الفلسفة الأخلاقية ومبادئ حقوق الإنسان في فكر الإمام علي (علیه السلام) رؤية علمية علي ضوء عهد الإمام علي (علیه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه)

هوية الکتاب

الفلسفة الأخلاقية ومبادئ حقوق الإنسان في فكر الإمام علي (علیه السلام) رؤية علمية علي ضوء عهد الإمام علي (علیه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه)

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1730 لسنة 2017 م مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda.

9789933582111 ISBN

رقم تصنيف BP 38. 09. A4 S3 2017 :LC المؤلف الشخصي: السيمري، إحسان عيدان عبد الكريم. العنوان: الفلسفة الأخلاقية ومبادئ حقوق الإنسان في فكر الإمام علي (علیه السلام): رؤية علمية على ضوء عهد الإمام علي (علیه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) /. بيان المسؤولية: تأليف الأستاذ الدكتور إحسان عيدان عبد الكريم السيمري، تقديم السيد نبيل الحسني الكربلائي. بيانات الطبعة: الطبعة الأولى. بيانات النشر: کربلاء: العتبة الحسينية المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة.

1438 ه = 2017 م.

ص: 1

اشارة

9789933582111 ISBN رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1730 لسنة 2017 م مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda.

رقم تصنيف BP 38. 09. A4 S3 2017 :LC المؤلف الشخصي: السيمري، إحسان عيدان عبد الكريم. العنوان: الفلسفة الأخلاقية ومبادئ حقوق الإنسان في فكر الإمام علي (علیه السلام): رؤية علمية على ضوء عهد الإمام علي (علیه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) /. بيان المسؤولية: تأليف الأستاذ الدكتور إحسان عيدان عبد الكريم السيمري، تقديم السيد نبيل الحسني الكربلائي. بيانات الطبعة: الطبعة الأولى. بيانات النشر: کربلاء: العتبة الحسينية المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة.

1438 ه = 2017 م.

الوصف المادي: 120 صفحة. سلسلة النشر: دراسات في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) - وحدة الدراسات الأخلاقية؛ 6 - مؤسسة علوم نهج البلاغة. تبصرة ببيلوغرافية: يتضمن هوامش - لائحة مصادر والمراجع (الصفحات 114-118). تبصرة محتويات: موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين بن موسی، 359 - 406 هجرياً - نهج البلاغة، عهد مالك الأشتر. موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجرياً - أحاديث. موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریاً - رسائل. موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریاً - وحقوق الإنسان. موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریاً - ونظرياتهُ الاجتماعية. مصطلح موضوعي: علم النفس الاجتماعي. مصطلح موضوعي: الإسلام والدولة. مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الإسلام - جوانب أخلاقية وسلوكية. مصطلح موضوعي: الإسلام - جوانب اجتماعية. مصطلح موضوعي: الإسلام والإدارة. مؤلف إضافي: الحسني، نبيل قدوري حسن، 1965 م، مقدم. مؤلف إضافي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين بن موسی، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر.

عنوان إضافي: نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر.

ص: 2

سلسلة دراسات في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) وحدة الدراسات الأخلاقية (6) الفلسفة الأخلاقية ومبادئ حقوق الإنسان في فكر الإمام علي (علیه السلام) رؤية علمية على ضوء عهد الإمام علي (علیه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) تأليف أ. د. إحسان عيدان السيمري

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1438 ه - 2017 م العراق: کربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الأكبر علیه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815012633 الموقع:

www.inahj.org Email: Inahj.org@gmail.com تنويه: إن الأفكار والآراء المذكورة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

مقدمة المؤسسة

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما أهم والثناء بما قدم من عموم نعمٍ ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد و آله الطاهرین.

أما بعد:

فإن من أبرز الحقائق التي ارتبطت بالعترة النبوية هي حقيقة الملازمة بين النص القرآني والنص النبوي ونصوص الأئمة المعصومين (عليهم السلام أجمعين).

وإنّ خير ما يُرجع إليه في المصادیق لَحديث الثقلين «كتاب الله وعترتي أهل بيتي» هو صلاحية النص القرآني لكل الأزمنة متلازماً مع صلاحيّة النصوص الشريفة للعترة النبوية لكل الأزمنة.

وما كتاب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) لمالك الأشتر (عليه الرحمة والرضوان) إلا أنموذجاً واحداً من بين المئات التي زخرت بها المكتبة الإسلامية والتي اكتنزت في متونها الكثير من الحقول المعرفية مظهرة بذلك احتياج الإنسان إلى نصوص الثقلين في كل الأزمنة.

من هنا:

ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تخصص حقلاً معرفياً ضمن نتاجها المعرفي التخصصي في حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) و فكره،

ص: 5

متّخذة من عهده الشريف إلى مالك الأشتر (رحمه الله) مادة خصبة للعلوم الإنسانية التي هي أشرف العلوم و مدار بناء الإنسان وإصلاح متعلقاته الحياتية وذلك ضمن سلسلة بحثية علمية والموسومة ب(سلسلة دراسات في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله)، التي ستصدر بإذن الله تباعاً، حرصاً منها على إثراء المكتبة الإسلامية والمكتبة الإنسانية بتلك الدراسات العلمية والتي تهدف إلى بيان أثر هذه النصوص في بناء الإنسان والمجتمع والدولة متلازمة مع هدف القرآن الكريم في إقامة نظام الحياة الآمنة والمفعمة بالخير والعطاء والعيش بحرية وكرامة.

والبحث الموسوم ب(الفلسفة الأخلاقية ومبادئ حقوق الإنسان في فكر الإمام علي (عليه السلام) رؤية علمية على ضوء عهد الإمام علي (عليه السلام) المالك الأشتر (رضوان الله عليه)، واحد من هذه البحوث التي تناولت الحقل المعرفي في الفلسفة الأخلاقية ومبادئ حقوق الإنسان على ضوء المبادئ والأسس التي جاء بها العهد الشريف إلى مالك الأشتر.

فجزى الله الباحث كل خير فقد بذل جهده وعلى الله أجره

السيد نبيل قدوري الحسني رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 6

خلاصة البحث

ص: 7

ص: 8

خلاصة البحث

ان المسير مع الحقوق الإنسانية التي طالب الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام وان يعيش في ظلها الانسان تعد خطوة مهمة ومتقدمة على زمانه و قد ظلت نبراساً يضيء طريق الشعوب والثوار وان انت احصيت الثائرين على المظالم في العهد الاموي والعباسي [ولاحقاً كذلك خصوصاً في العراق] لقيت علياً إمامهم. وان انت احصيت غايات هذه الثورات التي زلزلت الشرق قروناً طوالاً وقضت مضاجع الطغاة الفيتها الغايات الاجتماعية التي من اجلها كافح علي واليها دعا وفي سبيلها استشهد، وهذه الغايات الاجتماعية والاقتصادية قد صاغها الأمام بواسطة جملة من الحقوق اقرها علیه السلام لصالح الإنسان فقد دخل الإمام علیه السلام في أدقّ التفاصيل في العلاقات العامّة، ثُمّ أعطى السُبل الصحيحة والمُناسبة لتفادي حالات السقوط والانهيار. وقد أشار إلى القوى التي تُبعّد عن الفساد والخلل الذي ربما يحدث في أيّ وقت، ثُمّ ربط الهياكل المُكوّنة لهذه العلائق وطبيعتها، وحدّد الطُرق الواجب اتّخاذها كمنهج عملي وعلمي لتسيير دورة الحياة اليوميّة، فلم يترك شيئاً ويأخذ آخر.

ص: 9

إنّ الإمام علي عليه السلام جعل كلّ الأمور التي يعيش بها الخلق من سلوك وتعامل وتبادل و تناصح، بل العلاقات العامّة والصيغ المُتبادلة في العمل وفق ما أراده الله تعالى؛ لأنّ الباري جل جلاله أوجب هذه لتلك بموجب قانون إلهي، وهو التساوي في وجوه الحقّ المفروض على الناس، بحيث جعل فيها التناسق والنظام والتلازم وبدونها لا يصلح شيء في المسيرة الإنسانيّة، وكذلك هذا الوجوب لا يكون بعضه إلاّ ببعض، ثُمّ بيّن علیه السلام ذلك بصورة واضحة:

وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلكَ الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِی عَلَی الرَّعِیَّةِ وَحَقُّ الرَّعِیَّهِ عَلَی الْوَالِی، فَرِیضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِکُلٍّ عَلَی کُلٍّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَعِزّاً لِدِینِهِمْ.

إنّ الحقوق التي فرضها الله تعالى على الجانبين كما ذكرها الإمام علیه السلام فيها الجوانب المُهمّة والدعائم الأساسيّة لثبات کیان المجتمع وحفظ مظاهره الإيجابيّة وصورة نظامه، هذا إذا شعر الوالى بأنّ الله قد فرض له حقوقاً على رعيّته، وكذلك حقوقاً للرعيّة على الوالي، وبحفظهما وعدم الإخلال بتوازنهما تكون (نظاماً لأُلفتهم)، وبهذه الأُلفة وهذا التعاون والمحبّة والصدق في نيّاتهم وضمان تسديد الحقوق إلى مُستحقّيها والالتزام اتجاه بعضهم بعضاً هي الضمان الحي للمسيرة الصالحة. إنّ علياً يوحّد ثوريّة الحياة وخير الوجود روحاً و معنی، فأشدّ ما رأيناه يوحّد معنى التطوّر، أو ثوريّة الحياة، بمعنى الوجود توحيداً لا يجعل هذا شيئاً من تلك ولا تلك شيئاً من هذا، بل يجعل ثورية الحياة كلاً من خير الوجود وخير الوجود کلاً من ثورية الحياة، فالثوريّة في المبدأ العلوي أنّها في تطوّر لا يهدأ في سبيل الخير، وهذا التطور في ما يُفاد من مذهب ابن أبي طالب، سنّة طبيعية لا يمكن لقوةٍ من القوى أن تعوقها أو تقف في سبيلها.

ص: 10

فرضية البحث

ينطلق البحث من فرضية مفادها «ان للامام علي بن ابي طالب علیه السلام رؤية مميزة لحقوق الانسان تتسم بالشمولية والعمق والتطبيق العملي لتلك الحقوق من جهة، ويمكن الإفادة من هذه الرؤية لمعالجة اشكالية حقوق الانسان في واقعنا المعاصر، من جهة اخرى».

منهجية البحث

ان طبيعة موضوع الدراسة واحتوائه على عدة عناصر رئيسة كالتاريخ، والفقه، والسياسة، قد حددت منهجية البحث بالمنهجين التاريخي والتحليلي بشكل رئیس والإفادة كذلك من المنهج المقارن كلا اقتضت الضرورة ذلك.

ص: 11

ص: 12

المقدمة

ص: 13

ص: 14

المقدمة

إنّ الدولة أو السلطة الزمنيّة - كما يُعبَّر عنها - لها دور كبير في بناء المجتمع، وتحديد طبيعة مسيرته بالصورة التي تؤمن بها، سواءً أكانت ذات أيدلوجيا مُحدّدة تعتمد أو تتخذ منهجاً هامشيّاً غير واضح الأهداف والمعالم، أو أنّها مُجرّد سيطرة راعي على رعيّته، وقد وضع كثير من الفلاسفة نظريّاتهم في هذا الأمر، وذاك هوبز مثلاً يرى (أنّ الدولة تكوين صناعيّ بمقتضى تعاقد إرادي) بمعنی أنّ المجتمع لم ينشأ تلقائيّاً، وإنّما إرادة الناس هي السبب في وجود المُجتمع، ومسؤوليّة الملك والحكومة إنّما هي توفير الفرصة لإشباع غرائز الأنانيّة لدى الأفراد في المجتمع، وبالتالي فإنّ على هؤلاء الأفراد الالتزام بالقوانين التي تصدرها الحكومة.

هذه واحدة من النظريّات في السلطة والمُجتمع التي حدّدت مسؤوليّة السلطة في إطار إشباع غريزة الأنانيّة لدى الأفراد، ثُمّ إنّ من واجب الأفراد الالتزام بالقوانين الصادرة من السلطة.

أمّا (جون لوك)، (فيرى أنّ حالة الطبيعة لم تكن أبداً حالة حرب وصراع وأنانية، بل كانت حالة يعيش فيها الإنسان حُرّاً، ويتصرّف على أساس عقلي،

ص: 15

وكان من شأنه أن يُخفّف من آثار الحريّة المُطلقة، وليس معنى ذلك أنّ حالة الطبيعة تخلو من المتاعب والأنانيّة والصراع، بسبب فساد بعض الأفراد، ولخلوّها من أسباب الاستقرار الثلاثة التي حدّدها (لوك) على النحو التالي:

أ- قانون مُستقرّ واضح.

ب- قاضي عادل يحكم بين الأفراد.

ج- قوّة تنفيذ تستطيع تنفيذ القانون.

ومن هنا فإنّ (لوك) يعترف بحالة الفطرة كحقيقة تاريخيّة، ولكنّه ينظر إليها من منظور اجتماعي...، وقال: إنّ الأفراد فيها مُتساوون في الحقوق والواجبات بالطبيعة، بعدّهم أفراداً في مجتمع طبيعي أسبق من المجتمع المدني أو السياسي، عاشوا في رحابه مُنذ نعومة أظفارهم، وكان رأي لوك أنّ الحياة التي تزداد تشابكاً يوما بعد يوم لم تكن لتسير هكذا، وإنّما كان من الضروري الاتفاق على شخص ما لكي يتولّى تنفيذ القانون الطبيعي دون تحيُّزٍ لزيدٍ أو لعمرو، ومن هنا اتّجه التفكير إلى إيجاد سلطة عُليا وظيفتها إقامة العدل بين الناس، وتنظيم حريّتهم التي يتمتّعون بها مُنذ عهد الفطرة، وبذلك اصطلحوا على إبرام عقد بينهم وبين شخصٍ ما). إنّ لوك أقرب في رأيه ونقاطه التي حدّدها إلى الموضوعيّة من غيره، ولكن هذه النظريات التي أتعب الفلاسفة أنفسهم في استخراجها لم تكن متكاملة المضمون واضحة الأهداف مناسبة للتطبيق العملي، إنّما هي أفكار مبتورة، وتصوّرات جاء بعضها غير موضوعي أساساً، فهي في أحيان كثيرة أشبه ما تكون بالأماني الفارغة. وبقيت المجتمعات في حالة من الغثيان من عُقم تلك الافكار وابتعادها عن واقع الأمر

الامام نبراس ومشعل الحرية:

ص: 16

الامام علي بن ابي طالب علیه السلام النموذج الإنساني في التقوى، والزهد، والعدل، والاستقامة، والفروسية، والشجاعة؛ رجل الانسانية الذي تدفقت منه الحكمة، والفلسفة، والعلم، هذا الحكيم والفيلسوف الزاهد الذي تشرب بالعلم والحكمة من ابن عمه سید الانبياء والمرسلين الرسول الاعظم محمد صلی الله علیه و آله وسلم الذي قال: خير الناس من نفع الناس، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، لا فرق بين اعجمي وعربي الا بالتقوى، الناس سواسية كأسنان المشط.

لقد تربی سید الفصاحة والبلاغة والفروسية في كنف وأحضان النبوة، ليترجم ذلك عمليا في أفعاله وأقواله، ويقدم لنا وللتأريخ البشري قناديل مضيئة ومشاعل يقتدي بها، فالحاكم يمثل الجموع بلا استئثار أو فردانية أو استغلال بل يعمل لصالح الرعية وحفظ مصالحها وتحقيق العدالة(1).. لا كما تقوله الميكافيلية من أجل مصلحتك فليسحق الآخرين، التي أرست قيم السياسة المشوهة التي تستبيح الكرامات، والحرمات لمآرب ذاتوية (الغاية تبرر الوسيلة) تخص الحاكم و كيفية قيادته وكأنما الناس - قطيع وليس ببشر. أو السياسة الغربية والشرقية بمبادئها التي تدعي كما شرعها فلاسفة اللبرالية بسياسة الخطوة خطوة، أو خطوتين الى الامام وخطوة الى الخلف، أو خذ وطالب، أو إكذب إكذب حتى يصدقك الناس، أو بديماغوجية الاعلام المضلل والمصالح الاستعمارية والاستعبادية التي جلبت مئات الحروب في تأريخنا الانساني وملايين الضحايا والمعاقين والمشردين والجياع، وهذه صورة العالم البائسة أمام مرآى ومسمع الأمم المتحدة والجمعية العامة والمنظمات الدولية(2)، فأين العدالة في توزيع الثروات وحقوق الانسان، والفقراء بالارض

ص: 17


1- الشريف الرضي (الجامع)، نهج البلاغة، تعليق وفهرسة، د. صبحي ص 54
2- مرتضى العسكري، عبد الله بن سبأ وأساطير اخری، م 1، ط 1، 1992، ص 48؛ وما بعدها

لا أحد يسمع صرخاتهم وحشرجات الألم المتكسرة بصدورهم؟!! فيما يجسد العهد العلوي أرقى التقنينات والاطر الانسانية لحياة يسودها الرخاء وينعم بها الانسان بالسعادة، والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي دون حروب أو عنف أو تسلط...

الرأفة بالرعية:

یقنن الامام للعالم في عهده المالك الأشتر (رضوان الله عليه) أسلوب الحكم والرأفة بالرعية في نسق علمي و معرفي وحضاري، تنهل جميع الشعوب من عهده المبارك الذي يعد اهم وثيقة تأريخية في اقامة العدل والمساواة، إستقاها أمير البلاغة وسيد الفصاحة من المنهج القرآني والنبوي الشريف، فالعهد العلوي صك لحقوق الانسان المستل من الشرع المقدس(1)....

کما ورد في القرآن الكريم: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (النحل: 90)

يذكر الشيخ المفيد (قدس سره):

(فخرج مالك الأشتر رضي الله عنه فأتى رحله وتهيأ للخروج إلى مصر، وقدم أمير المؤمنين علیه السلام أمامه كتاباً إلى أهل مصر(2):

بسم الله الرحمن الرحيم

«سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله الصلاة على نبيه محمد وآله، وإني قد بعثتُ إليكم عبداً من عباد الله لا ينام أيام

ص: 18


1- محمد حسين فضل الله، على ميزان الحق، تحرير صادق اليعقوبي، ط 1، بیروت، دار الملاك، 2003، ص 27 وما بعدها
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 2، بیروت، دار إحياء الكتب العربية، 1967

الخوف، ولا ينكل عن الأعداء حذار الدوائر، من أشد عبيد الله بأساً، وأكرمهم حسباً، أضر على الفجار من حريق النار، وأبعد الناس من دنس أو عار، وهو مالك بن الحارث الأشتر، لانابي الضرس ولاكليل الحد، حلیمٌ في الحذر، رزين في الحرب، ذو رأي أصيل، وصبر جمیل، فاسمعوا له وأطيعوا أمره، فإن أمركم بالنفير فانفروا وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لايقدم ولا يحجم إلا بأمري، فقد آثرتكم به على نفسي نصيحة لكم، وشدة شكيمة على عدوكم. عصمكم الله بالهدى وثبتكم التقوى، ووفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» -

التجارة والحياة الاقتصادية:

بالطبع سایکولوجية النفس البشرية مجبولة على حب المال، والسلطة؛ لذلك يقع المحذور دوما من خلال الانجراف وراء المغريات المادية عند الحاكم او سواه؛ الا الانبياء والمعصومون ومن ينهج وفق الجادة المستقيمه ويتصف بالنزاهة والاخلاص، من هنا وثيقة العهد العلوي هي محاولة تأسيسيه معرفيه.. وفكريه.. اخلاقية.. وروحية.. لتجنيب الحاكم الهفوات في ادارته(1)،... وهي وصايا بالرفق بالتجار، والاغنياء، والفقراء، وادارة الشؤون الاقتصادية بحنكة ودراية دون التفريط بأي حقوق. فالعامل الاقتصادي له الدور الاساس في تلبية حاجات الناس وإشباع رغباتهم وتوفير المواد والمستلزمات الضرورية لإدامة الحياة، وقد أكد على منع الاحتكار والتلاعب بالاسعار واللهاث وراء الجشع وكان الامام يقول: لو كان الفقر رجلا لقتلته!!.. وماجاع فقير الا بما مُتع غني

ص: 19


1- ابن الأثير، عز الدين علي الشيباني. الكامل في التاريخ، مراجعة محمد يوسف (بيروت، دار الكتب العلمية)

فما ورد بالعهد الشريف مثالا على ما اقوله(1):

«سترضي بالتجار وذوي الصناعات وأوصي بهم خيرا والمقيم بهم والمضطرب بماله والمترفق بيديه فإنهم سواد المناخ أسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح في برك ويحرك شهبك وجيلك وحيث لا يلتم الناس لمواضعها ولايحترثون عليها فإنهم سلم لالتحاق یا ثقة وصلح لا تخشى عائلته وتقصد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك. واعلم مع ذلك ان كثير منهم ضيقاً فاحشا وشحاً قبيحاً احتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات وذلك باب معزه إنعامه وبحيث على الولاة فامنع من الاحتكار فان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم منع منه وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين البذل ولا يحيف بالفريقين من البايع والمبتاع فمن قارف حكره بعد نهيك إياه فثكل به وعاقبته في غير إسراف ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين، والمحتاجين وأهل البؤس والزمن فان هذه الطبقة قانعاً ومعتراً واحفظ الله ما ستحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من نحلات صواني الاسلام في كل بلد فان للأقصى منهم مثل الذي للادني وكلاً قد استرعیت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر فانك لاتعذر بتضيعيك التامة لاحكامك الكثير المهم فلاتشخص همك عنهم ولا تصعر خدك لهم وتفقد امور من لا يصل أليك منهم ممن تقتحمه.

العيون وتحقره الرجال من اهل الخشية والتواضع فليرفع اليك امورهم ثم اعمل فيهم بالاعذار الى الله يوم تلقاه، فان هؤلاء من بين الرعية احوج الى الانصاف من غيرهم وكل فاعذر الى الله في تأدية حقه اليه وتعهد اهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة لهه ولاينصب للمسألة نفسه

ص: 20


1- ابن أبي الحديد، مصدر سابق، ط 2

وذلك على اقوام طلبوا العافية فصيروا انفسهم ووثقوا بصدق موعد الله لهم واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفزع لهم بيه محصر وتجاس لهم مجلسا عاما، فتواضع فيه لله الذي خلقك وتقصد عنهم جندك واعوانك احراسك وشرطك متى يكلمك متكلم غير متمتع فاني سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول لن تقدس امة لايؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متمع ثم احتمل الخرق منهم والعي ونج عنهم الفبق والانفة يبسط الله عليك بذلك اكتاف رحمته ويوجب لك ثواب طاعته واعط ماعطيت هنيئاً وامتع في اجمال واعذار. ثم امور من امورك لابد لك من مباشرتهم منها اجابة عمالك منها يعيا عنه كتابك ومنها: اصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك فيما تخرج به صدور اعدائك لكل يوم عمله فان لكل مافيهثم انظر في حال كتابك امورك خيرهم، واخصصت رسائلتك التي تدخل فيها مكائدك واسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الاخلاق فمن لا تبطره الكرامة فيجتري بها عليك في خلافلك بحضرة ملاء ولا تقصر به الغفلة عن ایراد امکانیات عمالك عليك، واصدار جواباتها عل الصواب عنك فيما يأخذ لك ويعطي منك، ولا تضعف عقداً اعتقده لك ولا يعجز عن اطلاق ما عقد عليك ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الامور فان الجاهل بقدر تقره يكون بقدر غيره اجهل.

بالنفس فيقول الوالي مالي وللبلاد وعمراتها اليوم هنا وغداً لاعلم این المقر فلابد من جمع المال على عجل اما جشعا وحباً في المال اوطلباً لارضاء من قوته بالتملق والتظاهر بالاخلاص في اداء الواجب اوليذل الرشاد والهدايا لحواشي الملوك والحكام ليدفعوا عنه طائلة الحساب، او يكفوا عنه اذی الوشاة ويؤكد عليها ان ذلك سبيل معوج وسياسة فاشلة ويستكثر على الولاة

ص: 21

للسالكين هذا السبيل عدم اتعاطتم بمن كان قبلهم واعتبارهم بما تالوه من الفشل وسوء المنقلب».

للإمام علي بن أبي طالب علیه السلام صفات خاصّة تَميّز بها عمّن سواه من مُعاصريه وسابقيه والمتأخّرين عنه، ولا غلو في ذلك، فمنها - على سبيل المثال لا الحصر - سابقته في الإسلام، وجهاده المستميت في سبيله حتى ثبتت أركان الدين، علاوة على أخلاقه التي ليس لها مثيل، إلا تلك التي حملها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، إضافة إلى كثير من الصفات الحميدة ممّا أحصاه الكُتّاب والمؤرّخون، التي لا مجال لحصرها.

لقد کُتبَ كثير بشأن الإمام علي علیه السلام، إلّا أنّنا نجد في كلّ مرّة حَدثاً جديداً، أو مادّة غير مطروحة، أو بحثاً نافعاً وذا علاقة بحياتنا وتاريخنا بكلّ صوره، وما إلى ذلك. وفي هذا البحث المتواضع الذي يتعلّق بالفكر الاجتماعي عند الإمام علي عليه السلام لا أدّعي أو أفاخر قائلاً بأنّني أحطّت بكلّ ما يتعلّق بالموضوع، إلاّ أنّي أشكر الله سبحانه وتعالى الذي وفّقني إلى هذا الحدّ من المعرفة، والبحث في فكر هذا الرجل الإلهي الذي أفصح عن شيء من مكنونات حقيقته ولده الإمام الحسن المجتبی علیه السلام في كلام له بعد استشهاده حين قال علیه السلام:

«والله، لقد قُبض فيكم الليلة رجلٌ ما سبقه الأولون إلاّ بفضل النبوة، ولا يُدركه الآخرون، وإنّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كان يبعثه المبعث فيكتنفه جبريل عن يمينه ومیکائیل عن يساره».

ص: 22

حقوق الإنسان الإمام علي علیه السلام

ص: 23

ص: 24

حقوق الإنسان عند الإمام علي علیه السلام

في خضم ما تمر به الأمة الإسلامية في عالمنا المعاصر من تحديات جمة ألقت بظلالها القائمة على وجود امتنا ومستقبلها تبرز قضية (حقوق الإنسان) ببعديها النظري والعملي كتحد مهم وصعب ينبغي الاستجابة له، لاسيما مع محاولة تعميم النموذج الغربي المحصن بمنظومة فكرية تمتلك بعض عناصر القوة، - وان احتوت على سلبيات وتناقضات كثيرة - وممارسة عملية مميزة، على الرغم من محدودیتها، فانها تنفرد بوصفها الماثلة للعيان والشاخصة في الاذهان دون غيرها.

ومن الناحية الاخرى فان هناك حالة من الانهزامية واليأس داخل نفوس اکثر ابناء الامة الإسلامية، وهم يعيشون يومياً ابشع انتهاك لآدميتهم في ظل حكومات استبدادية ومؤسسات اجتماعية واقتصادية تحطم انسانيتهم كلما تحركوا لتغيير واقعهم المرير، غير متناسين مجموعات من وعاظ السلاطين التي ارتدت، من غير وجه حق، طیلسان الدين وأضحت تصوغه على وفق رؤی اصحاب السلطة وبما يضفي شرعية زائفة على سياستها الخاطئة(1).

ص: 25


1- ابن عنبه، جمال الدين بن أحمد، عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، تصحيح محمد حسن آل الطالقاني، ط 2، النجف، المطبعة الحيدرية، 1962

وهكذا فقد الانسان المسلم حقوقه بين النص والواقع والقيم العالمية والسمة الخصوصية، والایمان بحقوق الانسان وادعاء الدفاع عن تلك الحقوق وافراغها من محتواها الحقيقي. وفي هذا اليم المتلاطم تلوح سفينة النجاة الاسلامية التي اغنت الانسانية بتجربة مميزة كان الامام علي بن ابي طالب علیه السلام من روادها ومن المساهمين الفاعلين في تثبيت دعائم الاسلام و تجربته في شتى نواحي الحياة ومنها حقوق الانسان(1).

فهذا هو الإمام علي في تعامله مع النص لا يعده سيفا مسلطا على الإنسان ولا النص وسيلة يسيرها الإنسان حيثما شاء وعلى وفق أهوائه و مصالحة، لكنه اداة للسمو بالإنسان معنويا وماديا وهذا ما اسهم في نظرة الامام علي علیه السلام لحقوق الإنسان، وهناك كثير من الدلالات والآراء بهذا الصدد وصلت الينا على الرغم مما عاناه الفهم العلوي للاسلام من خطة لمحاربة ما سمي ب(فقه المعارضة) من السلطات الحاكمة التي تعرضنا الى جانبٍ منه(2).

وتعد تجربة الامام علي علیه السلام من أثرى التجارب الإسلامية سواء من الناحية الموضوعية أم الذاتية، وقد استمد هذا الاثراء اهميته من امور عدة اهمها:

1. زخم جوهري لشخص الإمام وارائه وسلوکه کمثال وقدوة حسنة سواء في القرآن الكريم أم في السنة النبوية، وقد مدحه معاصروه سواء كانوا من مناصريه ومناؤيه.

2. الاحداث المهمة التي مرت بحياة الإمام، كتجربة عملية ونظرية، منذ وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم الى اغتياله عام 40 ه.

ص: 26


1- ابن شادان، الفضل، الإيضاح، تحقيق السيد جلال الدين الحسيني
2- ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، تصحيح وشرح لجنة من أساتذة النجف، النجف، المكتبة الحيدرية، 1956

3. الموروث العلمي والحضاري من أفعال وأقوال نسبت للإمام، في شتی الميادين، وهنا لابد من ذكر موقفنا من كتاب (نهج البلاغة)، حيث نعتقد بضرورة التعامل بايجابية مع ما ورد في النهج وليس بقدسية اخذين بنظر الاعتبار المعايير التي ذكرناها سابقا في كيفية التعامل مع النص، وهو منهج مستمد من فكر الإمام علي وليس دخيلا عليه.

4. بروز حالة القتال بين المسلمين بصورة تميزت عما سبقها زمنيا، وكذلك تطور حالة المعارضة السياسية وتبلور الانقسامات داخل المجتمع الإسلامي.

5. ازدياد الوعي والعمق الفكري خصوصا اثر الانفتاح على الحضارات الاخرى بعد الفتوحات الإسلامية في فارس والشام ومصر. وهذه المناطق المفتوحة ذات موروث حضاري مهم ألقي بظلاله على الحياة الفكرية والسياسية للدولة الإسلامية انذاك.

وبناء على ما ذكرناه، يمكن القول إنه على الرغم من تباین نظرة الفرق الإسلامية للأمام علي الا ان الإمام کان تجسيدا حيا للاطروحة السماوية المتمثلة بالشريعة الإسلامية بروافدها: القرآن الكريم، السنة النبوية، وابداع الإنسان المتمكن في تعامله مع النص(1).

ومن المنهج الإسلامي في نبعه الصافي الاصيل اكتسب الإمام نظرته الى الحياة وقيمتها في ضمن المسيرة البشرية، اذ تشكلت رؤيته للانسان كقيمة عليا و محور هذا الكون، فيخاطب علیه السلام الانسان قائلا:

وتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الاكبرً

ص: 27


1- ابن عابدين الحصفکی، الدر المختار، شرح تنوير الأنصار، بیروت، دار الفكر للطباعة والنشر، 1995

ويجعل الإمام هذا المخلوق افضل الموجودات، اذا ما حقق إنسانيته، إذ يقول بنظرة تحليلية:» ان الله عز وجل ركب في الملائكة عقل بلا شهوة، وركب في البهائم شهوة بلا عقل وركب في بني ادم کليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة ومن غلب شهوته عقله فهو شر من البهائم»(1). وهنا نتلمس معیار قيمة الانسان حين يربطها الإمام بمسألتين:

الاولى: إنه انسان منتم الى الاسرة البشرية من ابناء ادم وحواء، فيترتب على هذا الموقع حقوقاً اساسية ومن اهمها (حق الحياة).

الثانية: درجة الايمان والعمل الصالح، وهي درجة اسمي، لا ينالها الجميع، ولكن لا تجعل من يملكها افضل الاوفق المعيار الايماني وهو معیار معنوي، «ليس على وجه الارض اکرم على الله من النفس المطيعة لامره» على علیه السلام وفق قول الامام علي يلا وان الانسان هو خليفة الله في ارضه والكائن الذي امتاز بمعرفة الخالق و تكليفه بالعبادة فلقد كان من دعاء الامام علي علیه السلام:

«الهي كفي بي عزا ان اكون لك عبدا وكفى بي فخرا ان تكون لي ربا».

ويجمل المفكر جورج جرداق الرؤية العلوية الجليلة الى معنى الحياة بانها هي «الاصل وعليه تنمو الفروع».

لقد تعامل الإمام مع الحياة بواقعية، فلم يشغل فكره بمسائل الخلود وما شابه إذ آمن ان الموت مسالة حتيمة و «ان الموت طالب حثيث لايفوته مقیم الاعتداء موجودة وسوف تستمر وتتفاقم لذا تصدى الفكر العلوي لهذه الجريمة في محاولة للحد منها اعتمادا على عنصرين:

1. عنصر معنوي انساني، داخلي.

ص: 28


1- ابن کثیر، أبو الفداء اسماعيل، البداية والنهاية، تحقيق وتعليق على الشيري، ط 1، بیروت، دار احياء التراث العربي، 1988

2. عنصر قانوني مادي، خارجي.

فبالنسبة للعنصر الانساني، استمرارية الإمام بتوجيه خطابه دائما للانسان من اجل الانسان، أي يقوم بدور التربية والارشاد والتصحيح للمسيرة الانسانية، ويحذر كل من يفكر ان يزهق روحاً بغير وجه حق، قائلاً «ثلاثة لا يدخلون الجنة [اولهم] سفاك الدم الحرام» وينبه علیه السلام من اقتراف هذه الجريمة كونها ذنباً لا يغفر، «فمن الذنب الذي لا يغفر ظلم العباد بعضهم لبعض وان الله تبارك وتعالى اذا برز لخلقه اقسم قسم على نفسه فقال: وعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم، ولو كف بكف ولو مسحة بكف».

الا ان الزواجر الاخلاقية وهذا البعد الديني الغيبي قد يشكل رادعاً مهما، ولكن بالتأكيد ليس للجميع فهو غير مجدي مع من امتهن الاجرام او أعماه الطمع، فهناك من يكون «الصورة صورة انسان والقلب قلب حيوان» كما يصفهم الإمام فيسعون لتحطيم الكيان البشري و قطع رسالته الحضارية فيتصدى لهم الإمام مادياً وقانونياً وذلك هو العنصر القانوني المادي الخارجي فيؤكد علیه السلام وفقاً لذلك مسألة القصاص، وهو اجراء عملي يفسر الإمام بعض ابعاده بقوله: «فرض الله سبحانه القصاص حقنا للدماء» ويعقب مفکر اسلامي على ذلك قائلا «قد شرع الله سبحانه القصاص واعدام القاتل:

1. انتقاما منه.

2. زجرا لغيره.

3. تطهيرا للمجتمع من الجريمة التي يضطرب فيها النظام العام ويختل بها الامن»(1).

ص: 29


1- أبو عبيدة، القاسم بن سلام، کتاب الأموال، تحقيق وتعليق محمد خليل هراس، بیروت، دار الكتب العلمية، 1986 م

وقد كان الإمام على الصعيدين الفكري والعملي حاسما في موضوع القصاص من الدماء على وفق تفاصيل فقهية قانونية متعددة من جهة، والمساواة في حق الحياة للجميع من جهة اخرى، إذ اشار على الخليفة الثاني بقتل اكثر من شخص بشخصٍ واحد ثبتت جنایتهم بقتله، وذلك بعد تردد بعضهم في ذلك. وروي عن علي انه قتل ثلاثة قتلوا واحدا وانه قتل حرا بعبد قتله عمداً وقتل الرجل بالمرأة بل ان في معتقد علي «من قتل يهوديا او نصرانيا قتل به»(1).

واعلن الإمام ان رئيس الدولة وولاته وكبار موظفيه وصغارهم يخضعون على حدٍ سواء لقانون صيانة الدماء، أي القصاص فيقول في عهده للاشتر «اياك والدماء وسفكها بغير حلها، فانه ليس شيء ادعى لنقمة ولا اعظم لتبعة ولا احری بزوال نعمة، وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد، فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوین سلطانك بسفك دم حرام، فان ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لان فيه قود البدن.

والحقيقة هناك جملة من الأمور يمكن تلمسها في هذا النص، منها:

1. تأكيد حرمة الدماء وان حق الحياة مكفول للجميع، إذ كان الحديث عن الدماء بصورة عامة وليس دماء المسلمين دون غيرهم.

2. المساواة بين الحاكم والمحكوم، من حيث لا ضمانات للمنصب او شاغله في موضوع التعدي على الدماء والحياة.

3. ان سفك الدماء يثير الغضب والنقمة بين الشعب مما يؤدي إلى الاضطراب وهو من الأسباب المهمة للثورات لان «لكل دم ثائرا،

ص: 30


1- ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين، لسان العرب، قم، منشورات الحوزة، 1405

ولكل حق طالبا» على وفق وصف الإمام(1).

وبناءً على احترام الإمام لحق الحياة نلاحظ انه حكم على جريمة التحريض او الأمر بالقتل أو بعقوبة أخرى تتناسب مع الجرم والشكل القانوني للجريمة وكان علیه السلام يقول «من أعان على مؤمن فقد برئ من الإسلام» وأشار الإمام كذلك إلى عملية القتل المعنوي وذلك بهدم كرامة الإنسان وسمعته وعد ذلك بمثابة اغتيال له اذ يقول: «من استطاع منكم ان يلقى الله تعالى وهو نقي الراحة من دماء المسلمين وأموالهم سلیم اللسان من إعراضهم فليفعل».

من بين المميزات الرئيسية للرؤية العلوية لحقوق الإنسان تبرز مسألة تقدیسه علیه السلام للحياة وانعكاس ذلك على إقراره مبدأ مسؤولية الحكومة والمجتمع اتجاه حياة الإنسان وانه «لا يبطل دم امری مسلم» وان «الدم لا يبطل في الإسلام»، ان الانعكاس العملي لهذا المبدأ كان على صعيدين الأول حفظ دماء المسلمين وان كانوا في غير بلاد الإسلام، والثاني حفظ دماء من هم تحت حكم الإسلام كافة، وبغض النظر عن ديانتهم وانتماءاتهم، هذا على الصعيد النظري(2).

أما الصعيد العملي فان النموذج العلوي في الحكم کرس مبدأ حق الحياة وصيانتها وجعل منه حقا للشعب إزاء الحكومة، إذ تعامل مع حفظ الحياة، کمبدأ وليس عملية يمكن له استغلالها سياسيا او تتدخل فيها عوامل ذاتية ومصلحية لحادث الاعتداء على الحياة ومن ثم تخرج عن الهدف المتمثل بصيانة الدماء ابتداءً، فمثلاً أصر الإمام على إقامة الحد بحق عبيد الله بن الخليفة عمر بن الخطاب بعد ان قتل ثلاثة أنفس لمجرد الظن والاتهام وكان أول خطاب للإمام

ص: 31


1- الأردبيلي، علي بن عیسی، کشف الغمة في معرفة الأئمة، بيروت، دار الأضواء
2- الاردوبادي، محمد بن علي، علي وليد الكعبة، تحقيق مؤسسة البعثة، قسم الدراسات الإسلامية، ط 1، طهران، مؤسسة البعثة، 1412 ه

علي علیه السلام، كرئيس للدولة، يؤكد حرمة الإنسان بشكل عام وسلامة حياته بشكل خاص فيقول: «ان الله حرم حرما غير مجهولة، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها وشد بالإخلاص والتوحید حقوق المسلمين والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده الا بالحق، لا يحل اذي مسلم الا بما يجب ... اتقوا الله في عباده وبلاده فأنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم»(1).

واصبح الدفاع عن حياة الناس هدفاً أساسياً لحكومة الإمام، فقد فسر علیه السلام أسباب اقدامه على الحرب في معركة الجمل، عندما سئل «ارایت القتلى حول عائشة والزبير وطلحة، بم قتلوا؟ قال الإمام: قتلوا شيعتي و عمالي ... فسالتهم ان يدفعوا الي قتلة اخواني اقتلهم بهم، ثم كتاب الله بيني وبينهم فأبوا علي، فقاتلوني وفي اعناقهم بيعتي ودماء الف رجل من شيعتي فقتلتهم هم». وكان علیه السلام يؤكد هذا الحق قائلاً: «فو الله لو لم يصيبوا منهم الا رجلاً واحداً متعمدين لقتله لحل لي بذلك قتل الجيش كله». وكذلك الحال بالنسبة للخوارج في معركة النهروان وما بعدها اذ كان الدافع الرئيسي لحربهم «لانهم سفكوا الدم واخافوا السبيل».

ووفقاً لما تقدم يمكننا القول ان حفظ الدماء، وصيانتها والحاق القصاص بالمعتدين مهما كانت أسماؤهم او مناصبهم كان من الروافد المهمة للسياسة العلوية على ارض الواقع، ولابد من الإشارة في هذا المجال الى مبدأين على جانب من الأهمية بشأن حفظ الحياة:

الاول: مسالة التقية.

الثاني: ان حفظ النفس الإنسانية أولى من تطبيق النصوص الشرعية.

ص: 32


1- الاسكافي، أبو جعفر محمد المعتزلي، المعيار والموازنة، تحقيق الشيخ محمد باقر المحمودي، بيروت، مكتبة الحياة

إن هذين المبدأين يتشكلان نتيجة للفهم العلوي العميق للإسلام، والذي أشرنا لبعض من سماته سابقا، فقد روي عن الإمام قوله: «التقية ديني و دين اهل بيتي»، والتقية - كمبدأ اول - بمعناها العام هي «التحفظ عن ضرر الظالم بموافقته في فعل او قول مخالف للحق» وهي اداة لحفظ النفس والعرض والمال من الهلكة من قبل العدو سواء كان مسلماً وغيره(1).

ويستمد مبدأ التقية أهميته في حفظ الحياة، ولاسيما في وقت الاضطهاد ووجود الخطر والتحدي مع ضعف القدرة او انعدامها للتصدي له، من كونه رخصة شرعية فضلا عن كونها رخصة عقلية أيضاً، فقد روي عن الإمام علي علیه السلام قوله موصياً رجلاً من شيعته: «وامرك ان تستعمل التقية في دينك، فان الله عز وجل يقول {لا يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء الا ان تتقوا منهم تقاة} وقد أذنت لك في تفضيل اعدائنا ان الجأك الخوف اليه، وفي إظهار البراءة ان حملك الوجل عليه، وفي ترك الصلاة المكتوبات ان خشيت على حشاشتك الآفات والعاهات... ولئن تبرأت منا ساعة بلسانك وأنت موال لنا بجنانك لتبقي على نفسك روحها التي بها قوامها ومالها الذي به قيامها وجاهها الذي به تمكنها وتصون بذلك من عرف من اوليائنا واخواننا فان ذلك افضل من ان تتعرض للهلاك وتنقطع به عن عمل الدين ... واياك اياك ان تترك التقية التي امرتك بها فانك شاحط بدمك ودماء اخوانك و ضررك على اخوانك و نفسك اشد من ضرر الناصب لنا الكافر بنا» وحفاظا على الحياة البشرية اجاز الإمام التجاوز عليه باللسان من بعده حيث تكرر قوله «انكم سوف تعرضون على سبي فسبوني»(2).

ص: 33


1- اسماعیل، د. محمود، الحركات السيرية في الإسلام، بیروت، دار القلم، 1973
2- الأشعري، على بن اسماعیل، مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، مكتبة النهضة، 1950

اما المبدأ الثاني فليس بعيدا عن الأول، بل هو امتداداً له، فحينما يوجد تقاطع بين نصوص واوامر الشريعة مع الوجود الإنساني، فالأولوية تكون اضطرارا لحفظ الحياة عند الإمام علي علیه السلام، فالصلاة يمكن ان تقطع والحلف بالله كذباً يجوز والطبيب له ان يكشف على جسد المريضة وقد تلغي العقوبة على امرأة زنت لتحفظ حياتها، بل روي عن الإمام قوله: «لا قطع في طعام» و «لا قطع في عام المجاعة» فمهما كانت ملكية الافراد مهمة لكنها لا تعني شيئاً مقارنة بحق الانسان بالحياة، ومن جهة اخرى نلاحظ ان الإمام تعامل مع روح النص الشرعي «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا»(1) وذلك بتعطيل الحد في الحاجة الاضطرارية الى الطعام وفي عام المجاعة. وبناء على ذلك يمكن القول ان الإمام لا ينظر الى النصوص بشكل مجرد فحسب بل يرى ما وراء النص في تحقيق الاأهداف الاسمى ومنها حق الحياة(2).

اما حالات القتل الخطأ فان الإمام اسهم في تطوير نظام التعويضات المادية او ما يعرف ب (الدية) والذي قد يشمل حتى القتل المتعمد فقد روي عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قوله «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ان احبوا فلهم العقل وان احبوا فان لهم القود». وفيما يتعلق بالاسهامات الفكرية والعملية للامام بشان هذا النظام الاسلامي و صيغ عمله فتبدو مثلا في تحديده للدية في القتل العمد بعدة نصوص منها قوله: «الدية الف دينار - أي الف مثقال ذهب - وعلى اهل البوادي مائة من البقر او الف شاة»، وهي اقل من ذلك في الخطأ وتدفع الدية خلال سنة في القتل العمد وثلاث سنين في القتل الخطأ وسن علي علیه السلام لكذلك ان في العين والانف واللسان دية وكل منها على تفصيل. بل ان «الذمي والمستامن

ص: 34


1- المائدة: 38
2- الأنصاري، مرتضی، کتاب المكاسب، قم مجمع الفكر الإسلامي، 1420 ه

والمسلم في الدية سواء» على وفق قول الامام ويعد هذا المبدأ منتهى السمو في النظر الى الانسان انسان دون النظر الى معتقده او مكانته لتحديد ما يمكن ان يحصل عليه من تعويض عادل(1).

ولقد آثر عن الإمام علي علیه السلام ان من حق افراد الشعب على الحكومة ان تقدم لهم التعويض المناسب على وفق ما حدده الإمام في الحالات الآتية(2):

1. القتل الخطأ من قبل اجهزة الدولة.

2. اخطاء القضاء، «لو اقام الحاكم الحد بالقتل فبان فسوق الشاهدين كانت الدية في بيت المال.. ولو انفذ الى حامل فأجهضت خوفا.. تكون الدية على بيت المال.. وهي قضية عمر مع علي».

3. وعن علي يليعلیه السلام قال: «من مات في زحام جمعة او عرفة او على جسر لا يعلمون من قتله فديته على بيت المال.

4. وان «من حفر بئرا او عرض عودا، فأصاب إنسان فضمن» وهذه المقولة يمكن ان تشمل أعمال الدولة ومسؤوليتها عمّا قد تسببه من ضرر على بعض افراد المجتمع. وكذلك فان الإمام فرض الدية على الطبيب والبيطار اذا اخطأ في تشیخص الداء او وصف الدواء فمات المريض او الحيوان.

ولعل أهم ما أضافه الإمام لمبدأ التعويضات عن الاضرار التي تؤدي بحياة الانسان او تشويهه واعاقته هو مبدأ التعويض المادي عن الاضرار المعنوية کالخوف والهلع الذي قد يصيب الانسان نتيجة عمل ما - ويبدو انه علیه السلام كان رائد

ص: 35


1- الأنصاري، مرتضی، کتاب المكاسب، مصدر سابق
2- بحر العلوم، محمد، مصدر التشريع لنظام الحكم في الإسلام، ط 2، بیروت، دار الزهراء، 1983

فكرة التعويض في هذا الميدان - فحين ارسله الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لدفع الدية لبعض القتلى من (بني جذيمة) من الذين لم يجز قتلهم، قال لهم الإمام بعد ان فرغ من إعطاء الأموال لذوي الضحايا «هل بقي لكم بقية من دم او مال لم يود لكم؟ قالوا: لا، فقال: إني أعطيكم مالا بروعة الخيل، يريد ان الخيل لما وردت عليهم راعت نسائهم وصبيانهم، وقال هذه لكم بروعة صبيانكم ونسائکم»(1).

ورفض الإمام عملية الانتحار، ناظرا اليها كحالة من التخاذل والانهزامية من مسؤولية الحياة والفرار من مواجهة الواقع لتغييره وذلك ناتج عن فراغ الايمان وضحالة الوعي، وقد كان علیه السلام رافضاً للانتحار، سواء حين يقوم الانسان بقتل نفسه، فيقول الإمام: «المؤمن يموت بكل موتة غير انه لا يقتل نفسه» ام عند قيام الانسان بالقاء نفسه في التهلكة او تقصيره بالدفاع عن حياته إذ يقول علیه السلام:

«والله ان امرءاً مكن عدوه من نفسه حتى يجز لحمه ويفري جلده ويهشم عظمه ويسفك دمه وهو يقدر ان يمنعه لعظیم و زره وضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره».

ومع هذا المنهج الفكري والعملي ازاء الحياة البشرية فمن الضروري العلم ان الإمام لم تتملکه اطلاقية غير منضبطة بشأن تقدیسه للحياة فضلاً عن ان القاتل عنده يقتل او يدفع الدية على وفق الحالة ورأي القضاء و اولیاء الدم يلاحظ ان هناك حالات اخرى «يطغى فيها الانسان ويفسد في الارض ويغدو وبالاً خطراً على المجتمع الذي يعيش فيه وهنا تتدخل العدالة فتلغي عن حياته حرمتها التي كانت لها وتقرر لهذا الانسان المفسد عقوبة الاعدام».

ص: 36


1- الأميني، عبد الحسين أحمد، الغدير، (في الكتاب والسنة والأدب)، ط 4، بیروت، دار الكتاب العربي، 1977

اما الجرائم التي حكم الإمام بان عقوبتها الاعدام فهي لجملة افراد هم:

اولا: المرتد: أي من يغير دينه من الاسلام الى معتقد اخر حيث قال الإمام:

«كل مرتد مقتول ذکر کان او انثی».

ثانيا: اللص الهاتك للحرمات، حيث قال الإمام:

«من دخل عليه لص فليبدره بالضربة فما تبعه من اثم فانا شريكه فيه».

ثالثا: الجاسوس، او العين كما اصطلح عليه، والحقيقة لم اعثر على نص مباشر للامام بهذا الشأن، لكن رأي الإمام الحسن بن علي والإمام جعفر بن محمد الصادق والإمام علي بن موسی الرضا، وهم من ذرية الامام علي والذين يستندون في علومهم الى حد كبير على علم النبي صلی الله علیه و آله وسلم وعلم الامام علیه السلام، يقولون بقتل الجاسوس وان كان مسلما وذلك خلافا لاراء بعض فقهاء المسلمين الذين حكموا عليه بالحبس او التعزیر(1).

ويبدو ان الإمام يذهب الى قتل الجاسوس في الاقل من منطلق عقلي، فجريمة التجسس اضافة الى هبوطها الاخلاقي بخيانة الامة قد تؤدي الى قتل مئات والاف من ابناء الامة وضياع قدراتها ومن ثم تراجع مشروعها الحضاري.. وذلك جميعا مما يتضاد مع الاتجاه النظري والعملي للامام.

4. الزاني المتزوج او الزانية المتزوجة، الذين تثبت جريمتهما، تكون عقوبتهما القتل.

5. الساحر وتتدرج عقوبته - عند الإمام - من الحبس الى القتل.

6. من قطع الطريق واخاف الناس لسلب الاموال، تتدرج عقوبته من قطع اليد او اليد والرجل الى القتل، وكل جريمة بتفاصيلها.

ص: 37


1- بحر العلوم، محمد، من مدرسة الإمام علي عليه السلام، ط 3. بیروت، دار الزهراء، 1983

ان تعداد هذه الجرائم يمكن ان يجمع تحت عنوان (الاضرار بالمجتمع وافساده) اذ ان هناك حالة اعتداء من مرتكبي هذه الاعمال ضد افراد و قیم المجتمع. لذلك كان الرد العادل هو تجريدهم من مسؤولية الحياة بعد ان خانوا تلك المسؤولية.

ومما يلاحظ ان قائمة العقوبات العلوية تخلو من اي عقوبة بالقتل لاغراض سیاسية، كالانتماء لجهة معارضة، او نقد وشتم الحاكم او عدم مبايعة او ما شابه، وهذا يدل على حرية المعارضة في فكر الإمام وفترة حكمه.

وفي الجانب العملي شخص الإمام بعض خصومه السياسيين ولكنه رفض اسلوب التصفية الجسدية للمعارضة، وان كان هذا الاسلوب من متبنيات تلك المعارضة، إذ ذهب علیه السلام ضحيته، فمثلا عندما اتوه بر جل وسأله علیه السلام عن سبب القاء القبض عليه اجاب السامع «سمعت هذا يعاهد الله ان يقتلك... فقال علي: خل عنه، فقال الرجل: اخلي عنه وقد عاهد الله ان يقتلك، فقال الإمام: انقتله ولم يقتلني، قال: وانه قد شتمك، قال الإمام: فاشتمه ان شئت او دعه»(1).

وفي مسالة القصاص وتحقيق العدالة فان الإمام يؤكد فكرا وممارسة ضرورة توخي الدقة والمراجعة للتأكد قبل اقامة الحد والقصاص والتأكيد كذلك مبدأ شخصية العقوبة مبطلا نظام الثأر، إذ يقول:

«ابغى الناس من قتل غير قاتله»

وما برح الإمام مخلصا لما امن به من مبادئ انسانية حتى وهو على فراش الاستشهاد حين اكد رفض الثار بقوله:

«يا بني عبد المطلب لا الفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولوا قتل

ص: 38


1- ايماني، مهدي فقيه، الإمام علي عليه السلام في آراء الخلفاء، ترجمة الشيخ يحيى البحراني، ط 1، قم، مؤسسة المعارف الإسلامية، 1420

امیر المؤمنين». ومن الواضح ان الإمام اکد معاملة المجرم بانسانية حتى قبل القصاص منه إذ اوصى الإمام بقاتله (ابن ملجم) حين قال:

«اطيبوا طعامه والينوا فراشه فان اعش فعفوا او قصاص وان امت فألحقوه بي اخاصمه عند رب العالمين»، وقال ايضاً:

«لا تمثلوا بالرجل فاني سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول اياكم والمثلة ولو بالكلب العقور».

واذا ما ثبتت الجريمة فان تنفيذ العقوبة يكون بارحم الطرق إذ يقول الإمام علیه السلام:

«لا قود الا بالاسل، والاسل هاهنا كل ما رق من الحديد وارهف كالسنان والسيف والسكين».

وبعد تنفيذ العقوبة بالمجرم كان الإمام في بعض الحالات يصلي، عليه بنفسه، وكان يامر دائما اهل المتوفي بتجهيزه ودفنه بصورة لائقة ومساوية لموتی المسلمين، فلقد كانت المساواة العادلة الحق الاساس الثاني الذي امن به ودعا اليه وقاتل من اجله علي بن ابي طالب(1).

ولا يعجزه هارب وان «الدنيا دار فناء»، وهنا لابد من التطرق الى نظرة الإمام الى الدنيا، فقد ورد ذمه للدنيا حينما عدها «دار اولها عناء واخرها فناء في حلالها حساب وفي حرامها عقاب». ويحذر الإمام من الدنيا قائلاً «واحذركم الدنيا» فهي «داربلية» وافعى «لین مسها قاتل سمها» ان هذه النصوص اذا اخذت كحالة جزئية، قد تعطي انطباعا غير دقيق عن نظرة سلبية للامام اتجاه الدنيا. ويبدو ان رؤية الإمام للدنيا او المحيط الخارجي للوجود الانساني هي

ص: 39


1- البجنوردي، محمد حسن، القواعد الفقهية، تحقيق مهدي المهريزي، ایران، دار الهادي، 1419 ه

رؤية حيادية، إذ ينظر اليها وفق تدخل عامل السلوك البشري فيها، فيقول الإمام علي علیه السلام ان الإنسان الحكيم والمؤمن ينظر الى الدنيا: «بعين الاعتبار» وينطلق ليمارس دوره الإنساني بها ومن خلالها فهي «دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها [بل ان الإمام يمتدح الدنيا مع الاسهام الايجابي للانسان] فهي مسجد احباء الله ومصلى ملائكة الله ومهبط وحي الله ومتجر اولیاء الله اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة» وهكذا لم يكن الذم والمدح من قبل الإمام للدنيا بحد ذاتها ولكن بحسب نوعية الدور الإنساني فيها سواء كان سلبا ام ايجاباً؛ هدم أو بناءً(1).

ومع اقرار الإمام بحتمية الموت فانه يوجهه كعامل للنهوض بالحياة وتفعيلها، فوجود الموت يدعو الى تكريس الحياة للعمل والمثابرة والسعي لتطور المجتمع وترك اللهو العبثي الذي لا طائل منه. ويكون الموت قاعدة اولى لترسيخ احترام حقوق الاخرين، ونبذ الكراهية ومدعاة للعطاء والتباذل بل ان في حتمیته يقر ارقى انواع السلوك الانساني في نبذ التفاخر والكبر(2) ومنع الظلم ويكون الية لدفع الذل والظلم عن الانسان.

ووفقا للفكر العلوي، فان الحياة قيمة عليا تتغلب على الموت، وان أي اعتداء لازهاق حياة انسان، وبغض النظر عن ماهية ذلك الانسان، هو اعتداء على الارادة الإلهية الموجدة والمانحة الوحيدة للحياة من جهة وجريمة بحق الإنسانية جمعاء، وسلب لحق اساسي من حقوق الإنسان الا وهو (حق الحياة) من جهة اخرى، لذا فان الإمام نظر الى القتل بانه جريمة كبرى فيقول علیه السلام ان من «الكبائر الكفر بالله، وقتل النفس..».

ص: 40


1- الأميني، عبد الحسين أحمد، الغدير، ط 4، مصدر سابق
2- البحراني، أبو يوسف، الحدائق الناضرة ي أحكام العترة الطاهرة، تحقيق محمد تقي الإيرواني، قم، مؤسسة النشر الإسلامية

بل ان الإمام وقف بالضد من التهديد باستخدام القتل وما دونه من تعذيب واهانة وما شابه من وسائل انتقام الانسان وتحت أي ذريعة ليقر بذلك (حق الامن) للمجتمع، فقد اشار علیه السلام، إلى أنَّ من سلبيات مجتمع الجاهلية، قبل عهد الرسالة الإسلامية، هو تفشي ظاهرة انعدام الامن و شیوع سفك الدماء فيتوجه بخطابه الى العقول این ما كانت او وجدت فيقول(1):

«ان الله بعث محمداً صلی الله علیه و آله وسلم نذيرا للعالمين وامينا على التنزيل وشهيدا على هذه الامة، وانتم يا معشر العرب على غير دين وفي شر دار تسفكون دماءكم وتقتلون اولادكم، وتقطعون ارحامكم»، وان سمات الدنيا في ظل انعدام الامن تكون «متجهمة لاهلها، عابسة في وجه طالبها، ثمرها الفتنة وطعامها الجيفة و شعارها الخوف ودثارها السيف».

وبدلا من مجتمع الخوف الذي رسم الإمام ملامحه في كلماته السابقة يطرح علیه السلام المشروع البديل في تحقيق الامن وهو (الإسلام) فيقول: «الحمد لله الذي شرع الاسلام فسهل شرائعه، لمن ورده، واعز أركانه على من غالبه فجلعه آمنا لمن علقه و سلما لمن دخله». ان المشروع الإسلامي لبناء المجتمع الآمن، في رؤية الامام علي علیه السلام يتمثل بعدة ابعاد لعل من اهمها(2):

1. الامن المعنوي او الروحي والسعي لإشاعة مفاهيم وسلوكيات التقوى والهداية: «فان جار الله امن وعدوه خائف».

2. الامن القضائي.

3. الامن الاقتصادي.

4. الامن الداخلي والحدودي: إذ يقول علیه السلام عن احد ثقاته «واسد به لهاه

ص: 41


1- الأنصاري، محمود ابو بكر، الجوهرة في نسب الإمام علي وآله، سوريا، مكتبة النوري
2- بحر العلوم، محمد، من مدرسة الإمام علي عليه السلام، مصدر سابق

الثغر المخاوف» ويمتدح علیه السلام القوة العسكرية قائلاً: «فالجنود باذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الامن وليس تقوم الرعية إلا بهم»، ومن واجبات الحكومة والحاكم ان «تأمن فيه السبل».

5. الامن الخارجي واستباب السلام الذي جعله الإمام هدف لسياسة الحاكم وحق للامة، اذ يقول علیه السلام «لا تدفعن صلحا دعاك اليه عدوك لله فيه رضى فان في الصلح دعة جنودك وراحة لهمومك وامناً لبلادك».

6. الامن السياسي والاجتماعي: في هذا المضمار يرفض الإمام ان يروع الإنسان وان تكون السلطة، مهما كان موقعها في المجتمع (سلطة الاب، الزوج، رئيس العشيرة، رجل دين، والي او موظف كبير، رئيس دولة)، عامل لاثارة الخوف في نفوس الاخرين اذ يقول: «لا يحل لمسلم ان يروع مسلما» وكذلك فأن «من نظر الى مؤمن ليخيفه أخافه الله يوم القيامة»(1).

ويعطف الإمام فكره نحو السلطة الحاكمة باعتبارها القوة الاهم داخل الدولة والمجتمع، متخذا الحكم الاموي والتحذير منه نموذجا فيقول عن اسلوب تعامله مع الشعب «يسومهم خسفا، ويسوقهم عنفا، ويسقيهم بكأس مصبرة لا يعطيهم الا السيف ولا يحلسهم الا الخوف». اما واقع بعض الشخصيات المبدئية التي تتصدى لمشروع التسلط واشاعة الخوف وسفك الدماء «فقد شملتهم الذلة، فهم في بحر اجاج، افواهم ضامزة وقلوبهم ترحة، قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا وقتلوا حتى قلوا» على وفق وصف الإمام، الذي تصدى لهذا الواقع، في ضمن مشروعه الانساني والسياسي، فيبرز علیه السلام حق

ص: 42


1- البحراني، كمال الدين عبد الوهاب، شرح كلمات أمير المؤمنين، تحقيق وتصحيح، میر جلال الدين الحسيني (1390 ه)

الامن بان صيره محورا لحركته

السياسية إذ يقول: «اللَّهُمَّ انك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك وتظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك».

ويعد الإمام ان تحقيق الامان من افضل الاعمال «فمن امن خائفا امنه الله من عقابه» وان الامن بمختلف ميادينه، وفقاً لرؤيته علیه السلام، هو معیار مهم لتقييم وضع الدولة واداء الحكومة وتطور المجتمع ف «شر البلاد بلد لا امن فيه ولا خصب»، بل ان بقية النعم والحقوق تتلاشى مع وجود حالة الخوف والاضطراب في المجتمع إذ يقول علیه السلام «لا نعمة اهنا من الامن».

ولعل من اهم سمات الشعور بالامن، هو امن الانسان على حياته، فحق الحياة من «المبادئ التي ظل امير المؤمنين مصرا على اشاعتها بين الناس... ولكل انسان ان يعيش امنا مطمئنا على حياته، دون خوف او وجل او تهدید او ارهاب من احد او سلطة أو جهة»(1).

ص: 43


1- البحراني، هاشم، حلية الأبرار في أحوال محمد واله الأطهار، تحقيق الشيخ غلام رضا، ایران، مؤسسة المعارف الإسلامية، 1411 ه

ص: 44

أثر الحاكم النظام الاجتماعي

ص: 45

ص: 46

أثر الحاكم في النظام الاجتماعي

من العوامل المؤثّرة في طبيعة تشكيل النظام الاجتماعي وتوالد أو تراکم الظواهر الاجتماعية هو ماهيّة الحُكم والحاكم في المجتمع، إذا ما علمنا أن السلطة لها - أيّ سلطة - تتبنّی مبادئ ومناهج مُعينة في السياسة والثقافة والتربية، فإمّا أن تكون هذه المبادئ وضعيّة من تمنع الإنسان نفسه أو إلهيّة.

ففي الأنظمة الوضعيّة يَحلّ حُكم الإنسان محلّ حُكم الله تعالى، وتضحی أطروحة الإنسان في التربية والثقافة بديلة عن التشريع الإلهي المعصوم.

(والأمر في الإسلام على العكس من هذه الفكرة تماماً، ففي (نهج البلاغة) مثلا، مع أنّه كتاب معرفة الله وتوحيده، ومع أنه يتكلّم في كلّ مكان عن الله وعن حقوقه على العباد، لم يسكت هذا الكتاب المقدّس عن حقوق الناس الحقّة والواقعيّة، وعن مكانتهم المُحترمة المُمتازة أمام حُكّامهم، وعن أنّ الحاكم في الواقع ليس إلاّ حارساً مؤتمناً على حقوق الناس، بل أكّد على ذلك كثيراً.

إنّ الإمام الحاكم - في نهج البلاغة - حارس أمين على حقوق الناس ومسؤول أمامهم، وإن كان لا بدّ من أن يكون أحدهما للآخر، فالحاكم هو الذي جعل في

ص: 47

هذا الكتاب المقدّس للناس لا أن يكون الناس للحاکم).

(وفي الدُرّ المنصور، بأسانيده عن علي علیه السلام أنه قال:

(حقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدّي الأمانة، فإذا فعل ذلك، فحقٌّ على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوا وان يُجيبوا إذا دُعوا).

فالمُلاحظ هو أنّ القرآن الكريم بری الحاكم حارساً أميناً على المجتمع، وإنّ الحكومة العادلة إنّما هي أمانة على عاتق الحاكم يجب أن يؤدّيها إلى الأُمّة، وأنّ أمير المؤمنين والأئمة المعصومين من وُلده علیهما السلام إنّما أخذوا عن القرآن ما قالوه بهذا الصدد).

لكنّ الصورة تتماسك أمامنا، وتنتظم أطرافها ليأخذها بعضها بتلابيب البعض، إذا ما أمعنّا النظر في التصوّر الذي يُقدّمه الإمام علي علیه السلام للسلطة والمجتمع، حيث إنّ الإمام علیه السلام أعطى صورة واقعيّة حيّة للعلاقة بين السلطة والمجتمع أولاً، ثُمّ بين الأفراد أنفسهم الذين يُكوّنون المُجتمع أولاً، ثُمّ وضّح حقوق الناس على السلطة، وحقوق الأفراد على المجتمع داخل النسيج الاجتماعي، وحقوق السلطة على المجتمع، في أفضل ما وضع وأجمل ما طرح، و به تتحقّق سعادة المجتمع وتقدّمه ورقيّه.

فقد دخل الإمام علیه السلام في أدقّ التفاصيل في العلاقات العامّة، ثُمّ أعطى السُبل الصحيحة والمُناسبة لتفادي حالات السقوط والانهيار. وقد أشار إلى القوى التي تُبعّد عن الفساد والخلل الذي ربما يحدث في أيّ وقت، ثُمّ ربط الهياكل المُكوّنة لهذه العلائق وطبيعتها، وحدّد الطُرق الواجب اتّخاذها كمنهج عملي وعلمي لتسيير دورة الحياة اليوميّة، فلم يترك شيئاً ويأخذ آخر، إنّما توجّه علیه السلام

إنّ الإمام علي علیه السلام جعل كلّ الأُمور التي يعيش بها الخلق من سلوك وتعامل

ص: 48

وتبادل و تناصح، بل العلاقات العامّة والصيغ المُتبادلة في العمل وفق ما أراده الله تعالى؛ لأنّ الباري عزّ وجل أوجب هذه التلك بموجب قانون إلهي، وهو التساوي في وجوه الحقّ المفروض على الناس، بحيث جعل فيها التناسق والنظام والتلازم وبدونها لا يصلح شيء في المسيرة الإنسانيّة، وكذلك هذا الوجوب لا يكون بعضه إلاّ ببعض، ثُمّ بيّن علیه السلام ذلك بصورة اوضح:

(وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلكَ الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِی عَلَی الرَّعِیَّةِ وَحَقُّ الرَّعِیَّةِ عَلَی الْوَالِی، فَرِیضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِکُلٍّ عَلَی کُلٍّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَعِزّاً لِدِینِهِمْ. فَلَیْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِیَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلاَةِ، وَلَا تَصْلُحُ الْوُلاَةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِیَّةِ. فَإِذَا أَدَّتِ الرَّعِیَّةُ إِلَی الْوَالِی حَقَّهُ وَأَدَّی الْوَالِی إِلَیْهَا حَقَّهَا عَزَّ الْحَقُّ بَیْنَهُمْ وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّینِ وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَجَرَتْ عَلَی أَذْلاَلِهَا السُّنَنُ؛ فَصَلَحَ بِذلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِی بَقَاءِ الدَّوْلَهِ، وَیَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ).

إنّ الحقوق التي فرضها الله تعالى على الجانبين كما ذكرها الإمام علیه السلام فيها الجوانب المُهمّة والدعائم الأساسيّة لثبات كيان المجتمع وحفظ مظاهره الإيجابيّة وصورة نظامه، هذا إذا شعر الوالي بأنّ الله قد فرض له حقوقاً على رعيّته، وكذلك حقوقاً للرعيّة على الوالي، وبحفظهما وعدم الإخلال بتوازنهما تكون (نظاماً لأُلفتهم)، وبهذه الأُلفة وهذا التعاون والمحبّة والصدق في نيّاتهم وضمان تسديد الحقوق إلى مُستحقّيها والالتزام اتجاه بعضهم البعض الآخر هي الضمان الحي للمسيرة الصالحة(1).

إذن؛ هذه الحقوق التي فرضها الله تعالى على الجانبين هي حقّ الوالي على الرعيّة وحق الرعيّة على الوالي. والمقصود بالحق الأوّل هو حقّ الدولة وقائدها،

ص: 49


1- البهنساوي، سالم، الحكم وقضية تكفير المسلم، ط 3، الكويت، دار البحوث، 1985

أي: السلطة القائمة على المجتمع.

فالإمام علیه السلام في نصّه يطرح هذا الموضوع شرطاً في نموّ الدولة ودوامها، ويضع هُنا واحداً من مفاتح تفسير التاريخ، في واحد من شروط نموّ الحضارات ودوامها.

ويُمكن طرح الجوانب الإيجابية للعلاقة المُتبادلة بين الراعي والرعيّة كما يلي:

1. إنّ هذه العلاقة الوديّة والتي استوجبت على الطرفين حقوقاً مُتبادلة أصبحت نظاماً للأُلفة والمحبّة والوفاء.

2. بهذا الود والحُب والتعايش العائلي داخل البلد والتوافق والانسجام ومُراعاة الضوابط التي حدّدها الباري عزّ وجل في العلاقة الحقوقيّة المتبادلة سيعزّ الدين ويرتفع شأنه.

3. صلاح الوالي، فبصلاحه وأهليته كإنسان مؤمن و صادق وأمين غير خوّان ولا مُنافق يُدلّس على الناس أعماله أو يُخفي أمره وأسراره، فإنّه تصلح به الرعيّة، وإذا كان فاسداً مُفسداً عند ذاك تفسد الرعيّة؛ لأنّه لا صلاح للرعية اإلّا بصلاح القدوة القائد.

كذلك إذا انحرف المُجتمع وانفردت به الشهوات والرغبات الأنانية والمطامح الشخصيّة - أي حُبّ الذات بكلّ معنى لها - تاركاً أمر الله وحقوقه، مبتعداً عن تعاليم دينه، مقدّماً مصلحته على الصالح العام، مُقرّاً بالصفات الذميمة والشريرة والرذيلة، بعيداً عن الاستقامة التي حدّدها القرآن؛ فإنّه سیفسد أمر الولاة ولا يستقيم، وبالتالي تنهار العلاقة الإيجابيّة التي وضعت أُسسها سابقاً، ويُدمّر النسيج الاجتماعي المتراص مع الحاكم.

إذن؛ لا بدّ أن يؤدّي الناس حقّ الوالي ويؤدّي الوالي حقّ الناس؛ حتی يسود

ص: 50

الحقّ بالعدالة والسمو في المجتمع بالالتزام المتبادل بالحقوق الواجب أداؤها على كلّ طرف إزاء الطرف الآخر(1).

وسيترتّب على ذلك:

1. ارتفاع شأن الحقّ بينهم.

2. التطبيق الكامل المنهج الحق وطريق الدين الحنيف.

3. وضوح معالم العدل الذي يسود المجتمع.

4. جریان السُنن الإلهيّة كما أرادها الله سبحانه وتعالى .

5. رفاهيّة المجتمع وسعادته في الزمان الذي طُبّقت فيه أوامر الله تعالى.

6. الرغبة والتمنّي لطول بقاء الدولة والدفاع عنها في الوقت العصيب.

7. يأس العدو وردّه على نحره وطمر كلّ مطامعه.

هذه سبع نقاط إيجابيّة مُهمّة يحصل عليها المُجتمع والدولة معاً من خلال الوفاء بالواجب الإلهي المفروض على الطرفين، وإنّه ليس (عقداً اجتماعياً) کما وصفه (جان جاك روسو) أو غيره، إنّما سُنن صالحة معتمدة تامّة التطبيق ومضمونة النتائج لصلاح المجتمع والسلطة معاً(2).

والإمام علیه السلام لا يسكت عند هذا الحد، إنبما يتحول إلى الجانب السلبي من العلاقة بعد أن تحدّث عن الجانب الإيجابي المُثمر، وسنأتي إلى طرحها تباعاً إن شاء الله.

بقي لنا أن نتساءل: ما هي هذه الحقوق التي توفّر الأمن للعلاقة الإيجابيّة وتُعطي الطاقة الفاعلة للسير على طريق الحق والاستقامة، وإقامة العدل في

ص: 51


1- البحراني، هاشم، حلية الأبرار في أحوال محمد وآله الأطهار، مصدر سابق
2- البهوتي، منصور بن يونس، کشف القناع، تحقيق محمد حسن الشافعي، بیروت، دار الكتب العلمية

المجتمع؟ لإنّه كما قلنا إنّ هدفنا هو اتباع منهجيّة أو إعطاء ملامح عامّة لنظرية اجتماعية إسلامية تسير عليها المجتمعات الإنسانية باتخاذها منهجاً سليماً للعمل به، فنعود ونسأل الإمام علي عليه السلام أن يُعطينا صورة لهذه الحقق وماهيّتها، فجاءنا الجواب بهذا الكلام البليغ:

(أَیُّها النّاسُ، إِنَّ لِی عَلَیْکُمْ حَقّاً، وَلَکُمْ عَلَیَّ حَقٌّ: فَأَمّا حَقُّکُمْ عَلَیَّ: فالنَّصِیحَةُ لَکُمْ، وَتَوْفِیرُ فَیْئِکُمْ عَلَیْکُمْ، وَتَعْلِیمُکُمْ کَیْلا تَجْهَلُوا، وَتَأْدِیبُکُمْ کَیْما تَعْلَمُوا. وَأَمّا حَقِّی عَلَیْکُمْ فالْوَفاءُ بِالْبَیْعَةِ، وَالنَّصِیحَةُ فِی الْمَشْهَدِ وَالْمَغِیبِ، وَالْإِجابَةُ حِینَ أَدْعُوکُمْ، وَالطّاعَةُ حِینَ آمُرُکُمْ).

ص: 52

الحرب وانتهاك الحقوق عند الامام علي علیه السلام

ص: 53

ص: 54

الحرب وانتهاك الحقوق عند الامام علي علیه السلام

إذن، الحرب ليست هدفا عند الإمام علي علیه السلام، إنّما الاجتماع والتعاون والتعايش السلمي هو الهدف...، والدفاع عن الدين ورايته هي ليست دعوة إلى الحرب وتأجيج نارها، إنّما هي إصلاح واقع الهيكل الاجتماعي وتطبيق الشريعة ورسم الصورة الصحيحة للمسيرة البشرية في حياتها ودحر الباغي على الدين وأهله، فإنّه لا يمكن الإغضاء عنه والابتعاد منه وتركه في غيّه يصول ويجول، وإنّه اذا ما تمادى في ذلك فإنّه سيسعی فساداً في الأرض ويُهلك الحرث والنسل، وهذا ما حدث فعلاً من خلال غارات جیش معاوية على القُرى والنواحي والمُدن في أطراف الدولة الإسلامية، حينما انخدع فريق بحيلة معاوية في رفع المصاحف، ونکصَ عن حربه، وما أفعال بسر بن أرطأة - أحد قادة معاوية - إلاّ شاهد واضح على ذلك، حيث قام هذا الذنب بالتقتيل وتشريد وسلب النساء وذبح الأطفال على صدور أُمهاتهم، كما فعل مع أطفال عبيد الله بن العباس والي الإمام علي علیه السلام على اليمن.

ص: 55

وإذا ما راجعنا عهد الإمام علي علیه السلام لمالك الأشتر نجد هذا النص:

(وَلاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ لله فِيهِ رِضاً، فإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وأَمْناً لِبِلاَدِكَ، وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكِ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ، فَخُذْ بِالْحَزْمِ وَاتَّهِمْ فِي ذلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ).

فالقبول بالدعوة إلى الصلح والسِلم هي نابعة من حبّ عليّ علیه السلام إلى الحق والعدالة، (وصاحب هذا التوجه في تاريخ العرب لا بدّ له أن يكون محبّاً للسلم کارهاً للقتال، إلاّ إذا كان القتال ضرورةً اجتماعية وإنسانية، وحبّه للمسلم إنّما كان نتيجةً منطقية محتومة لمعنى المجتمع لديه، ولِما قاده إليه العقل والتجربة من إدراك هول الحروب ومقدار ما تسيء إلى الغالب والمغلوب من أبناء آدم وحوّاء، ولابن أبي طالب في هذا المجال موقفٌ جليلٌ آخذٌ من العقل والقلب والشرف جميعاً، ونحن لا نغالي إذا قلنا أنّ دعوة ابن أبي طالب للسلم كمبدأ عام، كانت منعطفاً إلى الخير في تاريخ العرب الذين كان حبّ القتال شريعةً لهم في الجاهلية أنكرها النبيّ وأنكرها العاقلون، وحبّ السِلم في القرآن من عمل الله، وحبّ القتال لغير سبب معقول من عمل الشيطان، وفي سورة البقرة:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ»...

أما أروع ما في هذا المبدأ الذي كشف عنه ابن أبي طالب دون عنتٍ ودون إجهاد، فهو أنّ هذه الثورية الدافعة إلى التطور أبداً، إنّما هي ثورية خيّرة تنقل البشر أبداً من حال إلى حال أفضل(1).

ص: 56


1- البستاني، د. محمود، الإسلام و علم النفس، مشهد، مجمع البحوث الإسلامية، 1409 ه

أنّ علياً يوحّد ثوريّة الحياة وخير الوجود روحاً ومعنى، فأشدّ ما رأيناه يوحّد معنى التطوّر، أو ثوریّة الحياة، بمعنى الوجود توحیداً لا يجعل هذا شيئاً من تلك ولا تلك شيئاً من هذا، بل يجعل ثوريّة الحياة كلاً من خير الوجود وخير الوجود کلاً من ثورية الحياة، فالثوريّة في المبدأ العلوي أنّها في تطوّر لا يهدأ في سبيل الخير، وهذا التطور في ما يُستفاد من مذهب ابن أبي طالب، سنّة طبيعيّة لا يمكن لقوةٍ من القوى أن تعوقها أو تقف في سبيلها.

غير أنّ الإنسان قادر على أن يفهم هذه الحقيقة، فيُساعد الطبيعة في مُهمّتها الثوريّة الكبرى، فيفيد من الزمن وينجو من خطر المعارضة لناموس الحياة. أمّا إذا وقف في طريق هذا التطوّر أن يعوقه أو يحوّل مجراه، فإنّه خاسرٌ إذ ذاك مسحوقٌ بعجلة الحياة السائرة إلى أمام).

إنّ مسألة عقد الاتّفاقيّات وإبراهما أو إعطاء العُهود للخصم في وقت الحرب عند علي عليه السلام هي من المسائل المهمّة التي لا تراجع فيها، حيث يمضي علیه السلام في وصل حلقات منهاجه القويم في ظروف الحرب، فيقول:

(وَإِنْ عَقَدْتَ بَیْنَكَ وَبَیْنَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً، فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالْأَمَانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَیْتَ، فَإِنَّهُ لَیْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ شَیْءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَیْهِ اجْتِمَاعاً، مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وَتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ مِنْ تَعْظِیمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَقَدْ لَزِمَ ذلِكَ الْمُشْرِکُونَ فِیَما بَیْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِینَ؛ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ، فَلَا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلَا تَخِیسَنَّ بِعَهْدِكَ، وَلَا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ، فَإِنَّهُ لَا یَجْتَرِئُ عَلَی اللَّهِ إِلَّا جَاهِلٌ شَقِیٌّ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَیْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ وَحَرِیماً یَسْکُنُونَ إِلَی مَنَعَتِهِ وَیَسْتَفِیضُونَ إِلَی جِوَارِهِ، فَلَا إِدْغَالَ وَلَا مُدَالَسَةَ وَلَا خِدَاعَ فِیهِ).

ص: 57

إذن، احفظ العهد الذي أعطيته بالوفاء، وارعَ الذمّة بالأمانة، (ثُمّ إنّ الناس لم يجتمعوا على فريضة من فرائض الله أشدّ من اجتماعهم على تعظيم الوفاء بالعهود، مع تَفرّق أهوائهم وتشتّت آرائهم، حتى أنّ المشركين التزموا الوفاء فيما بينهم، فأولى أن يلتزمه المسلمون).

وفي كتاب الله تعالى نقرأ آیات مُتعدّدة بهذا الشأن:

(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا).

(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا).

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ).

ثُمّ إنّ هؤلاء قد عرفوا أنّ الغدر يعود عليهم و بالاً (وَلا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ)، أي: لا تخن عهدك وتنكث، (وَلا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ) من باب المخاتلة، أي المكر والخداع.

ثُمّ (فَلا إِدغَالَ وَلا مُدَالَسَةَ وَلا خِدَاعَ فِيهِ) معناه: لا إفساد ولا خيانة ولا خداع، فهي ثلاث من الصفات الذميمة التي تستنزل غضب الله تعالى، وتقود إلى تفكك عُرى الكيان الاجتماعي، لينحدر حتماً في مسار التدني الحضاري.

ثُمّ يتطرق الإمام علیه السلام إلى المواثيق السياسية والديبلوماسيّة بعُرفنا الحالي، وضمن حالة الحرب والسِلم والاتفاقات المتعلّقة بها، حيث يقول:

(وَلَا تُعَوِّلَنَّ عَلَی لَحْنِ قَوْلٍ بَعْدَ التَّأْکِیدِ وَالتَّوْثِقَةِ، وَلَا یَدْعُوَنَّكَ ضِیقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِیهِ عَهْدُ اللَّهِ إِلَی طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَیْرِ الْحَقِّ، فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَی ضِیقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ خَیْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ، وَأَنْ تُحِیطَ بِكَ مِنَ اللَّهِ فِیهِ طِلْبَةٌ لَا تَسْتَقْبِلُ فِیهَا دُنْیَاكَ وَلَا آخِرَتَكَ).

فإذا تعلّل المعاقد لك بعلّةٍ قد تطرأ على الكلام وطلب شيئاً لا يوافق ما أكّدته

ص: 58

وأخذت عليه الميثاق، فلا تعوّل عليه، وكذلك لو رأيت ثقلاً في التزام العهد، فلا تركن إلى لحن القول لتتملّص منه، فخذ بأصرح الوجوه لك وعليك.

هذه هي مفاهيم الإسلام العظيمة، فالأمانة والعهد والوفاء والصدق هي مفاهيم أكّدها الإسلام طريقاً إلى سعادة البشرية و تكاملها.

وإنّ المرء ليقف مذهولاً بحقٍّ أمام عظمة هذا الرجل المُلهَم وهو يُفصّل في ذلك الزمان البعيد أرقی نُظم الحرب والسلم وشروط المعاهدات الدوليّة.

إنّ الذي يُدرّس اليوم في أعلى المراحل الجامعية، والمعاهد الديبلوماسية كقانون حقوقي و سياسي ثابت في العلاقات الدوليّة، وتعتمده الأُمم المتّحدة أو المنظمات الدوليّة الأُخرى في إبرام المعاهدات والاتفاقات الدوليّة لم يتخطّ هذه المواد التي فصلّها الإمام علیه السلام.

خذ مثلاً على ذلك، المعاهدات والاتفاقيّات المعقودة بين دولتين أو أكثر بسبب نزاع حدودي، أو صراع على جرف قاري، أو حول كيفية استغلال منابع وثروات معدنيّة مُشتركة - تقع ضمن الحدود الفاصلة بين البلدين - أو تحديد طبيعة استغلال تلك الثروات النفطيّة أو الغازية بفعل تأثير عمليات السحب في هذا الجانب أو ذاك، أو بفعل تدخلات في الشؤون الداخليّة للبلد الآخر، والتي غالباً ما تؤدّي إلى حرب أو صراع دولي، لأجل الحصول على موطئ قدم أو تشکیل مناطق نفوذ دوليّة... هذه المعاهدات أخذ العالم المُعاصر يحتاط في تدوينها خشيةً من وقوع فرص التعلّل بما قد يعتري بعض ألفاظها من إبهام.

فغالباً ما تلجأ الدول إلى كتابة هذه المواثيق بلغات مُختلفة، فيكتب مثلا نصّ المعاهدة بلسان البلدين وبلغةٍ واضحة، ثُمّ يُضيفون لغة ثالثة عالمية يتفقون عليها تُعتبر كمرجع أساس في حالات تباين التفسيرات في مواد الاتّفاق،

ص: 59

ويكتب ذلك في الملاحق القانونية للمُعاهدة، أي: يعتمدون على النص الذي اتّفقوا عليه كمرجع لتفسير النصوص واعتماد ذلك المرجع وتثبيته، ورغم ذلك فهناك تحايل والتفاف وتلاعب بمعاني الكلمات، واستخدام التورية بحيث تحتمل الكلمة عدّة معانٍ لغرض التهرّب من الالتزامات التي وافقت ووَقّعت عليها الدولة، وما أكثر ما يحدث هذا في عالمنا المعاصر، ولهذا تسعى الدول إلى استخدام أذكى وأقدر الخبراء والسياسيّين في تثبيت النصوص وتدقيقها؛ حتى لا تقع في المزالق القانونيّة والسياسيّة في عصر المكر والخداع وانعدام المبادئ في العلاقات العامّة.

وهذا ما أكّده الإمام علي علیه السلام قبل مئات السنين، وحذّر من الوقوع في مداخله (ولا تعقد عقدا تجوز فيه العِلل)، كذلك يطلب علیه السلام أن لا يستخدم لحن القول كملاذ للهروب من الالتزام والمواثيق، هذا هو منهج علي علیه السلام. وما أكثر ما يتمنّى المرء لو أنّ المجتمعات البشريّة سارت على هداه ومنهجه لتجنّب السقوط والدمار والخراب العام في الحضارة، وبالتالي خسارة الإنسان لِما بنی وما بذل من جهد في سبيل الرقي والمدنيّة، بفعل نقض عهد، أو تهوّر سلطان، أو اعتداء أثيم، أو غزو في ليلة ظلماء وما شابه ذلك.

ثُمّ يؤكّد الإمام علیه السلام على أنّ صبر الوالي على الضيق الذي لحقه من العهد، و تحمل ذلك على أمل الانفراج في العُقد والمشاكل التي أحاطت به هو خير وأفضل من غضب الله وعدم رضاه في حالة الغدر ونقض العهود والمواثيق.

إنّ هذا الكلام يحمل في طيّاته أعلى القيّم وأرقى المفاهيم الأخلاقية في التعامل الإنساني، يحمل قيمة الإنسان معه وإنسانيّته التي دمّرها المتوحّشون في عصرنا الحالي، يحمل معه روحاً عالمية الآفاق، بعيدةً كلّ البُعد عن الضيق والانغلاق

ص: 60

الحضاري والفكري، وبعيدةً أيضاً عن القيم الزائفة، من غدرٍ وكذبٍ ونکثٍ واحتيال، والتي جرّت إلى ويلات الحروب والصراع الذي أكل من البشرية ما لا يُعدّ ولا یُحصى من ذلك المخلوق الذي كرّمه الله تعالى وهو الإنسان، ومن تلك الطبيعة التي خلقها الله تعالى للإنسان لكي يتمتّع بنِعمها ويستغلّ مواردها في سبيل راحته ویُعمّرها من أجل سعادته.

لكنّ هذا - كما تأكّد سلفاً - لا يمنع من التأهب والاستعداد لمواجهة الطوارئ المُحتملة، فالإسلام لم يمنع ذلك، بل أقرّه.

فالحرب ليست هدفاً بحدّ ذاتها، إنّما هي وسيلة للدفاع عن الدين والجهاد في سبيل إعلاء راية الحق. وهذا عليّ علیه السلام يُدير الحرب والسلام معاً، الحرب لأنّه اضطر إليها بعد أن أتمّ الحجّة، فهي للدفاع عن دين الله وهيبته ومبادئه السامية التي حاول الطامعون والمنافقون والمُضلّلون اختراقها(1).

قانونٌ اجتماعيٌّ خَطير

ممّا يُلفت النَظر في كلام أمير المؤمنين علیه السلام الجُملة الأخيرة منه (وإنّما الناس مع المُلوك والدُنيا، إلاّ مَن عَصم الله).

وكأنّ هذا هو مبدأ أساس أو جزء مُهمّ من الظواهر الاجتماعية على الكُرة الأرضيّة، يا ترى هل أنّ الناس دائماً مع المُلوك وحبّ الدنيا والتساقط على الدنانير؟ وما هي أسباب ذلك؟ هل الدولة أم السلطان أم الايدولوجيا ذات تأثير مباشر على هذا السلوك الخاطئ؟ وما هو العلاج إذن؟(2)

ص: 61


1- جعفر، د. محمد علي، تاريخ القوانين ومراحل التشريع الإسلامي. بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1986
2- جعفر، د. فوزي، علي ومناوؤه، ط 2، بیروت، مؤسسة الوفاء، 1984

إنّ تأثير الدولة الصالحة والدولة المُفسدة على المجتمع هي من حقائق الأمور الظاهرة، هذا في الواقع العملي، إلاّ أنّ ذلك يحتاج إلى دراسة وتحقيق لمعرفة جذوره، كما أنّ له صِلة وثيقة في معرفة العوامل التي تؤدّي بالدولة إلى الصلاح أو إلى الفساد.

إنّ التاريخ یُحدّثنا عن حياة الأُمم التي مضت والحضارات التي قامت واندثرت، فيُبيّن لنا سيرة المُلوك والحكّام، وأثرها السلبي أو الإيجابي على حياة ومسيرة وتطوّر المُجتمعات.

فلننظرُ إلى أُمّة على رأسها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قائداً وموجهاً ومُقنّناً وراسماً للمنهج الذي يستنير به الناس، ومُربّياً يسعى ليلاً ونهاراً باذلاً جهده لبناء مجتمع سليم قوي تسوده العدالة والسعادة والرفاهية. إنّها الصور الرائعة التي تجذبنا وتهزّنا من الأعماق، و تُجدّد فينا الحياة، وتبعث فينا الطمأنينة والاستقرار لبناء المستقبل الزاهر على ما سَنّه واختطّه رسول الإنسانيّة، فالكلّ على عُلم بالسيرة النبويّة الطاهرة، وبذلك المجتمع المدني الإسلامي الذي عاش في ظِلّه الفقير سعيداً و مُكرماً، وفيه من مراتب الإيثار والتضحية والمؤاخاة ما تَحلُم به النفوس، بل ذلك الصبر والتحمّل وهوان النفس اتّجاه الدين هو من علاماته أيضاً، والاندفاع اللامُتناهي نحو الشهادة والموت في سبيل الله من أجل الحقّ والمبدأ القويم، و من شواهده ذاك المجاهد عمر بن الحمام - أخو بني سلمة - حينما سمعَ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يُحرّض الناس على القتال، حيث قال: (والذي نفس محمّد بيده، لا يُقاتلهم اليوم رجلٌ فيُقتَل صابراً مُحتسباً، مقبلاً غير مُدبر، إلاّ أدخله الله الجنّة)، فقال عُمر بن الحمام، وفي يده نمرات يأكلهن: بخٍ بخٍ، أما بيني وبين أن أدخل الجنّة إلاّ أن يقتلني هؤلاء! ثُمّ قذف التمرات من يده وأخذ سيفه، فقاتل

ص: 62

القوم حتّى قُتل، هذا المجتمع الذي بناه القائد العظيم والإمام الهادي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم.

لكن مع أمثال هذه الصورة وممّا لا يُمكن حصره على شاكلتها، وهذا التماسك الاجتماعي فإنّ ذلك لا يمنع من وجود منافق هُنا وهناك في قلبه مرض، في هذا الجانب أو ذاك وقد تأصّل في قلبه الجَشَع وحُبّ الدنيا، إلاّ أنّ الأعم الأغلب هُم حَمَلة الرسالة الّذين نشروا مبادءها في كلّ البقاع، وهم المَثَل الذي يُضرَب به في السُلوك الإنساني القويم والخُلُق الرفيع.

إنّ الشعوب إذا ما تهيأت لها الأسباب من قيادة رائدة تجعل من الذات الإنسانيّة التائهة حقيقة أخلاقيّة لها دورها الحقيقي في ترابط المُجتمع وحفظ جمعه وِفق المبادئ العادلة السليمة تكون في مستوى أخلاقي رائع تغمرها السعادة والاطمئنان.

إنّ مِثَل هذه القيادة وهذه الأُمّة ستكون في المقدّمة بالنسبة للشعوب الأُخرى، وعلى العكس من ذلك تكون أُمّة يقودها فرعون طاغية يستخفّ بقومه ويقهرهم على طاعته، بل على تصدیق ضلالاته والدفاع عنها.

إنّها أُمّة يصعب أن تُذعِن لبُرهان حقٍّ، أو تستفيق من طغیان ظُلم واستهتار، حتى وهي تبصر الآيات والدلائل البيّنة، فلا استوقفتها هزيمة السَحَرة وإذعانهم لمُعجزات موسی، ولا استفاقت لآيات العذاب والرُعب في الضفادع والقُمَّل والجراد والدم، وحتى انغلاق البحر لقوم موسى لم یُحرّك في ضمائرهم نزعة التَحرّر من ذلّ العبوديّة والخنوع(1)!

ص: 63


1- جاسم، عزيز السيد، علي بن أبي طالب (سلطة الحق)، ط 2، دار سينا للنشر

حقائق ثابتة

إنّ محور كلام الإمام عليه السلام يدور حول العمل مع المُجتمع من خلال تطبيق الحقّ والعدالة، وتسيير أُموره وِفق ما حدّدته الشريعة الإسلاميّة، فكان هَمّهُ ووصاياه يندرج في هذا الأمر.

ولهذا نجد أنّ أغلب كُتُب الإمام فيها تذكير أو توبيخ أو تقريع أو وصایا اجتماعية وغير ذلك، والدفاع هو حماية رعيّته، وأغلبها لها علاقة خاصّة بالمجتمع وتحوّلاته وأعاله ومُراعاته والرفق به ومساعدته في الظروف الصعبة التي تستوجب ذلك.

فالفكر الذي يحمله علیه السلام هو فكر إسلاميّ إنساني، والترابط وثيق بين الإسلام والإنسان والحق والعدالة، والمساواة هي من سُنن القرآن وشريعة محمّد علیه السلام، ومن أجل ذلك أرسل الله الأنبياء والرُسل مُبشّرين ومُنذرين، وعلىٌّ علیه السلام صورةٌ صادقةٌ للوعي الرسالي والتطبيق العادل والشامل لكلّ مفاهيم القرآن على المجتمع، بل البشرية جمعاء. فرسالة عليٍّ علیه السلام هي رسالة الإسلام والقرآن إلى الإنسانيّة، ولهذا نجد الروح الإنسانيّة العالية في نفس عليٍّ علیه السلام تدور معه حيثما دار کدوران الحقّ معه.

إذن، فالسِمات البارزة والرئيسيّة في حياة أمير المؤمنين علیه السلام هي رفع شأن الدين ورضاء الله، ورضاء الله لا يتمّ إلاّ برضاء عيال الله، ونبذ كلّ ما هو ضدّ تَقدّم البشريّة وحُريّتها وسعادتها، ونُلاحظ من خلال ذلك أنّ المفاهيم العامّة التي يحملها سيّد المُوحّدين، والتي طبّقها على نفسه وأهله قبل تطبيقها على غيره، هي التي جذبت النفوس وجعلته رمزاً خالداً على مَرّ الدُهور.

فالثورة الفرنسيّة التي ما زال العالم الغربي يتبجّح بأهدافها الإنسانية وعلى

ص: 64

أنّها من بنات أفكارهم، وأنّ فلاسفتها أعطوا معنىً لحياة الإنسان من خلال شعار (حرية - عدل - مُساواة) نجد أنّ هذا الشعار هو جُزء من المبادئ الإسلاميّة التي أعلنها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم - وهي بكلّ ما حوت من قِيَم إنسانيّة طرحها الإمام علي علیه السلام قبلهم بمئات السِنين(1).

فلنأخذ بأيدي هؤلاء، ونفتح أذهانهم على الصور الواقعيّة التطبيقيّة في تُراثنا الإسلامي المجيد، من عقيدة مُتكاملة تامّة وفِكر عظیم ثاقب، ونُريهم ماذا أعطى الإسلام من مفاهيم خالدة، وما هي سيرة محمد صلی الله علیه و آله وسلم؟ وما هو فكر عليّ علیه السلام؟ وما تضمّنته رسائله وكتبه بشأن ذلك؟ إلاّ أنّ الذي يَحزّ في النفوس، ويخلق الآهات والحسرات في الصدور هو ضياع الإسلام بين أهله، وتعلّق الآخرين بمبادئه والاستفادة منها تحت عناوین مُختلفة(2).

حُريّة الإنسان في المُجتمع

هُناك مَن يقول أنّ الإنسان يولد حُرّاً، والمجتمع هو الذي يُقيّد حُريّته وحركته، فالطفل حينما يُولد تأخذه القابلة فوراً وتُقمّطه بقماطه وتشدّ يديه ورجليه وتمنع حركته، فإذن أوّل شيءٍ يستقبله هو القيد بِيَدِ عُضو من المجتمع الكبير وهي القابلة، فتُقيّد حرّيته، في حين أنّ هناك كلمة للإمام علیه السلام هي أبلغ من كلّ كلامٍ، و أكثر واقعيّةٍ من غيرها، ولها مدلولاتها التحرّرية، وفيها معانٍ سامية هدفها خَلق الإرادة الفكريّة والعمليّة لدى الإنسان، فقد قال علیه السلام:

(لا تكن عبدَ غيرك وقد خلقك الله حُرّاً)، فالعبوديّة خالصةٌ لله تعالى

ص: 65


1- التسخيري، محمد علي التسخيري، حقوق الإنسان بين الإعلانين الإسلامي والعالمي، طهران، رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية، 1997
2- جاسم، عزیز السيد، علي بن أبي طالب (سلطة الحق)، ط 2، دار سينا للنشر

لا لغيره، والإنسان حُرٌّ في إرادته وفي تفكيره وفي حياته العامّة، وهذه الحريّات يجب أن يُرافقها مُراعاة الجوانب والضوابط التي حدّدتها الشريعة؛ حتى لا تُنتهك حُقوق الآخرين المشروعة في العيش بسلام وأمان، وتُصان الحياة العامّة والنُظم التي تُسيّر الحياة الاجتماعيّة من كلّ انحراف أو تجاوز، مع احترام القوانين التي تُنظّم المسيرة الاجتماعيّة، ومع ضمان سلامة الحُريّات العامّة ضمن إطار الشريعة الإسلاميّة، فإنّ الإنسان سيتحرّّر ذهنه من الضغوطات القاتلة لحركة الإبداع والتطور، وبالتالي فإنّ هذا الإنسان سوف لا يشعر بالذلّ والاستعباد والحقارة ويكون عنصراً نافعاً، حتى في جانب الإيمان العقائدي يرفض الدين الاعتقاد الوراثي المُقولَب والجاهز، إنّما يرى في ذلك آثاراً سلبيةً مُستقبلاً، ويؤكّد على أنّ الإنسان يجب عليه التفكير والتدبّر قبل الإيمان والاعتقاد؛ حتى يضمن التماسك والرصانة أمام كلّ التيّارات المختلفة؛ فعليٌّ هو سعادة للبشريّة في أفكاره وسلوكه؛ لأنّها قابلة للتطبيق مع العقيدة الإسلاميّة في وقت واحد، لأنّ الأولى فرع من الثانية، فإنّهما قانون شامل للمجتمعات تسعد به وتعيش بسلام معه.

ولو عُدت لكُتب الإمام علیه السلام و كلامه لوجدته كيف يهتم بأُمّته، بل برعيته وهم عموم المجتمع، سواء كانوا مسلمين أو ذميّين، فالعدالة عنده للجميع مادام هو في ظلّ الإسلام(1).

الحزمُ واللِينُ

إنّ طبيعة الناس الذين يُكوّنون المجتمع لا تتوافق في سلوكيّة مُعيّنة؛ نتيجة للتباين في الأفكار والفَهم والاعتقادات في القوانين والنُظم، والإمام علیه السلام

ص: 66


1- جرداق، جورج، علي صوت العدالة الإنسانية، ط 2، قم، دار ذوي القربی، 1424 ه

خط سيرٍ القائد في علاقته مع شَعبه مادام المجتمع بهذا الشكل من الاختلاف، فلابدّ إذن من مسيرة خاصّة وهو خلط الشدّة بضغث من اللِّين، (والضغث في الأصل: قبضةٌ حشيشٍ مختلط یابسها بشيءٍ من الرَطِب، ومنه (أضغاثُ الأحلام) للرؤيا المُختلطة التي لا يصح تأويلها، فاستعار اللفظة هاهنا، والمراد: امزج الشدّة بشيء من اللين فاجعلهما كالضغث).

ثُمّ إذا بدا أنّ الأمر لا ينفع معه إلاّ اتخاذ الحزم والشدة بناءً على مُقتضیات المصلحة الإسلاميّة والعامة وضمن الحدود الشرعية، فاستخدام ذلك ضروريٌّ.

وهذه مسألة أساسيّة في إدارة الحياة الاجتماعية والسياسية للبلد، وهي أيضاً حالةٌ نفسيّةٌ توجد في أعماق الكثير من الناس، فهي تستخفّ بالحاكم الذي يكون سياج مملكته هدفاً واهناً للأعداء والطامعين، والمجتمع إذا استشعر ضعف الدولة وعدم قُدرتها في السيطرة على مقاليد الأمور لضعف الوالي فسوف يختلّ التوازن الاجتماعي والسياسي، وينهار معه النظام الاجتماعي والأمني، ويصبح الأمر في غاية الخُطورة.

والبلد يكون حينئذ غابةً لوحوشٍ ضاريةٍ ومتنوعةٍ يأكل بعضها البعض الآخر. إنّها مسألةٌ عظيمةٌ وحيويّةٌ، فالوالي المسلم عليه أن يُحافظ ويصون ويعدل ويُراعي الجميع، باسطاً لهم نفسه، مادّاً يده، مُعطياً الحقوق والحريّات بما شرّعته العقيدة الإسلاميّة، وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

(كُلّكم راعٍ وكُلّكم مسؤولٌ فالإمام راعٍ وهو مسؤول، والرّجل راعٍ على أهله وهو مسؤولٌ، والمرأة راعيةٌ على بيت زوجها وهي مسؤولةٌ، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسؤولٌ، ألا فكلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول).

فالمسؤوليّة جسيمةٌ وخطيرةٌ، وتتطلّب نفساً تخاف الله وترعی حُرماته، وقلباً

ص: 67

رءوفاً، وفكراً ناضجاً يستعمله في المُلمّات، مدبّراً قديراً أميناً شجاعاً.

هذه كلّها متطلّبات واقعيّة تُعطي معاني أساسيّة لطبيعة علاقة الراعي مع الرعيّة والحاكم مع المحكوم.

الرعايّةُ للجُمَيع

طَرفٌ آخر من المُعادلة الاجتماعيّة تشمله الرعايّة الإنسانيّة الإسلاميّة، ويدخل في الموازنة العامّة وِفقَ إطارٍ خاصٍّ تُنظّمه صورة الرسالة التالية، التي توضّح تتبّع الإمام علیه السلام للأحداث، ودفاعه عن طوائف المُجتمع المُختلفة، حيث قال علیه السلام:

(أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ دَهَاقِینَ أَهْلِ بَلَدِكَ شَکَوْا مِنْكَ غِلْظَةً وَ قَسْوَةً وَ احْتِقَاراً وَ جَفْوَةً، وَ نَظَرْتُ فَلَمْ أَرَهُمْ أَهْلاً لِأَنَّ یُدْنَوْا لِشِرْکِهِمْ وَ لاَ أَنْ یُقْصَوْا وَ یُجْفَوْا لِعَهْدِهِمْ، فَالْبَسْ لَهُمْ جِلْبَاباً مِنَ اللِّینِ تَشُوبُهُ بِطَرَفٍ مِنَ الشِّدَّةِ وَ دَاوِلْ لَهُمْ بَیْنَ الْقَسْوَةِ وَ الرَّأْفَةِ، وَ امْزُجْ لَهُمْ بَیْنَ التَّقْرِیبِ وَ الْإِدْنَاءِ وَ الْإِبْعَادِ وَ الْإِقْصَاءِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ).

لقد أعطى الإمام علیه السلام طريقة العمل مع صنف آخر من المُتجمع بعد أن وصل إليه خبر تعرّض بعض أكابر القوم من الدهاقين الذين يأمرون ولا يأتمرون للضغط والشدّة والقسوة، وكذلك الاحتقار والجفوة لهم، فالإمام يقول: يجب أن يكون هُناك توازنٌ في التعامل والعلاقة مع هؤلاء الناس، لا أن تُدينهم فهم ليسوا أهلاً لذلك؛ لأنّهم من أهل الشرك وأنت والي المسلمين، ولا تُقصيهم - أي تُبعدهم وتجفوهم - لأنّهم من المُعاهدين، فأشعرهم بالمعاملة اللينة مشوبة بطرف من الشدّة؛ حتى لا يشعر بضعفك في حيالهم وعند ذلك يستهينون

ص: 68

بأمرك، وأشعرهم بأنّك شديد في وقت الشدّة، أي: يكون عملك متداخلاً بين قوّةٍ ورأفةٍ أو تقريبٍ وإبعادٍ مع هؤلاء، للأسباب النفسية التي يجب أن يُراعيها العالِم أو والي المسلمين، هذا في جانب العلاقة مع المشركين والمُعاهدين(1).

هناك جانب آخر يُظهره الإمام ويُوضّحه لعُمّاله، وكما جاء في هذا الكلام له علیه السلام:

(أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَی إِقَامَةِ الدِّینِ، وَ أَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الْأَثِیمِ، وَ أَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ. فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَی مَا أَهَمَّكَ، وَ اخْلِطِ الشِّدَّةَ بِضِغْثٍ مِنَ اللِّینِ، وَ ارْفُقْ مَا کَانَ الرِّفْقُ أَرْفَقَ، وَ اعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ حِینَ لاَ تُغْنِی عَنْكَ إِلاَّ الشِّدَّةُ. وَ اخْفِضْ لِلرَّعِیَّةِ جَنَاحَكَ، وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَ آسِ بَیْنَهُمْ فِی اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ وَ الْإِشَارَةِ وَ التَّحِیَّةِ؛ حَتَّی لاَ یَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِی حَیْفِكَ وَ لاَ یَیْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ، وَ السَّلاَمُ).

فبعد أن أثنى علیه السلام على عامله من أنّه من الرجال الذين يعتمدهم في مُهمّاته في إدارة البلاد، ومن الذين يستعين به على إقامة العدل وإظهار دين الله، استمر الإمام علیه السلام في بیان مزاياه على أنّه من الولاة الذين يقمع - أي يدحَر - به الأعداء ويكسر به شوكة المُتكبّرين، أصحاب الذنوب والخطايا، ثُمّ قال: (وَ أَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ) (الثغر: مظنّة طروق الأعداء في حدود المملكة، واللهاة: قطعة لحم مدلاة في سقف الفم على باب الحلق، قرنها بالثغر تشبيها له بفم الإنسان).

ففي كلامه علیه السلام تشبيهٌ رائعٌ من أنّه الخندق المُتقدّم الذي يُدافع من خلاله عن ثغور المسلمين أمام أطماع الأعداء الغاصبين، ثُمّ يطلب منه الاستعانة بالله أولاً وقبل كل شيء أمام الهموم والمشاكل التي تواجهه، والنظر إلى الأمور بدقةٍ

ص: 69


1- الجحاف، يحيى بن إبراهيم، إرشاد المؤمنين إلى معرفة نهج البلاغة المبين، تحقيق السيد محمد حسين الجلالي، ط 1، قم، 1422 ه

وحذرٍ مُتناهي، فالمجتمع وأي مجتمع كان لا يمكن أن يتّصف بسلوك واحد ومسيرة واحدة أبداً، اللّهمّ ربها إلاّ في حالة واحدة عابرة، لها وقت مُحدِد وتزول بزوال المُؤثّر هي حالة (العقل الجَمعي) التي تمرّ بها المجتمعات في وقت ومكان واحد ومُحدّد. فالإمام علیه السلام يُشدّد على الموازنة الدقيقة في التعامل مع الناس (... قيل لبعضهم: مَن أرجح الملوك عقلاً، وأكملهم أدباً وفضلاً؟ قال: مَن صحب أيّامه بالعدل، وتحرّز جهده من الجور، ولقي الناس بالمُجاملة، وعاملهم بالمُسالمة، ولم يُفارق السياسة، مع لين في الحُكم، وصلابة في الحق، فلا يأمَنُ الجريءُ بطشه ولا يخاف البريء سطوته)(1).

ثِقلُ المُوازنَة

قد ذكرنا آنفاً أنّ المجتمع في طبقاته و سُلوکه مُتنوع، وكل طبقة يجب أن يكون لها تعامُل خاصّ بها، علاوة على أن يكون هَمُّ الوالي الأوّل هو النَظر إلى شؤون العامّة من الناس، ومراقبة سَيرِ حياتهم واحتياجاتهم من جميع المجتمع والاهتمام بما دونهم، ولا العكس كذلك فلكلّ موقعٍ خاص، ولا أقصد بوجوه المُجتمع الطبقة الخاصّة التي ذكرها الإمام في عهده للأشتر، إنّما تلك لها مبحثٌ خاصٌّ بها، وهي بعيدةٌ عن هذا المعنى المطروح وهناك فاصلةٌ بينهما. والرعية عموماً تؤلّف الأغلبيّة الساحقة من المجتمع وهُم العامّة، وهذه الطبقة هي الثقل الأساس في المُجتمع والطبقة المضحيّة إذا ما تعرّضت البلاد للعدوان، فهي في المُقدّمة، وقد وضّح إمامنا ذلك أيضا في عهده للأشتر، وأغلب ما تكون هذه الفئة من الناس أصحاب نفوس طيّبة طاهرة مع وجود الرعاع فيهم، فلا

ص: 70


1- الحراني، أبو محمد الحسن، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، ط 2، قم، مؤسسة النشر، 1424 ه

مُنافاة في ذلك، وهي راضية بما قسم الله لها من رزقٍ ومن منزلةٍ، غير آبهة بما يتصارع عليه الآخرون طلباً لجاهٍ أو سلطةٍ أو جمع مال، يُريدون أن يسدّوا رَمَق أطفالهم بمعيشتهم اليوميّة. فليس من العقل إلحاق الضَرر بهذا الإنسان المُستضعف، لأنّ ذلك معناه انهيار الدولة؛ لأنّ هؤلاء الناس ليسوا جُثثاً هامدةً لا قول ولا فعل لهم طيلة حياتهم، إنّما كلمتهم أقوى من أيّ شيء، وإذا أُطلقت فهي البركان المُتفجّر، وهذا لا يحدث إلاّ في حالات مُعيّنة، منها انتشار الظُلم واستدامته، ومحاربتهم في معايشهم، وإهمال حقوقهم المشروعة وقضمها حين ذاك يُحدث ما لم يكن في الحُسبان وما لا یُحمد عُقباه؛ لأنّهم الطبقة الأوسع انتشاراً والأكثر عدداً والقوة العاملة التي تُدير حركة المجتمع بجُهدها وبذلها، فالشدّة المطلوبة هنا ليس مع هؤلاء المساكين الضعفاء وإن بَدَرَ منهم شيءٌ فذلك لا يعني أن يكون مُسوّغاً للوالي لكي یُمارس حالة الظُلم والإجحاف، بل سوء العمل والخطأ، والتأديب يتناسب مع الإساءة التي ارتكبها وهي حالة عادية في المجتمعات، إنّما الشدّة مع الذي يدّعي القوّة ویُحاول بكلّ إمكاناته كسب المنافع الباطلة وأكل السُحت الحرام ولو على حِساب حقّ المُجتمع، بل أحياناً إجحافه وظلمه، وأحياناً تطمع نفسه وتُمنّيه للسيطرة على مُقدّرات البلاد والحُكم، وهذه الطبقة - على ما اعتقد - هي التي يقصدها الإمام علیه السلام لغرض الحذر منها ومتابعتها واستخدام القوّة معها؛ حيث تكون في أغلب الأوقات قريبةً من الوالي بل في بلاطه، وقد سمّاها الإمام بتسميات مُتعدّدة، منها الطبقة الخاصّة والأُخرى (بالعُظماء)، وجعل قِبالَها مُصطلح للعامّة (بالضعفاء). والعظماء هؤلاء يُحاولون بناء كياناتهم على حِساب مَن هُم أضعف قُدرة وأقلّ مقدِرة وأبعد رغبةً، الذين اكتفوا بما أعطاهم الله من مكانة(1).

ص: 71


1- الحلي، جعفر، المختصر النافع في فقه الإمامية، طهران، مؤسسة البعثة، 1410 ه

ص: 72

عِلمُ النَفس الاجتِماعي والعلاقاتُ العامَة مَعَ المُجتَمَع

إنّ قائد البلد وحاكمه لا بدّ وأن يستخدم مُختلف الأساليب في علاقته بطبقات الشعب، ولا بدّ أن يكون مُلمّاً بعض الشيء بعلم النفس الاجتماعي الذي يُعطي للموازنة الاجتماعية حالة الضخّ المعنوي لاستقرار وضع المجتمع، وفي ذلك قال علیه السلام:

(واخْفِضْ لِلرَّعِیَّةِ جَنَاحَكَ وابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَك، وآسِ بَیْنَهُمْ فِی اللَّحْظَةِ والنَّظْرَةِ والإِشَارَةِ والتَّحِیَّةِ؛ حَتَّی لا یَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِی حَیْفِكَ ولا یَیْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِن عَدْلِكَ والسَّلامُ).

إنّ إنزال النفس للرعية والالتفات الكريم لهم تضع حالة الاستقرار في موضعها، وتعطي زخماً قويّاً للعلاقة الصميمة بين الراعي والرعيّة.

إنّ الشعور بأحاسيس المجتمع له دورٌ في تبادل المحبّة والوفاء بين الوالي والرعية، فلا يأتي المقابلة رعيته بوجه مُقطب عبوس يقطر بُغضاً وحِقداً وكراهيّة، أي لا يُقابل المجتمع إلاّ وهو مبسوط الوجه، أي الانبساط والراحة حتى يعطي الدلالة على الرضا والمحبّة؛ لأنّه ليس رئيساً للشرطة أو المحتسب

ص: 73

في البلاد ليكون بتلك الصورة حتّى يخافه المُجرم والمُسيء، إنّما هو أبٌ للرعيبة وقائدٌ لمسيرتهم(1).

ثُمّ يطلب الإمام علیه السلام أن يعطيهم من نفسه حتى يتحدثوا معه ويستأنسوا به، والسماح لهم بتقديم طلباتهم وطرح مظالمهم، فالمساواة بينهم مبدأٌ أساسيٌّ عند الإمام علیه السلام، وهذه المساواة لا تكون في جانبٍ واحدٍ محدودٍ، بل حتى في أقلِّ الأشياء في اللحظة والنَظرة، وهذا الوصف كمال الدِقّة في التعبير، حيث يتبين من خلاله حجم العلوم النفسية والاجتماعية التي يحملها الإمام علیه السلام، والتي صورّها في كلامٍ بليغٍ لا يُدركه إلاّ مَن أمعن في التصوير البلاغي، وهذه تحتاج إلى بحوثٍ خاصّةٍ في العلوم النفسيّة والاجتماعية، حيث لو نظرنا إلى القرب الدقيق في الحالة الوضعيّة الدقيقة لِلحظَة والنظرة، أو في الحركة التي تتمّ بين الأجفان وإدارة العين، والعين إذا نظرت بحركات مُعيّنة، أو الجفن إذا تحرّك، نجد أنّها تحمل في طيّاتها معانٍ كثيرةٍ، فالمَحبّة والغضب، وعدم الرضا فيها والقبول الحَسن وما يتبع ذلك، فإذن، المجتمعات في حياتها اليوميّة قد اهتمّت في هذه العناوين والأعراف وتعوّدت عليها وتوارثتها، وأخذت النفوس تقرأ المعاني في العُيون، وتعرف الأهداف في الإشارة والتحيّة، فالناس أخذت تلتفت إلى هذه الأُمور وتهتمّ بها، فإذا ما كان صاحب تلك التعبيرات في العين والوجه واليدين (الوالي أو الحاكم) فهنا الأمر يكون أشدّ وأكثر أهميةً وخطورةً، ولكن إذا ما ساوى في هذه الصور بين الناس؛ فلا يبقى هناك تأويلٌ مُعيّنٌ أو إشعارٌ بحالة رضى أو رفض لبعض الناس دون الآخرين. يطمع العُظماء في حيفك ولا ييئس الضعفاء من عَدلك)، كل ذلك من أجل رعاية ضعفاء الناس من المجتمع، لأنّ كبراء

ص: 74


1- حمادة، عمار، لقاء مع الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة، بيروت، مركز باء للأبحاث، 2001

القوم - أي عظماءهم - يترصّدون حركة وُكلام الوالي، وهدفهم الانقضاض على الفريسة، أو الجيفة - إن صحّ التعبير - لأنّ مَن يطمع بظلم ضعفاء الناس وسرقة حقوقهم المشروعة عند الوالي لمصالحه الذاتية، ومتابعة ما يقوم به الوالي لهؤلاء من حركات وأفعال لإجهاض كلّ عمل خيرٍ وصالح للناس هو في حقيقة الأمر سقوطٌ على المطامع الدنيويّة التي هي في واقع أمرها جيفة نتنة، وهؤلاء العُظماء يحاولون الاستفادة من كلّ بابٍ مفتوحٍ حتّى يستطيعون اقتحام قلبِ ونفس الوالي لتحقيق مآربهم على حساب غيرهم، وهذه حقيقة واقعة، فهم إذن أظلم مَن عليها؛ لظلمهم ضعفاء المجتمع واستغلال الحضوة والجاه عند الوالي، وقد قال إمامنا علیه السلام في جانب من وصيّته لابنه الحسن علیه السلام: (وظُلم الضعيف أفحش الظُلم)، فالأعمال التي قد تبدو عاديةً بسيطةً، وهي إشارةً ونظرةً وتحيّةٌ ولحظةٌ، إلاّ أنّها تترك آثاراً عظيمة لدى الآخرين، فالمُتتبّع يتربّص تلك الحركات ويُدركها فوراً، فإذا كانت حيفاً للناس أو ظلماً فقد فتح فاه ومَدّ يديه وانبسطت أساريره طمعاً بالوالي لسلب وظلم الضعيف. وكذلك أنّ الإمام علیه السلام يُخبر الوالي أنّ الضعفاء إذا شعروا بظُلمك سوف يُصيبهم اليأس من عدالتك، ومسألة اليأس من العدل تجرّ إلى أُمورٍ كثيرةٍ ستتداولها في بحثنا هذا.

ويستخلص ماذا أراد أمير المؤمنين علیه السلام في بيانه الواضح في عصره وما بعده، وفي حياتنا الحاضرة أيضاً؟ وكيف سيطر الشيطان على النفوس ودفعها نحو الشرّ والرذيلة والانحطاط الخُلقي؟ وبالتالي خراب الوضع النفسي عند المجتمع الذي يدمّر كلّ مدنيّةٍ وكلّ حضارةٍ.

ص: 75

التَقسّيم العِلمي أو المعرفي

لقد بيّنا بعض التقسيمات التي صنّف بها الإمام عليّ علیه السلام المجتمع حسب بعض المفاهيم أو الصفات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذا جانب آخر من تلك التقسيمات هو التقسيم حَسب المعرفة العلميّة، وهذا أيضاً له جوانبه المؤثّرة على حياة المُجتمع ومسيرته، حيث يقول في جانبٍ من كلامه الكميل بن زياد النخعيّ:

(... النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ).

المجتمع من الناحية العلميّة عند الإمام علیه السلام على هذه الأنواع الثلاثة، إلاّ أنّ أخطر هذه الأنواع على المجتمع الصنف الثالث (جهلة الأُمّة)، الذين تُسيّرهم الأهواء، وتدور بهم الدواليب، ويجرّهم القال والقيل، ويجمعهم العقل الجمعي بين الناس، وقد وصفهم الإمام علیه السلام بالهَمَج، وهُم الحمقى من الناس، ثُمّ إنّهم يتّبعون كلّ صيحةٍ بدون عِلمٍ ولا معرفةٍ، سواء كانت هدفها إعادة حقٍّ مغصوبٍ، أو حركة باتّجاه الباطل، فهم مع الرياح أينما تميل يميلون معها، والسبب في كل ذلك أنّهم لا عِلم ولا معرفة لهم حتى يتبصّروا الأمور ويعرفوا حقائقها، فالعلم - كما وصفه الإمام علیه السلام - نورٌ يُستضاء به في الظلمات، ثُمّ ليس لديهم أو في فكرهم أيّ استقرار أو هدوءٍ في أعمالهم وحركاتهم، وهم الأدوات الذين يُحرّكهم الناس كيفما شاءوا، لا استقرار لهم في رأيٍ ولا مشورة لهم أبداً. تجلبهم الصيحة سواء كانت من هُنا أو هناك كما يُحرّك مشاعرهم المال.

ص: 76

التقسيم الإنساني

ينتقل الإمام عليٌّ علیه السلام إلى صورةٍ أُخرى في نقلةٍ حضاريةٍ أخلاقيّةٍ في منتهی الإنسانيّة والشعور الفيّاض بالأحاسيس والمشاعر البشريّة، ويُصنّف المجتمع بشكلٍ أنسانیٍّ آخر، حيث يُقسّم الناس إلى صنفين يُشکّلان عُموم الأمّة، فالناس عند عليٍّ علیه السلام صنفان:

(إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظيرٌ لك في الخَلق).

وهذه نظرةٌ إنسانيةٌ عظيمةٌ، بل حضاريّة راقية لا يمكن أن يدرك مدى قيمتها إلاّ مَن يمتلك عقلاً راجحاً وثقافةً واسعةً. تكلّم بها أمير المؤمنين علیه السلام وأعطاها مبدأً عاماً للبشرية، و قانوناً إنسانياً حضارياً، إن طُبّق بما جاء فيه سعدت البشريّة وحَلّ الأمن والسلام. وما يطرحه أدعياء الحريّات وحقوق الإنسان من مبادئ عامّة بهذا الشأن لا تعدو كونها محض نِفاق وكذب، والإشارات كثيرةٌ في هذا الجانب ولا مجال لذكرها، وهذا ما نراه في عصرنا الحاضر وما سبقنا، حيث التبجّح والتمسّك الزائف بنصوص برّاقةٍ ولامعةٍ تحوي الخُلق السليم على الورق والقتل والسبي والتشريد للشعوب المستضعفة على الأرض. فالإنسان عند عليٍّ علیه السلام أخو الإنسان، سواء كان في الدين وارتباطاته الوشيجة أو في الخلقة، فالله خلقهم كلهم من آدم وحواء:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

أيّة نظرةٍ عظيمةٍ هذه، بعيدةٌ كلّ البُعد عن العنصرية والتعسّف والاستخفاف والاستهانة بالناس، أيّة صورةٍ ناصعةٍ هذه يُعطيها عليٌّ علیه السلام للحكّام وللمجتمعات البشريّة، وللتعايش السلمي في الدولة الواحدة وبناء كيانها على أُسسٍ إنسانيّةٍ

ص: 77

قَلّ مثيلها. أين نحن الآن في عصرنا هذا من أفكار عليٍّ علیه السلام وما نشاهده من تمييزٍ عنصريٍّ وحقدٍ دينيٍّ وصراعٍ طائفيٍ، وجرائم بشعةٍ تُرتكب بحقّ البشرية باسم الإنسانيّة والدفاع عن حقوقها؟! ولنظر إلى واضع أُسس الحريّة والعدالة والإنصاف علیٍّ علیه السلام تلميذ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، الذي قدّم تلك الأفكار المليئة بالروح الإنسانيّة، ونُطبّق ما قدّم لنا وللمجتمعات الإنسانيّة(1).

إنّ حالة التعايش الإنساني الأخلاقي في المجتمعات تبعث الأمل في النفوس، ويعمّ النموّ والانبعاث والتطوّر، وتبدع العقول فيها بعد أن أصبحت الحياة الاجتماعية واحة أمان ومحبة وإيثار في ظل المبادئ السامية التي أعلنها علي علیه السلام (إمّا أخٌ لك في الدّين)، فإذا كان كذلك فلهُ حقوقٌ تستوجب أداءها في الإسلام، وقد شرح الدين ذلك ووضع أفضل الصِيغ للتعامل الأخوي والإنساني. فإذا كان أخٌ في الدين يجب أن يتبادل الحقوق مع الآخرين؛ لأن تلك المبادئ قوانين عامّةٌ وتامّةٌ لا تحتاج إلى تمحيصٍ، إنّما تحتاج إلى تطبيقٍ من خلال التربية الدينية والأخلاقية، وترويض النفس حتى تطوّع للعمل بتلك القيم العظيمة(2).

و (ما يجري بين الناس بعضهم لبعض: من أداء الحقوق وتأدية الأمانات والنصفة في المعاملات والمعارضات و تعظيم الأكابر والرؤساء وإغاثة المظلومين والضعفاء. فهذا القِسم من العدالة يقتضي أن يرضى بحقّه، ولا يظلم أحداً، ويقيم كل واحدٍ من أبناء نوعه على حقّه بقدر الإمكان، لئلاّ يجور بعضهم بعضاً ويُؤدّي حقوق إخوانه المؤمنين بحسب استطاعته. وقد ورد الحديث النبوي: (إنّ للمؤمن على أخيه ثلاثين حقاً لا براءة له منها إلاّ بأداءٍ أو العفو: يغفر زلّته، ويرحم غُربته، ويستر عورته، ويقبل عثرته، ويقبل معذرته، ويردّ غيبته، ويديم

ص: 78


1- حمادة، عمار، مصدر سابق
2- محمود، أ. د. خضير كاظم، السياسة الإدارية في فكر الإمام علي بن أبي طالب بين الأصالة والمعاصرة، بيروت، مؤسسة الباقر

نصيحته، ويحفظ خلّته، ويرعی ذمّته، ويعود مرضته، ويشهد ميتته، ويُجيب دعوته، ويَقبل هدّيته، ويُكافئ صِلته، ویشکر نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويطيب كلامه، ويبرّ إنعامه، ويصدق أقسامه، ويُواليه ولا يُعاديه، وينصره ظالماً أو مظلوماً، فأمّا نصرته ظالماً فيردّه عن ظُلمه، وأمّا نُصرته مظلوماً فيُعينه على أخذ حقّه، ولا يَسأمه، ولا يخذله، ويحبّ له من الخير ما يحبّ لنفسه، ويكره له من الشرّ ما يكره لنفسه).

(وإمّا نظيرٌ لك في الخَلق)، وهذه أيضاً لها مضامینها و ضوابطها، فالدين الإسلامي مترجَمٌ بفكر عليٍّ علیه السلام، الذي طرح العدالة بمعانيها الحقّة، مطبقاً على نفسه أولاً ومُراعياً كلّ الظروف التي تمرّ على المجتمعات من خيرٍ أو شرٍّ، یُرید أن يبني مُجتمعاً إنسانيّاً بمعنى الكلمة، فالإنسان عنده الهدف في البناء، والبناء لا يكون إلاّ بأساسٍ مُحكمٍ والأساس المُحكم هو العدالة المُطلقة، فعليٌّ كان لا يلتفت إلى جانب إنسانيٍّ ويترك الآخر، إنّه ينظر نظرةً شاملةً للأُمّة، ويكون ذلك عِبر الحكم بالحقّ كافة، فلا ينسى مثلا (أهل الذمة وغيرهم) من اليهود والنصارى ومن الطوائف الأخرى، فهو مثلاً يقول إلى عمّال بلاده:

(أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّی قَدْ سَیَّرْتُ جُنُوداً هِیَ مَارَّةٌ بِکُمْ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ، وَ قَدْ أَوْصَیْتُهُمْ بِمَا یَجِبُ لِلَّهِ عَلَیْهِمْ مِنْ کَفِّ اَلْأَذَی وَ صَرْفِ اَلشَّذَی، وَ أَنَا أَبْرَأُ إِلَیْکُمْ وَ إِلَی ذِمَّتِکُمْ مِنْ مَعَرَّةِ اَلْجَیْش)(1).

یُخر الإمام علي علیه السلام عُمّاله و جُباة الخراجٍ بأنّه قد وجّه جيشاً إلى جهة معينة وهو يمرُّ بهم، وأنّه قد أوصاهم بكفّ الأذى وإبعاد شرّهم عن الناس، ثُمّ يقول: (وإلى ذِمّتكم)، أي: اليهود والنصارى الذين بينكم، قال علیه السلام: (مَن آذى ذّميّاً فكأنّما آذاني)، وقال: (إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم

ص: 79


1- خالد، خالد محمد، في رحاب الإمام علي عليه السلام، القاهرة، دار الإسلام

كأموالنا)، ويسمّى هؤلاء ذمّة، أي أهل ذمّة، بحذف المُضاف. والمعرة: المضرّة، قال: الجيش ممنوع من أذى مَن يمرُّ به من المسلمين وأهل الذمّة، إلاّ مِن سدّ جوعة المُضطر منهم خاصّة؛ لأنّ المُضطر تُباح له المِيتة فضلاً عن غيرها(1).

ص: 80


1- حمود، أ. د. خضير كاظم السياسة الإدارية، مصدر سابق

أهلُ الذِمّة والإسلام

(إنّ حُقوق الأقليّاتٍ في الإسلام محكومةٌ بموقف الإسلام الأساس من كرامة الإنسان، ومن الإشارات القرآنيّة والنبويّة المُستمرّة التي تُنبّه إلى أنّ الناس خَلقُ الله وعياله، وأنّهم من نفقس آدم علیه السلام، وأنّهم نُظراء لنا في الخَلق على حَدِّ تعبير الإمام عليٍّ علیه السلام، إذ نحسب أنّ علائق الناس درجاتٌ في التصوّر الإسلامي، فهناك العلاقة الإنسانيّة التي يُمكن أن تتمّ بانفصالٍ تام عن مُختلف فوارق اللون و العِرق والدين. الإنسان لمجرّد كونه أنساناً فيه قبسٌ من روح الله).

وهذا الصِنف من الناس - أي (أهل الذمة ) - كانوا يعيشون بأمنٍ وسلامٍ في ظلّ المبادئ الإسلاميّة السمحاء، وتُؤخَذ منهم الجزية وفقاً لِما فرضه كتاب الله وحدّدته الشريعة، ولذلك فإنّ المُسلمين كانوا مسؤولين عن أمنهم والدفاع عنهم.

الدفاعُ عنِ المُعاهدين

إنّ الإمام عليّاً علیه السلام يعتبر الدفاع عن المُعاهدين من الضرورات الأساسيّة التي لا يجد فيها فرقاً بينهم وبين غيرهم من المسلمين، ففي وقائع الغزوات المُتكررة الجيش مُعاوية بن أبي سفيان على قُرى ومُدن الدولة الإسلاميّة في الأنبار، حيث

ص: 81

قتلوا ونهبوا وسلبوا وأحرقوا كلّ شيءٍ للناس، فتأثّر عليٌّ علیه السلام تأثراً شديداً و حثّ أصحابه على الجهاد والقيام لمقارعة العدو بعد أن وجد فيهم التكاسل والتباطؤ والخذلان، وقد قال في ذلك:

(وَ لَقَد بلَغَنَيِ أَنّ الرّجُلَ مِنهُم كَانَ يَدخُلُ عَلَي المَرأَةِ المُسلِمَةِ وَ الأُخرَي المُعَاهِدَةِ، فَيَنتَزِعُ حِجلَهَا وَ قُلُبَهَا وَ قَلَائِدَهَا وَ رُعُثَهَا، مَا تَمتَنِعُ مِنهُ إِلّا بِالِاستِرجَاعِ وَ الِاستِرحَامِ، ثُمّ انصَرَفُوا وَافِرِينَ، مَا نَالَ رَجُلًا مِنهُم كَلمٌ، وَ لَا أُرِيقَ لَهُم دَمٌ، فَلَو أَنّ امرَأً مُسلِماً مَاتَ مِن بَعدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَل كَانَ بِهِ عنِديِ جَدِيراً).

في هذا الخطاب ظهر حزن الإمام علیه السلام لِما جرى على المرأة المُسلمة والأُخرى المعاهدة - أي من أهل الذمة - الذي سلب جیش معاوية منها حِجلها و (قلبها) - السوار المصمت - و قلائدها و (رعثها) - وهو ضرب من الخزر - وهُنّ لا يستطعن فعل شيءٍ سوى ترديد كلمة (إنا لله وإنّا إليه راجعون) مع مُناشدة هؤلاء القساة الرحمة، ثُمّ بعد ذلك عادوا من حيث أتوا بدون أيّ شيءٍ، تامّين العَدد ولم يُجرح منهم أحدٌ. و(الكَلم) الجُرح. ثُمّ أسَفَهُ كان واحداً لتلك المُسلمة والمعاهدة، فهي تحت حمایته کا هي المسلمة(1).

لقد عبّر عليٌّ علیه السلام عن عُمق حُزنه على أعمال هؤلاء الغَدَرَة في قوله:

(فَلَو أَنّ امرَأً مُسلِماً مَاتَ مِن بَعدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَل كَانَ بِهِ عنِديِ جَدِيراً).

فأهل الذمّة عند عليٍّ علیه السلام مصونون محفوظون في مالهم وأعراضهم و کراماتهم. وهذه النظرة الإنسانيّة التي لا نجد لها نظيراً في العصور السابقة، حيث إنّ بلاد الأندلس عاش فيها المسلمون مئات السنين وبينهم أهل الذمّة على عقائدهم

ص: 82


1- الحكيم، محمد باقر، دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة، دار العترة، 1424 ه

لم يمسهم أحد، وحينما دارت الدوائر على المسلمين أنزلوا السيف على رقاب المسلمين أو يُحرَقوا إن لم يَرتدّوا، وشُرّد الباقون منهم، بحيث لا تشعر أنّ هذه البلاد مَلكها المسلمون مئات السنين، فلم يبقَ فيها إلاّ نزرٌ يسيرٌ أخفى دينه وإيمانه. والآثار الإسلامية الباقية تُدلل على الامتداد والعُمق الإسلامي المُتأصل في هذه الأرض حتى عصرنا الحالي، حيث التبعيض في المعاملة اتّجاه المسلمين وتقتيلهم وتشريدهم والعبث بكلّ مُقدّراتهم. وعلماء الاجتماع الإنساني والمفكرون لم ينسبوا ببنة شَفَةٍ حول ذلك، فليعملوا بما كان من معاملة أبناء الطوائف والأديان الأخرى كما كان يفعل عليٌّ عليه السلام، ويُطبّق بحقّهم عامل العدالة والإنصاف.

ثُمّ إنّهم لا يدخلون في الجيش الإسلامي كجُنود، إنّما كانت تُحسن معاملتهم، وكانوا مع المسلمين على سواء أمام القانون في القضايا الحقوقيّة (1)(1).

التقسيم الإيماني

هناك تقسيمٌ آخر عبّرنا عنه ب (الإيماني)، وهو ضمن نطاق المُجتمع بصورةٍ عامّةٍ.

فقد قال الإمام علیه السلام في قِسمٍ من خُطبةٍ له:

(شُغِلَ مَنِ الْجَنَّةُ وَالنّارُ أَمامَهُ ساعٍ سَرِیعٌ نَجا وَطالِبٌ بَطِیءٌ رَجا وَمُقَصِّرٌ فِی النّارِ هَوَی).

هؤلاء ثلاثة أصنافٍ بهيئات إيمانيّة مُختلفة تنطبق في واقع الأمر على حقائق إيمان الأفراد وأعمالهم للآخرة، وهذه الصفات أيضاً تترتب عليها أُمورٌ كثيرةٌ في

ص: 83


1- الحكيم، محمد باقر وآخرون، مكانة أهل البيت عليهم السلام في الإسلام والأمة الإسلامية، ایران، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، 1422 ه

حياة المجتمع وعلاقاته وطبيعة التعامل فيما بينهم.

فالإمام عليه السلام تَضمّن معنی کلامه التأكيد على أنّ (مَن كانت أمامه الجنّة والنار على ما وصف الله سبحانه، فحريٌّ به أن تنفذ أوقاته جميعهاً في الإعداد للجنّة والابتعاد عمّا عساه يؤدّي إلى النار).

ثُمّ قسّم الناس إلى ثلاثة أقسام:

(الأول) الساعي إلى ما عند الله السريع في سعيه، وهو الواقف عند حُدود الشريعة، لا يشغله فرضها عن نفلها ولا شاقها عن سهلها.

و (الثاني) الطالب البطيء، له قلبٌ تعمرُه الخشية، وله صِلةٌ إلى الطاعة، لكن ربما قعد به عن السابقين ميلٌ إلى الراحة، فيكتفي من العمل بفرضه، وربما انتظر به غير وقته، وينال من الرخص حظّه، وربما كانت له هفوات، ولشهوته نزوات، على أنّه رجّعٌا إلى ربّه، كثيرٌ النَدَم على ذنبه، فذلك الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيّئاً، فهو يرجو أن يغفر له.

والقِسم الثالث المُقصّر: وهو الذي حفظ الرسم ولبس الاسم وقال بلسانه أنّه مؤمن، وربما شارك الناس فيما يأتون من أعمالٍ ظاهرةٍ كصومٍ وصلاةٍ وما شابههما، وظنّ أنّ ذلك كلّ ما يطلب منه، ثُمّ لا تورده شهوته منهلاً إلاّ عبّ منه، ولا يميل به هواه إلى أمر إلاّ انتهى إليه، فذلك عبد الهوى وجدير به أن يكون في النار هوی).

التقسيم الإداري

الجُند

وهو في تعبيرنا العسكري الحالي: القوات المُسلّحة، أي الجيش الذي يُحافظ على الكيان السياسي والاجتماعي، ويُدافع عن الثغور من الأعداء، ويقوم

ص: 84

بالعمليّات الجهاديّة من فتح للبلدان أو حفظ الأمن العام، وهذا الصنف من المجتمع ذكرهم الإمام عليٌّ علیه السلام في مواضع مُختلفةٍ؛ نظراً لأهميّة موقعيته في الدولة والمجتمع بصورة عامّةٍ، ثُمّ حدّد معالمهم وصِفاتهم وأهمّيتهم بالنسبة لقوام الكيان السياسي، وصيانة أمن البلاد والمُحافظة على الأنفس والأرواح، وهم هيبة الدولة والسلطان، واهتم بنوعية قيادتهم، ثُمّ عالج مسألة أُسلوب تعبئة هذه القوات، أي أعطى صورة التعبئة العسكرية التي يستخدمها هذا الجيش، كما نقول في عُرفنا المُعاصر هناك تعبئة إنكليزيّة أو أمريكيّة وأُخرى ألمانيّة أو روسية، وكلٌّ يختلف بعضها عن البعض الآخر، ولهم نظريّات مُعينة في كلّ واحدة من هذه الأنواع، فالإمام عليٌّ علیه السلام أيضاً له تعبئة خاصّة يطلب تطبيقها على جنده في أيام الحرب، وهذا جانب من تعبئته للجيش، حيث يقول علیه السلام:

(فَقَدِّمُوا الدَّارِعَ وَ أَخِّرُوا الْحَاسِرَ وَ عَضُّوا عَلَی الْأَضْرَاسِ؛ فَإِنَّهُ أَنْبَی لِلسُّیُوفِ عَنِ الْهَامِ، وَ الْتَوُوا فِی أَطْرَافِ الرِّمَاحِ؛ فَإِنَّهُ أَمْوَرُ لِلْأَسِنَّةِ، وَ غُضُّوا الْأَبْصَارَ؛ فَإِنَّهُ أَرْبَطُ لِلْجَأْشِ وَ أَسْکَنُ لِلْقُلُوبِ، وَ أَمِیتُوا الْأَصْوَاتَ؛ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ، وَ رَایَتَکُمْ فَلاَ تُمِیلُوهَا وَ لاَ تُخِلُّوهَا وَ لاَ تَجْعَلُوهَا إِلاَّ بِأَیْدِی شُجْعَانِکُمْ).

وفي كلام آخر له علیه السلام:

(وَأَکْمِلُوا اللَّأْمَهَ، وَقَلْقِلُوا السُّیوفَ فِی أَغْمَادِهَا قَبْلَ سَلِّهَا، وَالْحَظُوا الْخَزْرَ، وَاطْعُنُوا الشَّزْرَ، وَنَافِحُوا بِالظُّبَی، وَصِلُوا السُّیوفَ بِالْخُطَا، وَاعْلَمُوا أَنَّکُمْ بِعَینِ اللَّهِ، وَمَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ. فَعَاوِدُوا الْکَرَّ، وَاسْتَحْیوا مِنَ الْفَرِّ، فَإِنَّهُ عَارٌ فِی الْأَعْقَابِ...).

ص: 85

الدرع الحصين

يُطلق على الجيش عادةً بالدرع الحصين؛ لأنّ الأُمّة تتستّر بالجيش في المواقع الخطيرة التي يتعرّض فيها الوطن إلى الغزو أو الاعتداء أو السلب والنهب، فقال فيهم عليٌّ علیه السلام:

(فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ وَ زَيْنُ الْوُلاَةِ وَعِزُّ الدِّينِ وَسُبُلُ الاَمْنِ، وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ).

يُعطي أمير المؤمنين علیه السلام أهميّةً لوجود الجُند، فهم الدرع الواقي من الأعداء، و به تحصّن الأُمّة خوفاً من الفتك أو سلب الممتلكات أو إزهاق الأرواح والاعتداء على الأعراض وإيجاد الخلل والإرباك في حياة المجتمع، وهكذا يستمر بالكلام فيقول: (وَ زَيْنُ الْوُلاَةِ) أي إنّ الجيش للوالي أو الحاكم زينٌ وما یزدان به بحيث يشعر الوالي بالمهابة والافتخار وعلوّ الهامة، فالرؤساء الآن يستعرضون قوّاتهم دائماً في الساحات العامّة وأمام الجماهير، ويبرّزون ذلك إعلاميّاً ليفتخروا وتزداد قوتهم وصلابتهم من خلال الدفع المعنوي الذي يحصلون عليه.

ثُمّ (وَعِزُّ الدِّينِ)، فقد قامت الدولة الإسلاميّة في عهد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم و قویت شوكتها بذلك النفر المجاهد من أهل بدر، ولولا تلك القوّة البسيطة العدد القوية بالإيان لَما استقام الأمر، ثُمّ تطوّرت الحالة إلى تجييش الجيوش لمُقاومة الكفّار والمشركين وفتح البلدان، حتى في وقت مرضه والذي أعقبته وفاته صلی الله علیه و آله وسلم أنفذ جيش أُسامة لكي يُرسله إلى بلاد الشام، وطلب من أكابر الصحابة - بما فيهم الخليفة الأوّل والثاني - أن يلتحقوا بهذا الجيش الذي عسكر بالقُرب من

ص: 86

المدينة ولعن من تَخلّف عنه.

ومع ذلك تخلّفوا عن ذلك الجيش، فالغرض من ذلك هو أنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قد اهتمّ بأمر الجيش وأمر الصحابة بالالتحاق به؛ لأنّه عزّ الدين، وبه يكون الذود عن حمى المسلمين، والدفاع عن مبادئ الدين فاهتمّ بأمره ذلك الاهتمام العظيم، حتى أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قد أعطى أجمل الصور المثاليّة للمجتمعات الإنسانيّة عامّة بتقديمه على أصحابه وأتباعه ليصون ويحافظ على دين الله كما يذكر ذلك أمير المؤمنين، حيث يقول:

(وَکَانَ رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله وسلم إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وَأَحْجَمَ النَّاسُ قَدَّمَ أَهْلَ بَیْتِهِ فَوَقَی بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ السُّیُوفِ وَالْأَسِنَّةِ، فَقُتِلَ عُبَیْدَهُ بْنُ الْحَارِثِ یَوْمَ بَدْرٍ، وَقُتِلَ حَمْزَةُ یَوْمَ أُحُدٍ، وَقُتِلَ جَعْفَرٌ یَوْمَ مُؤْتَةَ، وَأَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَکَرْتُ اسْمَهُ مِثْلَ الَّذِی أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ وَلَکِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ وَمَنِیَّتَهُ أُجِّلَتْ).

وغالباً فإنّ أيّ حاكمٍ أو سلطانٍ أو راعي رعية يريد الحصول على مجتمع متكاملٍ ومتكافئ تحت إمرته ويقوده نحو الصلاح لا بدّ وأن يكون هو ذلك القائد أُمثولةً لَمن هو دونه في التضحية والفداء والسخاء والكرم والعِفّة والأمانة، فالمجتمعات الإنسانيّة تفتخر بمَن هو قُدوةٌ، وتعتزّ به لِما أدركته فيه من خصالٍ حميدةٍ، وإقدامٍ شجاع، وتضحيةٍ جسميةٍ وخُلقٍ رفيعٍ(1).

(وَسُبُلُ الأَمْنِ) الخاصّية الثالثة: هي القوّة الصائنة التي يكون فيها حِفظ الأمن والنظام في البَلد، وتكون حياة الناس ومصائرهم محفوظة من الأخطار والأهوال والاستغلال، والمجتمع لا يقوم إلاّ بهؤلاء المدافعين عن كيان الأُمّة (وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ).

ص: 87


1- خدوري، د. مجيد، الحرب والسلم في شرعة الإسلام، بیروت، الدار المتحدة للنشر، 1973

الجيشُ والخَراجُ

يؤكّد الإمام على الميزانيّة العامّة للجيش، وتخصيص المبالغ الكافية لكي يكون هذا الجيش الذي يحمل تلك المزايا المُهمّة للبلد والمجتمع جاهزاً و كاملاً ومسلّحاً تسليحاً قويّاً، وبدون المال لا يكون هناك جيشٌ قويٌّ ولا سلطة رصينة تحفظ المجتمع وتصونه وتُجاهد عدوّه و تُصلح به ما فسد من أمرِ الأُمّة:

(ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ).

المُثُلُ العُليا والقيادةُ العَسكَرِيَّة

إنّ المجتمعات الرصينة تحمل صفات قادتها دائماً، فالقائد الشجاع يكون أُمثولةً صادقة لشعبه، والعسكري الباسل الذي يحمل الصفات الأخلاقيّة العالية، والطاعة الكاملة، والإيمان العالي تكون صورته وأعماله الحافز الأوّل والرئيسي لإقدام الجندي وبروز شجاعته وتضحيته في سوح الوغى، ولذا وضع مُعلّم الإنسانيّة الثاني بعد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الإمام عليٌّ علیه السلام تلك الخِصال الطيّبة في هذه الصور الرائعة:

(فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِى نَفْسِكَ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ وَ أَنْقَاهُمْ جَيْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً، مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ وَ يَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ وَ يَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ، وَ مِمَّنْ لايُثِيرُهُ الْعُنْفُ وَ لايَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ، ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِى الْمُرُوءَاتِ وَ الْأَحْسَابِ وَ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ السَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ، فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَ شُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ، ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا، وَ لايَتَفَاقَمَنَّ فِى نَفْسِكَ ءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ، وَ لاتَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَ إِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ

ص: 88

لَهُمْ إِلى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ وَ حُسْنِ الظَّنِّ بِكَ، وَ لاتَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالاً عَلى جَسِيمِهَا فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَ لِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لايَسْتَغْنُونَ عَنْهُ).

قال ابن أبي الحديد: (هذا الفصل مُختصّ بالوصاة فيما يَتعلّق بأُمراء الجيش، أمره أن يولّي أمر الجيش من جنوده مَن كان أنصحهم لله في ظنّه، وأطهرهم جيباً، أي عفيفاً أمينا، ويُكنّی عن العِفّة والأمانة بطهارة الجيب لأنّ الذي يسرق يجعل المسروق في جيبه، فإن قُلت: وأيُّ تعلق لهذا بولاة الجيش؟ إنّما ينبغي أن تكون هذه الوصيّة في وُلاة الخراج! قلتُ: لا بُدّ منها في أُمراء الجيش لأجل الغنائم).

من خلال كلام الإمام علیه السلام نخرج بحصيلةٍ من المعاني الأساسيّة والتي لها تأثيرٌ مباشرٌ على سلامة المُجتمع، وما خصَّ به الإمام علیه السلام من كلامه وهو الجيش، حيث يجب تولية قيادات الجيش إلى مَن يحمل الإيمان الثابت بالله، والاعتقاد الراسخ برسوله، والطاعة التامّة للإمام، ولا يكون عكس ذلك، بالإضافة إلى تمّتعه بأخلاق عاليةٍ وعفّةٍ وطهارةٍ وأمانةٍ واستقامةٍ عامّة تؤهّله لهذا المنصب الحساس؛ لأنّ ما يتحمّله هذا المنصب من مهمّاتٍ وتنظيمٍ وإدارةٍ وإحساسٍ و شعورٍ بالمسؤولية تفرض أن يكون قائد الجيش حاملاً للخصال الحميدة، من الشجاعة المتناهية والصلابة اتجاه الأعداء واللين والرأفة مع جنده في الأوقات التي تحتاج إلى ذلك(1).

ثُمّ (مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ) أي يقبل أدني عُذرٍ ويستريح إليه، وتسكن عنده الجُند، ويرأف على الضعفاء، أي يرفق بهم

ص: 89


1- الخراساني، محمد واعظ وآخرون، الحكومة من وجهة نظر المذاهب الإسلامية، طهران، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب، 1419 ه،

ويرحمهم، والرأفة: الرحمة، (يَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ): يتجافي عنهم ويبعُد، أي لا يُمكنّهم من الظُلم والتعدّي على الضعفاء (وَ مِمَّنْ لايُثِيرُهُ الْعُنْفُ): لا يهيج غضبه عُنفٌ وقسوةٌ، ولا يقصد به الضعف أي ليس عاجزاً.

(ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِى الْمُرُوءَاتِ وَ الْأَحْسَابِ وَ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ).

في هذا المقطع أعلاه يتوخّى الإمام من ولاته تنصيب قادِة جُنده على أُسسٍ أخلاقيّةٍ وعلميّة حتى يبعد كلب شُبهة تُضعضع نظام الجيش و تخلخله، فهو يختار الصفات المُناسبة بدقّةٍ مُتناهيةٍ، نلاحظ من خلال ذلك مدى التفكير بالمستقبل، فهو يُبني على أُسسٍ مدروسةٍ تامةٍ ذات أهدافٍ بعيدةِ المدى تُنبئ عن عقليّة جبّارة فائقة، فبعد أن يُعطي المعالم الشخصية الأخلاقية للقائد يستمرب في كلامه ، فيطلب أن يكون قادة الجُند من المعروفين بأنسابهم الطيّبة وأحسابهم المعروفة (وكان يقال: عليكم بذوي الأحساب، فإن هُم لم يتكرّموا استحيوا).

ثُمّ (وَ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ السَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ)؛ لأنّ الشَرَف والكرامة والفضيلة هي من الأُسس التي يقوم عليها كيان الجيش، بدءاً من القائد الأوّل إلى الأدنى، ونلاحظ ذلك الآن في الإعلام الحربي وغيره لدى الكثير من الدول التي تؤكّد على هذه الخِصال، وتلصق بجيوشها الخصال الرفيعة من الشرف والكرامة، وتؤكّد دائماً على أنّ الجيش هو الشرف الأعلى في المجتمع لِما فيه من رفع المعنويّات، و (الجنديّة تعمل على بثّ روح الثقة الاجتماعية بين الأفراد وحبّ الطاعة للنظام العام، والكراهة للتفرقة والانقسام، والحثّ على الأُخوّة والوئام والتعاون والتكاتف في سبيل مصلحة المجموع وتقدیس الواجب، وهذا الخُلق الروحي هو جوهر ما ترمي إليه تعاليم الجنديّة ونظامها) إذا كانت هذه الصفات تعطيها الجنديّة أو تُربّي روح المقاتلين عليها، فما حال جيش

ص: 90

العقيدة الإسلاميّة و جُند عليٍّ علیه السلام؟ فمِن المؤكّد أن يكون على رأس هذا الجند مَن هُم بتلك الصفات التي ذكرها الإمام عليٌّ علیه السلام، وتلك الخِصال الحميدة الطيبة، ثُمّ عدد الإمام بعضها وهي الأساس:

1. مِن أهل النجدة.

2. شجاع.

3. سَخي.

4. من أهل السماحة.

5. أمين.

كلّ هذه كما قال الإمام علیه السلام (جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَ شُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ) أي: إنّ هؤلاء القادة يحملون ّصفات الكرم، و بالأحرى مجموعةٌ من المكارم والمعاني الأخلاقية وأقسام المعروف بكلّ أنواعه(1).

ص: 91


1- الدمشقي، شمس الدين ابن بركات، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي (عليه السلام)، تحقيق محمد باقر المحمودي، ط 1، قم، مجمع إحياء التراث العربي، 1415 ه

عِلمُ النفس الاجتماعي في تعامُلِ عليِّ علیه السلام مع جُنده

لقد وضّح الإمام عليٌّ علیه السلام أهميّة الجند وأثرهم الفعّال في حياة الكيان العامّ السياسي والاجتماعي، ثُمّ أعطى بعد ذلك وجهة نَظره في اختيار القيادات العسكريّة وصفاتهم وأفعالهم السابقة، وعاد ليُعالج مسألةً حسّاسةً وحيويّةً في مسيرة بِناء الجيش والمحافظة على تنظيمه وتكامله والدفع المعنوي له، حيث أخذ يُعالج المسائل المُتعلّقة بالجُند معالجةً نفسيّةً اجتماعيّةً، ثُمّ يُعطي رأيه السديد في هذا الأمر حتى لا يبقى جانبٌ من الجوانب المتعلّقة بحياة وعمل هذه الشريحة الكبيرة من المجتمع دون اهتمامٍ أو بيانٍ لها، فالقائد الشجاع والمُميّز بصفاته الأخلاقيّة الذي يهتّم بأمر جُنده ويُعينهم في وقت الشِدّة والحاجة هو الذي يجب أن يَحضى بالمنزلة الرفيعة والاهتمام الكافي به

(وَلْيَكُنْ آثَرُ رُؤُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِى مَعُونَتِهِ، وَ أَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ بِمَا يَسَعُهُمْ وَ يَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ حَتّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِى جِهَادِ الْعَدُوِّ).

فالإمام علیه السلام وفي التفاتةٍ رائعةٍ إلى الجانب الاجتماعي والنفسي للجند يُقدّم لنا

ص: 92

صوراً للتعامل الإسلامي العظيم، فيؤكّد على أن يكون أفضل قادة الجُند لديك مَن واسی جُنده بما حمله من المال و صرفه عليهم وعلى أهليهم الذين خلّفوهم في مساكنهم من أولادٍ ونساءٍ، والذين لا يوجد أحدٌ لديهم يعيلهم أو يمدّهم بالمال والغذاء، إلاّ ذلك المجاهد في سبيل الله الملتحق بالجيش، وهذه مسألةٌ في غاية الأهميّة، حيث لها آثارٌ اجتماعيّةٌ ونفسيةٌ عظيمةٌ وضحها الإمام علیه السلام بجلاء، حيث قال:

(حَتّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِى جِهَادِ الْعَدُوِّ).

فالجندي إذا ما ضمِن المعيشة أو الاستقرار المادّي والأمني لأهله من بعده، وعدم وقوعهم في حالة العوز والفاقة، فإنه لا يلتفت إلى وراءه، وتكون جهته هي جبهته، و همّه هو قتال عدوّه، وهو معتقد حتّى وإن استشهد فإنّه مُطمئنُّ البال، وينام قرير العين في مرقده النهائي، فلا يمكن أن يكون الجندي في ساحة المعركة فكره مشغولٌ بأمورِ عائلته، وقد يترافق مع تلك الأموال سوء معاملة القائد العسكري لجنده، حيث يترك ذلك الآثار السلبية الذي ينتج عنه الفرار وانكسار الجيش وهزيمته أمام العدو(1).

لقد أعطى الإمام علیه السلام الجوانب الايجابيّة للمُعاملة الحسنة والآثار السلبية للمواقف السيئة، وأكّد أنّ عطف القائد ورعايته للجند يبعث الراحة والطمأنينة لديهم، وبالتالي يعود ذلك عليه خيراً حيث يُقدّم الجند أنفسهم وأرواحهم على أكفّهم، حيث يقول علیه السلام:

(فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك).

وبالتالي فإنّ الجُند سوف يُبادلون القائد نفس الحبّ والحنان والمودّة.

ص: 93


1- الدينوري، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسياسة، تحقیق علي الشيري.، ط 1، مطبعة أمير، 1413 ه

العلاقةُ الإنسانيّة ومودّة الأُمّة

هناك ترابطٌ قويٌّ بين اهتمام الوالي بالعدل والإحسان وبين ظهور مودّة الرعيّة للوالي ونصحهم في ذلك، وقد قال عليٌّ علیه السلام:

(وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاَةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ؛ وإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بِسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ، وَلاَ تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلاَّ بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلاَةِ الاُمُورِ وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ وَتَرْك اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ).

وينفكّ عن هذا الارتباط الجندي الذي لا يُمكنه التضحية في ساحة الوغى أو النصح لولاته إذا كان لا يرغب بهم ولا يميل إلى وُدّهم، حيث يستثقل وجودهم مع دولهم ويتمنّى زوالها لِما عاناه منهم(1).

أمّا إذا كان الأمر عكس ذلك، فإنّهم (لا يستبطوا انقطاع مدّتهم، بل يعدّون زمنهم قصيراً يطلبون طوله).

حيث ربط الإمام عليٌب علیه السلام بين ما سبقَ وما لَحق من تبادل النُصح والمحبّة بين الجُند والوالي، وبين ما يتبع ذلك من واجبات و حقوقٍ، فالقائد الذي له صفاتٌ جيدةٌ له أثرٌ كبيرٌ على المعنويات و المجتمع بصورةٍ عامّةٍ(2).

حُسنُ الثناءِ ورَفعُ مَعنويّات الجُند

إنّ رفع المعنويات لا ينحصر بصورة المعاملة والرابطة التي ذكرت آنفاً بعد، بل ذَكر الإمام علي علیه السلام جوانب أُخرى نفسية اجتماعية، لها أثرٌ فاعلٌ في وضع الجند وقادتهم:

(وَوَاصِلْ فِی حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَیْهِمْ، وَتَعْدِیدِ مَا أَبْلَی ذُوُو الْبَلَاءِ مِنْهُمْ، فَإِن

ص: 94


1- الريس، محمد ضياء الدين، النظريات السياسية الإسلامية، ط 4، القاهرة، دار المعارف، 1967
2- سباین، جورج، تطور الفكر السياسي، ترجمة حسن جلال، القاهرة، دار المعارف، 1954

کَثْرَةَ الذِّکْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ وَتُحَرِّضُ النَّاکِلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ اعْرِفْ لِکُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَی، وَلَا تَضُمَّنَّ بَلَاءَ امْرِئٍ إِلَی غَیْرِهِ، وَلَا تُقَصِّرَنَّ بِهُ دُونَ غَایَةِ بَلَائِهِ، وَلَا یَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ إِلَی أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلَائِهِ مَا کَانَ صَغِیراً، وَلَا ضَعَةُ امْرِئٍ إِلَی أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلَائِهِ مَا کَانَ عَظِیماً).

فقد المفاخر والمآثر ممن هم أبلوا بلاء حسنا، وحسن الثناء عليهم وإبراز بطولاتهم، بتعداد ذلك يهز الشجاع منهم ويزيده بسالة وبطولة وإقدام وجرأة (وَتُحَرِّضُ النَّاکِلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) أي المتأخّر القاعد من الناس.

إنّ إبراز الشخص البطل أمام المُجتمع بصورة الإنسان الذي لا يرهب الموت وتخافه الأعداء وله سیفٌ صارمٌ سيكون له التأثير الإيجابي الفعّال على اندفاع الآخرين، وستجعله مرفوع الهامة له الموقع المُحترم في قلوب الناس جميعاً، وعائلته وأهل بيته يفتخرون به، ويعدّون مناقبه و بطولاته كرجلٍ قويٍ وشَهمٍ وشجاعٍ، إنّ هذا الأمر قريبٌ جدّاً من حياتنا الاجتماعية، حيث عایشنا هذه الحالات في مجتمعاتنا، وفي العالم أجمع، فالشخص الجبان المتخلّف عن الجيش الفار من ساحة القتال يُعيّره الناس وينتقصون من شخصيّته بحيث يصبح مُهان الجانب، وهذه تقريباً كانت ولا زالت عُرفاً اجتماعيّاً له حساسيّته وفاعليّته في النفوس، وأكثر ما تكون آثارها السلبية في المجتمعات البدويّة بصورة عامّة (ثُمّ أمره أن يذكر في المجالس والمحافل بلاء ذوي البلاء منهم، فإنّ ذلك مما يرهف عَزم الشجاع ويُحرّك الجبان، قوله: (ولا تُضمّنّ بلاء امرئٍ إلى غيره) أي اذكر كلّ مَن أبلى منهم مُفرداً غير مضموم ذکر بلائه إلى غيره، كي لا يكون مغموراً في جنب ذكر غيره، ثُمّ قال له: لا تعظّم بلاء ذوي الشرف لأجل شرفهم، ولا تُحقّر بلاء ذَوي الضّعة لضعة أنسابهم، بل اذكر الأُمور على حقائقها(1).

ص: 95


1- الريشهري، محمد، میزان الحكمة، ط 1، قم، دار الحديث، 1416 ه

الوالي والنظر في المظالم والأثر الإيجابي

يحدث الظلم أحيانا نتيجة الطمع وحبّ الغلبة، بل البعد عن الله والعمل بما حرّم. إنّ الإنسان يحتاج إلى من يتظلّم عنده بعد الله تعالى، وهذا يحدث حتى في حياتنا اليومية، وهو تظلّم الطفل لدى والده لشعوره بعدالة والده وقوّته وسطوته التي تعيد ما أخذ منه إليه، بالإضافة إلى شعوره بالمحبة والعز والارتباط القلبي بينه وبين أبيه حينئذٍ يشكو إليه ما وقع عليه من حيف أو ظلم من أخوته بغيابه، ولولا شعور الطفل وإحساسه واطمئنانه النفسي بأنّ والده سوف يأخذ حقّه لما جرأ وعرض عليه المظلومية، وهذه قضية تتعلّق بالأثر النفسي في ذات الإنسان نعايشها يومياً في مجتمعنا، هذا في الحلقة الأولى المكوّنة للمجتمع، وهكذا يسري الأمر إلى المجتمع كلّه بكافّة طبقاته، فإذا ما أحسّ الإنسان بعدالة ولي أمره واهتمامه باستماع مظالم الناس والإجابة عليها فوراً، قولاً وفعلاً، فإنّ ذلك سوف يدفع الناس إلى الالتفاف حول الأب الأكبر للمجتمع والدفاع عنه في الملمّات والشدائد من الأيام(1).

وقد اهتمّ إمامنا في ذلك الاهتمام الواسع، فأخذ يفضّل جوانب هذا العمل ويسعى إلى تربية الولاة للأخذ به والعمل طبق دستوره وبصورة لائقة، ونافعة، وعادلة، فهو لم يأمر الوالي بالجلوس للناس والاستماع منهم فقط، بل حدّد لهم معالم النظر في المظالم، وصوره، وكيفيته، ومِلاكاته، ومراعاة حالات الشاكي (المتظلّم)، ومراعاة الجوانب النفسية لديه، وإعادة الحقّ إلى نصابه بالصورة الصحيحة. وعلي علیه السلام قال لبعض عمّاله، في كتاب بعثه إليهم من الذين يطأ عملهم الجيوش

ص: 96


1- الزبيدي، عبد الرضا، النقد الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) دراسة في ضوء نهج البلاغة، ط 1، 1998

(وأنا بين أظهر الجيش فارفعوا إلىّ مظالمكم، وما عَراكم ممّا يغلبكم من أمركم، ولا تطيقون دفعه إلاّ بالله وبي، أغيّره بمعونة الله، إن شاء الله).

فإذن، قضية النظر في المظالم تعتبر من أهم الأمور في حياة المجتمع لأنّها تثبت العدالة وتجري الأحكام على ضوئها بين الناس بصورة كاملة، وأنّ سلامة المجتمع وصحّته تأتي من رفع المظلومية وإنصاف المظلوم والاقتصاص من الظالم، وهذا الأمر يحتاج إلى قوّة إيمانية وعدالة سلطانية تعطي الإنسان سلامة أمره واستقراره، وبذلك يتماسك المجتمع بتطبيق الأحكام الشرعية وامتزاج ذلك بالقيم الأخلاقية التي تحرق كل الصور المأساوية للظلم والظالمين والطامعين والمغتصبين، وهذا على علیه السلام يوصي في أنفاسه الأخيرة، ولديه الحسن والحسين علیه السلام، بقوله:

(أوصيكما بتقوى الله وحده، ولا تبغيا الدنيا وإن بَغَتكما، ولا تأسفا على شيء منها، قولا الحقّ، وارحما اليتيم، وأعينا الضعيف، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، ولا تأخذكما في الله لومة لائم).

ففي سكرات الموت بعد ضربة اللعين ابن ملجم المُرادي، يوصي علي علیه السلام بتقوى الله وترك زينة الحياة الدنيا وما حوت، ثمّ قول الحقّ، فالحقّ عند علي عليه السلام معناه إرادة الله وكلمته، ففيها نجاة الأمة وخلاصها واستقامتها. ثمّ أكّد على حماية اليتيم والرأفة والرحمة به، ثمّ إعانة الضعيف الذي لا حيلة له، الذي يرى في علي علیه السلام طعامه ولباسه وكرامته وعزّه، بتلك الرأفة، وذلك الحبّ، أطعم الأيتام والضعفاء فعاشت هانئة مطمئنة سعيدة، فالخبز إذ عجن بالذلّة والمنّة لا طعم فيه ولا فائدة منه، فهو هنا لم يوص ولاته بل ولديه الإمامين سيدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين علیهما السلام، وحبيبَي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ويؤكّد عليهم

ص: 97

وهو الذي قد خَبرهم وعرفهم كمعرفته بنفسه، فهما قلب عليٍّ، وروحه ونفسه والنور الذي ينظر فيه، وإنّهم كعلي في خصاله، ومع ذلك يوصيهم ليسمعهم ويبلغ غيرهم ممّن قرب أو بعد، ممّن حضر أو لم يحضر في وقته وفي المستقبل.

إنّه يعطي الدرس الاجتماعي للبشرية، ولتبقى هذه الكلمات خالدة تدقّ أسماع وعقول الناس في كلّ زمان ومكان، لكي يفهموا كيف يبنوا مجتماعاتهم ويقيموا العدل. ثمّ انتقل إلى الشيء الأعظم والأهم ألا وهو:

(کونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، ولا تأخذكما في الله لومة لائم).

حتى في آخر اللحظات يدعو إلى إنصاف المظلومين، كونا معهم، كونا حرباً على الظالمين، فإنّ ذلك أساس العدل والحكم الذي أراده الله، ومهما يكن هذا الظالم کُونا عليه حرباً بلا هوادة حتى يستقیم (ولا تأخذكما في الله لومة لائم) ونستنتج من قوله علیه السلام هذا ثلاث قضايا مهمّة، كأنّهن الأعمدة الرئيسية للعدالة والمساواة العامة في المجتمع(1):

1. الرحمة.

2. إعانة الضعفاء، أي: فقراء الأمة ومن لا حيلة ولا قوّة له.

3. العدالة ومخاصمة الظالم والوقوف إلى جنب المظلوم واخذ حقّه ممّن ظلمه.

لله درك يا أبا الحسن! من أبٍ رؤوفٍ وحاكمٍ عادلٍ ومربٍّ أخلاقي عظيم، و اجتماعي فرید، جمعتَ كلَ الخصال و أعطيت كلّ روحك لهؤلاء الناس الأيتام والضعفاء المظلومين فأعطوك كلّ شيء.

ص: 98


1- الزحيلي، د. محمد، حقوق الإنسان في الإسلام، ط 2، دمشق، دار الكلم الطيب، 1997

شرائط النظر في المظالم

لم يجعل الإمام علیه السلام مسألة النظر في المظالم في المستوى الإرشادي فقط، إنّما جعلها الطرف المهم في سلامة الدين وصلاح الأمر، فوضع لهذا الأمر المهم مقوّمات أساسية لا يمكن أن يصلح الانتصاف للمظلوم بدونها، ولا يمكن أن تكون عدالة في هذا التقاضي بعدم الالتزام بهذه الشرائط الذي وضعها أمير المؤمنين في هذا النص:

(وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ؛ حَتَّى يُکَلِّمَكَ مُتَکَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِع، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه و آله وسلم يَقُولُ، فِي غَيْرِ مَوْطِن:

(لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِع). ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَ الْعِيَّ، وَ نَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالأَنَفَ؛ يَبْسُطِ اللهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَکْنَافَ رَحْمَتِهِ وَيُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وَامْنَعْ فِي إِجْمَال وَإِعْذَار).

إنّ النظر في المظالم يتطلّب أولاً - وقبل كلّ شيء - أن يجلس الوالي شخصياً للنظر في مظالم الناس ويخصص وقتاً معيناً معلومة لذلك، ثمّ العمل بالبنود المهمّة التي وضعها علي علیه السلام التي تدلل على صحّة عملية النظر في المظالم، وهذه لا يمكن العمل بقسم منها وترك القسم الآخر؛ لأنّها متلازمة في أمرها.

و (تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ).

ص: 99

إنّ الإنسان بطبيعة وضعه الاجتماعي والآثار النفسية المتبقية في ذهنه، من إرهاب السلطة أو عظمة الحاكم أو الأُبّهة العالية، تجعله متردداً خائفاً ينسيه الوضع الحالي قضيته، وربّما يفرّ ولا يعرض قضيّته وهو معتقداً أنّ سلامة نفسه هي أفضل من الحصول عل ظُلامته. ولهذا يضع أمير المؤمنين علیه السلام الموازين الدقيقة والصحيحة لمثل هذه الأعمال، فهو أولاً يطلب أن يجلس الوالي بنفسه وأن لا يوكل غيره لذلك؛ لكي يعالج المشاكل ويحلّ العقد ويباشر الأمور ويطلّع عليها شخصياً. ثمّ ينصب میزان العدل لإنصاف المظلوم والأخذ بالظالم وإعادة الحقّ إلى نصابه، ونشر راية الرحمة على رؤوس الأبناء، أي المجتمع؛ لأنّ الراعي يعتبر الأب للقوم، فإذا ما كان أبوهم لا يستمع لهم ولا يُدنيهم ولا يتظلّمون عنده بالحقّ فلا نفع من ذلك إذن، وعند ذاك تصبح الفاصلة بين الناس والوالي كبيرة.

فلا تبطر!. كما قال الإمام علیه السلام وكلامه مترابط من بدايته حتى آخره، وكلّه شواهد بعضه على بعض، وعلى معرفة تامّة بأوضاع المجتمع واعتباراته، ومستقرئ للأوضاع والأحداث والسلوك الذي ينتج عن كل نوع من سيرة الولاة، بحيث يعطي النتائج لكلٍّ منها مسبقاً ويضعها بين يدي عمّاله لكي تكون أشبه بالقانون الاجتماعي الحاصل من استقراءات ودراسات تطبيقية على المجتمع، إذ يضع النقاط على الحروف لكلّ مسألة سياسية واجتماعية ونتائجها، لهذا لا نجد بُعداً بين معنىً وآخر وبين رسالة وأخرى، فكلّها نابعة من أساس واحد ومصدر أصيل، بناؤه العدالة الاجتماعية التي هي أصل لبناء كل أمر(1).

فمرّة يأمر ولاته بتفقد أمور الرعية بإرسال ثقاته من الرجال الذين يخافون الله ولا يتكبّرون على الناس حتى يدوّنوا مشاهدتهم ويرسلوا التقارير الصحيحة

ص: 100


1- الشريف الرضي، محمد بن الحسين البغدادي، خصائص الأئمة عليهم السلام تحقيق د. محمد هادي الأميني، مشهد، مجمع البحوث الإسلامية، 1406 ه

والتامّة إلى الولاة دون إضافات أو نواقص متعمّدة من الذين لا يستطيعون المجيء إليه. وكذلك يأمرهم بالأمر التالي: فانشر العدل بنشر أصحابك الثقاة، ومرّة أخرى يكون هناك إنسان مظلوم نهب حقه وهدرت كرامته وطرد من موقع العدالة والحقّ والرحمة بواسطة إنسان ظالم، سواء كان عاملاً من عمّال الولاة، أو قاضياً من القضاة، أو صاحب شَرطة، أو أي إنسان آخر، ولا يجد من يتظلّم عنده في هذه الدنيا ليعيد حقه إلاّ الله والذي بيده ولاية الأمر، وهي بطبيعة الحال أمانة في عنقه من الله لرعاية أمر عباده. وهذا الأمر قمّة في العدالة الإنسانية ورحمة كاملة للبشرية، فالمجتمعات التي توجد فيها هذه المبادئ الصالحة تأخذ زخماً معنوياً كبيراً للإخلاص والتفاني والتضحية سواء كان الدينها أو وطنها.

ثمّ يطلب الإمام أن يجلس الوالي بنفسه ويقيم مجلساً عامّاً، ويريد من كلامه أيضاً أنّ لا يجلس جلوس الجبابرة والطغاة والمتكبرين التي لا يفيد فيها ولا يستفيد، بل يجب أن يكون وَقوراً متواضعاً؛ لأنّ الله ينظر إلى حكمه وعدله (فتواضع لله الذي خلقك)، ثمّ لا يتعرّض الحاشية والحرّاس لطالبي الحاجات بحيث يأخذ الخوف والرعب مأخذه منهم رهبةً من سطوة الأعوان الممحلقين أعينهم بشدّة، وفي وجوههم القسوة والشدّة التي تخيف الناس وتمنعهم من الكلام:

(حتى يكلمك متكلّمهم غير متتعتعٍ أي: لا يترددون في العرض عندك، ثمّ يقول: فإِنِّي سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه و آله وسلم يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِن: (لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِع).

فأمير المؤمنين علیه السلام استشهد بحديث رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الذي يؤكّد وبوضوح عدم

ص: 101

طُهر امةٌ لا يؤخذ فيها حق الضعيف من القوي وبدون تردد أو خوف، إذ لا يستديم الحكم إلاّ بالعدل وإنصاف المظلومين.

وإذا ما طغى الجور والظلم والفساد في بلاد ما فإنّ التغيير آتٍ بحتمية لا ريب فيها، لأنّ الناس لا يمكن أن تستكين للضيم والقهر مدّة طويلة.

وفي التاريخ شواهد وحقائق كثيرة تدلّل على ذلك.

ثمّ يجب أن يتوقع الوالي كلّ شيءٍ من هؤلاء البسطاء من الناس الضعّاف الحال الذي أعياهم الفقر، وأتعبهم الفقر، والدواهي التي أصابتهم من العمِال والأعوان من الذين تحت ظل ورعاية الوالي، ثمّ لا حبيب ولا نصير يقف على حالهم ويعالج أوضاعهم وينصفهم من أعدائهم. هؤلاء المتعبون يجب أن تستوعبهم وتحتمل منهم كل جهل يصدر أو كلام ربّما يجرح، أو عنف في کلام غير محسوب أو عجز عن النطق أو ما شابه ذلك من المثيرات في للنفوس المؤجّجات للأحاسيس والمشاعر والتي تثير الغضب وعدم الرضى:

(وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّیقَ وَالْأَنْفَ؛ یَبْسُطِ اللَّهُ عَلَیْكَ بِذلِكَ أَکْنَافَ رَحْمَتِهِ وَیُوجِبُ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَیْتَ هَنِیئاً وَامْنَعْ فِی إِجْمَالٍ وَإِعْذَارٍ).

هذه الصورة الجميلة والرائعة من المعاملة الإنسانية القيّمة التي يضع مضامينها علي علیه السلام ويعطيها جاهزة لولاته حفظاً لأمّته من الضياع والهتك والتسلّط غير المشروع والعبودية. فهو يريد للإنسان أن يعيش ضمن مبدأ الإسلام العظيم الذي يعطي للإنسان حرّيته وكرامته، وكذلك يقول للوالي: بأن لا يضيق صدرك من طلباتهم وسوء خلق بعضهم الذي قد يصدر منهم، فتستكبر وتأنف من ملاقاتهم والتحدّث إليهم. إنّ الله يعوض عن ذلك للإنسان الذي يحمل الحبّ والحنان والعطف والرفق، بل كلّ معاني الكلمات التي تبعث

ص: 102

في القلب والنفس الروحَ الإنسانية الطاهرة، وبهذه المعاملة سوف يبسط الله رحمته وغفرانه في جميع المواطن التي قد يبتلي فيها الإنسان، إنّ الوالي بهذا العمل أدّى فرائضه وأدّی حقّ عبادته، ومعنى ذلك أنّه أطاع الله من خلال التعاليم الإلهية التي أوجبها على عباده، فالأجر والثواب على تلك الأعمال عند الله، وما تعطيه للخلق يبدله الله خيراً فاعط بمنتهى الإحسان ورضى النفس وبدون منٍّ أو أذى أو استكثار، وإن أردت أن تمنع فامنع بلطفٍ واعتذارٍ؛ فإنّ ذلك أسمى وأرفع وأبلغ أثراً في النفوس وأكثر تقبّلاً وقناعة لدى الناس بحيث تدفعهم إلى مَحالّهم وهم راضين عنك، شاکرین عملك(1).

(عليٌّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ)

لقد كان الحقّ الفيصل الأوّل في المواقف المهمّة خلال حكمه، فقد أعطى نفسه للحقّ ولم يجره الآخرون لأنفسهم طمعاً باستئثار لا يهمّهم آثاره الضارّة أو الحالة الظالمة التي تتبعه، ولذا نصب میزان العدل بوجه أولئك الذين سعوا إلى جلب المنابع المادية لأنفسهم حتى وإن كان ذلك خروجاً على الشريعة ومبادئها، إنّ على علیه السلام في إشارة دقيقة ومهمّة يحدّد من خلالها صورة وواقع الولاية في عهده حيث يقول علیه السلام:

(لَمْ تَکُنْ بَیْعَتُکُمْ إِیَّایَ فَلْتَةً، وَلَیْسَ أَمْرِی وَأَمْرُکُمْ وَاحِداً، إِنِّی أُرِیدُکُمْ للهِ وَأَنْتُمْ تُرِیدُونَنِی لاِنْفُسِکُمْ. أَیُّهَا النَّاسُ! أَعِینُونی عَلی أَنْفُسِکُمْ وَایْمُ اللهِ لاَنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ وَلاَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِه حَتَّی أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ کَانَ کَارِهاً).

هذا وحده هو قانون للبشرية وعلماء الإنسانية والمدافعين عن حقوقها،

ص: 103


1- شمس الدين، محمد مهدي، دراسات في نهج البلاغة، ط 2، بیروت، دار الزهراء، 1972

ولإصحاب النظريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ كي يرفعوا به عمود خيمة الإنسانية الكبيرة التي يستظل بظلها كلّ مظلوم و مستضعف ومن تقتحمه العيون في المجتمع.

فتلك الخيمة قائمة ما دام هذا العمود قائماً، إنّه الأمل الذي تدور من حوله قلوب تلك الأرواح الهاربة من حَرور الجور والعبودية والظلم.

فما تعاني منه الإنسانية بصورة واسعة هو الظلم بمختلف ألوانه والانحراف عن الاستقامة والقيم الإلهية. ولولا الظلم والجشع والطمع بأنواعه لم يكن هناك صراع واستئثار وبغي.

بقي علينا أن نعرف أن الأمر المهمّ الآن: كيف نعالج الواقع المرّ الذي أفرزته الظروف القاسية؟ ظروف الحيف والجور، حيث تنکفئ موازین العدالة والحقّ.

فنحن - أفراد البشر - إذا رأينا إنسانا لا يضمر سوءاً للآخرين، ولا يتجاوز على حقوقهم ينظر إلى الناس بعين نهاية الحياد، يناصر المظلوم ويعادي الظالم، إنّ شخصاً كهذا نعتبره حائزاً على نوع من الكمال نسمّيه (العدل) ونطلق على صاحبه اسم (العادل).

وعلى خلاف هذا الفرد الذي يتجاوز على حقوق الآخرين وإذا كان في مركز القوّة والقدرة فإنّه يرجح أفرادا على آخرين دون وجود مرجح، ويناصر الظالمين ويخاصم الضعفاء وفاقدي القدرة، أو على الأقل يكون محايداً في النزاعات والمناقشات الدائرة بين الظالمين والمظلومين، إنّ شخصاً كهذا نعتبره متّصفاً بنوع من (الظلم) و نسمّيه (الظالم)(1).

وهناك آيات قرآنية كثيرة وردت في شأن العدل والظلم، هذا نموذج من

ص: 104


1- الشيرازي، محمد الحسيني، آثار الظلم في الدنيا والآخرة، بیروت، مؤسسة المجتبی، 2001

(وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ).

(إنَّ اللّهَ یَأمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإیتَاءِ ذِی القُرْبَی وَیَنْهَی عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنکَرِ وَالبَغْیِ یَعِظُکُمْ لَعَلَّکُمْ تَذَکَّرُونَ).

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ).

(وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ).

إذن، يجب اتّخاذ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وخطب الإمام علي عليه السلام مرتكزاً في وضع الحلول المناسبة، من خلال معرفة وأخذ العبر والدروس من أجل بناء المجتمعات بناءً إنسانياً إيمانياً.

النظرة العلوية إلى الظلم

إنّ منهج الإمام علي علیه السلام الاجتماعي المتعلّق بهذا الموضوع يجسّده كلامه وخطبه علیه السلام التي ترسم في الأذهان الصور المتكاملة والواقعية للعدل والظلم، وسأبدأ بكلام له علیه السلام يتبرّأ فيه من الظلم ويقول فيه:

(وَاللهِ لأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً أَوْ أُجَرَّ فِي الأَغْلاَلِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ وَغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ الْحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا).

إن الإمام علیه السلام يقسم بالله، وأيَّ شيء مهمّ وعظيم هذا لدى الإمام الذي يؤدّي

ص: 105

به إلى القسم بالله وهو علي إمام المتقين و سيد الموحدين؟! إن بذلك ينتهي كلّ نقاش، وينتهي كلّ تحليل أو تبرير بفعل قسمه هذا، ويقول علیه السلام: لأن بات يتقلّب على الشوك وتلك النبتة البريّة المدبّبة برؤوس الإبر الشوكية طيلة ليله مسهّراً، أو جرّ على ذلك وهو مقيد بالأغلال بحيث لا يستطيع الذود عن جسمه اتجاه تلك الآلام القاسية والجروح الدامية، فإنّ ذلك كلّه أحبّ إليه من أن يلاقي الله ورسوله يوم القيامة وهو ظالم لعباده.

فالإمام علیه السلام يريد بهذه الصورة التهويلية أن يبيّن مدى أثر الظلم ومسؤولية الإنسان الظالم عند الله ورسوله يوم الحساب، ثمّ يوضح لنا ولغيرنا أنّ الظلم لأجل حطام هذه الدنيا الفانية له نتائج قاسية، وسيترك أثاراً سلبية عظيمة، وزرها ثقیل، تبقى مع الإنسان إلى يوم الحشر العظيم...

(وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا).

فالنفس نهایتا الفناء وهي تمضي إليه مسرعة، وغداً محلّها بين طبقات الثرى، ألا يكفيها هذا رادعاً عن مظالم الناس؟!

ثمّ إنّ الإمام علیه السلام ذكر في بعض مواعظه على أنّ الظلم أنواع وعدَّد تلك الأنواع، وانتهى بظلم العباد بعضهم لبعض، وحذر من شدّته يوم القيامة، حيث قال علیه السلام:

(وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِی لَایُتْرَكُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً؛ الْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِیدٌ، لَیْسَ هُوَ جَرْحاً بِالْمُدَی، وَلَاضَرْباً بِالسِّیَاطِ، وَلکِنَّهُ مَا یُسْتَصْغَرُ ذلِكَ مَعَهُ. فَإِیَّاکُمْ وَالتَّلَوُّنَ فِی دِینِ اللّهِ فَإِنَّ جَمَاعَةً فِیمَا تَکْرَهُونَ مِنَ الْحَقِّ خَیْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ فِیمَا تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ یُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَةٍ خَیْراً

ص: 106

مِمَّنْ مَضَی، وَلَا مِمَّنْ بَقِیَ).

إنّ الإمام علیه السلام يوضح حجم عقوبة ظلم العباد عند الله وأكّد أنّ قصاصها يوم الحساب شديد وعسير على الإنسان، وهو ليس بصورة جرح سكاكين أو ضرب بالسياط حتى يقال: إنّ أمره هيّن. إنّ عقاب ذلك عند الله اشدّ ما يمكن أن يكون وخاصة إذا كان هذا المظلوم مؤمناً، فالإمام علیه السلام في قوله إلى البَجَلي قاضيه على الأهواز يبيّن ذلك(1):

(دارِ المؤمن ما استطعت؛ فإنّ ظهره حُمى الله، ونفسه كريمةٌ على الله، وله يكون ثواب الله، وظالمه خصم الله، فلا تكن خصمه).

إذن، من الذي يخاصمه إذا ظلم أحداً من المؤمنين؟ إنه الباري عزّ وجلّ، وفي أية صورة تكون حالته هناك وهو الضعيف القاصر أمام الجبّار المتعال.

ثمّ يؤكّد الإمام علیه السلام على عملية التفاضل بين نوعين من الحالة الاجتماعية فوجود أيدٍ متماسكة وقلوب متفقة مع حقّ صعب تطبيقه ومكروه عندكم، خيرٌ من تفرّق وشِقاق ونِفاق مع باطل محبّب و مرغوب في النفوس.

فإذا ما طَهُرت القلوب واتسع بعضها للبعض الآخر وتحمّلت تطبيق الحقّ والعدالة مع مخالفة ذلك لهوى النفس، هو أصلح وأجدي نفعاً لتماسك ووحدة المجتمع ككل(2).

والإمام عليه السلام يقول في ذلك:

(أَیُّهَا النَّاسُ أَعِینُونِی عَلَی أَنْفُسِکُمْ وَایْمُ اللَّهِ لَأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ

ص: 107


1- صبحي، د. أحمد محمود، نظرية الإمام عند الشيعة الإثني عشرية، مصر، دار المعارف
2- الصدر، محمد باقر، الإمام علي عليه السلام سيرة وجهاد، ط 2، بیروت، دار المرتضی، 2003

وَلَأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّی أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ کَانَ کَارِهاً).

ولا زالت كلمته علیه السلام التي قالها في وصيته لولده الإمام الحسن علیه السلام تدقّ أسماع العالم لتعطي للإنسانية معنى العدل وإحقاق الحقوق: (وظلم الضعيف أفحش الظلم).

ولهذا كان علي علیه السلام لا يترك صغيرة ولا كبيرة تهمّ أمر المجتمع إلاّ وعالجها بحكمته ومواعظه وإرشادته في معاملاتهم وحياتهم العامة وإدارة أمور البلاد في كل أمر، فكان يتابع القضاء كما يتابع الأسواق وحركة البيع والشراء وهو يشدّد على قضائه ويقول لأحدهم(1):

(انهَ عن الحِكرة، فمن ركب النّهى فأوجعه ثمّ عاقبه بإظهار ما احتكر. أقم الحدود في القريب يجنبّها البعيد، ولا تطلّ الدّماء ولا تعطّل الحدود).

أو كما جاء في كتابه علیه السلام إلى حذيفة بن اليمان:

(... وأتقدّم إليك بالإحسان إلى المُحسن والشدّة على المعاند، وآمرك بالرّفق في أمورك والدّين، والعدل في رعيّتك، فإنّك مساءل عن ذلك، وإنصاف المظلوم، والعفو عن الناس، وحسن السيرة ما استطعت، فإنّ الله يجزي المحسنين.. وأقم فيهم بالقسط، ولا تتّبع الهوى، ولا تخف في الله لومة لائم؛ فإنّ الله مع الذين اتّقوا والّذين هم محسنون)

فعليٌّ أمرهم باتباع هذا المنهج العادل الذي رسمه لهم في إدارة الشؤون الإدارية والاجتماعية المهمّة في البلاد، حيث أكدّ على مسألة العدل في الرعيّة وأعطاها الأهمية القصوى، وكان كلّ أمره أن لا يقع حيف أو إجحاف وأن يُنتصف للمظلوم وذلك من العدل حتى يستقيم أمر الأمّة:

ص: 108


1- الصدر، محمد باقر، أهل البيت، تنوع أدوار ووحدة هدف، تحقيق عبد الرزاق الصالحي، ط 1، بیروت، دار الهدی، 2003

(وأقم فيهم بالقسط، ولا تتّبع الهوى، ولا تخف في الله لومة لائم).

وكما قلنا سابقاً أنّ لا شيء يمنع عن إقامة العدل سوی اتباع هوى النفس، وما أكثر ما أكدّ الإمام علیه السلام على ذلك وأشار إليه بالابتعاد عنها وإقامة العدل في الأمة بإحقاق الحقّ، وأن لا يخاف ولا يحاذر من أنّه يريد العمل به إذا كان عائداً إلى الله لإعلاء طريق الحقّ وهو طريق الله تعالى، وان الله مع المتّقين والمحسنين.

وقد روى اليعقوبي عن الزهري، قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً فبينما أنا عنده إذ أتاه کتاب من عامل له، يخبره أنّ مدينته احتاجت إلى مرمَّة (أي: إصلاح) فقلت له: أنّ بعض عمال (أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام كتب إليه بمثل هذا، فكتب علیه السلام إليه:

(أما بعد فحصّنها بالعدل، ونقّ طرقها من الجور؛ فإنّه مرمّتها. والسلام).

إذن، الهدف الأعلى والسامي عند الإمام علیه السلام هو تثبيت أركان العدل في البلاد لأنّ فيه رضاء الله وصلاح المجتمع في ذلك (ومن هنا، وعلى هذا الأساس، اتّجه الإمام عليّ علیه السلام إلى المجتمع يُحي قوانينه ويعمل ها ویریدها صالحةً خيّرة، ثمّ يضع كلاً من النصح والسيف في موضعه، تدعيما لآرائه و تثبيتاً لموقعه من طبقات الناس في زمانه، وراح لا يُعني بشيء عنايته بتوطيد أركان العدالة الاجتماعية: أَوَ ليس هو القائل لمهنّئيه بالولاية فيما بعد، وقد دخلوا عليه فإذا هو يرفأ نعله بيديه:

(إنّ هذه النعل هو خير عندي من ولايتكم هذه، إن لم أقم حقاً وأزهق باطلاً).

أما العاملون للآخرة فإنّ الإمام يريد منهم أن يتوسّلوا لنعيمها بخدمة الجماعة قبل غيرها من الوسائل، لذلك جعل الإمام عليه السلام خير الآخرة - لمن یرید - منوطاً بالعمل في الناس عملاً مستقيماً، وفي طليعة هذا العمل: المساهمة

ص: 109

في توفير الخبز والماء والكساء للمجموعة البشرية، وفي رفع الحاجة عن العامّة، ومحاربة الظالمين وإغاثة المظلومين، ثمّ إعلان حقوق الإنسان والدفاع عنها، (ويقول لكميل بن زياد في معنى الصلاة والصوم: یا کمیل، ليس الشأن أن تصلي وتتصدّق، وإنّما الشأن أن تكون الصلاة بقلب نقي وعمل عند الله مرضي، وانظر فيمَ تصلّي، وعلام تصلي، فإن لم تكن من وجهه وحلّه فلا قبول!).

وقد بلغ من اهتمامه بحياة الناس على الأرض، قبل الآخرة، وبخبرهم اليومي أنّه كان يغتدى فجر كلّ نهار ويطوف في أسواق الكوفة، وهو خليفة، ويقف على أهل كل سوق وينادي، قائلاً:

(يا معشر التجار! اتّقوا الله، واقتروا من المبتاعين، وتزيّنوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وانصفوا المظلومين، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعيثوا - أو: تعيشوا - في الأرض مفسدين).

حتى وإن أدّى أمر العدل وإعادة الحق إلى نصابه ومنع الظلم إلى الحرب والموت، فإنّ ذلك لم يمنعه من إقامة الحقّ ودحض الباطل، وإنصاف المظلوم و صدّ الظالم، فأساس بنيان المجتمع يعتمد على استقامة هذه الأمور، وغيرها يكون الدمار، ولذا الحرب والقتال مع أنصار الظلم ومهما كلّفت لا بدّ منها، لِما فرضه الله تعالى على الإمام العادل من إقامة الحدود وردّ الإثم والعدوان، فقد ورد في كتاب و قعة صفّين لنصر بن مزاحم ما يلي: (قال نصر: وفي حديث عمر بن سعد قال: وكتب عليٌّ إلى عمّاله، فكتب إلى مخنف بن سليم(1):

(السلام عليكم، فإنّي أحمد الله إليك الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد..

ص: 110


1- الصغير، د. محمد حسنين علي، الإمام علي عليه السلام سرته وقيادته في ضوء المنهج التحليلي (بيروت، مؤسسة المعارف) 2003)

فإنّ جهاد من صَدَف عن الحقّ رغبةً عنه وهبّ في نعاس العمى والضلال اختیاراً له، فريضةٌ على العارفين، إنّ الله يرضى عمّن أرضاه، ويسخط على من عصاه، وإنّا قد هممنا بالمسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله، واستأثروا بالفيء، وعطّلوا الحدود، وأماتوا الحقّ، وأظهروا في الأرض الفساد، واتخذوا الفاسقين وَلِيجة من المؤمنين، فإذا وليّ لله أعظم أحداثهم ابغضوه وأقصوه وحرموه، فإذا ظالمٌ ساعدهم على ظلمهم أحبّوه وأدنوه وبرّوه، فقد أصرّوا على الظلم، وأجمعوا على الخلاف. وقديماً ما صدّوا عن الحقّ، وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين...)

إنّ كتاب الإمام علیه السلام قد حوى معانٍ وصوراً واقعية نلمسها في وقتنا الحالي وفي داخل مجتمعاتنا المختلفة، وهي حقيقة وظاهرة اجتماعية تبنّتها نفوس خلقٍ كثير من المجتمع وخالطت هواها فامتزجت لتعطي واقعاً اجتماعياً مُراً سُحقت فيه كلّ القيم الأخلاقية وابتعدت فيه عن كلّ معاني العدالة الاجتماعية، فازداد المرض وتفاقم أمر المجتمع سوءاً من أثر المرض الذي أصبح عضالاً، وربّما يرأف الله تعالى بالحال ويشافي القلوب من تلك الأمراض النفسية حتى نسعد في حياتنا ونضمن الثواب في آخرتنا، ومسك ختامنا الآية الشريفة :

(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

ص: 111

الخاتمة

بات واضحاً من خلال ما مر في البحث ان الإمام أمير المؤمنين علیه السلام السعي إلى وضع أسس ودعائم الدولة المتحضرة التي تقوم على احترام حقوق الإنسان واحترام إنسانية الإنسان، وقد سعى الإمام علیه السلام سعياً حثيثاً في سبيل تحقيق ذلك، الأمر الذي كلّفه حياته الشريفة، إذ عاداه مجتمعه الذي تعود على نظام الطبقية.

ويحق لنا كمسلمين الفخر والاعتزاز ونحن ننظر إلى باني الدولة العصرية قد نادى بالشعارات التي ينادون بها اليوم، ودعا لها وعمل على تحقيقها، فيما يسمونه اليوم: حرية، ديمقراطية، فهم الآخر، الحوار مع الآخر..

وقد تبين بوضوح أنّ الإمام علیه السلام، قد سبق العصور والأزمنة بفكرة الثاقب ورؤاه العظيمة، إلاّ ان المجتمع آنذاك لم يكن متفهماً وواعياً بما فيه الكفاية لما كان يريده الإمام علیه السلام، وبالنتيجة لم يستفد ذلك المجتمع من تلك الوصايا النورانية التي تعد بحق لبنات بناء الدولة المتحضرة.

وتعدّ العدالة المحور الأكثر بروزا في منهج حكمه علیه السلام، وقد بلغ من اقتران اسم الامام أمير المؤمنين علیه السلام بالعدالة، وامتزاجه بها، قدراً كبيراً، إذ صار اسم علي

ص: 112

عنواناً للعدالة، وصارت مفردة العدالة توحي باسم (علي) صلوات الله عليه.

واليوم، لا تزال الفرصة سانحة، وبإمكان عالم اليوم المليء بالحروب والدمار والأزمات، أن يعود إلى ذلك النهج النير، نهج الإمام علي عليه السلام، فهو يكفينا لإقامة الدولة الصالحة والعصرية المتحضرة، وكذا العودة إلى كتابه إلى واليه على مصر، الشهيد مالك الأشتر رضوان الله عليه، لننهل من ذلك المعين العذب، وهو يوصي عامله على مصر بأدقّ الأمور، وفي شتی میادین إدارة الدولة.

ص: 113

المصادر

1- القرآن الكريم.

2- ابن الأزرق - بدائع السلك في طبائع الملك - الجزء الأوّل - تحقیق علي سامي النشار - بغداد.

3- ابن هشام - السيرة النبوية - المجلد الأوّل والثاني - دار المعرفة - بيروت.

4- إشفيتسر - ألبرت - فلسفة الحضارة - ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي - مطبعة مصر - القاهرة.

5- الأعرجي - الدكتور زهير - مباني النظرية الاجتماعية في الإسلام - المطبعة العلمية قم - الطبعة الأوّلى 1417 ه.

6- البري التلمساني - محمّد بن أبي بكر الأنصاري - القرن التاسع الهجري - تحقيق الدكتور التنوخي.

7- البيّاتي - الدكتور منير حميد - النظام السياسي الإسلامي مقارناً بالدولة القومية القانونية - الطبعة الثانية.

8- التوحيدي - أبو حيان - الإمتاع والمؤانسة - دار الشريف الرضي.

9- جرداق - جورج - الإمام علي صوت العدالة الإنسانية المجلّد الأوّل والخامس - دار مكتبة الحياة - بيروت.

10- جعفر - الدكتور نوري - علي ومناوؤه - دار النجاح - القاهرة - الطبعة الرابعة

ص: 114

1976 - 1396 ه.

11- الخطيب - السيد عبد الزهراء الحسيني - مصادر نهج البلاغة وأسانيده - الطبعة الرابعة - بيروت.

12- دیوارنتول و ایریل - قصّة الحضارة - المجلّد الرابع - ترجمة محمّد بدران 1408 ه - 1988 م - بيروت.

13- رهبر - محمّد تقي - دروس أساسية من نهج البلاغة - منظمة الإعلام الإسلامي - إيران.

14- زيدان - الدكتور عبد الكريم - السنن الإلهية في الإمام والجماعات والأفراد - الطبعة الرابعة 1413 ه - 1993 م.

15- الشرقاوي - عبد الرحمن - علي إمام المتقي - المجلّد الأوّل والثاني - بيروت 1985م.

16- الشرقاوي - محمود - التفسير الديني للتاريخ - الجزء الأوّل - دار الشعب.

17- الصالح - الدكتور صبحي - النُّظم الإسلامية - نشأتها وتطوّرها - الطبعة السادسة - بيروت.

18- صحيح البخاري - تحقيق الدكتور مصطفى البغا - الجزء الثاني.

19- صحيح البخاري - ضبط وتعليق الدكتور مصطفى ديب البغا - المجلّد الخامس - مطبعة الهندي.

20- الصدر - محمّد باقر - اقتصادنا - الجزء الثاني - الطبعة الثانية 1408 - المجمع العلمي للشهيد الصدر.

21- الصدر - محمّد باقر - المدرسة القرآنية.

22- الصدر - محمّد باقر - آهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف - دار التعارف للمطبوعات - بيروت.

23- الصدر - محمّد باقر - فدك في التاريخ - تحقيق الدكتور عبد الجبار شراره - مرکز الغدير.

24- الطباطبائي - السيد محمّد حسين - الميزان في تفسير القرآن - المجلّد الثاني - مؤسسة

ص: 115

الأعلمي - بيروت.

25- الطبري - محمّد بن جریر - تاريخ الرسل والملوك - الجزء الخامس - تحقیق محمّد أبو الفضل إبراهيم - بيروت لبنان.

26- طي - الدكتور محمّد - الإمام علي ومشكلة نظام الحكم - الطبعة الثانية - 1417 ه - 1997 م - مركز الغدير للدراسات الإسلامية.

27- عبد الباقي - الدكتور زيدان - التفكير الاجتماعي (نشأته وتطوّره) الطبعة الثالثة (1401 ه - 1981 م).

28- عبد الحميد - صائب - تاريخ الإسلام الثقافي والسياسي. الغدير - بيروت - الطبعة الأوّلى 1417 ه - 1977 م.

29- العلوي - هادی - فصول من تاريخ الإسلام السياسي 1995 م - قبرص - شركة .F K. H المحدودة للنشر.

30- على - الدكتور جواد - المفضّل في تاريخ العرب قبل الإسلام الجزء السابع - الطبعة الثانية 1413 ه - 1994 م.

31- غيث - الدكتور محمّد عاطف - دراسات في علم الاجتماع التطبيقي - دار النهضة العربية للطباعة والنشر - بيروت.

32- فضل الله - السيد عبد المحسن - نظرية الحكم والإدارة - دار التعارف - بيروت.

33- الفكيكي - توفيق - الراعي والرعية - الطبيعية الثانية 1403 ه مؤسسة نهج البلاغة - شركة افست - إيران.

34- قطب - محمّد - مذاهب فكرية معاصرة - نظرية الحكم والإدارة - دار الكتاب الإسلامي - قم - بيروت.

35- الكليني - فروع الكافي - تحقيق العلامة الشيخ محمّد جواد مغنية الطبعة الأوّلى 1413 ه - 1992 م - دار الأضواء للطباعة والنشر - بيروت.

36- الماوردي - الأحكام السلطانية - تحقيق الدكتور احمد البغدادي - الكويت 1989 م.

37- متز - آدم - الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري - ترجمة محمّد عبد الهادي أبو

ص: 116

ریده - المجلد الأوّل 1377 ه - 1957 م.

38- المحمودي - الشيخ محمّد باقر - نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة المجلّد الرابع والخامس.

39- المسعودي - مروج الذهب - دار الهجرة - قم.

40- مطهري - الشيخ مرتضى - الإسلام وإيران - الجزء الثالث 1405 ه - 1985 م - ترجمة هادي الغروي.

41- مطهري - الشيخ مرتضى - العدل الإلهي - ترجمة محمّد عبد المنعم الخاقاني.

42- مطهري - الشيخ مرتضى - في رحاب نهج البلاغة - ترجمة هادي يوسف الغروي - دار التعارف - 1400 ه - 1980.

43- مقدمة ابن خلدون - مؤسسة الأعلمي - بيروت.

44- المنقري - نصر بن مزاحم - واقعة صفين - تحقیق عبد السلام محمد هارون - الطبعة الثانية - منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي - قم 1404 ه.

45- النراقي - محمّد مهدي - جامع السعادات - الجزء الأوّل.

46- النفيسي - الدكتور عبد الله - في السياسة الشرعية - الكويت 1405 ه. 1984 م.

47- نهج البلاغة - الدكتور صبحي الصالح - دار الهجرة - 1395 ه.

48- نهج البلاغة - تصنيف لبيب بيضون - مكتب الإعلام الإسلامي - الطبعة الثالثة 1417 ه.

49- نهج البلاغة - شرح ابن أبي الحديد - تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم - دار الإحياء الكتب العربية - الحلبي وشركاؤه - الطبعة الثانية 1967 م - 1387 ه.

50- نهج البلاغة - شرح الشيخ محمّد عبده - مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت.

51- الوردي - الدكتور علي - دراسة في طبيعة المجتمع العراقي - منشورات الرضي - قم.

52- وید جيري - الپان ج - المذاهب الكبرى في التاريخ - من كونفوشيوس إلى تويبني - ترجمة ذو كان قرقوط - دار القلم - بيروت - الطبعة الثانية 1979 م.

53- هاریت - لیدل - التاريخ فكراً استراتيجياً - ترجمة حازم طالب مشتاق - الطبعة

ص: 117

الأوّلى - بغداد - 1985 م.

54- هويدي - الدكتور فهمي - مجموعة مقالات في حقوق الإنسان في الإسلام - المؤتمر السادس للفكر الإسلامي - بيروت.

55- اليزدي - محمّد تقي مصباح - المجتمع والتاريخ من وجهة نظر القرآن الكريم - ترجمة محمّد عبد المنعم الخاقاني - دار أمير الكبير للنشر 1514 ه.

المجلات والنشریبات

1- الفكر الإسلامي - الجزء الثاني - مؤسسة البلاغ.

2- الفكر الجديد - العدد العاشر - السنة الثالثة - 1995 م - دراسة في ضوء علم الاجتماع الحضري - إبراهيم الموسوي.

3- لماذا السقوط الحضاري - مؤسسة البلاغ.

4- مجلة الجامعة الإسلامية - العدد الثالث - السنة الثانية - علم الاجتماع عند ابن خلدون - شيخ الأرض تیسیر.

5- مجلة الجامعة الإسلامية - العدد الثاني - السنة الثانية - تكامل الحكمة وشموليتها في فكر الإمام علي علیه السلام - يوسف عبد الحميد.

6- مجلة الجامعة الإسلامية - العدد السادس - السنة الثانية 1995 م- الحوار الحضاري ضرورة إنسانية - الدكتور احمد عبد الرحيم السايح.

7- مجلة المنهاج - مركز الغدير - العدد الثالث - السنة الأوّلى 1417 ه ت 1996 م.

8- مجلة كلية الآداب - العدد السادس - نیسان 1963 م - جامعة بغداد - التظلم من الحكام - عبد الغني باقر.

9- مجلة كلية الآداب - جامعة بغداد - العدد 17 - سنة 1974 م - بعض نظریات علم الاجتماع في القرن العشرين - إحسان الحسن.

ص: 118

المحتويات

مقدمة المؤسسة...5

خلاصة البحث...9

المقدمة...15

حقوق الإنسان عند الإمام علي علیه السلام...23

اثر الحاكم في النظام الاجتماعي...45

الحرب وانتهاك الحقوق عند الإمام علي علیه السلام...53

قانون اجتماعي خطير...61

حقائق ثابتة...64

حرية الانسان في المجتمع...65

الحزم واللين...66

الرعاية للجميع...68

ثقل الموازنة...70

علم النفس الإجتماعي والعلاقات العامة مع المجتمع...73

التقسيم العلمي لأو المعرفي...76

التقسيم الإنساني...77

أهل الذمة والإسلام...81

الدفاع عن المعاهدين...81

التقسيم الإيماني...83

التقسيم الإداري...84

المثل العليا والقيادة العسكرية...88

علم النفس الإجتماعي في تعامل علي علیه السلام...92

النظرية العلوية للظلم...105

الخاتمة...112

ص: 119

ص: 120

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.