حقوق الإنسان بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) أنموذجا
رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1732 لسنة 2017 م I789933582128 مصدر الفهرسة:
IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda.
رقم تصنيف LC:
ISBN 978-9933-58 - 12 - 8
BP38.09.H8 J3 2017 المؤلف الشخصي: الجابري، إسماعيل طه.
العنوان: حقوق الإنسان بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي: عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) أنموذجاً.
بیان المسؤولية: تأليف الدكتور إسماعيل طه الجابري، الدكتور حيدر قاسم مطر التميمي؛ تقديم السيد نبيل قدوري الحسني الكربلائي.
بيانات الطبعة: الطبعة الأولى.
بيانات النشر:
کربلاء: العتبة الحسينية المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة.
1438 ه = 2017 م.
الوصف المادي: 144 صفحة.
سلسلة النشر: دراسات في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) - وحدة الدراسات الأخلاقية؛ 4 - مؤسسة علوم نهج البلاغة.
ص: 1
ISBN 978-9933-58 - 12 - 8 رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1732 لسنة 2017 م I789933582128 مصدر الفهرسة:
IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda.
رقم تصنيف LC:
BP38.09.H8 J3 2017 المؤلف الشخصي: الجابري، إسماعيل طه.
العنوان: حقوق الإنسان بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي: عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) أنموذجاً.
بیان المسؤولية: تأليف الدكتور إسماعيل طه الجابري، الدكتور حيدر قاسم مطر التميمي؛ تقديم السيد نبيل قدوري الحسني الكربلائي.
بيانات الطبعة: الطبعة الأولى.
بيانات النشر:
کربلاء: العتبة الحسينية المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة.
1638 ه = 2017 م.
الوصف المادي: 144 صفحة.
سلسلة النشر: دراسات في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) - وحدة الدراسات الأخلاقية؛ 4 - مؤسسة علوم نهج البلاغة.
تبصرة عامة:
تبصرة ببيلوغرافية: يتضمن هوامش - لائحة المصادر (الصفحات 144 - 152). تبصرة محتويات:
موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين بن موسی، 309 - 406 هجرياً - نهج البلاغة، عهد مالك الأشتر. موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجرياً - حقوق الإنسان. موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریا - أحاديث.
موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجرياً - نهج البلاغة - رسائل.
مصطلح موضوعي: الإسلام وحقوق الإنسان.
مصطلح موضوعي: الغرب وحقوق الإنسان.
مصطلح موضوعي: حقوق الإنسان - دراسة مقارنة.
مؤلف إضافي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين بن موسی، 359 - 406 هجرياً - نهج البلاغة، عهد مالك الأشتر. مؤلف إضافي: التميمي، حیدر قاسم مطر، مؤلف مؤلف إضافي: الحسيني، نبیل قدوري حسن، 1995 م، مقدم.
عنوان إضافي: هج البلاغة. عهد مالك الأشتر.
تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة
ص: 2
سلسلة دراسات في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر(رضي الله عنه) (4) وحدة الدراسات الأخلاقية حقوق الإنسان بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي عهد الإمام (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) أنموذجا تأليف د. إسماعيل طه الجابري د. حیدرقاسم مطر التميمي
ص: 3
جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1438 ه - 2017 م العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع الألكتروني:
www.inahj.org الإيميل:
Info@ Inahj.org تنویه:
إن الأفکار والآراء المذکور في هذا الکتاب تعبر عن وجهة نظر کاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسینیة المقدسة
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بها ألهم والثناء بما قدم من عموم نعمٍ ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين.
أما بعد:
فإن من أبرز الحقائق التي ارتبطت بالعترة النبوية هي حقيقة الملازمة بين النص القرآني والنص النبوي ونصوص الأئمة المعصومين (عليهم السلام أجمعين).
ص: 5
وإنّ خير مايُرجع إليه في المصادیق لَحديث الثقلين «كتاب الله وعترتي أهل بيتي» هو صلاحية النص القرآني لكل الأزمنة متلازماً مع صلاحيّة النصوص الشريفة للعترة النبوية لكل الأزمنة.
وما كتاب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) لمالك الأشتر (عليه الرحمة والرضوان) إلا أنموذجاً واحداً من بين المئات التي زخرت بها المكتبة الإسلامية والتي اكتنزت في متونها الكثير من الحقول المعرفية مظهرة بذلك احتياج الإنسان إلى نصوص الثقلين في كل الأزمنة.
من هنا:
ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تخصص حقلاً معرفياً ضمن نتاجها المعرفي التخصصي في حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفكره، متّخذة من عهده الشريف إلى مالك الأشتر (رحمه الله) مادة خصبة للعلوم الإنسانية التي هي أشرف
ص: 6
العلوم و مدار بناء الإنسان وإصلاح متعلقاته الحياتية وذلك ضمن سلسلة بحثية علمية والموسومة ب(سلسلة دراسات في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله )، التي ستصدر بإذن الله تباعاً، حرصاً منها على إثراء المكتبة الإسلامية والمكتبة الإنسانية بتلك الدراسات العلمية والتي تهدف إلى بيان أثر هذه النصوص في بناء الإنسان والمجتمع والدولة متلازمة مع هدف القرآن الكريم في إقامة نظام الحياة الآمنة والمفعمة بالخير والعطاء والعيش بحرية وكرامة.
وكان البحث الموسوم ب(حقوق الإنسان بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه) أنموذجاً) تحت عنوان الدراسات الأخلاقية، حيث تناول البحث حقوق الإنسان في الفكر الغربي وما جاء في هذه الحقوق من أفكار ومقترحات، وأجرى الباحث مقارنة مع الفكر الغربي وحقوق الإنسان في الفكر والشريعة
ص: 7
الإسلامية متمثلاً بالعهد الشريف الذي عهد به رائد الفكر الإنساني ومؤسسة حقوق الإنسان الإمام أمير المؤنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه).
فجزى الله الباحثين خير الجزاء فقد بذلا جهدهما وعلى الله أجرهما، والحمد لله رب العالمين.
السيد نبيل الحسني الكربلائي رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة
ص: 8
بسم الله الرحمن الرحيم
أصبحت فكرة حقوق الإنسان، والدعوة إليها، من الأمور الجوهرية في المجتمعات المعاصرة. وارتبط قیام مبادئ حقوق الإنسان والدفاع عنها في العصر الحديث، سواء في المجتمعات التي تنتسب إلى الإسلام أو غيرها، بالغرب، الذي أصبح مرجعاً للحقوق الإنسانية، حيث أسهم الإستعمار الغربي على المستوى العالمي في تأطير النظرية الغربية للمفاهيم المكوِّنة للحقوق الأساسية للإنسان، وسعى في كثيرٍ من الدول إلى فرض قيمهِ ومنظورهِ على الحياة، عن طريق القهر الإستعماري، والسيطرة الإستبدادية المادية في كافة مجالات الحياة.
ص: 9
أمَّا في الفكر والشريعة الإسلامية، فإنَّ من ينظر في حقوق الإنسان في الإسلام يجد أنَّها حقوق شرعية أبدية لا تتغير ولا تتبدل مهما طال الزمن، لا يدخلها نسخٌ ولا تعطيل، ولا تحريفٌ ولا تبدیل، لها حصانةٌ ذاتية؛ لأنَّها من لَدُنِ حکیمٍ علیم، فالله (جل وعلا) أعلمُ بخلقهِ، وهو (عزّ وجل) أعلم بمصالح العباد من أنفسهم، فهي أحكام إلهية تكليفية، أنزل الله (جل وعلا) بها كتبهِ، وأرسل بها رُسُلهِ.
لقد رضي الله (جل وعلا) لهذهِ الأمة الإسلام دیناً وجعل خاتم الأنبياء مُحمَّداً (صلى الله عليه وآله)، وفوق ذلك كلِّهِ فرض الله (جل وعلا) على العباد حماية هذهِ الحقوق ورعايتها فيما بينهم. ومن ثمّ فإننا نجد أنَّ الإسلام قد بلغ في الإيمانِ بالإنسان وفي تقديس حقوقهِ إلى الحدِّ الذي تجاوز بهِ مرتبة (الحقوق) عندما اعتبرها (ضرورات) ومن ثمَّ أدخلها في إطار (الواجبات)...
هي في نظر الإسلام ليست فقط حقوقاً الإنسان من
ص: 10
حقِّهِ أن يطلبها ويسعى في سبيلها، ويتمسك بالحصول عليها، ويُحرم صدَّه عن طلبها، وإنَّما هي (ضروراتٌ واجبة) لهذا الإنسان، بل إنَّها واجباتٌ عليه أيضاً.
إلاَّ أنَّه وبالرغم من ذلك، نجد ترسُّخ المفاهيم الغربية عن حقوق الإنسان في المجتمعات الإسلامية بسبب غياب المفاهيم الإسلامية المُنظِّمة للحقوق الشرعية للأفراد والجماعات، مما أدى إلى بناء تصور للحقوق الإنسانية عند المسلمين مُستمد من التجربة الغربية لمعالجة الواقع، ومحاولة الإرتقاء بحقوق الأفراد والجماعات. ولذلك يمكن القول: (إنَّ المفاهيم والمبادئ الغربية صارت المرجع الأساسي لبناء قواعد إجتماعية لتنظيم الحقوق الفردية في العالم أجمع. ونجم عن ذلك سلب الحضارة الإسلامية مقومات وجودها كواقع ممارس في العديد من المجتمعات الإسلامية، وصارت تراثاً عاجزاً عن تنظيم الواقع، ومرجعاً أخلاقياً محدود الأثر في الواقع التشريعي المعاصر المُنظِّم لحقوق
ص: 11
الإنسان)(1).
ولهذا، فإنَّه من الأهميةِ بمكان بيان الإطار المُنظِّم للحقوق الشرعية في النظام السياسي الإسلامي، وإبراز القواعد الفكرية التي تُبني عليها فكرة الحقوق الإنسانية في الفكر الغربي، وبيان تناقضها مع التصور الإسلامي للحقوق الشرعية للإنسان، ومصادرها، ومقاصدها، وتفصيلاتها، ويُبرز اختلافها عن الحقوق الغربية الوضعية. كما يؤکِّد البحث أنَّ قيام الحقوق الشرعية الإنسانية، لا يتم في المجتمع الإسلامي إلاَّ بالعودةِ إلى جذور الفكر الإسلامي، واستنباط التشريعات المعالجة للحقوق السياسية والإجتماعية والإقتصادية من القِيَم الإسلامية الراسخة الثابتة.
ولعلَّ من أهمِّ وأبرز هذهِ الجذور الفكرية هو
ص: 12
نص عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك بن الأشتر النُخعي (رضوان الله عليه) (ت 38 ه / 658 م). فقد كان الأمير المؤمنين (عليه السلام) في تاريخ حقوق الإنسان شأنٌ أيَّ شأن. وآراؤه فيها تتصل اتصالاً كثيراً بالإسلام يومذاك وهي تدور على محور من رفع الاستبداد والقضاء على التفاوت الطبقي بين الناس. ومَن عَرفَ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وموقفه من قضايا المجتمع، أدرك أنَّه السيف المُسلَّط على رقاب المُستبدين الطُغاة. وأنَّه الساعي في تركيز العدالة الإجتماعية بآرائهِ وأدبهِ وحكومتهِ وسياستهِ... وبكلِّ موقفٍ له ممن يتجاوزون الحقوق العامة إلى امتهان الجماعة والاستهتار بمصالحها وتأسيس الأمجاد على الكواهل المتعبة.
وأخيراً، نود الإشارة إلى أن لو كانت الصحيفة قد أرست أُسس الاستقرار والتآلف الإجتماعي المبني على قاعدة السِلم الأهلي المنَّاع للأزمات الحادة في
ص: 13
مجتمع المدينة المنورة أبَّان زمن النبي الكريم (صلى الله عليه وآله)، فإنَّ عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر يُعد تطوراً كبيراً على طريق إدارة وحكم البلاد، التي فُتحت ودخلها الإسلام. يُرسي بكلِّ وضوح المعالم الأساسية لمهات الحاكم المُسلم وحقوق الرعية، ومن ثم فهي من الوثائق التي قل التعامل معها وعرضها لجمهور المسلمين، وهذا في الأساس ما يدفعنا لتسليط الضوء على جانب حقوق الإنسان من هذا السِفر الخالد.. والله (جل وعلا) وليُّ التوفيق.
ص: 14
ص: 15
ص: 16
لحقوق الإنسان في الحضارة الغربية(1)هو: دبلوماسي فرنسي، أسَّس المعهد الفرنسي للعلوم الإدارية، وشارك في صياغةِ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. تحصل سنة 1968 على جائزة نوبل للسلام Nobel Peace Prize لعملهِ على صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما حصل في نفس العام على جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. نُقل رفاته من مقبرة مونبارناس إلى مقبرة العظماء (البانتيون) بباريس خلال الاحتفال بالذكرى المئوية لمولدهِ سنة 1987 م. لمزيدٍ من التفاصيل، يُنظر الموقع الإلكتروني:
https://en.wikipedia.org/wiki/Rene_Cassin(2) تاريخٌ طويل، وإذا قطعنا النظر عن حقوق الإنسان في الإسلام، وتأثير ذلك على الحضارة الغربية الحديثة، فإنَّه يمكننا أن
ص: 17
نُجمل تاریخ حقوق الإنسان في الغرب في الصفحات التالية..
فمن الثابت تاريخياً أنَّ الفرنسيين كانوا أول من أطلقوا هذا الاسم على مواثيق الحقوق، وأطلقوا صِفة الحقوق في إعلانهم الذي أصدروه في سنة 1789 م(1)،
ص: 18
على اعتبار أنَّ تلك الحقوق لا تخص إنساناً دون آخر بل إنَّها لصيقة بالإنسان بوصفهِ إنساناً أينما كان، ولذلك لم يوجهوها إلى الفرنسيين كما فعل الإنكليز وأبناء الولايات المتحدة الأمريكية في إعلاناتهم(1). لكن من الثابت تاريخياً أيضاً أنَّ جوهر الفكرة، وأساسها الفلسفي ولد في أثينا على يدِ فلاسفةِ القانون الطبيعي
ص: 19
ممثلةً في مدرسة السفسطائيين(1). غير أنَّ الفكرة ظلَّت
ص: 20
فكرةً فلسفية لا تحظى بتطبيق عملي في ظلِّ الدولةِ المدينة الإغريقية، أو الإمبراطورية الرومانية، فلم يكن قد اعترف بعد للفرد في الحضارة الغربية بأيّ حقوق، قبل قيام الدولة الحديثة.
وحاولت الديانة المسيحية في أول عهدها أن تُثبت للفرد قيمته كإنسان مؤكِّدةً على حقٍّ له كان يهمها في
ص: 21
المقام الأول وهو حرية اعتناق العقيدة. وكانت نقلةً واسعة على طريق الاعتراف للفرد بحقوقهِ الأولية، إلاَّ أنَّ القائمين على شؤون الديانة المسيحية قد تراجعوا عن تلك الخطوة خلال القرن الرابع الميلادي عندما اشتد عودها، واعترف بها الإمبراطور قسطنطين Constantine the Great (272 - 337 م) دیناً رسمياً للإمبراطورية الرومانية، واعتبرت العقيدة الوحيدة المسموح بها داخل الإمبراطورية(1). وقد ضاعت الفكرة - حقوق الإنسان - في أوربا بعد ذلك في خضمِّ ظلام القرون الوسطى إلاَّ من ومضاتٍ خاطفة مثل وثيقة العهد الكبير (الماجنا کارتا) Magna Carta Libertatum في إنكلترا التي صدرت عام 1215 م، والتي حَدَّت من سُلطان الملك جون John (1166 - 1216)، والأشراف، ورجال الدين لصالح الشعب(2).
ص: 22
وبحلول القرن السابع عشر الميلادي بدأ ظهور المُفكِّرين الذين يُسمَّون ب(الفرديين)، أو فلاسفة المذهب الفردي، أمثال: جون لوك John Locke (1932 - 1706)؛ جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau (1778-1712)؛ آدم سميث Adam Smith (1723 - 1790)؛ جان بابتست ساي Jean-Baptiste Say (1896- 1826). وقد كان رأي هؤلاء أنَّ الهدف الأقصى للقانون (حماية الفرد وحريتهِ)(1).
يحظى ميثاق الحقوق الفرنسي من معظم فقهاء القانون من دون غيرهِ من مواثيق الحقوق بالإشادةِ
ص: 23
والتعظيم، على أنَّه (يمثل فلسفة الديمقراطية الغربية عن الحرية)(1). مع أنَّ هناك مواثيق أخرى للحقوق إنكليزية وأمريكية سابقةً عليه كان لها الكثير من الفضل في تدعيم حقوق الفرد وحرياتهِ وذيوعها.
1. ميثاق الحقوق الإنكليزي: أسفرت ثورة عام 1668 م في إنكلترا عن خلع البرلمان للملك جيمس الثاني James II (1633 - 1701)، واستُدعي ويليام أورانج William of Orange III (1650 - 1702) لتولِّي المُلك، وقُدِّم إليه في 13 / فبراير سنة 1688 م (وثيقة الحقوق) لتكون أساساً للحكم، والشروط الأساسية في تلك الوثيقة كانت متصلة بحماية المصالح الإقتصادية للطبقةِ الوسطى The middle class، وبمقتضى تلك الوثيقة تنازل الملك عن أغلب سلطاتهِ للبرلمان،
ص: 24
وسيطرت الطبقة الوسطى (البرجوازية Bourgeoisie) على البرلمان مما أدى إلى تطور كبير في نظام التمثيل البرلماني، واقترب من نظام التصويت النيابي(1).
ومهما كان من أمر تلك الوثيقة واتهام البعض لها بأنَّها لم تكن وثيقة ديمقراطية(2)، فإنَّ مجرد تنازل الملك عن جُلّ سلطاتهِ للبرلمان هو في حدِّ ذاتهِ مكسب للديمقراطية؛ لأنَّها نقلت السيادة من فرد (الملك) لصالح جماعة (البرلمان)، وكانوا إلى حدٍّ ما يُمثلون الشعب، وكلُّ زيادةٍ في سلطاتهم ترتد حتماً لصالح الشعب.
وعلى الرغم من عدم وجود وثيقة للحقوق في إنكلترا مكتوبة على غِرار الوثيقة الأمريكية أو الفرنسية، أو دستور أعلى مُدوَّن، فإن الاحترام المستمر للحرية
ص: 25
هو في حدِّ ذاتهِ خير ضمان للحقوق الأساسية، فصيانة الحريات التقليدية في بريطانيا أسمى مثال على قوةِ التقاليد وعلى روح الشعب الغالبة، حيث حقوق الرجل الإنكليزي مصونة، ومحروسة بفضل تطبيق حكم القانون.
ورغم النُضج السياسي لبريطانيا فإنَّ نقطة الضعف التي شابت الحقوق الأساسية عندهم هي أنَّها كانت على الدوام حقوق الإنكليز، لا حقوق الإنسان، حارمین سکَّان المُستعمرات منها إلاَّ مؤخراً(1). وهذا يذكرنا بديمقراطية أثينا التي كانت مقصورةً على الوطنيين الأحرار دون العبيد، أي الأجانب عموماً.
2. ميثاق الحقوق الأمريكي: تعد الثورة الأمريكية(2) The American Revolutionary War
ص: 26
(1775 - 1783) بحق أول من قنَّن بصورةٍ واضحة في
ص: 27
العصر الحديث حقوق الإنسان، وضمَّنتها وثيقة إعلان استقلال(1) ولایات اتحاد جمهورية الولايات المتحدة
ص: 28
الأمريكية، بعد ثورتها على التاج البريطاني وانتصارها عليه في 4 / 7 / 1776 م، الذي سبق إعلان الاتحاد، والدستور سنة 1777 م، والتصديق عليه سنة 1781 م. ومما جاء فيه: (نحن نُصر ونُسلِّم كقاعدةٍ واضحة من تلقاءِ نفسها بالحقائق الآتية: أنَّ الناس كلَّهم سواسية وأنَّهم يتمتعون کما وهبهم الخالق بحقوقٍ لا يمكن التنازل عنها، منها الحياة والحرية والسعي نحو السعادة)(1).
وحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية تعد أكمل تحديداً منها في أيِّ نظامٍ ديمقراطي آخر، ويبدو
ص: 29
أكثر أمناً في أدواتهِ، وفي حمايتهِ فالحقوق والحريات مدونة في الدستور الفيدرالي، وفي دساتير الولايات المتحدة، ويشيع في هذهِ الدساتير جو (القانون الأعلى). وهي محمية لا من اعتداء السلطة التنفيذية فحسب، بل من اعتداء السلطة التشريعية أيضاً، وهناك المحاكم المُستقلة التي تؤدي وظيفتها لتجعل المُراقبة والتنفيذ حقيقيين(1).
إلاَّ أنَّ الحدود والقيود على هذهِ الحقوق أصبحت واضحةً حتَّى في بلدٍ کالولايات المتحدة تحت ضغط التوترات والأزمات والخُطط البارعة التي تعمل بها الحركات الإجتماعية الحديثة(2) Social Movements
ص: 30
والضغوط الاجتماعية غير القانونية.
ص: 31
3. إعلان الحقوق الفرنسي: أوْلتْ الثورة الفرنسية The French Revolution حقوق الإنسان منذ اللحظةِ الأولى اهتماماً بالغاً حتَّى أنَّها أصدرت إعلان الحقوق في 26 أغسطس سنة 1789 م، ولم يتم القَسَم على الدستور بعد جمعهِ وصياغتهِ إلاَّ في 14 سبتمبر سنة 1791 م، أي
ص: 32
بعد عامين من صدور إعلان الحقوق(1).
وقد صُدِّر ضمن هذا الإعلان وفي مادتهِ الأولى: (يولد الناس أحراراً متساويين أمام القانون). أمَّا مادته الثانية فتنص على أنَّ: (هدف كلِّ جماعة سياسية هو المُحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية، والثابتة. وهذهِ الحقوق هي: الحرية، والملكية، والأمن، ومقاومة التعسُّف). ومما يدل على اهتمام الفرنسيين بتلك الحقوق أنّ واضعو دستور نابليون Napoleon Bonaparte (1769 - 1821) أن يُسجلوا في هذا القانون ما قررته الثورة الفرنسية في (إعلان الحقوق) من وجود قانون طبیعي عام ثابت لا يتغير، وبهذا جاء المشروع الأول لذلك القانون ولكنهم انتهوا إلى حذف هذا النص الاعلى أنَّه غير صحيح بل عدَّ بمثابة اعتناق المذهبٍ
ص: 33
فلسفيٍّ لا يتلاءم مع طبيعةِ النصوص التشريعية(1).
وقد اهتمت الدساتير المُتعاقبة في فرنسا بحقوق الإنسان ومنها دستور سنة 1946 م، وآخرها دستور سنة 1958 م(2)، وقد جاء في ديباجة هذا الدستور الصادر في 4 / 10/ 1958: (الشعب الفرنسي يُعلن في صراحةِ تمسكهِ بحقوق الإنسان، ومبادئ السيادة القومية، كما وردت في إعلان الحقوق سنة 1789 م)(3).
ص: 34
وعلى نقيض البريطانيين، نجد أنَّ الفرنسيين منذ عهد الاستنارة(1) Age of Enlightenment والثورة الكبرى قد رفعوا عقيرتهم بصيحةِ (حقوق الإنسان)، لا حقوق الفرنسيين، وقد خاض الفرنسيون معارك مجيدة حول هذهِ الحقوق والحريات كان بعضها فاصلاً بالنسبة لتطور البلاد الديمقراطي الحر(2).
بعد أن مُني العالم بحربين عالميتين خلال أقل
ص: 35
من نصف قرن كان عليه أن يبحث بهمَّةٍ واقتدار عن الوسائل الكفيلة بعدم تِكرار مثل ذلك، حمايةً للجنس البشري وحقوقهِ المشروعة. والتقى الجميع على إنشاء هيأة الأمم المتحدة(1) (The United Nations UN)
ص: 36
الذي بدأ میثاقها (UN Charter) بديباجةٍ نصها: (نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن نُنقذ الأجيال المُقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيلٍ واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف. وأن نؤكِّد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان، وبكرامةِ الفرد وقدرته، وبما للرجال والنساء، والأمم كبيرها وصغيرها من حقوقٍ متساوية). ثمَّ تضمن الميثاق بعض المواد الخاصة بهذهِ الحقوق ومنها:
المادة الأولى للفقرة الثالثة: (من مقاصد الهيأة تحقيق التعاون الدولي على حلِّ المسائل الاقتصادية، وعلى توفير احترام حقوق الإنسان، والحريات الأساسية
ص: 37
للناس جميعاً، والتشجيع عليه، دون تمييز بسبب الجنس، أو اللغة، أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء)(1).
كذلك المادة (13 - 1) فقرة (ب): (تُنشئ الجمعية العمومية United Nations General Assembly (UNGA) دراسات وتُشير بتوصياتٍ بقصد الإعانة على تحقيق حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس كافة، بلا تمييز بينهم في الجنس...).
والمادة (55) فقرة (ج): (رغبةً في تهيأة شروط الاستقرار والرفاهية الضرورية لقيام علاقاتٍ سليمة ودية، علاقات تقوم على احترام المبدأ، الذي يقضي للشعوب بحقوقٍ متساوية، ويجعل لها تقرير مصيرها تعمل الأمم المتحدة على أن ينتشر في العالم احترام حقوق الإنسان، والحريات الأساسية للجميع، بلا تمييز بسبب الجنس وصِراعات تلك الحقوق والحريات فعلاً).
ص: 38
وأيضاً تضمَّنت المواد (56 - 62 - 68 - 76) إشاراتٍ إلى حقوق الإنسان، وقد شُکِّل المجلس الإقتصادي والإجتماعي بهيأة الأمم المتحدة (لجنة حقوق الإنسان) بقصد إعداد مشروع وثيقة دولية بإعلان حقوق الإنسان، وحرياتهِ الأساسية، و كيفية تطبيقها، وما هي وسائل تنفيذها، والاجراءات التي يجب اتخاذها ضدَّ انتهاك هذهِ الحقوق، وقد واصلت اللجنة عملها قرابة عامين في ليك سکس، وفي جنيف، ثمَّ تقدمت بالمشروع الأول الخاص بوثيقة إعلان الحقوق والحريات، وقد أقرته الجمعية العامة لهيأة الأمم المتحدة. ومن بينها قرارها رقم (217) في دور الانعقاد العادي الثالث بباريس بتاريخ 10 ديسمبر سنة 1948، وقد اشتمل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ثلاثين مادة كلَّها تدور حول حقوق الإنسان من الوجوه كافّة، ومادته الأولى تنص على أن: (يولد جميع الناس أحراراً متساويين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء...).
ص: 39
وقد صدرت اتفاقياتٌ دولية عديدة في شأن حقوق خاصة للإنسان، کالاتفاقيات الدولية في شأن الحقوق المدنية والسياسية الصادرة بقرار الأمم المتحدة رقم (2200) في دور الانعقاد العادي (21) بتاریخ 16 من ديسمبر سنة 1966 م، واتفاقيةٍ أخرى بذات التاريخ والدور بشأن الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية(1). واتفاقيات عديدة أخرى، لا يتسع المجال لحصرها، موضوعها: القضاء على التمييز العنصري، وتحريم إبادة الجنس البشري، وتحريم الرق، والحرية النقابية، وحق تقرير المصير، وحماية ضحايا الحرب، والأسرى، والمساواة في الأجور، وتحريم السُخرة.. إلخ(2).
ص: 40
والذي يهمنا من أمر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أنَّه حوى كلَّ حقوق الإنسان، فنصَّ على حماية حقوقهِ السياسية، والمدنية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية.. وهي حقوق جديدة لم تتضمنها إعلانات الحقوق من قبل، وهي تتميز بطابعها الإيجابي، أي بفرض إلتزام على الدولة بتحقيقها للأفراد، ويأتي في مقدمة هذهِ المواد، على وجه الخصوص، المواد من (22) إلى (28)(1).
وأخيراً، يمكن القول أنَّ مفهوم حقوق الإنسان في الغرب قد تبلور عِبرَ مسارين كبيرين: أولها التجارب السياسية الغربية المُتمثلة في الصِراع ضدَّ الحكم المُطلق من أجل الحدِّ من صلاحياتهِ الواسعة. والأمثلة الكبرى الواضحة لهذا المسار هو الصراع السياسي في إنكلترا من أجل تحديد صلاحيات الكنيسة صاحبة الحكم السياسي المُطلق وانتزاع بعض الحقوق للأفراد
ص: 41
والجماعات کما صِيغ ذلك في وثيقةِ الماغنا کارتا Magna-carta، وكذا عملية تحرير الولايات المتحدة الأمريكية والوثيقة الصادرة عنها، ثمَّ الثورة الفرنسية، والثورة الروسية... إلخ.
أمَّا المسار الثاني لهذهِ الأفكار فهو اجتهادات المُفكِّرين وتنظيرات الفلاسفة ابتداءً من الحقبة الإغريقية، والرومانية، والإسلامية ثمَّ الحقبة الحديثة في الغرب، والتي تعد فلسفة التنوير مُعلِّمتها الرئيسية.
وهذهِ الاجتهادات الفكرية، التي كانت بمثابة مختبر آخر تبلورت فيه حقوق الإنسان، لم تكن إسهامات معزولة عن سياق التاريخ الفعلي. بل كانت تفكيراً في هذهِ الصراعات والتحولات من جهة وإنارةً وتوجيهاً لها من جهةٍ ثانية. لذلك سيكون من باب التبسيط أن نقول بأنَّ حقوق الإنسان هي بنت التجربة التاريخية، وأنَّ هذهِ هي التي ولَّدت هذهِ الأفكار، أو على العكس من ذلك، أنَّ مفهوم الحرية والحق هو الذي أنتج هذهِ
ص: 42
الحقوق الفعلية في التاريخ. ولعلَّ هذا الإشكال أصبح اليوم متجاوزاً في العلوم الإنسانية. وهذا ما يبيح لنا القول بأنَّ مفهوم حقوق الإنسان قد تبلور عِبرَ تفاعل تجربتين تاريخيتين طويلتي الأمد: تجربة الواقع وتجربة الفكر، وأنَّه قد يكون من التبسيط اختزال هذهِ الجدلية التاريخية في أحد طرفيها فقط.
وفي مناخ تنويري، تميز بالنضال ضدَّ النزعة المُطلقة في الحكم وضدَّ النزعة التعسفية والاستبدادية، ارتبطت فكرة حقوق الإنسان بالنزعة الفردانية Individualism، المُمجِّدة لحرية الفرد ولإرادتهِ وعقلهِ، بفكرةِ العَقْد الإجتماعي Social Contract، كفكرةٍ ضابطة للأصل البشري التعاقدي لكلِّ سلطة، بفكرةِ الحقِّ الطبيعي القائمة على وجود حقوق طبيعية راسخة لدى الإنسان، أهمها الحرية أم الحقوق الإنسانية جميعاً. ولعلَّ الجملة التي أوردها توماس هوبز Thomas Hobbes (1588 -
ص: 43
1679) في (اللفياثان)(1) سنة 1651، تجمع بشكل لمَّاح
ص: 44
هذهِ العناصر الثلاثة (الحرية، التعاقد، الحق الطبيعي)، حيث يقول: (الحق الذاتي الطبيعي) الذي تعود الکُتَّاب على تسميتهِ بالحقِّ الطبيعي (هو الحرية التي يملكها كل إنسان في أن يستعمل كما يشاء قدراته الخاصة)(1).
تُشکِّل هذهِ الروافد الثلاثة الكبرى، التي تصب كلَّها في دائرةِ حقوق الإنسان، عائلةً فكريةً واحدة. فهي جميعاً تعكس التحولات الكبرى التي حدثت في التاريخ الحي وفي الفكر، والتي أسهمت في إحداث تعديلاتٍ كبرى على أساس الثقافة الغربية الكلاسيكية
ص: 45
في اتجاه إثبات دور أكبر للعقل في الكون (العقلانية Rationalism)، وإثبات صورة الطبيعة كنظامٍ مستقل له نوامیسه الخاصة (الوضعية Positivism)، وإقرار إرادة الإنسان بما لها من قدرةٍ على الوعي بالحتميات المختلفة والتخلص من تأثيرها (النزعة الإرادية)، وذلك ضمن منظور الصيرورة والتحول في سياق التاريخ الحي (النزعة التاريخانية Historicism)، وفي أُفق منظور نمطي متصاعد للزمن.
وهذهِ الأفكار، في مراوحتها الجدلية بين نضالات وصِراعات الواقع التاريخي، والاجتهادات الفلسفية في ميدان الفكر، ستنتقل بالتدريج من بطون الكتب ودوائر الخاصة إلى رحاب الواقع السياسي، کما ستتحول بالتدريج من معايير أخلاقية مُلهمة وموضوعية إلى تشريعاتٍ وقوانين ضابطة ومُلزمة سواء أعلى الصعيد الداخلي أم على صعيد العلاقات بين الدول.
ص: 46
ص: 47
ص: 48
ينطلق الإسلام من اعتقادٍ راقٍ في نظرتهِ للإنسان؛ إذ جعل الله (عزّ وجل) الإنسان خليفةً له في الأرض لعِمَارتها(1)، وإقامة أحکام شریعتهِ فيها، فالإنسان هو محور الوجود، وهو المخلوق المميز بين سائر المخلوقات. وقد جاءت الشريعة الإسلامية بأحكامٍ شمولية وثابتة بشأن حقوق الإنسان، تقوم على أساس الوسطية والاعتدال، إذ المساواة بين الناس والحوار والأخوة في كافَّة الأُمم، وقد شَمِلَت حقوق الإنسان في الإسلام الحقوق الخاصة الفردية، إلى جانب الحقوق الأخرى الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وقد سبقت الشريعة الإسلامية الغرَّاء المعاهدات الدولية والإعلانات والمواثيق الدولية والتشريعات الوطنية
ص: 49
كافَّة منذ خمسة عشر قرناً في مجال حقوق الإنسان والاعتراف بمركز الفرد، وإحاطتهِ بتكريم وتفضيل على كثيرٍ من المخلوقات.
وردت كلمة (إنسان) في القرآن الكريم (65) مرة بمعنى المخلوق، وأنَّه عبد الله، «الرَّحمَنُ *عَلَّمَ القُرءَانَ * خَلَقَ الإِنَسانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ»(1)، لذلك أشار الفقهاء إلى حقوق (العِباد)، في مقابل (حقوق الإنسان). فالوضع الطبيعي هو العناية بالإنسان قبل العناية بحقوق الإنسان؛ لأنَّ هذهِ الحقوق إنَّما أُضيفت للإنسان واستحقها لكونهِ إنساناً، وليس لأنَّه كائن من الكائنات و مخلوقٌ من المخلوقات، وقد فضَّل الباري (جل وعلا) الإنسان على باقي المخلوقات والكائنات، فلهُ من الحقوق ما ليس لها، ومن حقوقهِ تسخيرها واستعمالها لمصلحتهِ(2). ولقد حدد الإسلام رسالة
ص: 50
الإنسان في الحياة إذ جعله الله خليفةَ في أرضهِ، عندما بلغ الملائكة خلقهُ (جل وعلا) لآدم (عليه السلام) قائلاً: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»(1)، وأكَّد القرآن الكريم ذلك في سورةِ الأنعام، إذ ورد فيها: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ»(2)، وفي موضعٍ آخر يقول القرآن الكريم: «هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ»(3).
واستخلافُ الإنسان في الأرض يعني التكريم والرعاية والإنعام بالشرف والعِزَّةَ عليه، ويؤمن المسلمون أنَّ الله (جل وعلا) خَلَق الإنسان على أحسن صورة جسداً وروحاً، فنظر الإسلام نظرة تكريمٍ للإنسان، حيث أمر الباري (عزّ وجل) ملائكته
ص: 51
بالسجود له، فقال (جل وعلا): «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى»(1). ومنها ما يتعلَّق بكمال الإنسان حيث خلقهُ اللهُ بريئاً من كلِّ انحراف؛ أي ما يُعرف في الإسلام ب(الفِطْرة)، وما الانحراف إلاَّ عارضٌ خِلافاً لشريعةِ الله (جل وعلا) تحت تأثير شهوات الإنسان الخاصة أو سوء التربية وغيرها، ويستحق عندئذٍ العقوبة، ومنها ما يتعلَّق بمسؤوليتهِ عن سلوكهِ وتصرفاتهِ على أساس إقامة العدل والمُساواة؛ لضمان السلام والخير والمصلحة للجميع(2).
وفي ضوءِ ذلك فخلافة الإنسان في الأرض تشریفٌ وتمكين لهذا الإنسان، ومن أسباب التكريم والتفضيل
ص: 52
أنَّ الباري (عزّ وجل) يقول: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا»(1)، و «عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ»(2)، و «عَلَّمَهُ الْبَيَانَ»(3)، والبيان ليس مجرد النُطق والكلام بل (قبل ذلك) فِکرٌ ونَظْمٌ للأفكار، ثمَّ بيانها، والأهم من ذلك هو أنَّ الباري نَفَخ فيهِ من روحهِ: «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي»(4)، وهذا النوع من التكريم سبب سموِّهِ وتفوقهِ ومنبع مواهبهِ ومؤهلاتهِ والمدد الملائم التساميه وترقيه(5)، حيث تعهَّد الباري (جل وعلا) بني البشر، فأرسل لهم رُسلَهُ بالأدلةِ والبيانات يُبشِّرونهم، ويُنذرونهم ويقودونهم إلى صراط العزيز الرحيم: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ
ص: 53
بِکُم عَن سَبِيلِهِ»(1).
وقد أشار عدد من الدارسين إلى أنَّ حقوق الإنسان في الإسلام ليست مجرد حقوق؛ وإنَّما هي ضرورات وواجبات شرعية؛ أي أنَّ حقوق الإنسان هي قواعد آمرة، ومصدرها إلهي لا وضعي، إنَّما هي جزء من الشريعة الإسلامية القائمة على تأمين الصالح العام للإنسان ولبني البشر كافَّة. وهناك أربعة مصادر أساسية لحقوق الإنسان في الإسلام، هي مصادر الشريعة الإسلامية(2)، وتتمثل بالقرآن الكريم بوصفه المصدر الأول الذي تتفرع عنه بقية المصادر الأخرى، ويتناول القضاء على التقاليد غير المعقولة في جميع شؤون الإنسان، وإصلاح المجتمع إصلاحاً شاملاً في
ص: 54
عقائدهِ الدينية أو في صِلاتهِ الإجتماعية عبر الدعوة إلى حياةٍ إنسانية فُضلی دون تمييز في الحقوق والواجبات، بسبب الجنس أو اللغة أو العِرق والدعوة إلى الخير وتجنب كلَّ شر، والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، والدعوة إلى السلام بين الناس، وجاء القرآن الكريم بصفتهِ المصدر الأول للشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان بأحكامٍ كلِّية وقواعد عامة لا تقبل التغيير والتعديل كعدم التمييز بين أبناء الشريعة الإسلامية وحماية حقوق الإنسان الأساسية من حريتهِ الشخصية وحصانة بيتهِ، وصيانة مالهِ ودمهِ، وحقِّ كلِّ إنسان في العمل، وحقِّهِ في المجتمع هو ضمان حياة كريمة، وعدم الإكراه في الدين والعدل في الحكم.
أمَّا المصدر الثاني لحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية فهو السُنَّة النبوية الشريفة، وهي كل ما صدر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير أو صفة خلقية... والسُنَّة النبوية حُجَّة
ص: 55
شرعية، قال الله (جل وعلا): «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ»(1). والسُنَّة النبوية تابعة للقرآن الكريم وبیان له، إمَّا تفريع على قواعد القرآن أو شرح لكُلِّيته، وبسطٌ لمُجملهِ، أو وضع قاعدة عامة مُستمدة من أحكامٍ جزئية أو من قواعد کُلِّية فيه، فالسُنَّة هي التجسيد والتنزيل للقِيَم في الكتاب والسُنَّة على حياةِ الناس، وتقويمها بها، والتجلِّي المعصوم للقِيَم في الواقع؛ هي السُنَّة العملية من سُنن النبوة، وهي وإن كانت تُشکِّل حقبة تاريخية تمَّ عن طريقها بناء أنموذج الاقتداء والتأسِّي في كلِّ المجالات والحالات التي مرَّت بها مسيرة النبوة ابتداءً من قولهِ (جل وعلا): «وأقْرَأْ» وانتهاءً بقولهِ (عزّ وجل): «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»(2)، بكلِّ ما فيها؛ لتكون السيرة أنموذج اقتداءٍ في كلِّ ما تُعاني الأمة، وما يعرض لها على مستوى الفرد والجماعة والدولة والسِلم
ص: 56
والحرب... إلاَّ أنَّها تختلف عن التاريخ بأنَّها فترة بناء الأنموذج، فترة المرجعية ومصدرية التشريع في جميع مجالات الحياة؛ لأنَّها مُسددةٌ بالوحي ومؤيدةٌ بهِ، فيما يعد التاريخ اجتهاد البشر وفعلهم وخطأهم وصوابهم في محاولاتهم لمُقاربةِ الأنموذج ومحاكاته، فالتاريخ بهذا يكون محلَّ عِبرَة ودَرس و تجربة تُضاف إلى عقل الأمة وخبرتها، لكن لا يرقى بحالٍ من الأحوال ليكون مصدر تشریع و معیار تقویم و تشکیل مرجعية.
ومن ثم فإنَّ لدستور المدينة المنورة قَصَبٌ السَبْق بالنسبةِ لكلِّ دساتير العالم، فهو يعد أول تجربة سياسية إسلامية في صدر الإسلام بقيادةِ الرسول (صلى الله عليه وآله)، فقد كان له دور بارز في إخراج المجتمع من دوامة الصراع القَبَلي إلى رحاب الأخوة والمحبَّة والتسامح، إذ ركَّز على كثيرٍ من المبادئ الإنسانية السامية كنُصرة المظلوم، وحمايةِ الجار، ورعايةِ الحقوق الخاصة والعامة، وتحريم الجريمة، والتعاون في دفع
ص: 57
الدیَّات، وافتداء الأسرى، ومساعدة المَدِين، إلى غير ذلك من المبادئ التي تُشعر أبناء الوطن الواحد بمختلف أجناسهم وأعراقهم ومعتقداتهم - أنَّهم أسرة - واحدة مُكلَّفة بالدفاع عن الوطن أمام أيِّ اعتداء يفاجأهم من الخارج. فالمُساواة قامت بينهم على أساس القيمة الإنسانية المشتركة؛ هو أن الناس جميعاً متساوون في أصل الكرامة الإنسانية، وفي أصل التكليف والمسؤولية، وأنَّه ليس هناك جماعة تفضل غيرها بحسب عنصرها الإنساني وخلقها الأول(1).
ويأتي الإجماع كمصدر ثالث لحقوق الإنسان في الإسلام، وهو ما يصدر عن علماء الشريعة في كلِّ زمانٍ وقت إرشاد القواعد والمبادئ العامة في القرآن الكريم والسُنَّة النبوية الشريفة وتطبيقاتها التفصيلية،
ص: 58
ومن طرف الرأي الإجماعي ورأي بعض علماء الشريعة مصحوباً بسكوت الباحثين الذين اطلعوا على هذا الرأي أو التعامل لدى بعض علاء الشريعة دون اعتراضٍ عليه من الباقين الذين اطلعوا عليه(1).
أمَّا المصدر الرابع لحقوق الإنسان في الإسلام فهو الاجتهاد، وهو الرأي الفردي الصادر عن علاء الشريعة في كلِّ زمانٍ و مکان على وفق إرشاد القواعد العامة في القرآن الكريم والسُنَّة والإجماع، والاجتهاد (وهو الرأي غير المُجمع عليه) قد یکون اجتهاداً تفسيرياً عند الإبهام في النصوص الشرعية تجاه بعض المسائل الحقوقية الجديدة، كما يكون عند سکوت هذهِ النصوص فيما يجد من وقائع حقوقية لا نصَّ عليها(2).
ص: 59
إنَّ ما يُميِّز حقوق الإنسان في الإسلام هو أنَّها لیست حقوقاً مُطلقة؛ لأنَّ الإسلام طالما ينطلق بوجهٍ عام من واجباتِ الأفراد، فإنَّه يضع منذ البداية حدوداً لحقوق الإنسان(1)، إنهَّا حدود الحلال والحرام، وحدود الفقه الذي يُراعى تبدل الأزمان والأماكن والمصالح فلا حرية مُطلقة للإنسان؛ بل حرية مقيدة بمصالح الناس، وبشخصيةِ الإنسان المميزة عن سائر المخلوقات من حيث العقل والضمير والشعور، ولا ملكية مفتوحة للفرد في مواجهةِ الآخرين من بني مجتمعهِ، بل ضوابط يحددها التكافل الاجتماعي بين الناس، ولا استئثار بالموارد والثروات على حساب الشعوب، وإلاَّ نقع في إمبرياليةٍ مترادية واستغلالٍ بشع لحقوق الإنسان في مناطق محددة من العالم(2).
ص: 60
كما أنَّ حرص الإسلام على تأكيد المساواة وهدم الحواجز كافّة كان من أهمِّ العوامل التي جعلت العبيد والمقهورين والمظلومين يهرعون إليه. وقد كان هذا التأكيد مع سلوك المسلمين دافعاً للمفکِّر الهندي (دهالا) Maneckji Nusserwanji Dhala (1875 - 1956) إلى القول: (إنّ دین مُحمَّد ([صلى الله عليه وآله)] وحده بين أديان العالم هو الذي ظلَّ متحرراً من الحاجز اللوني... إنَّه يفتح ذراعيه على وسعها ترحيباً بمُعتنقيه أياً كانوا زنوجاً أو منبوذين، وهو يمنح الجميع حقوقهم وميزاتهم دون تحفظ، ويحتضنهم في نطاق المجتمع مثلما يحتضنهم في نطاق العقيدة، والإسلام يستبعد كلَّ حواجز المولد واللون، ويقبل شتَّی معتنقيه ضمن جماعة المسلمين على أساس المساواة الاجتماعية التامة)(1).
ص: 61
كذلك فإنَّ غريزة حب الذات التي أودعها الله (جل وعلا) في أعماق نفس كلِّ إنسان، هي التي تدفعه إلى الدفاع عن حقوقهِ وحماية مصالحهِ، والأوامر الدينية في هذا المجال هي من نوع الأوامر الإرشادية التي تساعد الإنسان على تخطِّي العقبات و تحمّل الصِعاب التي تعترض الدفاع عن الحقوق. فالقرآن الكريم يُشجع من انتُهِك شيءٌ من حقوقهِ أن يجهر بالاعتراض وإعلان ظلامتهِ، وفي ذلك يقول الله (جل وعلا): «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ»(1). ومن سعی و تحرك للانتصار لحقوقهِ والدفاع عن مصالحهِ المشروعة، فإنَّه قد مارس حقَّه الطبيعي ولا لوم عليه ولا مؤاخذة، وذلك لأنَّه أنطلق مما هو مستقر في قناعتهِ وعقيدتهِ ووجدانه، وفي ذلك يقول (عزّ وجل): «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ»(2). ثمَّ
ص: 62
إنَّ الدفاع عن حقوق الإنسان وفقاً لبعدهِ العَقَدي لا يقف عند حدود المصالح المُرتبطة بذات الشخص، بل يعني تحمل المسؤولية تجاه أيِّ حق إنساني يُنتهك، حتَّى أنَّ الله (جل وعلا) يُحرض المؤمنين على القتال نُصرةً للمُستضعفين، وفي ذلك يقول (عزِّ وجل): «وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا»(1).
وإذا كانت سائر الأنظمة والتشريعات تفتقر إلى نظامٍ عِقابي رادع لكلِّ من تُسوِّل له نفسه انتهاك حقوق الإنسان، فإنَّ الشَارِع الحكيم حفظٌ للبُعد العَقَدي الذي يقرر قدسية مثل هذهِ الحقوق، وقد قرر نظاماً عقابياً إسلامياً يُعد من أكثر النُظُم العقابية أصالةً وتطوراً ونجاعة؛ إذ فيه عناصر يتفق فيها مع بقية قوانين العالم
ص: 63
القديم والحديث، وفيه عناصر خاصة لا يُشاركه فيها أيِّ قانون من القوانين، ولا شكِّ أنَّ إقرار هذا النظام العِقابي من شأنهِ أن يحفظ البُعد العَقَدي الذي يتقرر عن طريقه مكانة هذه الحقوق وقدسيتها.
ومن ثمّ، فإنَّ حقوق الإنسان لا يمكن أن يتقرر لها البُعد العَقَدي ما لم تكن مستقرة في وجدان الناس وفي ضمائرهم، وذلك بما يُشكِّل عقيدة في فؤادهم وتوجه فكرهم وتنظيرهم وتفعيلهم، وإنَّ ذلك يحتاج إلى جانبين: أحدهما إيجابي يتمثل في تعزيز ثقافة حقوق الإنسان والدفاع عنها باستماتة، وجانب سلبي يتمثل في ردع كل من لا يلتزم باحترام و حفظ مكانتها وقدسيتها.
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام ضرورة التنويه على أنَّ المبادئ التي حرصت الشريعة الإسلامية على احترامها تتطور بذاتها في التطبيق العملي لكي تواجه وتشمل كلَّ التطورات التي تُسفر عنها متطلبات الحضارة في مراحلها المختلفة، لأنَّ الشريعة الإسلامية
ص: 64
شُرِّعت للناس کافَّة، وفي كلِّ مكانٍ وزمان وهي الشريعة الخاتمة..
وأخيراً، يمكن لنا القول أنَّ الدين الإسلامي الذي كرَّم الإنسان وفضَّله على غيرهِ من المخلوقات، فقد سخَّر جميع ما في الكون لخدمتهِ، وجعله الله (جل وعلا) خليفة له في الأرض: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»(1)، لا يمكن أن يكون قد قصرَّ في إقرار حقوقهِ الأساسية، فحقوق الإنسان في الإسلام مما لا يمكن التغاضي أو غضِّ الطَّرفَ عنها؛ للحيز الذي تشغله في الشَرع المقدس، وما هذا الذي عرضناه في ثنايا البحث سوى غيضٌ من فيضٍ يتَّسع الحديث فيه بما لا يتناسب مع محدودية هذهِ الصفحات. ولكن الأمر المؤسف إنَّ هذا الجانب (حقوق الإنسان في الإسلام) مُغیَّبٌ في ظلِّ الخلافات الحادة بين المسلمين؛ مما جعل الكثير منهم يجهل وجود هذهِ الحقوق في الإسلام.
ص: 65
تُعد قضية حقوق الإنسان من أهمِّ القضايا النظرية (إن لم تكن أهمها) في الفكرين العربي والإسلامي المعاصرين، ذلك أنَّ الأزمة الحقيقية في تعامل الإسلام مع الحداثة هي أزمة حقوقية: حق التعبير، حق حرية الاعتقاد والممارسة، حق الحياة، وحقِّ إنهائها، حق حدٍّ أدنى من الدخل للفرد، حق حدٍّ أدنى من التعليم، حق مساواة المرأة بالرجل، حق التحرر من الرِّق، وغيرها من الحقوق، التي تُمثل نقاط صِدام أساسية مع الحداثة العالمية (ولا نقول الغربية) إذ تحرك العالم منذ زمن طويل في اتجاه تحرير الأرقاء، ومساواة المرأة بالرجل، وحرية التعبير والاعتقاد والممارسة، بينما تخلَّفت معظم الدول الإسلامية عن هذهِ الحركة؛ وذلك لأنَّ جموع المسلمين، وخاصةً علياء الدين، يرون تعارضاً بين الشريعة وبين القوانين الوضعية في هذا الصدد.
ولا يمكن حلُّ الأزمة إذا أغفلنا الجانب النظري
ص: 66
منها، كما لا يمكن حلُّ الجانب النظري من الأزمة إلاَّ بتحليل جذورها ومحاولة حلِّها على هذا المستوى.
والمجال الأساسي الذي يدرس حقوق الإنسان في دائرۃِ المعارف الإسلامية هو علم أصول الفقه؛ فهو العلم الذي يُناظر فلسفة القانون في الفلسفة الغربية من جهة، و فلسفة التأويل من جهةٍ أخرى. وتُعد دراسة هذا العلم في سياق الدراسات الفلسفية النقدية أمراً ذا أهمية بالغة، لأنَّه يُدرس بشكلٍ تقليدي، يقوم على التكرار وترسيخ القديم، في المعاهد والكلِّيات الدينية، بينما يمكن تحليله وتأويل مفاهيمه بناءً على مناهج حديثة، تأويلية وأنثروبولوجية واجتماعية ونفسية في أقسام الفلسفة. وبالفعل، فهذا العلم هو مايقرر معنی الحق في الإسلام، وأنواع الحق، وأقسامه، وأطرافه، بل ونظريته العامة، وإن كان بشكل غير مباشر. ويحتاج الأمر إلى دراساتٍ تستخرج نظرية الحق ومفهومه من هذا العلم، لمزيدٍ من بلورةِ أسباب هذهِ الأزمة.
ص: 67
ويمكن القول بأنَّ من أهمِّ أسباب أزمة حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي هو عدم توفر مفهوم الحق الطبيعي في علم أصول الفقه؛ فهناك (حقوق الآدمي) وهي حقوق مُعطاة من الله (جل وعلا) إلى البشر، لكنها ليست أصيلة في الطبيعة البشرية والاجتماع الإنساني، ومن ثمّ يفقد الإنسان استقلاله القانوني أمام الفقه. وقد تعرضت بعض الكتابات الفكرية والفلسفية لهذهِ المشكلة، إذ هناك بعض المقالات والفصول المتفرقة لحسن حنفي المُفكِّر المصري، خاصةً ما تعلَّق منها بعلم أصول الفقه في الوقت نفسهِ، وهناك كتاب (الديمقراطية وحقوق الإنسان)(1) لمحمد عابد الجابري (1936 - 2010)، وهناك (نحو تطوير التشريع الإسلامي)(2) لعبد الله أحمد النعيم تلميذ المُفكِّر السوداني محمود طه(3)،
ص: 68
وكذلك مُصنَّفه: Human Rights and Religious - Values, An Uneasy Relationship? Rodopi B.V., printed in the 1995 ,Amsterdam, New York: NY Netherlands.. کیا کتب كلٌّ من نصر حامد أبو زيد (1943 - 2010)، وعبد الله العروي، ومحمد أركون (1928 - 2010)، وطه عبد الرحمن، والطيب تيزيني،
ص: 69
وأدونيس، مقالاتٍ عن حقوق الإنسان في الإسلام، لكن كلَّ ذلك (باستثناء كتابات عبد الله النعيم) إمَّا ظلَّ متفرقاً غير متبلور، وغير نافذ إلى أساس الأزمة في التشريع الإسلامي نفسه، وإمَّا دار أصلاً في فَلكِ دراسةِ المفاهيم في الثقافةِ الغربية. إلى جانب هذهِ المقالات والدراسات كتب عدد من المُفكِّرين، الذين لم يتمتع أغلبهم بمناهج البحث الفلسفي، أو لم يكونوا أكاديميين، مُصنَّفات كثيرة تحاول بحث قضية حقوق الإنسان في الإسلام، وانتهوا إلى أنَّ الإسلام قد سبق المواثيق الدولية في إقرار حقوق الإنسان، دون بحث المفاهيم نفسها، ولا نظرية الحق، و كموقفٍ دفاعي ضدَّ الهجوم العلماني والغربي على المعسكر الأصولي، مثل: مُحمَّد أبو زهرة (1898 - 1974)، و محمد عِمارة، وزكريا البري، وعلي عبد الواحد وافي (1901 - 1991)، وفرج محمود حسن أبو ليلى، ومحمد الغزالي (1917 - 1999)، وأحمد الرشيدي، وغيرهم.
ص: 70
ولم يزل مجال حقوق الإنسان في الفكر العربي المعاصر مجالاً بِکراً، يحتاج إلى مزيدٍ من العقلياتٍ الشابة والنقدية المتخصصة، لا ترى بداً من دراسة العلوم الإسلامية، إذا كان الهدف هو نقد الثقافة، وتطويرها، والاتجاه نحو حداثةٍ عربية ذات أساس نظري مکين.
ص: 71
ص: 72
ص: 73
ص: 74
يُشير الموروث الإسلامي الذي لا يزال بين أيدينا على أنَّ الدين الإسلامي، ومن ثمَّ الأمة المسلمة، هي أول الأمم التي امتلكت وثائق ترعى حقوق الإنسان وتُنظِّم شؤونه وعلاقاته بعضها البعض، ومع غير المسلمين، وكذا العلاقة بين المجتمع والدولة الإسلامية ممثلةً بحكومتها.
وليس جديداً أن نقول: إنَّ أول تلك الوثائق وأعمقها، بل وأقدمها وأرقاها اهتماماً بالإنسان من حيث كونِه إنساناً، فضلاً عن تثبیت ما لهُ وما عليه، هي وثيقة القرآن الكريم، کتاب الله (جلّ جلاله) المُنزَّل على رسولهِ الكريم مُحمَّد (صلى الله عليه وآله)، إذ نظَّمت كل ما يتعلَّق بالإنسان، أكان فرداً أو أسرة أم مجتمعاً، بشكلٍ لا يقبل التجاوز على حقوق غيره، ولا استلامها من قبل السلطات الحاكمة.
إذ لا يسع المجال هنا لإيراد جميع ما جاء بهِ
ص: 75
القرآن الكريم من آیاتٍ بیناتٍ نظَّمت شؤون الأفراد والمجتمعات، فإننا سنورد أمثلةً على ذلك، ومنها:
أولاً: قال (جل وعلا): «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»(1)، هنا نُلاحظ أنَّ الإسلام أول من دعى وعَمِلَ على حفظِ حقوق الإنسان، وتأمين مصالحه، وكماله في الدنيا والآخرة(2). إذ تُشير الآية إلى أنَّ الله (جل وعلا) ولدرجةِ اهتمامهِ بأن تسود العدالة بين الناس، فهو لم يُرسل الرُسُل ويُنزِّل معهم الكتب السماوية لهداية الناس فحسب، بل وأنزل معها الميزان الذي يُمثل عدالة السماء في الأرض، وذلك للحكم بين الناس بشكلٍ متساوي ليأخذ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه بالعدل، وليس بالتمايز بحسب الجنس واللون والمكانة الإجتماعية.
ص: 76
ثانياً: قوله (جل وعلا): «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ»(1). هنا يلتفت الشرَع المقدس إلى مسألةٍ مهمة في حقوق الأفراد، تلك هي الغريزة الجنسية التي لا بدَّ من السيطرةِ عليها عبر تنظيمها، لأنَّ عدم التنظيم بل والتقيد في بعض جوانبها سيجعلها سائبة، فتؤدي إلى إحداث مشاكل اجتماعية عديدة، يكون نِتاجها تفكك المجتمع وانتشار الأمراض فيه، لذا فقد قيَّدها، ووضع لها شروطاً من شأنها أن تجعل ممارستها مقترنةً بالتنظيم المشروع، كي لا تتحول المرأة عن طريقها إلى كائن مُبتذل لا يُنظر إليهِ إلاَّ جسداً ورغبة، وعليه فإنَّ من أراد أن يسلم من المخاطر ويُحقِّق لنفسهِ السعادة، فلا بدَّ له من قيود تُحدد غرائزه وتُنظِّمها(2).
ولم يقف الشَارع المقدس عند ذلك، بل شَمِلَ الغرائز
ص: 77
الإنسانية كلَّها، ليجعلها مُنظَّمة ومُنسجمة مع حركة المجتمع وتطورهِ. فلو أخذنا الأكل على سبيل المثال، لرأينا أنَّ الخالق (عزّ وجل) قد وضع قيوداً عليه حددها بعدم الإسراف، بقولهِ (جل وعلا): «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»(1). لأنَّ الإسراف سيؤدي إلى الإضرار بالجوانب الاقتصادية للمجتمع، کما أنَّ من نتائجهِ حصول حالة الإشباع والاكتفاء عند طبقةٍ دون أخرى فينشأ التمايز الطبقي بين الأفراد، وعندها لا تتحقق العدالة في المجتمع.
إنَّ فكرة التقييد التي وضعها الخالق (عزّ وجل) على الإنسان، هي ليست لإضرارهِ بل لإسعادهِ، فإذا كانت في الدين بعض القيود والمُحددات، فهذا بكلِّ تأكيد موجه لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، لأنَّ إطلاق العنان لغرائز الإنسان سيؤدي إلى إحداث
ص: 78
أضرار كبيرة على مستوى الأفراد والمجتمعات(1).
ثالثاً: قال (جل وعلا): «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ»(2). هذهِ الآية تتعرض للحرية الفكرية والاعتقادية، وتمنح كلماتها القليلة الإنسان حريته فيما يعتقد، على أن لا يُجبر على الدخول في الإسلام مُكرهاً، وهذا ما لا يرضاه الله (عزّ وجل)، ولا رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله) الذي نهی عن ذلك، بل إنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والصحابة من بعدهِ لم يستعملوا الإجبار والإكراه، وقد ظهر ذلك واضحاً في تعاملهم مع الأقليات الموجودة في المجتمع الإسلامي من نصارى ويهود، ولو كان هناك إكراهٌ في الاعتقاد لكان إجبار الأكثرية الحاكمة للأقليات التي خضعت تحت سلطتهم أمراً هيناً، ولما أوصى الدين
ص: 79
بالإحسان إليهم والتعايش السلمي معهم(1). وهذهِ بلا شك واحدة من أهمِّ مرتكزات الحرية الفكرية التي أوجدها الإسلام وسار عليها المجتمع الإسلامي ولاسيَّما في عصرهِ الأول عصر النبوة(2).
رابعاً: قوله (جل وعلا): «قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ»(3). وقد وردت هذهِ الآية بصيغةِ النقد لفعل فرعون، دالّة على أنَّه قد صادر حياتهم وإرادتهم التي كان يرى أنَّها له وحده، في حين أنَّ القرآن الكريم بريد للإنسان أن يكون صاحب رأي
ص: 80
حرٍ غير مسلوب الإرادة في التفكير والتدبير والعمل، فالخالق يرى أنَّ من حقِّ الفرد تبنِّي الآراء التي يؤمن بها، في حين كان فرعون يرى أنَّ ليس من حقِّ أتباعهِ تبنِّي الآراء لوحدهم، بل لا بدَّ لهم من أن يستمعوا إلى الرأي منه بوصفهِ الحاكم، وهذا بحدِّ ذاتهِ مصادرة للرأي الذي لم يرتضهِ الدين الإسلامي.
وقد جسَّد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) موضوع حرية الرأي واحترام آراء الرعية، رغم كونهِ حاکماً وذا سلطة، بقولهِ: (إنِّي لأعلم بما يصلح أمركم، ولكن هيهات أن أفعل ذلك بفساد نفسي)(1). وهذا يعني أنَّ الإمام (عليه السلام) لو استعمل هذا الأسلوب مع رعيتهِ، فقد يكون فيه إصلاح أمر حكومتهِ، ولكن بلا شك سيكون على حساب قيمه ومبادئهِ ودينهِ(2).
ص: 81
أمَّا الوثيقة الإسلامية الثانية، فتتمثل في أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله)، وكذلك وثيقة المدينة المنورة التي نظَّمت العلاقة بين المسلمين بعضهم ببعض، ومع غير المسلمين، التي مثَّلت أرقى صور احترام حقوق الإنسان رغم قلَّةِ عدد موادها(1).
ومن الأحاديث النبوية التي عالجت بل واهتمت بحقوق الإنسان الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية، وحددت علاقة المسلم بأخيهِ المسلم، وأكَّدت على عدم التجاوز على حقوق الآخرين، قوله (صلى الله عليه وآله): (لا يحلُّ لأمرئٍ مالُ أخيهِ إلاَّ ما أعطاهُ من طيبِ نفسٍ منهُ، فلا تَظْلِمَنَّ أنفُسكم)(2). هذا الحديث يؤسِّس
ص: 82
لحُسن العلاقة بين المسلمين ويؤشر أُسس التعامل فيها بينهم، ولاسیَّما ما يتعلَّق منه بأموال الآخرين التي تكون مُحرمة ما لم تأتِ برضى وطيب خاطر.
ونجد في حديث آخر نبذاً للتفرقة والتمييز بين المسلمين، بل وبين البشر على أساس اللون أو الجنس أو الطائفة، بقولهِ (صلى الله عليه وآله): (ليس لعربيٍّ على أعجمي، ولا لأبيضٍ على أسود فضل إلاَّ بالتقوى)(1)، وهذهِ أجدها صيغة متقدمة لاحترام الإنسان بوصفهِ إنساناً، بعيداً عن لونهِ وجنسهِ و قومیتهِ وطائفتهِ، إذ لم يضع النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) إلاَّ ضابطة واحدة للتفريق بينهم، وهو التقوى، أي الإلتزام بالإسلام الصحيح، وتطبيق مبادئهِ وأداء واجباتهِ واجتناب نواهيه.
ص: 83
وحدد النبي الأكرم (صلى الله علیه و آله) في حديثٍ آخر العلاقة بين السيد والعبد، ضامناً بذلك حقوق العبد، بقولهِ (صلى الله عليه وآله): (إخوانكم حولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يدهِ فليُطعمه مما يأكل، وليُلبسه مما یلبس، ولا تُكلِّفوهم ما يغلبهم)(1).
كما لا يخفى أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) قد ساوي بين الرجل والمرأة في واحدةٍ من أهمِّ الواجبات، وهي الحصول على العلم وطلبهِ، بقوله: (طلبُ العِلم فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ ومسلمة)(2). فلم يكتفِ (صلی الله عليه وآله) بتوجيه طلب العلم بل رفع من أهميتهِ
ص: 84
بأن جعله واحداً من الفرائض الواجب أداؤها، والتي ساوى فيها وفي تحصيلها بين الرجل والمرأة، بعيداً عن التميز على أساس الجنس.
فضلاً عما تقدم، فإنَّ هناك العديد من الوثائق التي صدرت عن عددٍ من أئمة أهل بيت النبي (عليهم السلام)، فيها تأكيد على حقوق الإنسان وتأكيد على عدم التجاوز عليها، ويأتي في مقدمتها عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى عامله على مصر (موضوع بحثنا) الذي يُعد دستوراً يُنظِّم علاقة الحاكم بالرعية، ويُحدد أُسس العلاقة معهم ولا يسمح للحاکم بالتجاوز عليهم(1).
کما تُعد رسالة الحقوق للإمام علي بن الحُسين زین العابدین (عليهم السلام) وثيقة مهمة عُنيت
ص: 85
بحقوق الإنسان بشكلٍ عام وليس المسلم فحسب، فقد تضمَّنت خمسون حقاً، شملت حياة الإنسان وكل ما يتعلَّق بحریتهِ وعقيدتهِ وفكرهِ وتعليمه، كما تضمَّنت بعض الحقوق أُسس العلاقة داخل المجتمع، إذرکَّزت على حقوق الوالد على الولد، والزوجة على الزوج، والمُعلِّم على المُتعلِّم.. وغيرها(1).
وبالانتقال إلى حقوق الإنسان في الفكر الغربي، فإنَّ التاريخ يُسجل لنا أنَّ وثيقة العهد الكبير (الماغنا کارتا) هي أقدم وثيقة يعود تاريخ صدورها إلى عام 1215 م، وهي مع ذلك لم تُفصّل في حقوق الإنسان، بل حددت من سلطات الملك والأشراف ورجال الدين، مما عُدَّ ذلك انتصاراً لصالح الشعب(2).
ص: 86
وصدرت بعد ذلك بقرون وثائق عُنيت بحقوق الإنسان من دولٍ عدَّة، كل على انفراد، مثل میثاق الحقوق الإنكليزي عام 1668 م(1)، و میثاق الحقوق الأمريكي، الذي صدر بعد إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن بريطانيا في 4 / تموز / 1776 م(2)، في حين جاء إعلان الحقوق الفرنسي في أعقاب الثورة الفرنسية في 26 / آب / 1789 م(3).
بيد إنَّ قانوناً منظَّماً يحظى بالقبول الدولي العام لم يصدر إلاَّ في عام 1948 م، إذ صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من كانون الأول، والذي وقَّعت عليه في حينهِ
ص: 87
ثمان وأربعين دولة، متضمناً ديباجة وثلاثون مادة(1).
مما تقدم نستنتج أنَّ الفارقة الزمنية بين أول تشريع إسلامي لحقوق الإنسان ممثلاً بالقرآن الكريم، وأول وثيقة غربية تُعنى بجانب من حقوق الإنسان هو ما يقرب عن ستة قرون، في حين شکَّلت الفاصلة الزمنية بين أول وثيقة إسلامية نظَّمت حقوق الإنسان، والوثيقة الغربية المُنظَّمة المُتمثلة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان ما يزيد على اثني عشر قرناً، وهذا ما يدل على قِدَم التشريع الإسلامي المعني بهذا المجال.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، لماذا تأخرت المجتمعات الإسلامية في ممارسةِ حقوقها والتمتع بها؟ والإجابة عن ذلك يُعيدنا إلى طبيعة الدولة الإسلامية في نهاية العهد الراشدي، وهي التي شَهِدَت
ص: 88
تمرد الوالي على الخليفة، وتحشيده الجيوش لمقاتلتهِ واغتصاب الحكم منه، ذلك الحكم الذي تسلَّمه وفقاً لمبدأ أُقرَّ في خلال العهد الراشدي بأكملهِ ذلك هو مبدأ أو قاعدة الشورى.
اتجهت أمور الدولة الدينية والسياسية بعد ذلك وتحديداً في العهدين الأموي والعباسي، اتجاهاً مغايراً للمبادئ التي جاء بها القرآن الكريم وأكَّدت عليها السُنَّة النبوية، والتي تمثلت باحترام الإنسان وحريتهِ ومُعتقدهِ، التي منحته مجالاً واسعاً للتعبير عن رأيهِ، كما نهجت طريقاً جديداً في التداول السلمي للسلطة. فابتعدت القيادة الدينية السياسية التي تمثل قمة هرم السلطة في الدولة الإسلامية كثيراً عن هذهِ المبادئ، وعملت على إقناع الناس بأنَّهم إنَّما يحكمونهم ويسوسونهم بحسب نظرية الحقِّ الإلهي، بوصف الخليفة ظل الله في الأرض.
وراح معاوية بن أبي سفيان (20 ق.ه. - 60 ه / 603 - 680 م) و من بعدهِ الحُکَّام الأمويين بتهيئأِ
ص: 89
طبقةٍ من الرواة ورجال الدين، من الذين أغدق عليهم العطايا لتدوين الروايات التي تحط من مكانة الخليفة (علي بن أبي طالب عليه السلام) و تُقلِّل من شأنهِ، حتَّى بلغ بهِ الأمر إلى أن أمر بسبِّهِ على المنابر وفي أوقات كلِّ أذان، وبذا استغل معاوية هؤلاء الرواة في سبيل إيجاد تبریر دیني لسلطان بني أمية، وكذلك لكبح الجماهير عن القيام بالثورة برادعٍ داخلي وهو الدين نفسه(1).
ونتيجةً لسياسة تحطيم الإطار الديني، التي اتبعها معاوية يُعاونه فيها طائفة من رواة الأحاديث المكذوبة، فقد کُمِّمت الأفواه، وسُلبت إرادة الناس في التعبير عمَّا يعتقدون، الأمر الذي جعل أغلب الناس يعتقدون أن الثورة على الأمويين عملٌ محظور وخارجٌ عن الدين، وقد أدى ذلك الإعتقاد إلى خروج الناس مع الأمويين في قتال كل من يعارضهم أو يثور ضدهم،
ص: 90
منها مثلاُ وقوفهم بوجه: ثورة الإمام الحُسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) سنة 61 ه / 981 م؛ وحركة التوابين سنة 65 ه / 685 م؛ وحركة المختار الثقفي في الفترة 65 - 67 ه / 685 - 687 م؛ وثورة عبد الله بن الجارود سنة 75 ه / 694 م، وثورة زيد بن علي (رضوان الله علیه) سنة 122 ه / 740 م، وثورة يحیی بن زید سنة 125 ه / 743 م؛ وغيرها(1).
ولا يختلف حال الإنسان وحقوقهِ في العصر العباسي عمَّا سبقه في زمن الأمويين، فقد استمر الظلم، ومُلاحقة المعارضين على الشُبهة، و إكراه الناس على بيعةِ الخليفة،
ص: 91
وإشاعة مفهوم أنَّ الخليفة سلطان الله في أرضهِ، وليس للناس حق المعارضة، بل عليهم جميعاً الطاعة والتسليم والبيعة مخيرين أو مكرهين.
ومن أمثلة ذلك حرص الخليفة العباسي الأول أبو العباس السفاح (104 - 136 ه / 722 - 754 م) على أخذهِ البيعة من مُحمَّد ذو النفس الزكية (93 - 145 ه / 712 - 762 م) وأخيهِ إبراهيم، اللذين ظلا معارضَين رغم أنَّ العلويين جميعاً قد بايعوه(1)، فراح يتبع أثرهما الذي استكمله من بعدهِ أبو جعفر المنصور (95 - 158 ه / 714 - 775 م)، أو راح يسأل عنهما بني هاشم رجلاً رجلاً، فكان كل منهم يقول: (يا أمير المؤمنين قد عَلِمَ أنك قد عرفته يطلب هذا الشأن قبل اليوم، فهو يخافك على نفسهِ، وهو لا يريد
ص: 92
بذلك خلافاً ولا يحب لك معصية)(1).
ولعلَّ أبشع مجزرة ارتكبها المنصور بحقِّ الإنسانية، هي عندما أقدم على ملئ خزانةٍ في غرفة زوجة ابنه المهدي برؤوس العلويين شيوخاً وشباباً وأطفالاً، وأوصى بأن لا يفتحها ابنه المهدي ولا يطَّلع عليها إلاَّ بعد هلاكهِ(2).
وكردةِ فعلٍ على سلب الحريات، وقمع المعارضين، فقد نشبت العديد من الثورات التي قام بها العلويون ضدَّ الحكم العباسي، كان من أبرزها: ثورة الحُسين بن علي صاحب فخ سنة 169 ه / 785 م؛ وثورة يحيى بن عمر العلوي سنة 250 ه / 864 م؛ وثورة مُحمَّد بن
ص: 93
جعفر العلوي سنة 252 ه / 866 م؛ وثورة علي بن زید العلوي سنة 256 ه / 870 م(1).
ولم تكن الثورات مقتصرةً على العلويين، بل شَهِدَ العصر العباسي الثاني ثورةً كبيرة امتدت بين سنة 255 - 270 ه / 869 - 883 م، تلك هي ثورة الزنج التي جاءت کردِّ فعلٍ على الظلم والاضطهاد والتمايز الطَبَقي الذي شَهِدَهُ ذلك العصر، حين ساد الظلم للعبيد من قبل طبقة الملاَّكين من أصحاب الأراضي المدعومين من السلطة، فكانت ثورة الأعراب الساخطين على النظام الإجتماعي من جهة وبين مالكي الأرض وأصحاب العبيد والخلافة من جهةٍ أخرى(2).
وقد كان من نتائج ذلك أن ظهرت العديد من
ص: 94
الفرق الغالية في معتقدها، مثل المُرجئة والقدرية والجبرية والكيسانية.. وغيرها.
استمرت عملية التفريط بحقوق الإنسان في المجتمع الإسلامي عِبرَ العصور المختلفة وصولاً إلى العصرين الحديث والمعاصر، واللذين شَهِدا تجاوزاً على الحريات، وتكميماً للأفواه، وانتقاماً من المعارضين بوسائل تعذيب شتَّى، فضلاً عن القهر والإذلال النفسي، كلَّها وسائل وأساليب جعلت المجتمع الإسلامي بعيداً كلَّ البُعد عن تمثيل أبسط الحقوق وأكثرها بديهيةً وهو حق العيش، ما جعل المجتمعات الإسلامية تختلف كثيراً عن المجتمعات الغربية في توثيق وتنظيم قوانین حقوق الإنسان والعمل على أساسها.
ص: 95
ص: 96
ص: 97
ص: 98
إنَّ البحث في مكانة ودور الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في التاريخ الإنساني بصورةٍ عامة والتاريخ العربي الإسلامي على وجه الخصوص، عملية شاقة ومتشعبة على كلِّ من ولج هذا الميدان، ولاسيَّما إذا كانت الحقيقة غايته والعِلم سبيله، وما يزيد من صعوبتها تداخلها مع المؤثرات السياسية والعقائدية والتاريخية وحتَّى النفسية، سواء أفي إرثها الماضي أم في واقعها الحالي، ناهيك عن مدى توافر القدرات العلمية والنقدية عند الباحث نفسه.
إنَّ الأمة الإسلامية كونها ذات رسالةٍ حضاريةٍ بحاجة إلى توظيف أدوات المعرفة والبحث العلمي معززةً بالشجاعة وروح النقد في عمليةِ البحث داخل موروثنا الحضاري العام وفي تفصيلاتهِ كافَّة، وما يتطلبه ذلك من الوقوف إزاء مضامين الإرث التاريخي وقفة تفحص دقيق، و تحلیل مُعمَّق قبل التوصل إلى
ص: 99
الأحكام الصحيحة والاستنتاجات المبنية على الدليل المعرفي، وينبغي للباحث الموضوعي أن يتجنَّب عدداً من الأحكام أو الرؤى المُسبقة والجاهزة التي تنتشر في كثيرٍ من الكتابات التاريخية، والتي عدَّها كثيرٌ من الكُتَّاب خطوطاً حمراء لا يمكن في أيّ حالٍ تجاوزها أو مناقشتها..
وللإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في حقوق الإنسان وغاية المجتمع أصولٌ وآراء تمتد لها في الأرض جذورٌ وتعلو لها فروع. أمَّا العلوم الاجتماعية الحديثة فما كانت إلاَّ لتؤيد معظم هذهِ الآراء وهذهِ الأصول. ومها اتخذت العلوم الاجتماعية من صورٍ وأشكال، ومهما اختلف عليها من مُسمَّيات، فإنَّ علَّتها واحدة وغايتها واحدة كذلك. وهما رفع الغُبن والاستبداد عن كاهل الجماعات. ثمَّ بناء المجتمع على أُسس أصلح تحفظ للإنسان حقوقه في العيش وكرامته كإنسان. ومحورها حرية القول والعمل ضمن نطاقٍ
ص: 100
يُفيدُ ولا يُسيء. وتخضع هذهِ العلوم لظروفٍ معينة من الزمان والمكان لها الأثر الأول في تكوينها على هذا النحو أو ذاك(1).
قد كان لعليٍّ بن أبي طالب (عليه السلام) في تاريخ حقوق الإنسان شأنٌ أيُّ شأن. وآراؤه فيها تتصل اتصالاً كثيراً بالإسلام يومذاك وهي تدور على محور من رفع الاستبداد والقضاء على التفاوت الطبقي بين الناس. ومَن عَرفَ الإمام علي بن أبي طالب (عليه اسلام) وموقفه من قضايا المجتمع، أدرك أنَّه السيف المُسلَّط على رقاب المُستبدين الطُغاة. وأنَّه الساعي في تركيز العدالة الاجتماعية بآرائهِ وأدبهِ وحكومتهِ و سیاستهِ، وبكلِّ موقف له ممن يتجاوزون الحقوق العامة إلى امتهان الجماعة والاستهتار بمصالحها وتأسيس الأمجاد
ص: 101
على الكواهل المتعبة.
ولو استعرضنا تاريخ الحركات التحررية الإصلاحية والثورات الاجتماعية في الإسلام وغيره منذ صدرهِ وحتَّى العصور المتأخرة لرأيناها ترجع بوجهتها وأصالتها إلى آراء الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وإلى الأسس العادلة التي أرساها في عهدهِ لمالك بن الأشتر النُخعي (رضوان الله عليه) (ت 38 ه / 658 م) وخلال سيرتهِ الشريفة، التي وضعها لتكوين مجتمع فاضل في حكم فاضل واستطاع بذكائهِ الخارق وبصيرتهِ الفذَّة وبمقدرته الفائقة على الإدراك واستنباط الأحكام وإحاطتهِ التامة بالكتاب والسُنَّة في ظلِّ سلطةٍ عادلة أو حكومةٍ صالحة لأيِّ ظرفٍ وزمان وتتماشى مع الشريعة السماوية دون انفصال، ولذلك لم يؤخذ عليه ما أُخِذَ على غيرهِ..
ولو كانت الصحيفة قد أرست أُسس الاستقرار والتآلف الاجتماعي المبني على قاعدة السِّلم الأهلي
ص: 102
المنَّاع للأزمات الحادة في مجتمع المدينة المنورة أبَّان زمن النبي الكريم (صلى الله عليه وآله)، فإنَّ عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) يُعد تطوراً كبيراً على طريق إدارة وحكم البلاد، التي فُتحت ودخلها الإسلام. يُرسي بكلِّ وضوح المعالم الأساسية لمهمات الحاكم المسلم وحقوق الرعية، وهي من الوثائق التي قلَّ التعامل معها وعرضها لجمهور المسلمين، وهذا في الأساس مايدفعنا لتسليط الضوء على جانب حقوق الإنسان من هذا السِفر الخالد..
ما أشبه ما مُني بهِ كتاب النهج بما مُني بهِ کتاب الله (عزّ وجل)، فقد قال المُنكرون للتنزيل: إنّ القرآن الكريم من کلام مُحمَّد (صلى الله عليه وآله) وليس من کلام الله، وقال المُرتابون في النهج: أنَّه من کلام جامعهِ السيد الشريف الرضي(1) وليس من كلام الإمام (عليه
ص: 103
السلام)(1)، ولو أنهَّم أمعنوا النظر جيداً لعرفوا أنَّ لكلٍّ
ص: 104
من الكلامين طابعه الخاص، الذي يمتاز بهِ عن الآخر بصورةٍ واضحة. فأين کلام مُحمَّد (صلى الله عليه وآله) من كلام الله جل وعلا)؟ وأين كلام الرضي من كلام عليٍّ بن أبي طالب (عليه السلام)؟ وكيف يجوز أن يشتبه هذا بذاك؟ وما اشتبه التِبر يوماً باللُجين.
على أنَّ هناك من الوثائق التاريخية المُعتمد عليها ما لو رجع إليها المُتتبع لأزداد إيماناً ويقيناً بصحة النِسبة وثبوتها بشكلٍ لا يقبل الجدل والارتياب، وهذا ما نَهَد إلى جمعهِ والإلمام بهِ أهل التنقيب والتدقيق(1)، مُبطلين
ص: 105
هذا الزعم بأدلَّةٍ، منها أنَّ خُطَب النَّهج، أو أكثرها، مُدوَّنة في كتب الشيعة وأهل السُنَّة من قبل أن يولد الشَّريف الرَّضي بسنوات(1).
والقول الفَصل في نسبةِ النَّهج إلى الإمام (عليه السلام) هو أن ننظر، ونُحاكم ما جاء فيهِ على أساس كتاب الله (عزّ وجل)، فما وافق منهُ القرآن الكريم فهو من قول الإمام (عليه السلام)، لأنَّه مع القرآن، والقرآن معهُ، وما خالفهُ فلا علاقة لهُ بالإمام (عليه السلام) من قريبٍ، أو بعيد. وقد تواتر عن أئمَّةِ أهل البيت (عليهم السلام) قولهم: (لا تقبلوا علينا خِلاف القرآن، فإنَّا إن تحدثنا بموافقةِ القرآن، والسُنَّة، إنَّا عن الله، وعن رسولهِ نُحدِّث، ولا نقول: قال فُلانٌ، وفُلان، فإذا أتاكم من یُحدثكم بخِلاف ذلك فردُّوه، إنَّ لكلامنا حقيقة، وإنَّ عليهِ لنوراً، فما لا حقيقة لهُ، ولا نور عليهِ
ص: 106
فذاك قول الشيطان)(1).
وقد اجتهد علماء الشيعة على مدى قرون في دحضِ التهم الموجَّهة إلى صحَّة كتاب (نهج البلاغة)؛ وتمَّ تخصيص قَدْرٍ عظيم من العمل المُستنير خلال العقود الأخيرة من أجل إثبات، أولاً، أنَّ المادة المُكوِّنة للنص لا يمكن أن تكون من فعل الرضي (إذ أنَّ الغالبية العظمی منها موجودة في مصادر سبقته زمنياً) وثانياً، أننا نستطيع تتَّبع معظم مادة النص، عِبرَ سلسلةٍ موثوقة من الرواة، إلى الإمام (عليه السلام) نفسه حتَّى ولو لم تصل جميع الأقوال إلى أعلى مكانة في سلَّم صحیح الحديث، أي كونها متواترة (بمعنى أنَّها أحادیث مروية عِبرَ سلاسل عديدة تتكون من رواة موثوقين، لا يمكن الشك فيهم بصورةٍ خطيرة).
ص: 107
يقول مختار جيلي ملخصاً أبحاثه المُستفيضة حول هذهِ القضية: (لا نُكران.. في أن قسماً ضخماً من النَّهج (هكذا) يمكن نسبته فعلاً إلى علي (عليه السلام)، وخاصةً مقاطع تاريخية وتقريظية بعينها، ولو أنَّه من الصعب تأكيد صحَّة الأقسام الأكثر تعرضاً للتشكيك... يُضاف إلى ذلك أنَّه من الممكن تحديد عدد هام من المقاطع المصحوبة بأسانید کاملة، والتي يمكن العودة بتاريخها إلى زمن علي (عليه السلام). وقد جرى اعتماد هذهِ النصوص من قِبل باحثين قدماء من أصحاب الشهرة كالطبري والمسعودي والجاحظ وكثيرين غيرهم)(1).
وما من كلمةٍ في نهج البلاغة إلاَّ ودلَّ عليها القرآن بالتفصيل، أو الإجمال مع العِلم بأنَّ كلام الله قد تفرَّد بخصائص كثيرة لا يُشاركه فيها كلام البشر أيَّاً كان ص: 108
قائله، وهذهِ الحقيقة يُدركها کُلُّ من قرأ قوله (عزّ وجل): «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ»(1).
لا يشك أديب أو مؤرخ أو عالم ديني أو اجتماعي فيا لنهج البلاغة من قيمةٍ كبيرة، وأنَّه في مصافِّ الكتب المعدودة، التي تعد من أمهات مصادر حضارتنا العربية.. كيف لا، و نهج البلاغة هو كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ذلك الذي كان قدوةً مثالية للمسلمين ونبراساً رائداً للمؤمنين، حتَّی أنَّ الخليل بن أحمد الفراهيدي (100 - 170 ه / 718 - 786 م) حين سُئل: ما تقول في عليٍّ بن أبي طالب (عليه السلام)؟ قال قوله المأثور: (احتياج الکُل إليه، واستغناؤهُ عن الکُل، دليلٌ على أنَّه إمام الکُل في الکُل)(2). وبهذا فإنَّ نهج البلاغة يُعد أعظم کتاب
ص: 109
أدبي و ديني وأخلاقي واجتماعي.. بعد القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. وحسبنا من وصفهِ ما قال فيه مِفسِّره الشيخ مُحمَّد عبده: (ولا أعلم إسماً أليق بالدلالة على معناه منه، وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مماد دلَّ عليهِ اسمهُ.. وهو لم يترك غرضاً من أغراض الكلام إلاَّ أصابه، ولم يدع للفكر ممراً إلاَّ جابهُ)(1). وهو أحد المصادر الأربعة، التي لا غِنى للأديب العربي عنها، وهي القرآن الكريم ونهج البلاغة والبيان والتبيين للجاحظ والكامل للمُبرِّد.
هذا وإنَّ كلام الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أرحب من أن تسعهُ المُؤلَّفات أو تستوعبه المُجلَّدات. وما (نهج البلاغة) إلاَّ غيضٌ من فيض، وباقةٌ من بستان، استطاع الشريف الرَّضي أن يجمعها
ص: 110
من المصادر التي كانت في زمنهِ وقبله، وأن يدققها تدقيقاً صادقاً، بما أُوتي من أمانةٍ وعدالة، وأصالةٍ أدبية ولغوية. وقد رتَّبه ترتیباً مبدئياً، فجعل الخُطب أولاً ثمَّ الكُتب والرسائل ثمَّ الحِکَم.
وقد تمَّت لنهج البلاغة شروحٌ كثيرة، يزيد عددها باللغتين العربية والفارسية على أربعين شرحاً، من أهمها:
(معارج نهج البلاغة): شرح فرید خراسان أبي الحسن علي بن زيد بن مُحمَّد بن علي البيهقي النيسابوري (493 - 565 ه / 1100 - 1170 م).
(منهاج البراعة): شرح قطب الدين أبو الحسين سعيد بن هبة الله بن الحسن الراوندي (ت 573 ه / 1177 م).
شرح عزِّ الدين عبد الحميد بن هبة الله بن أبي الحديد المُعتزلي (ت 655 ه / 1258 م).
ص: 111
شرح کمال الدين میثم بن علي بن میثم البحراني (ت 679 ه / 1280 م).
(إعلام نهج البلاغة): شرح السيد علي بن ناصر العلوي السرخسي (من أعلام القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي)(1).
وهناك طبعات كثيرة لشروح نهج البلاغة ذكرها المُحقِّق الدكتور سيد جواد مصطفوي خراساني، وهي: (الشرح المحشی) طبع طهران؛ (الشرح المحشی) طبع تبریز؛ (شرح ملاَّ فتح الله)؛ (شرح فیض الإسلام)؛ (شرح میرزا مُحمَّد باقر اللاهيجاني المشتهر بنواب؛ (شرح ملاَّ صالح القزويني)؛ (الدرَّة النجفية)؛ (شرح ابن أبي الحديد) طبع مصر، طبع بیروت، طبع طهران؛ (شرح محيي الدين الخياط)؛ (شرح الشيخ مُحمَّد عبده) طبعة أولى مصر، طبعة بيروت؛ (شرح محمد حسن نائل المُرصفي)؛ (شرح الحاج میرزا حبیب الله الخوئي)؛
ص: 112
(شرح الدكتور صبحي الصالح)، (في ظلال نهج البلاغة)؛ (شرح الشيخ مُحمَّد جواد مغنية(1).
يحمل عهد الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) بتوليتهِ على ولايةِ مصر الرقم (52) في معظم طبعات نهج البلاغة(2). وبعباراتٍ تاريخية عريضة، أصبح هذا العهد مصدر إلهام عِبرَ القرون، إذ كان يُقرأ كدستور مثالي للإدارة الإسلامية يُكمل (عبر وصفهِ المفصَّل نسبياً لواجبات الحاكم وحقوقهِ وواجبات معظم موظَّفي الدولة وطبقات المجتمع الرئيسة) الإطار العام للمبادئ المُشرَّعة في (دستور المدينة المنورة) الذي أملاه النَّبي الكريم (صلى الله
ص: 113
عليه وآله). غير أنَّ النصائح الواردة في العهد تفوق کثیراً المقاييس الموضوعة تقليدياً بالنصوص السياسية أو القانونية الخاصة بالإدارةِ والحُكم. وبغضِّ النظر عن كونها تُخاطب لأول وهلة الحاكم أو الوالي في الدولة، فإنَّ القسم الأعظم من النصيحة ينتمي في الحقيقة إلى المبادئ الأخلاقية المُطبَّقة عالمياً، ومن ثمّ، فإنَّ صلتها بالمحكومين تُماثل صلتها بالحُكَّام. ولذلك فهي نصٌّ أخلاقي بمقدار ما هي نص سیاسي إنَّها ليست (نظاماً) متنوع الأساليب والأغراض، أو نظرية في الأخلاق، بل تعد مُلهماً، في الحقيقة، عن فضائل روحانية جسَّدها الإمام (عليه السلام) وشعَّت عنه، طبائع فاضت مباشرةً من مصادر الوحي الإسلامي، وتكشف عن جذور الفضيلة والأخلاق في مناخٍ محکوم بمبدأ الوحي الشامل لكلِّ شيء، لذلك من الممكن قراءة هذهِ الوثيقة كتعليق أيضاً على ذلك الوحي، الأمر الذي يُشجِّع، بدورهِ، القارئ على الغوص بعُمقٍ أكبر في المعاني
ص: 114
المُودعة في النصوص المُنزَّلة(1).
كان مالك الأشتر (رضوان الله عليه) تابعاً مخلصاً وعريقاً للإمام (عليه السلام)، وكان يُشار إليهِ على أنَّه واحد من (رجال يدهِ اليُمنى). ويُذكر أنَّ معاوية بن أبي سفيان، المُعارض الرئيس للإمام (عليه السلام) أثناء خروجه عن طاعة الإما (عليه السلام) (37 - 41 ه / 657 - 661 م) التي طغت على فترة خلافتهِ، كان أحد الأشخاص الذين قالوا ذلك بحقِّ مالك (رضوان الله عليه)، وذلك بعد سماعهِ نبأ نجاح مهمَّته في تسميم مالك قبل تمكنه من احتلال منصبهِ والياً على مصر. فقد روى الطبري عن معاوية قوله: (كان لعليٍّ بن أبي طالب يمينان. إحداهما قُطعت في
ص: 115
صفِّين(1) والأخرى اليوم)(2). ومن جهتهِ، كان ردَّ الإمام على أخبار اغتيال مالك على النحو التالي: (مالِك وما مالِك! والله لو كان جبلاً لكان فَنْداً، ولو كان حجراً لكان صَلْداً، لا يرتقيه الحافر، ولا يوفي عليه الطائر)(3).
ص: 116
تأتي دائرة حقوق الإنسان في منظور الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أوسع مما أوردها الفقهاء أثناء معالجاتهم القضائية. فالحقوق عنده (عليه السلام) هي الركن القانوني في نظام العلاقات الاجتماعية، فالمسلم مسؤولٌ عن حقوق الآخرين: حقّ الوالدين، وحقّ الزوجة، وحقّ الابن، وحقّ المُعلِّم، وحقَّ المُربِّي، وحقّ الصديق... إلخ. ونتيجةً لهذهِ الحقوق المُتبادلة يقوم نظام العلاقات الإجتماعية بين الأفراد. أمَّا حقَّ الله (جل وعلا) فهو الدائرة الواسعة التي تشمل حقَّ المجتمع، فهو غير منفصل عن حقوق الناس، بل هو تَبَعٌ لحقوق الناس، وليس العكس. إذ يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (جعل الله سبحانه حقوق عبادهِ مُقدِّمة لحقوقهِ). وبهذا يكون أفضل ما يقوم 117 (1) الآمدي، أبو الفتح ناصح الدين عبد الواحد بن مُحمَّد بن عبد الواحد التميمي (ت ق 6 ه / 12 م)، غُرَر الحِکَم و دُرَر الكَلِم، تحقيق: حسين الأعلمي، ط 1، (بیروت، مؤسَّسة الأعلمی للمطبوعات، 1422 ه / 2002 م)، ص 120.
ص: 117
بهِ الإنسان هو أن يُوصل الحقوق إلى أهلها، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (أفضل الجُودِ إيصال الحقوق إلى أهلها)(1).
نَظَر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى الوجود نظرةً لا يتعطَّل فيها حدٌّ من حدود العقل والقلب والجسد. ولا يطغى فيها تأمُّلُ الإنسان في الكون والاندماجُ في كالاتهِ. على النظر في حقوق الإنسان المُرتبط بالأرض ارتباط عیشٍ وبقاء. أو على النظر في حقوق الجماعة المتعاونة المتكافلة في سبيلِ البقاء وما يقتضيه من مقوِّمات. فهو إمَّا دعا إلى الإعجاب بروعةِ الوجود وعجائب الخلق، دعا في الحين ذاتهِ إلى توجيه الأفراد والجماعات توجیهاً صحیحاً يسير بهم في طريق التعاون الاقتصادي والتكافُل المادي الذي يضمن لهم الوصول إلى الخير الأكبر: إلى المحافظة على كرامةِ الإنسان المُركَّب من فكرٍ يعمل، وعاطفةٍ تتحرك، ص: 118
و جسدٍ له عليك حقٌّ ولك بهِ المعنى المادي من معاني وجودك. وهو إمَّا سعى في تطهير الضمير و تقدیس الشوق وساحة الوجدان، راح في الوقت نفسهِ يسعی في تنظيم مجتمعٍ عادل له قوانين وضعيَّة هي بمثابة الأساس من البناء(1).
هذه واحدةٌ من أبرز مقاطع و موضوعات حقوق الإنسان التي أوردها الإمام (عليه السلام) في عهدهِ لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) (رحمة العدل)، حيث الاقتران بالفقراء یُعزِّز وعيَ الحاكم بحاجتهِ الدائمة إلى الله (جل وعلا)، وهذا ما يُساعده على العيش بصورةٍ دائمة معتمداً على رحمةِ الله، بالأمل والثقة؛ والمصاحب الطبيعي لمثل هذهِ الحياة هو الإنعام بالعطف والرحمة على بني جنس المرء من البشر. ولا تتعارض القدرة على العمل بشفقةٍ ورحمةٍ مع متطلبات العدل، إذا ما
ص: 119
تصورناه على أُسسٍ أنطولوجية Ontology، أي وفقاً للطبيعة الأساسية للحقيقة. والتصرف برحمة يتطابق مع العدل ليس بمعنى وضع الأمور في مواضعها فحسب (إذ علينا أن نمدَّ الرحمة إلى حيثما كانت الحاجة إليها) بل تتلاءم مع العدل من جهةِ كونها تتوافق مع طبيعة الأشياء الحقيقية، أي مع الطبع المطبوع للحق. ولهذا السبب نجد على رأس كلِّ سورةٍ من سور القرآن (ما عدا واحدة) اسم الله متبوعاً بعبارتي (الرحمن الرحيم). بعبارةٍ أخرى، لا تنبع القدرة على التصرف برحمة من مشاعر شخصية إلى هذا الحد كما لو كانت صادرة عن ارتباطٍ مطبوع بطبيعة الحقيقة الإلهية نفسها؛ أي تلك الحقيقة الأسمى التي يقول عنها القرآن: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»(1)؛ أو تلك الحقيقة التي يقول فيها: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ»(2)؛ أو تلك
ص: 120
التي يتقرر فيها طبعُها الجوهري بمبدأ (سَبِقت رحمتي غضبي)(1). ويعثر المرء أيضاً على أقوال عديدة للإمام علي (عليه السلام) بخصوص ضرورة إظهار الرحمة: (توزيع الرحمة يستنزل الرحمة)(2)؛ (کما تَرحَم تُرحَم)(3)؛ (أعجبُ لامرئٍ يرجو رحمةَ مَنْ هو أعلى منه، ولا يرحم مَنْ هو أدنى منهُ)(4).
وفيما يتعلَّق بموضوع الرحمة أيضاً، تعد الفقرة التالية من عهد الإمام (علي السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) عملاً رائعاً لأنَّها تضع ضرورة
ص: 121
الرحمة والشفقة في سياقٍ عالمي، كما إنَّها أحد أكثر التعابير أهميةً للإمام (عليه السلام) حول وحدة الجنس البشري و مساواة جميع بني البشر. إنَّها تقف بارزةً كوسيلة تصحيح لكلِّ أشكال التحامل والتخصيص والتمييز الطائفي، التي قد تُطبِّق العدل أو الرحمة على أعضاء (مجموعة) الفرد فقط، مهما كان تعريفها أو تحديدها: (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، یَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَیُؤْتَی عَلَی أَیْدِیهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللهَّ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَوَالِي الأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَاللهَّ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ، وَقَدِ اسْتَکْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَابْتَلاَكَ بِهِمْ)(1).
ص: 122
إنَّ المُلاءَمَة العالمية لمبدأ الرحمة والعطف قد اجتمعت هنا بمُذکِّرٍ بالسلطة المُطلقة لله (عزّ وجل). فمهما كان الرجل (حاكماً أو والياً يُعيِّنهُ حاكم) فإنَّه ليس بشيء سوى عبدٌ الله، يعتمد على رحمة ربِّهِ بصورةٍ مُطلقة. وهكذا، على كلِّ من يجد نفسه في موقعٍ من التفوق النسبي على الآخرين أن يتذكَّر دائماً ضعفه مقابل المُطلق، إذ يؤدي بهِ هذا الوعي في آنٍ إلى إظهار الرحمة تجاه من هم أدنى منه، واكتساب رحمة الله الذي هو فوقه(1).
ومن ثمّ، فقد كان للإمام (عليه السلام) اهتمام واضح و تشدید بالغ على موضوع الرحمة في عهدهِ لمالك الأشتر (رضوان الله عليه)، واضعاً في طليعةِ هذا العهد مجموعةً من المبادئ العامة، ومن جملتها حقوق الإنسان كإنسان، إلى جانب حقوقهِ كمسلم، منطلقاً مبدئياً من الرحمةِ بالإنسان كإنسان. يقول (عليه السلام): (وَأَشْعِرْ
ص: 123
قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ). وهكذا أسَّس الإمام (عليه السلام) لحقوق الإنسان على مُرکَّبٍ من ثلاثةِ أُسس:
أولاً: يأمره بأن يتحسَّس الرحمة بالإنسان.
وثانياً: المحبَّة للإنسان، وهي غير الرحمة. فالرحمة(1) إنعطافٌ قلبي وشفقة على الشيء الذي ترحمه، ولكن ليس بالضرورة أن تُحبه، فالإمام (عليه السلام) يُضيف إلى الرحمة المحبَّة، بمعنى أن يكون لدى الوالي مودةً للناس بما هم ناس؛ بقطع النظر عن الفوارق الأخرى، فينبغي أن تُقدَّر ظروف الإنسان مُجرداً عن لونه وتوجهاته الفكرية والعقائدية وغيرها؛ فالإنسان إذا عاش في ظروفٍ معينة توجب عليه أن يعتقد ببعض
ص: 124
الأمور اعتقد بها، ولوعاش غيره ظروفاً كظروفهِ الاعتقد بما اعتقده، فينبغي أن تُقدَّر ظروفه انطلاقاً من الرحمة له كإنسان، طبعاً ما لم يكن خطراً على البشرية، فهذا له حسابٌ آخر.
وثالثاً: يأمره (عليه السلام) باللطف بهم، وهو من صفات الحق (جل وعلا) ومن معاني (اللَّطيف) من أسمائهِ الحُسنی (عزّ وجل)، وجاء في الأثر: (تخلَّقوا بأخلاق الله)(1). ويُراد من اللُّطف هنا: التعامل معهم بالمُسامحة والرِفق واليُسر، فالرحمة والمحبَّة من وظائف القلب، بينما اللُّطف أمرٌ عملي، يُراد منه التعامل معهم بوسائل مبنيَّة على اللين والعَطف، فيُخاطب الإنسان بلُطف، وتُدار شؤونه بلطف. ولتكن قرارات الوالي رحيمةً غير شديدة أو شاقَّة، بل مبنيَّة على أساس
ص: 125
التلطَّف بهم، لأنَّ الإسلام دين الرِفق، يقول النبي الكريم (صلى الله عليه وآله): (إنَّ الرِفقَ لاَ يَکُونُ فِي شَيءٍ إلا زَانَهُ، وَلاَ یُنزَعُ مِن شَيءٍ إلا شَانَهُ)(1).
وحينما فرغ الإمام (عليه السلام) من تقرير هذا المبدأ حذَّر من ضدهِ وهو (الوحشية) في التعامل ولو بشكلٍ جزئي کما يفعل البعض حين يخلط بين الإنسانية، حيناً والوحشية حيناً آخر فتغلب وحشيته على إنسانيتهِ، فلو أنَّ أحداً عَدَل مع غيرهِ في كلِّ شيءٍ و ظلمه في مجالٍ واحد فقط لغلب ظلمه عدله وسُمِّي (ظالماً) له، فقال (عليه السلام): (وَلا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ). فلا ينبغي أن يكون همَّ الوالي هو النهب من حقوق الرعية والاعتداء على کراماتهم، بل ينبغي أن يستحضر في ذهنهِ دائماً بأنَّه إنسان وهم كذلك، فيا يتمناه لنفسهِ ينبغي أن يتمناه العدد
ص: 126
لهم، إذ لا فرق بينه وبينهم من ناحيةِ الإنسانية(1).
ويصل الإمام (عليه السلام) الآن إلى نقطةٍ في الرسالة، (العَهد)، يُريد من مالِك (رضوان الله عليه) أن يُوليها اهتماماً خاصاً. إنَّه يبدأ الفقرة(2) بعبارةٍ تعجبية،
ص: 127
(اللهَ، اللهَ) من أجل التشديد على ضرورتها وإلحاحها.
ويتعلَّق التوجيه هنا بأُناسٍ لا مورد لهم على الإطلاق (أهل البؤس والزَّمْنى(1) واليتامى وكِبار السِّن) أولئك الذين هم (أحوج إلى الإنصاف) من غيرهم، والذين يجب مُعاملتهم بطريقةٍ تؤدي إلى (الإعذار إلى الله سُبحانه يوم تلقاه). إنَّ هؤلاء جميعاً، ومعهم أولئك المُحتاجون الذين يرفضون التسول، هم من يجب على الوالي
ص: 128
مساعدتهم، وأن يُعيِّن لهم أحدَ ثِقاتهِ من أهلِ الخَشية والتواضع ليرفع إليه أمورهم. ثمَّ يضيف الكلمات الحاسمة: (وَذَلِكَ عَلَى الْوُلاۃِ ثَقِيلٌ والْحَقِّ کُلُّهُ ثَقِيلٌ، وَقَدْ یُخَفِّفُهُ اللهَّ عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللهَّ لَهُمْ). ولعلَّ هذا من أقوى مصادیق رعاية الإمام (عليه السلام) لحقوق الإنسان، أيَّ إنسان، في ظلِّ إدارة دولتهِ وسياستها الذي أوضح جانباً منها عهده إلى مالِك الأشتر (رضوان الله عليه).
مانريد تسليط الضوء عليه هنا هو أنَّ العنصر الروحي هو ما يجعل الشيء المثالي شيئاً عملياً؛ ولولا ذلك لأصبح حملاً ثقيلاً: المساعدة الإلهية مضمونة الأولئك الذين لا يقتصر اهتمامهم على هذهِ الدنيا فقط، ولكنَّ طلباتهم تتعدَّى حدودها لتعبر إلى الدار الآخرة. وعندما ننظر إلى هذهِ الدنيا على أنَّها ممر إلى الآخرة فحسب، يبرز لدينا موقف تجاه الدنيا يتَّسم بالعدل الكامل. أمَّا أولئك الذين لا تخرج حدود
ص: 129
طلباتهم خارج هذهِ الدنيا فإنَّهم سيكونون ضحية خيار إهمال الفقراء السهل؛ لأنَّه و طبقاً للمقاییس الأفقية للتقييم السياسي، فإنَّ تكاليف إتِّباع سياسة الصدقات تجاه الفقراء والمُحتاجين قد تفوق في وزنها، بالنسبةِ إلى الوالي، ما يتأتَّى إليه من منافع. ويكون ذلك حيث كانت السياسة الأخلاقية مرتبطة بتقدير حصري لهذهِ الدنيا، أو بسياساتٍ براغماتية(1) Pragmatism أو مصالح
ص: 130
شخصية، وتكشف عن عيوب موروثة بعينها. لكن، إذا ما كان مفهوم الحق في ما يتعلَّق بالفقراء مُشبعاً بإیمانٍ ثابت بعدالةِ الله (جل وعلا) لا تلين ورحمة تَسَع كلَّ شيء وتفيض بطلب الآخرة، عندها سيتولَّد موقف من الوفاء الثابت لحاجات الفقراء والمساكين في المجتمع، تحقيقاً لضمان حقوق الإنسان فيه، بل سيستمر في توالدهِ إلى ما لا نهاية.
إنَّ مثل هذا الموقف يذهب بعيداً خارج نطاق المفاهيم المعهودة للصداقة أو الکَرَم. لأنَّ من أدرك هذا الموقف من الكمال لن یکون قابلاً لتقبُّل أيَّ اقتراح معاكس ينبع من براغماتيةٍ أنانية أو فردية، وبصورةٍ أقل
ص: 131
من اللامبالاة أو العناد وقوة الشكيمة. بهذا الموقف الثابت في المكان يأتي ذِكْرُ الإمام (عليه السلام) للصفة التالية، صِفة الاحتمال والصبر، والتي تجري هنا بصورةٍ طبيعية؛ لأنَّه، في ضوء الاستشعار الملموس، وليس المفهومي فحسب، للقِيَم المُطلقة موضوع البحث، يمكن مدَّ الصبر والاحتمال إلى ما لا نهاية إذ لا يعود معتمداً على الإرادة الشخصية وحدها، بل يُستَدام بتقوية النعمة التي تجري من إيا مُستَشعَر بالقلب.
ويستكمل الإمام (عليه السلام) النقطة المذكورة أعلاه بإشارةٍ إلى أولئك الذين لهم طلبات مُحقَّة، ولديهم، كنتيجة لذلك، ثقة عظيمة بحقيقةِ وعد الله (جل وعلا)، إذا ما كان وعد الله بالجزاء، وبعدالتهِ التي لا تخذل، ورحمتهِ اللامحدودة كونها حقيقة، ثمَّ الدافع وراء جهد الوالي لمدِّ الرحمة إلى الفقراء والتعامل معهم بعدالةٍ سيتعمَّق بصورٍ لا تُقاس. وتتحول المهمة التي يصفها الإمام (عليه السلام) ب(الثقيلة) - أي واجب
ص: 132
مساعدة الضعفاء والمساكين، وهي المساعدة التي لا يمكن أن تتأتَّى عنها أيَّ منافع سیاسية - تتحول إلى واجب لا مفرَّ منه مُلزم لقناعات المرء الروحية. وتجد هذهِ القناعة أو الاعتقاد أرضيةً لها في اليقين بأنَّ مثل هذا الكرم والرحمة هي أمور حَسَنة ومُحقَّة ومناسبة فحسب، بل إنَّ مثل هذهِ الفضائل إنَّما هي في تناغم وانسجام مع الجوهر الصحيح والقريب للحقيقة المُطلقة. إنَّ المضامين (الأخلاقية) للحقيقة (الروحية) والصدى الروحي المتردد للفضيلة أيضاً محجوبة عن الحُكَّام الدنيويين بتحاملهم المستور في أحسن الأحوال، و بقبائحهم المستورة في أسوأها. ومثل هؤلاء الحُکَّام غافلون أيضاً عن التحذيرات والتهديدات بالعقاب للظالمين. ويمكن النظر إلى الظالمِ هنا على أنَّه ذلك الذي يعصي الأوامر الإلهية بالعدل، والذي يخرق أيضاً، وهذا هو المهم أساساً، صفة الرحمة الواقعة في قلب الطبيعة
ص: 133
الإلهية(1). هذهِ الصفة التي نادى بها وحاول بيانها وإيضاحها علي بن أبي طالب (عليه السلام) خلال عهدهِ لواليه على مصر مالِك بن الأشتر النُخعي رضوان الله عليه.
كان (عليه السلام) یُجسِّد العدالة الإنسانية ببُعديها الفردي والاجتماعي، إذ تجلَّت عدالة الإنسان في حدود حياتهِ الفردية وعدالتهِ في مضمار الحكم والسلطة تلك التي نطلق عليها (العدالة الاجتماعية)(2) Social Justice
ص: 134
في حياةِ أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام). وعلينا أن نعرف ذلك بنيَّةِ تطبيقهِ عملياً لاسيَّما بالنسبةِ الأولئك الذين تحملون المسؤوليات في المجتمع ويتبوأون موقعاً في الحكومة، فلقد تمثَّلت العدالة الفردية بأعلى درجاتها في شخصية الإمام (عليه السلام)، وذلك ما نُعبِّر عنه ب(التقوی)، تلك التقوى التي كان (عليه السلام)
ص: 135
یُجسِّدها في عملهِ السياسي والعسكري وفي توزيعهِ لبيت المال وفي قضائهِ وجميع شؤونهِ. ومن ثمّ، تمثل العدالة الفردية أو الذاتية في الواقع سنداً للعدالةِ الاجتماعية.
قدَّم الإمام (عليه السلام) درسه الخالد لكلِّ الذين یُمارسون دوراً على الصعيد السياسي المجتمعاتهم، فهو (عليه السلام) في هذا المجال يقول: (مَن نَصَّبَ نفسهُ للناسِ إماماً فعليهِ أن يبدأ بتعليم نفسهِ قبل تعليم غيرهِ، ولیکن تأديبه بسيرتهِ قبل تأديبه بلسانهِ)(1). إذ بإمكان اللسان النُطق بالكثير، أمَّا ما يأخذ بيدِ الإنسانية لسلوك صراط الله (عزّ وجل) فهو سيرة وأفعال من يقع عليهِ الاختيار ليكون إماماً للناس سواء على المجتمع أو أدنی مستوىً من ذلك(2).
ص: 136
ولم يكتفِ الإمام (عليه السلام) أن يقوم هو بنفسهِ بالعدل، وإنَّما كان يؤکِّد على عمَّالهِ ومن يُولِّيهِ على البلدان والأمصار. حيث قال (عليه السلام) في عهدهِ لمالِك الأشتر (رضوان الله علیه): (وَلْيَکُنْ أَحَبَّ الأمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِیَّةِ). ومن عهدٍ (عليه السلام) إلى مُحمَّد بن أبي بکر (رضوان الله عليه) (10 - 38 ه / 631 - 658 م) حين قلَّده مصر: (فَاخفِض لَهُم جَنَاحَكَ، وَأَلِنْ لَهُم جَانِبَكَ، وَأبسُط لَهُم وَجهَكَ، وآسِ بَينَهُم فِي اللَّحظَةِ وَالنَّظرَةِ حَتَّى لا يَطمَعَ العُظَمَاءُ فِي حَيفِكَ لَهُم وَلاَ يَيأَسَ الضُّعَفَاءُ مِن عَدلِكَ بِهِم، فَإنَّ اللهَ تَعَالَى يُسَائِلُكُم مَعشَرَ عِبَادِهِ عَنِ الصَّغِیرَةِ مِن أَعمَالِکُم وَالكَبِيرَةِ، وَالظَّاهِرَةِ وَالمَستُورَةِ، فَإنْ يُعَذِّبْ فَأنتُم أظلَمُ، وإنْ يَعْفُ فَهُوَ أكرَمُ)(1). ومن كتابٍ لهُ (عليه السلام) إلى الأسود بن قَطِيبَةَ صاحِب حُلوَان: (أمَّا بَعدُ فَإنَّ الوَالِيَ إذَا اختَلَفَ
ص: 137
هَوَاهُ مَنَعَهُ ذَلِكَ كَثِيراً مِنَ العَدلِ. فَليَكُن أمرُ النَّاسِ عِندَكَ فِي الحَقِّ سَوَاءً فَإنَّهُ لَيسَ فِي الجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ العَدلِ. فَاجتَنِب مَا تُنکِرُ أمثَالَهُ)(1).
ومن هذا المتقدم يتضح لنا أنَّ آراء الإمام (عليه السلام) تُعد مقياساً يجب على الكل التفكير والعمل على وفقها، التي يمكن عدّها في هذهِ المسألة المهمة أبرز نموذج لمعرفة معنى العدالة الاجتماعية الحقيقي ومُراعاة المساواة بين الناس وفي العدالة التي من المفترض أن تحكم علاقة الحكومات بشعوبها.
وقد يجوز لنا أن نورد حادثة توضح بشكلٍ جيد تطبيق الإمام الرحيم لمبدأ العدل إضافةً إلى كونها تعبيراً عن مبدأ أشرنا إليه سابقاً وهو أنَّ الناس جميعاً هم (نظيرٌ لك في الخَلق). التقى الإمام (عليه السلام) مصادفةً متسولاً أعمى عجوزاً، فسأل عنه. فقيل: له أنَّ المتسول نصراني، فقال لمن حوله: (لقد استعملتموه،
ص: 138
حتَّى أصبح عجوزاً ضعيفاً، وترفضون الآن مساعدته. أعطوه من بيت المال ما يُقيم بهِ أودَهُ)(1). يُضاف إلى ذلك، أنَّ هذهِ الجملة تُعبِّر بإيجاز شديد عن مبدأ المصلحة الاجتماعية الإسلامي، الذي يقوم على إعادة توزیع عادلة وسياسة من عدم التمييز بين المسلمين وغيرهم بصورةٍ صارمة. فالعدالة الاجتماعية والمساواة الدينية تنبعان منسابتين من الرحمة التي لا يُنظر إليها كأحد المشاعر فقط، بل كبُعد منطبع في الحق. ولذلك، فإنَّها تُترجَم إلى واجب ديني أساسي مفروض على كلِّ المسلمين، حُکَّاماً ومواطنين، لا فرق.
وجدير بالذكر أنَّ الجملة الأخيرة من الفقرة المذكورة سابقاً، وهي التي تُحذِّر الحاكم من اعتبار السلطة الممنوحة له على رعاياه، ليست ببساطة امتيازاً،
ص: 139
وإنَّما امتحاناً من الله (عز وجل)، تُعبِّر بوضوح عن موقف الإمام (عليه السلام) الخاص من الحُكم. لقد قال في الخطبة الشهيرة ب(الشِقْشِقيَّة) إنَّه لم يقبل بالسلطة إلاَّ لأنَّها واجب لا يمكن التهرب منه: (أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِیَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ لاَيُقَارُّوا عَلَى کِظَّةِ ظَالِم وَلاَ سَغَبِ مَظْلُوم، لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِکَأْسُ أَوَّلِهَا، وَلأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاکُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَطْفَةِ عَنْز)(1).
نرى في ذلك تمثلاً باهراً لموقف أفلاطون المثالي من السلطة؛ السلطة التي يحملها (الفيلسوف) الحق، ذلك الذي يتحمل عبء الحكم من أجل الناس فحسب: (ولا یعدّها تمييزاً بل مهمة لا مجال لتجنبها... ينصب اهتمامه على الحق ومايستجلبه ذلك من شرف، وفوق ذلك كلَّه، يرعى العدل بكونه شيئاً لا غِنىً عنه، ومن أجلهِ وأجل
ص: 140
ضمان سلامته، يعملون على إعادةِ تنظيم دولته)(1).
ومن ثمّ، فقد ابتدأ أمير المؤمنين (عليه السلام) عهده لمالِك الأشتر (رضوان الله عليه) بالأمر، بقوله: (هَذَا مَا أَمَرَ بهِ عَبْدُ اللهَّ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بنَ الْحَارِثِ الأَشْتَرَ (رضوا الله عليه) فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاَّهُ مِصْرَ). مُشْرِعاً بهذا الأمر یُعدد الواجبات التي ينبغي على مالك الأشتر (رضوا الله عليه) القيام بها، والأمور التي عليهِ مُراعاتها، وحقوق الناس التي يجب تأديتها. مبيناً لهُ أنَّ الحاكم ما هو إلاَّ مسؤول مُؤتمن على حقوق الناس، وخدمتهم، وعدل الحاكم هو ما يوجب على الرعية إتباعه. والمُتدبِّر في قراءةِ العهد يجد أنَّ الإمام (عليه السلام) كان قد أنكر أن يكون الحاكم والحكومة سلطة مُتجبِّرة مُتسلِّطة على رؤوس الناس، بل أن يكون الحاكم والحكومة في خدمةِ الناس، ومُداراتهم،
ص: 141
وإلاَّ تحولت الحكومة إلى منصب دنیوي يلهث وراءه كلّ من يُحب الدنيا ومغرياتها، وكلّ باحثٍ عن جاه، وهذا ما حذَّر منه الإمام (عليه السلام) ونبَّه عليه، وخوَّف من عاقبتهِ في الدنيا والآخرة.
وأخيراً، فقد أكَّد الإمام (عليه السلام) في عهدهِ للأشتر(رضوان الله عليه) على جملةٍ من القواعد والقوانين التي تُدار و تُحكم عن طريقها الدولة، وتُراعي شؤون الرعية، فحينها توجه مالِك (رضوان الله عليه) لإدارة شؤون مصر كان مزوداً بدستور حکمٍ ناضج ومُكتمل القواعد والشروط، وبما يوفِّر العدل والمساواة ويحفظ كرامة الإنسان وحقوقهِ، مؤکِّداً على عِمَارة البلاد واستصلاحها، والابتعاد عن الطمع و حُبِّ الشهوات، والإلتزام بالذِكر الحَسَن، والعمل الصالح. كما أكَّد (العهد) على الرحمةِ بالرعية واللُطف بهم، وعدم ظُلم الآخرين. وقد أوصى الإمام (عليه السلام) مالِكاً (رضوان الله عليه) إلى الحذر من دعوةِ المظلوم، وإلى عدم المساواة بين المُحسِن والمُسِيء، وإلى مُدارسةِ
ص: 142
العلماء والحكماء.. وأراد منه أن يُولي اهتماماً خاصاً بذوي الحاجات والمَسْکَنة والفقراء، وأن يعمل على بثِّ العيون لمُراقبة الحُکَّام، وليس مراقبة المحكومين کما تفعل الأنظمة المُستبدة على مرِّ العصور، وأن يعمل على مُداراة اليتامى وكِبار السِّن، والابتعاد عن المَنِّ على الرعية والتواضع ونشر العدل والإنصاف والعفو والصَفح، وقضاء حاجات الناس، وقول الحق، والعمل على نشر المساواة بين الناس.. وموضوعاتٍ أخرى كثيرة وردت في هذا العهد الذي أنفذه الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه) ليكون دستور حکمٍ يعتمد عليهِ في حكم مصر.
وهكذا، فإنَّ حقوق الإنسان ليست مجرد شعارات تُطلق فحسب، بل هي أحكام وتقنيات إدارية، وإنَّها مبادئ جسَّدها رموز الإسلام الكِرام في مواقفهم العملية لاسيَّما النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيتهِ الطيبين الطاهرين.
ص: 143
المصادر 1. ابن أبي الحديد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله (ت 656 ه / 1258 م)، شرح نهج البلاغة، (القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، د.ت.).
2. ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي (ت 852 ه / 1448 م)، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تحقيق: عبد القادر شيبة الحَمَد، ط 1، (الرياض، 1421 ه / 2001 م) 3. أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين بن مُحمَّد (ت 356 ه / 967 م)، مقاتل الطالبيين، تحقيق: أحمد صقر، (طهران، منشورات ذي القربی، 1425 ه / 2004 م) 4. أبو عليه، عبد الفتاح حسن، تاریخ الأمريكيتين والتكوين السياسي للولايات المتحدة الأمريكية، (الرياض، دار المريخ للنشر، 1407 ه / 1987 م).
5. أعمال المؤتمر الدولي حول )الرحمة في الإسلام(، الذي أقامته جامعة الملك سعود، كلِّية التربية، قسم الدراسات الإسلامية، الرياض، 1430 ه، 13 مُجلَّد 6. البخاري، أبو عبد الله مُحمَّد بن إسماعيل (ت 256 ه / 870 م)، الأدب المفرد، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، ط 3، (بیروت، دار
ص: 144
البشائر الإسلامية، 1409 ه / 1989 م).
7. بدوي، ثروت، النُظُم السياسية، (القاهرة، دار النهضة العربية، د.ت.).
8. بشیر، محمد عمر، تاريخ الحركة الوطنية في السودان (1900 - 1969)، ترجمة: هنري رياض وآخرون، (الخرطوم، الدار السودانية للكتاب، 1400 ه / 1980 م).
9. بیضون، لبيب، تصنیف نهج البلاغة، ط 2، (طهران، مكتب الإعلام الإسلامي، 1408 ه) 10. الجبوري، حیدر کاظم، مصادر الدراسة عن نهج البلاغة، 165 (النجف الأشرف، العتبة العلوية المقدسة، 2013 م).
11. الجدة، رعد ناجي وآخرون، حقوق الإنسان والديمقراطية، (بغداد، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، 2009 م) 12. جرداق، جورج، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية.. علي وحقوق الإنسان، (البحرين، دار ومكتبة صعصعة، 1423 ه / 2003 م) 13. الجلالي، محمد حسين الحُسيني، مُسنَد نهج البلاغة، ط 1، (قم، مكتبة العلاَّمة المجلسي، 1431 ه) 14. جيلي، مختار، )نهج البلاغة(، طهران، الموسوعة الإسلامية، ط 2، م 7 15. الحاكم النيسابوري، أبو عبد الله مُحمَّد بن عبد الله (ت 405 ه / 1014 م)، المُستدرك على الصحيحين، (بیروت، دار الكتب العلمية، 1990 م).
ص: 145
16. الحر العاملي، مُحمَّد بن الحسن (ت 1104 ه / 1693 م)، تفصیل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، (قم، مؤسَّسة آل البيت (عليه السلام) لإحياء التراث، د.ت.) 17. الحقيل، سلیمان بن عبد الرحمن محمد، حقوق الإنسان في الإسلام والرد على الشُبهات المثارة حولها، (الرياض، 1415 ه / 1994 م).
18. الخراساني، جواد المصطفوي، الكاشف عن ألفاظ نهج البلاغة في شروحهِ، (طهران، دار الكتب الإسلامية، د.ت.) 19. الخطيب، عبد الزهراء الحُسيني، مصادر نهج البلاغة و أسانیده، ط 3، (بیروت، دار الأضواء، 1405 ه / 1985 م) 20. الرشيدي، أحمد وعدنان السيد حسين، حقوق الإنسان في الوطن العربي، (دمشق، دار الفكر، 2002 م). 21. الريسوني، أحمد وآخرون، حقوق الإنسان.. محور مقاصد الشريعة، ط 1، (قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1423 ه).
22. الزركلي، خير الدين، الأعلام، ط 15، (بیروت، دار العلم للملايين، 2002 م) 23. الزعبي، فاروق فالح، حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي.. دراسة تحليلية مقارنة، مجلَّة الحقوق، مجلس النشر العلمي، الكويت، العدد 4، السنة 29، ذو القعدة 1426 ه / ديسمبر 2005 م.
24. زهران، فريد، الحركات الاجتماعية الجديدة، ط 1، (القاهرة،
ص: 146
مرکز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2007 م).
25. السامر، فيصل، ثورة الزنج، الآمدي، أبو الفتح ناصح الدين عبد الواحد بن مُحمَّد بن عبد الواحد التميمي (ت ق 6 ه/ 12 م)، غُرَر الحِکَم و دُرَر الكَلِم، تحقيق: حسين الأعلمي، ط 1، (بیروت، مؤسَّسة الأعلمی للمطبوعات، 1422 ه / 2002 م) 26. ستیس، ولتر، تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، (القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1984 م).
27. سوادي، فليح، عهد الخليفة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لواليهِ على مصر مالك الأشتر، (النجف الأشرف، العتبة العلوية، 2010 م) 28. السيد برعي، عزت سعید، حماية حقوق الإنسان في ظلِّ التنظيم الدولي الإقليمي، ط 1، (القاهرة، مطبعة العاصمة، 1985 م)، ص 4.
29. السيد حسين، عدنان، حقوق الإنسان في الإسلام، ط 1، (بیروت، المؤسَّسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1426 ه / 2006 م).
30. سيف الدولة، عصمت، النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية، (القاهرة، دار الموقف العربي، د.ت.).
31. شريعتي، روح الله، فقه التعايش.. غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.. حقوقهم وواجباتهم، تعريب: علي آل دهر الجزائري، (بیروت، مركز الحضارة التنمية الفكر الإسلامي، 2009 م).
32. شمس الدین، محمد مهدي، ثورة الحُسين.. ظروفها الاجتماعية
ص: 147
وآثارها الإنسانية، (قم، مطبعة ستارة، 2006 م) 33. الشيرازي، ناصر مکارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، (بیروت، مؤسَّسة الأعلمي للمطبوعات، 2007 م). 34. صحيح مسلم، تحقيق: نظر محمد الفاريابي، ط 1، (الرياض، دار طيبة، 1427 ه / 2006 م) 53. ط 2، (بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 2012 م).
36. الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد (ت 360 ه / 918 م)، المعجم الوسيط، تحقيق: طارق عوض الله، (القاهرة، دار الحرمين، 1415 ه / 1995 م) 37. الطبري، أبو جعفر مُحمَّد بن جریر (ت 310 ه / 923 م)، تاریخ الرُسُل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، (القاهرة، دار المعارف، 1979 م) 38. الطوسي، أبو جعفر مُحمَّد بن الحسن (ت 460 ه / 1068 م)، اختیار معرفة الرجال المعروف ب)رجال الكشِّي(، تحقيق: جواد القيومي الأصفهاني، (قم، مؤسَّسة النشر الإسلامي، 1427 ه) 39. عبد الحسين، شذى عبد الصاحب، مجتمع المدينة من خلال القرآن الكريم.. الجوانب السياسية والاجتماعية.. دراسة تأريخية، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة ديالى ، كلِّية التربية، 2005 م. 40. عبده، مُحمَّد، شرح نهج البلاغة، (بیروت، دار المعرفة، د.ت.) 41. العذاري، محمد عبد الرضا، واقعة فخ سنة 169 ه.. أسبابها ونتائجها، رسالة ماجستير غير منشورة، كلِّية التربية، الجامعة
ص: 148
المستنصرية، 2009 م 42. عطية، نعيم، القانون والقيم الاجتماعية.. دراسة في الفلسفة القانونية، (القاهرة، الهيأة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971 م).
43. عفراوي، أياد دخیل، سياسة المجتمع عند الإمام علي (عليه السلام)، رسالة ماجستير غير منشورة، الجامعة المستنصرية، كلِّية التربية الأساسية، 1437 ه / 2015 م 44. عكلة، مثال حسن، الثورات العلوية الشعبية في العراق وأثرها في نشوء الفرق الإسلامية حتَّى عام 334 ه، رسالة ماجستير غير منشورة، كلِّية التربية، الجامعة المستنصرية، 2010 م 45. العمري، أحمد سويلم، مجال الرأي العام والإعلام، (القاهرة، الهيأة المصرية العامة للكتاب، 1957 م).
46. الغزالي، محمد، حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة، ط 4، (القاهرة، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 2005 م).
47. الفخر الرازي، أبو عبد الله مُحمَّد بن عمر بن الحسن الطبرستاني القَرَشي (ت 604 ه / 1208 م)، تفسير الفخر الرازي المُشتهر بالتفسير الكبير ومفاتیح الغیب، ط 1، (بیروت، دار الفكر، 1401 ه / 1981 م) 48. القبانجي، حسن السيد علي، شرح رسالة الحقوق، ط 3، (قم، مطبعة إسراعیلیان، 1416 ه / 1996 م).
49. القشيري، أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري
ص: 149
(ت 261 ه / 875 م) 50. کارتر، جوندولین و جون هيرز، نظام الحكم والسياسة في القرن العشرين، ترجمة: ماهر نسیم، (القاهرة، دار الكرنك للنشر والطبع والتوزيع، 1962 م).
51. كاظمي، رضاشاه، العدل والذكر.. تعریفٌ بروحانية الإمام علي، ط 1، (بیروت، دار الساقي ومعهد الدراسات الإسماعيلية، 2009 م) 52. المالكي، فاضل، حقوق الإنسان، (طهران، مؤسَّسة البحوث والدراسات الإسلامية، 2012 م).
53. متولي، عبد الحميد، الحريات العامة.. نظرات في تطوراتها وضاناتها ومستقبلها، (الإسكندرية، منشأة المعارف، 1975 م).
54. المجلسي، مُحمَّد باقر (ت 1111 ه / 1698 م)، بحار الأنوار، تحقيق: عبد القادر عطا، (بیروت، مؤسَّسة الوفاء، د.ت.).
55. مدني، السيد محمد، مسؤولية الدولة عن أعمالها المُشرعة.. القوانين واللوائح في القانون المصري.. دراسة مقارنة، أطروحة دكتوراه غير منشورة، القاهرة، جامعة فؤاد الأول، كلِّية الحقوق، 1953 م.
56. مركز دراسات الكوفة، وثيقة المدينة، (الأعمال الكاملة الأبحاث المؤتمر العلمي السنوي الأول لمركز دراسات الكوفة، شباط / 2012 م)، النجف، مؤسَّسة النبراس للطباعة والنشر والتوزيع، 2012 م.
57. معجم القاموس المحيط، تحقيق: خليل مأمون شيحا، ط 4،
ص: 150
(بیروت، دار المعرفة، 1430 ه / 2009 م) 58. مغنية، محمد جواد، في ظلال نهج البلاغة.. محاولة لفهمٍ جديد، تحقيق: سامي الغريري، ط 1، (قم، دار الكتاب الإسلامي، 1425 ه / 2005 م) 59. مفتي، محمد أحمد وسامي صالح الوكيل، حقوق الإنسان في الفكر السياسي الغربي والشرع الإسلامي.. دراسة مقارنة، (القاهرة، دار النهضة الإسلامية، 1413 ه / 1992 م).
60. المقرم، عبد الرزاق الموسوي، زيد الشهيد بن علي بن الحُسين بن علي بن أبي طالب، (قم، مطبعة شریعت، 1427 ه / 2006 م).
61. المنياوي، أحمد، جمهورية أفلاطون.. المدينة الفاضلة کما تصورها فيلسوف الفلاسفة، ط 1، (دمشق، دار الكتاب العربي، 2010 م) 62. نعمة، عبد الله، مصادر نهج البلاغة، (بیروت، مطابع دار الهدی، 1392 ه / 1972 م) 63 .هانیماكي، يوسي إم، الأمم المتحدة.. مقدمة قصيرة جداً، ترجمة:
محمد فتحي خضر، ط 1، (القاهرة، مؤسَّسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013 م).
64. هوبز، توماس، اللفياثان.. الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة: ديانا حبیب حرب وبشرى صعب، مراجعة وتقديم: رضوان السيد، ط 1، (أبو ظبي، هيأة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، 1432 ه / 2011 م). 65. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس،
ص: 151
(بیروت، دار صادر، 1968 م) 66. وفيق، محمد، موسوعة حقوق الإنسان، (القاهرة، الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، 1970 م).
المصادر الأجنبية Sandoz, Ellis, The Roots of Liberty, London: Liberty Fund Inc.; Liberty Fund Ed edition Wadād Al-Qādī, An Early Fatimid Political Document, Studia Islamica Dhalla, Maneckji Nusservanji, Our Perfecting World: Zarathushtra's Way of Life, New York: Kessinger 2008 ,.Publishing LLC
ص: 152
المحتويات مقدمة المؤسسة...5
مقدمة...9
المبحث الأول: حقوق الإنسان في الفكر الغربي...15
مواثيق الحقوق:...23
إعلانات الحقوق الدولية:...35
المبحث الثاني: حقوق الإنسان في الفكر والشريعة الإسلامية...47
حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر:...66
المبحث الثالث: دراسة مقارنة بين الفكرين الغربي والإسلامي...73
المبحث الرابع: الإمام علي (عليه السلام) وحقوق الإنسان...97
نهجُ البَلاَغَة.. بين صِحَّة الانتساب وأهمية المضمون...103
حقوق الإنسان في عهدِ أمير المؤمنين (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)...113
ص: 153