البناء القيمي والتقوائي للراعي في عهد الإمام علي علیه السلام للأشتر النخعي رضي الله عنه

هوية الکتاب

البناء القيمي والتقوائي للراعي في عهد الإمام علي علیه السلام للأشتر النخعي رضي الله عنه

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1727 لسنة 2017 م ا789933582135 مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda.

ISBN 978-9933-582 - 13-5

رقم تصنيف BP 38. 09 A4 T3 2017 :LC المؤلف الشخصي: التميمي، هادي عبد النبي.

العنوان: البناء القيمي والتقوائي للراعي في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه).

بیان المسؤولية: تأليف الأستاذ المساعد الدكتور هادي عبد النبي التميمي، الأستاذ المساعد الدكتورة ختام راهي مزهر الحسناوي، تقديم السيد نبيل الحسيني الكربلائي.

بيانات الطبعة: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: و کربلاء: العتبة الحسينية المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة.

1438 ه = 2017 م.

الوصف المادي: 120 صفحة.

سلسلة النشر: دراسات في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) - وحدة الدراسات الأخلاقية؛ 5 - مؤسسة علوم نهج البلاغة.

ص: 1

اشارة

ISBN 978-9933-582 - 13-5 رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1727 لسنة 2017 م ا789933582135 مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda.

رقم تصنيف BP 38. 09 A4 T3 2017 :LC المؤلف الشخصي: التميمي، هادي عبد النبي.

العنوان: البناء القيمي والتقوائي للراعي في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه).

بیان المسؤولية: تأليف الأستاذ المساعد الدكتور هادي عبد النبي التميمي، الأستاذ المساعد الدكتورة ختام راهي مزهر الحسناوي، تقديم السيد نبيل الحسيني الكربلائي.

بيانات الطبعة: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: و کربلاء: العتبة الحسينية المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة.

1438 ه = 2017 م.

الوصف المادي: 120 صفحة.

سلسلة النشر: دراسات في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) - وحدة الدراسات الأخلاقية؛ 5 - مؤسسة علوم نهج البلاغة.

تبصرة ببيلوغرافية: يتضمن هوامش - لائحة مصادر والمراجع (الصفحات 113 - 119).

تبصرة محتويات:

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين بن موسی، 359 - 406 هجرياً - نهج البلاغة، عهد مالك الأشتر.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجرياً - أحاديث.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریاً - رسائل.

مصطلح موضوعي: الإسلام والدولة. مصطلح موضوعي: الشيعة الدولة. مصطلح موضوعي: الأخلاق الإسلامية. مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الإسلام - جوانب أخلاقية وسلوكية. مؤلف إضافي: الحسني، نبیل قدوري حسن، 1995 م، مقدم.

مؤلف إضافي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين بن موسی، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر. عنوان إضافي : نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة سلطان

ص: 2

سلسلة دراسات في عهد الإمام على (علیه السلام) لمالك الأشتر(رضي الله عنه) (5) وحدة الدراسات الأخلاقية البناء القيمي والتقوائي للراعي في عهد الإمام علي علیه السلام للأشتر النخعي رضي الله عنه تأليف أ. م. د. هادي عبد النبي التميمي أ. م. د. ختام راهي مزهر الحسناوي

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1438 ه - 2017 م العراق: کربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الأكبر علیه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728263600-07815012933 الموقع:

www.inahj.org Email: Inahj.org@gmail.com تنویه: إن الأفکار والآراء المذکور في هذا الکتاب تعبر عن وجهة نظر کاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 4

مقدمة المؤسسة

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بها ألهم والثناء بما قدم من عموم نعمٍ ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد و آله الطاهرین.

أما بعد:

فإن من أبرز الحقائق التي ارتبطت بالعترة النبوية هي حقيقة الملازمة بين النص القرآني والنص النبوي ونصوص الأئمة المعصومين (عليهم السلام أجمعين).

وإنّ خير ما يُرجع إليه في المصادیق لَحديث الثقلين «كتاب الله وعترتي أهل بيتي» هو صلاحية النص القرآني لكل الأزمنة متلازماً مع صلاحيّة النصوص الشريفة للعترة النبوية لكل الأزمنة.

وما كتاب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) لمالك الأشتر (عليه الرحمة والرضوان) إلا أنموذجاً واحداً من بين المئات التي زخرت بها المكتبة الإسلامية والتي اكتنزت في متونها الكثير من الحقول المعرفية مظهرة بذلك احتياج الإنسان إلى نصوص الثقلين في كل الأزمنة.

من هنا:

ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تخصص حقلاً معرفياً ضمن نتاجها المعرفي التخصصي في حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفكره،

ص: 5

متّخذة من عهده الشريف إلى مالك الأشتر (رحمه الله) مادة خصبة للعلوم الإنسانية التي هي أشرف العلوم ومدار بناء الإنسان وإصلاح متعلقاته الحياتية وذلك ضمن سلسلة بحثية علمية والموسومة ب(سلسلة دراسات في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله)، التي ستصدر بإذن الله تباعاً، حرصاً منها على إثراء المكتبة الإسلامية والمكتبة الإنسانية بتلك الدراسات العلمية والتي تهدف إلى بيان أثر هذه النصوص في بناء الإنسان والمجتمع والدولة متلازمة مع هدف القرآن الكريم في إقامة نظام الحياة الآمنة والمفعمة بالخير والعطاء والعيش بحرية وكرامة.

وقد تناول البحث الموسوم ب(البناء القيمي والتقوائي للراعي في عهد الإمام علي (عليه السلام) للأشتر النخعي أهمية القيم والمبادئ والتقوى التي يلزم على الحاکم مراعاتها والتحلي بها، والعلاقة التعاونية والتضامنية مع الرعية وفق موازین الحق والإنصاف والعدل والمساوة التي يمتاز بها الحاكم والتي يجب أن يطبقها في حق رعيته، فجزى الله الباحثين خير الجزاء فقد بذلا جهدهما على الله أجرهما.

والحمد لله رب العالمين.

السيد نبيل قدوري الحسني رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 6

المقدمة

إنّ للراعي في الدولة الإسلامية أثراً بالغاً في إدارة المجتمع وتنظيم حياته في مختلف الجوانب المادية والمعنوية، وعلى صلاحه يتوقف صلاح الرعية واستقامة حياتها والعكس بالعكس، تدلنا على ذلك كلمة الإمام علي علیه السلام الخالدة:

«الملكُ كالنهر العظيم، تستمدُّ منه الجداول؛ فإن كان عذباً عذُبتْ، وإن كان ملحاً مَلحتْ»(1).

وقوله علیه السلام:

«إذا تغيّر السلطان، تغيّر الزمان»(2).

ولذلك اعتنى الإمام علي عليه السلام بتربية وبناء مَن يتولى هذه المسؤولية الخطيرة، قيمياً وتقوائياً، لما لذلك من أثر في بناء شخصية الراعي الإنسانية من جهة، وتعزيز أدواته وقدراته القيادية بما يضمن رصانة الفعل السياسي من جهة أخرى، ومن ثمَّ ضمان حسن سيرته، واستقامة العدل، وظهور مودة الرعية

ص: 7


1- ابن أبي الحديد، عز الدين بن هبة الله المدائني (ت 656 ه / 1258 م)، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط إيران، 1421 ه / 2001 م، 20 / 231
2- المصدر نفسه، 16 / 94

ورضاها، وكسب تأييدها ومساندتها التي ستؤدي حتماً إلى استقرار البلاد وتطورها.

وتبدو أهمية دراسة (عهد الإمام علي علیه السلام للأشتر النخعي)، والوقوف على مضامینه؛ لما انطوى عليه من عبقرية في الفكر الإنساني السياسي الإسلامي، ولما تجسد فيه من تجلي حقيقي وعميق للقيم الإسلامية، القابلة للتطبيق في مختلف مجالات الحياة وإدارة العلاقات الاجتماعية، بما يؤمن التفاعل بين طبقات المجتمع بكل تراکیبه تفاعلاً واعياً مثمراً، يحقق هدف استخلاف الإنسان في الأرض.

وقد ركز هذا البحث على (البناء القيمي والتقوائي للراعي في عهد الإمام علي للأشتر النخعي) وقُسِمَ على مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة، اختص المبحث الأول ببحث القيمة والتقوى لغةً واصطلاحاً، ودرس الثاني عهد الأشتر بوصفه برنامجاً حكومياً علوياً لتأصيل المعايير القيمية والأخلاقية، وتطرق الثالث إلى ركائز البناء القيمي والتقوائي للراعي في عهد الاشتر، وانقسم هذا المبحث على خمسة محاور بيّنت العلاقات الأساسية للراعي التي حرص الإمام علي علیه السلام على تنظيمها على وفق المعايير التقوائية والقيمية، وهذه المحاور هي:

1. المحور الأول: تنظيم علاقة الراعي مع الله.

2. المحور الثاني: تنظيم علاقة الراعي مع نفسه.

3. المحور الثالث: تنظيم علاقة الراعي مع الرعية بعامة.

4. المحور الرابع: تنظيم علاقة الراعي مع أعوانه المشتركين معه في إدارة الدولة.

5. المحور الخامس: تنظيم علاقة الراعي مع العدو.

ص: 8

ثم جاءت الخاتمة لتلخص نتائج البحث، وقد استعان الباحثان بجملة من المصادر والمراجع المهمة، لاسيما كتابي (نهج البلاغة) و (غرر الحكم) التي حوت كلمات الإمام علي عليه السلام مدار البحث، مع جملة من المراجع المهمة المتخصصة في شرح وبیان مغزى التراث الفكري للإمام علي علیه السلام، والله الموفق.

ص: 9

ص: 10

المبحث الأول: القيمة والتقوى

ص: 11

ص: 12

المبحث الأول القيمة والتقوى مدخل معرفي:

(القيمة) كلمة مشتقة من (ق و م)، بمعنى ما يقوم مقام الشيء وقد استُعمِلَ لُغوياً لإفادة معانٍ متعددة مثل(1):

. قيمة الشيء وثمنه؛ تقول: تقاوموه فيما بينهم(2)، وماله قيمة: إذا لم يَدُم على شيء(3)، وهي ما يكون به الشيء ذا ثمن أو فائدة.

. الثبات والدوام والاستمرار: فكل مَنْ ثبت على شيء فهو قائم عليه (4).

ص: 13


1- السيساوي، السيد خالد، تغييب القيم وانتهاكها في سياسات الحكم الأموي، مجلة الإصلاح الحسيني، العدد 11، 1436 ه / 2015 م، ص 158
2- ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين بن مكرم الأفريقي (ت 711 ه / 1311 م)، لسان العرب، مراجعة وتدقيق: يوسف البقاعي وآخرون، ط بيروت، 1629 ه / 2005 م، مادة قوم؛ الجوهري، إسماعيل بن حماد (ت 393 / 1002 م)، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق: أحمد عبد الغفور، ط 4، بیروت، 1407ه / 1986 م، مادة قوم
3- الفيروز آبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب (ت 817 ه / 1414 م)، القاموس المحيط، إعداد وتقديم: محمد عبد الرحمن المرعشلي، ط بيروت، 1434 ه / 2003 م، مادة قوم
4- ابن منظور، لسان العرب، مادة قوم، الجوهري، الصحاح، مادة قوم

. العدل والاستقامة: أي الاعتدال، فيقال: استقام له الأمر، ومنه قوله تعالى:

«فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ»(1).

أي في التوجّه إليه دون غيره. وقام الأمر واستقام: اعتدل واستوى، وقد تأخذ القيم أحياناً هذا المعنى للاستقامة.

ويقال: قَوَّمتُه: عدَّلته، فهو قویم ومستقیم. فيكون القوام هو العدل، كما في قوله تعالى:

«وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا»(2).

. المحافظة والإصلاح، كقوله تعالى:

«الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ»(3).

وكذلك قوله تعالى:

«إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا»(4).

أي: ملازماً ومحافظاً.

وكما لكلمة القيمة حضور في المجال التداولي اللغوي، فإنَّ مشتقاتها قد استعملت في القرآن الكريم، كقوله تعالى:

«ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ»(5).

ص: 14


1- سورة فصلت، الآية 6
2- سورة الفرقان، الآية 67
3- سورة النساء، الآية 34
4- سورة آل عمران، الآية 75
5- سورة التوبة، الآية 36

إذ يُشير المعنى إلى مفهوم الاستقامة، وكذلك قوله تعالى:

«دِينًا قِيَمًا»(1).

أي له القيمومية على تقويم الاعوجاج عبر آلية شرعية، ألا وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(2).

إن مفهوم القيم اصطلاحاً يحكي تلك المعايير الحاكمة على المنظومة الدينية بما فيها النظام الأخلاقي والاجتماعي وكذا النسق الثقافي والسياسي، وللعقل الانفراد بإدراك حُسنها بنحو الموجبة الجزئية في مقام الثبوت. وبلحاظ ما تنطوي عليه القيمة من فعلية يمكننا القول: إنّها حافز للأفراد من أجل تشخيص الأفضل من بين المفضولات. أما وفقاً للمنظور الاجتماعي فالقيم تُساهم في ترقية الحس الاجتماعي عند الفرد، و تمدّه بالتصور العام لما فيه خير وصلاح مجتمعه(3).

ويستعمل لفظ القيمة استعمالين: استعمال معیاري مطلق، واستعمال معیاري نسبي، ويتجلى الاستعمال المعياري النسبي في الاقتصاد خصوصاً(4)، وأما الاستعمال المعياري المطلق فيرتبط بالأخلاق، ولا تتوقف القيمة في هذا

ص: 15


1- سورة الأنعام، الآية 161
2- سیساوي، تغييب القيم، ص 158
3- سیساوي، تغييب القيم، ص 159؛ جاسم، سنان سعيد، المنظومة القيمية والأخلاقية في النهضة الحسينية، دورية وقائع مؤتمر الإصلاح الحسيني الأول، ط النجف، 1638 ه / 2019 م، المجلد الأول، ص 602 - 603؛ وينظر: بدوي، عبد الرحمن، موسوعة الفلسفة، منشورات ذوي القربی، قم، 1427 ه / 2006 م، 3 / 216 - 217
4- إذ تتوقف القيمة على المنفعة التي تكون مقياساً للشيء المقوّم، والمنفعة أمر نسبي تماماً ويتوقف على عوامل عديدة كالحاجة والعرض والطلب... الخ

المجال على المنفعة أو الحاجة أو الظروف، وإنما هي مستقلة عن كل اعتبار أي أنها قيمة في ذاتها [واقعية](1).

القيمة ذاتية واقعية نسبية متغيرة باعتبار المعتبر وإذ نبحث الجانب القيمي في رؤية الحكم عند الإمام علي أو علاقة الراعي بالرعية، فإننا بلا شك نعني المدلول القيمي المطلق وليس النسبي؛ لأن رؤيته في السياسة هي فرع رؤيته في الأخلاق والدين وهي رؤية مطلقة في كل تعبيراتها.

تشكل القيم قضية مهمة شغلت الفكر الإنساني عامة، واهتمت فيها الديانات والفلسفات والتنظيمات الاجتماعية، وكانت مركز اهتمام الأنبياء والرسل والمصلحين عبر التاريخ الإنساني؛ لأنها تمثل جانباً رئيساً من الثقافة في أي مجتمع، لذلك لا يمكن أن ينهض مجتمع ويزدهر دون أن يعتمد على مجموعة من قيم الأخلاق التي تؤيده وتدعمه، فتنمية المجتمع مرهونة بتنمية الثروة البشرية فيه، فالإنسان هو أساس ودعامة المجتمع ووسيلة تطويره(2).

ولندرك الدور الذي أدّاه الإمام علي علیه السلام في إتمام وترقية المنظومة القيميّة أخلاقياً واجتماعياً وسياسياً، لابد من الوقوف عند أبعاد هذه المنظومة في الدين الإسلامي(3):

. البُعد التوحيدي: وهو بُعد يُشير إلى (قيمة التوحيد المطلق) التي تترشح

ص: 16


1- بدوي، موسوعة الفلسفة، 3 / 216 - 217
2- جاسم، المنظومة القيمية، 1 / 603
3- سیساوي، تغييب القيم، ص 161 - 162

عنها باقي القيم، بل أن كل قيمة تتعارض معها تكون خارجة تخصصاً عن المنظومة القيمية الإسلامية.

. بعد الثبات والاستمرارية: والمراد به هنا الدوران حول محور ثابت هو (التوحيد) وكل قيمة تكتسب مصداقيتها عند قربها من هذا الأصل الثابت، وما دام هذا الأصل حاكم على الصيرورة الزمانية، فإن القيم التي تدور حوله سيكون لها الوصف نفسه؛ أي أنها صالحة لكل زمان ومكان.

. بعد التعميم: ونعني به تجلي القيم وشمولها لكل مفاصل الحياة الفردية والاجتماعية، بدءاً من علاقة الإنسان بربّه وبنفسه، وصولاً إلى علاقته بالكون.

. بعد الواقعية: القيم التي نادى بها الإسلام ليست قيماً مصطنعة مثالية، إنما هي قيم تلمس الواقع الوجودي والموضوعي، وهي - في الوقت ذاته - واقعیات مثالية، بمعنى أنها ترقى بالإنسان إلى أرفع درجات التكامل الوجودي.

وجدير بالذكر أن السياسة الإسلامية تؤمن بقضية (حكومة القيم الأخلاقية في الغایت وفي الوسائل). وأن الممارسات السياسية في عهد أمير المؤمنين الإمام علي علیه السلام هي التطبيق الحقيقي لمبدأ أخلاقية الغايات والوسائل في أكثر من مجال(1).

إن دعوة الإسلام إلى التزام المبادئ الأخلاقية في التعامل السياسي، ومطلق أنحاء السلوك الاجتماعي، لا تهدف إلى تحقيق مصالح سياسية وإنما هي دعوة قائمة على أساس الإيمان بضرورة تحكيم المبادئ الأخلاقية في الحياة، ومن هنا فإن الالتزام الأخلاقي الذي يطبع السياسة الإسلامية ليس التزاماً نفعياً وصولياً وإنما هو التزام رسالي مبدئي، لا يخضع لحسابات المصالح يجرها أو

ص: 17


1- المتوكل، محمد عطا، المذهب السياسي في الإسلام، ط 2، بیروت، 1905 ه / 1980 م، ص 188

يطردها، وبالتأكيد أن الالتزام الأخلاقي لا يخلو من عطاءات اجتماعية، وفي صالح العمل الإسلامي(1)، إلّا أنه لا يرى فيها جوهر القضية، ولا يعتبرها أساس دعوته، وحثه على التزام المبادئ الأخلاقية... بل أن المبادئ الأخلاقية يجب أن تُلتزم لواقعيتها وموضوعيتها، وإنسانيتها2(2).

وكيفما كان، فإن الوجه الشاخص للقيم النبيلة التي نادى بها الدين الإسلامي هي انطواؤها على مصالح أكيدة ترتبط بالواقع ارتباطاً وثيقاً وعليه يكون خرق تلك القيم من خلال غيابها أو تغييبها هو إبطال لمصلحتها الواقعية في زمان ومكان معين، لكنه لا يعني أبداً الخرق للنظام القيمي التكويني الذي يستمد قدسيته من الكينونة الفطرية؛ لذا كانت محاولات الإصلاح وترسيخ مبدأ العود لتلك القيم الفطرية والواقعية حقاً مشروعاً؛ بل ملاكاً للتمييز بين ما هو تكويني وما هو تقنيني(3).

أما التقوى: فهي اتخاذ الوقاية من المعاصي، وتأخذ معاني متعددة، إلاّ أنها لا تخرج عن كونها طاعة الله والاحتراز من الاعمال المنحرفة، وحماية النفس من عواقبها الدنيوية والأخروية، والطاعة بالاخلاص لله، والحذر وترك كل ما يُدخل في المعصية وما یُبعد الإنسان عن الله عزّ وجل، والتمسك بكل ما يحفظ آداب الشريعة، والاتقاء من كل ما يدخل في أتباع هوى النفس ومعاصيها ومنحرف الأعمال(4).

ص: 18


1- كما في قوله تعالى: «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» سورة آل عمران، الآية 159؛ وقوله تعالى: «وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» سورة فصلت، الآية 34
2- المتوكل، المذهب السياسي، ص 190 - 191
3- سیساوي، تغييب القيم، ص 162
4- الجرجاني، أبو الحسن علي بن محمد بن علي (ت 819 ه / 1413 م)، التعريفات، ط بغداد، (بلا.ت)، ص 41؛ المحنك، هاشم حسين ناصر، علم الاجتماع في نهج البلاغة، ط النجف، (بلا.ت)، ص 631

وليست التقوى كبتاً للنفس، ولا حظراً على الإنسان من الاستجابة لرغبات النفس ومشتهياتها، وإنما هي ضبط النفس فقط على حدود الله من الحلال والحرام، وفرض سلطان الحدود الإلهية على النفس... والتقوى بهذا المعنى معنی ايجابي وهو التمكن من النفس وانتزاعها من سلطان الهوى والشهوات وليس معنىً سلبياً بمعنی ترك الحرام(1).

وهي بهذا المعنى تعد الشوط الأول لحركة الإنسان إلى الله.

مخطط رقم (1) حركة الإنسان إلى الله (الارتباط بالمحور الإلهي) التحرر من الأنا الدخول إلى دائرة ولاية الله العنصر المشترك (الطاعة) الأداة الأداة التقوی ذكر الله

ص: 19


1- الآصفي، محمد مهدي، في رحاب عاشوراء، مؤسسة نشر الفقاهة، إيران، 1419 ه / 1998 م، ص 61 - 62

مخطط مُفاد مما ورد لدى الآصفي، في كتابه رحاب عاشوراء، عن رحلة الإنسان إلى الله، ص 43 - 66 فإن العقبة الكبرى التي يواجهها الإنسان في حركته إلى الله هي الهوى، قال تعالى:

«... وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»(1).

ويقول أمير المؤمنين:

إِنَّ أَخوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيکُمُ اثنَانِ اتِّبَاعُ الهَوَى وطُولُ الأمَلِ فَأَمَّا اتِّبَاعُ الهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الحَقِّ وأَمَّا طُولُ الأمَلِ فَيُنسِي الآخِرَةَ»(2).

وكما أن تجاوز الهوى هو المرحلة الأولى والأهم في حركة الإنسان التكاملية إلى الله، كذلك في الاستجابة للهوى السقوط والتردي الكامل للإنسان، ودرجة سقوط الإنسان وانحطاطه الروحي والخلقي تتناسب طردياً مع درجة استجابته واستسلامه للهوى(3)، إذ يقول أمير المؤمنين علیه السلام:

«إنكم إن أمرتم عليكم الهوى أصمكم واعماكم وأرداكم»(4).

وقد عدّ الإسلام مكافحة (الهوى) الجهاد الأكبر، في الوقت الذي يعد فيه

ص: 20


1- سورة ص، الآية 26
2- نهج البلاغة، جمع: الشريف الرضي، أبي الحسن محمد بن الحسين بن موسی (ت 406 ه / 1015 م)، تعليق وفهرسة: الدكتور صبحي الصالح، تحقيق: الشيخ فارس تبریزیان، ط 3، دار الهجرة، قم، 1425 ه / 2004 م، الكلام رقم 42، ص 84
3- الآصفي، في رحاب عاشوراء، ص 60
4- الآمدي، عبد الواحد التميمي ( من علماء القرن 5 ه)، غرر الحکم و دُرر الكلم، تحقيق: السيد مهدي الرجائي، ط إيران، 1426 ه / 2005 م، ص 270

مكافحة الطاغوت الجهاد الأصغر(1).

إن المثل الأعلى للحياة في الإسلام و عند الإمام علي علیه السلام هو التقوى(2)، فقِلَّ أن ترد سورة في القرآن لم يرد فيها الأمر بالتقوى(3)، تقوى الله، وقلَّ أن ترد خطبة أو كلام في نهج البلاغة لم يرد فيه الأمر بالتقوى(4).

وروي عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم أنه قال:

«جماع التقوى في قوله تعالى:

«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(5)»(6).

فالتقوى هي الفضيلة في أرفع معانيها وأجلّ صورها، وهي الإيمان بالله في أطهر حالاته وأسمى معانيه(7).

ص: 21


1- ينظر: المجلسی، بحار الأنوار، 17 / 116
2- شمس الدين، محمد مهدي، دراسات في نهج البلاغة، ط 4، بیروت، 1922 ه / 2001 م، ص 155
3- ينظر: سورة البقرة، الآية 2، سورة البقرة، الآية 177، سورة آل عمران، الآية 133، سورة المائدة، الآية 8
4- ينظر على سبيل المثال: نهج البلاغة، الخطبة 70، ص 111؛ الخطبة 82، ص 116، ص 121، ص 125، ص 126، ص 127؛ الخطبة 113، ص 206؛ الخطبة 132، ص 239؛ الخطبة 157، ص 270؛ الخطبة 161، ص 281؛ الخطبة 191، ص 303؛ الخطبة 190، ص 389
5- سورة النحل، الآية 90
6- الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل (من علماء القرن السادس الهجري)، مجمع البيان في تفسير القرآن، وضع حواشيه وخرّج آیاته وشواهده: إبراهيم شمس الدين، ط دار الكتب العلمية، بيروت، 1418 ه / 1997 م، 1 / 51
7- شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 158

فإذا حققت التقوى في نفسك؛ وعيتَ وجود الله وأمره ونهيه في كل ما تُلمّ به من فعل أو قول، وتحريتَ الفضيلة أني كانت فأخذت بها وأخضعت نفسك لها، وجعلت من نفسك وجميع إمكاناتك خلية إنسانية حيّة، تعمل بحرارة واخلاص على رفع مستوى الكيان الاجتماعي الذي تضطرب فيه، وصدرتَ في ذلك كله عن إرادة الله المتجلية فيما شرع من أحكام، وتكون قد حققت في نفسك المثل الأعلى الذي نصبه الإسلام... وتعاليم الإسلام صريحة تنص على أن القطب الذي يدور عليه التفاضل ليس شيئاً غير التقوى، قال تعالى:

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»(1) ... فالقيم الاجتماعية تتفرع عن هذا الأصل، وتنبثق من هذا الينبوع(2).

وقد انطوت مضامين التقوى التي دعا إليها الإمام علي علیه السلام في كثير من کلاته(3)إلى الاتجاه نحو التماسك والانتظام على الحق والطمأنينة والاستقرار والتعاون، وتولید روح الأُلفة والتماسك الاجتماعي، لا من أجل الحياة الزائفة والزائلة، بل استقامة الأفكار والنفس السوية، لاستقامة الأعمال والأنشطة في الحياة الزائلة لحياة أبقى، وبه تكون الاستراتيجيات أبعد وأعمق وأوسع لهدف أسمى ما بعد الدنيا، والكيفية والحتمية واستقامة الدنيا، بلا أنانية وضياع الحقوق، وبلا فوضوية تنفيذ الأداء، وبلا بطش ولا خيانة ولا نفاق ولا دجل... الخ، فحث الإمام علي علیه السلام على التقوى؛ لكونها صمام أمان اجتماعي - حضاري

ص: 22


1- سورة الحجرات، الآية 13
2- شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 159 - 160
3- ينظر: نهج البلاغة، ص 121، ص 125، ص 206، ص 270 - 271، ص 281

فاعل، له أهميته في بناء الشخصية للفرد والمجتمع(1).

والتقوى بما تمثله من قمة العبودية لله والسعي نحو مرضاته، فهي من الوسائل المؤثرة لدفع الإنسان المسلم نحو عمارة البلاد، وتحقيق هدف استخلاف الإنسان في الأرض(2).

وإن القراءة المعصومة لسياسة الحكم تتجلى في عهد أمير المؤمنين لمالك الاشتر حين ولّاه مصر؛ من خلال تأصيل التقوى وجعلها الملاك الوحيد للحكم والحاكم(3)إذ يقول له:

«إِيَّاكَ ومُسَامَاةَ الله فِي عَظَمَتِهِ والتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ کُلَّ جَبَّارٍ ویُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ أَنصِفِ اللهَ وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ ومِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ ومَنْ لَكَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ»(4).

فقد دأب الإمام علي علیه السلام على أن يصلح ما يفتقر إلى الإصلاح في شؤون الناس(5)، ولم تكن سياسته في هذا المجال ((شيئاً مرتجلًا اصطنعه لنفسه يوم ولي الخلافة، وإنما كانت خططاً مدروسة ومنتزعة من الواقع الذي كان يعانيه المجتمع الإسلامي آنذاك، ومعدة لأن تبلغ بهذا المجتمع خطوات إلى الأمام،

ص: 23


1- المحنك، علم الاجتماع في نهج البلاغة، ص 435
2- شهاب، السيد عباس هاشم علوي، معالم الفكر التنموي الإسلامي (الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام نموذجاً)، ط دار العصمة، البحرين، 1428 ه / 2007م، ص 118 - 119
3- سیاوي، تغييب القيم، ص 173
4- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53، 548
5- وهو القائل: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَکُنِ الِذَّي كاَنَ مِنَّا مُنَافَسَةً فيِ سُلْطَانٍ ولا الِتْمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ ولَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ ونُظْهِرَ الإصْلاحَ فِي بِلادِكَ فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ» نهج البلاغة، نص رقم 131، ص 232

ومهيّأة لنيل هذا المجتمع المطامح التي كان يحلم بها ويصبو إليها))(1).

إن صعوبات الفترة الزمنية للخلافة، وطلاسمها، وتعتیماتها، وتشويهات الحروب - علاوة على مآسيها - لم تستطع طمس معالم تلك التجربة الرائدة في العدل الإسلامي والبشري، تجربة علي بن أبي طالب علیه السلام،... مما يدعونا إلى مدّ النظر إلى الماضي البعيد وإلى معطيات تلك التجربة، وإلى المخطط النظري والتطبيقي لعليّ علیه السلام، ذلك المخطط الذي كان فلتةً مثل صاحبه، الذي كان فلتة الإبداع العظيم، التي اغتالها الأهل: الناس أنفسهم(2).

ص: 24


1- شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 365
2- السيد جاسم، عزیز، علي سلطة الحق، تحقیق وتعلیق: صادق جعفر الروازق، ط قم، 1428 ه/ 2007 م، ص 439، ص 440

المبحث الثاني عهد الأشتر برنامج حكومي واقعي لتأصيل المعايير القيمية والأخلاقية

ص: 25

ص: 26

المبحث الثاني: عهد الأشتر برنامج حكومي واقعي لتأصيل المعايير القيمية والأخلاقية

أرسل الإمام علي علیه السلام مالك الأشتر(1)وهو أحد صحابته الأجلاء، إلى

ص: 27


1- مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي الكوفي، حضر حروب الفتح، فأصيبت عينه في معركة اليرموك فاشتهر بالأشتر، كان يعيش في الكوفة، وكان لمزاياه الأخلاقية ومرؤته ومنعته وأبهته وحياته، تأثير كبير في نفوس الكوفيين، نفي مع عدد من أصحابه إلى حمص في أيام عثمان بسبب اصطدامه بوالي الكوفة، واشترك في الثورة على الخليفة عثمان، كان من رجال الإمام علي البارزين أيام خلافته، إذ اشترك في حرب الجمل، وكانت له مواقف مشهودة في صفين، وولي الجزيرة للإمام عليّ ومن ثمَّ ولاه مصراً بعد أن اضطربت على محمد بن أبي بكر، وكان معاوية قد عزم على الاستيلاء على مصر، فخاف من وصول الأشتر إليها لما عرف عنه من كفاءة ودأب واستماتة وخبره في العمل، فقضى معاوية عليه قبل وصوله إلى مصر بطريقة غادرة، بعدما تناول من العسل المسموم بسمّ فتاك، فحزن الإمام عليّ لفقده، حتی عَدّ موته من مصائب الدهر. لمزيد ينظر: المنقري، نصر بن مزاحم (ت 212 ه / 827 م)، وقعة صفين، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، ط 3، قم، 1422 ه / 2001 م، ص 12، ص 62، ص 154، 173، 175، 250، 258، 289، 364، 440، 467، 525، 506، 544، ابن قتيبة، أبي محمد عبد الله بن مسلم الدينوري (ت 627 / 889 م)، المعارف، ط 2، دار الكتب العلمية، بيروت، 1424 ه / 2003 م، ص 324؛ الطبري، أبي جعفر محمد بن جریر (ت 310 ه / 922 م)، (384 - 386، 5 / 63 - 64، الميانجي، علي الأحمدي، مكاتيب الأئمة، مکاتیب الإمام علي علیه السلام، تحقیق ومراجعة: مجتبی فرجي، ط دار الحديث، قم، 1426 ه / 2005 م، 1 / 460 - 471

مصر ليكون والياً عليها سنة 38 ه / 658 م(1)وزوده بوثيقتين غاية في الأهمية والقيمة التاريخية؛ الأولى: كانت رسالةً موجهةً إلى الناس في مصر تبين فاعلية البناء القيادي الذي كان عليه الاشتر، وتوحي بمسوغات انتخابه من أمير المؤمنين علیه السلام ليكون راعياً لهذا الجزء من الدولة، وتوصي هذه الرسالة الناس بطاعته ودعمه لتسهيل ما جاء به من تنظيم اداري وما سيقوم به من أنشطة وفعاليات، وقد جاء فيها:

«فَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْکُمْ عَبْداً مِنْ عِبَادِ الله لا يَنَامُ أَيَّامَ الخَوْفِ ولا يَنْکُلُ عَنِ الأعْدَاءِ سَاعَاتِ الرَّوْعِ أَشَدَّ عَلَى الْفُجَّارِ مِنْ حَرِيقِ النَّارِ وهُوَ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو مَذْحِجٍ فَاسْمَعُوا لَهُ وأَطِيعُوا أَمْرَهُ فِيمَا طَابَقَ الْحَقَّ فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ الله لا کَلِيلُ الظُّبَةِ ولا نَابِي الضَّرِيبَةِ فَإِنْ أَمَرَکُمْ أَنْ تَنْفِرُوا فَانْفِرُوا وإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تُقِيمُوا فَأَقِيمُوا فَإِنَّهُ لا يُقْدِمُ ولا يُحْجِمُ ولا يُؤَخِّرُ ولا يُقَدِّمُ إِلا عَنْ أَمْرِي وقَدْ آثَرْتُكُمْ بِهِ عَلَى نَفْسِي لِنَصِیحَتِهِ لَكُمْ وشِدَّةِ شَكِيمَتِهِ عَلَى عَدُوِّكُمْ»(2).

ويظهر من النص المبارك أن الأشتر كان يتحلى بسمات الشخصية المتعددة المواهب والسريعة البديهة، والحازمة، ويمتلك صفة الإقدام والثبات أمام الهجمات والمؤثرات الخارجية دون خوف أو جبن أو نكوص، ويتصف بالوقائية

ص: 28


1- ينظر: الثقفي، إبراهيم بن محمد بن سعيد (ت 283 ه / 896 م)، الغارات أو الاستنفار والغارات، ط دار الأضواء، بيروت، 1407 ه / 1987 م، ص 166 - 171؛ الطبري، تاریخ، 5 / 63
2- نهج البلاغة، الكتاب رقم 38، ص 523. . الظبة: حد السيف والسنان ونحوها. . نابي الضريبة: النابي من السيوف الذي لا يقطع

العلاجية على اختلاف الأصعدة، وله قابلية السيطرة على الاتجاهات المختلفة بكل استيعاب وحزم، مما دفع الإمام عليّ عليه السلام أن يخص به مصراً المتميزة بأرضها ومكوناتها الاجتماعية، وأنشطتها المتداخلة، وطلب من المجتمع طاعته ليتسنی له تنفيذ ما مخطط له بروحية جماعية(1).

أما الوثيقة الثانية التي زود بها مالك الأشتر فهي - بلا مغالاة - تمثل لنا الخطبة المتكاملة التي یُحدّد بها هدى الإسلام ما ينبغي أن تكون عليه سيرة المتبوع بين الأتباع، .. فهي الخطة الشاملة العامة التي يسعها أن تستوعب في نطاقها كل راعٍ مسؤول من ذوي رأي أو سلطان... وهي الخطة المحكمة التي تبين بجلاء ما يجدر بكل إنسان أن يمتثله في حدود ما أتيح له من نفوذٍ جَلَّ أو هان(2)، فهو أطول عهدِ كتبه الإمام علي عليه السلام لأحد ولاته في بلدان الخلافة(3)، يشتمل على جملة من التوجيهات والقرارات العامة التي تتصل بمجال التنظيم لعمل أجهزة الدولة والخدمة العامة4، مما يصح أن نسميه ب (عهد النظام التدبيري)(4)، واشتهر باسم (عهد الأشتر)(5).

ص: 29


1- ينظر: المحنك، علم الاجتماع في نهج البلاغة، ص 336 - 337
2- عبد المقصود، عبد الفتاح، الإمام علي بن أبي طالب، ط 2، دار الصفوة، بیروت، 1933 ه / 2012 م، 7 / 132 - 133
3- الشريف الرضي، نهج البلاغة، ص 545
4- المرجع نفسه، ص 115
5- أصبح هذا العهد موضع العناية منذ صدوره وإلى يوم الناس هذا عند كثير من رجال العلم، وأعلام الأدب، وأساتذة القانون، لذلك نراهم قد تناولوه درساً وبحثاً وأوسعوه شرحاً وتعليقاً وافردوا فيه المؤلفات، وترجموه إلى بعض اللغات، هذا مضافاً إلى ما تعرض له عامة شراح (نهج البلاغة) بشروح مبسوطة ومختصرة كل بحسب طريقته في شرح نهج البلاغة ولو انتزعت من تلك الشروح لكانت عدة مجلدات. لنماذج من عناوين تلك الشروحات التي عنيت بعهد الأشتر. ينظر: شمس الدین، محمد مهدي، عهد الأشتر، ط 2، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1404 ه / 1986 م، ص 46 - 51

وصف كذلك بأنه أجمعها لحقوق الرعية(1)، وقد أجمل هذه الحقوق اجمالًا فقال:

«هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ الله عَلِيٌّ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وجِهَادَ عَدُوِّهَا واسْتِصْلاحَ أَهْلِهَا وعِمَارَةَ بِلادِهَا»(2)، ثم فصّلها بعد ذلك(3):

فأفاض أولاً في بيان وظيفة العسكر وواجباتهم والسبيل الذي يحسن بالحاكم أن يتبعه للاستفادة منهم.

ثم فصل في جهاز الحكم: الولاة والوزراء والقضاة، فوضع أسس الحكم العادل التقدمي الواعي.

وتكلم بعد ذلك عن الزراع والتجار والصناع والفقراء، فبيّن حقوقهم على الحاكم من توفير المجالات لهم، وإعداد أحسن الفرص لنجاحهم في أعمالهم.

ثم تحدث عن حالة البلاد العمرانية فأفاض في الحديث وبيّن خطورة هذه الناحية في أمن الرعية ورفاهها واطراد تقدمها(4).

ص: 30


1- شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 285
2- نهج البلاغة، كتاب رقم 53، ص 546
3- ينظر: الملحق رقم (1) عهد الأشتر
4- شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 285

وقد اجتهد بعض الباحثين لبيان السبب الذي حمل الإمام علي علیه السلام على كتابة هذا العهد بهذه الصورة من البسط والتفصيل، فأرجعوا ذلك إلى أن مصر بلاد عريقة في التنظيم المجتمعي والحضارة منذ عشرات القرون، وأن تقاليدها في السياسة والإدارة عريقة في القدم، وأن مجتمعها الأصلي، مجتمع مكتمل التكوين في عاداته وتقاليده وفئاته الاجتماعية، ومن المعلوم أن هذا الواقع يستدعي ملاحظة جميع وجوه حياة المجتمع وأنشطته، وتركيبه الداخلي، وتفاعلات القوى الاجتماعية في داخله؛ لأجل وضع خطوط کبری ثابتة في سياسة هذا المجتمع تؤمن له الاستقرار والازدهار من جهة وتنقله من جهةٍ أخرى برفق من مناخه الثقافي القديم إلى المناخ الثقافي الجديد... وعلى وفق لمبادئ الإسلام وتشريعاته(1)، كما أن إطالة الخطب ضرورة تفرضها الحاجة أحياناً، وكذا الكتب، وبخاصة ذات المناهج الموضوعة للحكم، فالإمام علي علیه السلام والذي جاء بظروف ثورية جاءت على اعقاب تردي الأوضاع، واستهتار من الحاكمين بشعوبهم، وبخاصة الولاة، لا يمكن أن يترك لولاته الأمر؛ يتصرفون به کیف يشاؤون، وإن كانوا من الحنكة والحزم والعدالة كمالك الاشتر وغيره. وكأن الإمام علیه السلام أراد لشعبه أن يكون رقيباً على تصرفات الولاة برسم مناهج للحكم يحاسبون لها من قبلهم، فرسمها لتُقرأ على الرأي العام - أولاً - ولتكون مرجعاً للحساب مع الولاة - ثانية -، ومثل مالك الأشتر مهما قيل في حَذقه السياسي فهو يحتاج إلى إرشاد الإمام علیه السلام وتوجيهه في جملة تصرفاته(2).

ص: 31


1- ينظر: شمس الدين، عهد الأشتر، ص 38 - 39؛ الخوئي، المحقق میرزا حبیب الله الهاشمي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ط دار المحجة البيضاء، بیروت، 1434 ه / 2013 م، 20 / 292
2- الحكيم، محمد تقي، مع الإمام علي علیه السلام في منهجيته ونهجه، ط المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، بیروت، 1423 ه / 2002 م، ص 120 - 121

وإن الأغراض الإدارية والسياسية والاقتصادية التي جاءت في العهد العلوي الذي حرره أمير المؤمنين علیه السلام لعامله الأشتر سنة 38 ه / 658 م لا يزال آية من آيات التفكير العربي ومعجزة من معجزات الثقافة الإسلامية العالية على كل الدهور وتعاقب الأجيال(1).

أما الجانب الأخلاقي والقيمي لهذا العهد قد طبع جميع نصوصه وفصوله بحيث أصبح كل جانب من جوانبه وكل فقرة من فقراته تشع بالبعد الأخلاقي المتميز؛ لأن الأخلاق ليست مفاهیم مجردة عن الواقع، فهناك الأخلاق السياسية، والأخلاق الاقتصادية، والأخلاق على صعيد المجتمع في آفاقه ومجالاته المختلفة، كل ذلك من أجل إحياء القيم الحضارية والمثل العليا التي يجب أن تحكم الحياة والإنسان(2).

وقد كانت محاولة الإمام علي علیه السلام لتطبيق الصيغة الإسلامية الصحيحة للحياة الإنسانية على المجتمع في سبيل بناء الإنسان المتكامل، وكانت هذه المحاولة هي همّه الكبير كقائد رسالي بعد رسول الله صلی الییه علیه وآله وسلم.

لقد فكر الإمام علي علیه السلام - بوصفه حاكماً عادلاً - في المجتمعات التي حكمها، وفي أفضل الطرق والوسائل التي تنمي حياتها الاجتماعية وترتفع بها إلى الذروة من الرفاهية والقوة والأمن، مع ملاحظة أنها تدين بالإسلام وأن شؤون اقتصادها، وحربها، وسلمها، وعلائقها الاجتماعية، تخضع لقوانين الإسلام،

ص: 32


1- الفكيكي، توفيق، الراعي والرعية، ط 3، شركة المعرفة للنشر والتوزيع، بغداد، (بلا.ت)، ص 66
2- الشامي، حسين بركة، البرنامج الأمثل لإدارة الدولة وقيادة المجتمع في عهد الإمام علي لمالك الأشتر، ط 2، دار الإسلام، بغداد، 1429 ه / 2008 م، ص 144

وأنها يجب أن تأخذ سبيلها إلى النمو في إطار إسلامي بحت(1)، وكان علیه السلام راغباً بشدة طيلة فترة ولايته ببعث نموذج قيمي وروحي تعلمه من النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وتلمسه في مجتمع المدينة(2).

ولذلك وضع الإمام علي عليه السلام بين يدي واليه على مصر مالك الاشتر خلاصة تجارب الحكم الإسلامي خلال أربعين عاماً، واخرج معها عُصارة تجارب الحكومات السابقة واللاحقة، وحشد جميع تلك التجارب في نسق منتظم وعلى صورة قطعة أدبية هي من أروع ما أنتجه الفكر البشري من فنون الحكم والإدارة؛ فهو لا يضع بين يدي واليه نظرية يمكن أن تُصيب أو تخطئ بل يَنصب أمامه قواعد في الحكم هي أقرب ما تكون ب(فن الحكم) منها ب(نظرية الحكم)... فهو يوازن في كل قاعدة من قواعد الحكم بين مصالح الأمة ومصالح الدولة، ويأخذ بنظر الاعتبار حق الوالي وحق الرعية، ويرسم كل تلك القواعد بأُفق الماضي والحاضر والمستقبل، وتقدم جميع تلك الأفكار والقواعد من زاوية قرآنية منسجمة تماماً ومتطلبات الواقع؛ فكل كلمة قالها الإمام علیه السلام في هذا المضمار حرص أن تأتي منسجمة مع القرآن ومع روح الرسالة الإسلامية(3).

إن القيمة الاعتبارية لمجمل تقريرات الإمام علي علیه السلام وتوجيهاته في الجانب السلوكي العام من عمل التدبير القيادي هي الفترة القصيرة لتولية مسؤولية

ص: 33


1- شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 141 - 142
2- الشريفي، محمد رضا مطر، الأصول النظرية للدولة والمواطنة في القرآن الكريم وتطبيقاتها عند الإمام علي بن أبي طالب $، دار الكفيل، كربلاء، 1437 ه / 2016 م، ص 179
3- القزويني، د. محسن باقر، علي بن أبي طالب$ رجل المعارضة والدولة، ط دار العلوم، بیروت، 1425 ه/ 2004 م، ص 216 - 217

الدولة وما صاحبها من مواجهات مستمرة لأعدائها، والمرتدين عن منهجها، وقد مثل ذلك الحالة الأكثر تعقيداً، والأكثر وضوحاً في الوقت ذاته لِتَقابل الاعتبارين الايجابي والسلبي في سلوك الناس، وقد تجسدت خلال ذلك مواقف الحزم والجرأة، وثبات الإرادة والموقف العقلاني للإمام علیه السلام مما يؤشر حالة معتبرة من سكينة النفس واستقرارها على الحالة الايجابية عند الإمام علیه السلام تمثلت في قراراته وتوجيهاته لأُولي الأمر خاصة، ولشعبه وأُمته عامة، ولم يشهد عهد من العهود الإسلامية مثل ما قد صاغ الإمام علي علیه السلام، وأنجز من ذلك وهو في الذروة من المسؤولية الكبيرة والمعقدة، وقد مضى في مجالات التحديد للعلاقات المتكافئة والمتوازنة لمتولي الشؤون العامة، ولما ينبغي من إدراك الغاية في الوقوف على احتياجات الناس ورغباتهم والسعي لتحقيقها من منطلق المسؤولية العامة والتي كان يُلحّ عليها إلحاحاً لم يسبق لقائد أن ألحَّ عليها ومضى في متابعتها كمثل ما قد فعل(1).

ولم تكن العلاقة بين أفكار عليّ علیه السلام وتطبيقاته، ذا بُعد زمني تتخلّله مؤثرات متعددة، تفرض على التطبيق مساراً آخر لا صلة له بالأفكار؛ ذلك لأنه كان يقرن الفكرة بالممارسة فوراً، فهو لم يعتمد المسافة بينه وبين نفسه، بما يكفل له القدرة على التأجيل - تأجيل بعض آرائه - أو المناورة، أو المداورة، أو التخلي، استجابةً لضغط بعض المقتضيات إنه - بسبب طبيعته - كان يقرن النظرة، بالفكرة بالممارسة، ويجعل لرابطة الفكر والعمل ينبوعاً متدفقاً يغني الآراء والأفكار على حد سواء، ويغني تجربة المجتمع بالمكشوف المباشر(2).

ص: 34


1- التميمي، الإمام علي علیه السلام التدبير القيادي للدولة، ص 167 - 168
2- السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 638

إن الإمام علي علیه السلام في عهده العظيم إلى مالك الأشتر قد وضع الأسس المتينة لانشاء جهاز حکم يعمل للشعب، غير ملقٍ بالاً إلى منافع طبقة خاصة تسعد على حساب الشعب وتنعم بجهوده(1).

فكانت المنظومة القيمية العلوية منظومة عقيدية تشريعية تُصان فيها الحقوق والقيم من الانتهاك، وتتضمن التوعية لمفاهيم العدل والحرية والمساواة وتقدير الإنسان لقدراته الذاتية وتنميتها، وبذلك واجه التسافل الإنساني والطغيان البشري عبر حركة منظمة قوية واعية لهدف الاستخلاف واستعمار الأرض فهذه المنظومة تجديد لروح الإنسان، ووعيه بذاته في اطار حركة المجتمع والتاريخ.

وقد كان الإمام عليّ علیه السلام في إدارته للدولة وتدبير شؤونها ينطلق من فلسفة قرآنية إسلامية خاصة في الإدارة، فمع كون الإدارة في الإسلام تشترك مع المفهوم العام للإدارة في معظم عناصرها لكنها تنفرد عنها بالبعد الديني والعقدي الذي ينبع من نظرية الاستخلاف الكبرى في الإسلام، فالإدارة الإسلامية لا تقتصر على تدبير الأعمال العامة وإنما ترتبط أصلاً بالغاية التي وجد المسلم لها وهي عبادة الله وطلب رضاه والانخراط في مشروع الاستخلاف وعمارة الكون، وهي في الإسلام عبارة عن طاعة جماعية منظمة تشترك فيها جميع مكونات المجتمع وأفراده وهيئاته، وهذه الصفة الجماعية تجعل نجاح الإدارة في اجواء الفرقة والخلاف وتفشي الروح الفئوية والأنانية في المجتمع عملاً مستحيلاً وضرباً من ضروب الخيال(2).

فالأسلوب التنظيمي الذي اتبعه الإمام عليّ علیه السلام من أعمق وأدق الأساليب

ص: 35


1- شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 274
2- الشريفي، الأصول النظرية للدولة والمواطنة، ص 266

التنظيمية الفعالة والرافدة لحقيقة الوضع البنائي الفكري والنفسي والسلوكي للإنسان، ومستقبله ولأجيال قادمة، واتخاذ التنظيم القويم بأوجهه المختلفة سبيلاً، كما هو عليه السياسي والاقتصادي والاجتماعي و النفسي والأمني والثقافي والحضاري وبنظرة أعمق في أمور الدين والدنيا، على مختلف المديات(1).

ص: 36


1- المحنك، هاشم حسين ناصر، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ط دار انباء للطباعة والنشر، العراق، 1412 ه / 1991 م، ص 305

المبحث الثالث ركائز البناء القيمي والتقوائي للراعي في عهد الاشتر

ص: 37

ص: 38

المبحث الثالث: ركائز البناء القيمي والتقوائي للراعي

في عهد الاشتر انطوى عهد الإمام عليّ علیه السلام للأشتر على نظرة فلسفية شاملة للحياة والإنسان والتاريخ، واحتوى على العديد من الأفكار والمبادئ والقيم الإنسانية، والمفاهيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية(1).

بل أن توجيهاته (القيميّة) في هذا العهد الشريف لل(راعي) في الدولة الإسلامية يمكن أن تكون ((نظرية إدارية راسخة لا تتعارض مع مختلف الأديان والحضارات))(2).

ويُفسر هذا التركيز من أمير المؤمنين علیه السلام - في عهد الأشتر - ببناء رعاة الدولة وحكامها (ولاتها) قيمياً وأخلاقياً؛ بوصفهم الجهة التي تتولى الإشراف على تنفيذ الدستور الإسلامي (القرآن والسُّنة النبوية) وما يتصل به من قوانين وإجراءات من جانب، وهم الجهة التي ترعى وتدير وتنظم أمر المجتمع بطبقاته وعلاقاته المختلفة من جانب آخر.

ص: 39


1- الشامي، البرنامج الأمثل، ص 193
2- المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 308

وقد حرص الإمام عليّ على تربية وإعداد الراعي الذي يتصدى لإدارة الشؤون العامة على وفق المعايير التقوائية والأخلاقية، وكان مدار برنامجه هذا بناء علاقات الراعي الأساسية قيمياً، وتنتظم هذه العلاقات في شعبٍ خمس هي:

1 - علاقات الراعي مع الله.

2 - علاقة الراعي مع نفسه.

3 - علاقة الراعي مع الرعية عامة.

4 - علاقة الراعي مع أعوانه وعماله المشتركين معه في إدارة الدولة.

5 - علاقة الراعي مع العدو.

وفيما يأتي بيان لهذه المحاور:

ص: 40

المحور الأول: تنظيم علاقة الراعي مع الله

ويكون تنظيمها على أساس أنها علاقة ارتباط وعبادة وطاعة، ومعنی الارتباط بالله أن يجعل الإنسان وجه الله تعالى هدفاً له في كل أعماله وتصرفاته، ويُخلص له في كل أعماله، ويجعل مرضاة الله محوراً ثابتاً لكل حياته وتصرفاته، وأن يدخل بشكل كامل في دائرة ولاية الله فلا يكون له رأي أو حكم، أو هوى أو حب، أو بغض، أو عمل أو حركة، أو كلمة، في غير ما يحكم الله تعالى ويريد. والأداة المفضلة والمؤثرة في تحکیم وتوثيق هذا الارتباط والصلة بين العبد وربه، وربط الإنسان بهذا المحور الرباني في الحياة وإخلاص عمله وجهده لله تعالى هو الذكر، إذ هو استحضار لسلطان الله وحضوره الدائم، وهذا الإحساس والوعي لحضور الله يعمق في النفس حالة المراقبة الدائمة والانتباه الدائم ويحجز الإنسان عن الإنزلاق مع الشهوات والأهواء إلى معصية الله(1).

فقال الإمام علي علیه السلام للأشتر:

«وأَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ فَإِنَّ لِكُلِّ يَومٍ مَا فِيهِ واجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيمَا بَيْنَكَ

ص: 41


1- الآصفي، في رحاب عاشوراء، ص 64 - 65

وبَيْنَ الله أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ وأَجْزَلَ تِلْكَ الأقْسَامِ وإِنْ كَانَتْ کُلُّهَا لِلّهِ إِذَا صَلَحَتْ فِيهَا النَيَّةُ وسَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ»(1).

فإن أعمال الإنسان كلها إذا قُصد بها وجه الله، وتضمنت النفع للناس يمكن أن تكون عبادة لله تعالى. وأوصاه بأن يحافظ على نشاطه الروحي، وأن لا يهمل في ذلك أو يتسامح، وألّا تشغله مهمات الحكم عن الاتصال بالله في كل وقت يمكنه ذلك(2)فقال علیه السلام:

«ولْيَکُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِهِ لِلّهِ دِينَكَ إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً فَأَعْطِ اللهَ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ ونَهَارِكَ ووَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَى الله مِنْ ذَلِكَ کَامِلاً غَيْرَ مَثْلُومٍ ولا مَنْقُوصٍ بَالِغاً مِنْ بَدَنِكَ مَا بَلَغَ»(3).

فالصلة الدائمة بالله عن طريق العبادة هي التي تنمي في الإنسان الضمير الديني الذي يمنعه من البغي والظلم(4).

ومن مؤشرات الارتباط بالله، القدرة على ضبط النوازع الذاتية، وربطها بمشيئة الله ولذلك أمر أمير المؤمنين علیه السلام وإليه على مصر مالك الاشتر ب «بِتَقْوَى الله وإِيْثَارِ طَاعَتِهِ واتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وسُنَنِهِ الَّتِي لا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلا بِاتِّبَاعِهَا ولا يَشْقَى إِلا مَعَ جُحُودِهَا وإِضَاعَتِهَا وأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ ويَدِهِ ولِسَانِهِ فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَکَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ

ص: 42


1- نهج البلاغة، الكتاب 53 (عهد الأشتر)، ص 565
2- شمس الدین، عهد الأشتر، ص 164
3- نهج البلاغة، الكتاب 53 (عهد الأشتر)، ص 566
4- شمس الدين، عهد الأشتر، ص 164

نَصَرَهُ وإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ»(1).

إن التقوى ومخافة الله سبحانه وتعالى وخشيته سر النجاح وتجاوز الفساد والإفساد في إدارة المنظمات الإنسانية سواء كانت عامة أم خاصة؛ فالتقوى تمثل المحور المركزي في إطلاق فاعلية الفرد والجماعة نحو تحقيق الأهداف العامة أو الخاصة برؤية صادقة وثقة مطلقة قاعدتها الفكرية والفلسفية متوازنة في اعتماد روح التقوى ومخافة الله وخشيته في السر والعلانية، لذا فإن التقوى تُعد الوظيفة الأولى والأساسية التي ينبغي على الراعي أن يلتزم بها سلوكياً ويعتمدها في التعامل مع الآخرين على وفق سياقات هادفة إلى تدعيم البناءات القيمية للمجتمع، وأن التقوى التي ينبغي أن يعتمدها الوالي بالتعامل تستند في رؤية الإمام علي علیه السلام على وفق قاعدتين رئيسيتين هما:

أ. إتباع ما أمر الله به في كتابه الكريم الذي يشكل الإطار الفكري والفلسفي للعقيدة الإسلامية ومادته الأساسية.

ب. سنة النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) التي تشكل الإطار التنظيمي عملياً وسلوكياً لرؤيا الإسلام الحنيف(2).

ولابد للحاكم المتصدي لقيادة الأمة أن يكون مستقيماً في سلوكه، ثابتاً في نهجه، ورعاً في أحكامه وتصرفاته، محتاطاً في قضايا الناس وأمورهم، وأن ينصر الله في كل حركة من حركاته، أي أن ينصر دين الله، ويشفق على عباده بقلبه،

ص: 43


1- نهج البلاغة، الكتاب 53 (عهد الأشتر)، ص 546
2- حمود، خضير کاظم، السياسة الإدارية في فكر الإمام علّي بين الأصالة والمعاصرة، ط بيروت، (بلا.ت)، ص 12، ص 13

وعزيمته، ويده، وقوته، ولسانه وكل جوارحه(1)فإن نصرة الله هي تحقيق إرادة الله في المجتمع، وذلك بالسعي إلى بناء مجتمع تسوده العدالة والطمأنينة والرحمة(2).

والارتباط بالله، وحسن عبادته، والاستقامة في السلوك يقود الراعي حتماً إلى طاعة الله وإقامة حدوده، فيكون بمنأى عن مخالفة الشريعة بالظلم والجور وهو ما عبر عنه أمير المؤمنين ب(حرب الله) فقال للاشتر:

«ولا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ الله فَإِنَّهُ لا يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ ولا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ ورَحْمَتِهِ»(3).

ص: 44


1- الشامي، البرنامج الأمثل، ص 154
2- شمس الدين، عهد الأشتر، ص 69
3- نهج البلاغة، الكتاب 53 (عهد الأشتر)، ص 547

المحور الثاني: تنظيم علاقة الراعي مع نفسه

وقد أكد الإمام عليّ على تنظيمها على أساس (التقوى) التي تشكل رقیباً داخلياً يُقوّم سلوك الإنسان عن الإفراط في الزيغ والانحراف، وعلى أساس (سيطرة العقل) على الأهواء والشهوات والعواطف والميول والرغبات، فإذا تمادى الإنسان في اتّباع هواه وغرائزه ورغباته الجامحة، وأطلق لنفسه عنان الشهوات، بعيداً عن التعقل والتقوى، فقد يصل الأمر به إلى الخروج عن دائرة الإيمان(1)، فصدر توجيه أمير المؤمنين لواليه الاشتر:

«وأَمَرَهُ أَن يَکسِرَ نَفسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ ویَزَعَهَا عِندَ الجَمَحَاتِ فَإِنَّ النَّفسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ اللهُ»(2).

إن الحاكم محكوم بشهواته، وجمحات نفسه، وعليه بحكم المسؤولية الكبيرة التي يقوم بها أن يتجاوز شهواته وعواطفه وأن يتعالى على نفسه ليستطيع أن

ص: 45


1- قال تعالى: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا» سورة الفرقان، الآية 43؛ شمس الدين، عهد الأشتر، ص 68؛ الشامي، البرنامج الأمثل، ص 160، 161
2- نهج البلاغة، الكتاب 53 (عهد الأشتر)، ص 546

یمارس مهمة الحكم بجدارة(1).

وإن سياسة النفس عند الإمام عليّ علیه السلام هي منطلق لنجاح الحاكم، وهي من واجبات من ينهض لقيادة الأمة، فيدرك بها مقومات السياسة العادلة، فتسقط حُجج الرعية في المعارضة وتثبت حُجة الحاكم بعدالته وكفاءته على شعبه(2).

فالسلطة وظيفة ربانية، وهي في الإسلام إمامة عن الأمة، أي أن يكون في مقدمة الناس في كل الصفات الخيّرة(3).

و «مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ ولْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ ومُعَلِّمُ نَفْسِهِ ومُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالإجْلالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ ومُؤَدِّبِهِمْ»(4)كما يقول الإمام علي علیه السلام.

فلا يكون صلاح الرعية بما فيهم الموارد البشرية ضمن كل المستويات التنظيمية داخل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، إلاّ بصلاح القائد أو الوالي، وهو الوجه والقوة الحازمة والمؤثرة والفاعلة والمهمة للحيلولة دون ظهور الفساد بكل أشكاله، ومنه الفساد الإداري والمالي(5).

ومما ينبغي ذكره أن ممارسة السلطة - بحد ذاتها إغراء بالتسلط، وهو إغراء ليس وهمياً، بل قائم في الممارسة والفعل، وأن مجموعة القوانين والمراسيم

ص: 46


1- شمس الدین، عهد الأشتر، ص 69
2- نصر الله، حسن عباس، جمهورية الحكمة في نهج البلاغة، ط دار القارئ، بیروت، 1427 ه / 2006 م، ص 70
3- القزويني، الإمام علي، ص 195
4- نهج البلاغة، الحكمة رقم 68، ص 614
5- المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 252

والتعليمات والأوامر الإدارية، ومجموع الأجهزة الإدارية والشرطة، ودوائر الموظفين والجباة وغيرهم، تخلق أنموذج السلطة الآمرة(1)، ولذلك شخص الإمام علي علیه السلام إمكانية طغيان الراعي، فقال للأشتر:

«ولا تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ ومَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ وتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ»(2).

فالاغترار بالسلطة يؤدي إلى إفساد فعل الراعي وانحرافه أخلاقياً ودينياً، ويكون بدايةً لنشوب مشكلات الصراع الاجتماعي، وتبدل الدول(3).

إن نزعة التسلط أمر تشجعه أبهة السلطة وعظمتها من جهة، وبطانة السوء من جهة أخرى، فأُبهة السلطة تورث المخيلة، والإعجاب بالنفس، وِحدة الطباع، والانغماس في لذة هذه الشهوة، وبطانة السوء التي تكثر وتبالغ في الثناء بالباطل - تقرباً إلى السلطان - تُحدث زهواً في نفسه، وتَزيّداً في فعله، يدنُيه من الطغيان والبغي، فالإمام عليّ علیه السلام وهو يشخص هذه المغريات لا يفوته أن يحذر الراعي منها، ويصف له الدواء الناجع بقوله:

«وإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ الله فَوْقَكَ وقُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَى مَا لا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ ويَکُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ ويَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ إِيَّاكَ ومُسَامَاةَ الله فِي عَظَمَتِهِ والتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ فَإِنَّ

ص: 47


1- السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 460 - 461
2- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 547. الادغال = ادخال الفساد، والغِير: حادثات الدهر بنقلب الدول
3- ينظر: شمس الدين، عهد الأشتر، ص 75

اللهَ یُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ ویُهِینُ کُلَّ مُخْتَالٍ»(1).

«وإِيَّاكَ والإعْجَابَ بِنَفْسِكَ والثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وحُبَّ الإطْرَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِینَ»(2).

وقال له بعد أن أمره بنبذ بطانة السوء، وتقريب أقوَلَهم بمُرّ الحق:

«والْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ والصِّدْقِ ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلا يُطْرُوكَ ولا يَبْجَحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ فَإِنَّ كَثْرَةَ الإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ وتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ»(3).

ص: 48


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 568
2- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 570
3- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 551

مخطط رقم (2) مخطط يبين أثر الاغترار بالسلطة في زوال المُلك على وفق ما ذكره الإمام علي علیه السلام غرور السلطة مظاهر الداء الأبهة والكبرياء الخيلاء والعُجب حِدة الطباع الثقة الفارغة حب الاطراء آثار الداء افساد القلب اضعاف الدين بتغليب الهوى الاستبداد والطغيان والبغي ظلم زوال الملك

ص: 49

فمن عظمة الفكر وصلابته العقائدية أن نرى تجسيداً رائعاً في تدعيم التواضع والتنديد بالغرور والكبرياء والترفع على الرعية والمرؤوسين وهذا التأطير الفلسفي والعقائدي يتجلى بوضوح عن طريق مقارنة المرء بعظمة الله وقدرته، إذ إن الراعي مهما تعاظمت قدراته وقابلياته فإنه ينبغي أن ينظر لعظمة الخالق القدير عزّ وجل حتى لا يعزب عنه رشده وعقله ويتواضع إجلالاً لله خالق الكائنات وصاحب السطوات(1).

ولا يختلف الولاة عن الرعية، في كون الاثنين بشراً يُصيبون ويخطئون، لكن خطأ الوالي أكبر ضرراً، وأشدّ مفعولاً، لأنه يُلحق الضرر بالمحكومين بأكبر نسبة منهم كذلك فإن خطأ الوالي مرئي من قبل الناس وقد ينظرون إليه بعين المبالغة، فتكون لتلك المبالغة تأثيراتها المضافة، فمَنْ يُلزم الوالي بعد هذا من عدم الانجراف في التسلط والإكراه والمغاضبة والعدوان ؟ ومن يستطيع أن يقاوم نشوء بطانة السوء أو يحد من نشاطها السلبي ؟ أن الوالي نفسه يستطيع ذلك عبر شيئين متلازمين:

أولهما: أن يملك نفسه عن الهوى، ويضعها في خدمة العمل الصالح.

وثانيهما: أن تكون محبته للرعية حقيقية، طبيعية، ثابتة، لا محبة شعار، أو محبة مصلحة، أو محبة مرحلة(2).

فجاء توجيه أمير المؤمنين علیه السلام لمالك: بأن يكون:

«أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَامْلِكْ هَوَاكَ وشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لا يَحِلُّ لَكَ فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ کَرِهَتْ

ص: 50


1- حمود، السياسة الإدارية، ص 22 - 23
2- السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 461

وأَشعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِیَّةِ والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ»(1).

إن الإمام علي علیه السلام يرفض الحكومة بصفتها نظاماً دنیوياً يشجع غريزة حب الجاه والتسلط في الإنسان، بل يعرّف الحكومة بأنها هدف للحياة، فهي لا تساوي في نظره شيئاً إذا لم تُحقق الهدف (2)، والهدف هو غايتين ترتبط احداهما بالأخرى وهما إحقاق الحق ومواجهة الباطل(3)، وأن وعي حقيقة السلطة، وإدراك وظيفتها على هذا النحو من الإدراك يمنع الحاكم من الاغترار بها ويحول بينه وبين الاتجاه بها إلى جانبي الاستئثار والاستبداد(4).

فالإمام علي علیه السلام يشجع رقابة الوالي على نفسه تارةً ضمن الشعور بالرقابة الإلهية، وتارةً من أجل حماية وصون الذات من الانحراف في الأداء، فيبني الردع الذاتي على وفق حاسب نفسك بنفسك(5)، وتارة ضمن الشعور بالرقابة الشعبية:

«وأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلاةِ قَبْلَكَ ويَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ وإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ»(6).

ص: 51


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 546 - 547
2- العطار، مهدي، الشورى في الإسلام - تأملات في النظرية والواقع التطبيقي، (مجلة قضايا إسلامية)، ع 6، ص 1419 ه / 1998 م، ص 440
3- ينظر: نهج البلاغة، الخطبة رقم (3)، ص 39، الخطبة 33، ص 76
4- مزهر، ثائر حسن ضاحي، اطروحة الحكم عند الإمام علي، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد، 1437 ه / 2016 م، ص 72 - 73
5- ينظر: المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 78
6- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 546

ص: 52

المحور الثالث: تنظيم وبناء علاقة الراعي مع الرعية

ترتكز فلسفة الحكم في الإسلام على معرفة التركيبة الاجتماعية لأفراد المجتمع وتطلعات الرعية على جميع الأصعدة؛ بغية تقليص المسافة بين الراعي والرعية، إذ لا شكّ في أن استحضار المعية الإلهية تبرز جلياً من خلال القرب المادي والمعنوي بين الحاكم والمحكوم، وتكون ملاكاً لصلاح أمرهما، وبالعكس كلما كبرت الهوّة بينهما دَلّ ذلك على فتور استحضار تلك المعيّة التي تُكوَّن العامل الأساس في ظهور الفساد بجميع مستوياته(1).

فالدولة عند الإمام علي علیه السلام کیان تدبيري عام تنبثق فيه المسؤولية من الإرادة العامة للمجتمع (الرعية)، وتحدّد وظائف الدولة وسلطاتها التي يتولاها المسؤول العام (الراعي) طبقاً لمبادئ الدستور (الشريعة)، وتكون العلائق في ذلك تضامنية، وقد جسد الإمام علیه السلام في الفترة التي ولى فيها المسؤولية العامة في الدولة، الدور الاجتماعي العام في معادلة تكافأت فيها الحقوق والواجبات ما بين الدولة ومواطنيها، وتجسدت فيها آفاق ومعالم الفكر والنشاط التدبيري

ص: 53


1- سیساوي، تغييب القيم، ص 171

المثابر(1) وقد عبّر الإمام علیه السلام عن ذلك الدور المسؤول العلاقة ما بين الدولة ومواطنيها في تطبيق القوانين، واستقرار الدولة بقوله:

«فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ وأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ واعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وجَرَتْ عَلَى أَذْلالِهَا السُّنَنُ فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ وطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ ويَئِسَتْ مَطَامِعُ الأعْدَاءِ»(2).

ويبيّن النص أن آثار هذه العلاقة ونواتجها ينسجمان بدقة مع طبيعتها واتجاهها، كما يدل عليه التفصيل الآتي(3):

أ. الآثار:

1 - أثر قيمي: (عزّ الحق بينهم).

2 - أثر ديني: (وقامت مناهج الدين).

3 - أثر سیاسي - أخلاقي: (واعتدلت معالم العدل).

4 - أثر اجتماعي: (وجرت على اذلالها السنن).

ب. النواتج:

1 - ناتج اجتماعي - تاريخي: (فصلح بذلك الزمان).

ص: 54


1- التميمي، الإمام علي، ص 110 - 111
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم 216، ص 419
3- مزهر، اطروحة الحكم عند الإمام علي، ص 165؛ الزبيدي، عبد الرضا عبد الأمير، في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي علیه السلام دراسة في ضوء نهج البلاغة، ط قم، 1429 ه / 2005 م، ص 108

2 - ناتج سياسي - نظمي: (وطُمع في بقاء الدولة).

3 - ناتج أمني - عسكري: (ويئست مطامع الأعداء).

وبذلك يجعل الإمام علي عليه السلام التوازن في العلاقة بين الحاكم والمحكوم الأساس الذي يتكئ عليه الكيان الاجتماعي وبالشكل الذي يضمن علاقة عادلة بين الطرفين.

والرعية عند الإمام علي علیه السلام جزءٌ مكمل للراعي، فلم نجد استعمالاً للكلمة منسلخة عن الراعي، إذ لا رعية بلا راعٍ، كما وأن لا قدرة للراعي أن يعمل شيئاً بدون الرعية، وهناك حقوق متبادلة بينهما، وتشكل هذه الحقوق نظام العلاقة المتينة بين القاعدة والقمة(1)، يقول الإمام علي علیه السلام:

«وأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِیَّةِ وحَقُّ الرَّعِیَّةِ عَلَى الْوَالِي فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللهُ سُبْحَانَهُ لِکُلٍّ عَلَى كُلٍّ فَجَعَلَهَا نِظَاماً لأُلْفَتِهِمْ وعِزّاً لِدِينِهِمْ فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِیَّةُ إلا بِصَلاحِ الْوُلاةِ ولا تَصْلُح الْوُلاةُ إِلا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِیَّةِ»(2).

أما حين لا تبذل الرعية للوالي طاعتها ولا تمحضه نصيحتها، ولا تلبي دعوته إذا دعا، أو حين تفعل ذلك كله ولكن الوالي يستغله في رعاية مصالح نفسه، ويهمل مصالح رعيته فإن ذلك مؤذن بشيوع الظلم وسيطرة الظلمة وفساد الدولة(3).

«وإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِیَّةُ وَالِيَهَا أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِیَّتِهِ اخْتَلَفَت هُنَالِكَ

ص: 55


1- القزويني، علي بن أبي طالب، ص 186
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم 216، ص 418 - 419
3- شمس الدین، دراسات في نهج البلاغة، ص 293

الْكَلِمَةُ وظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ وكَثُرَ الإدْغَالُ فِي الدِّينِ وتُرِکَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ فَعُمِلَ بِالْهَوَى وعُطِّلَتِ الأحْكَامُ وكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ فَلا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِیمِ حَقٍّ عُطِّلَ ولا لِعَظِیمِ بَاطِلٍ فُعِلَ فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الأبْرَارُ وتَعِزُّ الأشْرَارُ وتَعْظُمُ تَبِعَاتُ الله سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ. فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ وحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ»(1).

وعلى أساس هذه المقدمة السياسية والاخلاقية العميقة التي انطلق منها الإمام علي علیه السلام في تصوير العلاقة الحقوقية المتوازنة بين الحاكم والمحكوم، فإنه رأى أن التكامل الحقوقي المبني على الحق والحق المقابل هو الأساس الوحيد الذي يضمن التناسق الاجتماعي بين أفراد الأمة و مجموعاتها من جانب والسلطة القائمة من جانب آخر، وأن اختلاف كلمة الأمة وظهور معالم الجور بينها ليسا إلاّ نتاجاً لتهشم العلاقة بين السلطة والمجتمع وهبوطها إلى أدنى مستوى ممكن، ومن ذلك يتبين حجم الدور الذي يمكن أن تلعبه السلطة في صيانة الواقع الاجتماعي العام وتلبية مطالبه(2).

وفيما يأتي نورد أهم المعايير القيمية والأخلاقية والتقوائية التي اهتم الإمام علي ببناء علاقة الراعي بالرعية على هديها:

1 - تنظيم العلاقة بين الراعي والرعية على وفق معيار الحق، واحترام دستور الدولة.

ويتضمن هذا المعنى التزام الراعي أولاً برد ما يضلعه من الخطوب، ويشتبه

ص: 56


1- نهج البلاغة، رقم الخطبة، 219، ص 419
2- مزهر، اطروحة الحكم عند الإمام علي، ص 166؛ الجنابي، میثم، الإمام علي القوة والمثال - التراجيديا السياسية للطوباوية الثورية، ط دار المدى، دمشق - بيروت، 1416 ه / 1995 م، ص 133

عليه من الأمور إلى الله ورسوله والأخذ بمحكم كتابه، وسنة نبيه الجامعة غير المفرقة(1)، فضلاً عن السيرة العملية للحاكم العادل الذي كان قبله، فإنها محترمة ومرضية عند الله وعند الناس، وشرط عليه في العمل بما شاهده من عمل وتطبيق الإمام علي علیه السلام للقوانين على موضوعاتها، ليأمن من الاشتباه في التفسير وفهم المقصود، ومن الخطأ في التطبيق(2)إذا ردَّ الأمور إلى هواه؛ فقال:

«والْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَکَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ مِنْ حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِيِّنَا صلی الله علیه وآله وسلم أَوْ فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ الله فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا وتَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيكَ... لِيکَیْلا تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَى هَوَاهَا»(3).

فلن يعصم من السوء ولا يوفق للخير إلاّ الله تعالى.

ولا شك أن شخصية الإمام عليّ هي مرجعية نافعة ومنقذة إذا ما أراد الراعي أن يتلمس على هداها معالم النظرية الإسلامية القرآنية - فكراً وتطبيقاً - في شروط ومباني الاجتماع والحضارة وإقامة الدولة وحقوق المواطنة لاشتمالها على ركنين رئيسيين هما(4):

الأول: الأساس المعرفي والفكري في كل نظرية، وتمثل ذلك بما جادت به شخصيته من أفكار وأصول نظرية محكمة وغنية وواضحة ضمتها خطبه وأقواله حول مفهوم الدولة والمواطنة - الراعي والرعية - بغزارة لا نجدها

ص: 57


1- ينظر: نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 556
2- الخوئي، منهاج البراعة، 20 / 363
3- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 572
4- الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 15

عند غيره من أبناء هذه الأمة... وتعد تلك الأفكار تفسيراً وتعضيداً للأصول والمبادئ النظرية التي جاء بها القرآن الكريم، ف((عليٌّ مع القرآنِ والقرآنُ مع عليّ لن يتفرّقا حتى يردا عليَّ الحوض))(1)كما أخبر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.

الثاني: وهو التطبيق العملي لتلك الأفكار والأصول النظرية، فقد قدمت لنا سيرته الشريفة بجميع أدوار حياته تطبيقات عملية مخلصة وفريدة لما رسخ في ضميره من مبادئ أصيلة أخذها من القرآن الكريم، ومن طول صحبته لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وملازمته إياه، وقد أكد ثباته على تلك المبادئ مع اختلاف ظروفه التي مرَّ بها، أكد أصالتها وصلاحيتها للتأسيس من جهة وإخلاصه في تبنيها من جهة أخرى. ولذلك كله نفهم وصية الإمام علي للاشتر خاصة ولكل راعٍ باقتفاء أثر سيرته المباركة، والاقتداء بسنته العادلة بعد كتاب الله وسنة رسوله، فبذلك يصل بالأمور إلى:

«أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وأَعَمُّهَا فِي العَدْلِ وأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ»(2).

ودعا الإمام علي في هذا الاتجاه إلى أن تتوثق رابطة الراعي برعيته على أساس التزامه الصارم - أمام الرعية - بتطبيق القانون والحق بلا محاباة، إذ قال:

«وأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ والْبَعِيدِ وكُنْ فِي ذَلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وخَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ وابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِكَ مَحْمُودَةٌ»(3).

ص: 58


1- الحاكم النيسابوري، أبي عبد الله محمد بن عبد الله (ت 405 ه / 1014 م)، المستدرك على الصحيحين، ط دار الفكر، بیروت، 1922 ه / 2002 م، 3 / 337
2- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 549
3- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 567 - 568

وبذلك يكون الحق معيار السياسة لديه في كل ما يتصل بها ويمت إليها بصلة، وأشار في السياق نفسه إلى أنه لا شيء يبرر للراعي انتهاج سلوك مضاد للحق في سياسته مع الرعية بأي عنوان كان وتحت أية ذريعة(1).

2 - تنظيم العلاقة بين الراعي والرعية على وفق معايير الانصاف، والعدالة، والمساواة.

أ. الإنصاف:

وفيه يقول موجهاً الاشتر:

«أَنْصِفِ اللهَ وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ ومِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ ومَنْ لَكَ فِيهِ هَوًی مِنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّكَ إِلا تَفْعَلْ تَظْلِمْ ومَنْ ظَلَمَ عِبَادَ الله كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ ومَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ وَكَانَ لِلّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ یَتُوبَ»(2).

فإن بناء الأخلاقية الإنسانية للراعي تبدأ من المقدرة والعفو والانصاف، وبناء عدالة التنظيم والتوزيع والمساواة في الحقوق والواجبات، كل على قدر واجباته وقدراته، مما يبني أواصر المحبة ووحدة القلوب بين القائد ورعیته والعاملين بأمرته، وتواصل تقييم وتقويم كل الاتجاهات والسلوكيات في ذكر الله تعالى والشعور بقدرته، الواقي والرادع لجموح الظلم لدى الإنسان، ولاسيما الحد من تمادي الشخص القيادي بسلطته وجبروته، والحد من تمادي ما دونه ممن هم أدني في تسلسل السلطات والمخولين بالصلاحيات، مهما كان

ص: 59


1- مزهر، أطروحة الحكم عند الإمام علّي، ص 90 - 91؛ وينظر: نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 569 - 570
2- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 568

قربهم الاجتماعي أو النفسي من الرئيس أو القائد الأعلى(1).

والإنصاف والعدل عند الإمام علي علیه السلام حالة نفسية تنطلق من الجوارح أولاً، فلابد للراعي من أن يبدأ بنفسه أولاً، فيعدل بين نفسه وبين الناس، وبين نفسه وبين الله، وفي المرحلة التالية يعدل بين الناس وبين اقرب الناس إليه، فعندما لا يرسو الإنصاف على شاطئ النفس أولاً لا يستطيع أن يتحرك ليسود المجتمع، فتكون النتيجة هي انتشار الظلم(2).

فبالإضافة إلى كون الإنصاف من مبادئ الدين، فإن له فوائد اجتماعية جمّة منها نزع الحقد وإطفاء النائرة، وتشجيع المعاندين والمتغطرسين على العودة عن غيّهم، وهذه المكاسب كم فيها من صلاح ونجاح للمجتمع؟(3)، وقد أشار الإمام علي علیه السلام إلى هذا المعنى بقوله:

«الانصاف يرفع الخلاف ويوجب الائتلاف»(4).

ب. العدالة:

وهي احترام حقوق الآخرين وإعطاء كل ذي حق حقه(5)، والعدل السياسي في فلسفة الإمام علي الحكمية والسياسية أوسع من الأرض، فهو أساس الحكم، وبه قوام العالم، وفرح الرعية، وخصب الزمان، والعدل فضيلة السلطان، وجُنّة

ص: 60


1- المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 202
2- القزويني، الإمام علي، ص 207
3- الشريفي، الأصول النظرية للدولة والمواطنة، ص 170
4- الواسطي، أبي الحسن علي بن محمد الليثي (ت في القرن 6ه)، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق: حسين الحسيني البيرجندي، ط قم، 1417 ه / 1999 م، ص 26
5- صليبا، د. جميل، المعجم الفلسفي، ط إيران، 1426 ه / 2005 م، 2 / 59

الدول، وطريق اعمار البلاد، وإصلاح الشعوب، واستمرارية الملك... هذه المضامين هي عناوين حكم علوية(1)ترسم صورة واضحة للعدالة، بمداها الوسيع، فهي أوسع من الأرض بل روح الأرض والحياة(2).

ويرتبط العدل عند الإمام عليّ علیه السلام مع أصله الإيماني إلى المستوى الذي يكون التعبير الأبرز عنه أن يكون ((رأس الإيمان وجماع الإحسان))(3)، ومنه يتبين أن العدل يحتل مرتبة الصدارة بين قيم الإيمان إلى الحد الذي لا تدانيه قيمة أخرى؛ وما ذلك إلاّ لأنه المبدأ الذي ينبغي أن تتشكل علاقة الإنسان بكل الوجود بموجبه(4).

لقد حرض الإمام علي علیه السلام أصحاب المسؤوليات بل أغراهم بالعدل، ليكون زينةً لهم، وفضائل تجعلهم جديرين بمراكزهم، فالراعي هو المصدر الذي يفيض عنه العدل أو الظلم في مملكته أو ولايته وبقدر قوة هذه العدالة وشموليتها تزدهر البلاد ويتطور عمرانها(5).

فتارةً يوجه الإمام علي عليه السلام الأشتر لتكون:

ص: 61


1- ينظر: الآمدي، غرر الحکم، ص 39، ص 43، ص 46، ص 47، ص 102، ص 298، ص 335، ص 354، ص 555، ص 690
2- نصر الله، جمهورية الحكمة، ص 151
3- الآمدي، غرر الحکم، ص 90
4- نصر الله، جمهورية الحكمة، ص 148؛ مزهر، اطروحة الحكم عند الإمام علي، ص 95
5- نصر الله، جمهورية الحكمة، ص 152؛ وينظر في أقوال الإمام علي عليه السلام: «العدل جُنة الدول»، «ما حصن الدول مثل العدل»، «بالعدل تصلح الرعية»، «ما عُمرت البلدان بمثل العدل» الآمدي، غرر الحکم، ص 102، ص 298، ص 688، ص 690

«أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ»(1).

فمن العمل الصالح الرغبة الدائمة في منح كل شخص ماله، وإيقاف الإنسان عند حده، واعطاء كل ماله بمقتضى القواعد التي رسمها القانون، وذلك هو إقامة العدل، وذلك من أهم قواعد الأخلاق التي تحتم بقاء الحقوق في يد أصحابها وصونها من العبث، وخير فعال لتحقيق الحرية والمساواة إنما هو العمل الصالح؛ إذ هو من أبرز الآثار لعدالة النفس وأسطع صفات العدالة الاجتماعية(2).

وتارةً ينبه إلى أهمية هذا المبدأ:

«ولْيَكُنْ أَحَبَّ الأمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ»(3).

فمعیار الحق والعدل ورضى الناس هي القاعدة التي ينبغي أن ينطلق منها كل راعٍ في رسم سياساته في مختلف شؤونه التنفيذية، والحصيلة هي انتشار العدل(4).

لقد جعل الإمام علي علیه السلام أُسساً موضوعية للعدالة التي ينبغي أن يطبقها الراعي على رعيته فمنها:

أ. التساوي في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع.

ب. إدارة أموال الدولة وتنميتها على أساس العدل وكفالة الفقراء.

ص: 62


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 546
2- الفكيكي، الراعي والرعية، ص 40 - 41
3- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 549
4- القزويني، الإمام علي، ص 206 - 207

ج. التساوي في مجال إجراء العدالة.

أ. التساوي في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع:

كان من أولى مهارات الإمام علي علیه السلام هو إلغاء التمايز الطبقي والعرقي بين الناس، إذ إن مكانتهم في الدولة والمجتمع تحددها خدماتهم التي يقدمونها، ومدى التزامهم بالأنظمة والقوانين،... ولهم - قبل ذلك - جميع الحقوق المدنية في العيش والأمن والسكن والتنقل والعمل، وكانت تلك المهمة شاقة على أمير المؤمنين(1)،جرّت عليه سخط الكثيرين الذين كانوا يتمتعون بمكاسب ذلك التمييز1، فمع أن المساواة والعدل كانت من أولى مقررات الإسلام ومطالبه، إلاّ أن ذلك لم يُفلح في اجتثاث النعرات الطبقية والعرقية والطائفية من نفوس الناس بصورة كلية وبقيت المحاباة والإثرة تتحكم في أهواء الناس وميولهم، مما ولد الحنق والسخط في نفوس المستأثر عليهم والمستضعفين، وجرّ على المجتمع ويلات الفتنة(2).

ولذلك وجه الإمام علي علیه السلام الأشتر إلى أن الراعي ينبغي أن يرى في القسط والعدل حقاً أصيلاً وثابتاً لكل فرد من أفراد المجتمع مهما كان وضعه... ولا يُشترط فيه وحدة الدين والفكر والعرق والعقيدة(3)فقال:

«وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ ولا تَکُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وإِمَّا نَظِيرٌ

ص: 63


1- ينظر: الثقفي، الغارات، ص 44 - 49
2- الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 192 - 193
3- المرجع نفسه، ص 195

لَكَ فِي الْخَلْقِ...»(1).

إن وصية الإمام علي هذه تكتسب قيمة خاصة، ونادرة من الوهلة الأولى، لاسيما وأن العصر - حينذاك - كان لا يخلو من نظرة التعالي على أهل الذمة، والتجاسر عليهم أحياناً من قبل بعض الجباة، وبعض أفراد الرعية، بالاستناد - غير الواقعي - إلى أفكار دينية؛ فكان تأكيد الإمام علي علیه السلام على فكرة (النظير في الخلق) لتُضاهي فكرة (الأخوة في الدين) و تضع أساساً لديمقراطية العلاقة بين جميع الناس من مختلف الملل والنحل والأحزاب والطوائف والأقليات القومية، وتحدد الاطار الحقوقي لحرية الاعتقاد تلك الحرية التي لا يمكن قهرها(2).

كان حلّ الإمام علي علیه السلام الذي قدمه بمواجهة مشكلة (التمييز)، بصورتها الحسية حينذاك، حلاً تاريخياً لكل مشكلة من هذا النوع، فهو في جوهره، وفي آفاقه دستور أخلاقي - سياسي لحل مشكلة العلاقات بين القوى والفصائل والأطراف المختلفة ايديولوجياً وسياسياً ويقوم الحل على ركنين(3):

الأول: ركن الأخوة الايدلوجوية والسياسية، وهو يتضمن وحدة المنطلقات ووحدة العلاقة وما يترتب على ذلك من تضامن.

الثاني: وهو الأهم، تذكير السلطة المذهبية، أن (الإنسان) من مذهبٍ آخر هو نظير (إنسان السلطة) في الخلق، وليس ثمة ما يتعالى به عليه، فتكون له به حجة لقمعه.

فالإمام عليّ قد حاول - في وصيته هذه - أن يرسخ مبدأ إسلامياً أصيلاً يؤكد

ص: 64


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 547
2- السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 464، ص 467
3- المرجع نفسه، ص 466

على (الانتماء إلى الإنسانية)، فالولاء والانتماء للأمة لا يعني إفرازها عن الكتلة الإنسانية كلها، إنما يعني:

تركيز الولاء العام للإنسانية في هذه المجموعة الخاصة.

وتكثيفه نحوها بالخصوص.

لأن الإنسانية أصبح يرتبط معها ولائين:

ولاء عام للإنسانية كلها.

وولاء خاص للأمة التي يشترك معها في العقيدة والأخلاق.

فالإسلام يحاول تنمية الحس الإنساني دائماً على حساب الحس الشخصي، والحس القومي، ويحاول دائماً أن يركز في الإنسان شعوره بالانتماء إلى المجموعة الإنسانية كلها وأنه عضو فيها... ومن هنا نجد القرآن الكريم يخاطب الإنسان عموماً، ويخاطب المؤمنين أيضاً بإثارة العنصر الإنساني فيهم قائلاً:

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ»(1)، «يَا بَنِي آدَمَ»(2).

لأن ولاء الإنسان لأمته يعتمد في النظرية الإسلامية على العنصر الإنساني وبالذات على الأخلاق التي هي جوهر الإنسان(3).

ولكن ينبغي التنبيه إلى أصل مهم يبتني عليه تعيين الحقوق للناس، فإذا كانت المساواة والتآخي أصل إسلامي - مال إليه كل الشعوب في العصور الأخيرة وأُدرج في برنامج حقوق الإنسان - فهي لا تعني تساوي الأفراد في النيل من شؤون الحياة: الصالح منهم والطالح، والجاد منهم والكسلان على

ص: 65


1- سورة فاطر، الآية 3
2- سورة يس، الآية 60
3- المتوكل، المذهب السياسي، ص 114

نهج سواء، بل المقصود منه نیل كل ذي حق حقه من حظ الحياة على حسب رتبته العلمية وجده في العمل، وقد شرح الإمام علي عليه السلام هذا الأصل عندما نبِّه الاشتر إليه بقوله:

«ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَى ولا تَضُمَّنَّ بَلاءَ امْرِئٍ إِلَى غَيْرِهِ ولا تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلائِهِ ولا يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلائِهِ مَا كَانَ صَغِيراً ولا ضَعَةُ امْرِئٍ إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلائِهِ مَا كَانَ عَظِيماً»(1).

فأمر الإمام علي كل راعٍ - عبر عهده للأشتر - بإيصال حق الجهد والاخلاص إلى صاحبه وعرفان هذا الحق بما یوجبه من الرتبة والامتياز، وفسّر التبعيض ببعض الأمور:

1 - إضافة جهد رجل إلى غيره واحتسابه لغير صاحبه.

2 - عدم استيفاء حق المجاهد الجاد، والتقصير في رعاية حقه على ما يستحقه.

3 - احتساب العمل الصغير من رجل شريف كبيراً رعايةً لشرفه.

4 - استصغارُ عملٍ كبير من رجلٍ وضيع بحساب ضعته.

فهذه هي التبيعضات الممنوعة التي توجب سلب الحقوق عن ذوي الحقوق(2).

فمن مظاهر العدل أن يُنصف الراعي بين المحسن والمسيء، فقال الإمام علي عليه السلام:

«ولا يَكُونَنَّ المُحْسِنُ والْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لأَهْلِ

ص: 66


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 556
2- الخوئي، منهاج البراعة، 20 / 319

الإحْسَانِ فِي الإحْسَانِ وتَدْرِيباً لأَهْلِ الإسَاءَةِ عَلَى الإسَاءَةِ وأَلْزِمْ كُلاً مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ»(1).

فليس للإنسان إلاّ ما سعى والتزم به من قيم المجتمع وآداب التعامل الهادف، إذ «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(2)، ولذلك فإن الإمام علي علیه السلام يركز على أهم الجوانب النفسية في الإدارة وهو (التحفيز) الذي يتضمن مبدأ العقاب والثواب مع الرعية، والتأثير على سلوكهم بحوافز مادية أو معنوية هادفة في ضوء الاعتبارات الموضوعية العامة(3).

فعدالة الراعي تصنع الأجواء المناسبة لتربية الرعية وتعويدها على عمل الخير(4)، فقال علیه السلام للاشتر:

«واعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ مِن إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وتَخْفِيفِهِ الْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ وتَرْكِ اسْتِکْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ»(5).

ب. إدارة أموال الدولة وتنميتها على أساس العدل وكفالة الفقراء. إن النمو والازدهار - لأي بلد - لا يتحقق باستنزاف الموارد واستهلاكها بل

ص: 67


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 551
2- سورة الحجرات، الآية 13؛ و ((لا فضل لعربي على أعجمي ولا أعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلاّ بالتقوى)) كما قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم. ابن حنبل، أحمد الشيباني (ت 261 ه / 855 م)، مسند أحمد، ط دار إحياء التراث، بیروت، (بلا.ت)، الحديث رقم 2305
3- حمود، السياسات الإدارية، ص 34
4- القزويني، الإمام علي، ص 207
5- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 551

باستثمارها وتنميتها،... وأن عمارة البلاد واستصلاح العباد هما الهدف الأسمى وراء كل حركة عامة ونشاط اداري في الإسلام، فليس غريباً أن يبتدئ الإمام علي علیه السلام أمره للأشتر بتثبيت هذين الهدفين الساميين(1):

«هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ الله عَلِىٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وجِهَادَ عَدُوِّهَا واسْتِصْلاحَ أَهْلِهَا وعِمَارَةَ بِلادِهَا»(2).

إن (عمارة البلاد) قد تساوي في الأدبيات الاقتصادية الحديثة: التنمية الاقتصادية، ولكن لو أضفنا لها (استصلاح الشعب) فإنها تعني التنمية ببعديها الاجتماعي والاقتصادي، وكلا البعدين يكمل الآخر ويؤثر فيه،... إن عناية الإمام علي بعمارة البلاد، إنما هو لتحقيق إرادة السماء في الأرض إذ يقرر الإسلام بأن اشباع الجانب المادي متزامناً مع التقوى، لهو خير معين على الارتقاء بالروح، ولا يوجد تنازع إطلاقاً بين تلبية مطالب الجسد والسمو الروحي عند الإمام عليّ علیه السلام، بل أن الإمام يراهما متلازمَين، لذا فإن التنمية عند الإمام عليّ علیه السلام ليست مجرد زيادة في الناتج القومي، ورفع متوسط دخل الفرد فقط - کما يجد الباحثون في الكثير من الأدبيات الاقتصادية الحديثة(3)-، بل أن مفهوم التنمية عنده يشمل ((عدالة توزيع الدخل، ورفع مستوى الاستهلاك

ص: 68


1- الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 237
2- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 546
3- شهاب، معالم الفكر التنموي، ص 115 - 117؛ والمتتبع لكلمات الإمام علي يجد أن أهداف التنمية عنده تتركز في أربع نقاط رئيسية لخصها أمره لمالك الأشتر ب(استصلاح أهلها) وهي: 1 - بناء مجتمع متعلم. 2 - بناء مجتمع خال من الأمراض. 3 - بناء مجتمع الكفاية. 4 - بناء مجتمع المتقين الذي يتوفر على تلكم الأهداف جميعاً. المرجع نفسه، ص 117

لجميع أفراد المجتمع سواء منهم من لديه القدرة على تحقيق ذلك لنفسه أم من يعجز عن ذلك؛ إذ على الدولة أن تقوم بتحقيق هذا المستوى للصنف العاجز من الناس))(1).

ولذلك جاء في وصيته للأشتر - وبعده للرعاة كافة -:

«اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُفْلَى مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُمْ مِنَ الْمَسَاكِينِ والْمُحْتَاجِينَ وأَهْلِ الْبُؤْسَى والزَّمْنَى فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً ومُعْتَرَاً واحْفَظِ لِلّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ واجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ وقِسْماً مِنْ غَلاتِ صَوَافِي الإسْلامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ فَإِنَّ لِلأقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأدْنَى وكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِیتَ حَقَّهُ ولا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ فَإِنَّكَ لا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعكَ التَّافِهَ لإحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ فَلا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ ولا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ وتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ وتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ فَفَرِّغْ لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ والتَّوَاضُعِ فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالإعْذَارِ إِلَى الله يَوْمَ تَلْقَاهُ فَإِنَّ هَؤُلاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ وكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى الله فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيْهِ وتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنْ لا حِيلَةَ لَهُ ولا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ وذَلِكَ عَلَى الْوُلاةِ ثَقِيلٌ والْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ وقَدْ يُخَفِّفُهُ اللهُ عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ

ص: 69


1- العسل، إبراهيم، التنمية في الإسلام، ط بيروت، 1416 ه / 1996 م، ص 90. . أهل البؤس: الذين يعانون شدة الفقر. . الزمني: أرباب العاهات المانعة لهم عن الاكتساب. . القانع: السائل. . المعتر: المتعرض للسؤال بلا عطاء. . تقتحمة العيون: تنظر إليه احتقاراً وازدراءَ

ووَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ الله لَهُمْ(1).

فمن خصائص الإسلام الفريدة أنه حمل على كاهله هموم جميع مواطنيه وضمن حقوقهم في المال صغيرهم وكبيرهم، اناثهم ورجالهم، غنيهم وفقيرهم، عاجزهم وقادرهم(2).

فقد ساوى الإمام عليّ علیه السلام بين الطبقة السفلى وغيرهم من طبقات المجتمع في الحقوق، وهذه الطبقة تشمل العاجزون عن الحيلة والاكتساب، والمساكين والمحتاجون ممن يسأل لرفع حاجته (القانع)، ويعرض نفسه في مظان الترحم بلسان الحال دون أن يعرض حاجته بلسانه (المعتر)، أو من اعتزل في زاوية بيته دون أن يسأل بلسانه، ولا يعرض نفسه على مضان قضاء حوائجه إما لرسوخ العفاف وعزة النفس فيه، أو لعدم قدرته على ذلك (كالزمني) وقد وصى الإمام علي عليه السلام الراعي فيهم بأمور(3):

1. حفظ حقوقهم والعناية بهم طلباً لمرضاة الله وحذراً من نقمته لأنهم لا يقدرون على الانتقام ممن يسلبهم حقوقهم.

2. جعل لهم قسماً من بيت المال العام الذي يجمع فيه الصدقات الواجبة والمستحبة وأموال الخراج الحاصل من الأراضي المفتوحة عنوة.

3. جعل لهم قسماً من صوافي الإسلام في كل بلد. وهي الأرضون التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب وكانت صافية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما قبض صارت لفقراء المسلمين، ولما يراه الإمام

ص: 70


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 563 - 564
2- الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 254
3- الخوئي، منهاج البراعة، 20 / 343 - 344

علي عليه السلام من مصالح الإسلام.

4. ألّا يصير الزهو بمقام الولاية موجباً لصرف النظر عنهم وعدم التوجه إليهم مغتراً باشتغاله بأمور هامة عامة، فقال الإمام علیه السلام: أحكام الأمور الهامة الكثيرة لا يصير كفارة لصرف النظر عن الأمور الواجبة القصيرة.

5. الاهتمام بهم وعدم العبوس في وجوههم عند المحاضرة والمصاحبة لاظهار الحاجة.

ثم أوصى بالتفقد عن القسم الثالث المعتزل، بوسيلة رجل موثق من أهل الخشية والتواضع وخصص طائفتين من العجزة بمزيد التوصية والاهتمام:

أ. الايتام الذين فقدوا آبائهم وحرموا من محبة والديهم الذين يلمسونهم بالعطف والحنان دائماً.

ب. المعمّرون إلى أرذل العمر الذين أنهكتهم الشيبة واسقطت قواهم فلا يقدرون على إنجاز حوائجهم بأنفسهم(1).

فهؤلاء الضعفاء والذين يمنعهم الحياء وشرف النفس من إظهار فقرهم، ومن نَصبِ انفسهم للمسألة، يموتون جوعاً إذا لم يبحث عنهم الحاكم ويرعی أمورهم، ولذلك أمر الإمام الراعي بتفقد هؤلاء وأمثالهم، وأن يوكل بهم من يتفقدهم.

((ولا أظن أن حكومة من الحكومات الحديثة بلغ فيها التشريع العالي، والتأمين الاجتماعي من النضوج والوعي للمسؤولية الاجتماعية إلى حد أن تؤلف هيئة تبحث عن ذوي الحاجة والفاقة فترفع حاجتهم بأموال الدولة، كما نرى ذلك في عهد الإمام ولا أظن أن قلوب المشرعين وعقولهم اجتمعت على

ص: 71


1- المرجع نفسه، 20 / 344

أن تُخرج للدنيا تشریعاً عمالياً فأفلحت في أن تخرجه أنبض من تشريع الإمام بالشعور الإنساني العميق))(1).

ومن نافل القول أن الضرائب - في الإسلام - إنما وضعت لسد بعض النفقات العامة للدولة، ولكن في فلسفتها الأصيلة فيه قامت على تحقيق الضمان الاجتماعي للطبقات الفقيرة في المجتمع وتجنيبها العوز والفاقة والتذلل في مسألة الناس، حتى يأتيها رزقها رغداً من بيت مال المسلمين دون منّة أو أذىً من أحد... ومع الاعتراف بأهمية أموال الضرائب في رفد الخزينة العامة إلاّ أن همّ الدولة يجب أن لا يكون منصرفاً بصورة أساسية نحو تحصيل الضرائب، وخطتها المالية والاقتصادية يجب ألا تكون قائمة عليها، فنهاء الاقتصاد العام وتحصينه إنما يقوم على العمارة والاستثمار والتنمية المستدامة(2).

«ولْيَکُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الأرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلابِ الْخَرَاجِ لأَنَّ ذَلِكَ لا يُدْرَكُ إِلا بِالْعِمَارَةِ ومَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَیْرِ عِمَارَۃٍ أَخْرَبَ الْبِلادَ وأَهْلَكَ الْعِبَادَ ولَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلا قَلِيلاً(3) غير أن عمران الأرض - نفسه - مرتبط أصلاً بمكانة الإنسان و قیمته؟ فالإنسان الحر الكريم غير المكبل بالقيود، قادر على إعمار الأرض والعناية بها، أما الإنسان السجين بقيود الظلم الاجتماعي، فهو غير قادر على اعمار أية أرض - إن كانت له أرض(4)- ولذلك يوجه الإمام علّي عليه السلام الأشتر برعاية

ص: 72


1- شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 247
2- الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 253 - 254
3- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 559
4- السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 423، ص 324

أصحاب الأراضي الزراعية والفلاحين فيقول:

«فَإِنْ شَکَوْا ثِقَلاً أَوْ عِلَّةً أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ خَفَّفْتَ عَنهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يُصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ ولا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَئُونَةَ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلادِكَ وتَزْيِينِ وِلايَتِكَ مَعَ اسْتِجْلابِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ وتَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ العَدْلِ فِيهِمْ مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ لَهُمْ والثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ ورِفْقِكَ بِهِمْ فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الأمُورِ مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ فَإِنَّ العُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ وإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الأرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا وإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لإشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاةِ عَلَى الْجَمْعِ وسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ وقِلَّةِ انتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ(1).

فمن الأمور المهمة التي ينبغي للراعي التركيز عليها هي البعد الأخلاقي للاقتصاد في الإسلام، فلا يقوم الفكر الاقتصادي في الإسلام على أن الهدف هو مجرد مضاعفة وزيادة الثروة، بل تسخير الإنتاج لزيادة ثروة المجتمع والفرد

ص: 73


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 559 - 560. . شكو ثقلاً أو علة: أي شكوا من مال الخراج المضروب على الأرض أو من علّة سماوية أضرّت بزرعهمز . انقطاع شرب: انقطاع ماء في بلاد تسقى بالأنهار. . انقطاع بآلة: ما يبل الأرض من مطر وندى، للأراضي التي تسقى بالأمطار. . إحالة أرض: تحويل الأرض البذرو إلى فساد بالتعفن بعد أن غلبت عليها الرطوبة. . التبجح: السرور بما یری من حسن عمله بالعدل. . الاجمام: الترفيه والراحة

من جهة، ولجعل أهداف إنسانية في الاقتصاد تأخذ بالحسبان الأشخاص والجماعات التي تعاني من الضيق الاقتصادي من جهة ثانية، وتأخذ بالحسبان عدم استغلال الطبيعة على نحو يؤثر على توازن الحياة ويؤدي إلى استهلاكها بما يضر بمصلحة الإنسان على المدى البعيد من جهة ثالثة(1).

وتبرز وحدة الأُفق بين الإنسان، وعمارة الأرض، والخراج، وبناء الدولة) في ذلك التصوير العادل لوحدة العلاقة الاقتصادية بمضمونها الإنساني بين تلك الأطراف(2)فقال علیه السلام:

«وتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ فَإِنَّ فِي صَلاحِهِ وصَلاحِهِمْ صَلاحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ ولا صَلاحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلا بِهِمْ لأَنَّ النَّاسَ کُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وأَهْلِهِ»(3).

ج. التساوي في مجال إجراء العدالة:

تعد المساواة أمام القانون من العوامل عظيمة الأثر على التماسك الاجتماعي، إذ إن سيادة القانون تعطي انطباعاً يبعث على الطمأنينة، فيندفع الناس كادحين ومستثمرين لا يخافون ظلمَ مُتنفذ وصاحب مكانة، ولا عدوانا وتمييزاً أمام القانون(4).

فبدخول الجميع تحت عنوان (مساواة الجميع أمام القانون) يتكرس مبدأ اللا فارق بينهم ومن ثم التساوي في الحقوق لأنهم كلهم مشمولون بلفظ

ص: 74


1- شمس الدين، عهد الاشتر، ص 135
2- السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 324
3- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 559
4- شهاب، معالم الفكر التنموي، ص 251

الناس(1)، فقال الإمام علي عليه السلام في هذا المضمون لواليه الأشتر:

«وأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ والْبَعِيدِ وكُنْ فِي ذَلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وخَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ»(2).

ويرى بعض الباحثين أن هذا النص يشير إلى أن للمدعي وللمدعى عليه الحقوق القضائية نفسها قبل اتضاح الحكم وأما عند اتضاحه وثبوت الإدانة بحق المتهم فيجب إنزال العقوبة بحقه دون النظر إلى صفته أو مكانته ومن هنا تُصبح المساواة القضائية أهم تطبيق للمساواة القانونية التي يتمتع بها الإنسان عند الإمام علي علیه السلام(3).

3 - سياسة الانفتاح على الرعية: ويتم ذلك على وفق أسس متعددة منها:

أ. اشراك الرعية في شؤون الحكم عبر المشاورة.

ب. مخالطة الراعي للرعية (التواصل وعدم الاحتجاب - تعایش وحوار).

ج. المشاركة الوجدانية للرعية والإدارة الأبوية.

د. المكاشفة.

أ. اشراك الرعية في شؤون الحكم عبر المشاورة:

ص: 75


1- جرداق، جورج، الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية، ط قم، 1423 ه / 2002 م، 1 / 348
2- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 567
3- الأعرجي، زهير، الإمام علي بن أبي طالب $: السيرة الذاتية والاجتماعية، ط 2، بیروت، 1430 ه / 2008 م، ص 719؛ مزهر، اطروحة الحكم عند الإمام علي، ص 99 - 100، وللتوسع في القضاء في فكر الإمام عليّ ينظر: عباس الملا، فاضل، الإمام عليّ ومنهجه في القضاء، ط دار الرافدين، بیروت، 1432 ه/ 2010 م

من الممكن أن تعمل الحكومات المختلفة في سبيل تأمين الحوائج المادية للحياة بصورةٍ واحدة، ولكنها لا تتساوى في رضا الناس عنها، إذ يفي بعضها بقضاء الحوائج النفسية والروحية، بينما لا تفي بها الحكومة الأخرى(1).

ومن هنا فقد سعى الإمام علي علیه السلام لتوجيه الراعي بأن لا يغفل عن إشراك رعيته في بعض شؤون الدولة عبر المشاورة؛ ففيها إبعاد الأمة عن الاستبداد، وتدريب للحاكم بالرجوع إلى أهل الحل والعقد وأهل العقل، وأهل الاختصاص والانتفاع من تجارب الأمة وخبرتها وقدرات ابنائها، وإشعار الرعية بقيمتها وقدرتها، وإشعارها بالمسؤولية الاجتماعية وأنهم شركاء فيها، كما أن في التشاور تصعيداً لحالة التلاحم بين القيادة وقواعدها(2).

فوجّه الإمام علي علیه السلام واليه الأشتر لهذا المعني بالقول:

«ولا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ ويَعِدُكَ الفَقْرَ ولا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الأمُورِ ولا حَرِيصاً یُزَیِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ فَإِنَّ الْبُخْلَ والْجُبْنَ والْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِالله»(3).

فالمشورة مع هؤلاء (البخيل والجبان والحريص) لا تصل إلى رأي صالح مصیب باعتبار ما ركز في طباعهم من مساوئ الأخلاق التي تؤثر في رأيهم وتكدره(4).

ص: 76


1- المطهري، مرتضي، في رحاب نهج البلاغة، ترجمة: هادي اليوسفي، ط 2، دار التعارف، بیروت، 1400 ه/ 1980 م، ص 97
2- العطار، الشورى في الإسلام، ص 377
3- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 550
4- الخوئي، منهاج البراعة، 20 / 303

وبدلاً من هؤلاء أرشده إلى أن يتقرب من أهل الصدق «والْصَقْ بِأَهْلِ الوَرَعِ والصِّدْقِ»(1). ويتقرب من أهل العلم والحكمة والمعرفة فقال علیه السلام:

«وأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ ومُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلادِكَ وإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ»(2).

لأن في ذلك شرفاً، وتنويراً، وتطويراً، وإبداعاً، وإضافة تقوي الصلاح وتزيل الباطل، وتحلّ محله الصالح، وتزود النظام بعوامل القوة والتقدم، إن الإكثار من مدارسة العلاء وذوي المروءات والانصاف يجلو البصيرة، ويرفع الغشاوة، ويُبعد سحب الفتنة، ويعري زيف الأدعياء ممن ينصبون أنفسهم - زوراً - أعمدةً لسياسة النظام، ففي السياسة منعطفات ومزالق ودهاليز، يغفل عنها مَنْ لم يشارك العقول رأيها وعقلها وحكمتها، فتحدث العواقب السيئة، وتستعصي المعالجة(3).

ولا شك أن الكبر والغلظة وإعجاب الراعي بنفسه ستحمله على الاستبداد برأيه وترك مشاورة الرجال، فإذا ما فعل ذلك يكون قد فوّت على نفسه الكثير من المعرفة، فيظل يدور في فلك نفسه وأفكاره، ولذلك كانت الشورى من مظاهر اللين والرفق والمشاركة للرعية(4).

ص: 77


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 551
2- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 502
3- السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 470 - 471؛ القزويني، الإمام علي، ص 202 - 203
4- فليس غريبا أن يأتي ذكرها في الآية نفسها التي حثت على اللين والرفق وهي قوله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ...» آل عمران، الآية 159؛ الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 219

وهذه المشاركة لا تقتصر على أولياء الراعي ومريديه، وإنما وجه الإمام عليّ علیه السلام إلى أن يؤثر الراعي من رعیته ورجالاته «أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ»(1)، لأنه لو اقتصر في استشارته على أهل ولايته لم يكن وإياهم إلاّ كالناظر في المرآة لا يرى سوى صورته ولا يسمع غير صوته(2).

ب. مخالطة الراعي للرعية - (التواصل وعدم الاحتجاب - تعایش وحوار).

تتطلب القيادة والإدارة للمجتمع عدم احتجاب الراعي عن رعيته، وهو يعني بناء نظام للعلاقات العامة والعلاقات الإنسانية، لكونها تبلور الرأي العام، وبمعنى آخر كما هو الحاصل اليوم في الإدارة المعاصرة ضمن ما يسمى ب(الباب المفتوح) للشخص القيادي مع العاملين أو الرعية(3)وعدم احتجاب الراعي هو حق من حقوق الرعية على راعيها، على اعتبار أنه يحقق الجانب العياني للتقييم والتقويم، ومراعاة متطلبات الوضع وتصوير الأمور ميدانياً الجانبي الاتصال، وبناء العلاقات الرسمية وغير الرسمية، لئلا تنقل المعلومات والصور بشكل غير متكامل وغير دقيق، ومشوهة ومشوشة، أو على الأقل ليست على شكل الهيئة العامة لها، وهو مما يؤثر على أخذ المواقف والقرارات المناسبة لها(4).

فمن مظاهر الغلظة والجفاء أن يحتجب الراعي عن رعيته بالأسوار والجُدر

ص: 78


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 501
2- الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 217
3- المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 256
4- المرجع نفسه، ص 257

والحرس والبطانة، وهو مِن أدخل الحلال في هدم السلطان، وأسرعها خراباً للدول، فإذا احتجب السلطان فكأنه قد مات؛ لأن الحجب تمنعه من معرفة أحوال شعبه، وما يدور في مملكته ولا يصله من ذلك شيء إلاّ عن طريق بطانته التي تعبث بأرواح الخلائق وحريمهم وأموالهم، لأن الظالم قد أمن أن لا يصل المظلوم إلى السلطان(1).

فأبدى الإمام علي احترازاً نظرياً وسلوكياً ضرورية لمجابهة هذه الظاهرة بأن رأى أن العلاقة الحيّة والصحيحة مع الناس وجهاً لوجه هي الضمانة الكبرى لجريان الحق في مجارية الواضحة، فكان يرفض (السفراء) و(الحجاب) و (الوسطاء) بين الوالي وشعبه، لتربية الولاة على نسق العلاقة المباشرة، كيها تُصبح نهجاً إسلامياً ثابتاً، تُصنع من خلاله قرارات الحق والعدل(2).

فقال للأشتر في عهده:

«فَلا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاةِ عَنِ الرَّعِیَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ وقِلَّةُ عِلْمٍ بِالأمُورِ والاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ ويَعْظُمُ الصَّغِیرُ ويَقْبُحُ الْحَسَنُ ويَحْسُنُ الْقَبِيحُ ويُشَابُ الْحَقُّ بِالبَاطِلِ وإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لا يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الأمُورِ ولَيْسَتْ عَلَى الحَقَّ سِمَاتٌ [علامة] تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ وإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ فَفِيمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيهِ أَوْ فِعْلٍ کَرِيمٍ تُسْدِيهِ أَوْ مُبْتَلًى بِالْمَنْعِ فَمَا أَسْرَعَ کَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا أَيِسُوا مِن بَذْلِكَ مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ

ص: 79


1- الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 217
2- السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 453

النَّاسِ إِلَيكَ مِمَّا لا مَئُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ مِنْ شَكَاۃِ مَظْلِمَةِ أَوْ طَلَبٍ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ»(1).

وإن عقد مجالس لذوي الشكاوي والتظلمات من صلب وظائف الراعي في فكر الإمام علي علیه السلام؛ لأنه الراعي مسؤول عن إسعاد الناس والرأفة بهم، ومن خلال مجالس (الرعاة والرعية) تكتسب الدولة مضمونها الشعبي، وصفتها الشعبية باستمرار، وفي سياق تلمس مشاكل الرعية وحاجاتها، والاطمئنان على حسن القيام بخدمتها، فإن من الأمور المهمة للراعي القيام بتفقد شؤون الرعية بنفسه، كلما دعت الحاجة لذلك، وعدم الاعتماد فقط على المقربين، فلا يتكل على بطانته بشكل مطلق؛ ذلك لأن البطانة إذا اطمأنت إلى اعتاد الوالي على أقوالها فإن المنافع والمصالح الفردية تتنازعها، فتميل عن الحق، وتشوّه الحقائق، وتزين كل خطوة تصب في مصالحها الخاصة، فضلاً عن أن حضور قوة الراعي وبطانته لمجالسه مع الرعية ذا أثر سلبي يفقد اللقاءات المباشرة الكثير من ضرورتها، والكبير من نفعها؛ لأنه يقلص من حرية الرعية في ممارسة دورها في تلك المجالس المشتركة، وقد لا يستطيع عدد من ذوي الحاجة من الجهر بحاجته إلاّ عبر الصلة المباشرة بالراعي ، ولذلك حث الإمام عليّ الولاة على التفرغ للناس بأشخاصهم(2) في كل زمان ومكان، فقال للأشتر:

«واجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ وتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَواضَعُ فِيهِ لِلهِ الَّذِي خَلَقَكَ وتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وأَعْوَانَكَ مِنْ

ص: 80


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 566 - 567
2- ينظر: شهاب، معالم الفكر التنموي، ص 332 - 333؛ السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 454 - 455

أَحْرَاسِكَ وشُرَطِكَ حَتَّى يُکَلِّمُكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِىِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ والْعِيَّ ونَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ والأنَفَ يَبْسُطِ اللهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ ويُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ وأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وامْنَعَ فِي إِجْمَالٍ وإِعْذَارٍ ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشِرَتِهَا مِنْهَا إِجَابَةِ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُكَ ومِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ يَوْمَ وُرُودِهَا عَلَیْكَ بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ»(1).

فمن شروط هذه المجالس التي ينبغي للراعي الالتزام بها(2):

1. أن يجلس لهم في مكان بلا مانع يصلون إليه ويأذن للعموم من ذوي الحاجات في الدخول عليه.

2. أن يتلقاهم بتواضع وحسن خلق مستبشراً برجوعهم إليه في حوائجهم.

3. أن يمنع جنده وأعوانه من التعرض لهم وينحّى الحرس والشرط الذي يرعب الناس منهم عن هذه الجلسة ليقدر ذو الحاجة من بيان مقاصدهم وشرح مآربهم ومظالمهم بلا رعب وخوف و حصر في الكلام.

4. أن يتحمل من السوقة والبدويين خشونة آدابهم وكلامهم العاري عن كل ملاحة وأدب.

ص: 81


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 564 - 565. . متعتع: التردد بسبب العجز والعي، والمراد: غير الخائف. . الخُرق: العنف. . الأنف: ضيق الصدر بسوء الخلق، والاستنكاف والاستكبار
2- الخوئي، منهاج البراعة، 20 / 345

5. أن لا يضيّق عليهم في مجلسه ولا يفرض عليهم آداباً تصعب مراعاتها ولا يلقاهم بالكبر وأبهة الولاية والرياسة. 6. إنه إن كانت حاجاتهم معقولة و مستجابة فأعطاهم ما طلبوا لم يقرن عطاءه بالمنِّ والأذى والخشونة والتأمّر حتى يكون هنيئاً، وإن لم يقدر على إجابة ما طلبوا يردهم رداً رفيقاً جميلاً ويعتذر عنهم في عدم إمكان اجابة طلبتهم.

والإمام علي علیه السلام بإصراره على ضرورة الصلة الحيّة بين الراعي والعامة من رعيته، يبرر ذلك بأن الأضرار التي تؤدي إلى فشل إدارة الدولة إنما يحصل من الخاصة وليس العامة، فالعامة هم المصدر الدائم للواردات الاجتماعية المتجددة التي تمد المجتمع بالعطاء البشري والانتاجي والثقافي، ويترتب على ذلك أن التعامل المبدئي مع عامة الأمة يُصبح حتماً تعاملاً تاريخياً بعيد المدى، لأنه ينطوي على عوامل الاستمرارية والثبات والقوة، فالعامة من الرعية هم عماد الدين، وجماع المسلمين، والعدة للأعداء - حسب تحليل الإمام علي علیه السلام - لذلك دعا الراعي إلى الميل معهم(1) عندما قال للأشتر:

«ولْيَکُنْ أَحَبَّ الأمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وأَجْمَعُهَا لِرِضَی الرَّعِیَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ وإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ ولَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ وأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاءِ وأَكْرَهَ لِإِنْصَافِ وأَسْأَلَ بِالإِلْحَافِ وأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإعْطَاءِ وأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعُ وأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ

ص: 82


1- حمود، السياسة الإدارية، ص 28؛ السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 451 - 452؛ وينظر: المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 255

الْخَاصَّةِ وإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ وجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ والْعُدَّةُ لِلأعْدَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الأمَّةِ فَلْیَکُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ ومَیْلُكَ مَعَهُمْ»(1).

وإن الإمام علي علیه السلام یُشير في النص إلى قضيتين مترابطتين(2):

الأولى: أن الحق وبالرغم من كونه جوهراً واحداً ومطلقاً من حيث القيمة، إلاّ أن له أكثر من مستوى، والمستوى الذي يجب التركيز عليه في مجال الحكم السياسي هو المستوى المتوسط لأنه أعم في العدل، وأجمع لرضا الرعية.

الثانية: ضرورة الاهتمام بالقيمة الواقعية للانتشار الاجتماعي الذي تُشكل العامة الجزء الأكبر منه، وهذا منظور معقول من زاوية ما تقضي به العدالة من ناحية، ومما تتطلبه مصلحة الدولة من ناحية أخرى، وبالذات إذا كانت الأكثرية ساحقة، والأقلية فئة صغيرة وتحديداً في المواضع التي تتقاطع فيها مصلحة الفئتين، بيد أن الإمام علي لا يعد رضا الأكثرية مقياساً في بناء السياسة من غير أن يكون منظوراً فيه مدى ملائمته لما يقضي به شرطا الحق والعدل، إذ قال : ((رضا الناس غاية لا تدرك، فتحرَّ الخير بجهدك، ولا تبال بسخط من يُرضيه الباطل))(3).

ج. المشاركة الوجدانية للرعية والإدارة الأبوية:

من ضرورات الحكم الصالح المشاركة الوجدانية بين الراعي والرعية، إذ بها يستطيع الحاكم أن يتعرف على آمال المحكومين وآلامهم ومطامحهم، وأن يعي حاجاتهم ومخاوفهم، فيعمل لخيرهم ويضع كل شيء مما يصلحهم موضعه،

ص: 83


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 549
2- مزهر، اطروحة الحكم عند الإمام علي، ص 113
3- ابن أبي الحديد، شرح النهج، 20 / 251

ويشعرهم ذلك برعايته لهم، و حياطته لأمورهم، وعمله لصالحهم، فيدعمون حكمه بحبهم وإيثارهم له، ويؤازرونه في السراء والضراء على السواء، ولا يحصل شيء من هذا إذا ما اغلق الحاکم دونهم قلبه، وأغمض عنهم عينه(1)، قال علیه السلام لمالك الأشتر:

«وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِیَّةِ والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ ولا تَکُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ...»(2).

فالرحمة مفتاح وموجه النفس لأداء الواجبات بكل ما تتطلبه وتتكامل به، و بالرحمة أداء الحقوق المتبادلة بين العقلاء، وأداء حقوق حتى البيئة والجماد، وحينما تكون المسؤولية في عنق الشخص على مستوى السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، يتوجب الشعور بالمسؤولية تجاه الرعية والأداء بالرحمة والمحبة واللطف، وهنا تتحقق الإدارة الأبوية، ورعاية أداء الإدارة بقائدها الإنساني بما تحويه من بنود حقوق الإنسان(3).

فأول لازمة من لوازم الحكم والقيادة هو تألیف قلوب الناس والتقرب إليهم، وما تكبر حاکم على رعيته إلاّ وكان ذلك إيذاناً بذهاب ملکه(4) ((فالملك مع الكبر لا يدوم، وحسبك به من رذيلة تسلب السيادة، وأعظم من ذلك أن الله تعالى حرم الجنة على المتكبرين، فقال سبحانه وتعالى:

«تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا

ص: 84


1- شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 274
2- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 547
3- المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 201
4- الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 214

وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»(1).

فقرن الكبر بالفساد... واعلم أن الكبر يوجب المقت، ومن مقته رجاله لم يستقم حاله، ومن أبغضته بطانته كان كمن غص بالماء، ومَنْ كرهته الحياة تطاولت إليه الأعداء))(2). ولذلك كانت وصية الإمام علي علیه السلام للأشتر أن يقترب من رعیته باللين والمحبة وأن لا يتباعد عنهم بالجفاء والغلظة.

مخطط رقم (3) يبين الاعتبارات القيمية التي تحكم سلوك الراعي وتقوده إلى العدل أو الظلم الكبر الاستبداد الاحتجاب التفاف السفلة والسوقة حوله الظلم الرحمة الشورى المخالطة والتفقد للرعية التفاف الأشراف وذوي المروءات وأهل البيوتات الصالحة والناس عامة العدل

ص: 85


1- سورة القصص، الآية 83؛ وينظر: سورة آل عمران، الآية 159؛ سورة الشعراء، الآية 215
2- الطرطوشي، أبو بكر محمد بن محمد بن الوليد الفهري (ت 520 ه / 1126 م)، سراج الملوك، طبعة حجرية، الإسكندرية، 1289 ه / 1872 م، ص 56؛ الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 214

د. المكاشفة:

وتهدف المكاشفة إلى رفع اللبس والظنون التي قد تكون وسيلة لنشر الدعايات المغرضة ضد الحاكم، فتضعف الثقة بينه وبين الشعب، وتفسد العلاقة بينهما، والمكاشفة ركن أساسي وصفة ضرورية من صفات الحكم الرشید أو الصالح عند الإمام علي علیه السلام(1).

يقول الإمام مالك الأشتر:

«وإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِیَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ واعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ ورِفْقاً بِرَعِیَّتِكَ وإِعْذَاراً تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ»(2).

وسياسة مصارحة الشعب بشؤون الحكم، ضرورة لتصحيح الأوضاع الخاطئة، والحاكم العادل لا يخشى أن يرجع إلى الصواب في حال الخطأ، ولا یخشی مکاشفة الناس بأمور الدولة لأنه لا ينوي سرقتهم، فهّمه الرئيس خدمتهم والقيام بأمور الولاية بالعدل والإنصاف(3).

. إرساء دعائم التعامل القيمي للراعي مع الرعية:

دعا الإمام علي علیه السلام كل راعٍ إلى أن يلتزم في برامج حكمه، صفات تعاملية قيمية، وهي بمجموعها ((تؤكد بشكل كبير أهمية القيم وإرساء دعائمها بالشكل الذي يحقق لولي الأمر دوره الرائد في قيادة المجتمع وإدارته بالصورة

ص: 86


1- شهاب، معالم الفكر التنموي، ص 234
2- نهج البلاغة، ص 568
3- شهاب، معالم الفكر التنموي، ص 235؛ مغنية، الشيخ محمد جواد، في ظلال نهج البلاغة، ط 3، دار العلم للملايين، بیروت، 1400 ه / 1979 م، 4 / 111

المثلى التي من شأنها أن تُتيح لكل الرعية الدور المناط بها في تحقيق أهداف المجتمع))(1).

وفيما يأتي استعراض لأبرز ما ورد منها في عهد الإمام علي عليه السلام للأشتر: أولاً: تحذير الراعي من سفك الدماء بغير حِلّها:

لقد اعتبر العهد الشريف (عهد الإمام علي علیه السلام للاشتر) الإنسان قيمة حضارية كبرى لا تعادلها قيمة، فلا يجوز المساس بدمه وعرضه وأمواله، وأن سفك دم المسلم أو غيره دون وجه حق، يُعد من أكبر الجرائم التي بيهتز لها العرش، ويحاسب عليها الشرع والقانون بالقصاص وعدم الرأفة(2).

فجاء التوجيه العلوي للأشتر مبیناً عواقب أي انتهاك لحق الحياة المقدس فقال:

«إِيَّاكَ والدِّمَاءَ وسَفْکَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ ولا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ ولا أَحْرَی بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وانْقِطَاعِ مُدَّةٍ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا واللهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلا تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ ويُوهِنُهُ بَلْ يُزِيلُهُ ويَنْقُلُهُ ولا عُذْرَ لَكَ عِنْدَ الله ولا عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ لأَنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ وإِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَأٍ وأَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَوْ سَيْفُكَ أَوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً فَلا تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ»(3).

ص: 87


1- حمود، السياسة الإدارية، ص 29
2- الشامي، البرنامج الأمثل، ص 147
3- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 570

وتضمن هذا التحذير القيمي:

1. الاهتمام بالبعد التشريعي الإنساني، والتذكير بأن الحساب الأخروي والحكم الإلهي يطال من يعتدي بسفك الدم الحرام.

2. تأثير سفك الدماء على واقع الدولة ومستقبلها عكس ما يرجوه القاتل، فكلما ارتفع مستوى اعداد الناس الذين تُسفك دمائهم بلا مسوّغ وبلا حق ويغيّر حِلّها، سيكون هناك تهدیدات ومخاطر على مستقبل الدولة والحكم والحكام والحضارة، ... فعندما يكون طغيان مؤثرات الظلم قد ينجح بناء الدولة والحكم - ظاهرياً -، لكن مستقبله كالنار تحت الرماد سرعان ما يُلهب ويُحطم كل شيء بلهيبه عندما تُسفك وتهدر الدماء بغير حِلّها(1).

3. تحمل الراعي للتبعات القضائية لأن القتل العدواني (قتل العمد) لا عذر فيه لراعي الدولة، فإذا أقدم على ارتكاب هذه الجريمة، فلابد أن يناله القصاص العادل، وأن يعاقب عليها بالقتل، دون نظر إلى اختلاف رتبته الاجتماعية، أما (قتل الخطأ) فإذا حدث من الراعي أو بأمره فلابد من أن يتحمل تبعاته بدفع الدية إلى أولياء المقتول، ولا تكون السلطة ذريعة للتملص من أداء حقهم إليهم(2).

ثانياً: تعزيز الثقة بين الراعي والرعية عبر قاعدتين ذهبيتين تفضيات إلى تحقيق الانسجام، واستتباب الأمن والاستقرار و هما:

أ. مكافحة الأحقاد، فقال للأشتر:

ص: 88


1- المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 259
2- شمس الدین، عهد الاشتر، ص 185

«أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ واقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ وتَغَابَ عَنْ كُلِّ مَا لا يَضِحُ لَكَ ولا تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِینَ»(1).

ب. الاحسان إلى الرعية، فقال:

«واعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وتَخْفِيفِهِ الْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ وتَرْكِ اسْتِکْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلاً وإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلاؤُكَ عِنْدَهُ وإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءْ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلاؤُكَ عِنْدَهُ»(2).

وحذّر الإمام علي علیه السلام الراعي من المنّ باحسانه، وإظهار الزيادة في الأعمال بشكل يفوق ما هي عليه في الواقع افتخاراً على الناس بفعله لأن المن يبطل الاحسان، وحثه على الوفاء بوعوده للرعية(3).

إذ أن خلف الراعي لوعده يعني إكبار نفسه وتحقير الرعايا إذ إنه لم يعتنِ بانتظارهم ولم يحترم تعهدهم وخلاف الوعد وإن كان قبيحاً و مذموماً على وجه العموم، ولكنه من الأمراء والولاة، بالنسبة إلى الرعية أقبح وأشنع؛ لاشتماله على العجب والكبر و تحقیر طرف التعهد(4).

ثالثاً: صفح الراعي وعفوه عن خطايا الرعية، وملازمة الحلم والاجتناب

ص: 89


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 550
2- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 551 - 552
3- المصدر نفسه، ص 571
4- الخوئي، منهاج البراعة، 20 / 362

عن بادرة الغضب تجاه الرعية عندما.

«یَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ ويُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ والْخَطَأِ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وصَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ ووَالِي الأمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ واللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاكَ وقَدِ اسْتَکْفَاكَ أَمْرَهُمْ وابْتَلاكَ بِهِمْ»(1).

فالإمام عليّ علیه السلام يذكر الراعي بوجود قوة أعلى من قدرة وقوة المخلوق، وهي قدرة الله عزّ وجل التي لا حدود لها، ليكون هذا التذكير صعقة رادعة له، فيخاطبه بما هو نفسي بالتوازي مع مقارنة ما ترضاه ولا ترضاه النفس لذاتها، وما يتوجب عمله بالمقابل تجاه الآخرين، فمن الانصاف تذكر ذلك والعمل على وفقه، وهو أمر لابد منه لبناء الدواخل التربوية - النفسية بالبعد الإنساني(2).

ويرى الإمام علي علیه السلام أن العفو هو التطبيق الأسمى لسياسة الرفق ولكن حين يكون أجدى في التأثير من العقوبة، إذ قال:

«ولا تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ ولا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةِ ولا تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً ولا تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ ومَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ وتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ»(3).

وبهذا يكون قد أكد على ضرورة أن يكون الحكم لصالح الناس وليس عبئاً عليهم، وأن يدير الحاكم السلطة من منطلق الشعور بالمسؤولية التي تفترض عدم إصدار القرار الذي تحكمه حالتا الغضب والتسرع، والابتعاد عن الاستكبار

ص: 90


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 547
2- المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 202
3- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 547

على المجتمع أو إمتهانه اغتراراً بامكانات السلطة إذ السياسة بهذا تقود حتماً إلى انعكاسات وخيمة لا يسلم منها المجتمع ولا الحاكم ذاته(1)، فعندما يحكم الراعي بقلبه الكبير وليس بسوطه الطويل يُصبح حاكماً على القلوب قبل أن يكون حاكماً على الابدان، ويتكون على شاطئ هذه العلاقة، مستوى عالٍ من الديناميكية بين الراعي والرعية(2).

رابعاً: حسن سيرة الراعي مع رعيته بأن يستر على عيوب الناس، ولا يفتش عنها، والوسيلةُ إلى ذلك إبعاد أهل النميمة، وطلاب العيوب فقال للاشتر:

«ولْيَکُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا فَلا تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ واللهُ یَحْکُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ یَسْتُرِ اللهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ کُلِّ حِقْدٍ واقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ وتَغَابَ عَنْ كُلِّ مَا لا يَضِحُ لَكَ ولا تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ»(3).

فالتفتيش عن عيوب الناس يوجب خوفهم ونفورهم، وعلى الراعي التجاهل عن أمور لا يصح له الدخول فيها من أحوال الناس الخصوصية مما لا يصح ويظهر له(4).

ص: 91


1- مزهر، اطروحة الحكم عند الإمام علي، ص 102؛ قرباني، زين العابدین، میثاق إدارة الدولة في عهد أمير المؤمنين $ و لمالك الأشتر، تعريب: قاسم البيضاني، تحقيق: محمد صالح الحلفي وأحمد عبد الحسين، ط قم، 1434 ه / 2012 م، ص 151 - 152
2- القزويني، الإمام علي، ص 235
3- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 549 - 550
4- الخوئي، منهاج البراعة، 20 / 303

خامساً: إشباع حاجات الرعية المعنوية والاعتبارية لكسب حسن ظنهم بسياسة الراعي، والولاء للمجتمع، فجاء في وصيته علیه السلام للاشتر:

«فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ ووَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وتَعْدِیدِ مَا أَبْلَى ذَوُو الْبَلاءِ مِنْهُمْ فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ وتُحَرِّضُ النَّاکِلَ إِنْ شَاءَ اللهُ»(1).

سادساً: النهي عن خُلق الاستئثار، و تخصیص نفسه بالزيادة من دون الناس فقال:

«وإِيَّاكَ والاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ والتَّغَابِيِ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ وعَمَّا قَلِيلٍ تَنْکَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الأمُورِ ویُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ»(2).

وقد يأتي هذا الاستئثار والتطاول على حقوق الناس من الحاشية المحيطة بالراعي فأوصى الإمام علي عليه السلام بقطع أسباب تعديهم، بالأخذ على أيديهم ومنعهم من التصرف في شؤون العامة وأملاكهم فقال:

«ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وبِطَانَةً فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وتَطَاوُلٌ وقِللَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الأحْوَالِ ولا تُقْطِعَنَّ لأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وحَامَّتِكَ قَطِيعَةً ولا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ فِي شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ يَحْمِلُونَ مَئُونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ فَيَکُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ وعَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ»(3).

ص: 92


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 555 - 556
2- المصدر نفسه، ص 571
3- المصدر نفسه، ص 567

سابعاً: النهي عن الاستكبار والبطش: وقد بيّنا - فيها تقدم - أن الإمام علي علیه السلام قد خصّ الراعي بمزيد نصح يكفه عن عُقد الزهو بالسلطة والإعجاب بالنفس(1)، والثقة بالإطراء الكاذب، والتعالي على الرعية، وحذره من الغضب، وجعل مفتاح التوقي من فُرص الشيطان هذه: تدريب النفس على الإكثار من ذكر الله، والتفكّر في عواقب فعله عندما تعرض إلى الحكم العادل، فقال:

«امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ وسَوْرَةَ حَدِّكَ وسَطْوَةَ يَدِكَ وغَرْبَ لِسَانِكَ واحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِكَفِّ الْبَادِرَةِ وتَأْخِيرِ السَّطْوَةِ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الاخْتِيَارَ ولَنْ تَحْكُمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى تُکْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ الْمَعَادِ إِلَى رَبِّكَ»(2).

فضلاً عن أن الإمام علي علیه السلام وضع نصب عين الراعي بعض المحددات القيمية التي ينبغي أن تحكم شخصيته ومن ثمَّ تعاملاته ومنها:

- الصبر في إدارة الدولة على ما خفَّ من أمورها وما ثقل، فقال في عهده للاشتر:

«ولَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللهُ مِنْ ذَلِكَ إِلا بِالاهْتِمَامِ والاسْتِعَانَةِ بِالله وتَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ والصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيمَا خَفَّ عَلَيْهِ

ص: 93


1- ينظر : الملحق رقم (1)
2- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 572. . سورة حدِّك: حِدة البأس. . غَرب لسانك: حد اللسان، تشبيهاً له بحد السيف. . البادرة: ما يبدو من اللسان عن الغضب من سباب ونحوه

أَوْ ثَقُلَ»(1)، ف«الْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ»(2).

وإلزامهِ الحق لكل الناس من القريب والبعيد يحتاج من الراعي أن يكون «صَابِراً مُحْتَسِباً»(3)، ثم حذره من:

«الْعَجَلَةَ بِالأمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا أَوِ التَّسَقُّطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا أَوِ اللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَکَّرَتْ أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوضِعَهُ وأَوْقِعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْقِعَهُ»(4).

فالصبر لا يعني التواني عن إمضاء الأمور إذا حان وقتها، وتيسرت مخارجها، والاهتمام بالانجاز لا يكون مع اللجاجة إذا صعبت وتنكرت، ففي كل الأحوال يكون مقياس النجاح بوضع الأمور في نصابها.

- تنظيم الراعي لوقته، ومباشرة أعماله:

والتنبيه إلى القيمة القصوى التي يمثلها عامل الزمن في مجال الحكم والإدارة إذ يقول الإمام علي علیه السلام:

«وأَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيهِ»(5).

ويشتمل هذا أكثر من دلالة أهمها(6):

1. ضرورة إنجاز الأعمال في وقتها المحدد وعدم اهمالها أو تأجيلها إلى الحد

ص: 94


1- نهج البلاغة، ص554
2- المصدر نفسه، ص 564
3- المصدر نفسه، ص 567
4- المصدر نفسه، ص 571
5- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 565
6- مزهر، اطروحة الحكم عند الإمام علي، ص 105

الذي يؤدي إلى تراكمها، إذ من المؤكد أنها لو تراكمت فسوف لن يكفي الزمن للقيام بها جميعاً وفي وقت واحد، فضلاً عما لذلك من تأثير سلبي على مضاعفة الاعمال والرفع من جودتها.

2. إن التنظيم الجيد يتطلب أن تكون هناك محددات زمنية لانجاز الأعمال بحيث تتناسب كمية العمل مع كمية الزمن المستغرق.

3. ضرورة الجاهزية لانجاز الأعمال المستقبلية، فكما أن لكل يوم سابق ضروراته، فإن لكل يوم لاحق استحقاقاته، ولا شك أن التنظيم حين يكون بهذه الدقة الزمنية، فإنه سيفسح المجال واسعاً أمام (الراعي) المسؤول لمتابعة ما بعهدته من أعمال واعادة النظر في ما يحتاج إلى إعادة النظر حسب مقدار الأهمية والأولوية ووجوه المصلحة.

وقد وجّه الإمام عليّ الراعي إلى أن يباشر بنفسه الأعمال التي تختص بالأمور العامة والهامة التي ترد من أقاليم (الولايات)، وتقتضي إجراءات سريعة بشأنها، وبعيداً عن صيغ المكاتبات التي من شأنها أن تطيل من مجرى المعاملات و تعيق سبيل الانجاز، واتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب(1)، فقال:

«ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشِرَتِهَا مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا یَعْیَا عَنْهُ كُتَّابُكَ ومِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ يَوْمَ وُرُودُهَا عَلَيْكَ بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ»(2).

ص: 95


1- التميمي، الإمام علي، ص 116
2- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 565

ص: 96

المحور الرابع: تنظيم علاقة الراعي مع أعوانه

وعماله المشتركين معه في إدارة الدولة واعتمد الإمام علي علیه السلام في ذلك على عددٍ من الخطوات:

أ. الاختيار الدقيق لكبار موظفي الدولة بالذات:

فقد أولى الإمام عليّ علیه السلام مسألة اختيار الأشخاص الذين تناط بهم المراكز القيادية في الحكم اهتماماً بالغاً، فرأى ضرورة أن يجري انتقائهم على أساس مواصفات دقيقة يرتبط بعضها بالجانب الأخلاقي كالتقوى والورع والأمانة، ويختص بعضها الآخر بالجانب العملي کالجدارة والكفاءة(1)، ونهى أن يكون الاختيار على وفق المقياس الشخصي الذي يتحكم فيه الحدس والظن(2)، وإنما على وفق الاختبار بالتجربة، فقال:

«ثُمَّ لا يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ واسْتِنَامَتِكَ وحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ

ص: 97


1- ينظر: الملحق رقم (1) (عهد الأشتر)، شروط اختيار قادة الجند، والقضاة، وعمال الخراج، والوزراء والمستشارين، والكُتّاب وغيرهم
2- مزهر، اطروحة الحكم عند الإمام علي، ص 107

فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلاةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ ولَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ والأمَانَةِ شَيْءٌ ولَكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ فَاعْمِدْ لأَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً وأَعْرَفِهِمْ بِالأمَانَةِ وَجْهاً فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَصِیحَتِكَ للهِ ولِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ»(1).

ب. تقسيم العمل:

طالما كان للحكم وظائفه التي يرتبط بعضها بالاقتصاد و بعضها بالأمن وبعضها بالجانبين الإداري والتنفيذي بشكل عام، فقد رأى الإمام علي عليه السلام ضرورة أن يكون لكل جانب من هذه الجوانب إدارته المختصة التي تكون مسؤولةً عنه، وأكد في هذا السياق على ضرورة أن تتولى كل إدارة نطاق مسؤوليتها بشكل كامل دون أن تسمح باختراقه أو التطفل عليه من قبل أصحاب الاختصاصات الوظيفية الأخرى(2)، وقد توقف أكثر من باحث عند قوله علیه السلام:

«واجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ لا يَقْهَرُهُ کَبِیرُهَا ولا يَتَشَتَّتُ عَلَیْهِ کَثِیرُهَا»(3).

فوصفه بعضهم بالثورة في الإدارة الحكومية بالقياس إلى العصر الذي صدر فيه؛ إذ كانت الإدارة آنذاك تقتصر على شخص الحاكم، يعاونه شخص أو جملة من الأشخاص دون مراعاة لتقسيم المهمات المتنوعة، وتصدر القرارات النهائية

ص: 98


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 561
2- مزهر، أطروحة الحكم عند الإمام علي، ص 106
3- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 561

من الحاكم وحده(1)، ورأى آخرين أنه يشير إلى ضرورة تقسيم العمل من الناحية الإدارية والتنظيمية(2).

ج. تطبيق سياسة المتابعة والمراقبة:

التي هي محاولة لمنع حدوث الاخطاء أو علاجها بشكل مباشر في حال حدوثها لتجنب أكبر قدر من آثارها السلبية وقد استهدفت سياسة الإمام علي الرقابية مختلف السلطات والدوائر الرسمية، فشملت موظفي الدولة كالولاة والعمال على الخراج والقضاة والجنود، ومختلف أصحاب المناصب العليا، وذلك انسجاماً مع رؤيته للحكم، والتي تجعل من الراعي أميناً وحارساً يعمل من أجل مَنْ نصبه حاكماً - أي الرعية - وليس مالكاً للحكم، فهو إذاً يتجسس ويراقب لحساب الأمة ولضمان صون مصالحها، وليس عليها(3) فقال في عهده للأشتر موجهاً إياه لمراقبة الجند:

«... ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ ما يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا،... ولا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفَ أُمُورِهِمُ اتِّكَالاً عَلَى جَسِیمِهَا»(4).

وقال له لتتبع واستكشاف حال القضاة: «... ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ...»(5).

وأكد على تعيين الرقباء على العمال بعامة فقال:

ص: 99


1- شمس الدين، عهد الاشتر، ص 141
2- حمود، السياسة الإدارية، ص 70 - 71؛ مزهر، اطروحة الحكم عند الإمام علي، ص 106
3- ينظر: شهاب، معالم الفكر التنموي، ص 260 - 265
4- نهج البلاغة، ص 554 - 555
5- المصدر نفسه، ص 557

«... ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ وابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ والْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لِأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الأمَانَةِ والرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ»(1).

وتوخي في الرقباء أن يكونوا من أهل الصدق والصلاح لا من فاسدي الذمم.

وقد حث الإمام عليّ علیه السلام الراعي لإنشاء شبكة من المراقبين والمدققين لمتابعة أعمال الموظفين كباراً وصغاراً؛ للاطمئنان على صحة ما يرده من أخبار حتى ينزل العقوبة بالجاني بلا تردد(2)، فقال للأشتر:

«وتَحَفَّظْ مِنَ الأعْوَانِ فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَةٍ اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ...»(3).

د. تفعيل مبدأ الثواب والعقاب:

وهو نتيجة حتمية من نتائج المراقبة، وتفعيلاً حقيقياً لدورها الايجابي، فقد كان الإمام عليّ يحث الراعي على إتباع أسلوب الثواب لمن أحسن وأجاد عمله، وهو بهذا الأسلوب يحفز الموظفين لأن يستمروا على ما هم عليه من الاستقامة والأمانة، ويزدادوا في البذل في عملهم(4)، إذ يقول:

«ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَى»(5).

فلا يكون المحسن والمسيء بمنزلة سواء فيزهد أهل الاحسان بالاحسان،

ص: 100


1- المصدر نفسه، ص 558
2- الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 243؛ شهاب، معالم الفكر التنموي، ص 265
3- نهج البلاغة، ص 558
4- ينظر : شهاب، معالم الفكر التنموي، ص 266 - 267؛ الفكيكي، الراعي والرعية، ص 113
5- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 556

ويتمادى أهل الاساءة بالإساءة(1)، ومن أساليب التحفيز التي يعم خيرها المحسن وغيره: مواصلة الثناء على من يُحسن البلاء فإن:

«كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ وتُحَرِّضُ النَّاكِلَ»(2).

وقد وجه الإمام علي علیه السلام الراعي إلى محاسبة ومعاقبة الأعوان والموظفين عما يرتكبونه من جرائم أو خيانة في أعمالهم بعد ثبوت التهمة، وأن تكون العقوبة مادية ومعنوية، فقال للاشتر:

«... فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَةٍ... فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ وأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ ووَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ وقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ»(3).

ه. اعتماد أساليب تضمن أو تساعد الموظف على الاستقامة والصلاح.

كبذل العطاء الواسع لهم مثلاً، والتوسعة في رواتب ومعاشات كبار الموظفين مثل (قادة الجند والقضاة وعمال الخراج)(4)؛ ليتعففوا به عن المرافق والرشوات وضمان الاستقامة فيهم، لأنه يصعب ضمان الاستمرار على ذلك مع وجود المال تحت أيديهم وهم يعيشون الضنك والحاجة(5)، بل أن التوسعة في البذل ينبغي أن تشمل الموظفين كافة كما أشار إلى ذلك الإمام علي علیه السلام في عهده للأشتر قائلاً:

ص: 101


1- المصدر نفسه، ص 551
2- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 555 - 556
3- نهج البلاغة، ص 558 - 559
4- ينظر : الملحق رقم (1) (عهد الأشتر)، أمر الإمام علي الراعي بالتوسعة على قادة الجند، والقضاة، وعمال الخراج
5- شهاب، معالم الفكر التنموي، ص 254

«ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الأرْزَاقَ فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلاحِ أَنْفُسِهِمْ وغِنًی لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وحُجَّةٌ عَلَیْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ»(1).

ص: 102


1- نهج البلاغة، ص 558

المحور الخامس: تنظيم علاقة الراعي مع العدو

إن العلاقة السياسية - في فكر الإمام عليّ علیه السلام - التي ينبغي أن تتبناها الدولة الإسلامية هي علاقة منتظمة قائمة على مبادئ، وتتحكم بها ضوابط وقواعد، ولا يمكن للحاكم الانفلات منها متى شاء نتيجة رغبة قصيرة العمر أو مصلحةٍ مؤقتة(1).

ولذلك وجّه الإمام علي علیه السلام الأشتر إلى الالتزام بالعقود والعهود التي يبرمها مع العدو، والتي يجب أن تكون مرعية على كل حال، بلا غدرٍ أو إفساد أو خيانة، فقال:

«وإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وبَيْنَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ وارْعَ ذِمَّتَكَ بِالأمَانَةِ واجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَیْتَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ الله شَيْءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وقَدْ لَزِمَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِینَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ فَلا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ ولا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ ولا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ فَإِنَّهُ لا يَجْتَرِئُ عَلَى الله إِلا جَاهِلٌ شَقِيٌّ وقَدْ جَعَلَ

ص: 103


1- القزويني، الإمام علي، ص 246

اللهُ عَهْدَهُ وذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ وحَرِيماً یَسْكُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ ويَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ فَلا إِدْغَالَ ولا مُدَالَسَةَ ولا خِدَاعَ فِيهِ ولا تَعْقِدْ عَقْداً تُجَوِّزُ فِيهِ الْعِلَلَ ولا تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ قَوْلٍ بَعْدَ التَّأْكِيدِ والتَّوْثِقَةِ ولا يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ الله إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وفَضْلَ عَاقِبَتِهِ خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ وأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ الله فِيهِ طِلْبَةٌ لا تَسْتَقْبِلُ فِيهَا دُنْيَاكَ ولا آخِرَتَكَ»(1).

إن إدارة العهود والمواثيق التي أشار إليها الإمام علي علیه السلام يعبر بوضوح على أن الفكر الإداري الإسلامي يضع على الصعيد الإسلامي قيماً ودلالات تتسم بروح الصدق وعدم خيانة الموقف ابتغاء لرضا الله سبحانه وتعالى، وهذه الحقائق قد تغرب عن بال العديد ممن يرون أن السياسة تتسم بالتضليل والمخادعة وعدم رعاية الذمم، بل أن العكس هو الصحيح إذ أن الفكر السياسي السديد ما اتسم بعمق الوفاء بالعهود والذمم والمواثيق وعدم انتهاج سبل الخيانة والتدليس والمخادعة، مهما كانت النتائج، فالقرارات المبنية على المبادئ الحميدة والأسس النبيلة ترتقي باستراتيجياتها وتحقيق أهدافها المرسومة، فالأسس لا تتقاطع مع البناء الفعلي الاستراتيجي، وهكذا هو الإسلام الرافض لكل انحراف في مفاصل الحياة، بما فيه الإنسان، فما كان مبني على الصحيح نتائجه محمودة، وما كان مبني على الخطأ نتائجه العاجلة أو الآجلة مدمرة للذات والمحيط الخارجي(2).

ص: 104


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 568 - 570
2- حمود، السياسة الإدارية، ص 91 - 92؛ المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 210 ص210

وفي مجال السياسة العسكرية يأمر الإمام علي علیه السلام الراعي بأن لا يرفض أية دعوة إلى الصلح تُوجه إليه إذا كان فيها مصلحة، ورضا لله تعالى، أي أنها تحقق السلام القائم على العدل فقال للأشتر:

«ولا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ ولِلهِ فِيهِ رِضًا فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ ورَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وأَمْناً لِبِلادِكَ ولَكِنِ الْحَذَرَ کُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عُدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِیَتَغَفَّلَ بِالْحَزْمِ واتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ»(1).

فالإمام عليّ يشير إلى أن الحرب ضرورة وليست خياراً، وأن البديل لها هو أولى منها، وهو السلم، وأن الحرب لا تكون استجابةً لشهوة الحاكم، وإنما تكون لأجل المجتمع والدفاع عن مصالحه، وليس لها أهداف عدوانية، ومن هنا تبدو أولوية السلم في نظر الإمام علي علیه السلام، فضلاً عن أن الحرب تقوم على أخلاق الحرب، التي هي الوفاء و ایثار السلم وحقن الدماء كلما أمكن، لأن الإسلام هو دين السلام الذي يؤثر التعايش السلمي على الحرب والقتال والعداء بكل وسيلة ممكنة، فعلى الراعي الصالح في دولة الإسلام ألا يترك وسيلةً تقرب من السلام إلاّ ويستعملها لينهي حالة الحرب والقتال، وفي الوقت نفسه يستعمل الحذر، فلا يستنيم إلى عقود السلام والصلح، فيهمل الاستعداد، لأن الدعوة إلى السلام قد تكون خديعةً من عدوه يراد منها الغدر، فينبغي ألا يترك له فرصة يستفيد منها من غدره إذا كانت دعوته إلى الصلح والسلام ناشئة عن نيةٍ سيئة(2).

ص: 105


1- نهج البلاغة، ص 568
2- شمس الدين، عهد الاشتر، ص 177 - 178

ص: 106

الخاتمة:

انتهى البحث في مضامين العهد الشريف (عهد الإمام علي علیه السلام للاشتر النخعي) إلى جملة من النتائج منها:

1. إن المنظومة القيمية العلوية بامتدادها الزماني والمكاني، منظومة حيّة ومتكاملة، تستمد أساسها من القرآن الكريم وسُنة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وهي منظومة واقعية قابلة للتطبيق على مرّ العصور والأجيال؛ فهي بذلك (منتج عقدي حضاري) - إن صحّ التعبير -.

2. تحتل قيمة التقوى موقع الصدارة في تسلسل القيم التي تؤلف في مجموعها رؤية الإمام علي علیه السلام للكون والحياة، وقد مثّلت أسمى تجلٍ للعلاقة بين العبد وربّه، أو الانعكاس الأساسي لما يقتضيه التوحيد في رأيه، فهي حجر الزاوية في تصوره الفكري والمعرفي والسياسي على صعيد ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.

3. إن عهد الأشتر هو أطول وثيقة كتبها الإمام عليّ لأحد ولاته، وتضمنت تفصيلاً وشمولاً لقواعد الحكم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والقيمية التي ينبغي أن يلتزمها الراعي في إدارة شؤون رعيته، لتطبيق الصيغة الإسلامية الصحيحة للحياة الإنسانية على

ص: 107

المجتمع في سبيل بناء الإنسان الكامل، وكانت هذه القواعد بمثابة الخطط المدروسة المنتزعة من واقع المجتمع الإسلامي، ومُعدة لتبلغ به المطامح التي كانت يصبو إليها.

4. كان إعداد الإمام عليّ علیه السلام للراعي وبناءه قيمياً وتقوائياً يستلزم تنظيم علاقاته الأساسية، ومنها تنظيم علاقته مع الله سبحانه وتعالى، واستشعار المعيّة الإلهية في كل حين مما يحجز النفس عن الانزلاق مع الشهوات والأهواء، ولا يكون هذا الاستحضار إلاّ بإدامة الذكر والعبادة والطاعة، وعدم المسامحة في النشاط الروحي للراعي، أما تنظيم علاقة الراعي مع نفسه فتكون على أساس التقوى، وسيطرة العقل على الميول والنزعات المختلفة، وأول تلك الرغبات الجامحة التي ينبغي لجمها هي نزعة التسلط والطغيان التي يمكن أن تتسرب إلى نفس الراعي بفعل زهو السلطة وأبهتها، وعلاج ذلك بتذكر عظمة الخالق عزّ وجل وقدرته عليه، ووعي حقيقة السلطة وإدراك وظيفتها في إحقاق الحق ومواجهة الباطل، وإصلاح حياة الناس ومعايشهم، وإقامة الدين والمحافظة على الشريعة.

5. إن العلاقة بين الراعي والرعية تضامنية تعاونية تفاعلية يتكيء على توازنها الكيان الاجتماعي برمته، وقد تطلب ذلك اهتمام الإمام علي علیه السلام ببناء هذه العلاقة على وفق معايير الحق و الانصاف والعدل والمساواة واحترام دستور الدولة، والانفتاح على الرعية، ومخالطتها، والتواصل معها، ومکاشفتها بشؤون الحكم، وإحاطتها بالرعاية الأبوية.

6. إن للعدالة التي يطبقها الراعي على رعيته أُسساً موضوعية، تشمل:

ص: 108

مساواتهم في الحقوق والواجبات، وإدارة أموال الدولة وتنميتها على أساس العدل وكفالة الفقراء، وتساويهم أمام القضاء، وكانت الحلول التي أرشد إليها الإمام علي علیه السلام في هذه المجالات حلولاً تاريخية وموضوعية وقيمية تضع أُسساً لديمقراطية العلاقة بين الناس على مختلف القوميات والطوائف والملل والنحل.

7. اعتمدت توجيهات الإمام عليّ للراعي لبناء العلاقة القيمية بينه وبين أعوانه من الموظفين والعمال المشتركين معه في إدارة الدولة على: حسن اختيار هؤلاء الموظفين وفقاً لمواصفات ترتبط بالجانب الأخلاقي والعملي، وتقسيم العمل بين هؤلاء الموظفين من الناحية الإدارية والتنظيمية، وتطبيق سياسة الإشراف والمتابعة والمراقبة المستمرة لصون مصالح الأمة، وتفعيل مبدأ الثواب والعقاب تبعاً لذلك، ناهيك عن استعمال الأساليب التي تساعد الموظف على الاستقامة مثل التوسعة عليهم في معاشاتهم ورواتبهم.

8. حرص الإمام عليّ علیه السلام على أن تكون علاقة الراعي مع العدو علاقة قيمية، فوجّه إلى الضوابط والقواعد التي تحكم هذه العلاقة، وهي ضوابط تستند إلى المبادئ الحميدة والأسس النبيلة التي ترفض الانحراف في مفاصل الحياة كافة.

والحمد لله رب العالمين

ص: 109

ص: 110

المصادر والمراجع

ص: 111

ص: 112

قائمة

المصادر والمراجع

أولاً: المصادر الأولية.

1 - الآمدي، عبد الواحد التميمي (من علماء القرن الخامس الهجري)، غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق: السيد مهدي الرجائي، ط إيران، 1426 ه / 2005 م.

2 - الثقفي، إبراهيم بن محمد بن سعيد (ت 283 ه / 896 م)، الغارات أو الاستنفار والغارات، ط دار الاضواء، بيروت، 1407 ه / 1987 م.

3 - الجرجاني، أبو الحسن علي بن محمد بن علي (ت 816 ه / 1413 م)، التعريفات، ط بغداد، (بلا. ت).

4 - الجوهري، إسماعيل بن حماد (ت 393 ه / 1002 م)، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق: أحمد عبد الغفور، ط 4، بیروت، 1407 ه / 1986 م.

5 - الحاكم النيسابوري، أبي عبد الله محمد بن عبد الله (ت 405 ه / 1014 م)، المستدرك على الصحيحين، ط دار الفکر، بیروت، 1422 ه / 2002 م.

ص: 113

6 - ابن أبي الحديد، عز الدين بن هبة الله المدائني (ت 656 ه / 1258 م)، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط إيران، 1421 ه / 2001 م.

7 - ابن حنبل، أحمد الشيباني (ت 241 ه / 855 م)، مسند أحمد، ط دار إحياء التراث، بیروت، (بلا. ت).

8 - ابن أبي طالب، الإمام علي (ت 40 ه / 660 م)، نهج البلاغة، جمع: الشريف الرضي، أبي الحسن محمد بن الحسين بن موسی (ت 406 ه/ 1015 م)، تعلیق و فهرسة: الدكتور صبحي الصالح، تحقيق: الشيخ فارس تبریزیان، ط 3، دار الهجرة، قم، 1425 ه / 2004 م.

9 - الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل (من علماء القرن 6 ه)، مجمع البيان في تفسير القرآن، وضع حواشيه وخرّج آیاته وشواهده: إبراهيم شمس الدين، ط دار الكتب العلمية، بيروت، 1418 ه / 1997 م.

10 - الطبري، أبي جعفر محمد بن جریر (ت 310 ه / 922 م)، تاریخ الطبري - تاريخ الأمم والملوك، ط دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1429 ه / 2008 م.

11 - الطرطوشي، أبو بكر محمد بن محمد بن الوليد الفهري (ت 520 ه / 1126 م)، سراج الملوك، طبعة حجرية، الإسكندرية، 1289 ه / 1872 م.

12 - الفيروز آبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب (ت 817 ه / 1414 م)،

ص: 114

القاموس المحيط، إعداد وتقديم، محمد عبد الرحمن المرعشلي، ط بیروت، 1424 ه / 2003 م.

13 - ابن قتيبة، أبي محمد عبد اللہ بن مسلم الدينوري (ت 276 ه / 889 م)، المعارف، ط 2، دار الكتب العلمية، بيروت، 1424 ه / 2003 م.

14 - المجلسي، محمد باقر (ت 1111 ه / 1699 م)، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ط 3، بيروت، 1403 ه / 1983 م.

15 - ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين بن مكرم الافريقي (ت 711 ه / 1311 م)، لسان العرب، مراجعة وتدقيق: يوسف البقاعي وآخرون، ط بيروت، 1426 ه / 2005 م.

16 - المنقري، نصر بن مزاحم (ت 212 ه / 827 م)، وقعة صفين، تحقیق وشرح: عبد السلام محمد هارون، ط 3، قم، 1422 ه / 2001 م.

17 - الواسطي، أبي الحسن علي بن محمد الليثي (ت في ق 6 ه)، عيون الحكم والمواعظ، تحقیق: حسين الحسيني البيرجندي، ط قم، 1417 ه / 1996 م.

ثانياً: المراجع الثانوية:

1 - الآصفي، محمد مهدي، في رحاب عاشوراء، مؤسسة نشر الفقاهة، إيران، 1419 ه / 1998 م.

2 - الأعرجي، زهير، الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام السيرة الذاتية والاجتماعية، ط 2، بیروت، 1430 ه / 2008 م.

ص: 115

3 - بدوي، عبد الرحمن، موسوعة الفلسفة، منشورات ذوي القربی، قم، 1427 ه / 2006 م.

4 - التميمي، الدكتور مهدي حسين، الإمام علي علیه السلام التدبير القيادي للدولة، ط النجف الأشرف، 1426 ه / 2015 م.

5 - جرداق، جورج، الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية، ط قم، 1423 ه / 2002 م.

6 - الجنابي، میثم، الإمام علي القوة والمثال - التراجيديا السياسية للطوباوية الثورية، ط دار المدى، دمشق - بيروت، 1416 ه / 1995 م.

7 - الحكيم، محمد تقي، مع الإمام علي علیه السلام في منهجيته ونهجه، ط المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، بيروت، 1423 ه / 2002 م.

8 - حمود، خضير کاظم، السياسة الإدارية في فكر الإمام علي بين الأصالة والمعاصرة، ط بيروت، (بلا. ت).

9 - الخوئي، المحقق میرزا حبیب الله الهاشمي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ط دار المحجة البيضاء، بيروت، 1434 ه / 2013 م.

10 - الزبيدي، عبد الرضا عبد الأمير، في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي علیه السلام الدراسة في ضوء نهج البلاغة، ط قم، 1426 ه / 2005 م.

11 - السيد جاسم، عزیز، علي سلطة الحق، تحقیق وتعلیق: صادق جعفر الروازق، ط قم، 1428 ه / 2007 م.

12 - الشامي، حسين بركة، البرنامج الأمثل لإدارة الدولة وقيادة

ص: 116

المجتمع في عهد الإمام عليّ المالك الأشتر، ط 2، دار السلام، بغداد، 1429 ه / 2008.

13 - الشريفي، محمد رضا مطر، الأصول النظرية للدولة والمواطنة في القرآن الكريم وتطبيقاتها عند الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، دار الكفيل، کربلاء، 1437 ه / 2016 م.

14 - شمس الدین، محمد مهدي، دراسات في نهج البلاغة، ط 4، بیروت، 1422 ه / 2001 م.

15 - شمس الدین، محمد مهدي، عهد الاشتر، ط 2، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1404 ه / 1984 م.

16 - شهاب، السيد عباس هاشم علوي، معالم الفكر التنموي الإسلامي (الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام نموذجاً، ط دار العصمة، البحرين، 1428 ه / 2007 م.

17 - صليبا، د. جميل، المعجم الفلسفي، ط إيران، 1436 ه / 2005 م.

18 - عبد المقصود، عبد الفتاح، الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، ط 2، دار الصفوة، بيروت، 1933 ه / 2012 م.

19 - العسل، إبراهيم، التنمية في الإسلام، ط بيروت، 1416 ه / 1996 م.

20 - الفكيكي، توفيق، الراعي والرعية، ط 3، شركة المعرفة للنشر والتوزيع، بغداد، (بلا. ت).

ص: 117

21 - قرباني، زین العابدین، میثاق إدارة الدولة في عهد أمير المؤمنين علیه السلام لمالك الأشتر، تعريب: قاسم البيضاني، تحقيق: محمد صالح الحلفي وأحمد عبد الحسين، ط قم، 1434 ه / 2012 م.

22 - القزويني، د. محسن باقر، علي بن أبي طالب علیه السلام رجل المعارضة والدولة، ط دار العلوم، بیروت، 1425 ه / 2004 م.

23 - المتوكل، محمد عطاء المذهب السياسي في الإسلام، ط 2، بیروت، 1405 ه / 1985 م.

24 - المحنك، هاشم حسين ناصر، علم الاجتماع في نهج البلاغة، ط النجف، (بلا. ت).

25 - المحنك، هاشم حسين ناصر، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ط دار أنباء للطباعة والنشر، العراق، 1412 ه / 1991 م.

26 - المطهري، مرتضي، في رحاب نهج البلاغة، ترجمة: هادي اليوسفي، ط 2، دار التعارف، بیروت، 1400 ه / 1980 م.

27 - مغنية، الشيخ محمد جواد، في ظلال نهج البلاغة، ط 3، دار العلم للملايين، بيروت، 1400 ه / 1979 م.

28 - الميانجي، علي الأحمدي، مكاتيب الأئمة - مکاتیب الإمام علي علیه السلام تحقیق ومراجعة: مجتبی فرجي، ط دار الحديث، قم، 1426 ه / 2005 م.

29 - نصر الله، حسن عباس، جمهورية الحكمة في نهج البلاغة، ط دار القارئ، بیروت، 1427 ه / 2006 م.

ص: 118

ثالثاً: البحوث في المجلات العلمية:

1 - جاسم، سنان سعيد، المنظومة القيمية والأخلاقية في النهضة الحسينية، دورية وقائع مؤتمر الإصلاح الحسين، ط النجف، 1438 ه / 2016 م.

2 - سیساوي، السيد خالد، تغييب القيم وانتهاكها في سياسات الحكم الأموي، مجلة الإصلاح الحسيني، العدد 11، 1436 ه / 2015 م.

3 - العطار، مهدي، الشورى في الإسلام - تأملات في النظرية والواقع التطبيقي، (مجلة قضايا إسلامية)، ع 6، 1419 ه / 1998 م.

رابعاً: الرسائل الجامعية.

- مزهر، ثائر حسن ضاحي، اطروحة الحكم عند الإمام علي علیه السلام، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد، 1437 ه / 2016 م.

ص: 119

المحتويات مقدمة المؤسسة...5

المقدمة...7

المبحث الأول: القيمة والتقوى...11

المبحث الثاني: عهد الأشتر برنامج حكومي واقعي لتأصيل المعايير القيمية والأخلاقية...27

المبحث الثالث: ركائز البناء القيمي والتقوائي للراعي...39

المحور الأول: تنظيم علاقة الراعي مع اللاه....41

المحور الثاني: تنظيم علاقة الراعي مع نفسه...45

المحور الثالث: تنظيم وعلاقة الراعي مع الرعية...53

المحور الرابع: تنظيم علاقة الراعي مع أعوانه...97

المحور الخامس: تنظيم علاقة الراعي مع العدو...103

الخاتمة:...107

المصادروالمراجع...113

ص: 120

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.