
3- الأنساق الثقافية المضمرة، جمال مجناح، ص 2

وقد شكلت الايدولوجيا علاقة وثيقة بالنسق الثقافي لما يتبلور فيهما من معرفة فكرية تحدد السلوك الاجتماعي والسياسي، لجماعة ما على جماعة أخرى في المجتمع، وقد حرص العمريان على أمضاء هذه الأيدلوجية وترسيخها في المجتمع الإسلامي، نكاية بالإمام علي وأهل بيته (عليهم الصلاة والسلام) إلى الحد الذي أثار تعجب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) من تغلغل حب الشيخين في قلوب المسلمين،(1) وهو أخطر ما واجهه الإمام علي (عليه السلام) في فترة توليه أدارة الدولة والخلافة الإسلامية.

إلا أن الملفت للانتباه والذي يتضح عبر الدراسة أن أكثر المنتفعين من هذا النسق الاجتماعي والثقافي لقراء القرآن هو معاوية بن أبي سفيان، وذلك عبر شاهدين وحدثين تاريخيين.

الحدث الأول - هو تسخيرهم في خلق الأجواء العقدية والعصبية القبلية في اتجاهين مزدوجين أستطاع من فيهما المازجة بين الشعور العقدي والشعور القبلي للمطالبة في القصاص من قتلة عثمان بن عفان والخروج بأهل الشام بفعل تأثير القراء عليهم والزج بهم في حرب صفين.

والحدث الثاني - هو تحريك هذا النسق الاجتماعي في المجتمع المخاصم والمعادي له أي قراء أهل الكوفة، وذلك عبر رفع المصاحف على الرماح وألزامهم بنسقهم الثقافي والعقدي في حاکمية اللفظ لا الحكم والدلالة والتفسير لكتاب الله تعالى.

ص: 99


1- المزيد من الاطلاع ينظر: اغتيال التوحيد في ضوء الأنثروبولوجيا العقدية و البنائية الوظيفية للمؤلف، ص 157 - 177

ومن ثم كسب المعركة في الاتجاه الاستراتيجي الحربي بعد أن كادت الحرب العسكرية أن تحسم لأهل الكوفة، وقربها من النصر قاب قوسين أو أدنی کما مر بيانه أنفًا.

أما كيف ظهر هذا النسق الاجتماعي والثقافي للقراء في دمشق وبلاد الشام، الذي يتضح بهما الحكمة في قراءة رأس الإمام الحسين (عليه السلام) للقرآن من الكوفة حتى يصل إلى الشام وهو كما في (جيم).

ثالثًا- استثمار السلطة لنسق قراء القرآن في التعبئة العقدية والحربية القتال الإمام علي (عليه السلام).

يتضح عبر النص الذي رواه المنقري أنّ القراء في الشام كانوا يشكلون نسقًا اجتماعيًا وثقافيًا فعالًا في حياة المسلمين، تحسب لهم السلطة حسابات كثيرة وتنتفع منهم في تحقيق أهدافها، لاسيما في حربها مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام).

قال المنقري:

(إنّ أبا مسلم الخولاني(1)، قدم معاوية في أناس من قراء الشام، قبل مسیر أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى صفين، فقالوا له:

یا معاوية علام تقاتل عليًا، وليس لك مثل صحبته ولا هجرته ولا

ص: 100


1- أبو مسلم الخولاني، الزاهد الشامي من قراء أهل الشام، هو عبد الله بن ثوب، بضم المثلثة وفتح الواو، وقيل بإشباع الواو، كان ممن رحل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فلم یدرکه وعاش إلى زمن يزيد بن معاوية (لعنه الله) للمزيد، ينظر: تقریب التهذيب لابن حجر: ص 612

قرابته ولا سابقته؟

قال لهم: ما أقاتل عليا وأنا أدعي أن لي في الإسلام مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته، ولكن خبروني عنكم، ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما؟

قالوا: بلى.

قال: فليدع إلينا(1) قتلته فنقتلهم به، ولا قتال بيننا وبينه.

قالوا: فاكتب إليه كتابا يأتيه به بعضنا؛ فكتب إلى علي هذا الكتاب مع أبي مسلم الخولاني، فقدم به على علي، ثم قام أبو مسلم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد فإنك قد قمت بأمر وتوليته(2)، والله ما أحب أنه لغيرك إن أعطيت الحق من نفسك، إن عثمان قتل مسلما محرما(3) مظلوما، فادفع إلينا قتلته، وأنت أميرنا، فإن خالفك أحد من الناس كانت أيدينا لك ناصرة، وألسنتنا لك شاهدة، وكنت ذا عذر وحجة)).

فقال له علي: أغد على غدا، فخذ جواب کتابك؛ فانصرف ثم رجع من الغد ليأخذ جواب کتابه فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه، فلبست الشيعة أسلحتها ثم غدوا فملؤا المسجد وأخذوا ينادون: كلنا قتل ابن عفان وأكثروا من النداء بذلك، وأذن لأبي مسلم فدخل على علي أمير المؤمنين

ص: 101


1- ح (407: 3): فليدفع إلينا
2- ح: (3: 408): «وليته»
3- محرما: أي له حرمة وذمة، أو أراد أنهم قتلوه في آخر ذي الحجة، وقال أبو عمرو: أي صائما، ويقال أراد لم يحل بنفسه شيئا يوقع به، فهو محرم؛ وبكل هذه التأويلات فسر بیت الراعي، الذي أنشده صاحب اللسان (15: 13): قتلوا ابن عفان الخليفة محرما * ودعا فلم أر مثله مقتولا وانظر خزانة الأدب (1: 503 - 504)

فدفع إليه جواب کتابه معاوية، فقال له أبو مسلم: قد رأيت قوما مالك معهم أمر؛ قال : وما ذاك؟ قال: بلغ القوم أنك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان فضجوا واجتمعوا ولبسوا السلاح وزعموا أنهم كلهم قتلة عثمان.

فقال علي: «والله ما أردت أن أدفعهم إليك طرفة عين، لقد ضربت هذا الأمر أنفه وعينيه ما رأيته ينبغي لي أن أدفعهم إليك ولا إلى غيرك».

فخرج بالكتاب وهو يقول: الآن طاب الضراب)(1).

ويكشف هذا النص الذي رواه المنقري وابن قتيبة عن تحرك أبو مسلم الخولاني قبل خروج أهل الشام إلى قتال أهل العراق، ولذا: فهو يرشد إلى جمل من الأمور التي تبين أثر هذا النسق الاجتماعي والثقافي في المجتمع الإسلامي في الشام، وهو كالاتي:

1- إنّ تحرك أبو مسلم الخولاني مع قراء أهل الشام وقع بعد انکشاف فتنة الجمل وارجاع عائشة إلى المدينة واتضاح رموز الفتنة والقضاء عليهم، ومن ثم فإن هذا التحرك من قراء الشام ما كان ليقع لولا اندحار أقطاب الناكثين في معركة الجمل.

2- إن الحديث الذي ابتدأه القراء مع معاوية يكشف عن معرفتهم بحقيقة هذه الحرب، فأرادوا حفظ دماء أهل الشام الذين - إلى هذه اللحظة - كانوا يعتقدون أنّ معاوية يسير بهم إلى حرب الإمام علي (عليه السلام) دون هدف مسوغ وشرعي، وإنَّما لاستئثاره بالسلطة؛ ولذا قالوا لمعاوية: علام تقاتل علي - عليه السلام - وليس لك مثل صحبته، ولا هجرته، ولا قرابته، ولا سابقته؟

ص: 102


1- وقعة صفين لابن حزم المنقري : ص 85؛ الاخبار الطوال لابن قتيبة: ص 163

3- تغيير معاوية لحقيقة الواقع الذي عرضه القراء، أي: أنه أدرك أنّ قراء أهل الشام لا يمكن له أن يكذب عليهم فيقول (أنا لي منقبة مما ذكرتم)؛ ومن ثم سيقوم هؤلاء القرّاء بالتأثير على الناس وتغيير توجهاتهم نحو معاوية بأنه كاذب ويسعى من أجل السلطة؛ فقد أدعى زورًا وكذبًا بأن له مثل ما لعلي (عليه السلام) من (هجرته وقرابته وسابقته).

ولذا: احتال عليهم بقضية مقتل عثمان بن عفان وأنه يطالب بدمه (ملقيًا بذلك في عهدة الإمام علي (عليه السلام) بلحاظ أنه يمتنع من تسليمهم اليه.

مع علمه ويقينه أنّ الإمام علي (عليه السلام) لا يمكن له أن يسلّم لمعاوية رجلًا واحدًا ممن قتل عثمان بن عفان ولأسباب عدة كان معاوية يعلمها قبل غيره، منها:

1- إن عثمان بن عفان لقی جزاءه بيده بعد أن غير وبدّل في شرع الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)؛ ومن ثم لا يأخذ المظلوم بجريرة الظالم.

2- تسليم أي أحدٍ من أشترك بقتل عثمان بن عفان يكون اقرارًا بصحة ما كان عليه عثمان، وأنه صاحب حق فيما صنع، وهذا يقصم ظهر الحق والسنة المحمدية التي امتلأت بدعًا ومحدثات على يدي معاوية وأسلافه.

3- إنّ الذين اشتركوا في قتل عثمان بن عفان صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإن تسليم أي أحدٍ منهم سيلحق بالإمام علي (عليه السلام) ضررًا أعظم من ضرر حرب معاوية، إذ سيقال إنّ الإمام علي (عليه السلام)

ص: 103

قد قتل صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولأغتنم معاوية هذه الفرصة فيعفوا عنهم بلحاظ أنه من أولياء الدم كما يدّعي فهو ابن عمه الاموي، وحينها یکون معاوية صافحًا عن صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) کریم النفس حافظًا للسنة معزًا للصحابة.

فضلًا عن أن معاوية سيتركهم فترة من الزمن ثم يقوم بقتلهم وتصفيتهم کما قام مروان بن الحكم بقتل طلحة بن عبيد الله في معركة الجمل، وهو يقاتل إلى جنبه وفي حزبه إذ رماه بسهم فوقع في ركبته فمات من نزف الدم.

وكما قتل معاوية عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) بعد أن حفروا لها حفيرة فسقطت فيها هي وحمارها؛ وكما قام بقتل محمد بن أبي بكر، وحجر بن عدي، وعمرو بن الحمق الخزاعي وغيرهم.

4- إنّ على رأس من أشترك بقتل عثمان هي عائشة، ومن ثم كيف يسلّمها الإمام علي (عليه السلام) لمعاوية مع علم أهل الشام بذلك، کما يروي ابن شبة النميري في تاريخ المدينة في شاهدين يكشفان عن وقوع أهل الشام في ذم عائشة والنيل منها فيقول:

أ- دخل أبو مسلم الخولاني الشام فوجدهم ينالون من عائشة في شأن عثمان، فقال لهم:

(يا أهل الشام، أضرب لكم مثلكم ومثل أمكم هذه، مثلکم ومثلها كمثل العين في الرأس تؤذي صاحبها ولا تستطيع أن تعاقبها الا بالذي هو خير لها)(1).

ص: 104


1- تاريخ المدينة لابن شبة: ص 174

ب- روى عن قتادة أن عبد الله بن أذينة العبدي لما بلغه قدوم طلحة والزبير ركب فرسه فتلقاهما قبل أن يدخلا البصرة؛ فإذا محمد بن طلحة بن عبيد الله، وكان يقال له الساجد من عبادته، فقال له: من أنت؟، قال انا محمد بن طلحة، قال: والله أني كنت لأحب أن ألقاك، فقال له محمد: من أنت؟

قال: عبد الله بن أذينة، فأخبرني عن قتل عثمان.

قال أخبرك أن دم عثمان ثلاثة أثلاث، ثلث على صاحبة الخدر - يعني عائشة - فلما سمعته يقول ذلك شتمته وأساءت له القول.

فقال: يغفر الله لك يا أمتاه...)(1).

أذن:

استطاع معاوية بن أبي سفيان من تحريك هذا النسق الاجتماعي والثقافي الممثل بقراء القرآن في الشام في التعبئة العقدية و الحربية وتجيش الناس لقتال أهل العراق، مدعمّا ذلك بآثار البغض الديني في نفوسهم، وذلك عبر قيامه (بتلبیس منبر دمشق قميص عثمان وهو مخضب بالدم، وحول المنبر سبعون ألف شيخ يبكون حوله لا تجف دموعهم على عثمان)(2).

ولا شك أن هذا الحدث له تداعياته الفكرية والاجتماعية على أهل الشام؛ فهؤلاء الشيوخ الذين يبكون حول قميص عثمان قد صرفوا الأنظار كليًا عن فضائل علي (عليه السلام) وهجرته وسابقته و قرابته بالنبي (صلى الله عليه وآله).

ص: 105


1- تاريخ المدينة لابن شبة النميري: ص 174
2- وقعة صفين لنصر بن مزاحم: ص 127

بل: إن هذه الدموع قد غسلت أدمغة الشاميين - آنذاك - عن جميع القيم التي جاء بها المصطفى (صلى الله عليه وآله)، ولم يبقَ فيها سوى الثأر للخليفة، حتى ولو افترضنا مجازًا ومحالًا أن يبعث النبي (صلى الله عليه وآله) من قبره ليخبرهم بأن عليًا بريءٌ من دم عثمان لما انقادوا لقوله بعد هذا التأثير النفسي، والوعي السلبي المنصاع لخدمة الحاكم.

ولذلك:

لم يكتفِ معاوية بهذا الفعل، وإنما أتبعه بخطاب أسهَمَ في شد عزمهم واقفال عقولهم على الخروج لقتال الإمام علي (عليه السلام) مهما كلف الأمر، فقد اطفئ سراج المناقب والفضائل الذي منعهم، لاسيما القرّاء منهم من التعرض لحرب الإمام علي (عليه السلام).

ولذا:

خاطب أهل الشام بعد أن ألَّبَ مشاعرهم بقميص عثمان الذي ألبسه المنبر فقال:

(يا أهل الشام، قد كنتم تكذبوني في علي، وقد استبان لكم أمره، والله ما قتل خليفتكم غيره، وهو أمر بقتله، وألّبَ الناس عليه، وآوی قتلته وهم جنده وأنصاره وأعوانه، وقد خرج بهم قاصدًا بلادكم ودياركم لإبادتكم.

يا أهل الشام، الله الله في عثمان، فأنا ولي عثمان وأحق من طلب بدمه، وقد جعل الله لولي المظلوم سلطانا. فانصروا خليفتكم المظلوم، فقد صنع به القوم ما تعلمون، قتلوه ظلما وبغيا، وقد أمر الله بقتال الفئة الباغية حتى تفيئ إلى أمر الله).

ص: 106

ثم نزل من المنبر(1).

وعليه:

احتاج هذا المجتمع الذي طغى عليه هذا النسق الاجتماعي والثقافي المظهر إعجازي من ولي الله وحجته على خلقه يخاطب عقول هذا النسق، وهم القرّاء الذين يعظمون القرآن، أنّ هذا القرآن يتلى من على الرمح حينًا ومصلوبًا في باب دمشق حينًا، وفي طرقات دمشق حينًا آخر. لعلهم يعقلون أن عترة النبي (صلى الله عليه وآله) هم القرآن الناطق.

رابعًا- إنّ مقتضى ظهورقراءة القرآن لرأس الإمام الحسين (عليه السلام) بما يناسب الصنعة لأهل زمانه.

تناول علماء التفسير المظاهر الإعجازية للأنبياء (عليهم السلام) ودراسة آثارها العقدية والثقافية في قضيتين أساسيتين الأولى: آثار تکرار وقوع المعجزة؛ والثانية: تناسب المعجزة مع الصنعة الغالبة في زمان وقوعها، فإما الحالة الأولى فيقول العلامة ابن المطهر الحلّي (ت: 726) في بيان آثار هذه الظاهرة:

(إن مدعي النبوة إذا ظهر منه الفعل الخارق للعادة، الذي لا يمكن للبشر معارضته عقیب ادعائه مرة بعد أخرى فإنا نجزم بصدقه)(2).

وقد مرَّ أنفًا أن الفكر الإمامي يرى عدم انحصار المعجزة بالأنبياء والمرسلين وإنما هي مرتبطة بالأئمة (عليهم السلام)، والعلة في ذلك کما

ص: 107


1- وقعه صفين ص: 128
2- تذكرة الفقهاء: ج 2 ص 472

يقول الشيخ الطوسي: (لأن المعجزة تدل على صدق من ظهرت على يده، وربما كان نبيًا وربما كان إمامًا أو ولیًا لله)(1).

فكيف إذا تكرر وقوع هذه المعجزة على يد المظهر لها، كما حدث لتكرار قراءة رأس الإمام الحسين (عليه السلام) للقرآن.

إذن:

يكشف هذا التكرار عن الجزم بصدق ما دعى إليه الإمام الحسين (عليه السلام)، وهو حق الإمامة التي خصه الله تعالى بها ونصبه حجة على الناس، وأجرى له هذه المعاجز المتكررة في قراءة رأسه للقرآن في المدن الإسلامية وهو مصلوب على رمح طويل.

أما القضية الثانية: تناسب المعجزة مع الصنعة الغالبة في زمان وقوع المعجزة.

فقد بين الإمام الرضا (عليه السلام) أسباب هذه القضية وآثارها العقدية والاجتماعية حينما سأله ابن السكيت قائلاً:

(لماذا بعث الله موسی بن عمران (عليه السلام) بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر؟ وبعث عیسی بآلة الطب؟ وبعث محمدا - صلى الله عليه وآله وعلى جميع الأنبياء - بالكلام والخطب؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): «إن الله لما بعث موسی (علیه السلام) كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجة عليهم، وإن الله بعث عیسی (علیه السلام) في وقت قد

ص: 108


1- التبيان: ج 2 ص 322

ظهرت فيه الزمانات(1) واحتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى، وأبرء الأكمه والأبرص بإذن الله، وأثبت به الحجة عليهم، وأنّ الله بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) في وقت کان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام، وأظنه قال: الشعر فأتاهم من عند الله من واعظه وحكمه ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجة عليهم»، قال: فقال ابن السكيت: تالله ما رأيت مثلك قط فما الحجة على الخلق اليوم؟ قال: فقال (عليه السلام):

«العقل، يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه، قال: فقال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب»)(2).

من هنا:

فإنّ رأس الإمام الحسين (عليه السلام) كان يستطيع أن يظهر من المعاجز الأخرى غير التكرار في قراءة القرآن؛ بل في واقع الحال - کما مرَّ بیانه - أن الرأس الشريف قد تكلم وحاور الراهب النصراني وغيره من أفراد العسكر الذي حملوا الرأس المقدس إلى الشام، لكن المعجزة الأوقع أثرًا في نفوس المسلمين وعلى مر السنين هي تكراره لقراءة القرآن، وذلك لوجود طبقة كبيرة من القُرّاء، فشكلوا نسقًا اجتماعيًا وثقافيًا مؤثرًا في نفوس المسلمين فضلًا عن خصوصية تأثير القرآن الكريم في نفوس المسلمين جميعًا.

ص: 109


1- الزمانات «الآفات الواردة على بعض الأعضاء فيمنعها عن الحركة كالفالج واللقوة، ويطلق المزمن على مرض طال زمانه»
2- الكافي للكليني: ج 1 ص 25، حديث رقم (20)

وعليه: كانت هذه المعجزة تنسجم مع صنعة أهل الزمان وهم القراء للقرآن الكريم؛ فضلًا عن تأثير القرآن الإعجازي، أي أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) جاء بمعجزة النبي (صلى الله عليه وآله) وحجته البالغة على قومه، على الرغم من أنّ النبي (صلى الله عليه وآله)، (كانت له معجزات أخرى غير القرآن، کشق القمر، وتكلم الثعبان، وتسبيح الحصى، ولكن القرآن أعظم هذه المعجزات شأنا، وأقومها بالحجة؛ لأنّ العربي الجاهل بعلوم الطبيعة و أسرار التكوين، قد يشك في هذه المعجزات، وينسبها إلى أسباب علمية يجهلها، وأقرب هذه الأسباب إلى ذهنه هو السحر فهو ينسبها إليه، ولكنه لا يشك في بلاغة القرآن وإعجازه، لأنه يحيط بفنون البلاغة، ويدرك أسرارها، على أن تلك المعجزات الأخری موقتة لا يمكن لها البقاء فسرعان ما تعود خبرًا من الأخبار ينقله السابق للاحق، وينفتح فيه باب التشكيك، أما القرآن فهو باق إلى الأبد، وإعجازه مستمر مع الأجيال)(1).

وعليه:

لم يكن أمام المنكر لحق آل محمد (صلى الله عليه وآله) في كونهم خيرة خلق الله، للرسالة المحمدية وحجج الله على خلقه، وأنهم أهل التوحید ورمزه وأهل القرآن وخاصته، المتقدم عليهم مارق، والمتخلف عنهم هالك وأن ما أسسه المبطلون في عقيدة توحيد الخلافة هو الذي أوصلهم إلى قتل أولاد الأنبياء والأصفياء والأولياء لله تعالى، فأصبحوا حیاری مذهولون ما يرون ويسمعون من رأس سيد شباب أهل الجنة، فكان بحق وصدق أعجب من آية أهل الكهف، وهو ما سنتناوله في المبحث القادم.

ص: 110


1- البيان للسيد الخوئي: ص 40

المبحث الثالث علّة تکرار تلاوة رأس الإمام الحسین (علیه السلام) لسورة الکهف من الکوفة إلی الشّام32

ص: 111

ص: 112

تناولت المصادر التاريخية حادثة قراءة رأس الإمام الحسين (عليه السلام) للقرآن في المدن الاسلامية - کما مرّ بيانه سابقًا - واجمعت هذه المصادر أن الرأس المقدس كان يكرر تلاوة سورة الكهف لا سيما قوله تعالى:

«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا»(1).

وأن الرأس المقدس قد أنطقه الله تعالى عند سماعه لقارئ يقرأ القرآن ويتلوا سورة الكهف فلما وصل إلى قوله تعالى في آية أصحاب الكهف خاطبه رأس الإمام الحسين (عليه السلام) بقوله:

«إن قتلهم لي وحملهم رأسي أعجب وأعجب».

وأن هذه الظاهرة الإعجازية في مخاطبة الرأس المقدس للقارئ تكررت في دمشق بعد وقوعها في الكوفة، مما يكشف عن وجود حكمة خاصة ارتبطت بهذه الآية لا سيما وأنها تكررت في الظهور لمرات عدة في رحلة الرأس المقدس من الكوفة إلى دمشق، وهي كالاتي:

ص: 113


1- سورة الكهف، الآية: 9

المسألة الأولى: إن العلة في وقوع معجزة أهل الكهف ورأس الإمام الحسين واحدة وهي الدعوة إلى التوحيد.

إن الرجوع إلى القرآن الكريم والتفاسير التي تناولت الآية المباركة لأصحاب الكهف تظهر أن العلة في وقوع هذه المعجزة ترتكز على أمرين أساسين، هما:

الأول: صدق دعوى أصحاب الكهف، وأنهم صادقون.

الثاني: التوحيد وهو قضيتهم التي خرجوا من أجلها.

فأصحاب الكهف كانوا فتية صدقوا الله فيما دعوا إليه، وهو توحيدهم لله تعالى ونبذ الوثنية الظاهرية كالحجارة والأصنام وغيرها مما ساد ويسود في مختلف الأزمنة والعصور.

فكانوا صادقين في نبذهم لهذه الوثنية وهذا في الظواهر التي تسود المجتمعات وتشكل أنساقاً اجتماعية وثقافية.

أما في الوثنية الباطنية؛ فهي نزاهة النفس من عبادة غير الله تعالى وتوحيده وهو ما يرتكز في حب المال والجاه والسلطان والنساء وغيرها مما تجنح النفس الإنسانية إليه، وتسعى من أجل اكتسابه والركون إليه وتسخير النفس في نيله واكتسابه.

قال (عزَّ وجلّ) في بيان دعوتهم إلى التوحيد:

ص: 114

«نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا»(1).

وهذه الحقيقة نجدها بجلاء فيما رواه الطبرسي في قصتهم حينما أووا إلى الكهف وانطبقت عليهم الصخرة فأغلقت باب الكهف، ورواه ابن عساکر عن الزهري عن عروة عن عائشة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وان كان الحديث لا يشير صراحة إلى أنهم المخصوصون بسورة الكهف إلا أن مضامين الحديث وقصديته تكشف عن صدق التوحيد في نفوس هؤلاء الفتية الذين دعوا الله، وكانوا صادقين في إخلاصهم وعملهم لله تعالى.

فقد روى الطبرسي قائلًا: (إن أصحاب الرقيم هم النفر الثلاثة الذين دخلوا في غار، فانسد عليهم، فقالوا: ليدع الله تعالى كل واحد منا بعمله، حتی یفرج الله عنا. ففعلوا، فنجاهم الله)(2).

ورواها ابن عساکر (عن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:

«أن ثلاثة نفر دخلوا في غار فانطبق عليهم الجبل فقال بعضهم لبعض هذا بأعمالكم فليقم كل امرئ منكم فليدع الله بخير عمل عمله قط، فقام

ص: 115


1- سورة الكهف، الآيات: 13 - 15
2- تفسير مجمع البيان: ج 6 ص 314

أحدهم فقال اللهم إنّك تعلم أنه كان لي أبوان كبيران وكنت لا أغتبق حتی أغبقهما وإني أتيتهما ليلة بغبوقهما فقمت على رؤوسهما فوجدتها نائمين فكرهت أن أنبههما من نومهما، وكرهت أن أنصرف حتى يفيقا، فلم أزل قائما على رؤوسها حتى نظرا إلى الفجر اللهم إن كنت تعلم أن ذلك كذلك فأفرج عنا، فانصدع الجبل حتى نظروا إلى الضوء ثم قام الآخر فقال: اللهم إن كنت تعلم أنه كانت له ابنة عم فكنت أحبها حبا شديدًا، وإني سمتها نفسها فقالت لا إلا بمائة دينار فجمعتها لها، فلما أمكنتني من نفسها قالت لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركتها اللهم إن كنت تعلم أن ذلك كذلك فأفرج عنا فانفرج الجبل حتى كادوا يخرجون، ثم قام الآخر فقال اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجراء كثير وكان لا يبيت لأحد منهم عندي أجر وإن أجيرا منهم ترك عندي أجرة وإني زرعته فأخصب فاتخذت منه عبيدا ومالا كثيرا فأتی بعد حين، فقال لي يا عبد الله أعطني أجري قلت هذا كله أجرك، قال يا عبد الله لا تتلاعب بي، قلت ما أتلاعب بك، قال فأخذه كله ولم يترك لي منه قليلًا ولا كثيرًا، اللهم إن كنت تعلم أن ذلك كذلك فأفرج عنا فانفرج الجبل عنهم فخرجوا»)(1).

والرواية التاريخية تظهر صدق إيمانهم وأنهم ممن أخلص لله فكانوا من عباد الله المخلّصين فكان هذا الصدق الله في توحيده (عزَّ وجلّ) هو السبب والعلة في اختصاصهم بهذه المعجزة الإلهية والآية الربانية؛ في حين أنهم لم يكونوا من أنبياء الله ورسله (عليهم السلام) وغير مكلفين کالأنبياء بالدعوة

ص: 116


1- تاریخ ابن عساکر: ج 46 ص 438 - 439

للتوحيد فكان صدق إيمانهم وإخلاصهم في توحيدهم أوصلهم إلى هذه النتيجة والغاية الإلهية.

فكيف إذا كان الأمر مرتبطًا بحجة الله على خلقة، والمؤتمن على شرعه كالإمام الحسين (عليه السلام) فهنا لا مجال للحديث أو الاستدلال على صدق إيمان الأئمة أو الأنبياء أو المرسلين (عليهم السلام)، فالتسليم بهذه المفاهيم والعقائد مما قطع العقل بها واستغنى القلب بها عن الدليل فهو مطمئن بما أتاه الله من اليقين.

وعليه:

فالدعوة واحدة فيما بين أصحاب الكهف وبين الإمام الحسين (عليه السلام) وهو التوحيد.

المسألة الثانية: إن الغاية في المعجزتين هي أرجاع الناس إلى الإيمان بالميعاد.

إن من القضايا التي لا تقبل الريب ولا يرد إليها الشك هي أن المظاهر الإعجازية تسعى إلى إرجاع الناس إلى رشدهم، وذلك أن العقل يبحث عن الماديات فيخضع لما يراه، فإما القضايا غير المحسوسة والتي يطلق عليها بالماورائيات فهو لا ينقاد إليها ولا ينسجم معها، وذلك لكونها خارجة عن الحس المادي.

ولذا:

تكمن قوة التأثير في المعجزة هي لتقديمها ما يعجز الإنسان عن القيام به، وإيجاده في عالم الماديات والطبيعة سواء كان ذلك في كسر قوانين المادة

ص: 117

وقهرها وتعطيلها كقانون الإحراق في النار، کما حدث في معجزة نبي الله إبراهيم (عليهم السلام)، أو إيقاف قانون جریان الماء وفلقه، وهو في حالة السَّيلان وليس الانجماد، کما في معجزة موسی (علیه السلام)، وذلك أن معنی ((الفلق)) يقع للمادة الصلبة والجامدة وليس السائلة كماء البحر، مما يعني إيقاف هذه القوانين عن العمل وتعطيلها.

أو سواء إيجاد قوانين جديدة وسنن جديدة كتحول عصی موسی إلى ثعبان، وتحول يده إلى بيضاء كأنها السراج، في جملة من الآيات التي أرسلها إلى فرعون وقومه، قال تعالى:

«وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ»(1).

أو كخروج الناقة من الجبل يجري خلفها فصيلها كما في معجزة نبي الله صالح (عليه السلام)، أو كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص کما لنبي الله عیسی (علیه السلام)، فضلًا عن أصل ولادته من غير أبٍ وهو ما أختص بالعذراء مريم (عليها السلام).

فجميع هذه المظاهر الإعجازية التي رافقت حياة الأنبياء والمرسلين والأئمة المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين) غايتها هي: إرجاع الناس إلى رشدهم في أن الموجد هذا الكون هو الله تعالى، وهو المتصرف المتحكم به.

ص: 118


1- النمل، الآية: 12

وعليه:

فإن المعجزة وإن كانت لبيان صدق دعوى الأنبياء والمرسلين والأئمة فيما يدعون إليه، وأنهم عباد الله المصطفون من خلقة المجتبون لشرعه، فإنها أيضًا لإرجاع الناس لرشدهم و تحکیم عقولهم والتسليم لله تعالى، وأنهم سيردون إليه واليه يرجعون في ويوم القيامة؛ فيحاسبهم على ما عملوا بعد أن رفع عنهم ما يحتجون به، فقد أرسل إليهم الأنبياء والمرسلين فنبئوا وأرشدوا وأعذروا في قومهم.

من هنا:

فإن الغاية المشتركة بين معجزة أصحاب الكهف ورأس الإمام الحسين (عليه السلام) هي الموت والحياة، فأصحاب الكهف أحياهم الله بعد أن مكثوا نیامًا ثلاثة قرون، فعادوا للتوحيد وله يدعون كي يرجع الناس إلى رشدهم في الإيمان بالميعاد وأنهم إلى الله سيرجعون، وبين يديه يقفون وللمسألة يعرضون فما هو جوابهم حين ذاك؟ وهي حقيقة بينها الوحي في قضية أصحاب الكهف، قال (عزَّوجلّ):

«فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا»(1).

وكذلك كانت الغاية في معجزة رأس الإمام الحسين (عليه السلام) هي إرجاع المسلمين إلى رشدهم في الإيمان بالميعاد وبعث الروح بعد الموت فهذا

ص: 119


1- سورة الكهف، الآيات: 11 - 12

الرأس المقطوع المصلوب على الرمح وعلى أبواب المدن، يبعثه الله کما بعث أصحاب الكهف ليقرئ القرآن ويكلم الناس سواء كانوا مسلمين أو نصاری أو بيهود في ظاهرة تلزم العقل بالإيمان بالميعاد، وأن الله يحيي الموتی ویمیت الأحياء، وسيسألهم عما فعلوا بشرعه ودينه ورسوله وأهل بيته الذين فرض عليهم طاعتهم ومودتهم فما هو جوابهم؟.

وهل سيعودون إلى رشدهم ويدركون أن توحيد الخلافة ودين الخلفاء الذي أسس له العمريان وشيده الأمويان هو الذي قادهم إلى قتل أولاد الأنبياء، وهتك الحرمات فكان أعجب من أصحاب الكهف.؟!!!

المسألة الثالثة: إن مقتضى تلاوة الرأس المقدس صدق دعوی رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) في التلازم بين النبوة والإمامة.

لقد اقتضت الحكمة في ظهور المعجزات في حياة الأنبياء والرسل (عليهم السلام) هي إظهار صدق دعوى النبوة في أممهم - کما مرّ بیانه مفصلًا - إلا أن معجزة تلاوة الرأس المقدس للقرآن وتكرار هذه التلاوة يكشف عن التلازم في دعوى النبوة والإمامة، فكانت هذه المعجزة هي أعجب من أصحاب الكهف في صدق دعوى التوحيد الذي من أجله بعث الله الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام).

بل إن هذه المظاهر الإعجازية التي لازمت الرأس الشريف هي في الأصل كانت لصدق دعوى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونبوته وإن الله (عزَّ وجلّ) أجراها مع وجود الفاصل الزمني وانقطاع الوحي بموت رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ص: 120

إلّا أن هذا المانع، أي انقطاع الوحي وموت النبي (صلى الله عليه وآله) مرفوع - کما سیمر بیانه - وإن المقتضى في تحقيق صدق دعوی رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائم في هذه المعجزة، وهو كما يلي:

أولًا- إن تلاوة رأس الإمام الحسين (عليه السلام) تصديقًا لدعوی آیة البلاغ في الإمامة والإمام.

تُعدُ آية البلاغة التي نزلت في الطريق إلى المدينة بعد أداء حجة الوداع هي من أخص الآيات في حفظ التوحيد والنبوة، وما قوله تعالى:

«وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ»(1).

إلا دليلًا دامغًا لبيان أن حفظ التوحيد والنبوة إنما يكون بدعوى التعيين للإمامة والإمام الذي يلي رسول الله (صلى الله عليه وآله) في إكمال دينه، وبيان شريعته، وأمان أمته من الضلال من بعده.

وهذه القضية قد أدركها العمريان وأشياعهم وعملوا جاهدين على تعطيلها؛ بل ومحوها من الأمة حتی سار الصحابة والمسلمون على سنة الشيخين والاستماتة من أجلها واجتثاث من يقف بطريقها، وما مناداة المسلمين في مسجد الكوفة: (وا سنة عمراه) لتكفي اللبيب في كاشفية نجاح ما أسس له العمريان والأمويان في تكذیب دعوی رسول الله (صلى الله عليه وآله) في البلاغ عن الإمامة والإمام من بعده، حتى أصبح أمير المؤمنين (عليه السلام) مع كل ما أوتي من إمكانات يعجز الرجال عن الإتيان بواحدة منها

ص: 121


1- سورة المائدة، الآية: 67

غير قادر على مواجهة ما أسسه العمريان، وإرجاع الناس إلى مقتضى آية البلاغ، وهو القائل (عليه الصلاة والسلام):

«قد عملت الولاة قبلي أعمالًا خالفوا فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمدين لخلافة، ناقضين لعهده مغيرين لسنته، ولو حملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله (صلی الله عليه وآله) لتفرق عني جندي، حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله (عزَّ وجلّ) وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)...»(1).

والنص الشریف کاشف عن تغلغل سنة الشيخين وأيديولوجيتهما في القضاء على دعوى الإمامة والإمام ومن ثم تکذیب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بصورة عملية وإن كانت الألسن قد أمسكت عن التصريح.

وعليه:

احتاج المسلمون بعد مرور خمسين سنة جهد فيها الولاة الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية على مخالفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمدين لخلافه، ناقضين لعهده مغيرين لسنته إلى معجزة عظيمة تهدم ما عمله الولاة وتحطم عروشهم وتعيد الناس إلى التصديق بدعوی رسول الله (صلى الله عليه وآله) في نبوته وبلاغه وعهده، فكانت هذه المعجزة هي قراءة رأس الإمام الحسين (عليه السلام) لكتاب الله تعالى، وتكرار القراءة فأذهل الناس وحطم بنیان العمريان

ص: 122


1- الكافي للكليني: ج 8، ص 59

والأمويان، وأدرك كثيرٌ من المسلمين أن ما بلّغ عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو عن الله (عزَّ وجلّ) فتحقق صدق دعواه في الإمامة والإمام.

ثانيًا- إن تلاوة الرأس المقدس تكذيبًا لدعوي الخلافة والخليفة.

إن مقتضیات تحقیق صدق دعوى الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) هي تكذيب أعدائهم وفضحهم وبيان خزيهم، فأصبحت المعجزة ترتكز على متناقضين ومتغایرین، وهما الصدق في دعوى النبوة وتكذيب الناكر لها والناصب لها العداء.

وذلك أن العلة في وقوع المعجزة هي وجود أناس معاندین ومكذبين للأنبياء والمرسلين (عليهم السلام)، فتأتي المعجزة تظهر أمرين، الأول: صدق مدعي النبوة، والثاني: تکذیب الناكر الذي ينفي وجودها في المدعي، ففي الوقت الذي تظهر فيه المعجزة صدق الأنبياء، فهي تظهر ايضًا كذب أعدائهم.

ولقد شهدت حياة الأنبياء (عليهم السلام) سجالات كثيرة قبل وقوع المعجزات أو بعدها، ومن الشواهد على ذلك:

1- ما جرى من المحاججة بين إبراهيم الخليل (عليه السلام) والنمرود الذي أدعى الربوبية وكذب دعوی نبي الله إبراهيم (عليه السلام)، ولقد جاءت الآيات المباركة ببيان هذه الحقيقة، قال (عزَّ وجلّ):

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ

ص: 123

الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(1).

فلما وقعت آية جعل النار بردًا وسلامًا بعد أن تعطلت المحاججة والبراهين العقلية بين نبي الله إبراهيم (عليه السلام) وعدو الله النمرود، ظهر في المعجزة الإبراهيمية أمران: الأول، صدق دعوى إبراهيم (عليه السلام) والأمر الثاني، کذب دعوى النمرود بالربوبية.

وفي دعوى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإمامة والإمام من بعده جرت الأمور كما كانت مع إبراهيم الخليل (عليه السلام)؛ فبعد أن تعطلت الحجج والبراهين العقلية في بيان کذب مدعي الخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وصدق دعوى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الإمامة وأن عليًا (عليه السلام) هو الإمام من بعده، جاءت المعجزة الكبيرة في قراءة رأس الإمام الحسين (عليه السلام) لتثبت صدق دعوى النبي (صلى الله عليه وآله) في الإمامة، وتظهر كذب العمريان والأمويان ومن جاء بعدهما إلى قيام يوم الدين.

2- ومن الشواهد القرآنية الأخرى على ذلك:

فهو ما جرى بين نبي الله موسى (عليه السلام) والفرعون في مشهد جديد من حيث المحاججة والبرهان وبيان الهدف والآثار التي تحدثها المعجزة، في إظهار صدق دعوى الأنبياء (عليهم السلام) وكذب أعدائهم، فبعد تتابع المحاججة والمعاجز من موسی (علیه السلام) في تحول العصى

ص: 124


1- سورة البقرة، الآية: 258

لأفعى ويده البيضاء وغيرها من الآيات التسع التي ذكرها القرآن، تأتي معجزة فلق البحر لتضع حدًا لهذه الطاغوتية فتظهر صدق دعوی نبي الله موسی (علیه السلام)، وکذب دعوى الفرعون في الربوبية وإرجاع الناس إلى عقيدة التوحيد التي بُعِثَ من أجلها الأنبياء والمرسلون (عليهم السلام).

قال تعالى:

«وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ»(1).

وفي بيان هذه القضية، أي: تلازم ظهور الصدق والكذب مع المعجزة ما ذهب إليه الفخر الرازي وغيره، فيقول:

إن قوم موسى لما شاهدوا تلك المعجزة الباهرة زالت عن قلوبهم الشكوك والشبهات، فإن دلالة مثل هذا المعجز على وجود الصانع الحكيم وعلى صدق موسى (عليه السلام) تقرب من العلم الضروري، فكأنه تعالى رفع عنهم تحمل النظر الدقيق والاستدلال الشاق. وثانيها: أنهم لما عاينوا ذلك صار داعيًا لهم إلى الثبات على تصديق موسی والانقياد له وصار ذلك داعيًا لقوم فرعون إلى ترك تكذیب موسی (علیه السلام) والإقدام على تکذیب فرعون)(2).

ص: 125


1- سورة يونس، الآية: 90 - 92
2- تفسير الفخر الرازي: ج 3 ص 72

وعليه:

فظهور معجزة قراءة رأس الإمام الحسين (عليه السلام) للقرآن وتكرار تلاوته لآية الكهف هي لبيان صدق دعوى النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) في آية البلاغة وتعيين منصب الإمامة والإمام من بعده، وبيان كذب مدعی العمریان والأمويان في منصب الخلافة والخليفة.

المسألة الرابعة: إنّ تلاوة الرأس المقدس لآية الكهف أعظم أثرًا في التوحيد من معجزة أصحاب الكهف.

تناولت النصوص التاريخية أن رأس الإمام الحسين (عليه السلام) حينما كان يتلو آية الكهف كان يصاحب ذلك، بل ويلازمه بیان: أن أمره (عليه السلام) هو أعجب من آية أصحاب الكهف والرقيم، ولقد ظهر عبر النصوص التاريخية أن الرأس الشريف إما هو من كان يبين هذه القضية، أي أنَّ أمره أعجب وأعجب من معجزة أصحاب الكهف والرقيم، وأما أن بعض الصحابة كزيد بن أرقم وغيره من الناس من يشير إلى أن تلاوته للقرآن وقتله وانتهاك حرمته أعجب وأعجب من أصحاب الكهف، وما لا ريب فيه أنّ في ذلك حكمة ودلالة خاصة أراد الإمام الحسين (عليه السلام) بيانها بإذن الله تعالى، وهي كالاتي:

أولًا- دلالة لفظ (أم حسبت في آية اصحاب الكهف.

تستفتح الآية المباركة في خطابها للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) بلفظ:

«أَمْ حَسِبْتَ»

ولقد تناول المفسرون دلالة اللفظ فقالوا:

ص: 126

أ- المراد به أمته، أي ((أحسبت)) أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آیاتنا عجبا، بل ما خلقت من السماوات الأرض وما بينهن من العجائب أعجب من أصحاب أهل الكهف، وحجتي بذلك ثابته على هؤلاء المشركين من قومك وغيرهم من جميع عبادي؛ وهو قول مجاهد وقتادة وابن إسحاق(1).

ب. وقال قوم: معناه ((أم حسبت)) یا محمد (صلى الله عليه وآله): أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا، فإنّ الذي آتيتك من العلم والحكمة أفضل؛ وهو قول ابن عباس(2).

ودلالة اللفظ وهذه الأقوال هو التوحيد فغاية العجب الحاصل من قصة أصحاب الكهف ترشد إلى توحيد الله تعالى القادر على كل شيء، فسواء أنه (عزَّ وجلّ) ضرب على آذانهم فأنامهم في الكهف ثلاثة قرون أو أكثر أو أقل من ذلك أو سواء أنه (عزَّوجلّ) الخالق لهذه الحياة الدنيا وما فيها من خلق السموات والأرض وما بينهما وما فيها، فجميع ذلك يدعو إلى التوحيد لله تعالى.

ثانيًا- إنّ الأثر الإرشادي في آية الرأس المقدس أعظم من آية أصحاب الكهف.

إنّ دلالة التوحيد متحققة في رأس الإمام الحسين (عليه السلام) بأعظم من أصحاب الكهف؛ وذلك لحجم تأثيرها الإرشادي في النفس، وهذا ما كشفته النصوص التاريخية في بيان تأثر قرّاء القرآن وبعض الصحابة بهذه المعجزة في قراءة الرأس المقدس لآية الكهف وتكرار التلاوة، فكانت هذه النصوص وكاشفتيها كالاتي:

ص: 127


1- التبيان للشيخ الطوسي: ج 7 ص 10
2- التبيان للشيخ الطوسي: ج 7 ص 10

1- عن المنهال بن عمرو قال: رأيت رأس الحسين بن علي (عليه السلام) على الرمح وهو يتلو هذه الآية:

«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا».

فقال رجل من عرض الناس:

رأسك يابن رسول الله أعجب(1)؟!!؛ وتكشف الرواية عن أن الأثر وي الإرشادي کان متحقق في رجلٍ من الناس.

2. عن زيد بن أرقم أنه قال: مرَّ به عليَّ وهو على رمح وأنا في غرفة، فلما حاذاني سمعته يقرأ:

«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا».

فقف والله شعري ونادیت: رأسك والله يا ابن رسول الله أعجب وأعجب)(2).

وتكشف الرواية عن أنَّ المتعجب هو زيد بن أرقم، وأنَّ الأثر الإرشادي متحقق فيه.

3- وفي لفظ آخر أخرجه ابن حمزة الطوسي (ت: 560 ه) عن المنهال بن عمرو، قال:

(أنا والله رأيت رأس الحسين (صلوات الله عليه) على قناة يقرأ بلسان ذلق ذرب، يقرأ سورة الكهف حتى بلغ «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا».

ص: 128


1- مناقب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) للكوفي: ج 2 ص 267
2- الارشاد للمفيد: ج 2 ص 117

فقال رجل: ورأسك والله أعجب يا ابن رسول الله من العجب،(1) والأثر الإرشادي هنا في الناس.

4- وعنه أيضًا، قال: أدخل رأس الحسين (صلوات الله عليه) دمشق على قناة، فمرَّ برجل يقرأ سورة الكهف وقد بلغ هذه «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا».

فأنطق الله تعالى الرأس، فقال:

«أمري أعجب من أمر أصحاب الكهف والرقيم»(2).

وتكشف الرواية عن أنّ المظهر للأثر الإرشادي بين الناس هو رأس الإمام الحسين (عليه السلام) مبينًا أنّ أمره أعجب من أمر أصحاب الكهف وهذا يعني أن آثاره (عليه السلام) أعظم.

5- وروى ابن عساکر (ت: 571 ه) و قطب الدين الراوندي (ت: 573 ه) عن المنهال بن عمرو، قال:

(أنا والله رأيت رأس الحسين (عليه السلام) حين حمل وأنا بدمشق، وبين يديه رجل يقرأ الكهف حتى بلغ قوله: «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا».

فانطق الله الرأس بلسان ذرب ذلق، فقال:

ص: 129


1- الثاقب في المناقب: ص 333
2- الثاقب في المناقب: ص 333

«أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي»(1)؛ وهنا المتكلم هو رأس الإمام الحسين (عليه السلام) مظهرًا أن قتله وحمل رأسه أعظم أثرًا في الأمة من أصحاب الكهف وخلق الوعي الجمعي.

6- ورى على بن يونس العاملي النباطي (ت: 877 ه)، قائلا:

(قرأ رجل عند رأسه بدمشق: «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا» فانطق الله الرأس بلسان عربي:

«أعجب من أهل الكهف قتلي وحملي»)(2).

7- وروى السيد هاشم البحراني (ت: 1108 ه) عن سهل بن حبيب، قال:

(فوقفوا ساعة بباب خزيمة ساعة من النهار، والرأس على قناة طويلة، فتلا سورة الكهف إلى أن بلغ في قراءته إلى قوله تعالى:

«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا».

قال سهل: والله إن قراءته أعجب الأشياء، ثم بكيت، وقلت: إن هذا أمر فظيع، ثم غشي علي فلم أفق من غشواتي إلى أن ختم السورة)(3).

إذن:

كانت الحكمة في تكرار تلاوة رأس الامام الحسين (عليه السلام) في الكوفة ودمشق وما بينهما لبيان تأثير هذه المعجزة على عقول الناس وإرجاعهم إلى

ص: 130


1- تاریخ دمشق: ج 6 ص 369، الخرائج والجرائح: ج 2 ص 577
2- الصراط المستقیم: ج 2 ص 179
3- مدينة المعاجز: ج 4 ص 122

التوحيد الذي جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتمسك بعترته أهل بيته (عليهم السلام) والولاية لهم فهم الخلفاء من بعده والقادة والائمة المؤتمنون على شرع الله تعالى.

وإنّ الابتعاد عنهم والاقتداء بغيرهم يؤدي إلى الضلال والضياع والخسران المبين، وبذاك يتضح بيان أثر هذه المظاهر الإعجازية في بيان تضيع عقيدة التوحيد في الأمة

أما الآثار التي أحدثها رأس الإمام الحسين (عليه السلام) في توحيد فكر الأمة في الإصلاح ونبذ الطاغوت والتمسك بالثقلين كتاب الله وعترة المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وذلك عبر خلق الوعي الجمعي والفردي في الأمة وتحرر ضميرها من قيود الطاغوتية والأنساق الثقافية لسنة العمریان والأمويان ضمن أنساقٍ ثقافية وبنائية جديدة لتعيد بناء الإسلام من جديد وكما أراده الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله)، وهو ما سنتناوله في الفصل القادم.

ص: 131

ص: 132

الفصل الثالث أثر الرأس الشریف فی خلق الضمیر الجمعي وتکوین البنائیة الوظیفیة في المجتمع الإسلامي

ص: 133

ص: 134

توطئة

يشكل حدث عاشوراء ومجرياته متغيرًا في بناء المنظومة الفكرية للإسلام، فقد استطاع الحدث اسقاط ما کونته خلافة العمريان من أنساق ثقافية ارتكزت على متغيرٍ في مفهوم التوحيد والنبوة والإمامة.

إذ انطلق العمريان في مفهوم التوحيد على ترسيخ معطيات فكرية تدعو لجعل رضا الله تعالى متلازم مع رضا الخليفة وطاعته؛ سواء نُصَّب هذا الخليفة بالشوری کما حدث في السقيفة وترجيح ابن ابي قحافة للخلافة أو بالنص کما حدث لابن الخطاب بِنَّصٍ من أبي بكر، أو العودة للشوری کما حدث لابن عفان الأموي.

ليعود الأمر إلى البيعة العامة كما حدث في يوم الغدير وتهافت الصحابة على انتخاب أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).

وهو القائل (عليه الصلاة والسلام) في بيان مجريات تداول السلطة بين العمريين وثالثهما الأموي ابن عفان حتّى انثال الناس عليه (عليه السلام) من كل جانب يبايعونه للخلافة، بعد أن غيرت الولاة من قبله المفاهيم التي جاء بها القرآن والنبي (صلى الله عليه وآله)، وقد رأى أنّ الصبر على هذه المحنة أنفع للإسلام وأهله.

ص: 135

فيقول (عليه الصلاة والسلام):

«فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وَ فِي الْعَينِ قَذًى وَ فِي الْحَلْقِ شَجاً أَرَى تُراثِي نَهْباً حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ، فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلانٍ بَعْدَهُ، - ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْأَعْشَى:

شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا *** وَ يَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ

فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُها في حَيَاتِهِ، إِذْ عَقَدَهَا لآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا، فَصَيَّرَهَا في حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا، وَيَخْشُنُ مَسُّهَا وَيَكْثُرُ العِثَارُ فِيهَا وَالاْعْتَذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ، إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ، فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللهِ بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ، فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ، جَعَلَهَا في جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنَّي أَحَدُهُمْ فَيَاللهِ وَلِلشُّورَى، مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأَوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هذِهِ النَّظَائِرِ، لكِنِّي أَسفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا، فَصَغَا رَجُلُ مِنْهُمْ لِضِغْنِه، وَمَالَ الآخَرُ لِصِهْرهِ مَعَ هَنٍ وَهَنٍ إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ القَوْمِ نَافِجَاً حِضْنَيْهِ، بَيْنَ نَثِيلهِ وَمُعْتَلَفِهِ، وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللهِ، خَضْمَةَ الإِبِل نِبْتَةَ الرَّبِيعِ، إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُّ وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ، وَكَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ مبايعة علي فَمَا رَاعَنِي إلاَّ وَالنَّاسُ إليَّ كَعُرْفِ الضَّبُعِ، يَنْثَالُ ونَعَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى لَقَدْ وُطِىءَ الحَسَنَانِ وَشُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلي كَرَبِيضَةِ الغَنَمِ، فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ، وَمَرَقَتْ أُخْرَى وقَسَطَ آخَرُونَ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ،

ص: 136

«تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِینَ لَا یُرِیدُونَ عُلُوًّا فِی الْأَرْضِ وَ لَا فَسَادًا وَ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ»، بَلَى وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا، وَلَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا أَمَا وَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْ لا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَ قِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ، أَلّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لا سَغَبِ مَظْلُومٍ، لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا - وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا - وَ لأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ»(1).

والنص الشريف يلخص مرتكزات المنظومة الفكرية والاجتماعية والسياسية للإسلام في ربع قرن منذ أن توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإلى يوم انقضاء خلافة عثمان بن عفان، ليتبعها بعد ذلك مجريات اكمال المشروع المفاهيمي الذي أسسه العمريان في منظومة التوحيد والنبوة والإمامة، وسريان هذه المفاهيم في مصادیق عديدة كان أبرزها قتل ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبهذه الكيفية وحمل رأسه المقدس في المدن الإسلامية يطاف به في أسواقها وأزقتها، ويصلب على أبوابها ومداخلها في مشهد لم تشهده أمة من الأمم منذ أن بعث الله آدم (عليه السلام) وإلى خاتم النبوة والرسالة (صلى الله عليه وآله)، فما جرى له (عليه السلام) لم يجرِ لنبي قط في صلبه وطوافه وسبي بناته وأخواته، وقتل أطفاله وإخوانه وأصحابه.

وعليه:

كانت الأمة الإسلامية بحاجة ماسة؛ بل وحاجة وجودية إلى متغيرٍ جذري في المنظومة المفاهيمية والفكرية يعيد لها وجودها القرآني والنبوي، بعد أن عاثت

ص: 137


1- نهج البلاغة، تحقیق صحبي الصالح، الخطبة الشقشقية: ص 48 - 50

الخلافة فيها الفساد، ولم يبق من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه، فهيئ الله (عزَّوجلّ) لها المعالج والدواء، وقدَّم لهذا الدين الفداء فكان للرأس المقدس ومظاهره الإعجازية الكاشفة عن النسبة إلى الله تعالى هي العلاج لهذه الأمة وإرجاعها إلى التوحيد الذي جاء به النبي (صلى الله عليه وآله)، وإن قل العائدون لهذا الدين؛ وكثر المتشبثون بتوحيد العمريان والأمویان فلا ضير في ذلك فقد مدح الله القلة وذم الكثرة، فقال (عزَّ وجلّ):

1. «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ»(1).

2. «وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ»(2).

3. «وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ»(3).

وأن الفضل في وجود هذه القلة وإرجاعها إلى توحيد القرآن والنبوة هو ما أحدثه الرأس المقدس من وعي فردي و جمعي وتحريك لضمیرها الجمعي، فلولا ذلك الوعي لما تحقق وجود الإسلام سواء في منظومته المفاهيمية في توحيد القرآن والعترة النبوية أو في منظومة العمريان والأمويان.

وذلك أن الإمام الحسين (عليه السلام) وبلحاظ تكاليفه الشرعية المنطلقة من موقع الإمامة كان يؤسس لنظام عقدي مرتكزٍ على العلاقة بين الله وعباده، وعلى نظام اجتماعي وتربوي يهدف إلى تماسك هذا المتجمع وتحريك الضمائر وخلق حالة من الوعي الجمعي يحفظ للأمة هيبتها وتماسكها وديموميتها.

ص: 138


1- سورة سبأ، الآية: 13
2- سورة هود، الآية: 40
3- سورة المؤمنون، الآية: 70

ولذا:

كانت مقاصدية تلاوة رأس الإمام الحسين للقرآن وتكرار هذه التلاوة طيلة مدة حركة السبي من الكوفة إلى دمشق ترتكز على أمرين يختصان بأهل زمانه وما يليه من الأزمنة اللاحقة، فكل هذه الأزمنة سيسري فيها آثار هذا النص.

الأمر الأول: خلق الوعي الجمعي أو الضمير الجمعي، کما سیمر بیانه.

الأمر الثاني: ديمومية هذا التفاعل وتحقق آثاره في الأزمنة اللاحقة.

وعليه: يتفرع الفصل على مبحثين، وهما كالآتي:

ص: 139

ص: 140

المبحث الأول خلق الوعي الفردي والجمعي في الأمة في ضوء البنائیة الوظیفیة

ص: 141

ص: 142

إنّ من الحقائق المهمة التي توصل إليها الباحث في دراسته للمجتمع الإسلامي والموسومة ب (اغتيال التوحيد في ضوء الأنثروبولوجيا العقدية والبنائية الوظيفية) والمنحصرة في دراسة المتغيرات عبر نصف قرن من عمر الرسالة المحمدية؛ أي: منذ عام 11 للهجرة إلى يوم عاشوراء عام 61 للهجرة؛ هي تشكل المجتمع الإسلامي من مجموعة من الأنساق الثقافية التي أسهمت في خلق الأنساق الاجتماعية التي أتصف كل نسق فيها بمواصفات وسمات مشتركة تربطهما أهداف محددة، وهم يسعون بكل امكاناتهم لتحقيق هذه الأهداف، مما خلق مطابقة للنظرية الوظيفية والأنساق العامة، ومما لا شك فيه أنّ السلطة الحاكمة ممثلة بالخلافة (الراشدة) و خلافة معاوية قد حققت أهدافها في تغيير عقيدة التوحيد القرآني والنبوي عبر الأنماط التثاقفية، وإيجاد حالة جديدة في الأنثروبولوجيا الثقافية مرتكزة على التثاقف من الداخل وبناء الأنثروبولوجيا العقدية التي أسهمت في بنائها الأنساق الثقافية والاجتماعية.

ولذا: لابد من التعريف بالبنائية الوظيفية، أولًا، وثانيًا: التعريف بمصطلح الوعي والضمير الجمعي ونشأته، وهو كالآتي:

المسألة الأولى: تعريف النظرية الوظيفية ونشأتها.

إن من مقتضيات دراسة المجتمع والتحولات الفكرية والعقدية فيه هو الرجوع إلى النظريات المعاصرة في علم الاجتماع ومنها النظرية الوظيفية أو الأنساق العامة، فقد أسهمت هذه النظرية في فهم هذه التحولات الجذرية في الاتجاه الفكري والعقدي للمجتمع.

ص: 143

وقد عرفها بعض المختصّين في العلوم الاجتماعية، فقالوا:

(اتجاه فكري في علم الاجتماع، يتألف من عنصرين أساسين ومترابطين يتمثلان في نموذج تصوري للمجتمع، وأطار منهجي لتحليل هذا المجتمع.

ويعتبر مفهوم النسق هو الأساس الفكري للوظيفية، ولقد دخل هذا المفهوم إلى علم الاجتماع من مصدرين، هما:

المصدر الكلاسيكي ويتمثل في الآراء الوظيفية في القرن التاسع عشر وبداية العشرين، والمصدر المعاصر ويتمثل في نظرية الأنساق)(1).

وقد مرّ بیان مفهوم النسق ومعناه في المبحث السابق فكان من التعريفات ما جاء على لسان مؤسس النظرية الوظيفية تالکوت بارسونز، قائلا:

(إنّ النسق هو: نظام ينطوي على أفراد مفتعلين تتحد علاقتهم بعواطفهم وأدوارهم التي تتبع من الرموز المشتركة، والمقررة ثقافيًا في أطار هذا النسق وعلى نحو يغدو معه مفهوم النسق أوسع من مفهوم البناء الاجتماعي)(2).

كما أشار بارسونز إلى أنه أي: النسق (يرتكز على معايير وقيم تشكل مع الفاعلين الاخرين جزءً من بنية الفاعلين)(3).

ص: 144


1- النظرية الوظيفية ومفهوم النسق الاجتماعي، مقال نشر في 26/ مايو/ 2015 م؛ جامعة ابن الطفيل - علم الاجتماع - المغرب العربي
2- عصر البنوية أبدیت کویزیل، ترجمة جابر عصفور: ص 411 طبع دار سعاد الصباح، ط الاولى لسنة 1993، الكويت
3- المصدر السابق

وقد فرضت هذه المعايير والقيم التي أصبحت جزءًا من النسق في ظهور معنی عام و خاص عند الفلاسفة، فقد ذهب (لا لاند) في موسوعته الفلسفية إلى (أن مصطلح النسق يقال بمعنيين عام وخاص، والنسق بالمعنى العام هو: جملة عناصر مادية أو غير مادية يتعلق بالتبادل بعضها ببعض، بحيث تشكل کلا عضویًا مثل النظام المدرسي، والجهاز العصبي.

والنسق بمعناه الخاص هو: مجموعة من أفكار علمية أو فلسفية مترابطة منطقيًا من حيث تماسكها لا من حيث حقيقتها)(1).

فهذا التماسك بين الأفكار كان هو الأساس في ظهور (جملة من الأفعال والتفاعلات المعينة بين الأشخاص الذين توجد بينهم صلاة متبادلة).

وهو ما يسمى بالنظرية الوظيفية.

وتدرس النظرية الوظيفية أو نظرية الأنساق محددات ثلاثة وهي الثقافة، والشخصية، والنظام الاجتماعي.

(فنسق الثقافة: يتكون من مجموعة من العلاقات المتداخلة للقيم والمعتقدات والرموز المشتركة التي توجد في أي مجتمع.

ونسق الشخصية: ويضم مجموعة الدوافع والمؤثرات، والأفكار وكل ما يتصل بالفرد بوصفه كائنًا عضویًا.

ص: 145


1- موسوعة لا لاند الفلسفية، ترجمة خلیل احمد خلیل، ج 3 ص 1417 ط منشورات عويدات، لسنة 1996 بيروت

والنسق الاجتماعي: وهو مجموعة الأدوار ذات العلاقة المتداخلة، تلك الأدوار التي تشكل مجموعة متألفة يطلق عليها اسم النظم، والنسق الاجتماعي يشير إلى مجموعة من الأفراد الذين يتفاعلون بعضهم مع بعض الآخر، وأن هدف التفاعل هو الميل إلى الاشباع الأمثل لاحتياجاتهم)(1).

فهذه المحددات الثلاثة للنظرية الوظيفية، أي: نسق الثقافية، ونسق الشخصية، والنسق الاجتماعي قد تجلت في المتجمع الإسلامي في هذه المدة الزمنية المحصورة بين وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) في عام 61 ه في يوم العاشر من المحرم.

فقد شهدت الأنساق الثقافية لسنة الشيخين وسنة الخلافة الأموية التي ابتدأت بشكلها التأسيسي في عهد عثمان بن عفان مجموعة من العلاقات المتداخلة للقيم والمعتقدات والرموز المشتركة حتی رسخت هذه القيم الجديدة وبفعل التثاقف من الداخل توحيدًا جديدًا ظاهره الإيمان وباطنه الكفر والخراب المفاهيمي والقيمي لما جاء به القرآن والنبي المصطفی (صلی الله علیه و آله) فيصبح الخضوع والخنوع والطاعة العمياء للخليفة هو مرکوز التوحيد الذي يقود المسلم إلى الجنة

ومما لا شك فيه فقد كان نسق الشخصية هو الأبرز في هذه المتغيرات الجديدة التي نشأ عليها الإنسان في نصف قرن من الزمن فقد أوغلت سنة العمريان والأمويان في ميول الإنسان المسلم وانفعالاته وأفكاره.

ص: 146


1- النظرية الاجتماعية الحديثة، ككوهن بيرسي، ترجمة د. عادل مختار الهواري، ص 147 ط دار فينوس للطباعة والنشر القاهرة لسنة 1975 م

المسألة الثانية: مفهوم مصطلح الوعي الجمعي ونشأته.

يُعد مصطلح (الوعي الجمعي) أو (الضمير الجمعي) من المصطلحات المعاصرة التي تنبه إلى أهميته وخطورته علماء الاجتماع بالدرجة الاساس، وعلماء النفس والأنثروبولوجيا.

لاسيما العالم (أميل دوركايم)(1)؛ إذ يمثل (دورکایم نقطة تحول هامة في تاريخ التفكير الاجتماعي ونظرية علم الاجتماع، فلقد تجنب كثيرًا من المشكلات التي آثارها علماء الاجتماع التطويريون في القرن التاسع عشر وجعل اهتمامه على تحديد موضوع علم الاجتماع)(2).

ويعد (دوركايم الأب الروحي للمدرسة الوظيفية في علم الاجتماع عبر إطلاقه صفة العضوية على التضامن الاجتماعي في المجتمعات الحديثة، وكذلك عدَّ قيام أعضاء المجتمع (المؤسسات، النظم، الطبقات، الأفراد) بالوظائف الموكلة اليهم شرطًا لبقاء المجتمع واستمراره تمامًا كما يعد قيام أعضاء الكائن الحي بوظائفها شرطًا لبقاء ذلك الكائن)(3).

ويعرف الوعي الجماعي بأنه (عبارة عن وعي الأفراد بالعلاقات الاجتماعية الرابطة بينهم وبتجاربهم المشتركة، وقد يتطور هذا الوعي وينمو

ص: 147


1- إميل دوركايم (1858 - 1917) فیلسوف وعالم اجتماع فرنسي. أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث، وقد وضع لهذا العلم منهجية مستقلة تقوم على النظرية والتجريب في آن معا. أبرز آثاره في تقسيم العمل الاجتماعي De la division du travail social (عام 1893)، و (قواعد المنهج السوسيولوجي) Les Regles (1190 ple) de la méthode sociologique
2- تاريخ الفكر الاجتماعي، أ. د نبيل عبد الحميد الجبار: ص 95 / ط 1 دار دجلة / الأردن
3- نقد الفكر الاجتماعي المعاصر، د. معن خليل: ص 114 / ط 2، دار الآفاق / العراق

ليحفزهم على الاشتراك في تحمل مسؤولية النهوض بمجتمعهم؛ ويترجم ايضًا بالضمير الجمعي)(1).

ويشير الضمير الجمعي إلى (المعتقدات والمواقف الأخلاقية المشتركة التي تعمل كقوة للتوحيد داخل المجتمع)(2).

ويشكل الضمير في منظور دوركايم بأنه (جهاز متكون من الوجدان والتصوير، وأنه ليس الجهاز العقلي وهو المفهوم الذي تتضمنه كلمة الوعي او الضمير)(3)، وهذا يدعو إلى مفهوم الوعي وإلى وجود فروق بين الوعي الفردي والجمعي کما سیمر، ولكن ما هو مفهوم الوعي؟

جوابه فيما يلي:

المسألة ثالثة: مفهوم الوعي.

إنَّ للفلاسفة رؤى إضافية وتعاريفًا أخرى لبيان مفهوم الوعي؛ إذ (یری «هيجل» أن الوعي كخاصية إنسانية هو تلك المعرفة التي تكون لكل شخص بصدد وجوده وأفعاله وأفكاره، كأن يكون الشخص واعيًا ويتصرف طبقًا للمعرفة التي تحركه والعيش بوعي الوجود)(4).

وذلك (إن الإنسان هو الموجود الوحيد الذي يعي ذاته، باعتباره يوجد

ص: 148


1- موسوعة علم الانسان، المفاهيم والمصطلحات الأنثروبولوجيا، لسیمور سمیث: ص 369، ط 2، المركز القومي للترجمة - القاهرة
2- ويكيبيديا - الموسوعة الحرة - الضمير الجمعي
3- المصدر نفسه
4- المصدر نفسه

کما توجد أشياء الطبيعة، وباعتباره موجودًا لذاته.

أما الأشياء الأخرى فإنها لا توجد إلا بكيفية واحدة، وعلى هذا الأساس يجب على الإنسان أن يعيش بوصفه موجودًا لذاته لأنه يريد أن يرى ذاته تتحقق بشكل موضعي؛ فكيف يمكن أن تتمثل الذات نفسها؟)(1).

وللإجابة على هذا السؤال:

(یری دیکارت(2) أن الشك هو السبيل الوحيد إلى اليقين، فهو الذي يجعلنا نحيط بذواتنا؛ هكذا شك دیکارت بكل شيء بما في ذلك وجوده، فلم يستطع أن يقول إن الجسم والنفس من خواص نفسه؛ لكن تأكد له بوضوح أنه لا يستطيع أن يشك في أنه يفكر، حيث أن التفكير هو الخاصية الوحيدة التي لازمت الذات منذ البداية، أي بداية الشك.

فانطلاقًا من التفكير يمكن أن ندرك بصفة حدسية وجود الذات؛ هكذا استطاع دیکارت أن يقول:

ص: 149


1- الموسوعة الحرة - ويكيبيديا، الضمير الجمعي
2- رینیه دیکارت (1596 - 1650): فیلسوف، وعالم رياضي وفيزيائي فرنسي، يلقب ب (أبو الفلسفة الحديثة)، وكثير من الأطروحات الفلسفية الغربية التي جاءت بعده، هي انعكاسات لأطروحاته، والتي ما زالت تدرس حتى اليوم، خصوصًا کتاب (تأملات في الفلسفة الأولى - 1641 م) الذي ما زال يشكل النص القياسي لمعظم كليات الفلسفة. كما أن لدیکارت تأثير واضح في علم الرياضيات، فقد اخترع نظامًا ریاضیًا سمي باسمه وهو (نظام الإحداثيات الديكارتية). ودیکارت هو الشخصية الرئيسية المذهب العقلانية في القرن 17 م، كما كان ضليعًا في علم الرياضيات، فضلًا عن الفلسفة، وأسهم إسهامًا كبيرًا في هذه العلوم؛ ودیکارت هو صاحب المقولة الشهيرة: «أنا أفكر، إذًا أنا موجود»

«أنا أفكر، إذًا أنا موجود».

فالذات والتفكير متلازمان، فحينما تتوقف الذات عن التفكير تنقطع عن الوجود)(1).

ويأتي (برغسون Bergson)(2) برأي آخر لا يتفق مع رؤية بعض الباحثين حول الوعي، فيقول:

(ليس الوعي لحظة شعورية مرتبطة بشيء معين، وإنما الوعي: هو إدراك اللذات والأشياء في ديموميتها، فالوعي انفتاح على الحاضر والماضي والمستقبل).

في حين كان (كانط)(3) يميز بين الوعي بالذات والمعرفة، فهو يرى

ص: 150


1- الموسوعة الحرة - ويكيبيديا، الضمير الجمعي
2- هنري برغسون (1859 - 1941): فیلسوف فرنسي حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1927. يعتبر هنري برغسون من أهم الفلاسفة في العصر الحديث، كان نفوذه واسعا وعميقا فقد آذاع لونا من التفكير وأسلوبا من التعبير تركا بصماتهما على مجمل النتاج الفكري في مرحلة الخمسينيات ولقد حاول أن ينقذ القيم التي اطاحها المذهب المادي، ويؤكد ایمانا لا يتزعزع بالروح. حظي إبان حياته بشهرة واسعة الانتشار في فرنسا تؤثر في دوائر مختلفة: فلسفية ودينية وادبية حدث له العكس تماما بعد وفاته إذ حدث انصراف تام أو شبه تام عن فلسفته حتى صارت تقبع في ظلال النسيان ابتداء من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم
3- ایمانویل کانط: هو فيلسوف ألماني من القرن الثامن عشر (1724 - 1804). عاش كل حياته في مدينة كونيغسبرغ في مملكة بروسيا. كان آخر الفلاسفة المؤثرين في الثقافة الأوروبية الحديثة. وأحد أهم الفلاسفة الذين كتبوا في نظرية المعرفة الكلاسيكية. كان إيمانويل كانت آخر فلاسفة عصر التنوير. كان فکر ایمانویل کانت مؤثرا جدا في ألمانيا أثناء حياته وبعدها. استمر تأثيره ليكون مؤثرًا أساسيًا في الفلسفات التي جاءت بعده، مثل الفلسفة التحليلية والفلسفة الأوربية القارية

أن وعي الذات لنفسها كوجود اخلاقي لا يعني بالضرورة وعينا المطلق للأشياء، لأننا نجهل نومينات الاشياء في ذاتها، ومن ثم يظل وعينا بالأشياء وعيًا سببيًا.

أما (هوسرل)(1) فيرى على خلاف ذلك أن الوعي دائماً قصدي، (وعي بشيء ما) فقد يكون الوعي تخيلًا أو تذکرًا، أو تفكيرًا منطقيًا إلّا أنّه يتجه دائمًا صوب الشيء المفكر فيه، ومن ثم فإن الوعي بالذات هو انفتاح على الذات عبر قصدية معينة، والوعي بالعالم هو وعي قصدي للعالم.

ويحاول (میرلونبتي)(2) أن يخرج الوعي من هذه النزعة الفينومينولوجية الظاهراتية فيقول:

ص: 151


1- إدموند هوسرل (1859 - 1938): فیلسوف ألماني ومؤسس الظاهريات. ولد في موراويا في تشيكوسلوفاكيا عام 1859 م. درس الرياضيات في لايبزغ وبرلين، ثم ذهب الى فيينا للدراسة عام 1881 م، ثم درس الفلسفة؛ ولأنه كان متأثّرا في بداياته بالاتجاه النفساني في الفلسفة، فإنّه سرعان ما اتّجه نحو الاهتمام بالمعاني والماهيات الخالصة ، وهو ما تجلى في كتابه (البحوث المنطقية)؛ وله الكثير من المؤلفات. ينظر: ويكيبيديا، الموسوعة الحرّة
2- موريس ميرلوبونتي (1908 - 1991 م): فیلسوف فرنسي تأثر بفينومينولوجيا هوسرل وبالنظرية القشتالتية التي وجهت اهتمامه نحو البحث في دور المحسوس والجسد في التجربة الإنسانية بوجه عام وفي المعرفة بوجه خاص. من أهم كتبه بنية السلوك (1942 م) وفينومينولوجيا الإدراك (1945). وقد بين في هذه الأعمال بطلان مطامح علم النفس في تأسيس ذاته كعلم. والنقد هنا ليس موجها فقط إلى علم النفس بل إلى العلم بشكل عام بسبب نزوع هذا الأخير نحو تقديم فهم اختزالي وجاف للظواهر. ومهمة الفلسفة الفينومينولوجية، حسب ميرلوبونتي، تتمثل في تحقيق الرجوع إلى عالم الحياة الأصلي والبدئي وفي (العودة إلى الأشياء ذاتها). ينظر: ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

(إنّ الوعي هو الذي يمنح للعالم معاينته التي يتجلى بها، إنَّ العالم کما هو في ذاته، فإن كل اتجاهاته وحركاته نسبية الشيء الذي يعني أنه لا وجود لها فيه؛ فَالذات الواعية لا تستطيع هي كذلك أن تتمثل وعيها إلا بإسقاطها له في العالم.

ومن ثم فإن هناك علاقة جدلية بين الذات والعالم، فبدون الذات يصبح العالم بدون أبعاد ولا جهات، وبدون العالم لا تستطيع الذات أن تتمثل کوجود متعال من العالم؛ هكذا نتمكن من القول بأن الانسان لا يستطيع أن يمثل نفسه في غياب العالم دون أن يسقط في مذهب الى «أنا وحدي»).

لكن ما هو دور الآخر في الوعي بالذات؟

یری (سارتر)(1): (إن الآخر هو الذي يجعلني أعي ذاتي، فأنا حين أكون لوحدي أُحيي ذاتي ولا أُفكر فيها؛ ولكن بمجرد أن أرفع بصري فأرى الآخر ينظر إلي، أخجل من نفسي، لأنني أصبحت أنظر إلى نفسي بنظرة الآخر إلي، فالآخر هو الوسيط الأساسي الذي يجعلني أجعل من ذاتي موضعًا للوعي)(2).

ص: 152


1- جان بول شارل ایارد سارتر (1905 - 1980): فیلسوف وروائي وكاتب مسرحي کاتب سيناريو وناقد أدبي وناشط سياسي فرنسي. بدأ حياته العملية استاذاً. درس الفلسفة في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية. حين إحتلت ألمانيا النازية فرنسا، إنخرط سارتر في صفوف المقاومة الفرنسية السرية. له الكثير من الأعمال الأدبية والنصوص والكتب، حيث كانت هذه الأعمال جزء كبير في حياته؛ كان يرفض دائمًا التكريم بسبب عنده وإخلاصه لنفسه ولأفكاره ومن الجدير بالذكر انه رفض استلام جائزة نوبل في الأدب ولكنه قبل فقط لقب دكتور honoris causa من جامعة أورشلیم عام 1976. ينظر: ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
2- معضلة الحداثة من منظور مقارن، للأستاذ الدكتور جهاد عودة: ص 206 - 207

ونلاحظ في أقوال الفلاسفة حول مفهوم الوعي أنهم يدورون حول أمرين أساسيين وهما (الذات) و (التفكير) ومن ثم لا يمكن أن يتحقق الوعي عند الإنسان بدون التفكير والمعرفة ولكنهم لم يحددوا طريق المعرفة هل هو فطري أم اکتسابي؟ ووسيلته التفكير.

من هنا: اختلفوا في حدود الوعي ونوعيته فقالوا في حدود الوعي:

1- قال (مارکس)(1) في حدود الوعي ودرجاته والذي يرى إن (الوعي هو ذلك البناء الفوقي الذي تتجلى فيه جميع الأنشطة الانسانية، ويرى انه لا نستطيع اطلاقًا ان نتمثل الوعي في معزل عن الأوضاع الاجتماعية وبالتالي علاقات الإنتاج.

فالناس يدخلون في علاقات إنتاج معينة خارجة عن إرادتهم، تولد عندهم درجات متنوعة من الوعي.

ومن هذا المنطلق يقول مارکس: (ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، وانما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم).

إلا أن مارکس لا يعتبر الوعي انعكاسًا سلبيًا للواقع لأنه يؤمن بوجود علاقة جدلية فيما بينهما، فالوعي يمكنه أن يؤثر في الواقع؛ فإما ان يساهم في تغيير الواقع (الوعي الصحيح) وإما أن يساهم في تكريسه (الوعي الزائف).

ص: 153


1- کارل هانریك مارکس: فیلسوف ألماني، واقتصادي، وعالم اجتماعي، ومؤرخ، وصحفي واشتراكي ثوري (1818 م - 1883 م). لعبت أفكاره دورًا هامًا في تأسيس علم الاجتماع وفي تطوير الحركات الاشتراكية. واعتبر مارکس أحد أعظم الاقتصاديين في التاريخ. نشر العديد من الكتب خلال حياته، أهمُها بيان الحزب الشيوعي (1848)، ورأس المال (1867- 1894). ينظر: ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

2- أما (نتشيه)(1) فيرى أنَّ بالإمكان أن يعيش الإنسان حياته في استقلال عن الوعي تمامًا؛ لما كانت الحياة البشرية معرَّضة للهلاك بوصفها حياة يؤطرها الصراع من أجل البقاء، اضطر الإنسان أن يعبر عن نفسه في كلمات؛ ومن ثم يكون نمو اللغة ونمو الوعي متلازمين.

هكذا اختلف الإنسان لنفسه أوهامًا اصبحت تؤطر حياته، وأضفى عليها صبغة حقائق تقنن واقعه (کالواجب، والمسؤولية، والحرية...)، فالحقائق في العمق ليست إلا أوهامًا منسية.

3- أما (فروید)(2) فينظر إلى حياتنا نظرة مخالفة تمامًا؛ فالحياة الإنسانية

ص: 154


1- فریدریش فيلهيلم نیتشه (1844 - 1900): فيلسوف ألماني، ناقد ثقافي، شاعر وملحن ولغوي وباحث في اللاتينية واليونانية. كان لعمله تأثير عميق على الفلسفة الغربية وتاريخ الفكر الحديث. بدأ حياته المهنية في دراسة فقه اللغة الكلاسيكي، قبل أن يتحول إلى الفلسفة. بعمر الرابعة والعشرين أصبح أستاذ كرسي اللغة في جامعة بازل في 1869، حتى استقال في عام 1879 بسبب المشاكل الصحية التي ابتلي بها معظم حياته، وأكمل العقد التالي من عمره في تأليف أهم كتبه. في عام 1889، وفي سن الرابعة والأربعين، عانى من انهيار وفقدان لكامل قواه العقلية. عاش سنواته الأخيرة في رعاية والدته وشقيقته، حتى توفي عام 1900. ينظر: ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
2- سیغیسموند شلومو فروید (1856 - 1939م): طبيب نمساوي من أصل يهودي، اختص بدراسة الطب العصبي ومفكر حر يعتبر مؤسس علم التحليل النفسي. وهو طبيب الأعصاب النمساوي الذي أسس مدرسة التحليل النفسي وعلم النفس الحديث. اشتهر فروید بنظريات العقل واللاواعي، وآلية الدفاع عن القمع وخلق الممارسة السريرية في التحليل النفسي لعلاج الأمراض النفسية عن طريق الحوار بين المريض والمحلل النفسي، وغيرها الكثير من الأعمال الطبية في نهاية القرن العشرين ومع التقدم في مجال علم النفس بدأت تظهر العديد من العيوب في كثير من نظرياته، ومع هذا تبقى أساليبه وأفكاره مهمة في تاريخ الطرق السريرية وديناميكية النفس وفي الأوساط الأكاديمية، وأفكاره لا تزال تؤثر في بعض العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية. ينظر: ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

عنده أشبه بجبل الجليد (ما يظهر منه أقل بكثير مما هو خفي)؛ ومن ثمة نكون مخطئين جدًا إذا نسبنا كل سلوكياتنا إلى الوعي، لأن كل هذه الأفعال الواعية سوف تبقى غير متماسكة وغير قابلة للفهم إذا اضطررنا إلى الزعم بأنه لابد أن ندرك بواسطة الوعي كل ما يجري فينا؛ فكثير من السلوكيات لا تفهم إلا إذا أرجعناها إلى الجانب الأساسي من حياتنا النفسية وهو اللّاشعور.

وكتماثل توفيقي نستطيع القول بأن الحياة الإنسانية حياة مركبة؛ حيث يلعب فيها كل من الوعي واللّاشعور دورًا مركزیّا، فإذا كان اللّاشعور ضروريًا لتفسير كثير من السلوكيات خصوصًا منها المنحرفة والمرضية والشاذة، فإنه لا يجب أن ننسى بأن الحياة الإنسانية حرية وإرادة ومسؤولية، حيث يختار الإنسان كثيرًا من سلوكياته بكامل الوعي)(1).

إن هذا التباين في فهم (الوعي) من جهة وآثاره في الفرد والمجتمع من جهة ثانية وتداخله مع الشعور أو كما عبّر عنه (فرويد) باللّاشعور كما في الأفعال الشاذة التي تصدر عن الإنسان، أو تكريسها في المجتمع کما عند (مارکس) تبقى حلقة الاحتياج إلى التفكير هي الأساس في التغيير ونقل الإنسان من مستوى إلى مستوى آخر، حتى تلك التي أطلق عليها الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع باللّاوعي أو اللّاشعور کقیام الأُم بالدفاع عن ابنها الصغير وإن كلفها ذلك كثيرًا من الخسائر، وذلك لتصرفها بدون شعور أو اللّاوعي، ومن ثم دخول

ص: 155


1- ويكيبيديا - الموسوعة الحرة - (وعي)

(الوعي) في دائرة جديدة خارجة عن نطاق التفكير بالأضرار التي ستصيب الأُم وهنا تدخل عملية الفطرة التي غابت عن الفلاسفة وعلماء النفس وأثرها في تحديد الأُسس التي يستقيم بها النظام الحياتي الذي سنه الله تعالى في خلقه.

ولذلك:

يقودنا الحدث أي رؤية الناس في المدن الإسلامية رأس الإمام الحسين (عليه السلام) وهو يقرأ القرآن ويكلم الناس مع ما رافق ذلك من رأيتهم بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) سبايا إلى خلق حالة الوعي الفردي والضمير الجمعي في الأمة، لا سيما وأن بعضهم تصرف مع الحدث باللاشعور أو باللاوعي كما أطلق عليه علماء النفس والاجتماع في الانتفاضة السريعة بوجه الحكام سواء في الكوفة أو الشام کما سیمر بیانه.

أو تصرف بعض الناس في الكوفة بالبكاء والعويل عند سماعهم لخطبة ابنة أمير المؤمنين فخر المخدرات وبنات الرسالة العقيلة زينب (عليها السلام)، فسكنت الأجراس التي في أعناق الخيل وهدئت أنفاس الناس بعد أن هاجت بهم العواطف والشعور بالندم في التقصير عن نصر آل نبيهم (صلى الله عليه وآله) أو هو تعبير عن اللاشعور لما يعانيه الناس من الكبت والظلم وتغيير المفاهيم وحرفها.

من هنا:

نجد أن المظاهر الاحتجاجية الكاشفة عن خلق الوعي الفردي والجمعي في الأمة قد تعددت وتنوعت بين الناس جميعًا، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، من العرب أو الروم، وهي كما في ثالثًا.

ص: 156

المسألة الرابعة: مظاهر الوعي الفردي في مواجهة الطاغوتية وايديولوجية الخلافة في الكوفة.

تظهر المعطيات التاريخية التي دونت رحلة السبايا وما جرى لرأس الإمام الحسين (عليه السلام) جملة من التفاعلات التي أبداها بعض الأفراد حينما شهدوا مأساة الرأس المقدس ومظاهر الطاغوتية لدى الولاة في تعاملهم مع المقدسات وانتهاك الحرمات فضلًا عن مشاهدتهم لتلك المظاهر الإعجازية المصاحبة لرأس الإمام الحسين (عليه السلام) مما خلق حالة من الوعي في مواجهة الطاغوتية وكسر مفهوم التوحيد الذي جاء به العمريان، والمرتكز على الملازمة بين رضا الله تعالى وبلوغ جنته في الطاعة للخليفة والجهاد في سبيل الخلافة بكونها الباب الموصول إلى رضا الله وجزيل ثوابه والأمن من عقابه، فكانت هذه الحالة من الوعي قد کسرت تلك المفاهيم حينما أدركت أن التوحید ملازم مع النبي وعترته أهل بيته (عليهم السلام) فلو كان أهل هذه البيت غير صادقين في دعوتهم وإمامتهم على الناس لما تكلم رأس الإمام الحسين (عليه السلام) مع الناس يتلو کتاب الله تعالى بلسان عربي مبين.

ولذلك:

ظهرت هذه الحالة من الوعي الفردي الذي كان بدايةٍ لتحرك وخلق الوعي الجمعي أو الضمير الجمعي في الأمة كما سیر بیانه لاحقًا؛ أما هذه المظاهر من الوعي الفردي فهي كالاتي:

ص: 157

أولًا- مظاهر الوعي في مواقف الصحابي زيد بن أرقم من السلطة وتحريك الضمير الجمعي.

للصحابي زيد بن أرقم أكثر من موقف يظهر فيهما وعيه وضميره في مواجهة الوالي على الكوفة عبيد الله بن زياد، على الرغم من معرفته ببطش هذا الطاغية.

الموقف الأول: مواجهته لابن زياد في نكته للرأس المقدس (عليه السلام).

تظهر المعطيات التاريخية جملة من النصوص الكاشفة عن موقف زيد بن أرقم من ابن زیاد حين أدخل عليه رأس الإمام الحسين (عليه السلام) وهي كالاتي:

1. القاضي المغربي (ت: 363 ه) عن حزام بن عثمان، قال:

(جيء برأس الإمام الحسين (عليه السلام) إلى عبيد الله بن زياد وعنده بن أرقم، فجعل ينكث ثناياه بقضيب بيده، ويقول:

ما أحسن ثغر أبي عبد الله.

وكان قد أجلس زيد بن أرقم معه على السرير؛ فقال نح قضيبك!! أتضعه موضعًا طالما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يلثمه.

فقال له عبيد الله، أنك قد خرفت. فوثب زيد بن أرقم عن السرير ولصق

ص: 158

بالأرض، وقال: أشهد لقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) والحسن (عليه السلام) على فخذه اليمنى ويده اليمنى على رأسه، والحسين (عليه السلام على فخذه اليسرى، ويده اليسرى على رأسه. وهو يقول: «اللهم إني أستودعكهما، وصالح المؤمنين»؛ وكيف كان حفظك لوديعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إن کنت مؤمنا)(1).

2- روى البلاذري (ت: 279 ه) وابن جرير الطبري (ت: 310 ه) وغيرهما في لفظ آخر يظهر فيه انتقال زيد بن أرقم من مواجهة والي الكوفة إلى توعية الناس وحثهم على الانتفاضة على الوالي، أي تحول الوعي من صفته الفردية إلى الجماعية لتحريك الضمير الجمعي في الأمة، واللفظ للطبري عن حمید مسلم، وهو يروي مشاهدته لمجريات مجلس عبيد الله بن زیاد حينما أذّن للناس بالدخول بعد أن أدخل السبايا ورأس الإمام الحسين (عليه السلام) موضوع بين يديه (وإذا هو ينكت بقضيب بين ثنيتيه ساعة، فلما رآه زید بن أرقم لا ينجم عن نکته بالقضيب قال له أعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فوالذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) على هاتين الشفتين يقبلهما ثم انفضخ الشيخ يبكي؛ فقال له ابن زیاد: أبکی الله عينيك فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك؛ قال: فنهض فخرج فلما خرج سمعت الناس يقولون: والله لقد قال زيد بن أرقم قولا لو سمعه ابن زیاد لقتله، قال: فقلت: ما قال؟ قالوا: مر بنا وهو يقول ملك عبد عبدًا فاتخذهم تلدًا، أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم

ص: 159


1- شرح الأخبار، للقاضي المغربي: ج3 ص 170 حديث 1117

فرضيتم بالذل فبعدا لمن رضي بالذل)(1).

الموقف الثاني: نشره لحديث الثقلين وغيره بين الناس بعد واقعة عاشوراء.

لم ينته الوعي الفردي وانتقاله إلى مرحلة الوعي الجمعي في الأمة وتحريك ضميرها عند الصحابي زيد بن أرقم في مواجهة عبيد الله بن زیاد حينما رآه ينكت رأس الإمام الحسين (عليه السلام)، وإنما تلاه بمرحلة جديدة وهي محاربة الفكر الهدام الذي أسسته الخلافة ورسخته في المجتمع الإسلامي فأصبح يشكل منظومتها المفاهمية والفكرية.

ولذا:

نجد الصحابي زيد بن أرقم أدرك أنَّ الخلل والانحراف بدأ من سنة العمريين والأمويين فهم الذي أسسوا لهذه المنظومة التي شرعت انتهاك قدسية بيت النبوة ومصادرة حقها وتوهینها في أعين الناس، حتی بات المشهد في يوم عاشوراء مروعًا ومفجعًا ومخزيًا للمسلمين.

مما استلزم نشر الأحاديث النبوية التي تعيد إلى المسلمين مفاهيمهم القرآنية والنبوية وتحرك وعيهم وتحي ضميرهم وتعيد إليهم الصواب فيما يعتقدون، ومنها تمسكهم بالثقلين. وهو ما انبرى من أجله زيد بن أرقم کما یروي أحمد بن حنبل في مسنده، وابن أبي عاصم في سنته، والحاكم النيسابوري في مستدرکه، وغيرهم.

واللفظ لإمام الحنابلة وهو يروي كيف بدأت المرحلة الجديدة في بث الوعي في الأمة على يد الصحابي زيد بن أرقم بعد واقعة عاشوراء، فيقول:

ص: 160


1- تاريخ الطبري: ج 4 ص 349؛ أنساب الأشراف: ج 3 ص 207؛ الكامل في التاريخ الابن الأثير: ج 4 ص 81

(عن أبي حيان التميمي، حدثني يزيد بن حيان التميمي، قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة، وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه، قال له حصين:

لقد لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا، رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت معه، لقد رأيت یازید خیرا کثیرا، حدثنا یا زید ماسمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال:

یابن أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله - (صلى الله عليه وآله) - فما حدثتكم فاقبلوه وما لا فلا تكلفونيه، ثم قال:

قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوما خطيبا فينا بماء يدعی خمابين مكة والمدينة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: «أما بعد الا يا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي (عزَّ وجلّ) فأجيب، وأني تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله (عزَّ وجلّ) فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله تعالى واستمسكوا به»؛ فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: «وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي».

فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد، أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال:

إنّ نساءه من أهل بيته؛ ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده؛ قال: ومن هم؟ قال:

هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس.

قال: أكل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم.

قال یزید بن حيان: حدثنا زيد بن أرقم في مجلسه ذلك؛ قال: بعث إليَّ عبيد

ص: 161

الله بن زياد فأتيته فقال ما أحاديث تحدثها وترويها عن رسول الله - (صلى الله عليه وآله) - لا نجدها في كتاب الله؛ تحدث أن له حوا في الجنة؟!! قال:

قد حدثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووعدناه؛ قال:

كذبت، ولكنك شيخ قد خرفت، قال:

إني قد سمعته أذناي ووعاه قلبي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «من کذب علی متعمدا فلیتبوأ مقعده من جهنم». وما كذبت على رسول الله (صلى الله عليه وآله)(1).

ولقد تعمد حفاظ المسلمين في تصانيفهم التكتم على السبب الذي بعث فيه عبيد الله بن زياد وراء الصحابي زيد بن أرقم موهمين القارئ بأن السبب هو لتحديثه الناس عن حوض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وليس حديث الثقلين الذي ينص على عدم افتراقهما حتی یردا عليه (صلى الله عليه وآله) الحوض، فإما مجرد الحديث عن الحوض فلم يقتصر أمره فقط على رواية زيد بن أرقم فكثير من الصحابة قد تحدث عن الحوض وما سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه وفي صفته.

بل: لقد صنف بعض علماء المسلمين رسائلًا في صفة الحوض والكوثر، ومنهم:

أ. الحافظ بقي بن مخلد القرطبي (ت: 276 ه) والموسوم ب (مرویات الصحابة في الحوض والكوثر).

ص: 162


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 366 - 367؛ السنة لابن أبي عاصم: ص 308 برقم 699؛ المستدرک للحاکم: ج 1 ص 77

ب- الحافظ ابن بشکوال (ت: 576 ه) والموسوم ب (الذيل على جزء بقي بن مخلد في الحوض والكوثر).

ج- عبد القادر بن عطا صوفي والموسوم ب (المستدرك في أحاديث الحوض والكوثر).

وقد جمعت هذه المصادر روایات الصحابة في الحوض و الكوثر فبلغ عددهم خمسة وستون صحابيًا وفيهم بعض ازواج النبي (صلى الله عليه وآله)(1).

وعليه:

يكشف الحديث عن مظاهر الوعي التي نسجت شخصية زيد بن أرقم بعد رأى ما يصنع برأس الإمام الحسين (عليه السلام) وسماعه له وهو يتلو القرآن فيخاطبه قائلًا: رأسك يا بن رسول الله أعجب وأعجب من أصحاب الكهف.

ثانيًا- مظهر الوعي لدى عبد الله بن عفيف الأزدي وتحريك الضمير الجمعي في الازديين.

ص: 163


1- مرویات الصحابة في الحوض والكوثر جمعها عبد القادر بن عطا صوفي، طبع مکتبة العلوم والحكيم / المدينة المنورة / ط الأولى 1413 ه

يتجلى مظهر آخر من مظاهر الوعي الفردي وآثاره في تحريك الضمير الجمعي في المجتمع الإسلامي في الكوفة.

بعد إقدام عبيد الله بن زیاد على صلب رأس الإمام الحسين (عليه السلام) في الكوفة والطواف به في أزقتها وطرقاتها فانعكس ذلك على خلق حالة جديدة من إعادة النظر فيما جرى ويجري في الأمة، لا سيما وإنّ مظاهر الوعي بدأت تتابع من شخص لآخر، فبعد مواقف الصحابي زيد بن أرقم يسجل لنا التاريخ موقف آخر ومظهرًا جديد للوعي الفردي و سريانه إلى الضمير الجمعي في مجتمع الكوفة وبشكل سريع کسريان النار في الهشيم وقد عصفت فيه الريح.

وهو موقف التابعي عبد الله بن عفيف الأزدي وكان من خالص شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقد كسر حاجز السكوت وانتفض في وجه الطاغوت ليسجل بلسانه ويده ودمائه أصدق صورة للوعي الثوري والتغييري في الأمة.

فقد روى البلاذري (ت: 279 ه) و ابن اعثم الكوفي (ت: 314 ه) ذکر مواجهته لابن زیاد مفصلًا، واختصر ذكرها ابن جرير الطبري (ت 310 ه) وابن الأثير (ت: 630 ه) في تاريخيهما. بأسطر قليلة لا ترشد الباحث إلى دراسة هذا الموقف وبيان أثر الرأس المقدس في تحريك الضمير الجمعي في الأمة.

ولذا:

فقد أوردنا هذه المواقف في تحريك الضمير الجمعي لدى الأزديين من رواية ابن اعثم الكوفي والبلاذري، واللفظ لابن اعثم فيقول:

ص: 164

(صعد ابن زياد المنبر فحمد الله واثنی عليه، وقال في بعض كلامه الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر [أمير المؤمنين] وأشياعه، [وقتل الكذاب ابن الكذاب]؛ قال فما زاد على هذا الكلام شيئًا ووقف؛ فقال إليه عبد الله بن عفيف الأزدي (رحمه الله)، وكان من خيار الشيعة وكان أفضلهم، وكان قد ذهبت عينه اليسرى في يوم الجمل، والأخرى في صفينأ وكان لا يفارق المسجد الأعظم يصلي فيه إلى الليل ثم ينصرف إلى منزله، فلما سمع مقالة ابن زیاد وثب قائما ثم قال: يا بن مرجانة! الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك ومن استعملك(1) وأبوه، یا عدو الله أتقتلون(2) أبناء النبيين وتتكلمون بهذا الكلام على منابر المؤمنين(3)؟ قال: فغضب ابن زیاد ثم قال: من المتكلم؟ فقال: أنا المتكلم يا عدو الله! أتقتل الذرية الطاهرة التي قد أذهب الله عنها الرجس في کتابه وتزعم أنك على دين الإسلام؟ وأعوناه! أين أولاد المهاجرين والأنصار لا ينتقمون من طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمد نبي رب العالمين. قال: فازداد غضبا عدو الله حتى انتفخت أوداجه ثم قال: عليَّ به! قال: فتبادرت إليه الجلاوزة من كل ناحية ليأخذوه، فقامت الأشراف من الأزد من بني عمه فخلصوه من أيدي الجلاوزة وأخرجوه من باب المسجد فانطلقوا به إلى منزله، ونزل ابن زیاد عن المنبر ودخل القصر، ودخل عليه أشراف الناس فقال: أرأيتم ما صنع هؤلاء القوم؟ فقالوا: قد رأينا أصلح الله الأمير إنما الأزد فعلت ذلك فشد يديك بساداتهم فهم الذين استنقذوه(4) من يدك

ص: 165


1- الطبري 5/ 459: ومن ولاك
2- عن الطبري، وبالأصل: أن تقتلون
3- الطبري: وتكلمون بكلام الصديقين
4- الأصل: أستنقضوه

حتى صار إلى منزله، قال: فأرسل ابن زیاد إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدي فأخذه وأخذ معه جماعة من الأزد فحبسهم وقال: والله لا خرجتم من يدي أو تأتوني بعبد الله بن عفيف.

قال: ثم دعا ابن زیاد لعمرو بن الحجاج الزبيدي ومحمد(1) بن الأشعث وشبث(2) بن الربعي وجماعة من أصحابه وقال لهم: اذهبوا إلى هذا الأعمى أعمى الأزد الذي قد أعمى الله قلبه كما أعمى عينيه، ائتوني به! قال: فانطلقت رسل عبيد الله(3) بن زیاد إلى عبد الله بن عفيف، وبلغ ذلك الأزد فاجتمعوا، واجتمع معهم أيضا قبائل اليمن ليمنعوا عن صاحبهم عبد الله بن عفيف، وبلغ ذلك ابن زیاد فجمع قبائل مضر وضمهم إلى محمد بن الأشعث وأمره بقتال القوم.

قال: فأقبلت قبائل مضر نحو اليمن ودنت منهم اليمن، فاقتتلوا قتالًا شديدا، فبلغ ذلك ابن زیاد فأرسل إلى أصحابه يؤنبهم، فأرسل إليه عمرو بن الحجاج يخبره باجتماع اليمن عليهم، قال: وبعث إليه شبث(4) بن الربعي: أيها الأمير! إنك قد بعثتنا إلى أسود الآجام فلا تعجل قال: واشتد قتال القوم حتى قتل جماعة منهم من العرب، قال: ودخل أصحاب ابن زیاد إلى دار ابن عفيف فكسروا الباب واقتحموا عليه، فصاحت به ابنته: يا أبت! أتاك القوم من حيث لا تحتسب! فقال: لا عليك يا ابنتي! ناوليني السيف، قال: فناولته

ص: 166


1- بالأصل «عمر» وقد مر أن محمد بن الأشعث من أصحاب ابن زیاد
2- بالأصل «شبيب» خطأ
3- بالأصل: عبید
4- بالأصل: شبيب

فأخذه وجعل يذب عن نفسه وهو يقول:

أنا ابن ذي الفضل العفيف الطاهر *** عفيف شيخي وابن أم عامر

كم دارع من جمعهم وحاسر *** بطل جندلته مغادر

قال: وجعلت ابنته تقول: يا ليتني كنت رجلا فأقاتل بين يديك اليوم هؤلاء الفجرة قاتلي العترة البردة. قال: وجعل القوم يدورون عليه من خلفه وعن يمينه وعن شماله وهو يذب(1) عن نفسه بسيفه، وليس يقدر أحد أن يتقدم إليه، قال: وتكاثروا عليه من كل ناحية حتى أخذوه، فقال جندب بن عبد الله الأزدي، إنا لله وإنا إليه راجعون! أخذوا والله عبد الله بن عفيف فقبح والله العيش من بعده.

قال: ثم أتي به حتى أدخل على عبيد الله بن زياد، فلما رآه قال: الحمد لله الذي أخزاك، فقال له عبد الله بن عفيف: يا عدو الله بهذا أخزاني، والله لو فرج الله عن بصري لضاق عليك موردي ومصدري، قال: فقال ابن زیاد یا عدو نفسه! ما تقول في عثمان بن عفان رضي الله عنه؟ فقال: يا بن عبد بني علاج! يا بن مرجانة وسمية! ما أنت وعثمان بن عفان؟ عثمان أساء أم أحسن وأصلح أم أفسد، الله تبارك وتعالى ولي خلقه يقضي بين خلقه وبين عثمان بن عفان بالعدل والحق، ولكن سلني عن أبيك وعن يزيد وأبيه! فقال ابن زیاد: والله لا سألتك عن شيء أو تذوق الموت، فقال عبد الله بن عفيف: الحمد لله رب العالمين! أما إني كنت أسأل ربي عزو جل أن يرزقني الشهادة

ص: 167


1- بالأصل: «بدت» وما أثبت المناسب للسياق

والآن فالحمد لله الذي رزقني إياها بعد الإياس منها وعرفني الإجابة منه لي في قديم دعائي! فقال ابن زیاد: اضربوا عنقه! فضربت رقبته وصلب)(1).

وعليه: فقد سجل لنا التاريخ ما أحدثه الرأس المقدس (عليه السلام) من اثار في هذه المواقف في تحريك الضمير الجمعي في الأمة، واقتتال الأزديين في الدفاع عن موقف عبد الله بن عفيف الأزدي بعد أن شهدوا منه هذا الموقف الجهادي في الدفاع عن التوحيد القرآني والنبوي وفضح سنة العمريين والأمويين وإظهار فسادها وخطرها على الاسلام.

المسألة الخامسة: مظاهر الوعي الفردي في مواجهة الطاغوتية وأيديولوجية الخلافة في الشام.

مثلما سجل التاريخ جملة من المعطيات التي صحبت رأس الإمام الحسين (عليه السلام) في الكوفة في مواجهة الطاغوتية وايديولوجية الخلافة وظهور الوعي الفردي لدى بعض الصحابة والتابعين وتحريك الضمير الجمعي في الأمة ليتبلور في تنظيمات وظيفية استطاعت أن تبني نفسها وتعيد إلى هويتها الإسلامية تلك المفاهيم التي جاء بها القرآن والنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله).

فقد سجل التاريخ أيضًا جملة من المعطيات ومظاهر الوعي الفردي في عاصمة الخلافة الأموية بدمشق، وذلك حينما شاهد الناس لا سيما في مجلس طاغوت زمانه یزید بن معاوية (لعنه الله) وهو يتبجح بالإساءة

ص: 168


1- الفتوح لابن اعثم الكوفي: ج 5 ص 123 - 126؛ أنساب الاشراف للبلاذري: ج 3 ص 209 - 210 تاريخ الطبري: ج 4 ص 315؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 4 ص 83

لرأس الإمام الحسين (عليه السلام) على الرغم من مشاهدته وسماعه قراءة الرأس المقدس للقرآن.

حينها تهاوت مفاهيم العمريين وسنتهما في الأمة حينها أسست لأيديولوجية تقديس الخلافة والخليفة وأنهم الموصلان إلى رضا الله تعالى؛ فكانت هذه المواقف التي تجلى فيها الوعي كالاتي:

أولًا- مظهر الوعي الفردي لدى الصحابي أبي برزة الأسلمي من السلطة.

روى البلاذري (ت: 279 ه) والطبري (ت: 310 ه) وابن عساکر (ت: 571 ه)، واللفظ للبلاذري فقد ذكروا أن يزيد بن معاوية أمر بإدخال السبايا والرأس الشريف (فجعل ينكت بالقضيب ثغر الحسين (عليه السلام) حين وضع رأسه بين يديه، فقال أبو برزة الإسلمي:

أتنكت ثغر الحسين؟!! لقد أخذ قضيبك من ثغرة مأخذا!!! لربما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يرشفه؛ أما أنَّك یا یزید تجيئ يوم القيامة وشفيعك ابن زیاد، ويجيء الحسين وشفيعه محمد؛ ثم قام وخرج من مجلس یزید)(1).

ص: 169


1- أنساب الأشراف للبلاذري: ج 3 ص 216؛ تاریخ الطبري: ج 4 ص 356؛ تاریخ دمشق لابن عساکر: ج 2 ص 85

ثانيًا- مظهر الوعي لدى رسول قيصر الروم في مواجهة السلطة.

أخرج ابن نما الحلي (ت: 645 ه)(1) وغيره(2) عن محمد بن عبد الرحمن، عن رأس الجالوت. والحافظ القندوزي (ت: 1294 ه) ما جرى بين رسول قیصر الروم ویزید بن معاوية (لعنهما الله) حينما شاهده واضعًا رأس الإمام الحسين (عليه السلام) بين يديه. وهو يصنع معه هذا الصنيع الغريب والمستهجن للفطرة الانسانية والكاشف عن وحشية خليفة المسلمين فتوجه إليه مستفهما عن صاحب في الرأس من یکون؟ فلما اخبره رد عليه قائلًا (إن عندنا في بعض الجزائر کنیسة فيها حافر حمار عیسی (علیه السلام)، ونحن نحج إليه كل عام من الأقطار ونذر له النذور، وتعظمه کما تعظمون کعبتكم، فأشهد إنكم على باطل)(3).

وقال ذمي آخر: بيني وبين داود النبي (عليه السلام) سبعون أبا وإن اليهود تعظمني وتحترمني، وأنتم قتلتم ابن نبيكم(4).

والظاهر أنّ سبب السؤال لا ينحصر بتلك المقدمات المأساوية، أي وضع الرأس المقدس في طشت بين يدي الطاغية وإنّما لتلك المظاهر التي شهدها الناس من تلاوة الرأس المقدس للقرآن مما حرك عقول الناس وخلق لديهم حالة من الوعي في ارتباط صاحب الرأس بالسماء، وإنّه صاحب الحق، وأنّ الجالس في مجلس خلافة المسلمين هو طاغوت جلس في مجلس الخلافة بفعل تلك المنظومة.

ص: 170


1- مثير الأحزان لابن نما الحلي: ص 82، ط: الحيدرية
2- اللهوف لابن طاووس: ص 111؛ سمط النجوم العوالي للحسين بن عبد الملك إمام الحرمين: ص 198؛ تحقيق عادل أحمد وعلي محمد معوض، ط دار الكتب العلمية
3- ينابيع المودة للقندوزي: ج 3 ص 29
4- ينابيع المودة للقندوزي: ج 3 ص 29

ولذلك:

لم يكن مجرد وجود الرأس المقدس بين يدي يزيد مثيرًا للدهشة والدافع للسؤال، فلطالما حملت الرؤوس إلى الولاة وصلبت على الأبواب وخذ من تلك الأحداث والمشاهد حمل رأس الصحابي عمرو بن الحمق الخزاعي، الذي حمل رأسه إلى الشام ليوضع بين يدي معاوية بن أبي سفيان:

إذن:

كان السبب في هذه المواجهة وظهور الوعي الفردي الذي حرك الضمير الجمعي في المجتمع، لاسيما وأنَّ الحراك والمواجهة كانت من رجل ذمي فكيف يغفل المسلمون عن هذه القضية ويقتلون ابن بنت نبيهم.

ثالثًا- مظهر الوعي الفردي لدى عبد الرحمن بن الحكم ابن ابي العاص في مواجهة السلطة.

من المظاهر الكاشفة عن تحرر الوعي من القيود التي فرضتها المنظومة المفاهيمية للخلافة هو انتفاضة أحد ابناء البيت الأموي وفي مجلس الطاغوت.

فقد روى ابو الفرج الاصفهاني وغيره من المؤرخين والمحدثين هذا المظهر من الوعي الفردي لعبد الرحمن بن الحكم وهو أخو مروان، حينما أدخل الرأس المقدس علی یزید، فقال الاصفهاني:

ص: 171

(كان عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص عند یزید بن معاوية، وقد بعث إليه بن زیاد برأس الحسين (عليه السلام) فلما وضع بين يدي يزيد في الطشت، بکی عبد الرحمن ثم قال:

أبلغ أمير المؤمنين فلا تكن *** كموتر أقواس وليس لها نبل

لهام بجنب الطَّفّ أدنى قرابة *** ن ابن زياد الوغد ذي الحسب الرذل

سميّة أمسى نسلها عدد الحصى *** وبنت رسول الله ليس لها نسل

فصاح به یزید: اسكت يا بن الحمقاء، وما أنت وهذا؟!)(1)

وقد كونت هذه المظاهر من الوعي الفردي مجموعة من الأنساق الثقافية والاجتماعية محققة بذاك الضمير الجمعي في الأمة وتحركها نحو تصحيح مسار عقيدة التوحيد التي سعت السلطة جاهده على ترسيخها في أذهان الناس بغية دوام الحكم والسلطة ضمن اطار شرعي مرتكز على جملة من المفاهيم التي جاء بها العمريان والأمویان کما مرّ بيانه في هذه الدراسة.

وعليه:

فقد غيرت المظاهر الإعجازية للرأس المقدس من وعي الناس أفرادًا أم جماعة وكسرت تلك المنظومة المفاهيمية والفكرية للخلافة، وانتفض المسلمون على الخلافة والخليفة وتتابعت الحركات والثورات الجماهرية لإسقاط

ص: 172


1- الاغاني لابي الفرج الأصفهاني: ج 13 ص 178؛ أنساب الأشراف للبلاذري: ج 3 ص 222؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساکر: ج 34 ص 316؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 3 ص 116

شرعية السلطة، فضلًا عن اسقاطها لهذه المفاهيم وتصحيح عقيدة التوحيد المرتكزة على مفهوم الإمامة التعينية من الله تعالى وليس الخلافة السلطوية على رقاب المسلمين والعبث بأموالهم وأعراضهم کما حدث في واقعة الحرة التي استبيحت فيها مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاغتصبت النساء المسلمات وهن بنات الصحابة وأخواتهم إن لم يكن بعضهنَّ ممن شهدنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسمعن حديثه.

ولذلك:

دوَّن التاريخ مظاهر الضمير الجمعي وتكوين الأنساق الثقافية والاجتماعية بفعل الاثار التي حققها رأس الإمام الحسين (عليه السلام) ومصابه حينما يشاهده الناس يتلو القرآن الكريم ويكلم الناس، فأعاد بذلك لهم أهم ما يملكون وهو توحيدهم لله تعالى، وهذا ما سنتناوله في المبحث القادم.

ص: 173

ص: 174

المبحث الثاني مظاهر الضمیر الجمعي في استعادة ثقافة القرآن والنبوة وإنهاء العملیة التثاقفیة

ص: 175

ص: 176

إن قراءة الحركات التحررية التي شهدها المجتمع الإسلامي بعد مجزرة يوم عاشوراء تظهر أنَّ المجتمع نهض من الخضوع لمفاهيم الخلافة وأنساقها الثقافية وعاش الضمير الجمعي.

(إذ يعد الحراك المجتمعي في جميع اتجاهاته حالة تقتضيها طبيعة العلاقة الاجتماعية، والتطور الطبيعي الممنهج للمجتمعات)(1).

وقد بينت المعطيات التاريخية التي رصدت الحراك المجتمعي أنَّ الضمير الجمعي في المجتمع ظهر في الكوفة والمدينة؛ وذلك لتغلغل التثاقف فيهما وسطيرت المنظومة المفاهيمية لسنّة المعريين والخلافة على أهلها، في المقابل نجد أن المجتمع الدمشقي وما أحاط به من مدن الشام قد تلبس بسنة الخلافة وما جاء به العمريان والأمويان في نصف قرن، من دون أن يشهد هذا المجتمع الثقافة الأصلية للإسلام المحمدي، ولم ير من القرآن والنبوة سوى الظاهر للفظ، وعليه: لم يطرأ أي تغيير جمعي للمجتمع الشامي، وذلك لكونه لم يمر من الأساس بالثقافة القرآنية والنبوية ومنظومتها الفكرية ليجد الفارق بينها وبين ثقافة الخلافة، ومن ثم ظل متمسکًا بهذه الثقافة، ولم يشهد حالات التثاقف وما تبعها من صحوة الضمير الجمعي كما حدث في الكوفة والمدينة وهو ما سنتناوله فيما يلي:

ص: 177


1- الوعي الجمعي حالة البناء الذاتي للمجتمع في السياق القرآني، علي جمعة الرواحنة، عماد عبد الكريم الحضاونة - مجلة دراسات علوم الشريعة والقانون، المجلد 43، ملحق 2؛ لسنة 2016 م

المسألة الأولى: معطيات الضمير الجمعي في الكوفة.

إنّ أول مظهر من مظاهر الضمير الجمعي بعد يوم عاشوراء هو حركة التوابين التي انطلقت بعد مرور أربع سنوات من استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) (فأول من نهض سليمان بن صرد الخزاعي(1)، وكانت له صحبة مع النبي (صلى الله عليه وآله) ومع الإمام علي (عليه السلام)؛ والمسيب بن نجبة الفزاري(2)، وهو من كبار الشيعة، وله صحبة على قولٍ وشهد مع الإمام علي (عليه السلام) مشاهده وله معه صحبة، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي(3)، ورفاعة بن شداد البجلي(4)، وعبد الله بن وائل

ص: 178


1- هو أبو مطرف سلیمان بن صرد بن أبي الجون السلولي الخزاعي؛ صحابي من الزعماء القادة، شهد الجمل وصفين مع الإمام علي (عليه السلام)، سكن الكوفة واستشهد بعين الوردة، قتله یزید بن الحصين؛ (ينظر: الإصابة لابن حجر: برقم 345)
2- هو: المسيب بن نجبة الفزاري، تابعي، وكان رأس قومه، شهد القادسية وفتوح العراق، وكان مع علي (عليه السلام) في مشاهده كلها، سكن الكوفة وكان بطلًا متعبدًا ناسکا، استشهد مع سليمان بن صرد بالعراق سنة (65 ه) (ينظر: الاصابة ترجمة رقم: (8424)؛ والكامل في التاريخ: ج 4 ص 68 - 71)
3- عبد الله بن ثقيل الأزدي (65 ه - 684 م): عبد الله بن سعد بن نفيل الازدي، من ازد شنوءة: أحد رؤساء الكوفة وشجعانها. خرج مع سليمان بن صرد في نحو خمسة آلاف رجل يقال لهم (التوّابون) يطالبون بثأر الإمام الحسين (عليه السلام) و آلت إليه إمارتها بعد مقتل سلیمان بن صرد والمسيب بن نجبة في مكان يسمى (عين الوردة) بالجزيرة. ويعرف برأس عين. ذكره أعشی همدان في قصيدة كانت تكتم في ذلك الزمان يرثي بها التوابين، وينعت بها صاحب الترجمة بسيد شنوءة، وقد حمل الراية بعد المسيب بن نجبة وقاتل جموع بني حتى قتل. (المصدر: الأعلام، خير الدين الزركلي: 4/ 89)
4- رفاعة بن شداد البجلي: من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) و شهد معه في حرب الجمل وله أشعار في البراز، في مدح أمير المؤمنين (عليه السلام). عَدَّه الشيخ في رجاله من أصحاب أمير المؤمنين والحسن (عليهما السلام) وجعله أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم صفين على جناح عسكره مع جماعة أخرى، وله كلمات يوم نصب الحكمين تدل على مدحه، وهو ممن كتب إلى الحسين (عليه السلام) من أهل الكوفة، ولما ورد الحسين (عليه السلام) کربلاء، دعا - بدواة وبيضاء وكتب إلى أشراف الكوفة: بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى سليمان بن صرد، والمسيب بن نجية، ورفاعة بن شدّاد ... إلخ. قيام هؤلاء الجماعة لطلب ثار الحسين (عليه السلام)، وكانوا رؤساء على جند المختار وجاهدوا، وله أشعار في الرجز. قاتل رفاعة، قتال الشديد البأس، القوى المراس، حتى قتل؛ قال العلامة المامقاني بعد الإشارة بشهادته يومئذ: وكان رفاعة يوم الطف محبوسا، أو معتقلًا، لم يستطيع الخروج إلى الحسين (عليه السلام) ولم يسمع واعيته؛ أقول وهو من القوم الصالحين، الذين وفقوا مع مالك الأشتر لتجهيز أبي ذر وكفنه ودفنه. رسالة أمير المؤمنين (عليه السلام) إليه، حين كان قاضي الأهواز: دار المؤمن ما استطعت، فإن ظهره حمى الله، ونفسه كريمة على الله، وله يكون ثواب الله ... إلخ. (المصدر: مستدرکات علم رجال الحدیث، الشيخ علي النمازي الشاهرودي: 3/ 401 - 402)

التيمي(1) من بني تيم اللات بن ثعلبة واجتمعوا في دار سلیمان بن صرد، ومعهم أناس من الشيعة)(2).

ص: 179


1- كان من رؤساء التوابين الذين خرجوا بقيادة سلیمان بن صرد الخزاعي للطلب بثار الحسين (عليه السلام)، ولما قتل عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، نادوا عبد الله بن وال ليأخذ الراية مكانه، فإذا هو يحارب في جانب آخر في عصابة معه، فحمل رفاعة بن شداد البجلى فكشف أهل الشام عنه، فاتي وأخذ الراية وقاتل ملیا حتی قطعت يده اليسرى، ثم استند إلى أصحابه ويده تشخب ثم کر عليهم وهو يقول: نفسي فداكم اذكروا الميثاقا *** وصابروهم واحذروا والنفاقا لاكوفة نبغي ولا عراقا *** لا بل نريد الموت والعنافا فقاتل حتى قُتل، وكان من الفقهاء العبّاد. (المصدر: مستدركات أعيان الشيعة، حسن الأمين: 2/ 163
2- ذوب النضار لابن نما الحلي: ص 74

فكان هذا الجمع هو أول مظهر من مظاهر الوعي الجمعي أو الضمير الجمعي الذي تجلى عبر الخطبة التي خطبها سليمان بن صرد الخزاعي وحسن استقبالها من الدن الحاضرين، والذي اتضح عبر جواب رفاعة بن شداد، وهي كالآتي:

قال سليمان بن صرد الخزاعي:

(أما بعد، فقد ابتلينا بطول العمر، والتعرض للفتن، ونرغب إلى ربنا أن كي لا يجعلنا ممن يقول له:

«أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ»(1).

وقال علي (عليه السلام): «العمر الذي أنذر فيه ابن آدم ستون سنة، وليس فينا إلّا من قد بلغها، وكنا مغرمين بتزكية أنفسنا، ومدح شیعتنا، حتى بلى الله خيارنا، فوجدنا كذابين في نصر ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا عذر دون أن نقتل قاتليه، فعسى ربنا أن يعفو عنَّا»)(2).

فرد رفاعة بن شداد:

(قد هداك الله لأصوب القول، ودعوت إلى أرشد الأمور جهاد الفاسقين، وإلى التوبة من الذنب، فمسموع منك، مستجاب لك، مقبول قولك، فإن رأيتم ولّينا هذا الأمر شيخ الشيعة صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) سليمان بن صرد).

ص: 180


1- سورة فاطر: 37
2- ذوب النضار: ص 75

فقال المسيب بن نجبة الفزاري:

(أصبتم ووفقتم، وأنا أرى الذي رأيتم، فاستعدوا للحرب)(1).

ويكشف النصان تحول الوعي من الأفراد إلى الجماعة وهذا يكشف عن نمو حالة الوعي في المجتمع الكوفي وارتقائه إلى الضمير الجمعي، إذ ظهرت في الخطابات والحركة التصحيحية لعقيدة التوحيد من كونها في منظومة الخلافة مرکوزه في طاعة الخليفة وتلبس الرعية بقيود البيعة وتبعاتها الشرعية في عقيدة المعاد والفوز في الجنة إلى مرکوز هذه العقيدة في توحيد الرسالة في التمسك بالثقلين: كتاب الله وعترة النبي (صلى الله عليه وآله).

وهو ما شهدناه في الخطابات التي ظهرت في المدينة المنورة أيضًا بعد واقعة عاشوراء ومواجهة الخلافة وهو ما سنتناوله في ثانیًا.

المسألة الثانية: معطيات الضمير الجمعي في المدينة المنورة.

يعد الحراك المجتمعي وظهور الضمير الجمعي في مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسرع وقوعًا من الحراك المجتمعي في الكوفة، فقد دونت المصنفات التاريخية أحداث عام ثلاث وستين للهجرة خلع أهل المدينة البيعة ليزيد بن معاوية، وأوجب أهلها على أنفسهم قتال الخليفة الأموي؛ وذلك لانکشاف هيمنة توحيد الخلافة ومفاهيمها عند أهل المدينة بعد مرور عام واحدٍ وبضع شهور على مأساة كربلاء وقتل ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسبي بناته.

ص: 181


1- ذوب النضار: ص 75

ولقد كانت الشرارة التي أشعلت هذا الحراك المجتمعي وظهور الوعي الجمعي أو اجتماع ضمير أهل المدينة على خلع الخليفة وقتاله هي الصورة الحقيقة للخلافة التي شهدها وفد أهل المدينة عند زيارتهم لعاصمة الخلافة والتقائهم بخليفة المسلمين، وكان الوفد يضم بعض أبرز أبناء الصحابة والتابعين آنذاك، وهم:

1- عبد الله بن حنظلة(1) المعروف ب (غسيل الملائكة).

2- عبد الله بن أبي عمرو المخزومي(2).

3- المنذر بن الزبير(3).

ص: 182


1- عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الراهب: يقال له ابن الغسيل، لأنّ أباه حنظلة غسيل الملائكة، قد مضى ذكره في باب الحاء. ويقال له عبد الله ابن الراهب، ينتسب إلى جدّه، وهو عبد الله بن حنظلة بن الراهب. وقالوا: عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر یکنی أبا عبد الرحمن، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع، وقد رآه وروى عنه؛ كان خيّرا فاضلا مقدّما في الأنصار، وقُتل يوم الحرّة سنة ثلاث وستين، وكانت الأنصار قد بايعته يومئذ، وبايعت قريش عبد الله بن مطيع، وكان عثمان بن محمد ابن أبي سفيان قد أوفده إلى يزيد بن معاوية، فلما قدم على يزيد حباه وأعطاه، وكان عبد الله فاضلا في نفسه، فرأى منه ما لا يصلح. فلم ينتفع بما وهب له، فلما انصرف خلعه في جماعة أهل المدينة، فبعث إليه مسلم بن عقبة، فكانت الحرّة. (ينظر: الاستیعاب، ابن عبد البر: 3/ 391- 392)
2- عبد الله بن أبي عمرو المخزومي المدني: ذكره الذهبي في ميزانه فقال: هو عبد الله بن إبراهيم الغفاري، روى عن عبد الله بن أبي بكر، وعبد الرحمن بن زید بن اسلم، وروى عنه الحسن ابن عرفة، وجماعة. وقد ضعفه أئمة الحديث. (ينظر: میزان الاعتدال : 2/ 388 برقم 4190)
3- المنذر بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي: من وجوه قریش وشجعانهم في صدر الدولة الأموية. وهو أخو عبد الله بن الزبير وعبد الله أكبر منه سنا. انقطع إلى معاوية بن أبي سفيان. وأوصى معاوية أن يحضر المنذر غسله عند موته. ولما أراد معاوية إلحاق (زیاد بن أبيه) بنسبه، شهد المنذر بأن علي بن أبي طالب قال: سمعت أبا سفيان بن حرب يقول: أنا والله أبوه. وانتقل المنذر إلى البصرة. وأمر له معاوية بمال، فدفعه إليه عبيد الله بن زیاد (أمير البصرة) وأقطعه دارا بها. وكان يزيد ابن معاوية هو الذي كتب إلى ابن زیاد بذلك. ولما قويت حركة عبد الله بن الزبير بمكة، خاف يزيد أن يلحق المنذر بأخيه فيكون المال عونا له، فكتب إلى ابن زیاد أن يحبس المال عنه ولا يدعه يخرج من البصرة، وكان ابن زیاد يذكر شهادة المنذر بنسب أبيه ويشكرها، فأشعره بما جاءه من يزيد، ففر المنذر إلى مكة. وبقي مع أخيه عبد الله إلى أن حاصره حصين بن نمير وصرع المنذر عن بغلة كان يقاتل عليها، فقاتل وهو راجل، ولم يزل يقاتل حتى قتل. (ينظر: الأعلام للزركلي: 7 / 391 - 392)

4- مجموعة من أشراف أهل المدينة.

فلما رجعوا إلى المدينة توجه أهلها بالسؤال إلى عبد الله بن حنظلة يستعلمون حال یزید، فقال: (جئتكم من عند رجل والله إن لم أجد غير بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم، فقالوا: بلغنا أنّه أجازك و أعطاك، فقال: ما قبلت ذلك منه إلَّا لأقوى به عليه)(1).

فبايعوه على القتال إلا أن المعطيات التاريخية لزيارة الوفد ورجوعه إلى المدينة لم تكشف عن سبب هذه الزيارة والداعي الذي دفع أهل المدينة لزيارة الخليفة إلا إننا يمكن أن نستنطق النص عبر الانطباع الذي تركته هذه الزيارة، والذي ظهر عبر کلام عبد الله بن حنظلة والدعوة إلى قتال الخليفة الأموي وذلك:

للآثار التي تركها قتل ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسبي بنات النبوة وما تبع بذلك من حوادث و مظاهر إعجازية للرأس المقدس، فقد ترکت هذه الظواهر في نفوس المسلمين الأسى والنقمة على المتسبب في هذه المأساة.

ص: 183


1- أنساب الأشراف للبلاذري : ج 5 ص 334

ولذا:

فقد أشاع الخليفة الأموي أن هذه الجريمة كانت من اجتهاد والي الكوفة عبيد الله بن زیاد - عليه لعنه الله - وأنّه لم يؤمر بقتل الإمام الحسين (عليه السلام) ليتجنب انقلاب الناس، فأراد بعض أهل المدينة التحقق من الأمر، ولذلك نجدهم يستقبلون الوفد مستفهمين عن الحقيقة (فسألوه عن یزید)(1) فكان الجواب من عبد الله بن حنظلة على الرغم من قصره إلّا أنه وافيًا في کشف حقيقة الخلافة ووجوب خلع الخليفة على كل حال، وانه هو المسؤول عن قتل ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وعليه:

فقد قاموا بإخراج بني أمية من المدينة وأسندوا أمرهم إلى عبيد الله بن حنظلة فخطب فيهم فقال:

(يا قوم اتقوا الله وحده لا شريك له فو الله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمي بالحجارة من السماء، إنه رجل ينكح الأمهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبلیت الله فيه بلاء حسنا؛ فتواثب الناس يومئذ يبايعونه من كل النواحي)(2). فبايعه أهل المدينة عامة ثم قاموا بإخراج بني أمية ومواليهم من المدينة وترحيلهم إلى الشام يقودهم مروان بن الحكم وولده عبد الملك وكانوا أكثر من ألف نفرٍ، فالتقوا بمسلم بن عقبة بالطريق فأشار عليه عبد الملك بن مروان أن

ص: 184


1- أنساب الأشراف للبلاذري : ج 5 ص 334
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 5 ص 66

يختار منطقة الحرة وقتال أهل المدينة فيها فکان کما وصف مسلم بن عقبة(1).

وتكشف الحادثة عن تحول أهل المدينة من الغفلة إلى الوعي الفردي وتطوره إلى الوعي الجمعي في مبايعتهم لعبد الله بن حنظلة وخلعهم ليزيد بن معاوية والخروج على المنظومة الفكرية و المفاهيمية للخلافة و أنساقها الثقافية التي أسس لها العمریان ودعمها الأمویان کما مرَّ في فصول و مباحث الدراسة.

لتشخص أمام الباحث والدارس لاسيما في الحقل الأنثروبولوجي العقدي أنّ المجتمع الإسلامي انقسم على عقيدتين في التوحيد.

الأولى كانت تدين الله تعالى توحيد القرآن والنبوة، والأخرى: تدين لله بعقيدة توحيد العمريين والأمويين وشتان فيما بين العقيدتين ومفاهيمهما ومصادیقهما، وأن خير ما تخلص إليه الدراسة من نتائج في انقسام المجتمع الإسلامي على هاتين العقيدتين هو دراسة الحراك المجتمعي في الكوفة والمدينة وما جرى فيهما من استعادة للثقافة الأصيلة والعمل على إنهاء عميلة المثاقفة والتثاقف من الداخل، الذي جهدت الخلافة في إرسائها في المجتمع على أكثر من نصف قرن خسرت فيه الأمة كثيراً من طاقاتها الفكرية والبشرية والاقتصادية، ولم يزل المسلمون إلى اليوم يدفعون ضريبة هذه العقيدة والأيديولوجية التي كونتها الخلافة العمرية والأموية، فكان إنهاء العملية التثاقفية في الكوفة والمدينة كالاتي:

ص: 185


1- ينظر تاريخ الطبري: ج 4 ص 374 - 376

المسألة الثالثة: إنهاء العملية التثاقفية في الكوفة والمدينة والعودة إلى عقيدة توحيد الرسالة.

إن دراسة المجتمع الإسلامي في أبرز حاضنتين إسلاميتين وهما: الكوفة والمدينة وما شهدته المدينتان من ضمير جمعي ونهضوي لاستعادة الثقافة الأصلية، ثقافة القرآن والنبوة والتأسف والندم على ضياع هذه الثقافة بعد أن أعاد رأس الإمام الحسين (عليه السلام) الروح إلى الضمير الإنساني، وهو يتلو القرآن من على الرمح أو مصلوبًا على باب الكوفة ودمشق ويكلم الناس في مواضع ارتبطت بالقرآن كي يحرك وعي الأمة، ويرشدها إلى أن التوحيد مكنون في القرآن والعترة التي لازمت کتاب الله تعالى في الحياة وبعد الممات، وإنها هي السبيل إلى هوية الإسلام ورضا الله تعالى.

ولذا:

تناول المختصون في الأنثروبولوجيا الثقافية دراسة هذا التحول الجماهيري وحالة الوعي الفردي والجمعي في استعادة الثقافة الأصيلة، وذلك عبر (اهتمام الدراسات الجديدة بالمشاعر العاطفية مثل التأسف على الثقافة السابقة، وبهذه الطريقة يدرسون محاولات العودة إلى ثقافة يشعرون بانها حقيقة، وهي محاولات تتدخل في نهاية العملية التثاقفية)(1) وهو ماشهده المجتمع الكوفي والمدني فقد تندموا وتأسفوا على ثقافة القرآن والنبوة وقد انهوا بذلك العملية التثاقفية، وهي كالاتي:

ص: 186


1- من التثاقف إلى عمليات المثاقفة من الأنثروبولوجيا إلى التاريخ؛ تقدیم وترجمة أحمد رباص، موقع أنفاس

أولًا- إنهاء المثاقفة واستعادة عقيدة توحيد الرسالة في الكوفة.

إن أفضل شاهد على تأسف أهل الكوفة على ثقافة القرآن والنبوة ومحاولة العودة لهذه الثقافة هو حركة التوابين وما تبعها من نهضة المختار الثقفي، إلا أن ظهور العاطفة الجماهيرية والندامة والتأسف في حركة التوابين كان الأجلى والأقوى أثرًا من حركة المختار ونهضته.

فقد روى ابن نما الحالي (رحمة الله) (ت: 645 ه) إنَّ التوابين حينما خرجوا من الكوفة لقتال عبيد الله بن زياد وأهل الشام مروا على أرض کربلاء (فاصبحوا عند قبر الحسين (عليه السلام)، فأقاموا يومًا وليلة يصلون ويستغفرون، ثم ضجوا ضجة واحدة بالبكاء والعويل، فلم يُر يوم أكثر بكاء منه، وازدحموا عند الوداع على قبره الشريف کالزحام على الحجر الأسود)(1).

ويكشف النص التاريخي عن معطيات أنثروبولوجية ووظيفية شكلت نسقًا اجتماعيًا وثقافيًا في المجتمع الكوفي، وهي:

1. إن النسق الثقافي بدى واضحًا لدى أهل الكوفة، فقد أدرك هؤلاء أنهم مقصرون في حق الله تعالى وحق نبيهم وعترته أهل بيته (عليهم السلام)، وقد تأكد ذلك في مشاعر الندم والتأسف على ما فعلوا لا سيما ما جاء في کلمات الصحابي سليمان بن صرد حينما خاطب الناس الذين اجتمعوا في داره، التي حدد فيها النسق الثقافي وتكونه في مرتكزات عدة، منها:

أ- التعرض للفتن.

ب- الرغبة إلى الله في النجاة من الفتن قبل فوات الأوان.

ص: 187


1- ثوب النضار: ص 84

ج- رفع العذر عنهم فقد بلغوا الستين من العمر ومن ثم لا بد من الإسراع في تصحيح الخطأ.

د- الإقرار بالذنب وهو التكذيب في نصر ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ه- جهاد المتسبب في هذه الخسارة وقتاله.

ي- لا يتحقق الخلاص من الذنب إلا بقتل عدو التوحيد (فعسى ربنا أن يعفوا عنا).

وعليه:

فقد عزموا على إنهاء هذه العقيدة التي جاءت بها الخلافة، والتمسك بعقيدة التوحيد الذي جاء به القرآن والنبوة.

2- إن هذا النسق الثقافي أعاد بناء المفاهيم التي جاء بها القرآن والنبوة وإنَّ هذه المجموعة التي سميت ب (التوابين) قد تمكنت من توظيف وعيها وصحوتها في ترميم ما أتلفته الخلافة في عقيدة التوحيد فكانوا أحد عوامل بناء مجتمع إسلامي جديد استعاد عقيدة توحيد الرسالة.

ثانيًا- إنهاء المثاقفة واستعادة عقيدة توحيد الرسالة في المدينة المنورة.

شهدت مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مثلما شهدت مدينة الكوفة إنهاء عملية المثاقفة في الندم والتأسف على ثقافة الرسالة وتوحيدها بعد أن عاثت الولاة الفساد في المنظومة المفاهيمية والفكرية والقيمية للإسلام - کما مرَّ بيانه - في فصول و مباحث الدراسة.

ص: 188

وعليه:

كان لحركة الوعي الفردي والجمعي في إعادة الروح إلى عقيدة توحيد الرسالة أثره في إنهاء عملية المثاقفة وتشخيص الأنساق الثقافية لكل من الخلافة وسنة العمريين والأمويين من جهة والأنساق الثقافية للقرآن والنبوة من جهة أخرى.

ولقد كان المعطى التاريخي الناقل لخطاب قائد جيش الخلافة الذي ضم نسقًا واحدًا في الفكر والعقيدة، وقائد جيش أهل المدينة النبوية الذي ضم أنساقًا اجتماعيةً ثلاثة، وهم (أبناء المهاجرين، وأبناء الأنصار، وأبناء قریش) ونسق ثقافي واحد وهو استعادة توحيد الرسالة والندم على التقصير والخذلان لأهله ورموزه خير دليل على تجدد المجتمع الإسلامي وإعادة بناء نفسه وترمیم منظومته المفاهيمية والقيمية الأصيلة التي آمن بها وقاتل من أجلها، وبذل فيها كل غالٍ ونفيس، وإذا به اليوم يرى أنه قد ضيعها وضيع رموزها وأنساق وراء مفاهيم الخلافة وثقافتها وفكرها فأصبح غارقًا في الفتن ضائعًا لا يهتدي السبيل إلى الحق وأهله.

حتى شملته العناية الإلهية والمشيئة الربانية في رؤية الحق وأهله والانتصار لهما، وذلك بعد أن شهدوا رأس التوحيد وهو يتلو القرآن على الرمح يطاف به في بلاد المسلمين، وشهدوا خليفة المسلمين الذي جلس في مجلسٍ يرتكز على وجوب الطاعة له بمقتضى البيعة وما تنجِّزه من حكم في ذمة المسلم صاغته له شريعة العمريين؛ وإن كان الخليفة - للدولة الإسلامية الذي بايعوه المسلمون، والذين يؤمنون بالتوحيد ويخافون الجزاء يوم المعاد من الخروج على الطاعة

ص: 189

والجماعة - (ینکح الأمهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة) وغيرها من المحرمات في توحيد الرسالة والمخازي والعار في تاريخ الإنسانية.

فهذا لا يمنع من تحقق مقتضى الطاعة للخليفة ولزوم الجماعة بعد انعقاد البيعة للخليفة، وذلك لمقتضيات المنظومة المفاهمية التي أسسها العمریان وأوجبته عقيدة توحيد الخلافة.

وهو ما ظهر جليًا في مرتكزات خطاب قائد جيش الخلافة مسلم بن عقبة وخطاب وقائد جيش المدينة عبد الله بن حنظلة الذي أنهى عملية المثاقفة التي أوجدتها الخلافة، وهذه المرتكزات لنسق الخلافة ونسق أهل المدينة كالاتي:

1- مرتكزات عقيدة توحيد الخلافة في خطاب مسلم بن عقبة.

يكشف لنا النص التاريخي الذي رواه الطبري (ت 310 ه) عن مرتكزات عقيدة توحيد الخلافة التي تضمنها خطاب مسلم بن عقبة، وهو يحرض جيش الخلافة على قتال أبناء المهاجرين والأنصار والتابعين من القرشيين والموالي، وقد (رکب فرسًا فأخذ يسير في أهل الشام ويحرضهم ويقول:

(يا أهل الشام إنكم لستم بأفضل العرب في أحسابهم ولا أنسابهم، ولا أكثرها عدداً ولا أوسعها بلدًا، ولم يخصصكم الله بالذي خصكم به من النصر على عدوكم وحسن المنزلة عند أئمتكم إلا بطاعتكم واستقامتكم؛ وأنَّ هؤلاء القوم وأشباههم من العرب غيروا فغير الله بهم فتموا على أحسن ما کنتم عليه من الطاعة يتمم الله لكم أحسن ما ینیلکم من النصر والفلج)(1).

ص: 190


1- تاريخ الطبري: ج 4 ص 376

ففي هذا الخطاب يحدد مسلم بن عقبة مرتكزات عقیده توحيد الخلافة فيجمعها في أمرٍ واحد وهو:

(الطاعة والاستقامة للخليفة) وإنها الطريق للتوحيد ونيل رضا الله تعالى، وأن مفهوم الثبات على العقيدة ونيل الفوز مرهون ومقید بتمام (ما کنتم عليه من الطاعة).

فضلًا عن ذلك فقد جردهم من الأنساق الثقافية والاجتماعية التي في کونت المجتمع العربي ونمت فيهم جذوره، وهو (أنسابهم وأحسابهم) ومن ثم رفع الحصانة وعناصر القوة لديهم، فهم في نظر الخلافة قوم عصاة خارجون على الطاعة ومفرقون للجماعة.

وبناءً عليه:

فهم (أشباه العرب) (غیروا سنة الخلافة وتوحيدها) (خرجوا على الخليفة).

فكان جزاؤهم أن تستباح دماءهم وأعراضهم وأموالهم لثلاثة أيام، وإن كانوا أبناء صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن المهاجرين والأنصار ووجهاء قريش وغيرهم، وإن كانوا في المدينة التي حرم الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) الإساءة إلى أرضها وأهلها فقال (صلى الله عليه وآله):

«من أخاف أهل المدينة ظلمًا أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلا»(1).

ص: 191


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 55، حديث (16622)

في الجهة الأخرى كانت مرتكزات عقيدة التوحيد مختلفة وبها انتهت العملية التثاقفية لشريعة العمريين وسنتهما في دار الهجرة النبوية، فقد ظهرت هذه المرتكزات في خطاب عبد الله بن غسيل الملائكة، وهي كما يلي:

2. مرتكزات عقيدة التوحيد في خطاب عبد الله بن غسيل الملائكة.

يروي لنا الطبري أيضًا خطاب قائد جيش دار الهجرة وقد انتفضوا على توحيد الخلافة وسعوا إلى استعادة ثقافة القرآن والنبوة والتمسك بتوحيد الرسالة، فيقف في مقابل جيش الخلافة ويخاطب أبناء المهاجرين والأنصار فيقول:

(یا هؤلاء إنّ عدوكم قد أصابوا وجه القتال الذي كان ينبغي أن تقاتلوهم به، وأني قد ظننت ألا تلبثوا إلا ساعة حتى يفصل الله بينكم وبينهم إما لكم وإما عليکم؛ أما أنكم أهل البصيرة ودار الهجرة والله ما أظن ربكم أصبح عن أهل بلد من بلدان المسلمين بأرضى منه عنكم، ولا على أهل بلد من بلدان العرب بأسخط منه على هؤلاء القوم الذين يقاتلونکم، إنَّ لكل امرئ منكم ميتة هو ميت بها، والله ما من ميتة بأفضل من ميتة الشهادة، وقد ساقها الله إليكم فاغتنموها (فوالله ما كل ما أردتموها وجدتموها) ثم مشی برایته)(1).

ويحدد النص التاريخي لهذا الخطاب مرتكزات عقيد التوحيد لدى أهل المدينة وأنَّ السبيل الموصل إلى رضا الله تعالى والفوز بالجنة هو جهاد جيش توحيد الخلافة ونيل الشهادة في قتالهم.

وقد تحددت مرتكزات هذه العقيدة بالأسف والندم على ما فرطوا في حق الإسلام وهم أهل البصيرة ودار الهجرة النبوية، ومن ثم يلزم ذلك أن

ص: 192


1- تاريخ الطبري: ج 4 ص 376

يكونوا على وعي كبير في التمييز بين توحيد الخلافة وتوحيد الرسالة، وأن حق الطاعة مقرون ومنجَّزٌ في حق من اختارهم الله تعالى لشرعه واجتباهم واصفاهم لرسالته وحملة وحيه وقرآنه.

قوم يتلون القرآن اناء الليل وأطراف النهار؛ أحياء كانوا أم أمواتًا، يرتلون آیاته ترتیلًا، فكانوا أعجب من أصحاب الكهف والرقيم في العلاقة مع الله تعالى وصدق الدعوة إليه، فَهُم التوحيد، ومفهومه، ومصداقه وعنوانه، وطريقه إلى الله (عزَّ وجلّ).

فسلام من الله على الشفاه الذابلات من العطش الندية بآي الوحي والذكر الحيكم.

«رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»(1).

«سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»(2).

نبيل بن السيد قدوري بن السيد حسن الحسني الكربلائي الليلة الأولى من شهر رمضان لعام 1440 ه الموافق 6/ 5/ 2019 م

ص: 193


1- سورة البقرة، الآية: 127
2- سورة الصافات، الآية: 180 - 182

ص: 194

نتائج الدارسة

خلصت الدراسة ألي بعض النتائج التي يمكن إجمالها بما يلي:

1- إن عملية الإصلاح سواء أكانت في الإنسان أم المجتمع مرهونة بما ينقل إليه من ثقافة جديدة، ولكي يستطيع الإنسان الانتقال من ثقافة إلى أخرى لا بد له من إحداث الصدمة الثقافية التي شهدناها في هذه الدراسة عبر المظاهر الإعجازية التي تلازمت مع رحلة رأس الإمام الحسين (عليه السلام) من الكوفة إلى الشام، والتي أحدثت تغيرًا قويًا في خلق الوعي الفردي ونموه وتطوره إلى الضمير الجمعي أو (الوعي الجمعي)، أي من الفرد إلى المجتمع وذلك بعد احداث هذه الصدمة في النفس وخروجها من أسر ثقافة الخلافة أو ثقافة السلطة الحاكمة أو الثقافة المهيمنة، سواء كانت هذه الحالة في عينة الدراسة وفي الإفراد کزيد بن أرقم، أو عبد الله بن عفيف الأزدي، أو ابن وكيدة، أو عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، أو سلیمان بن صرد الخزاعي وغيرهم، أو في الحركات التحررية كحركة التوابين، أو أهل المدينة وغيرها، فجميع هذه الحالات شملتها عملية الإصلاح عبر الصدمة الثقافية وإنهاء العملية التثاقفية في التأسف والندم، والعودة إلى الثقافة الأصيلة وهي ثقافة التوحيد القرآني والنبوي؛ والحال يجري مجراه في مختلف المجتمعات، وأينما وجد الإنسان فإن عملية الإصلاح تستلزم أحداث صدمة ثقافية تعيد إلى الإنسان ثقافته الأصيلة بعد أن تخلق فيه حالة الوعي فيدرك أنَّه كان يسير بالاتجاه المعاكس.

ص: 195

2- إننا نجد الإعلام اليوم سواء كان مؤسساتي أو فردي کما في (مواقع التواصل)، (مرئي، أو مسموع، أو مقروء) يستثمر الصدمة الثقافية وبكل ما أوتي من قوة وبأية وسيلة سواء بالحقائق والأدلة والثوابت، أو سواء بالتلبيس والتدليس أو التضليل أو التزوير للنصوص والأحداث والمشاهد بغية زعزعت ثقافة الإنسان وصدمه کي يخرج من ثقافته إلى ثقافة جديدة مغايرة لما هو عليه فينتقل في سلوكيات إلى أخرى مرهونة بما نقل إليه من ثقافة جديدة وجدت طريقها إلى عقله بعد إحداث صدمة ثقافية فيه ليصل الحال اليوم إلى جملة من المشاهدات المتكررة في تغير هوية الإنسان وسلوكياته.

3- إن أثار المظاهر الإعجازية والمأساوية لرأس الإمام الحسين (عليه السلام) كانت ولم تزل تشكل أهم الركائز في خلق الوعي للإنسان في معرفة التوحيد والتمسك برموزه، وهم محمد وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

4- إنّ هذه المظاهر الإعجازية قد سارت مع سير الإسلام المحمدي وفي اتجاهين مختلفين، الاتجاه الأول: وهم أتباع العترة النبوية وأشياعهم فما زالت هذه المظاهر الإعجازية هي القول الثابت الذي يثبّت الله به الذين آمنوا وأنهم على الهدى والأيمان والحق حينما تمسكوا بآل التوحيد وعملوا بما أمرهم الله به في محكم كتابه، فقال (عزَّ وجلّ):

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ».

ص: 196

وأهل الصدق من كان منهم مَن رأسه مرفوع على الرمح ومصلوب على أبواب المدن وهو يقرأ القرآن ويتلو آياته في أعجب آية من آيات الله الداعية إلى التوحيد.

والاتجاه الثاني: هم عامة المسلمين المخالفين لمنهج العترة النبوية والمتمسکین بسنة العمريين والأمويين والخلافة؛ من الخلافة الموسومة ب (الراشدة) إلى الموسومة ب (الدولة الإسلامية في العراق والشام) والمعروفة ب (داعش) فكثير من هؤلاء المسلمين؛ أي: أهل السنة والجماعة لو ايقنوا هذه المظاهر الإعجازية وارتباطها بالتوحيد وأنَّ صاحبها هو الموصل إلى الله تعالى والمحرز لرضاه والفوز بجنته لاتقوا الله وكانوا مع الصادقين.

ولعل وسم من عرف التوحيد المحمدي الدال عليه عترة الهادي الأمين (صلى الله عليه وآله) حينما تعرض عليه هذه المظاهر الإعجازية لرأس سید شباب أهل الجنة (عليه السلام) فيوسم ب (المستبصر) لخير دليل على دیمومية آثار الرأس المقدس في إصلاح المنظومة المفاهيمة لعقيدة التوحيد في أمة التوحيد.

(الحمد لله رب العالمين على فضله وفضل رسول الله صلى الله عليه وآله)

ص: 197

ص: 198

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1. الإتقان، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (ت: 911 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1394 ه / 1974 م.

2. الأخبار الطوال، أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري، (ت: 282 ه)، تحقيق ومراجعة: د. عصام محمد الحاج علي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1421 ه - 2001 م.

3. الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، الشيخ المفيد، (336 - 413 ه)، تحقيق: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لتحقيق التراث

4. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبد البر، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل - بيروت، ط 1، 1412 ه - 1992 م.

5. الإصابة في تميز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، (ت: 852 ه)، دراسة وتحقيق وتعليق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1415 ه - 1995 م.

6. أعلام الوری، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم.

7. الأعلام، خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الزركلي الدمشقي

ص: 199

(ت: 1396 ه)، الناشر: دار العلم للملايين، ط: الخامسة عشر - أيار / مایو 2002 م.

8. الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني، الناشر: دار إحياء التراث العربي.

9. اغتيال التوحيد في ضوء الأنثروبولوجيا العقدية والبنائية الوظيفية، السيد نبيل الحسني، دار الوارث، الناشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، العتبة الحسينية المقدسة كربلاء - العراق، ط 1، 2019.

10. الأمالي، الشيخ الصدوق، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة - قم، ط 1، 1417 ه. ق.

11. أنساب الأشراف، البلاذري، تحقيق: الدكتور محمد حمید الله، 1959 م، المطبعة: مطابع دار المعارف بمصر، الناشر: معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالاشتراك مع دار المعارف بمصر.

12. الأنساق الثقافية المضمرة / أ. د. لجال مجناح / درس 3 الأنساق الثقافية المضمرة وقضايا الهامش/ / http://virtuelcampus.univ-msila.dz . /wp-content/uploads/2017/03.

13. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، (ت: 1111 ه) ط 2، 1403 - 1983 م، الناشر: مؤسسة الوفاء - بيروت - لبنان.

14. البداية والنهاية، ابن کثیر، (ت: 774 ه)، تحقيق: عليّ شيري، دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان، ط 1، 1408 - 1988 م.

15. بغية الطلب في تاريخ حلب، عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة العقيلي،

ص: 200

کمال الدين ابن العديم (ت: 660 ه)، المحقق: د. سهیل زکار، الناشر: دار الفکر.

16. البيان في تفسير القرآن، السيد أبو القاسم الخوئي، (ت: 1411 ه)، دار الزهراء - بيروت - لبنان، ط 4، 1395 - 1975 م.

17. تاريخ مدينة دمشق، ابن عساکر، (ت: 571 ه)، دار الفكر - بيروت - لبنان، 1415.

18. تاريخ الإسلام و وفیات المشاهير والاعلام، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، (ت: 748 ه)، تحقيق: الدكتور عمر عبد السلام تدمري، بیروت، دار الكتاب العربي، ط 2، 1410 ه - 1990 م.

19. تاريخ الطبري، (ت: 310 ه)، الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - لبنان، ط 4، 1403 - 1983 م.

20. تاريخ الفكر الاجتماعي، أ. د نبيل عبد الحميد الجبار، دار دجلة - الأردن، ط 1.

21. تاريخ المدينة، ابن شبة النميري، (ت: 262 ه)، تحقيق: فهيم محمد شلتوت، المطبعة: القدس - قم، الناشر: دار الفكر - قم - إيران، ط 2، 1410 - 1368 ش.

22. تاريخ اليعقوبي، (ت: 284 ه)، الناشر: دار صادر - بيروت - لبنان.

23. تاريخ مكة والمدينة الشريفة والقبر الشريف، أبو البقاء محمد بن أحمد بن محمد ابن الضياء المكي الحنفي، (ت: 854 ه)، تحقيق: علاء إبراهيم

ص: 201

الأزهري أيمن نصر الأزهري، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1418 ه - 1997 م

24. التبيان في تفسير القران، الشيخ الطوسي، (385 - 460 ه)، تحقيق و تصحیح: أحمد حبيب قصير العاملي، المطبعة والناشر: مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي، ط 1، رمضان المبارك 1409.

25. تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي / الوفاة: 726 / تحقيق: مؤسسة آل البيت و عليهم السلام / الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم - قم/ ط 1/ 1414.

26. ترجمة الإمام الحسين من الطبقات الکبری، ابن سعد، تحقيق: السيد عبد العزيز الطباطبائي، نشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث - قم، الطبعة: الأولى - محرم 1415 ه.

27. تزاوج الاختصاصات: ثراء معرفي و معني، نجيب عبد الواحد؛ 3 يونيو 2017؛ الدراسات البينية / التعليم العالي.

28. التفسير الكبير، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (ت: 606 ه)، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط 3، 1420 ه

29. تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، (ت: 548 ه)، تحقيق: تحقیق وتعليق: لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - لبنان، ط 1، 1415 - 1995 م.

30. تقريب التهذیب، ابن حجر، (ت: 852 ه)، دراسة وتحقيق: مصطفی عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط 2، 1415

ص: 202

- 1995م.

31. تقريب القرآن إلى الأذهان، السيد محمد الشيرازي، (ت: 1422 ه)، الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان، ط 1، 1424 - 2003 م.

32. تهذيب الكمال للمزي، (ت: 742 ه)، تحقيق: الدكتور بشار عواد معروف، الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت - لبنان، ط 4، 1406 - 1985 م.

33. الثاقب في المناقب، ابن حمزة، تحقيق: الأستاذ نبيل رضا علوان، المطبعة: الصدر - قم المقدسة، الناشر: مؤسسة أنصاريان - قم المقدسة، ط 2، 1412.

34. الثقات، محمد بن حبان بن أحمد أبي حاتم التميمي البستي، (354 ه - 965 م)، طبع بإعانة وزارة المعارف للحكومة العالية الهندية تحت إدارة السيد شرف الدین احمد مدير دائرة المعارف العثمانية،، حید آباد الدين الهند ط 1، 1395 ه - 1975 م.

35. جواهر المطالب في مناقب الإمام الجليل علي بن أبي طالب عليه السلام، محمد بن أحمد بن ناصر الدمشقي الباعوني الشافعي، تحقيق: العلامة الخبير الشيخ محمد باقر المحمودي، الإخراج الفني: فارس حسون کریم ومحمد آغا أوغلو، الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، المطبعة: دانش، قم إيران، ط 1، 1415 ه. ق.

36. الخرائج والجرائح، قطب الدين الرواندي، (ت: 573 ه)، تحقيق و نشر: مؤسسة الإمام المهدي عليه السلام، قم المقدسة.

ص: 203

37. خزانة الأدب وغاية الأرب، علي بن محمد الحموي، (ت: 837 ه)، الناشر: دار القاموس الحديث للطباعة والنشر - بيروت - لبنان.

38. الدر النظيم، يوسف بن حاتم الشامي المشغري، (ت: 664 ه)، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

39. دلائل الامامة، محمد بن جرير الطبري الشيعي، (ت: ق 4)، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة - قم، الناشر: مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة، ط 1، 1413.

40. ذوب النضار، ابن نما الحالي، (ت: 645 ه)، تحقيق: فارس حسون کریم، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، ط 1، شوال المکرم 1416.

41. رسائل الشريف المرتضى، الشريف المرتضى، تقديم: السيد أحمد الحسيني، إعداد: السيد مهدي الرجائي، نشر: دار القرآن الكريم - قم، طبع: مطبعة سيد الشهداء - قم، 1405 ه.

42. السنة، أبو بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني، (ت: 287 ه)، ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة، بقلم: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت لبنان، ط 3، 1413 ه - 1993 م.

43. سير أعلام النبلاء، الذهبي، (ت: 748 ه)، تحقيق: حسين الأسد، الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت - لبنان، ط 9، 1413 - 1993 م.

44. السيرة الحلبية، الحلبي، (ت: 1044 ه)، المطبعة: بيروت - دار المعرفة الناشر: دار المعرفة، 1400.

ص: 204

45. شرح الأخبار، للقاضي المغربي، (ت: 363 ه)، تحقيق: السيد محمد الحسيني الجلالي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي - قم، ط 2، 1414.

46. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي، (ت: 656 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 1، 1378 - 1959 م، الناشر: دار إحياء الكتب.

47. الصراط المستقيم، علي بن يونس العاملي، (ت: 877 ه)، تحقيق: محمد الباقر البهبودي، ط 1، 1384، الناشر: المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.

48. الطبقات الکبری، ابن سعد، (ت: 230 ه)، المطبعة والناشر: دار صادر - بيروت.

49. عصر البنوية أيديت کويزيل، ترجمة جابر عصفور، طبع دار سعاد الصباح، الكويت، ط 1، 1993.

50. علل الشرائع، الشيخ الصدوق، (ت: 381 ه)، تحقيق: السيد محمد صادق بحر العلوم، 1385 - 1966 م، منشورات المكتبة الحيدرية - النجف الأشرف.

51. العوالم، الإمام الحسين عليه السلام، الشيخ عبد الله البحراني (ت 1130 ه)، تحقيق: مدرسة الإمام المهدي عليه السلام، إشراف: السيد محمد باقر الموحد الأبطحي الإصفهاني، نشر: مدرسة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف بالحوزة العلمية، مطبعة أمير، قم المقدسة - إيران، ط 1 المحققة، 1407 ه، 1987 م.

52. الفتوح، أبو محمد أحمد بن أعثم الكوفي (ت 314 ه)، تحقيق: علي شيري، نشر وطبع: دار الأضواء، بيروت - لبنان، ط 1، 1411 ه.

ص: 205

53. فيض القدير، المناوي، (ت: 1031 ه)، تحقيق: أحمد عبد السلام، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، ط1، 1415 - 1994 م.

54. الكافي، الشيخ محمد بن يعقوب الكليني (ت 329 ه)، نشر وطبع: دار الأسوة للطباعة والنشر، قم المقدسة- إيران، ط 5، 1425 ه، 2004 م.

55. الكامل في التاريخ لابن الأثير، (ت: 630 ه)، 1386 - 1966 م الناشر: دار صادر - دار بيروت.

56. کشف المراد في شرح تجرید الاعتقاد، العلامة الحلي، تحقيق وتعليق: الشيخ حسن زادة الاملي، طبع و نشر: مؤسسة النشر الإسلامي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، ط 7 المنقحة، 1417 ه. ق.

57. كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب (صلى الله عليه وآله)، جلال الدين السيوطي، (ت: 911 ه)، طبع في حیدرآباد الدكن - الهند، دار الكتاب العربي، 1230.

58. لسان العرب، ابن منظور، (ت: 711 ه)، الناشر: نشر أدب - قم، محرم 1405.

59. اللهوف، السید ابن طاووس، (ت: 664 ه)، الناشر: أنوار الهدى - قم، 1417.

60. المبسوط، الشيخ الطوسي، (ت: 460 ه)، تحقيق: تصحیح و تعليق: السيد محمد تقي الكشفي، المطبعة: المطبعة الحيدرية - طهران، الناشر: المكتبة المرتضوية لإحياء آثار الجعفرية، 1387.

ص: 206

61. مثیر الاحزان، نجم الدين جعفر بن محمد بن نما الحلي (ت 645 ه)، نشر وطبع: دار العلوم، بيروت - لبنان، ط 1، 1423 ه.

62. مجمع الزوائد، الهيثمي، (ت: 807 ه)، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، 1408 - 1988 م.

63. المحبر، محمد بن حبيب البغدادي، (ت: 245 ه)، المطبعة: مطبعة الدائرة، ذي القعدة 1361.

64. مدينة المعاجز، هاشم بن سليمان البحراني، تحقيق: الشيخ عزة الله المولائي الهمداني، نشر: مؤسسة المعارف الإسلامية، المطبعة: بهمن، ط 1، 1413 ه. ق.

65. مروج الذهب و معادن الجوهر، المسعودي، (ت: 346 ه)، الناشر: منشورات دار الهجرة إيران - قم، ط 2، 1404 - 1363 ش - 1984م.

66. مرویات الصحابة في الحوض والكوثر جمعها عبد القادر بن عطا صوفي، طبع مكتبة العلوم والحكيم / المدينة المنورة / ط 1، 1413 ه.

67. المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، إشراف: دیوسف عبد الرحمن المرعشلي، دار المعرفة، بيروت - لبنان.

68. مسند أحمد بن حنبل، دار صادر، بیروت.

69. مثير الأحزاب، ابن نما الحلي، (ت: 645 ه)، منشورات المطبعة الحيدرية في النجف، 1369 ه - 1950 م.

70. المعجم الكبير، سلیمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني، (260 -

ص: 207

360)، تحقيق ومراجعة: حمدي بن عبد المجيد السلفي. الناشر: مكتبة الزهراء، الموصل، ط 2، 1404 - 1983،

71. معضلة الحداثة من منظور مقارن، الأستاذ الدكتور جهاد عودة، الناشر: -al .2015 ,Maktab al-Arabi lil-Ma'arif

72. مقتل الحسين (عليه السلام)، ابو مخنف الازدي، (ت: 157 ه)، تحقيق: تعليق: حسين الغفاري، مطبعة العلمية - قم.

73. الملل والنحل، محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني، (479 - 548)، تحقيق ومراجعة: محمد سید کیلان، الناشر: دار المعرفة، بیروت، 1404.

74. من التثاقف إلى عمليات المثاقفة من الأنثروبولوجيا إلى التاريخ؛ تقدیم وترجمة أحمد رباص، موقع أنفاس.

75. مناقب آل ابي طالب لابن شهر اشوب، (ت: 588 ه)، تحقيق: تصحيح وشرح ومقابلة: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، 1376 - 1956 م، المطبعة: الحيدرية - النجف الأشرف، الناشر: المكتبة الحيدرية - النجف الأشرف.

76. مناقب الامام علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، سليمان الكوفي (ت: ح 300 ه)، تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، مجمع احياء الثقافة الإسلامية، ط 1، محرم الحرام 1412، إيران - قم.

77. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد ابن الجوزي، (ت: 597 ه)، دراسة وتحقيق: محمد عبد القادر عطا، مصطفی

ص: 208

عبد القادر عطا، راجعه و صححه: نعیم زرزور لابن الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1412 ه - 1992 م.

78. المواقف، الايجي، (ت: 756 ه)، تحقيق: عبد الرحمن عميرة، ط 1، 1417 - 1997 م، مط: لبنان - بيروت - دار الجيل، الناشر: دار الجيل.

79. موسوعة علم الانسان، المفاهيم والمصطلحات الأنثروبولوجيا، لسیمور سميث، ط 2، المركز القومي للترجمة - القاهرة.

80. موسوعة لا لاند الفلسفية، ترجمة خلیل احمد خلیل، ط منشورات عويدات، السنة 1996 بيروت.

81. الميزان في تفسير القرآن، السيد محمد حسين الطباطبائي، (ت: 1420 ه)، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة.

82. النسق الثقافي في الكتابة، عبد الرحمن عبد الدايم، جامعة مولودي کلية الآداب الجزائر.

83. النظرية الاجتماعية الحديثة، ككوهن بيرسي، ترجمة د. عادل مختار الهواري، دار فينوس للطباعة والنشر القاهرة لسنة 1975 م.

84. النظرية الوظيفية ومفهوم النسق الاجتماعي، مقال نشر في 26 / مايو / 2015 م؛ جامعة ابن الطفيل - علم الاجتماع - المغرب العربي.

85. نظم دور السمطين، محمد الزرندي الحنفي، (ت: 750 ه)، ط 1، 1377 - 1958 م، سلسلة من مخطوطات مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) العامة.

ص: 209

86. نقد الفكر الاجتماعي المعاصر، د. معن خلیل، ط 2، دار الآفاق / العراق.

87. نهاية الارب في فنون الادب، النويري، (ت: 733 ه)، المطبعة: مطابع گوستاتسوماس وشركاه، الناشر: وزارة الثقافة والارشاد القومي المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر.

88. نهج البلاغة، تحقیق صحبي الصالح، ط 1، 1412 - 1370 ش، المطبعة: النهضة - قم، الناشر: دار الذخائر - قم - إيران.

89. الوافي بالوفيات، الصفدي، (ت: 764 ه)، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفی، 1420 - 2000 م، المطبعة: بيروت - دار إحياء التراث، الناشر:

دار إحياء التراث.

90. الوعي الجمعي حالة البناء الذاتي للمجتمع في السياق القرآني، علي جمعة الرواحنة، عماد عبد الكريم الحضاونة - مجلة دراسات علوم الشريعة والقانون، المجلد 43، ملحق 2؛ لسنة 2016 م.

91. وقعة صفين، نصر بن مزاحم المنقري، (ت: 212 ه)، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، ط 2، 1382 ه، الطبع والنشر: المؤسسة العربية الحديثة.

92. ويكيبيديا - الموسوعة الحرة، موسوعة إنترنت، 9 يوليو 2003.

93. ينابيع المودة لذوي القربی، القندوزي، (ت: 1294 ه)، تحقيق: سيد علي جمال أشرف الحسيني، ط 1، 1416، المطبعة: أسوه، الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر.

ص: 210

المحتويات

مقدمة الكتاب...9

فرضية الدراسة:...12

منهج البحث:...13

نوع الدراسة: (بينية - interdisciplinary)...13

التمهید...17

أولًا - تعريف الفكر في اللغة والاصطلاح...17

ألف - الفكر لغة...17

باء - تعريف الفكر في الاصطلاح...18

ثانيًا - تعريف التوحيد في اللغة والاصطلاح...19

ألف - التوحيد لغة:...19

باء - تعريف التوحيد في الاصطلاح:...20

ثالثًا - تعریف (فکر التوحید)...21

رابعًا - النظرية البنائية الوظيفية (The structure Function)...22

خامسًا - الأنثروبولوجيا الثقافية (Cul Thru Anthropology)...28

سادسًا - التثاقف و (المثاقفة) Acculturation ...32

ألف - تعريف التثاقف...32

باء - التثاقف من الخارج...33

الفصل الأول: رأس الإمام الحسين (علیه السلام) بين الصلب وتلاوة القرآن...35

توطئة...37

ص: 211

المبحث الأول طواف الرأس المقدس (علیه السلام) في المدن الإسلامية وصلبه

المسألة الأولى: إخراج رأس الإمام الحسين (علیه السلام) من كربلاء عاجًلا...41

المسألة الثانية: صلب رأس الإمام الحسين (علیه السلام) في الكوفة ودمشق والمدينة...44

أولاً - صلب الرأس الشريف في الكوفة...44

ثانيًا - صلب الرأس الشريف في دمشق...45

ثالثًا - صلب الرأس الشريف في المدينة النبوية...46

المبحث الثاني المظاهر الإعجازية للرأس المقدس (علیه السلام) في المعطيات التاريخية

المسألة الأولى: ظهور أولى الآيات الإعجازية للرأس المقدس في الكوفة...52

المسألة الثانية: قراءة الرأس المقدّس لسورة الكهف في الكوفة وتحنحنه قبل القراءة...53

أولاً - تحنحن الرأس وتلاوته سورة الكهف...53

ثانيًا - تلاوة الرأس المقدس لقوله تعالى «إوَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»...54

ثالثًا - سماع زيد بن أرقم الرأس المقدس يتلوا آية الكهف...54

رابعًا - مخاطبة الرأس المقدس لأحد الرجال الذين يتناوبون على حمله...56

المسألة الثالثة: المظاهر الإعجازية للرأس المقدس في طريقه إلى الشام...57

أولًا - ظهور یدٍ تكتب بقلم من حديد في أول ليلة من المسير إلى دمشق...58

ثانيًا - مظهر النور الذي شاهده الراهب النصراني...59

ثالثًا - رؤية أحد الجند الحاملين للرأس المقدس غمامة بيضاء من النور...63

ص: 212

رابعاً - رأس الإمام الحسين (علیه السلام) يتحدث مع راهب نصراني في مدينة قنسرين...64

خامسًا - الرأس المقدس يتحدث مع ابن وكيدة...65

المسألة الرابعة: المظاهر الإعجازية التي ظهرت لرأس الإمام الحسين (علیه السلام) في دمشق -...66

أولاً - فواح الطيب من الرأس المقدس عند إدخاله على یزید...66

ثانیًا - سماع عمرو بن المنهال رأس الإمام الحسين (علیه السلام) وهو يقرأ القرآن...67

ثالثًا - مخاطبة رأس الإمام الحسين (علیه السلام) رجلاً يقرأ القرآن بدمشق...67

رابعًا - قراءة الرأس المقدس لقوله «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ»...69

خامسًا - سماع الرأس المقدس في دمشق يقول: لا قوة إلا بالله...69

الفصل الثاني: آثار المظاهر الإعجازية لرأس الإمام الحسين (علیه السلام) في إحياء فكر التوحيد...71

المبحث الأول مفهوم المعجزة ودلالتها في المعطى القرآني والروائي

المسألة الأولى: مفهوم المعجزة في القرآن...78

المسألة الثانية: مفهوم المعجزة في اللغة والاصطلاح...79

أولًا - المعجزة لغة...79

ثانيًا - المعجزة اصطلاحًا...80

المسألة الثالثة: علة اختصاص الأنبياء والأئمة بالمعجزة وأثرها في العقيدة...83

ص: 213

المبحث الثاني علة قراءة رأس الإمام الحسين (علیه السلام) للقرآن

المسألة الأولى: مواجهة شعار (حسبنا کتاب الله) فكتاب الله يتلى من على الرمح...90

المسألة الثانية: مواجهة فتنة (رفع المصاحف على الرماح)، فها هو القرآن يُتلى من على الرمح...91

المسألة الثالثة: مواجهة النسق الاجتماعي والثقافي لقُرّاء القرآن ودعمهم لأيديولوجية الخلافة...95

أولًا - معنى النسق في اللغة والاصطلاح...95

ثانيًا - معنى النسق الثقافي و مفهومه...96

ثالثًا - استثمار السلطة لنسق قراء القرآن في التعبئة العقدية والحربية لقتال الإمام علي علیه السلام...100

رابعًا - إن مقتضى ظهور قراءة القرآن لرأس الإمام الحسين (عليه السلام) بما يناسب الصنعة...107

المبحث الثالث علّة تكرار تلاوة رأس الإمام الحسين (علیه السلام) لسورة الكهف من الكوفة إلى الشّام

المسألة الأولى: إن العلة في وقوع معجزة أهل الكهف ورأس الإمام الحسين واحدة وهي الدعوة إلى التوحيد...114

المسألة الثانية: إنّ الغاية في المعجزتين هي أرجاع الناس إلى الإيمان بالميعاد...117

المسألة الثالثة: إن مقتضى تلاوة الرأس المقدس صدق دعوی رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) في التلازم بين النبوّة والإمامة...120

ص: 214

أولًا - إن تلاوة رأس الإمام الحسين (علیه السلام) تصديقًا لدعوى آية البلاغ في الإمامة والإمام...121

ثانيًا - إنّ تلاوة الرأس المقدس تكذيبًا لدعوي الخلافة والخليفة...123

المسألة الرابعة: إنّ تلاوة الرأس المقدس لآية الكهف أعظم أثرًا في التوحيد من معجزة أصحاب الكهف...126

أولاً - دلالة لفظ (أم حسبت) في آية اصحاب الكهف...126

ثانيًا - إنّ الأثر الإرشادي في آية الرأس المقدس أعظم من آية أصحاب الكهف...127

الفصل الثالث: أثر الرأس الشريف في خلق الضمير الجمعي وتكوين البنائية الوظيفية في المجتمع الإسلامي...133

توطئة...135

المبحث الأول خلق الوعي الفردي والجمعي في الأمة في ضوء البنائية الوظيفية

المسألة الأولى: تعريف النظرية الوظيفية ونشأتها...143

المسألة الثانية: مفهوم مصطلح الوعي الجمعي ونشأته...147

المسألة ثالثة: مفهوم الوعي...148

المسألة الرابعة: مظاهر الوعي الفردي في مواجهة الطاغوتية وايديولوجية الخلافة...157

أولاً - مظاهر الوعي في مواقف الصحابي زيد بن أرقم من السلطة وتحريك الضمير الجمعي...158

ثانيًا - مظهر الوعي لدى عبد الله بن عفيف الأزدي و تحريك الضمير الجمعي في الازديين...163

ص: 215

المسألة الخامسة: مظاهر الوعي الفردي في مواجهة الطاغوتية وأيديولوجية الخلافة في الشام...168

أولًا - مظهر الوعي الفردي لدى الصحابي أبي برزة الأسلمي من السلطة...169

ثانيًا - مظهر الوعي لدى رسول قيصر الروم في مواجهة السلطة...170

ثالثًا - مظهر الوعي الفردي لدى عبد الرحمن بن الحكم ابن أبي العاص في مواجهة السلطة...171

المبحث الثاني مظاهر الضمير الجمعي في استعادة ثقافة القرآن والنبوة وإنهاء العملية التثاقفية

المسألة الأولى: معطيات الضمير الجمعي في الكوفة...178

المسألة الثانية: معطيات الضمير الجمعي في المدينة المنورة...181

المسألة الثالثة: إنهاء العملية التثاقفية في الكوفة والمدينة والعودة إلى عقيدة توحيد الرسالة...186

أولاً - إنهاء المثاقفة واستعادة عقيدة توحيد الرسالة في الكوفة...187

ثانيًا - إنهاء المثاقفة واستعادة عقيدة توحيد الرسالة في المدينة المنورة...188

نتائج الدارسة...195

المصادر والمراجع...199

المحتویات...211

ص: 216

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.