مساعي الوصول الى المثمرات من الأصول

هوية الکتاب

تَأليف سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الحاج السيد علاء الدّينَ المُوسَوی الغریفی دامت برکاته

الطبعة الأولى 1442 ه- / 2021م

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

كلمة النَّاشر

وبه نستعين

الحمد لله الَّذي نوَّر وهدى ذوي العقول والألباب، وأشَّع عليهم بسواطع السنَّة والكتاب، فأحكم فيهما الفروع بالأصول في كلِّ مدخل وباب، والصّلاة والسَّلام على من أرسله لإيضاح مناهجه وبيان ضوابطه بالحكمة وفصل الخطاب، وعلى أهل بيته مفاتيح الحكم ومصابيح الظلم الميامين الأطياب، سيّما باب مدينة علمه سيّد أولي الألباب، وبعد:-

فلما كانت الأحكام الشَّرعيَّة والفقهيَّات - من الطَّهارة إلى الدِّيات - مفتقرة إلى مبانٍوأصول مختصَّة تقع كبرى في قياس استنباطها على دقّة مسالكها وصعوبة فهم مداركها، كصغرى ظهور صيغة الأمر للوجوب في مباحث الألفاظ - بناءاً على أنَّها من الأصول - وكبراها مبحث حجيَّة الظهور.

حيث أنَّ النَّتائج المستحصلة من هذه المباحث والمباني تعتبر قانوناً كليَّاً تتفرَّع منها مسائل متعدِّدة قد تتعدَّى العشرات بل المئات بأبوابها المختلفة وأقسامها المتباينة.

وبما أنَّ فيها من محاسن النكت وملفتات الأنظار، ولطائف معانٍ تدق دونها الأفكار، وهو غاية ما ينتهي إليها فكر النظَّار، والضالَّة الَّتي يطلبها غاصة البحار.

لذا بادر فقهاء وأصولِّيو الأمصار والأعصار - في كلّ دور من الأدوار - إلى ترتيب فصولها وتمهيد قواعدها، وإحكام قوانينها، وتبيين ضوابطها وتقييد شواردها.

فعقدوا لكل منها مبحثاً مستقلاًّ، سواء كان في إلقاء محاضراتهم وبحوثهم أو في كتاباتهم وتدويناتهم، ومن ثمَّ جمعوها في علم مستقل، أسموه (علم أصول الفقه)، ممَّا

ص: 3

جعل له بين العلوم مع الفقه من علو الرتبة وسمو المرتبة والمكانة الجسيمة المنيفة والميزة الشَّريفة ما تصل بمن خاض هذا المضمار من حسن التَّوفيق والتَّسديد للسَّداد إلى خير مرتبة من الاستنباط والاجتهاد.

ومن المعلوم أنَّ لكل منهم أسلوبه ونهجه في بيان فكره ونظريَّاته، ومنه يُفهم كلامه مع تدويناته ويُعلم مقصده ومراده من أطروحاته.

فللّه دَرّهم من أفذاذ قد ورثوا الأنبياء والأوصياء فتلقّوا وأذعنوا، وبرعوا فأتقنوا، وصنَّفوا وأفادوا بما تفنَّنوا، فجزاهم الله من خيراته وجنانه ما بّوأهم بحبوحات رضوانه.

وممَّن تصدَّى للغور في بحوره سماحة سيِّدنا المفدَّى المرجع الدِّيني الكبير والفقيه النِّحرير آية الله العظمى السِّيد علاء الدِّين الموسوي البحراني الغريفي "دامت إفاداته" لالتقاط لآلئه وكنوزه، وقد خطَّه يراعه الشَّريف وسطَّره قلمه المنيف بعد ما أملاه من خلال محاضراته وبحوثه الَّتي ألقاها على طلاَّبه وتلامذته في دورته الأولى الخاصَّة بآيات الأحكام، وهذه الدَّورة الثَّانية بما سمَّاها (مساعي الوصول إلى المثمرات من الأصول) في جزئه الأوَّل، ليليه الجزء الثَّاني قريباً بإذن الله.

وقد لوحظ فيه أنَّ سماحته "دام ظلُّه" قد أضاف مواضيع تحت عناوين قد لا يكون بعضها مألوفاً لمحض الأصول، إلاَّ أنَّها تحمل في طيَّاتها بعض المطالب الَّتي يعرفها أهل المعرفة والاختصاص، قد تكون مدعاة للتَّفكير في كيفيَّة إمكان معالجة وتطوير الأصول الَّتي تنجح المطالب الفقهيَّة، لتكون الأقرب إلى غاية ما يرضي الله والنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وأهل البيت الطَّاهرين عَلَيْهِم السَّلاَمُ والأبعد عن وضع الوضَّاعين.

كما أنَّ البارز في بحوث سماحته "دامت إفاضاته" في المواضيع الأصوليَّة - وحتَّى في غيرها كما هو معروف عنه في كافَّة محاضراته البيانيَّة وأطروحاته التَّدوينيَّة - الجنبة العقائديَّة الخاصَّة في بيان أحقيَّة مسلك النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وأهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ وفقهاء وأصوليِّي مذهبهم الحنيف مع الحفاظ على قدسيَّة نصوص الشَّريعة من الكتاب والسنَّة ومكانتها

ص: 4

السَّاميَّة الَّتي امتازت على الشَّرائع السَّماويَّة السَّابقة.وكان لمؤسسَّتنا (مؤسَّسة العلاَّمة الفقيه السيِّد حسين الغريفي قدس سره) الفخر والاعتزاز أن تستأذن من سماحة سيِّدنا المفدَّى دام ظله في إبرازه ونشره لتعميم الفائدة والاستفادة، نسأله تعالى أن يمتِّعه بالصَّحة والعافية ويديم علينا إفاضاته الفكريَّة والعلميَّة.

كما نسأله أن يكون عملنا هذا في ميزان حسناتنا ومقبولاً بأحسن القبول في ساحة إمام زماننا الحجة ابن الحسن المنتظر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ [يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ]، وآخر دعوانا أن

[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]

النَّاشر

ص: 5

المقدِّمة

الحمد لله ربِّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، ومتحفهم تكريماً وتشريفاً بالعقل والدِّين ومنقذهم بشرائعه السَّماوية والصُّحف والألواح والكتب الإلهيَّة على يد أخير الخيرة من الأنبياء والمرسلين، المشَّرفين بآخرهم وخاتمهم الصَّادق الأمين، محمَّد المصطفى لقرآنه المبين وبقيَّة معاجزه لكافَّة النَّاس والمؤمنين الَّذي أصَّل به وبعترته كل أصل ثمين وفرَّع به وبهم كل فرع متين، والصَّلاة والسَّلام الدَّائمين على نبي إسلامنا ورسول مبادئنا والخيرة من آله وصفوته من عترته الأئمَّة المعصومين، واللَّعن الدَّائم على أعدائهم ومبغضيهم من كل آن وهذا الآن إلى قيام يوم الدِّين باليقين، وبعد:-

فإنَّ من غاية المنى قبول التَّشرُّف بالسَّعي الحثيث المتواضع متى سمح المجال في هذا الوقت الضيِّق بكثرة الأشغال الحوزويَّة وغيرها وبالعافية المتمنَّى من المولى تعالى الوصول إلى ما يعيننا من أحسنها على مشاركة أقراننا "رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين" في تدوين ما وصل إليه ذهننا القاصر في الفقه والأصول وغيرهما قبل السِّجن الَّذي ابتلينا به من الأعداء الظلمة وأهل النُّصب والكفر وبعده وبعض ما بين الفترتين وبعد جمع الأوراق والدَّفاتر المبعثرة لتجهيرها للطَّبع وبالأخص الآن وحسب رغبة الأولاد وغيرهم من أفاضل طلاَّبنا فيما يتعلَّق بمباحثنا الأصوليَّة وهي المتزامنة مع إلقائها دروساً عليهم بمستوى بحث الخارج، عسى أن يسعفنا الحظ والتَّوفيق بقبول أهل الفضل من زملائنا الأعلام، وليستفيد منها من كان قابلاً للاستفادة، وليتذكَّر بها أو لنقدها

ص: 6

العارفون المحبُّون، وهي تحت عنوان سميَّناه (مساعي الوصول إلى المثمرات من الأصول).

وكان بعض هذه البحوث داخلاً في دورتنا الأولى المرتبطة بأصول آيات الأحكام وهي بعض من مباحث الألفاظ، وقد بدأنا بالجزء الأوَّل المتكوِّن بعد الدِّيباجة من الباب الأوَّل الَّذي فيه تمهيدات في مجموعة مداخل تطلب الحل الكامل من البحوث الأصوليَّة الَّتي نعرضها إلى الأخير أو تقوى بها، وهذه المداخل المتيسِّرة في هذا الجزء اثنا عشر مدخلاً، أوَّلها تأريخ علم الأصول.

والباب الثَّاني الَّذي فيه ما يسمَّى بالمبادئ أو مقدِّمات مباحث الألفاظ.

ويليه الجزء الثَّاني وهو الخاص بمباحث الألفاظ وملحقاتها ونتمنَّى طباعته بأقرب وقت وإلى آخر أجزاء هذه المعلومات الأصوليَّة المتعارفة، وقد أوجزناها في الفهرست الَّذي في بداية هذا الجزء بعد المداخل، وإن فاتنا عنوان أو أكثر من بعض العناوين المناسبة الأخرى فسوف يكون اتِّخاذ القرار في إضافتها إلى الطَّبعات الأخرى الآتية إنشاء الله تعالى، والله المستعان وهو ولي التَّوفيق الدَّائم.الفقير إلى الله الغني المغني

الأقل

علاء الدِّين الموسوي

الغريفي

ص: 7

الباب الأول في التَّمهيد في مداخل

المدخل الأوَّل:

تأريخ علم أصول الفقه ومدى الحاجة إليه في خلاصة أدواره

إنَّ الكلام عن زمن علم الأصول الأوَّل إن ثبتت علميَّته من القديم حتَّى هذا الحين واسع وطويل وليس بمتناول اليدين حتَّى ما هو عليه من الاختصار الكثير في الزَّمن الأوَّل في الحاجة إلى التَّطبيق الدَّقيق لسلامة فطرة الأوائل.

وكذا السِّعة المتفاوتة بين التَّوسُّط والأوسعيَّة وإلى حدِّ الخطورة في هذا الحين، إلاَّ إذا قصد منه خصوص الأصول الأصيلة ممَّا قد نبَّه عليه المحقِّقون الأتقياء من أعلامه ما دام الفقه السَّامي الأصيل في نفسه بدأ قبل ذلك واضحاً بجهابذته الإلهيِّين من النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ عن طريق ما قد يُسمَّى باللِّسان الآخر بالأصول الأصيلة المختلفة بعض الشَّيء عن الأصول الصِّناعيَّة المتعارفة اليوم، لكون الأولى مبتنية على ما يستفاد لذلك من أصول الكتاب والسنَّة وتوجيهاتهما.

ولذا يُغنينا الاقتصار على المهمَّات المسلَّمة بين الكل المتَّبعة للفقه الأصيل على حاله مهما اعترى أصوله الأصيلة الواردة في الجوامع والمجامع بعد الكتاب من بعض الضِّياع والتَّبعثر على ما سوف يتَّضح في البحوث الآتية من دون إدخال العقل المستقل للسَّيطرة على الأمور، كي يكون هو المشرِّع دون مصادر الشَّرع نفسه مع العقل التَّابع، لأهميَّة ما بقي من مصادره فلن تكون الحاجة الأكثر إلى الوصول الأنجح إلاَّ إلى تلك المهمَّات من

ص: 8

الأصول.

فبدأ النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم بعدما بدأ التَّشريع السَّماوي في القرآن وتلته شروح السنَّة المطهَّرة للمجملات من الآيات ومعه الأطهار من آله والحفظة من الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ حيث جاء بآيات خير البيان وهي عديدة وبلغة الضَّاد حيث قال صلی الله علیه و آله و سلم في حديثه المشهور (أنا أفصح من نطق بالضَّاد بيد أنِّي من قريش واسترضعت في بني سعد)(1).

وهي من مبادئ الأصول اللَّفظيَّة المدركة عند كل من يعرف اللغة العربيَّة في فطرته أو بعد ما يتعلَّمها الآخرون، وعُرف عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ إمام الفصاحة والبلاغة بعد النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم قوله (وقد أوتينا فصل الخطاب)(2).

وكانت الأصول في رواياتها عن الأئمَّة المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ وبتوسُّع علمي على اختصاره آنذاك بادية بعد ذلك من أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ لتعليم أبي الأسود الدُّؤلي ومن أبي الأسود إلى الخليل الفراهيدي ومن الخليل إلى سيبويه صاحب الكتاب وأمثاله بأصول الأدبيَّات الأصوليَّة اللَّفظيَّة المحتاج إليها باعتبار أنَّ الألفاظ قوالب المعاني.

للخلاص من تغيير الأعاجم لألفاظها من كثرة الاحتكاك بأبناء هذه اللُّغة الأقحاح وأتباعهم وحجبهم عن أن يؤثِّروا على النُّصوص الشَّريفة من الكتاب والسنَّة والقدرة على فهمها وفي الخصوص آيات وروايات الأحكام المليئة بقواعد الأصول والفقه المعتمدة من الَّتي لا يخفى على المتتبِّع قبل التَّوسُّع الجديد ومن الإمامين الباقرين

ص: 9


1- المزهر للسُّيوطي، ج1، ص209، ومغني اللَّبيب ج1 باب "بيد".
2- كما ورد عن أبي الصلت الهروي قال : (كان الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ يكلِّم النَّاس بلغاتهم، وكان وألله أفصح النَّاس وأعلمهم بكل لسان ولغة، فقلت له يوماً: يا بن رسول ألله إنِّي لأعجب من معرفتك بهذه اللُّغات على اختلافها فقال: يا أبا الصَّلت أنَّا حجَّة ألله على خلقه، وما كان ألله ليتَّخذ حجَّة على قوم وهو لا يعرف لغاتهم، أو ما بلغك قول أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ "أوتينا فصل الخطاب" وهل فصل الخطاب إلا معرفة اللُّغات) كشف الغمة: ص 277.

الصَّادقين عَلَيْهِما السَّلاَمُ فيما ذكروه ورووه من الرِّوايات العلاجيَّة في روايات تعارض الأدلَّة وغيرها.

لئلاَّ تفهم الأمور فهم الخلط بالأعجميَّات الَّتي لم يردها الشَّارع المقدَّس، لئلاَّ يلحد بالمشرِّع تعالى وهو أبسط المخاطر الَّتي أشارت إليها الآية في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ](1).

وأمثال ذلك من فهميَّات أصحابها المعوجَّة، بحيث لو راجعنا تلك الرِّوايات لوجدنا أكثرها أو الكثير منها قواعد تُغني الفقيه الأصولي عن الخروج من النُّصوص المهذَّبة والمرتَّبة إلى العقل الممنوع جعله في نفس الأصول المهذَّبة حاكماً في مقابل الشَّرع الكامل.

ولذا ورد عن هشام ابن الحكم ما يتعلَّق بالأصول المتاخمة لنصوصها، لأنَّه من أجلِّ رواة رواياتها المعروفين، وكذا ما رتبَّه الحسن ابن علي ابن أبي عقيل ومحمد ابن أحمد ابن الجنيد الإسكافي في القرن الرَّابع.

بل عرف عن الشَّيخ المفيد قدس سره ما كتبه عن الأصول وكذا من عاصره من القدامى وهوالسيِّد المرتضى قدس سره في كتابه (الذَّريعة) والشَّيخ الطَّوسي قدس سره شيء من هذا القبيل بكتابه المختصر المسمَّى ب- (العدَّة).

وعرف عن الفقهاء القدامى أيضاً أنَّهم كانوا يوردون من الأصول لهم ولغيرهم كل ما دعت الحاجة إلى شيء منها الأقرب فالأقرب إلى وزن النُّصوص من الكتاب والسنَّة وقواعدهما الفقهيَّة والأصوليَّة، لأعميَّة وأهميَّة الفقه وأخصيَّة الأصول إن أريد منها الأوسعيَّة ممَّا ذكرنا آنفاً كما سيجيء.

وبعد ذلك عرف للمحقِّق الحلِّي قدس سره من هذا القبيل (نهج الوصول إلى علم الأصول) وكذا ما كتبه العلاَّمة قدس سره بأكثر من كتاب ومن ذلك كتاب (التَّقريب في أصول التَّهذيب).

ص: 10


1- سورة النحل / آية 301.

إلى أن جاء دور الحاجة بعد الأزمنة القديمة إلى تقدُّم الأصول الحديثة في الرُّتبة الدَّرسيَّة، لأشرفيَّة الغاية الفقهيَّة بعد علم الكلام والعقائد حينما ابتعد الزَّمن عن عصر المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ والعصور الَّتي التزم الكثير السَّير على نهجهم وإن ساعد على ذلك سلامة الأكثر من النُّصوص الشَّريفة من السنَّة من أزمتنا هذه.

لأنَّ في الزَّمن القديم لابدَّ وأن تكون الحاجة إلى الأصول الموسَّعة قليلة فضلاً عن الأوسعيَّة في زماننا، كما ظهر ذلك من أسلوب صاحب المعالم قدس سره في عرضه للمطالب الأصوليَّة بعد اهتمامه بتعريف الفقه أوَّلاً ثمَّ الباقي من كلامه.

وكان صاحب الحدائق قدس سره قد ذكر في بداية موسوعته الفقهيَّة بعض القواعد الأصوليَّة غير المنافية للثَّوابت الفقهيَّة الَّتي توفَّرت لها عنده النُّصوص الشَّريفة ولم يعارضه معاصره الوحيد البهبهاني قدس سره المعروف بأصوليَّته بعد أن كان معاصراً له ومعارضاً كثيراً بعد ما عرف منه الوسطيَّة بين خصوص المحدِّثيَّة والأوسعيَّة الأصوليَّة.

وهكذا صاحب الوسائل في ختام موسوعته الرِّوائيَّة، لأهميَّة ذكر الثَّوابت الأصوليَّة الَّتي لا نزاع فيها عند الفقهاء الورعين بعد رواياته الَّتي قد لا تخلو من مجال المناقشة الاجتهاديَّة الصَّحيحة من معروضاته.

وكذا الأصول الأصيلة للسيِّد عبد الله شبَّر قدس سره، وإن استعرض الكثير من القدامى أصوله المشابهة لما أشرنا إليه من الأصول الرِّوائيَّة بلسانهم العربي الآخر المدقِّق.

إلى أن جاء دور الاستقلال التَّام الإضافي والمتوسِّع بأجلى مظاهره للمتأخِّرين من مثل الفصول والقوانين والرَّسائل والكفاية.

وهذه الأخيرة هي الَّتي عليها حتَّى هذا الحين جُل محاور البحوث الأصوليَّة من ألفاظ وملازمات وحجج وأصول عمليَّة إن لم نقل كلُّها - إكراماً للفطاحل الآخرين ممَّن أسَّسوا للتَّوسُّع المقبول أسسه المحتاج إليها - من قبل من جاء بعدهم من فحول الأعلام.

لكن للأسف إنَّ البعض من المتوسِّعين قد بالغ في هذا الاستقلال بتوسُّع غريب قد

ص: 11

يعطي لاستقلاله شيئاً أو أشياء من الموضوعيَّة للعقل العام والعلميَّة غير الشَّرعيَّة، وكأنَّها لها الشَّأن الهام قبل التَّشريع.

مع أنَّ ما في الكتاب والسنَّة المحقَّقة مع استفراغ الوسع فيها ما يُغني الأصول الأصيلة وما يُلحق بها عن الحاجة إلى شيء آخر.حتَّى جعل البعض منهم العقل المأخوذ مستقًّلاً في كثير أو أكثر مصاديقه بإدخالهم الفلسفة، وكثرت عن ذلك النَّظريَّات الَّتي لا نصيب لها إن كانت إيجابيَّة إلاَّ حالة الثُّبوت دون الإثبات في أكثر حالاتها وهي الأقرب إلى السَّفسطة إذا أريد منها الإثبات بالادِّعاء الفارغ لو لم يقر بها الشَّرع أو العقل التَّابع عند الانسداد، وإلاَّ فالقياس مع الفارق والاستحسانات السَّطحيَّة ونحوها كما في أصول أهل التَّسنُّن هو من موارد ومواقع التَّورط بالتَّشريع المحرَّم من مذاهبهم في النَّتيجة.

وعلى نحو هذه الأصالة الأصوليَّة الأصيلة في التَّأريخ القديم لدى الإماميَّة - إن سأل سائل عن الفائدة من الكلام عن تأريخ الأصول -

لا مجال لمن يدَّعي من الآخرين أصالة أصولهم حتَّى من تدوين من كان يُعرف بإيجابيَّاته بالمحبَّة الفائقة تجاه أهل البيت النَّبوي عَلَيْهِم السَّلاَمُ في العقيدة وهو الشَّافعي على أصولنا على ما ورد في تأريخهم أنَّ له كتاب الرِّسالة.

إمَّا من عدم صحَّة هذه النِّسبة التَّأريخيَّة كما يدَّعى، إذ في مقابل ذلك ما حقَّقه العلاَّمة المدقِّق السيِّد حسن الصَّدر قدس سره في كتابه تأسيس الشِّيعة لعلوم الإسلام.

أو لكون ما ذكره الشَّافعي من أصوله عدم صحَّة كثير بل أكثر قواعده، مع ما مرَّ من كون أصولنا كانت ناشئة من زمن نزول الوحي الشَّرعي وشرح السنَّة الشَّريفة له.

وكذا إنَّ ما عرف عن أئمَّة أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ وبعض أتباعهم في كونهم غير تابعين لأهل التَّسنُّن في بعض التَّدوينات أوان ما ورد من تدوينات من دوَّن في الأصول منهم، بل الأمر منصب عن ذلك.

ص: 12

لأنَّ الشَّيعة الإماميَّة لهم وفيهم عقيدة الانتماء بكون أئمَّتهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ هم الامتداد الطَّبيعي الشَّرعي للرِّسالة المحمَّديَّة، فلم يحتاجوا إلى تدوين الأصول، بل لديهم الأصول الأربعمائة الكافية في حينه.

مع علاقة حواري الأئمَّة بالأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ في حل المشاكل بالمباشرة أو التَّسبيب القريب جدًّاً ومنهم الفقهاء المستغنون عن الأصول آنذاك فلم تكن الحاجة الملحَّة إلى شيء من التَّدوين إلاَّ بداية عصر الغيبة الكبرى سنة 329ه- باستغنائهم عن تدوين الأصول إلى قرنين ونصف تقريباً.

وما بدأت الحاجة إلى جمع المتفرِّقات الأصوليَّة إلاَّ في زمن العَلمين من متقدِّمي أعلام الإماميَّة، وهما ابن أبي عقيل العماني وابن الجنيد بظهور الشَّيخ الطُّوسي قدس سره صاحب العُدَّة.

فلم تعن حالة تقدُّم العامَّة في التَّدوين وتأخُّر الإماميَّة فيه أنَّهم فازوا عليهم، لما ذكرناه من لجوء الإماميَّة إلى خلفاء النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وصفوته المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ وهو ما أغناهم عن أن يكون الشَّافعي فائزاً عليهم في ذلك.

بل إنَّ من تأمَّل في مركَّبات الأصول - ومنها الأدبيَّات كمباحث اللُّغة والأدب والعلوم العقليَّة وبناء العقلاء والتَّعبُّد الشَّرعي - فإنَّ الاعتماد على مقرَّرات واضعي هذه المعارف أولى من الاعتماد على مقرَّرات الشَّافعي ومنها نواقص القياس والاستحسان ونحوهما، وواضعوا تلك العلوم تعلَّموا تحفها وبرعوا في التَّعمُّق بفروعها من الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ، فالأولويَّةفي الواقع لعلماء الإماميَّة وإن تأخَّروا في التَّدوين.

إضافة إلى كون الحاجة كانت ملحَّة إلى التَّدوين والجمع أو التَّوسعة والتَّنسيق في أمور ما بعد القرنين والنِّصف بعد ضياع أو تبعثر قسم لا يُستهان به من الأصول الأربعمائة.

وهو ما سبَّب وجوب الاهتمام بالجوامع الأربعة الأولى والمجامع الأربعة الأخيرة

ص: 13

بالدَّرجة الثَّانية، مع الاهتمام بتطبيق علمي الدِّراية والحديث وعلم الرِّجال بالنَّحو الإجمالي في الأخير اعتماداً على الوثوق في الرِّواية لا الرَّاوي، نقداً لمسيرة من حصر الأمر في الأخذ بروايات الآحاد الصَّحيحة وحدها ومنها المتروكات بمثل هجر المتناقضات كليَّاً وبما لا مجال فيه إلى الجمع المقبول عكس ما أمكن منه ذلك وما خصَّ منها في موارد التَّقيَّة مع كون المقام غير مقامها.

إضافة إلى أنَّ بعض مصاديق الاجتهاد كانت في زمن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وما بعده من الأيَّام الأولى كالقضاء، وكذلك إنَّ هشام ابن الحكم ويونس ابن عبد الرَّحمن وهما من أصحاب الإمامين الصَّادق والكاظم عَلَيْهِما السَّلاَمُ كانا قد كتبا رسالتين في مباحث الأصول الأولى باسم كتاب الألفاظ ومباحثها والثَّانية باسم كتاب اختلاف الحديث.

فلا فخر للشَّافعي وغيره في السَّبق بالأصول، وقد نوَّه الحجَّة السيِّد حسن الصَّدر قدس سره كما مرَّ في كتابه تأسيس الشِّيعة لعلوم الإسلام بما يكفي، فلا مجال لتفاخر الآخرين على أصوليِّينا.

المدخل الثَّاني

لماذا العناوين الأصوليَّة بين كونها نظريَّات وكونها قواعد

بعد أن جاءت شرائع الله السَّماويَّة وعلى أيدي الأنبياء والمرسلين بواسطة الوحي المبين - لإنقاذ الأمم والشُّعوب من الجهالة وحيرة الضلالة بسبب المغريات الأربع الَّتي أبتلي بها البشر بعد اتِّحاف الله تعالى إياه بالعقل الَّذي لو خُلِّي وطبعه لقاد هذه الأمم والشُّعوب بالرُّقي إلى أسعد مراتب الحياة الرَّغيدة وقوانينها المنظَّمة الرَّشيدة ولكن استحوذ عليها وعلى عقلها الشِّيطان الماكر والدُّنيا المخادعة والنَّفس الأمَّارة والهوى المشغل عن اتِّباع خيرة هذه القوانين المنظِّمة لهذه الحياة، فللخلاص من هذه الابتلاءات

ص: 14

بمجيء الدَّور الإلهي وبعث الأنبياء والرُّسل والكتب السَّماويَّة لإنقاذ تحفة العقل ومن أتحف به ليسير سير ما يُرضي الله ويدفع سخطه بهذا النِّظام الجامع للمنقول وخير المعقول عقيدة وعملاً وعن طريقهما وبواسطة خير الأصول -

جاء تعقُّل وجوب شكر المنعم مع تأكُّيد النُّصوص على ذلك بما يجمع حقَّه تعالى لصالح السَّعادة في الدَّارين بعد هذه العناية الإلهيَّة الفائقة، لأنَّه لم يترك عباده سداً بعد أن لم يخلقهم عبثاً، لكن لم يُترك التَّمرُّد على الله وقوانينه وشرائعه من قبل أكثر البشر.

فأرادوا التَّخلُّص من قيود تلك القوانين الإلهيَّة وبما لم يشبه قوانين السَّماء في كل شيء وإن كان هناك شيء من الإيجابيَّة الجانبيَّة لكونها وضعيَّة مليئة بالنَّواقص وبدون عدالة تامَّة ودائمة لصالح الجميع، وبذلك كانوا يعتبرون النَّظريَّات المقترحة من قبلهم قوانين قبل تكامل نصوصها.

وهذا ما لا يمكن قبوله والرِّضا به لابتعاده عن تلك القوَّة الإلهيَّة الغيبيَّة الإعجازيَّة الدَّاعمة لأولئك الأنبياء والمرسلين، ومن هؤلاء الوضَّاعين كان فراعنة الأنبياء والرُّسل، وكانت صرخات المعارضين من غيرهم.

حتَّى لو افترض قبول دعوى من يدَّعى لهم كون بعضهم كانوا من دعاة بعض العلوم كالفلاسفة وأمثالهم، كما لو احتجَّ لهم وعلى ضوء مبادئنا السَّماويَة الإسلاميَّة لنبيِّنا الخاتم صلی الله علیه و آله و سلم وما ورد عن عترته عَلَيْهِم السَّلاَمُ ممَّا أخذوه منه من الرِّوايات كقول (العقل ما عُبد به الرَّحمن واكتسب به الجنان)(1) بحجَّة إمكان أن يصل الإنسان بهذا العقل إلى الهداية والخلاص من الغواية، لأنَّه أوَّل الرُّسل إلى الإنسان كما عُرف عن أرسطو الموحِّد في حينه بعقله بلا تقيُّد منه بالنبوَّات المعاصرة له، وعلى الأخص لو كان أرسطو داخلاً أيضاً في ابتلاءه بتلك المغريات.

ومن هنا اعتقدت بعض أقوام التمرُّد على الله وشرائعه أنَّ الله تعالى خلق الخلق

ص: 15


1- أصول الكافي ج1 ص 8.

ثمَّ فلت الأمر من يديه، وهم اليهود ومن شاطرهم هذا الرَّأي ممَّن يدَّعي الإسلام كذباً، وقد ردَّهم القرآن بقوله تعالى [غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ] جواباً لهم بعد قوله تعالى على لسانهم [يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ](1).

ولكن هذه كما لا يخفى شبهة في مقابل بديهة، لأنَّ الرِّوايات الواردة في شرعنا الحنيف - كرواية (العقل ما عٌبد به الرَّحمن واكتسب به الجنان) الَّتي مرَّت - لا تدل إلاَّ على ما اجتمع فيه العقل والشَّرع ممَّا دون العقل المجرَّد بعد الابتلاء المشار إليه آنفاً وغير المضمون منه عدم تأثُّره بالمغريات الأربع ما دام بدون عصمة.

بل إنَّ في مقابله ورد أيضاً (إنَّ دين الله لا يصاب بالعقول النَّاقصة)(2) للإشارة إلى موارد الابتلاء المؤثِّرة تلك.

وهذه النَّظريَّات المفسَّرة في علم المنطق بمعنى (ملاحظة المعقول لتحصيل المجهول) لا يجوز أن تبقى في شرعنا العظيم المرتبط كذلك بعلم الأصول وبإحكام وبدون الابتعاد عنالقياسات والاستحسانات وما يُسمَّى بسدِّ الذرائع والمصالح المرسلة عند أصوليِّ الآخرين البادية فيها بهذه النَّظريَّات المجرَّدة والمنتهية بمجرَّد ادِّعاء كونها قواعد لها.

وهي ليست إلاَّ نظريَّات من دون ربط لها بمصادر شرع الله الملائم لما في أصولنا، وهو ما لابدَّ وأن يدخل في المعنى المصادر وهو الَّذي معناه اصطلاحيَّاً (جعل الدَّعوى عين الدَّليل) وهو من أشد المرفوضات لو بقي على مجرَّد النَّظريَّة.

وأمَّا ما يهواه اليهود من التَّحرُّر من القيود السَّماويَّة المثلى - وبما وصلوا إليه من طيشهم وغرورهم في هذه الدُّنيا حتَّى عاثوا في الأرض فساداً وما قالوه عن الله تعالى من الجسارة - فهو من المعايب الفاضحة لهم والَّتي لا تستحق الرَّد لهم ولأمثالهم.

فهذا نوع من موارد الابتلاء بالنِّظريَّات المجرَّدة المحاربة من الوضَّاعين للاستقامة

ص: 16


1- سورة المائدة / آية 64.
2- بحار الأنوار 2/303.

وأهلها.

بل لم يُقتصر على هذا الأمر حين مجيء الرِّسالة المحمَّديَّة والقرآن والسنَّة المحفوظة بالصَّون بالعترة المطهَّرة حينما ابتعد النَّاس عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والعترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ قسراً واختياراً من أهل الكفر والشِّرك والنِّفاق حتَّى تبعثرت الأدلَّة بسبب مضايقة الأعداء لهم إلى أن انسدَّ باب العلم جملة أو تفصيلاً ولو من بعض النَّواحي.

فالتزم قسم من الغيارى - للتَّعويض عمَّا لم يكن ميسوراً في الظاهر - بما يُسمَّى باستفراغ الوسع الَّذي حصل منه الكثير من الخير الغفير وعلى طبق هذا وما عرفت به النَّظريَّة منطقيَّاً بمعنى (ملاحظة المعقول لتحصيل المجهول) ولو تشبُّثاً بالمحاولات القديمة على أساس دعم النَّظريَّات ولو بالاعتماد على ما بقي من الرِّوايات العلاجيَّة غير البعيدة حتَّى عن الإرشاديَّات المرتبطة بحسن الإحسان وقبح الظلم لتصحيح الانتقال من النَّظريَّات إلى القواعد وهي الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل.

ولا شكَّ أنَّ أمَّهات الأدلَّة المطروحة للاستدلال بها أو عن طريقها من حيث المبدأ هي الأدلَّة الأربعة وهي (الكتاب والسنَّة والإجماع والعقل)، سواء في العرف الأصولي القديم المصاحب للفقه الإسلامي في صدر أيَّامه الزَّاهرة الغنية عن التَّوسُّع أو الحديث الموسَّع وعلى نهج ما يراد حتَّى عند بعض أهل القديم الَّذي التزم به في عرفهم والنَّاهجين منهج القدامى من حواري الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من جرَّاء استفاداتهم من متقنات الرِّوايات العلاجيَّة الَّتي عُثر عليها باستفراغ ذلك الوسع.

أو العرف الأصولي الصِّناعي في توسيعه بتوسيع دواخل جميع الأدلَّة الأربعة بلا زيادة، ولربَّما صحَّ بعض التَّوسُّع العنواني الافتراضي لدراسته عند القدامى أيضاً بما قد يزيد في عدد العناوين الأصوليَّة إلى الأكثر فالأكثر من دواخل تلك الأربع عرضاً لا طولاً لدراستها والنَّظر فيها بأنَّها هل تصلح أن تكون من الأصول الفرعيَّة للأصول الكليَّة حتَّى يتمسَّك بها أم لا فيُعرض عنها؟.

ص: 17

ولذا شاع بين القديم والحديث عند حلول هذه المرحلة اعتبار (فرض المحال ليس بمحال).

لكن حين احتياج المجموعتين من القدامى والجدد إلى التَّوسُّع العنواني - كلَّما بعُد الزَّمنعن زمن الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ وحدث على باب العلم شيء من الغلق - كانت مهجة العلماء الغيارى بين حين وآخر تهيج بشدَّة للتَّصدَّي إلى أي أزمة معرقلة بإزالتها واتِّخاذ ما يمكن أن يكون معوِّضاً عمَّا لم يكن صالحاً للاكتفاء به حتَّى من بعض الأدلَّة القديمة إلاَّ بإكمالها بما يتمِّم إسنادها.

ومن جهة تورُّع هؤلاء العلماء عن أن يقولوا شيئاً مبتدعاً كانوا يسمَّون العنوان المقترح قبل وصوله إلى القاعدة بالنَّظريَّة، وهي الَّتي لا تفرض على أحد منهم، إلاَّ إذا تأكَّد مدركها عند السَّاعي لتوليدها قاعدة وعند من يذعن إلى هذا الدَّليل من المجتهدين الآخرين.

بل وينبغي لزوماً أن يكون هذا التَّحفُّظ عند كل من لم يتقن أمر مدرك هذه الأمور بإبقائها على مستوى النَّظريَّة حتَّى لا تكون مجازفات بتطبيقها في الخارج حتَّى على أي نحو تكون، كما لو أمكن تصديق هذا الانطباق في خصوص الذِّهن بالإذعان للنِّسبة لا في الخارج، وهو ما يسمُّونه إذا انطبق في الذِّهن بحالة الثُّبوت لعدم إعطاءه الثَّمرة العمليَّة في الخارج، وهي الَّتي تسمَّى عندهم بحالة الإثبات إذا تحقَّق الانطباق.

وقد توصل إلى حالة تحقُّق الثُّبوت هذه فقط في بحوثه كثيراً أستاذ الأساتذة المعظَّم الشَّيخ النَّائيني قدس سره مع عدم مجازفته يوماً بتطبيق شيء من ذلك في الخارج على أساس من مجرَّد احتمال الانطباق.

ولكن كان سيدنا الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره يتبنَّى حلُّها أو حل بعضها وأمر إيصالها كلاًّ أو بعضاً إلى حدِّ الإثبات الخارجي حسب ما يعتبره من المباني الخاصَّة له منجحاً لذلك.

ص: 18

بل حتَّى ما لو انطبق شيء من المصاديق في الخارج عند آخرين وهو ما كان تابعاً لدليله الخاص وهو ما يسمَّى ب- (الخارج بالنَّص) إذا كانت القاعدة في الأعم الأغلب على خلافه لكونها لها دليل كونها قاعدة.

فكان العلماء يتورَّعون بعدم القياس على هذا الخارج بالنَّص لضعف دليله عن دليل القاعدة.

وللفارق الواضح بين القاعدة التَّامَّة وبين ما شذَّ عنها وورد هذا الأمر كسؤال ليجاب عنه وهو:

(إذا كانت كل قاعدة لها شواذ فهل يُعد مخلاًّ بقاعديَّة القاعدة؟ أم أنَّه خارج بالنَّص وأنَّ سرَّه موكول إلى صاحب النَّص حينما تُعد القاعدة للتَّسهيل)؟.

فنقول: إذا تكاملت أدلَّة القاعدة مع أدلَّة قاعدة التَّسهيل المضاعفة لقوَّتها مع الحاجة الملحَّة إليهما بحيث لم يضر شذوذ الشَّاذ من الأدلَّة العائدة له مهما كان قويَّاً أو تعدَّد بقاعديَّة القاعدة كمعارض لها، وإنَّما كان الشُّذوذ عن القاعدة من جهة جانبيَّة دون أن تزعزع أركان تلك القاعدة وإن كان مجيء هذا السؤال بصفة المبالغة وكأنَّها قاعدة في مقابل قاعدة، فلا ضير في صحَّة الاثنين.

ولعدم ثبوت أنَّ كل قاعدة لها شواذ بتلازم دقِّي لو خيف من كثرتها على قواعدها ما دامت قاعديَّة القواعد متفاوتة بتفاوت المجتهدين في نظراتهم الاجتهاديَّة بين المجتهد والأعلم أو حتَّى بين القوَّة والضَّعف عند صدق أنَّ الاثنين في اجتهاد كافي.

وقد أدَّى أمر صحَّة الاثنين عن اجتهاد المجتهدين - وإن شكَّك من شكَّك إن تمَّت القاعدة على رأيه، كما لو اختلف بعضهم مع البعض الآخر حول بعضها - فوافق بعض عليها وشكَّك آخرون إذا أثَّر مثل هذا في بعض الشَّواذ ضعفاً مسقطاً ولو في نظر البعض، وإلاَّ يمكن أن يصل الخلل من كثير من هذه الشَّواذ في كثير من هذه القواعد وهو خلاف المفروض.

ص: 19

مع أنَّا فرضنا في الجواب تكامل أدلَّة القواعد، وإن كان كل منها ناتجاً عن اجتهاد مجتهد مغاير للآخرين في القواعد الأخرى، وإنَّ أدلَّة الشَّواذ المقبولة جانبيَّة غير معارضة لأركان القاعدة، لعدم كونها بمستوى دليل القواعد وإذا كانت قاعدة التَّسهيل المقويَّة للقاعدة الأصوليَّة وهي المطابقة لمصالح الأعم الأغلب، فيمكن أن يقوى الخارج بالنَّص إن قيل مع كماله الجانبي من قاعدة التَّسهيل نفسها إنصافاً بحق الأقليَّات وبلا محذور من الخوف من التَّعارض الدَّاعي إلى التَّساقط إذا كان هذا التَّسهيل مرتبطاً بالمستوى الجانبي، وإنَّ مصاديق صحَّة القواعد وما شذَّ عنها مع أدلَّته موفورة تتَّضح في الأبواب الآتية.

ولمثل هذا التَّورَّع كان التَّدوين للأصول في الكتب القديمة والحديثة حتَّى في عناوينها، فبعضهم كتب ما عنده باسم المسائل، وبعضهم سمَّاه باسم الفوائد، وبعضهم بالأصول، وآخرون بالمعالم، وهكذا بالعناوين وبالفصول وبالقوانين وبالرَّسائل، وبعضهم قلَّص في مواضيعها، واكتفى بالضَّروري منها كالكفاية.

لكن لم يخرج الكل فيما نعلم مع المتتبِّعين عن كون عناوين كتبهم كانت كبحوث تفرض في البداية نظريَّات، وعند الوصول في البحث عنها إلى صدق كونها قواعد يجعلونها مبنى لهم وإلاَّ تعطَّل إذا كانت واصلة إلى مرحلة الثُّبوت دون الإثبات أو تبقى نظريَّة لعدم وجود الثَّمرة العمليَّة لها مسلَّمة في الخارج، وإذا لم تكن صادقة في كونها قاعدة لا ثبوتاً ولا إثباتاً لابدَّ أن تترك أو أن يُدقَّق فيها لتوسعة الذِّهن الأصولي مثلاً على الأقل عند الحاجة إلى التَّوسعة.

وعلى الأخص إذا اختير هذا في تلك التَّوسعة في المقامات الفلسفيَّة المرتبطة ببعض المطالب الأصوليَّة إن صحَّت وإن كانت أكثرها إن لم نقل كلُّها علميَّة غير عمليَّة، لكون الأصول مرتبطة بالفقه ودقَّته إن اقتضى الأمر الحرص عليها فهي الأقرب إلى العرف فقط.

ص: 20

وأمَّا الدقَّة الفلسفيَّة فلا يمكن أن يُحاسب عليها المكلَّف في شرعيَّاته كما سوف يتَّضح أكثر فيما يأتي، لأنَّ الفلسفيَّات إن أمكن الانتفاع منها، ففيما إذا تساوت مع الحكمة وفوائد علم الكلام فلا نفع منها إلاَّ في باب الاعتقاديَّات الحقَّة.

ولأجل إتمام الفائدة أكثر بذكر بعض القواعد الأصوليَّة وما شذَّ عنها خروجاً بالنَّص أو الدَّليل وذكر بعض مساوٍ لها في العدد من القواعد الفقهيَّة وما شذَّ عنها خروجاً بالنَّص أيضاً اخترنا هذه الأمور زمن العدد لكلٍّ منهما ثلاثة تعميماً للفائدة.

فمن أمثلة الباب استصحاب الطَّهارة لمن سبقت طهارته وشكَّ في الحدث بعدها ولكن الوضوء التَّجديدي باق على استحبابه خروجاً بالنَّص.

وممَّا يلحق بذلك بعض القواعد الفقهيَّة لا الأصوليَّة ومنها (قاعدة سوق المسلمين) المبيح لشراء كل شيء فيها، إلاَّ ما علم جهاراً بخروج بعض سلعه عن الحلال أو شكَّ فيها،ولذا ورد الاحتياط في اللُّحوم والدِّماء والفروج والأموال.

ومن أمثلة الباب قاعدة كون الألفاظ موضوعة لذوات المعاني لا بما هي موادِّه ومستندها التَّبادر مثلاً للدِّلالة على الحقيقة، وعند كون الألفاظ موضوعة للمعاني المرادة إذا انتفت إرادة كونها للحقيقة بوجه من الوجوه صارت الألفاظ مجازاً، لأنَّ المركَّب ينتفي بانتفاء ذلك الوجه.

وممَّا يلحق بذلك من بعض القواعد الفقهيَّة (قاعدة الطَّهارة) ليتمسَّك بها عند الشَّك كفضلات ماء الوضوء الَّذي لا يمكن التَّوضؤ أو الغُسل من الحدث الأصغر والأكبر، ما عدا الأخباث على ما دلَّت عليه الأدلَّة خروجاً بالنَّص.

ومن أمثلة الباب (قاعدة التَّرتُّب) الَّتي تقضي بتقديم الأهم على المهم، كما لو ضاق وقت أحد الواجبين المتساويين في أصل الوجوب وتفسح وقت الآخر، وأمَّا فيما لو توسَّع وقت الاثنين كما لو تفاوت أحدهما عن الآخر كالفرق بين الواجب الأدائي وهو الأهم والقضائي وهو المهم، كما بين الصَّلاة الأدائيَّة مع سعة وقتها والقضائيَّة مع

ص: 21

سعته أيضاً إذا لم تتزاحما وبين الصَّوم القضائي الموسَّع والمستحب، سواء الموسَّع أو المؤقَّت فلا مانع من تقديم المهم على الأهم خروجاً بالنَّص ولكلٍّ أدلَّته.

وممَّا يلحق بذلك من القواعد الفقهيَّة قاعدة (المؤمنون عند شروطهم)(1) في المعاملات، فللبائع والمشتري أن يبيِّن كلٍّ منهما شروطه وفي جميع القضايا إذا لم يصادف خلل يوجب الخيار، ولكن لابدَّ أن يشترط الصَّحيح دون الفاسد إذا تبيَّن خلل يدعو إلى الخيار خروجاً بالنَّص وللشَّاذ أدلَّته.

المدخل الثَّالث

معايب عدم العناية بالمصطلحات العلميَّة وأسبابها

يُعدُّ عدم العناية بالمصطلحات العلميَّة الخاصَّة لكل علم أثناء دراسة الكتب الدِّراسيَّة للعلوم الحوزويَّة مقدِّمات وسطوح أولى وعُليا - وكذا أثناء الدخول في الاجتهاد أو التَّخصُّص الاجتهادي مطالعة أو تدويناً أو بياناً من قبل المدرِّسين ومدرِّسي بحوث الخارج الفقهي والأصولي وغيرهما من العلوم، وكذا الدُّروس الأكاديميَّة -

من أخطر ما يكون ضدَّ جواهر العلوم بتركها أو عدم العناية بها بعدم ضبطها وعدم حفظها لما اتَّخذت له أو تحويلها لغير مواقعها، وإن كنَّا أحياناً نخرج عن الصَّدد لإيضاح بعض الأمور لا لتبديل الاصطلاح.

ومن ذلك محاولة تبديلها بألفاظ جديدة غير ألفاظ التَّدوين القديمة الَّتي طالما سعى لها مدوِّنوها القدامى حتَّى جعلوا المعاني من خلال معرفة المدرِّسين لها من الأكابر والأفاضلوبياناتهم بواسطتها واضحة في الأذهان وعدم العناية هذه بها ناشئ من

ص: 22


1- المستندة إلى الرِّواية المروية عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وعن أهل بيته الطَّاهرين عَلَيْهِم السَّلاَمُ بلفظ (المسلمون)، راجع تهذيب الأحكام، ج 7، ص 371; الاستبصار، ج 3، ص 222.

أسباب:

منها: عدم الفهم لتلك المصطلحات المهمَّة من جرَّاء تقصير المدرِّسين في تنبيه طلاِّبهم بوجوب العناية بها لحفظهم لها بعد فهم معانيها وتوصية من بعدهم بها، لتوقُّف فهم المقصود العلمي عليها إن كان المدرِّسون أو بعضهم يفهمون معناها لغرض تبديلها بالألفاظ الجديدة، وهو ما يحوجهم إلى الإكثار من العبارات الَّتي تبيِّن المقصود الملخَّص في تلك المصطلحات.

وقد فاتهم أنَّ بسبب ذلك تمَّ تقليص الوفاء بحق تلك العلوم النَّاشئة على نهج فكر الأعاظم القدامى أو كتبها الدِّراسيَّة من البيان بما يضيع به العمر أو ما يلزم المحصِّل بالاقتصار على الجزء اليسير الَّذي لا يُحقِّق به الفضيلة له، لتوقُّف ذلك الفهم على ما وصفوه من تلك الاصطلاحات كقرائن لابدَّ أن لا تتجلَّى المعاني إلاَّ بواسطتها، فضلاً عمَّا لو لم يفهموها جميعاً أو حتَّى لبعضها دون البعض الآخر وهو الأشد والمراد هو فهم العلم أو الكتاب الدِّراسي الحاوي له كلُّه وفي هذا كيف يكون فاقد الشَّيء (ولو في الجملة) معطيا له.

ومثل هذا حتماً أيضاً يكمن فيه الخطر أو بعضه في الكتب المدَّعى كونها معوِّضة عن تلك القديمة، فضلاً عمَّا لو لم يركِّز طالب العلم نفسه على لزوم مواصلة دروسه الحوزويَّة الاصطلاحيَّة كبعض المتجدِّدين أو بما كان أنكى وأشد، وهو كون الطَّالب لا يبالي بدروسه أنَّه فهمها أو لم يفهمها من تساهله بنفسه أو بمعونة أستاذه المتماهل.

ومن هؤلاء عُدَّ الَّذين تكثر بهم بعض الحوزات للأسف لأجل عنوانيَّة أصل الانتماء، ولو لكسب الرَّواتب الشَّهريَّة ونحو ذلك، إلاَّ ما قلَّ وندر.

ومنها: مشكلة استغلال بعض المصطلحات العقائديَّة والفقهيَّة والأصوليّة وغيرها من بعض أهل الخلاف ومعهم بعض المتطرِّفين الآخرين من الوضَّاعين والعلمانيِّين والحزبيِّين بما لم ينزل الله به من سلطان.

ص: 23

لصالح ما يريدون لا ما يُراد إلهيَّاً بالرَّغم من ورود الحديث النَّبوي الشَّريف من قول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم(افترقت أمَّة أخي موسى إحدى وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النَّار، وافترقت أمَّة أخي عيسى إلى اثنين وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النَّار، وستفترق أمَّتي من بعدي ثلاث وسبعون فرقة، فرقة ناجية والباقون في النَّار)(1).

كما في استغلال مصطلحات ما اتَّخذته الفرقة النَّاجية لصالح الفرق الأخرى وغيرها من فروع تلك الفرق الَّتي ظهرت أو سوف تظهر في هذا الزَّمن زمن كثرة الفتن.

مع ثبوت الثَّوابت الإسلاميَّة الكثيرة المغنية لهم عن كلِّ ذلك بين فرق المسلمين الَّتي يمكن أن تكون - بين أهل البراءة والإنسانيَّة والعقل والدِّين الجامع لهم - جامعة لفرقهم مهما تباعدت أماكنها وتفرَّقت أزمنتها وجذورها في هذه الدُّنيا الوسيعة بين كلٍّ منها ولو بالتَّوحُّد السَّطحي الَّذي لا بأس به إذا لم يمكن الأفضل على الفور، ليدوم بالتَّعمُّق الوحدوي إذا استمرَّ بتبادل الأخلاق الحسنة والتَّفاهم العلمي والسِّلمي وعلى أساس كلمة سواء.

لتذوب التَّرسُّبات المؤذية شيئاً فشيئاً مع الفرق الأخرى الَّتي جعلت بعض المعتدلين منهاوبالأخص مسلك أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ الإمامي صابراً طول الزَّمان حتَّى هذا الأوان، للرَّغبة الملحَّة في الوئام من عموم الكتاب والسنَّة ومن لسان المؤالف والمخالف أو التَّقارب على الأقل، ولو للابتعاد عن مشاكل التَّزاحم بمثل الإبقاء لآيات التَّآخي والتَّراحم والاعتصام بحبل الله جميعاً في مقابل العدو الكافر والنَّاصبي المتجاهر الحاقد الَّذي كشف عن مدى بُعده عن الإسلام العظيم ومنه التَّيمي والوهابي، ولطرد الأسماء الجديدة الموضوعة، لتحقيق أعماله الَّتي من جملتها تمزيق أوصال المسلمين صغاراً وكباراً حتَّى يغزوهم في عقر دارهم ضدَّ كلام الله الواضح وتعاليم نبيِّه صلی الله علیه و آله و سلم الواضحة.

ص: 24


1- سنن أبي داود 3/896، صحيح الجامع الصغير للسيوطي 1/156 ، مشكاة المصابيح 1/61، الدر المنثور 2/286.

وفضلاً عن رغم ما ورد عن فِرق شيعة مولانا أمير المؤمنين عَلَيْهِم السَّلاَمُ وعدِّهم إلى ثلاثين فرقة(1)، وهو ممَّا يدعو إلى التَّكاتف الأكثر والوئام الأعمق بالابتعاد جهد الإمكان ولو عن أقل نسبة من الافتراق على مثل أكثريَّة ثوابت الاتِّفاق والوفاق وبما لا عذر فيه بين فرق ما يؤمَّل أن يكونوا أو بعضهم لو انصاعوا إلى الحق وأهله مع الخواص أنَّهم هم الفرق النَّاجية.

فزرعت وللأسف بذور النِّفاق في مواقع جذور هذا الافتراق منذ استغلال مصطلح الخلافة من قبل غير أهلها سلفاً وخلفاً وبما يخالف الجعل الإلهي بصراحة من قبل العامَّة وتساهل بعض الخاصَّة وخصوصاً بعض الأحزاب وإن انتسبت بعضها إلى محبَّة أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ ظاهراً.

وكذلك مصطلح وكلمة الإمامة إلاَّ بتوجيه ذلك على نحو حذف المضاف كنائب الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ .

وهكذا مصطلح الولاية إلاَّ بتوجيه ذلك بما يناسب نائب الولي الأصلي إذا كان الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ أو الولي إماميَّاً مجتهداً جامعاً للشَّرائط.

وكذا بدعة مصطلح الرِّسالة أخيراً أعني الرِّسالة الموجهَّة من الإمام للأمَّة زعماً ولعلَّها بمثابة السَّفارة وهي من البدع الصَّريحة، أو إمامة اثنا عشر إماماً آخرين غير الاثنا عشر الأصوليِّين وهي من فضائع البدع أيضاً.

وكذا من جعل بعض المتطرِّفين من الشِّيعة أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ إماماً وخليفة أنَّه لا يمتنع من أن يقال عنه ولو تملُّقاً وتزلُّفاً للآخرين بأنَّه الرَّابع، حتَّى لو ظنَّ من قوله هذا بأنَّه ظاهراً تنازل عن الحق الإلهي الَّذي كان باعتراف الكل في بيعة الغدير وغيرها ممَّا سبق.

فلماذا هذا الاستغلال - الواضح في بطلانه - ونحن في أتم الغنى إن تبانينا على

ص: 25


1- الملل والنحل: 1/131 - 169.

التَّآخي العام، وكون الكل أهل القبلة الواحدة وأهل الإقرار بالشَّهادتين ونحو ذلك.

حتَّى لو بقيت بعض الاصطلاحات وهي الخاصَّة بنا ثابتة لنا والخاصَّة بالآخرين باقية لهم بدون تحرُّش أحد بأحد ما دام التَّفاهم في بعض الأوقات مشكلاً ولو اعتماداً على ثبوت امتياز الحق عن الباطل بمجرَّد إلقاء الضَّوء التَّأريخي الثَّابت لكل من ألقى السَّمع وهو شهيد عند مقارنة مؤامرة السَّقيفة وصنَّائعها بالأمر الإلهي في بيعة الغدير وما قبلها في أمير المؤمنين علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ في الخلافة والإمامة.

إذ لا مشاحَّة في الاصطلاحات الاجتهاديَّة لبعض من تدخَّل في الشؤون الإلهيَّة ما دامالحق واضحاً لكل أحد.

ومنها: ما يثير المعايب وهو ورود اتِّهامات الخلط بين الفلسفة والأصول وهو نوع الأهم فيما نحن فيه - مع وضوح الفرق بين العِلمين على ما سيتَّضح أو ذكر معلومات عن الاثنين -

وهو بعض الأمور الكلاميَّة - الَّتي لا تخفى علاقتها الحميمة بالفلسفة في كثير من القضايا ولو كانت مجملة في بعض الاعتبارات كعلاقة الخاص بالعام -

مثل البراءة العقليَّة، وهي النَّاتجة من عقيدتنا الثَّابتة المعروفة بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

وهي واضحة في كونها مسألة كلاميَّة عند الأصولييِّن والأخبارييِّن من الحريصين على حماية الفقه الشَّرعي معاً من المسؤوليَّة ما لم يدل على المسؤوليَّة دليل واضح.

وعليه فالجميع أبرياء من كل مسؤوليَّة تُدعى عن أي تكليف لم يرد فيه نص سماوي أو بيان إلهي وما يتبعه من الأدلَّة المتَّفق عليها، وإلاَّ يكون العقاب على الشَّيء المجهول قبيحاً في سببه أيٍّ كان ومخالفاً للعدالة.

وهذه المسألة من فروع قبح الظُّلم على الله تعالى لعدله الثَّابت دنياً وآخرة.

ومن هنا تتَّضح كلاميَّاتها الاعتقاديَّة عند الجميع حتَّى عند أنصار العدل الإلهي من

ص: 26

فريقي الخاصَّة وهم الإماميَّة والعامَّة من المعتزلة أجمعهم.

إلاَّ أنَّ الأخباري لا يقول بالبراءة من المسؤوليَّة عند فقدان الدَّليل على التَّكليف الشَّرعي مطلقاً في الشَّرعيات، اعتماداً منه على الاحتياط.

لأنَّه في نظره أنَّه بيان وأصالة يرجع إليها في مقام فقدان الدَّليل الصَّريح أو كون النَّص عامَّاً مطلقاً، ولذا فالعقاب من دون تطبيق لحالاته لا قبح فيه في نظره، لكون هذا النَّوع من البيان حاكماً على قاعدة البراءة عنده.

وأنَّ الأصولي يقول بها لأنَّه يريد البيان التَّفصيلي للأحكام أو الإجمالي الخاص الَّذي لا يرفع أصل التَّكليف، وهو ما يسمَّى باشتغال الذمَّة اليقيني كفروع العلم الإجمالي المنجَّز الدَّالَّة عليه، فلو لم يكن شيء من ذلك ثابتاً فلا عقاب، وإلاَّ يكون قبيحاً فيرجع الأمر إلى البراءة.

وهي أصل عند الأصولييِّن يرجع إليه عند الشَّك أو اليأس من أي دليل في مثل المقامات الشَّرعيَّة أيضاً وداخل في شموليَّة الأدلَّة الإرشاديَّة لها كما سلف.

ولكن لم يتعرَّضوا لها بالنَّحو الأصولي المحض، حتَّى حصل الخلط بين العرض الكلامي وأصالة البراءة الأصوليَّة.

ومثل ما عُرف من قاعدة (التَّخيير العقلي) النَّاشئة من القول بقبح التَّرجيح بدون مرِّجح لو تساوى طرفا الشَّيئين فيما بينهما، فضلاً عن ترجيح المرجوح على الرَّاجح لما يخل من ذلك بالعدالة.

إذ هو من المسائل الكلاميَّة المتَّفق عليها بين الطَّرفين في أساسها كذلك، ولذا فالعقل لا يحكم إلاَّ باختيار أحد الطَّرفين أو الأطراف إذا تساوت ما دام احتمال الإصابة له وجوده في أي طرف ولم يكن مضرَّاً ببقيَّة الأطراف وهو لا خلاف فيه.

وإنَّما البحث في هذه القاعدة قد يتناسب مع كون أنَّ دعوى كون (دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة) ثابتة أم لا؟

ص: 27

لو أمكن تحصيل تفاوت بين هذين المتساويين أو الأكثر ولو من جهة مرِّجح الاستجابة لا الوجوب أو مرجوحيَّة الكراهة لا الحرمة.

فإن ثبت شيء فلا تساوي، إلاَّ إذا اخترنا المكروه وتركنا المستحب، لعدم الحرمة وعدم الوجوب في الفقهيَّات منهما، وأمَّا الأخيرين الحرمة والوجوب فلا تساويا الثبوت.

وهذه القاعدة ممَّا حصل في أمرها الخلط كذلك أو عدم إفراز الحالة الكلاميَّة عن الأصوليَّة.

ومثل قاعدة (الاحتياط العقلي) الَّتي أشرنا إليها آنفاً لمناسبة سابقة، وهو المساواة بقاعدة الشُّغل كما في أطراف العلم الإجمالي المنجَّز، مثل حالة الشَّك بين صلاة الظهر أو الجمعة يوم الجمعة ظهراً، على أساس أنَّ دفع الضَّرر المتحمَّل واجب عقلاً.

وهي مسألة كلاميَّة متفَّق عليها أيضاً، وعن طريقها يكون وجوب معرفة الله تعالى وبقيَّة الأصول الاعتقاديَّة والنَّظر في المعاجز والكرامات لدفع الشُّبهات والاحتمالات المخالفة للفطرة السَّليمة.

ولكن عُرف من ادِّعاء العلامة المجلسي قدس سره في كتاب الأربعين شمول أدلَّة البراءة لجميع أطراف العلم الإجمالي(1)، والمحقِّق القمِّي قدس سره في قوانينه(2) والسيِّد المرتضى قدس سره في الذَّخيرة(3) والعاملي قدس سره في المدارك(4) شمولها لبعض الأطراف دون بعض.

أقول: ولعلَّ هذا من الفرق بين أصل التَّكليف بالبراءة فيه وبين المكلَّف به وهو الاشتغال، وهو حسن.

ص: 28


1- ص 582 ، على ما حكاه عنه في القوانين ج 2 ص 27.
2- قوانين الأصول للقمِّي ج 2 ص 25.
3- الذخيرة للسيِّد المرتضى ص 138.
4- المدارك للعاملي ج1 ص 107.

وأضاف الأخير وهو صاحب المدارك قدس سره تعليقاً عمَّا قال بأنَّه مذهب أصحابنا، وهو من الاعتماد في الأطراف الخاصَّة الملزمة بالاشتغال، على أنَّ اشتغال الذمَّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وأزاد الشَّيخ الأنصاري قدس سره على هذا في الفرائد عدم الشُّمول للبراءة بدون تبعيض.

ولعلَّ إدخالها في الأصول هو الَّذي سبَّب تغيرً اسمها بينهم باسم قاعدة الاشتغال، للخلاص من مشكلة الاحتياط العقلي الكلامي وجعلها أصالة أو قاعدة الاحتياط الفقهيَّة للأخبارييِّن وبعض الأصوليين، وسوف يأتي الكلام عن هذا الأمر في محل آخر أنسب لتبسيطه.

إلى غير ذلك من الملابسات المثيرة للجدل بين الأصولييِّن والأخبارييِّن، أو حتَّى بين الأصولييِّن أنفسهم بين مشبع ومقلص وبما يسلم من أحقيَّة ورود النِّقاش على الإطناب والإيجاز معاً.حتَّى أنَّ بعض هذه الأمور الَّتي ذكرناها أزيحت من صلاحيَّة دخولها في التَّعريف الآتي ذكره قريباً عند بعض الأساطين، واحتيج إلى إضافة ألفاظ مسددِّة له عند آخرين.

لكون الغريب عن الأصول الثَّابتة لابدَّ وأن يزاح أو يوجَّه بما يناسب الأصول المرتبطة بالفقه فقط، لملازمة الحفاظ على الاصطلاحات الخاصَّة لكل علم دائماً، وإن اشتركت بعض الألفاظ لحملها أكثر من معنى، لعدم امتناع حمل كل معنى لقرينته، بل لوجوب ذلك في باب التَّعاريف، وعلى الأخص في اللُّغة العربيَّة المحفوفة بالأدبيَّات القريبة من كل علماء الاصطلاحات المختلفة من ذوي القدرة الفائقة في إفراز هذا المصطلح عن ذاك بواسطة القرائن الخاصَّة لكل علم منها.

فالخلط بين عنواني الفلسفة أو الكلام وبين الأصول لا يُعطي التَّعريف للأصول معنى صحيحاً على ما سيتبيَّن.

وحينما يمكننا القول بأنَّ هذه الأمور أصول بالاعتبار الخاص غير الحالة الكلاميَّة

ص: 29

فالأقرب أن تكون داخلة في مبادئ الأصول لا في نفس الأصول، ولذا اخترنا عرضها في البدايات.

المدخل الرَّابع

السَّعي في رفع مشاكل الكمال الحوزوي

بتأخُّره عمَّا كان في أدوار الخير من الانتعاش

بعد ما منيت الأمَّة والحوزات العلميَّة للإماميَّة الاثنا عشريَّة المرتبطة ارتباطها الإلهي الوثيق برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الَّذي حمى عترته الخاصَّة بالكتاب الكريم وبحديث الثَّقلين وأمثالهما ممَّا نقلته العترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من بقيَّة أحاديث العِدل للكتاب قبل تأسيس تلك الحوزات بالشَّدائد الخانقة ابتداءاً:

1 - من أيَّام انقلاب المنافقين على أعقابهم.

2 - من منع تدوين الأحاديث الشَّريفة الماضية من قِبل أسلافهم، لتسهيل أمر تشريعهم بقاعدة (حسبنا كتاب الله)(1) الموضوعة أو تبريرهم أمور بدعهم بالاجتهاد في مقابل النُّصوص من أحاديث ذلك العِدل الشَّريف الواردة في خصوص كشف مجملات ومتشابهات كتاب الله تعالى والموضِّحة للغوامض ممَّا بقي من السنَّة عن العترة، وممَّا أقرَّ به الفريقان من المسلمين بعد ذلك وأيَّام اعتزال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في داره للخلاص من تلك الضغوط والفتن ولاغتنامها خير فرصة لجمع القرآن مع متعلَّقاته الهامَّة.

3 - من استبدال ذلك بأحاديث الوضع والتَّلفيق.

4 - من استمرار ضغوط النَّاكثين والقاسطين والمارقين أيَّام الاحتياج إلى خلافة أمير

ص: 30


1- البخاري / ج: 8 ص: 138.

المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ الأصيلة.

5 - من أيَّام عداءات الدَّولتين الأمويَّة والعبَّاسيَّة المعروفة إلى أن توسَّطت بينهما فترة الانتقال من الأولى إلى الثَّانية وجاءت فترة الخير مع الحذر بخفَّة تلك الشَّدائد الملزمة باغتنام الفرصة أيَّام الإمامين الباقر والصَّادق عَلَيْهِما السَّلاَمُ بابتداء الانفتاح وللدِّراسة ببركة وجودهما إلى أن ازدهرت بعد وفاة الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ حوزة ولده الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ وتوسَّعت حينما تلت هنا وهناك بعض فترات خفَّة بالضُّغوط وإن كانت تلك المرَّات غير متواصلة زماناً في تلك الخفَّة إذ تخلَّلتها بعض فترات من الفتور ممَّا أعطت مجالاً للإنعاش والانتعاش العلمي ابتداءاً ممَّا بين الدَّولتين الأمويَّة والعبَّاسيَّة كما قلنا.

إذ في تلك الفترات تمَّت القدرة والفعليَّة ولله الحمد على التَّدوين وفي مختلف العلوم عقيدة وعملاً ومن تعاليم الإمامين الباقرين والصَّادقين عَلَيْهِما السَّلاَمُ لتلامذتهم ومن مختلف البقاع، حيث كانا مرجعاً لهم في تولُّد القدرة الاستنباطيَّة الصَّحيحة فيهم عن طريق القواعد الفقهيَّة والأصوليَّة ونحوها.

وكانت قد اشتدَّت تلك المضايقات من جديد وبلون آخر بزرع مذاهب أربعة بل أكثر من أيَّام المنصور وما بعده، لتأسيس ذلك بنحو المعارضة ليضيِّقوا الخناق على الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ وإن كانوا قد تلَّمذوا عليه مباشرة كأبي حنيفة أو تسبيباً كمالك ابن أنس والشَّافعي وأحمد ابن حنبل وغيرهم.

حتَّى أنَّهم مدحوا الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ ببعض كلمات لهم كقول أبي حنيفة فيه (ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد ... ثم قال أبو حنيفة: أعلم النَّاس أعلمهم باختلاف النَّاس)(1) وقوله (لولا السَّنتان لهلك النُّعمان)(2) ونحو ذلك منه، وقول مالك ابن أنس (اختلفت إلى جعفر بن محمَّد زماناً فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال: إمَّا مصلّياً وإمَّا

ص: 31


1- مناقب أبي حنيفة للخوارزمي ج1 / 137 وفي جامع أسانيد أبي حنيفة ج 1 / 222.
2- الآلوسي في "صوب العذاب على من سب الأصحاب" (ص157 - 158).

صائماً وإمَّا يقرأ القرآن، وما رأيته قط يحدث عن رسول الله إلاَّ على الطَّهارة، ولا يتكلَّم بما لا يعنيه، وكان من العلماء العبَّاد والزهَّاد الَّذين يخشون الله)(1)، وكذلك أقوال غيرهم.

ولكنَّهم في مذاهبهم الجديدة خالفوا مدرسة الإمامين عَلَيْهِما السَّلاَمُ في كثير من الأمور بتفاوت بين القلَّة والكثرة بين مذهب ومذهب.

ومن تلك الأمور هي الأصوليَّة حيث التزموا بالقياس كثيراً مع مخالفات كثيرة في الاستنتاج الفقهي حتَّى ورد عن أبي حنيفة قوله (خالفت جعفر بن محمَّد في جميع أقواله وفتاواه، ولم يبق إلاَّ حالة السُّجود، فما أدري أنَّه يغمض عينيه أو يفتحها حتَّى أذهب إلى خلافه وأفتى النَّاس بنقيض فعله)(2).

وهذا وأمثاله ممَّا اضطرَّ الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ ليقول في أحد أقواله عنهم (دعوا ما وافق القومفإنَّ الرُّشد في خلافهم)(3) وكأنَّ هذه التَّخريجات وأمثالها من هؤلاء التَّلامذة وأمثالهم المخالفين مثل ما كان على نهج الأسلاف القائلين (حسبنا كتاب الله)(4)، بل هي نفسها جوهريَّاً كتوصيات لتدوم على هذه الوتيرة.

مع أنَّ هذه المذاهب الأربعة وإن زادت أرقامها بعض الشَّيء فهم القلَّة المعلومة في بداياتها، كما في بداية أحداث ما بعد النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وإن ساد انتشارها وبلغت مبالغها من الأكثريَّة في الخلاف أو التَّعصُّب.

ولكن ما كان شيء منها في زمن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وأغلب الصَّحابة المحافظين وإن كان في نفوس بعضهم كثير من حالات التَّطرُّف يحكي ظاهراً أي مذهبيَّة مثل هذه الجديدة،

ص: 32


1- التهذيب: 1/104.
2- الكشكول للشَّيخ يوسف البحراني 3/46.
3- الكافي ج1 ص8، وفي رواية أخرى (ما خالف العامَّة ففيه الرَّشاد).
4- البخاري / ج: 8 ص: 138.

بينما خط أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ كان هو الأصيل بلا منافس.

ومع هذه الأصالة المثاليَّة في مسلك أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ وإلى حد كون صيرورة حوزاتهم الشَّريفة محاطة بهذه المذاهب - بل والأكثر منها وتناميها باستمرار وباشتداد بين عدو وشبه صديق مخيف أو مراقب مقلق ومتَّسعة في أكثر من مكان من البقاع الإسلاميَّة الَّتي عمرَّتها في فترات الخير صولات وجولات حواري الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ ومن تلمَّذ على أيديهم ومن تعاقب بعدهم من تلامذة التَّلامذة وهكذا -

حتَّى امتدَّت بداية الحوزات إلى بغداد بعد فترة الغيبة الكبرى لطبقات منهم الشَّيخ المفيد قدس سره والسيِّد المرتضى قدس سره والسيِّد الرَّضي قدس سره والشَّيخ الطُّوسي قدس سره حتَّى الانتقال إلى النَّجف الأشرف بعد اشتداد المضايقات الكثيرة من حكومات الجور ومن متعصِّبي المنتمين إلى المذاهب المعادية الَّتي من حالاتها حرق المكتبات لبعض علمائنا، ممَّا اضطرَّ الشَّيخ الطُّوسي قدس سره إلى الهجرة إلى النَّجف الأشرف ونقل الحوزة إليها.

كما وأنَّ النَّجف الأشرف هي الأخرى الَّتي انتابتها المضايقات مرَّات عديدة هي وغيرها من حوزات العالم الإسلامي الَّتي فيها شيء من النَّفس الإمامي، حتَّى ورد في حق النَّجف الأشرف لأهميَّتها وأهميَّة اغتنام الفرصة للاستفادة من علومها أو التَّزوُّد من بركاتها

لأنَّها حوزة باب مدينة علم الرَّسول صلی الله علیه و آله و سلم أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ ولو تخللَّتها بعض الضغوط الهيِّنة كما عن الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (ستخلو الكوفة من المؤمنين ويأرز عنها العلم كما تأرز الحية في جحرها)(1).

حيث حلَّ فيها في عهود الظلمة والطَّواغيت المتعدِّدة ظلم بعد ظلم، لكونها مركز الإشعاع العلمي والإلهي في كل معانيه لأئمَّة أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ وبضغوطات مركَّزة ما دامت تلك العهود عدائيَّة خارجيَّة وداخليَّة وروَّاد إعادة الجاهليَّة الأولى، وإن انطلى بعضها بصبغة الإسلام القشري.

ص: 33


1- بحار الأنوار ج 57 ، ص 53، والكوفة هي المجاورة للنَّجف الأشرف عاصمة العلم.

إلاَّ ما يتخلَّل ما بين بعض فتراتها بعض الفتور الَّذي قد يستعوض فيه ما يعطي العافية إلاَّ أنَّه كثيراً ما يزعزع حوزتها مرَّات كما منيت بعض الحوزات العلميَّة المقدَّسة الأخرىبشبه ذلك من الظلمة والطَّواغيت.

وهو ما قد سبَّب السَّطحيَّة في التَّحصيل العلمي الحوزوي اجتهاداً فقهيَّاً في الآونة الأخيرة، سواء على ضوء الفقاعة القديمة أو على نهج الأصول الصَّحيحة والمهذَّبة.

وبالأخص حين زجَّ بعض شياطين الإنس من مخربِّي الحوزات الشَّريفة بزج سمومهم في البسطاء أو تثبيط عزائم المحصلِّين المخلصين من المدرِّسين والتَّلامذة بعد التَّعرُّف على بعض نقاط الضَّعف فيهم واستغلالها ولو بدفع بعض الأموال لهم.

حتَّى صارت بعض حلقات الدُّروس أو حتَّى الكثير من حضَّار بعض بحوث الخارج مع الأسف غير أهلٍ لحضوره، أو حتَّى أصبحت بعض المناقشات لأستاذهم لا تتناسب حتَّى مع مستوى المقدِّمات إن لم يحسبوا من سواد العوام.

وللتَّوضيح أكثر نقول:

إنَّ ممَّا يُساعد أو يُحقِّق تنامي الضغوط على أمَّتنا من أعداءها هو ضعف أبناءها في العلم والعمل الصَّالح، والأمَّة إذا اتَّصفت بالجهل أو ضعفت في العلم تلكَّأت في الدِّفاع عن نفسها ودينها عقيدة وعملاً وعِرضها وأرضها وما لها، ومن الجهاد هو الجهاد باللِّسان والقلم ولرفع الضَّيم عن الأمَّة وحوزاتها عدم تسبيب ما يلي:

الأوَّل: عدم معرفة اللُّغة العربيَّة وقواعد علومها أو عدم تعلُّمها مع قواعدها لأجل القرآن والسنَّة لغة ونحواً وصرفاً وتجويداً ومعاني وبياناً وبديعاً والمنطق باللُّغة العربيَّة على الأقل والأصول، وبالأخص على النَّهج العربي لصالح الكتاب والسنَّة المرتبطين بألفاظ ما يتعلَّق بالفقه وملحقاته الاجتهاديَّة وعدم الإحاطة بمصطلحات هذه العلوم.

الثَّاني: عدم العناية بالعلوم الأخرى المقرَّرة حوزويَّاً وهي المسمَّاة بالمقدِّمات، ومنها العقائد والفقه الابتدائي، وكذا السُّطوح.

ص: 34

بل وعدم الإحاطة كلاًّ أو جزءاً ممَّا يُسبِّب عدم ضبط الاصطلاحات لهذه العلوم كما مر.

الثَّالث: القفزات الدِّراسيَّة من بعض المقدِّمات وإلى حد حضور السُّطوح العالية، فضلاً عن الاقتصار على بعضها فوراً أو عبور الكل فوراً إلى بحوث الخارج من ناحية التَّقدُّم في السِّن حتَّى لو كان من الأذكياء المفرطين أو كان خرِّيجاً أكاديميَّاً برتبة البكالوريوس الأدبي.

لأنَّ العلوم الحوزويَّة لها اصطلاحيَّاتها الخاصَّة الَّتي لا يمكن الغفلة عنها يوماً في مجال بحوث الخارج، إذا أريد منه التَّخرُّج الاجتهادي النَّاضج والمنتج.

الرَّابع: فتح الكُّتب الدِّراسيَّة لتدريس طلاَّبهم قبل فهمهم لها بمثل عدم مطالعتها وإن حضروها مسبقاً في أيَّامهم أو عدم دراستهم لها على أيدي الأساتذة الكفوئين.

الخامس: عدم التَّباحث بعد الدَّرس اليومي المشترك بين الطلاَّب، سواء اشتركوا في الحضور، أو اشتركوا في المستوى دون الحضور، أو عدم تلخيص ما فهمه الطلاَّب كتابة في دفاتر المذكَّرات.

السَّادس: عدم عناية الطلاَّب بمطالعة دروسهم قبل حضورها عند الأستاذ.

السَّابع: عدم عناية التِّلميذ -- بل حتَّى المدرِّس -- بالوصايا المذكورة في كتب الوعظ ك- (منية المريد) وغيرها ولو تذكيراً للعارف، ليكون الجو الحوزوي ايمانيَّاً حريصاً على الرُّقيالمقدَّس وبعيداً عن السُّلوك المعاكس.

وهذا ما قد سبَّب أو يُسبِّب غرور بعض المدرِّسين ونحو ذلك، أو عدم تواضع الطلاَّب لأساتذتهم لمقاربة أساتذتهم في السِّن أو كان الأستاذ أصغر سنَّاً، وإلى حدِّ أن يكون التِّلميذ المبتدئ جرئيَّاً ليُدرِّس الأصغر منه على الأقل وإن لم يكن منهم ونحو ذلك.

الثَّامن: احتقار الأستاذ لتلميذه تكبُّراً، مهما كان عمر التِّلميذ حتَّى لو كان أفهم

ص: 35

من قرناءه أو حتَّى من الأستاذ نفسه حتَّى مع تدينه.

التَّاسع: إلحاح بعض المدرِّسين الجُدد على طلاَّبهم - حتَّى من كان منهم في عنفوان شبابه مع حاجته الماسَّة إلى تعديل سليقته الدِّراسيَّة والفهميَّة - بترك الكتب القديمة والالتزام بالحديثة بدلاً عنها، حتَّى لو أفادته تلك الحديثة بالأقل من ربع القديمة السَّائدة دراسيَّاً، فضلاً عمَّا لو اقتصر على بعض المقدِّمات والسُّطوح دون بعض.

العاشر: عدم العناية بل عدم الإحاطة بضبط آيات الأحكام أصولاً وقواعد فقهيَّة وأحكاماً فقهيَّة من الأصول والتَّفسير والفقه وقواعده، وعدم العناية بل عدم الإحاطة

بضبط روايات الأحكام التَّابعة للآيات أصولاً وقواعد فقهيَّة وأحكاماً فقهيَّة من كتب الأصول والفقه الاستدلالي المشبع بها.

الحادي عشر: دخول بعض من يُسمَّون بالأساتذة وبعض من يسمُّون بالتَّلامذة معهم أو مع غيرهم وهم مشبوهون كما مرَّت الإشارة إليه.

وبالأخص في الآونة الأخيرة بعد انتهاء عهد الطَّاغوت البعثي وأذنابه وأشباههم من الَّذين لم يتركوا على الأقل إشاعة الفتن أو التَّضليل، إمَّا لحزبيَّة مقيتة وإن كانت بصفة دينيَّة خالية من اللُّباب، أو انتماءات سيئة مستوردة أو خارجيَّة كفراً وناصبيَّة أو حزبيَّة فكريَّة.

من خلال زج السُّموم أثناء الدِّراسة أو للوضع والابتداع أو بأخلاق جديدة وإن كان ظاهراً بتعاطف مع خط أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ.

الثَّاني عشر: عدم التَّنافس بين الطلاَّب في طلب العلم بدون قربة إلى الله تعالى وبلا إخلاص إلاَّ كما يريده قوله تعالى [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ](1) تماماً.

وهو الَّذي نتيجته التَّفوُّق الإيماني القصدي وإن لم يكن نتيجته أخذ المرجعيَّة أو إحراز الأعلميَّة ضدَّ الطَّرف الآخر.

ص: 36


1- سورة المطففين / آية 26.

إذ قد يكون الطَّرف الآخر المقصود في المضادَّة غير قاصد في منافسته الإساءة، سواء نال التَّوفيق للمرجعيَّة أو درجة الأعلميَّة أم لم ينلها، وقد يوفَّق الاثنان المتنافسان إلى نيل التَّوفيقين مع التَّساوي أو حتَّى عُدَّ مهمَّاً لو كان على طبق الآية الكريمة.

المدخل الخامس

ظاهرة فقاهة العرب وأصوليَّة غيرهم

لم تكن هذه الظاهرة في ندرة بالغة - من العنوان المثار عن العرب في فقاهتهم مع خطورتها الاجتماعيَّة حينما كانت تلعب دورها القاسي ضدَّ الأمَّة الواحدة بتجزئتها من تحريك الخارج المعادي أو الدَّاخل الجاهل أو المنافق الخؤون إن صدقت في جملتها أو كذبت كذلك -

حتَّى لا يستحق أن يبحث عنها ولو من وجهة من وجهات النَّظر العلمي والتَّأريخي في كمِّه وكيفه، لتفادي بالغ الخطورة أو تحجيمها إن كان مع الإمكان، ولو بإبداء النَّصيحة على الأقل ولو في الخاتمة مع أهل تقبُّلها من كلا الفريقين (العرب مع غيرهم) إن كانت قد سبَّبت صراعاً ولو بسيطاً مع غيرهم.

حينما يكون الغير أصوليَّاً - فضلاً عن أن يستهان بها في هذا العنوان - منهم حتَّى في ضمن المخلوطين منهم مع غيرهم من الأقوام الآخرين في أمر إشاعة الفقاهة في العرب بإتقانهم -- ومن التحق بهم من غيرهم من بقيَّة الأقوام منهم -- علوم الأدبيَّات إلى مباحث الألفاظ البيانيَّة والمنطقيَّة ومن بعدها الأصوليَّة اللَّفظيَّة المرتبطة ارتباطها الوثيق بالكتاب والسنَّة وبالأخص ما يتعلَّق بآيات وروايات الأحكام وإلى ما وراء النُّصوص والظواهر المحكمة بعد ذلك من المفاهيم المحتاج إليها وإلى آخر مباحث الملازمات والحجَّة بما يعود إلى الألفاظ العربيَّة من قبل أهلها المحصّلين ومن التحق بهم من بقيَّة الأقوام في

ص: 37

معايشتهم لهم ولأمثالهم لأمور تلك اللُّغة العلميَّة الشَّرعيَّة نفسها أو ما قد تزيد على نفس أهل اللُّغة ممَّا قد يحوجهم إلى الزِّيادة لتحصيل التَّعادل أو النِّسبة الكافية لتحقيق التَّوفيق للفقاهة حتَّى لو استعانوا على بعض أو كثير من الأمور المهمَّة بتفاهمهم بنفس لغتهم.

بناءاً على أحقيَّة عدم الفرق بين العرب وغيرهم في الدِّين والأخلاق إذا تساووا، كما سيتَّضح أكثر عند من لا يخفى عليه هذه الأمور، عدا أمر الفوارق العلميَّة والعمليَّة الثَّابتة.

بينما الأمر في واقعه فيه تمام المجال للقول بأنَّ من العرب المحصِّلين - قديماً وحديثاً من قد حدَّثنا التَّأريخ الصَّادق وعلم الرِّجال والحديث وعلم الموسوعات الجامعة لمؤلَّفات العرب الإماميَّة ومن شابههم من الآخرين - غير قليلين في الفقاهة.

وأنَّ العرب - لقربهم من أساسيَّاتهم مع ممارستهم الَّتي أشرنا إليها - هم الأقرب لنيل فضيلتها.

وإن نال بعض غيرهم تمام فضيلتها بفوزه حتَّى على بعض العرب - ممَّن أهمل أمر ما يجب عليه تجاه الأساسيَّات من لغته - ولو لئلاَّ يبخس النَّاس أشياءهم.

كما أنَّه لم تكن الظاهرة الأصوليَّة في خصوص غير العرب حسب المفترض، بل ومنالتحق بهم من العرب غير المتقنين لأدبيَّاتهم أو المتهاونين فيها في تلك النُّدرة أيضاً، كما مرَّ من حالة عدم الفرق بين أهل اللُّغات المختلفة في الدِّين والأخلاق.

كما ربَّما يتصوَّر أيضاً إذا أحوجهم تحصيلهم العلمي إلى التَّغلغل في الأمور الفكريَّة للتَّعويض عمَّا فقدوه من الألفاظ الاصطلاحيَّة بتحصيل القواعد الكليَّة الأصوليَّة ومعها القواعد الفقهيَّة الميسِّرة، ومن الأصول المهمَّة هي الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل وبما قد يغنيهم حسب النَّظر الأصولي عن ممارسة نفس طرائق الفقاهة من مستمسكاتها الأقرب إذا كانت تلك الأصول غير داخلة فيها

ص: 38

خصوص النَّظريَّة الثُّبوتيَّة فيها حسب، حتَّى لا تكون لها مصداقيَّة تامَّة.

بل هي مع كونها إثباتيَّة ومن ذوات الثِّمار العمليَّة والَّتي ينبغي أن تكون دوماً هي المتصوَّرة من موارد الاحتياج إليها بالأكثر من النَّظريَّة المجرَّدة والمعمول بها وإن كانت فيها فائدة التَّوسعة للذِّهن كما في النَّظريَّات غير المحتاج إليها للدقَّة وكذا الأصوليَّات الخاصَّة المرتبطة بالعقل الحر.

بل إنَّ هذه الأصول ولو كانت ممَّا لو ينتفع منها كثيراً كالعمليَّة وفي موارد الانسداد والحاجة إليها، فإنَّها لم تكن بمثل اتِّساع فوائد الفقاهة المتكاملة ظاهراً، وبالأخص لو اجتمعت مع الضَّروريَّات من الأصول بعد الحاجة إليها.

لكن بعد التَّأمُّل والمراجعة الدَّقيقة أيضاً لم تكن القضيَّة في خصوص غير العرب من غير المتقنين للأدبيَّات اللازمة في بابها وبلا ممارسة بل ومعهم العرب المتماهلون في أمر لوازم لغتهم مع تمسُّكهم التَّام في ضرورة التَّحصيل الفقهي من غير طرق تلك الفقاهة بغير مثبتة.

للنِّسب غير القليلة من بيان رجال علم الأصول في ميدان ما عرفوا واختصُّوا به لما اتَّصفوا به من أسباب ذلك إلاَّ إذا توصَّل الأصوليُّون إلى أصول كاملة تفي بالحاجة كما تفي بها طرق الفقاهة وأمكن التَّطابق بين مؤداهما.

ولذا تطرَّق العلماء إلى بحث أنَّ اجتهاد الفقيه هل هو أولى بالاعتبار؟ أم الأصولي؟.

ولعلَّه هنا ثارت المهاترات والمنابزات بين جهلة الفريقين ممَّن لم تضرب الأمثلة بهم للاعتناء بهم دون التَّنبيه على خطرهم لو بدا خطرهم الَّذي يجب السَّعي لإزالته بالهدوء والسَّكينة الأخلاقيَّين جهد الإمكان.

ولم تكن أيضاً ظاهرة الفقاهة في أهلها - وظاهرة الأصوليَّة في أهلها كذلك كائناً من كانوا - في ضخامة بالغة في الظهور وبنحو الكثرة البالغة فيه، حتَّى يُهتم بها كقاعدة ثابتة

ص: 39

عليها المعوَّل التَّام لتخرَّج عليهما دائماً كقضايا التَّأريخ الطويل المرير المبعثر حتَّى ما في بعض الأوساط من أواسط النَّسب أو كثيرها غير البالغ.

بل إنَّ ما بين عدم النُّدرة بحدودها - غير المعلومة بالضبط التَّام المشار إليه - وما بين عدم الكثرة البالغة.

ربَّما قد تسجَّل تأريخيَّاً في نفس الأوساط بالنَّحو النَّوعي نسبها المتفاوتة - ولو بين حين وآخر في الحوزات المعروفة كالنَّجف الأشرف الأم بعد بغداد أيَّام الشَّيخ المفيد قدس سره والسيِّدعلم الهدى قدس سره والسيِّد الرَّضي قدس سره والطُّوسي قدس سره قبل هجرته إلى النَّجف الأشرف وكحلب وكالحلَّة الفيحاء وكربلاء المقدَّسة ولبنان العامليَّة والبحرين والحويزة والكاظميَّة وسامراء وقم المقدَّسة وأصفهان ومشهد المشرَّفة وغيرها من الجامعات الجامعة -

لأكثر من قوميَّة من ذوي الطموح والاستعداد لأكثر من طاقة في القبض والانبساط، وممَّا لا ينفي عنهم الوسطيَّة من النِّسب على الأقل لو أمكن علاج الأمر كلِّه بهذه النِّسبة في ذلك عند ما يأتي مجال إنصاف الكلام، بلا أي خصوصيَّة في العرب أو حتَّى غيرهم من الكمَّل في الفقاهة أو الكمَّل في الأصول وبالأخص الأصيلة منها كذلك.

فضلاً عمَّا لو اجتمعت الخصلتان في أي قوم من القوميَّتين العربيَّة وغيرها.

وهذا مع توفُّره فقاهة وأصولاً في القوميَّتين لا يدع مجالاً للخصومة بينهما قلَّت النِّسبة أو كثرت أو توسَّطت ما دام الدِّين والأخلاق هما الجامعان والحاكمان مع حسن أسلوب المصلحين.

وعلى هذا الأساس ليس الأمر بمهم إذن وإنَّما الأهميَّة فيما يأتي.

ففي كل من كان عربيَّاً ولم يترك قواعد أدبيَّاته - فضلاً عمَّن أتقنها أو مع حسن سليقته ومثله من شابهه في مشاركته له من الآخرين أو زاد عليه -

ص: 40

فإنَّ هذا كان ممَّن يسهل عليه الاتِّصاف بالفقاهة، لا كما قد يُشاع في عنوان البحث أنَّه بلا استحقاق وإن لم يتوغَّل في الأصول إلاَّ بمقدار حاجته منها على ما سوف يتَّضح.

وإنَّ من لم يتقنها من الآخرين من غير العرب أيضاً - أو تساهل في تلك الأدبيَّات من تبعهم من العرب وهم للأسف كثيرون في الآونة الأخيرة وأراد الدُّخول في علم الفقاهة وعالمها -

فإنَّه لم يقدر على الأكثر لما مرَّ ذكره، إلاَّ عن طريق صدق المفاهيم المقبولة والملازمات المأخوذ بها والحجج الثَّابتة والأصول العمليَّة، لا كما يُشاع في العنوان للعرب وغيرهم كذلك، وهو مع عجزه المذكور لم يضمن له النَّجاح المذكور أيضاً.

مع كون هذه المحاولة غير ناجحة أو دون أن تكون في واقعها وافية أصوليَّاً بما كان محدوداً بجميع الأغراض الشَّاملة لكل الأحكام الخمسة من أفعال المكلَّفين غير المحدودة بكثرة مصاديقها في الحياة مع الأحكام الوضعيَّة، إلاَّ إذا قلنا بتوسُّع الأصول في الإفادة التَّامَّة كما سيأتي اتِّضاحه عنه في ذلك وغيره.

وعلى كل حال فإنَّ الإنصاف الَّذي لابدَّ من بيان ما يلزم ذكره تجاهه - ولو مكرَّراً للتَّأكيد بأنَّ هذا العنوان الَّذي في طليعة البحث - لا علاقة له بأنَّه قاعدة تامَّة للبحث عن ملازماتها وما تنطبق عليه من المصاديق.

إلاَّ بما حُدِّد أعلاه من كثرة الفقهاء العرب والأصوليِّين من غيرهم، بلا ملازمة ليدوم ذلك بين القومين على ما سيجيء إيضاحه، لئلاَّ يُبخس حق أحد من العرب أو غيرهم، سواء في الفقاهة أو الأصول لو لم يُرد التَّنقيص لأحد مع براءة القصد، وإلاَّ فهذا الَّذي نحن نسعى للقضاء عليه.

فحق القول الكافي إذن أن يكون عن ظاهرة فقاهة العرب وظاهرة أصوليَّة غيرهم الَّتيقد يبدو منها كونها متفاوتة عمَّا سبقها من حيث المبدأ وبما قد يُعطي مديحاً لائقاً لكن لا لخصوص القوم الأوَّلين ومن لحقهم دون الثَّانين ومن لحقهم.

ص: 41

لكن إذا جعلنا الأصول في كل حالاتها لا قيمة لها غير تلك الفقاهة وقد يكون معها بعض الأصول المحتاج إليها في المستحدثات، وهو أمر غير سليم من جهة إمكان المناقشة لذلك في بابها إذا لزمت.

وهكذا إذا جعلنا الأصول هي الَّتي عليها المعوَّل دون الفقاهة المجرَّدة عن موارد الحاجة من تلك الأصول فلا اعتبار بتلك الفقاهة أيضاً لو تجرَّدت عن ممارسة الفقاهة الكاملة الَّتي كما في الحالة الأولى.

لكون ذلك أيضاً أمر غير سليم عن الحاجة إلى المناقشة العلميَّة في بابها.

فلابدَّ من عدم فسح المجال بإشغال الأجواء العلميَّة ببيان الحقائق الَّتي لا يمكن نكرانها لنا أم علينا.

وفي نفس الوقت أيضاً أنَّ هذا الأمر لو اتَّضح في صدقه وبراءة ذمم ذوي التَّقابل من الأقوام - بسبب وجود بعض الشُّبهات الَّتي يمكن إزاحتها أو انقشاعها من الإشاعات المغرضة خارجيَّاً أو داخليَّاً من عداوة حمقاء أو سذاجة بلهاء، لأنَّ الأمر في واقعه ليس كذلك إذا أمكن التَّوجيه بين خصوص الغيارى من أهل الحل والعقد في الأزمات كهذا الأمر -

فهو غير هيِّن جدَّاً على هؤلاء الغيارى والعقلاء من متديِّني الطَّرفين وروَّاد جمع الشَّمل الإسلامي والإيماني، وعلى الأخص إن طبَّل وزمَّر بعض السَّطحيِّين الآخرين بين أهل الفرقة النَّاجية الواحدة صانها الله من كل المخاطر وبين رعيل مجتهدي الجانبين.

كيف إذن لو كانت هذه الإثارات مسبِّبة لإثارة ما كان يجري من العهود العجاف وممَّا قد أكل الدَّهر عليه وشرب من محزنات ما جرى بين الأصوليِّين والأخباريِّين.

وكانت قد أنهاها تعالى من لطفه باجتهاد المجتهدين وبما اصطلح عليه عند الجانبين وبيقظة العوام عن نومة الغافلين نوعاً بتقليد الأحياء من كمَّل الفقهاء والأصوليِّين أو البقاء على تقليد من مضى من موتاهم استمراراً إن رضي الأحياء بالبقاء دون

ص: 42

التَّعصُّبات الماضية على تفصيل في محلِّه.

كيف وإنَّ كُمَّل الفقهاء والأصوليِّين ممَّن يشد بعضهم بعضاً وإلى حد إمكان تحقيق الوسطيَّة الكاملة في الاثنين بما يكمل بعضهما البعض الآخر ونحو ذلك ممَّا سوف يتَّضح أمره في البحوث الأصوليَّة وكان جامعهما الأسمى ممَّا يثلج الصَّدر هو نكران الذَّات بين كل منهما والإيثار حتَّى في مثل التَّنازل عن تقمُّص مرجعيَّته للآخر وإن تمَّ ترشيحه من قبل الجميع.

فلابدَّ لهذه الواقعيَّة أن تكشف زيف ألاعيب ما يرتكبه المفرِّقة من الأعداء لو تجاهروا في عدائهم ممَّا يشدِّد في خطورتها أكثر فأكثر.

إلاَّ أن يهتم في مقابل ذلك بمحاولة صونع المستحيل للقضاء على هذه الظواهر المقيتة بتكاتفنا بحكمة وحنكة اتِّخاذ القرار الجماعي المكافح والمميت لما لم يكن في أساسه مقصوداً في بعض الأحيان في العناوين المشاعة كعنوان هذا البحث، وإن كانت هناك بعض حالات يمكن حلُّها بما لم يرد منه إثارة أيَّة نعرات نتيجة لتصرُّف بعض أهل السَّذاجة المؤذية أوالذَّكاوة المخيفة ممَّن يزن الأمور الاجتماعيَّة فيها بما لا يتناسب وضخامة خطورتها على ما سيجيء توضيحه قريباً بإذن الله تعالى.

لأنَّ أولئك الَّذين قد يستعربون الفقهاء حتَّى لو لم يكونوا من العرب حقيقة أو يستعجمون الأصوليِّين وإن كانوا من العرب كذلك وحتَّى بنفس اللجاجة ممَّا هم قد يخفى عليهم كونهم رعاة مصالح مستقبل الملَّة ولا حتَّى أنفسهم.

فإنَّهم مع ما هم عليه من السَّذاجة والبساطة فلا يجوز تركهم إلاَّ ببذل النُّصح لهم من قبل القادرين عليه.

ومع ما هم عليه من الذَّكاوة يجب الحذر منهم أيضاً في بعض المقامات كالحذر من أهل الحماقة.

وإن كان الكثير من هؤلاء العلماء أبرياء من التُّهم، كما علم ذلك من بعض

ص: 43

القرائن والأوساط الخبيرة المتديِّنة.

فأكثر الظن إذن لابدَّ أن يوكل أمر الاتِّهام فيه إلى بعض أو كثير الأطراف والحواشي من المروجِّين لمرجعيَّة هذا أو ذاك لبُعد الكثيرين من هؤلاء عن التَّقيُّد الدِّيني الثَّابت لا غير.

بل إنَّما هو انتماء إلى بعض الأحزاب المشبوهة حتَّى اللادينيَّة منها سرَّاً لأجل خصوص مصالحهم، ولم ينحصر هذا الأمر في خصوص إبعاد العرب الأكفَّاء ومنهم من جمع المنقول والمعقول والفقه والأصول عن المرجعيَّات اللائقة بشأنهم وحصرها في قوميَّات خاصَّة أخرى أو جعلها فيهم لقاء مصالحهم الخاصَّة أو لتآمر مبيَّت ولو في وقت خاص لنقلها لأيَّة قوميَّة مخصوصة أخرى بعد انتفاء أغراضهم أو كانت عامَّة للإخضاع إلى سياسة بعض الدُّول الظالمة ولو بتصفيتهم ظلماً بعد ذلك.

بل إنَّ غير العرب ممَّن يرجَّح عليهم غيرهم في الفقه والأصول من العرب وغيرهم أن تبنى أمورهم بعض الحواشي المشبوهة هم الَّذين قدَّموا هذا على ذاك أو ذاك على هذا لنفس تلك المصالح الخاصَّة.

كما تفطَّن إلى هذا الخطر وسعى بمقدار ما تيسَّر لديه الابتعاد عنه لنجاة الأمَّة آية الله السيِّد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني قدس سره وبعض من سبقه من المراجع السَّابقين عرباً وغيرهم بعد عمليَّة تسفيرهم حتَّى كسَّر بعضهم أختامهم الماليَّة لئلاَّ تؤخذ الأموال بواسطتها خلسة لغير مصالح الدِّين والشَّريعة، وكذلك آية الله السيِّد عبد الهادي الشِّيرازي قدس سره وكذلك آية الله السيِّد محمود الشَّاهرودي قدس سره وولده آية الله الأستاذ السيِّد محمَّد الشَّاهرودي "دام ظلُّه" وهكذا آية الله الأستاذ السيِّد السَّبزواري قدس سره وغيرهم وغيرهم لطردهم الكثير من تلك الحواشي.

لأنَّ المبنى الشَّرعي في أمور المرجعيَّة وقيادة الأمَّة عندهم أن تطلبك المرجعيَّة لتتصدَّى لها دون أن تطلبها أنت كي تتصدَّى لها لإحراز رضا صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ أوَّلاً

ص: 44

وآخراً، وإن تأخَّرت مرجعيَّات بعضهم أو سبَّبوا إبعاد بعضهم الآخر عن ساحة التَّرشيح إلى بعض البلدان الأخرى غير الحوزويَّة.

كما وأبعد الكثير من العرب من أهل الاستحقاق التَّام للمرجعيَّة وإن كان بحجَّة أمراضبعضهم أو قلَّة ما في يدهم من المال أو تلبية نداء زملائهم من المراجع لبعض الأغراض الشَّريفة، لكن لم يخل ذلك من التَّحريض من تلكم الحواشي المشبوهة ممَّا مرَّ ذكره وإن كان لبعض الوقت.

كما أنَّ من بعض المبعدين هم بعض غير العرب ومنهم من صفُّوا بالاغتيال والقتل وغيره قديماً وحديثاً بالتَّسفير كما في عهد البعثيِّين بعدما سبقه ما يشبهه.

وجزى الله تعالى بعض الأعلام خير الجزاء حيث كشفوا بعض هذه الحقائق عن الأعلام العرب ممَّن أبعدوا ولو بتوكيل من مجتهد لمجتهد أو جمِّدوا أو سبِّبت لهم أمراضهم نسيان ذكرهم عند البعض.

فإنَّهم وإن لم يكترثوا في أنفسهم بما سُعي لهم أو لم يكن من قصد المراجع الموكَّلين لهم الإساءة لهم ولكون خير صفة كانت لهم أنَّهم كانوا من أهل الإيثار تجاه أقرانهم، إضافة إلى تحلِّيهم بالورع والتَّقوى والاحتياط كآية الله الفقيه الأصولي السيِّد الجد قدس سره وابن عمِّه آية الله السيِّد محمَّد مهدي الموسوي الغريفي قدس سره وابن عمتِّه آية الله العلاَّمة السيِّد هادي الحُسيني الموسوي الغريفي الصَّائغ قدس سره وقبلهم النَّابغة آية الله السيِّد عدنان الغريفي قدس سره حيث غُيِّب من قبل الأعداء ثمَّ أرجع إلى المحمَّرة، وغيرهم من أصحابهم.

فإنَّ آثارهم - وتخرُّج المئات من تلامذتهم على أيديهم مجتهدين وما كتبوه وانكبُّوا عليه من التَّدوين والتَّحقيق فيه أوقات فراغهم وذكر كتب الرِّجال والتَّراجم لهم ببعض ما يناسبهم -

لخير دليل على تفوُّقهم في الذُّكر، حتَّى على كثير من المراجع المنصوبين من أولئك السُّعاة حينما صاروا مراجع ولم يدوِّنوا شيئاً أو قلَّ سعيهم في ذلك لانشغالهم

ص: 45

بمرجعيَّاتهم أو كتب لهم ليكون الاسم لهم بينما حقوق الكتابة شرعاً للمدوِّن فقط.

فلابدَّ بعد هذا أن نقول الحق ولو على أنفسنا - وعلى قاعدة قوله تعالى [وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ](1) بلا أي فرق بين أقوام العرب وغيرهم -

بأنَّ من كان أهلاً للمرجعيَّة العليا بمثل حسن الإدارة المرتبطة بالعليا فضلاً عمَّا لو كان الفاقد للإدارة أو الضَّعيف فيها هو الأعلم في الفقه والأصول.

وهو ما قلناه ونقوله في الفقهيَّات في محلِّه ممَّا بين الإفراط والتَّفريط من نمط الوسطيَّة بين الظاهرتين على ما سيجيء توضيحه، لتفادي خطورة ما يريده أو يسعى له الأعداء ولو من وراء الكواليس، لئلاَّ يكون البريء واقعاً في شَرك البليَّة.

بينما التَّمنِّي بكل المنى الَّذي نسعى له في هذا المدخل إمَّا هداية الجهلة البسطاء بتخليصهم من أسباب النِّزاع المختلفة من المتعمِّدين في زمن كثرة المشاكل كي يراعوا عواقب الأمور لصالح سلامتهم.

أو الوقوع بقاءً في شَرك تلك البليَّة لو كانوا من الحمقى.

لتكون النَّجاة ثابتة لأهلها من تلك الفرقة النَّاجية ومصير الآخرين حسب ما أصرُّوا عليه هو التَّيه والضَّلالة رغبة في العقوبة الدُّنيويَّة قبل الآخرويَّة.

التَّنبيه على إمكان تلاقي الفقاهة والأصول للخلاص من مخاطر بعض الفتن المقدور عليها

بعد ما بينَّا الكلام الفقهي في تعاليقنا المبسوطة - على الاجتهاد والتَّقليد من مسائل العروة الوثقى عن الفرق بين الفقاهة والأصول وما أوجزناه هنا عن هذا الأمر -

بأنَّ الفقاهة يمكن اجتماعها مع الأصول وبكمالٍ في الاثنين، سواء قلنا بالفقاهة كما

ص: 46


1- سورة الشعراء / آية 183.

في السَّابق ثمَّ الأصول في اللاحق، ومن بعد ذلك تطبيق الفقاهة على ضوء الأصول.

أو قلنا بأوليَّة الأصول في هذه الأزمنة الأخيرة وانطبقت الفقاهة على ضوئها إن تمَّ قبول ذلك بالتَّالي.

وبعد أن قلنا بأنَّ حق القول أن يقال بأنَّ العنوان الماضي لا علاقة له بأن يكون دالاًّ على حصول قاعدة كليَّة ليكون كل محصِّل عربي حوزوي فقيهاً ولا كل محصِّل غير عربي أصوليَّاً.

وإنَّما ذكرناه عنواناً للإشارة به لأن نجعله مدخلاً إلى البحث عمَّا أشيع عنه فيه في بعض الأوساط، للتَّشهير بما حصل من بعض المصاديق بفقاهة بعض العرب وأصوليَّة البعض من غيرهم للبناء على ذلك ليكون كالقاعدة.

إمَّا بغضاً لنوع غير العرب - من الأقوام الأخرى كالعرب لما حصل من بعض جهلتهم ضدَّ بعض أو نوع محصِّلي العرب - لئلاَّ يوفَّق للمرجعيَّة وإن استحقَّها شرعاً وحبَّاً للعرب ليفوزوا بهذه السُّلطة ولو بين أقوامهم وإن ضعف بعضهم عنها إداريَّاً ولو لشبهة حنكة الفقاهة المفضَّلة في العرب لقربهم من لسان النَّص الشَّرعي دون غيرهم وإن قدر بعض الغير على نفس القول بذلك لكن لسان الشَّرع الواضح لو راجعناه فإنَّه يختلف عن هذا التَّشخيص كثيراً للتَّسامي عن المشاكل.

وإمَّا بغضاً لنوع العرب من الأقوام الأخرى - لما حصل من بعض جهلتهم ضدَّ بعض أو نوع محصِّلي غير العرب لئلاَّ يوفَّقوا للمرجعيَّة وإن استحقُّوها - وحبَّاً لغير العرب ليفوزوا بهذه السُّلطة وإن ضعفوا عنها في بعض الجهات وكما بين العرب أنفسهم، ولو بشبهة حنكة أهل الأصول المفضَّلة في غير العرب لبُعد نظرهم الفكري في بعضهم وقصره في البعض الآخر لنوع عجزهم عن مثل قدرة العرب اللِّسانيَّة وسرعة فهم معانيها.

والشَّرع الواضح لو راجعناه لم يأت بهذه الدقَّة من المفارقات، وإنَّما أتى بأوامر

ص: 47

جمع الشَّمل ونواهي التَّفرُّق كقوله تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ](1) وقول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم (لا فضل لعربيّ على أعجميّ ولا لأحمر على أسود إلاّ بالتقوى)(2) وغيرهما.

والسَّبب في عدم انطباق هذا العنوان على القاعدة الَّتي ربَّما أشيعت كما أسلفناه ليتساوى طرفا العنوان دائماً في مرحلة التَّفاوت بين القومين المختلفين من مصاديق هذا العنوان أو ذاك ولو من الجهة الخارجيَّة، لعدم صدق كون كل عربي لابدَّ وأن يكون فقيهاً وعدم صدق كون كل غير عربي بأنَّه أصولي، لإمكان اجتماع الفقاهة والأصوليَّة في العربي وفي غير العربي من المحصِّلين كذلك، وعدم لزوم اجتماعهما في الاثنين كاملين أو ناقصين أو اختصاص العربي بالفقه أو غيره بالأصول وافتقارهما كليَّاً لهما.

إذن فالمبنى في أمر المخاطر هو على أن لا تقع كارثة مشابهة لما وقع ممَّا وقع سابقاً في مصير الفرقة النَّاجية الواحدة.

فينبغي بل يلزم أن يكون لو تكاملت أمور الفقاهة والأصول في أي جهة من القوميَّتين المكرَّمتين دون أن تكون الفقاهة ناقصة والأصوليَّة كاملة أو الفقاهة كاملة والحاجة الماسَّةإلى الأصول العمليَّة في مثل مستحدثات المسائل الَّتي لم تتوفَّر مواردها الطَّبيعيَّة حتَّى لو كانت المرجعيَّة في العرب أو غير العرب وعلى كون أساس توفُّر الشُّروط كاملة في أي جهة هو الحلاَّل للمشكلة الاجتماعيَّة.

فلا تجوز محاربة أيَّة مرجعيَّة أذن الله تعالى من توفيقاته بالظهور لها حتَّى إذا كانت أدنى المرجعيَّات في الإدارة ممَّن حقَّ له ذلك مع توفُّر الشُّروط حتَّى لو كان الغير هو الأرقى في مرجعيَّة يمتاز بها بحسن الإدارة مع الشروط موجوداً.

كما لا يجوز التَّجاوز على الأرقى من جهة حسن إدارته بما يناسب مرجعيَّته الأوسع ممَّا مرَّت الإشارة إليه بلا فرق بين العرب وغيرهم وإن سبَّب ذلك قلَّة في

ص: 48


1- سورة الحجرات / آية 13.
2- من لا يحضره الفقيه 2:27 باختلاف يسير، والكافي 2: 246.

مرجعيَّة الأدنى بلا تصدٍّ عمدي من الثَّاني.

وقد مرَّ تبسيط هذه الأحكام في الرَّسائل العمليَّة بما يغني عن الإطالة هنا.

المدخل السَّادس

المدخل السَّادس(1)

هل يمكن تساوي اجتهاد الفقيه مع اجتهاد الأصولي؟

ومعه أيُّهما المقدَّم؟

وفيه محاولة المقارنة الزَّمنيَّة بين الفقاهة الأولى والأصول

لا ريب أنَّ متابع كلامنا عن تأريخ الأصول - سواء سمَّينا الأصول علماً من بداية حصول الفقاهة أوائل صدر الإسلام أو ظهرت علميَّته عند الحاجة إلى تقنينه كعلم وإن نوقش في حكم ذلك كمَّاً وكيفاً -

لابدَّ بعده من أن يعرف أنَّ أمهات الأصول من الكتب الَّتي كتب عنها كالمعالم وما شابهها قبل ذلك أو بعده لابدَّ وأن لا تمر قواعده على الأصولي إذا حدثت عنده حادثة يريد معرفة حكمها فقهيَّاً على أساس من الأصول إلاَّ وأن يكون مجتهداً أوَّلاً في تلك القواعد، ليكون بصره وبصيرته بالنِّسبة إليها كبصر وبصيرة ما ورد عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ تجاه مدارك الفقاهة أو ما يقرب من ذلك.

وألاَّ يكون مقلِّداً لغيره في مدارك الاستنباط الأوَّلي في أيَّام الحاجة إلى الأصول كأيَّام البُعد عن زمن المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ وتعقُّد الأمور السَّنديَّة ونحوها.

فضلاً عمَّا بعد المعالم من أيَّام التَّوسُّع الأصولي وتفريع الفروع الأصوليَّة وتكثيرها لتسديد المطلب الحكمي الفقهي لئلاّ يتجاوز عن أساسيَّاته المدركيَّة في لسان أهل

ص: 49


1- هذا المدخل له علاقة بنتيجة المدخل الخامس.

الفقاهة.

وعلم هذا أمر ثابت في منظور الاجتهاد اللُّغوي على ما ذكرته قواميس اللُّغة المعتمدة، ككون المعنى أنَّه مأخوذ من بذل الجهد بفتح الجيم بمعنى الغاية كقوله تعالى [وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ](1) ليتبنَّى حمله كثقيل، وهو كناية عن شدَّة المسؤوليَّة أو ضمِّها كقوله تعالى [وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ](2) أي يُتعبون أنفسهم في تحصيله كعمليَّة استنباط الماء من البئر.

وكلا المعنيين لا يتنافيان مع أقصى ما يبذل في سبيل الشَّيء، وممَّا لا يتنافى أيضاً حتَّى عن المعنى الاصطلاحي لدى أهل العلم على نحو الخصوص بعد اللُّغوي العام.

ولعلَّ منه أو أقرب إلى معناه ما ورد في القرآن الكريم حكاية عمَّا كان يجري في القديم من قبل علماء الخواص على ما ترجمه القرآن بلسانه العربي المبين وهي قوله تعالى [وَلَوْرَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ](3) وهم الأسباط الَّذين يقولون الحكم عن الاستنباط المصطلح لا غيره.

وهو الَّذي لا يتنافى مع ما كان ممكناً في إجراءه فقهياً عند الحاجة إليه، لتعلم الأمَّة في مجتمعها وأفرادها أدَّلة التَّصديق بما يراد من الآيات والأحاديث النَّبويَّة بواسطة العترة حتَّى في صدر الإسلام.

وهذا التَّوجيه يمكن جعله من أوجه التَّقارب للتَّساوي بين الاجتهادين للفقيه الكامل والأصولي المهذَّب ممَّا يصحِّح اختيار أيِّهما في قيادة الأمَّة، ومن أدلَّة ذلك القرآنيَّة قوله تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ

ص: 50


1- سورة الأنعام / آية 109.
2- سورة التوبة / آية 79.
3- سورة النساء / آية 83.

قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ](1).

وأمَّا الرِّوايات الَّتي ذكرها الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ - عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ممَّا لم يبتعد عن صدر الإسلام أو هو نهج على مسلكه وإن بعُد - فكثيرة، إلاَّ أنَّ الاجتهاد لم يكن عند النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم أو الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ يوماً من ذاته لذاته.

لأنَّه إمَّا من النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم فهو من الموحى به إليه من دون تصرُّف إلاَّ بما أذن إليه من الشَّرح والإيضاح عن السنَّة وممَّا أشار إلى هذا قوله تعالى [لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ](2) وقوله [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ](3).

فما بقي من ذلك إلاَّ ما أذن به لنبيِّه صلی الله علیه و آله و سلم من السنَّة الشَّريفة بتوجيه الأدلَّة لخواصِّه الَّذين يتحمَّلون تفاصيلها كابن عبَّاس وغيره ممَّن تعلَّم هذه الأمور من أمير المؤمنين علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ .

وإمَّا من الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ فهو الحافظ لوحي الله آيات وشروحاً وللسنَّة تفصيلاً كذلك، من دون حاجة إلى شيء من الاستنباط الاجتهادي لا على نهج الفقاهة الميسورة في مداركها وقت الانفتاح الكامل أيَّام أهل العصمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ، ولا على نهج الأصول في بداياتها أيَّام تيسُّر الأصول الأربعمائة عند الخوف من بعض الانسدادات أيَّام كثرة الأكاذيب على النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم في وضع الأحاديث أو تلفيقها، لتشويشها على الأقل من قبل الأمويِّين ومن سبقهم والتحق بهم.

أو مع وجود بعض الانسدادات حينما كان الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ موجودين أو يمكن الاتصال بهم ولو على مضض ولو بواسطة الحواري والسُّفراء مع تيسُّر قرب الإسناد المنقَّح

ص: 51


1- سورة التوبة / آية 122.
2- سورة القيامة / آية 16.
3- سورة الحاقة / آية 44.

وتيسُّر المتواترات.

لأنَّ الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كالنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم من بعده هو حجَّة الله في الأرض - لا يُعاب عليه، لعصمته بلا زيادة أو نقيصة، وإنَّما كانت استدلالاته إمَّا نقضاً أو حلاًّ أو إقناعاً، ليعلم الغير كيف الاجتهاد الَّذي يحتاجه الغير لإجابة مناقش الغير من الآخرين وكذا إفحام الأعداء.

ولذلك كان أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ أوَّل من أرسى قواعد الاستدلال بعد النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم بادئاً منالأدبيَّات لعلاقتها بالكتاب والسنَّة، إلى أن توسع التَّعليم من قبل بقيَّة أبناءه من الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ بمثل نشوء مدرستي الباقر والصَّادق عَلَيْهِما السَّلاَمُ وغير ذلك، بما سدَّدهم الله بفائق المعاجز والكرامات من العلوم الباهرة.

ولكن قد تُثار بعض الإشكالات المحسِّسة لنا من محاربي الحق من المخالفين لنا بعد ما عرف من نهج البلاغة وغيره قول الإمام في وعظه (ألا وإنَّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفَّة وسداد)(1).

إذ قد يقول الخصم كيف يعظ الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ من تحت منبره ولم يضم هو نفسه إليهم؟

وبحل هذا الإشكال ومن جميع نواحيه يتبيَّن الفرق بين المعنى اللُّغوي والمعنى الاصطلاحي أو يتجلَّى الاصطلاحي للاجتهاد أكثر.

وإن أمكن اتِّصاف المأموم بالاثنين وعدم اتِّصاف الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالاصطلاحي لنفسه.

لأنَّ علم الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ لدنِّي وانكشافي وإن أطلق على هذا العلم أنَّه اجتهاد، لوضوحه بالنِّسبة إليه منه كالشَّمس في رائعة النَّهار كما ورد عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في ليلة وفاة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم لمَّا دعاه النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم إليه وأجابه ثمَّ سارَّه تحت الكساء وجلس عنه مبتسماً قائلاً (لقد علَّمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح لي منه ألف باب)(2) وقيل (ألف

ص: 52


1- نهج البلاغة: 416 - 420 رقم 45.
2- مناقب آل أبي طالب 2/36، كنز العمال 13/114.

ألف باب)(1).

وهو معنى الانكشاف الَّذي لا يحتاج إلى الاجتهاد الاصطلاحي الَّذي لا يحتاجه إلاَّ من تتزاحم عنده الأفكار ولم يقدر على نيل الرأي الصَّواب فيها إلاَّ بإعمال قواعد الفقاهة أو الأصول.

وكما ورد أنَّه قد سأله (عمر بن الخطَّاب قال له: يا أبا الحسن، إنَّك لتعجل في الحكم والفصل للشَّيء إذا سئلت عنه، قال : فأبرز علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ كفَّه وقال له: كم هذا؟ فقال عمر : خمسة، فقال: عجلت يا أبا حفص، قال: لم يخف علَيَّ، فقال علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأنا أسرع فيما لا يخفى علَيَّ)(2)، وغير ذلك ممَّا أثر عنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ من مصادرنا وغيرها.

وقد نقلت كتب الفريقين أحاديث كثيرة في مدحه من قبل النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم كقوله صلی الله علیه و آله و سلم (علي أعلمكم وأفضلكم وأقضاكم، والرَّاد عليه كالرَّاد علَيَّ، والرَّاد علَيَّ كالرَّاد علي الله، وهو على حد الشرك بالله)(3) و (أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنَّه لا نبي من بعدي)(4) و (أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب)(5).وغير ذلك الكثير ممَّا يثبت كون المعصوم فوق مستوى البشر دون مستوى الخالق ومعه الأئمَّة من أبناءه عَلَيْهِم السَّلاَمُ .

فإنَّ الاجتهاد بالمعنى اللُّغوي يمكن أن يدخل بمعنى الإمعان في الطاعة، وأداءها لا

ص: 53


1- بحار الأنوار، 26، 29.
2- المناقب لابن شهر آشوب ج2 ص 31.
3- رواه أحمد في مسنده، وأبو المؤيد موفق بن أحمد الخوارزمي في المناقب، والمير سيد علي الهمداني الشافعي في مودة القربي، والحافظ أبو بكر البيهقي الشافعي في سننه، وغيرهم.
4- حلية الأولياء 7: 195 و196، مشكل الآثار 2: 309، تأريخ بغداد 11: 432، مسند أحمد 1: 182، 2.
5- اللئالئ المصنوعة: ج 1، ص 329، ورواه الحاكم في المستدرك (ج 3، ص 126).

بمعنى الاستدلال على ثبوت وجوبها أو استحبابها إلاَّ في مرحلة الحاجة إليه ومن أهله المجتهدين.

فلابدَّ من التَّفرقة بين علم الإمام وعلم المأموم، ولذا وردعنه قوله (ألا وإنَّ لكل مأموم إماماً يقتدى به ويستضيء بنور علمه)(1)، وعلى فرض عدم ذلك جدلاً فلا داعي للانقياد مع وجود الفرق الثَّابت.

ولنا كلام عقائدي عن علم الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ ينبغي المتابعة له في المطبوعات الخاصَّة وليس هذا موضع ذكره.

ومن هذا القبيل موقفه مع طلحة والزُّبير لمَّا أرادا مبايعته واشترطا عليه اتِّباعه الكتاب والسنَّة وإضافة سيرة الشَّيخين وبعد رضاه باتِّباع الكتاب والسنَّة كما هو أهله امتنع عن متابعة سيرة الشَّيخين قائلاً حصرها باجتهاد رأيه، لأنَّ قوله تعالى [لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ](2) حينما ثبت أنَّهم الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ دون من كان الأدنى.

ولموانع كثيرة تعرف عن دراسة تصرُّفاتهم تجاه إمام زمانهم الَّذي أوصى بها النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم عن الله تعالى مرَّات وكرَّات وبقيَّة الأئمَّة من أبناءه عَلَيْهِم السَّلاَمُ، فهم الحفظة والاستنباط المذكور في القرآن للآخرين لا لأنفسهم.

ومن معانيه اللَّفظيَّة تشخيص الموضوعات لا الأحكام المحفوظة، وإذا كان علم الَّذين يستنبطون هذه الأحكام من أولي الأمر إن استحضر للتَّوجيه فليس بلازم ليكون في جهالة قبل الاستنباط.

هذا كلُّه فيما إذا أمكن التَّساوي بين سائر العلماء من غير المعصومين كما سبق.

وأمَّا في حالة عدمه فقد يفترض أيضاً كما هو سائد بين أهل العلم، حتَّى لو تساوى الفقيه وكذا الأصولي بالمنظور السَّابق في اجتهادهما وأبهرا في النَّتيجة الاستنباطيَّة.

ص: 54


1- نهج البلاغة: 416 - 420 رقم 45.
2- سورة النساء / آية 83.

فقالوا بأنَّ الفقيه في هذه الحالة هل هو المقدَّم على الأصولي من حيث هو فقيه؟

أم الأصولي كان هو المقدَّم على الفقيه من حيث هو كذلك؟

فضلاً عمَّا لو كان أحدهما هو الأعلم من صاحبه لو ثبتت الأعلميَّة.

لأنَّ هذا المعنى قد لا يُعد في الحقيقة تساوياً إذا رأى أحد المجتهدين بتقدُّم أحدهما على الآخر أو تأخُّر الآخر عنه، لاعتبار مايز في المقدَّم في نظره أنَّه هو السَّبب في تأخُّر الآخر عن المقدَّم أو العكس، وبهذا تحصل حالة عدم التَّساوي.

مثال ذلك أنَّ رأي من يقدَّم الأصولي اليوم على الفقيه قد يكون له المجال المناسب لكون الفقاهة محلَّها في الزَّمن القديم وزمن القديم هو زمن انفتاح الأدلَّة اللفظيَّة وفطرة التَّضلُّع العربي وإتقان أدبيَّاته فطرة وعملاً إضافة إلى العلم الفنِّي بذلك وقرب الإسناد بما لم يكنكالبعيد عنه وتوفُّر الأصول الأربعمائة والآن لم تتوفَّر بعضها إلاَّ بشق الأنفس من المحاولات وكثرة المتواترات والآن لم يضمن منها إلاَّ المحدود في قلَّته، وهكذا قوَّة ظن أنَّ كثيراً من الضِّعاف المجبورة بعمل الأصحاب أخيراً هي وإن كانت من المتواترات في القديم ولكن لم تثبت عندنا اليوم إلاَّ بما قد يستضعف عند البعض الآخر من العلماء وهكذا كانت الفقاهة ناجحة ولأنَّها قرب عصر الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ وحواريهم الأقربين وهي الآن ليست كذلك إلاَّ عن طريق التَّوسُّع الأصولي.

ولكن هذا أوَّل الكلام عند آخرين.

إذ رأي من يقدَّم رأي الفقيه مع توفُّر الرِّوايات مع ما تكامل فيه حتَّى في هذا الزَّمان، فلأنَّ من مبناه عدم انحصار العمل بأخبار الآحاد إلاَّ بما أستثني منها والعمل حتَّى بالضَّعيفة المجبورة بعمل الأصحاب والتَّفوُّق العلمي والعملي بالأدبيَّات وعن ذلك قوَّة الخبر بتصحيح الأسانيد بالمتون وكثرة التَّجارب الاستنباطيَّة عن طريق الفقاهة والتَّسامح في أدلَّة السُّنن وتصحيح العمل بأخبار (من بلغه ثواب على عمل)(1) ولو

ص: 55


1- ثواب الأعمال 1/160.

رجاءاً وغير ذلك.

بينما العهد الأصولي الموسَّع حتَّى لو تكامل وأتقن صاحبه أمر أدبيَّات مباحث الألفاظ فيه وما بقي حتَّى حالات ما يعوِّض عن حالات الانسداد أو الانفتاح الصَّغير فإنَّه الأقدر في بعض الأمور لو قصرت يد الفقيه عن بعض المدارك وفي الخبرة بقلَّة المزاولة وقويت يد الأصولي في الخبرة الفقهيَّة وإضافة العمل بالضِّعاف المجبورة أو الاحتياط.

لكن إذا كان من تصرُّفات الأصولي هو تنقيح المناط والأخذ بما لم يكن منصوصاً قياساً على المنصوص اعتماداً على المثال، وإنَّ الفقيه مبناه المنصوص ولو إرشاداً فإنَّه يكون هو الأقدر على ما سيتَّضح الأمر فيه أكثر.

وأمَّا ما قد يظهر من حالة التَّساوي العلمي وتفوُّق أحدهما في العمل والممارسة الفقهيَّة فقط فهو المقدَّم مع بقيَّة الأوصاف كما هو مفصَّل في الفقهيَّات.

وفي حالة عدم مشابهة أحدهما للآخر بما يتَّصف هو به والمؤدى في كليهما واحد وعلى القواعد الفقهيَّة فيؤخذ بكليهما مع بقيَّة المواصفات.

لأنَّ الأهميَّة للفقاهة الموروثة بمصاديقها والأصوليَّة وحدها لم تثبت لها العلميَّة التَّامَّة كبقيَّة العلوم على ما سوف يتَّضح.

وقد يغلب الفقيه الأصولي أيضاً لكثرة خبرته وممارساته النَّاجحة وإن كان الأصولي أعلم من الفقيه في الصِّناعة الأصوليَّة لو تقل خبرته في التَّطبيق الفقهي.

ولهذا وما سبقه أدخلنا هذا المدخل في ضمن المداخل قبل مقدِّمات مباحث الألفاظ، للإشعار بأنَّ بحوث المستقبل الأصولي والتَّعمُّق فيها هي الَّتي تتكفَّل بتشخيص المراد معرفته في أنَّ أي الأمرين يكون هو المقدَّم.

ص: 56

المدخل السَّابع

كيفيَّة علاج ما قيل عن الجمود الإخباري والتَّوسُّع الأصولي المخيف

كما أنَّ في بداية التَّوسُّع الأصولي عند الأصوليِّين كان شيء من الجمود الفكري عند غيرهم، وقيل ذلك عن الأخباريِّين أيضاً، واحتمال حل ذلك بالتَّوسُّط الأخباري الأصولي للفقه بعد التًَّصفية.

فلابدَّ وأن نقول ردءاً للصَّدع بين أهل الفرقة النَّاجية، لنجعل هذا الموضوع من المداخل المهمَّة الَّتي ينبغي - بل يجب مراعاتها بما يلي - عسى أن تكون بحوثنا الآتية ناجحة في منهجها الوسطي بين الأخبار المعتبرة والأصول المهذَّبة:

عند حلول الأصول الأصيلة سابقاً - عند مجيء الوحي للتَّشريع وارتباط السنَّة الشَّرعيَّة به من النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وعترته عَلَيْهِم السَّلاَمُ وما ألحق بتلك الأصول من فرعيَّاتها المهمَّة حين التَّدوين التَّوسُّعي المهم للحاجة الماسَّة إلى ذلك في بعض أزمنة المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ المتأخِّرة والغيبة الصغرى وبدايات الكبرى وفترات البُّعد عن أعمدة المراجع من الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ ومن يُطمئن بالرُّجوع إليهم عند فقدهم من الحواري وأتباعهم وهكذا القواعد الفقهيَّة المعروفة بنجاح للاستعانة بها للتَّسهيل من ذات الثَّوابت المتاخمة لنتائج تلك الأصول الأصيلة والَّتي لم تخرج عن أطوار أساسيَّات الشَّريعة من الأزمنة القديمة إلاَّ أنَّها ربَّما ظهرت ببعض تصرفات غير لازمة في حينها -

نشأت - مع الاحترام لجميع علماء الأمَّة المقدَّسين -- سيرة التَّعصُّب الإخباري على ما يروى وإلى حد القول بلزوم جمود الفكر الفقهي، حذراً من وصول التَّصرُّف الفكري إلى حدِّ ما يتجاوز عن مراد النُّصوص أو ما يقابلها من الأدلَّة، حتَّى حورب -

ص: 57

من قبل بعضهم - الاجتهاد بكل أنواعه حتَّى النَّافعة منه كما يروى.

بل حتَّى المحتمل من جرَّاءه أكيداً لزومه حسبما ورد صحيحاً عن الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من التَّوجيهات إلى ذلك عند بعض حواريهم المهمَّين عنهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ ولو بحجَّة أنَّ شرع الله لم يتغيَّر لورود قوله تعالى [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا](1) وقوله [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ](2) بعد مثل آية [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا](3) وقول أبي عبد الله الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (حلال محمَّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)(4).

وهو صحيح في مقامه لكن دون مقام الاجتهاد المحتاج إليه، للوصول إلى ما هوالأوصل عند اختلاف الأدلَّة إلى ذلك الحلال للالتزام به أو الحرام لتجنُّبه، وفي مقام المستحدثات من المسائل للاستدلال عليها ولو بالأدلَّة الإرشاديَّة إن لم تساعد عليها الأدلَّة الأكثر بالانسداد.

وبقي هذا الأمر مدَّة عصيبة أثَّرت أثرها بالخلط الكبير بين الأخبار المقبولة وبين غيرها، وإلى حدِّ اتِّهام حتَّى الاجتهاديِّين أنفسهم من المعتدلين من قبل أخباريِّيهم أنَّهم كانوا أساساً في كونهم كانوا في البداية يستعملون عقولهم وسيلة لتصحيح قياسات غير الإماميَّة الممنوعة ثمَّ تركوها.

فنشأت المغالاة المخيفة في بعض كتب الرِّوايات الشَّريفة بمثل كتاب (الكافي) الشَّريف، حتَّى أصبح بمتناول أيدي عوامهم ليأخذوا أحكامهم منه بأنفسهم من رواياته الَّتي يجعلونها حجَّة على أنفسهم جميعاً، بحجَّة ما قيل عن الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ في النَّوم أنَّه قال

ص: 58


1- سورة البقرة / آية 187.
2- سورة الإسراء / آية 36.
3- سورة المائدة / آية 3.
4- أصول الكافي ج1 ص 58، بصائر الدرجات: ص 148 ب 31 ح 7.

(الكافي كافٍ لشيعتنا) وغير ذلك.

حتَّى لو ظهر التَّناقض الكبير الواضح من تصرفاتهم دون أهل العلم المتعارفين في باب الفقاهة لهم، وهو ما لا يمكن قبوله عند أهل العلم الكمَّل جميعاً من الأصوليِّين والأخباريِّين المجتهدين لقوله تعالى [هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ](1) إلاَّ بما يمكن توجيهه بما لم يقبل الرَّد علميَّاً.

للتَّفاوت الواضح بين الأمرين وغير ذلك وفي مثل المسائل المستحدثة على الأقل المحتاجة إلى الأصول العمليَّة لو لم تكن الأفضل، وإن كان كتاب (الكافي) - بل حتَّى غيره من الجوامع والمجامع - مقبولاً عند بعض أو كثير من أساطين الأصول حتَّى بأجمع كتاب (الكافي)، كما عند الشَّيخ النَّائيني قدس سره من الأساطين كما نقل عنه سيدُّنا الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره ب- (إنَّ المناقشة في إسناد الكافي حرفة العاجز)(2).

ويمكن الإجابة عن هذا الأمر بأنَّ مفاد مضمونه هو لزوم الحاجة إلى جميعه، لكن بيد أهل العلم الَّذين يعرفون كيف يعالجون أموره، حينما يبدو من رواياته عدم الانسجام بين بعضها مع البعض الآخر دون غيرهم لو سبَّب الاجتهاد الاصطلاحي التَّصفية الصَّحيحة، كما في حالات (الجمع مهما أمكن أولى من الطَّرح) وضم المؤيِّدات المرفوضة في أساسها رجاليَّاً أو درائيَّاً ولو ضمناً، لأنَّها محسوبة على غيرنا من الطرق كطرق العامَّة، إلاَّ أنَّها مقبولة في باب التَّقريب عندنا، أو لإخضاع أراءهم لأراءنا ولو ضمناً على قاعدة الإلزام، أو كونها من طرقنا في الضعف ولكنَّها عوامل مساعدة لو كثرت لأثَّرت أثرها الضمني حتَّى لو كان مع صحيحة واحدة في تشكيل القوَّة السَّنديَّة بالمعنى، أو أنَّها ضعيفة عندنا ولكنَّها مجبورة بعمل الأصحاب، وهكذا.

ولقد أثَّر بعض الأخباريِّين - وهم المتعصِّبون - أثرهم في ابتعادهم عن تقليد

ص: 59


1- سورة الزمر / آية 9.
2- معجم رجال الحديث 1: 87.

المجتهدين حتَّى على مشروعيَّة تقليدهم لأولئك المجتهدين حتَّى لو كان المجتهدون منهم فضلاً عن غيرهم في تلك المدَّة.بل اكتفى بعضهم بتقليد صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ ، مع كون ذلك لدى التَّحقيق غير مرضي به عند التَّأمَّل.

لأنَّ الإمام المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ لا يختلف في ذهنه الحافظ لأحكام الله كمن سبقه من الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ حتَّى يجتهد مستنبطاً لها من مداركها كرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وإن كان يعرف الاجتهاد وأنواعه ليعرف أصحابه كيف يعلمون أساليب الاستنباط أيَّام بعدهم عنه.

لكون التَّقليد في زمن الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ لا يمكن إلاَّ أن يكون بمعنى الامتثال والإطاعة بدون اعتراض من قبل العامي - وإن كان على خلفيَّة ثقافيَّة تفرض عليه المزيد من التَّعلُّم - على شيء من أدلَّة ذلك.

والإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ وإن كان في طبيعة الأمر لا يمتنع من ذكر ذلك له كعادته لنشر العلم بين العوام، لكن بدون اعتراض رادٍ عليه من العامي وإن كان في مثل زمن الغيبة الكبرى لا يمكن إلاَّ لمن تختلف عنده الآراء ومداركها من المختلف فيها من المسائل، فإن اجتهد واستقام في استنباطاته بما عرف بين الاصطلاحيِّين وعلى نهج ما عرف من أهل العصمة ومن بعدهم صحَّ تقليد ذلك المجتهد عند الحاجة إليه وإلاَّ فلا.

وللأسف أيضاً قد أثَّر هذا التَّدهور الفكري والسُّلوكي أثره البالغ، حتَّى سرى هذا المشكل على مسلك بعض الأصوليِّين بهجر بعض المجتهدين منهم لاجتهادهم بالتزامهم بآراء أستاذهم حتَّى لو كان المجتهد منهم جهبذاً جامعاً للمنقول والمعقول وإن كان بمجرَّد توجيه سؤال من الآخرين لو سألوا تلامذته المجتهدين فإنَّهم كانوا يجيبونهم باتِّباع أراء أستاذهم حتَّى لو كان ذلك بعد وفاته.

وأيضاً إنَّ تقليد الموتى سيرة عُرف بها الأخباريُّون، وقد رأيت في بعض مذكَّراتي الأصوليَّة القديمة بما توصَّلت إليه عن الفرق بين الأصوليِّين والأخباريِّين بأنَّها قد تصل

ص: 60

إلى سبعين تفاوتاً أو تزيد شيئاً.

إلاَّ أنَّ الحق عمليَّاً بعد الَّذي عرف ثابتاً عنهم هو تقليد الموتى ابتداءاً، وهو أمر محلول عند أهل الوسطيَّة، بعد ما حصل ذلك عند تلامذة الشَّيخ الطُّوسي قدس سره تجاه أستاذهم الأصولي قدس سره حتَّى سُمُّوا بمقلِّدة الشَّيخ قدس سره أو أصحاب النِّهاية وإن كان ذلك التَّوجيه بعد وفاته.

حتَّى جاء دور المحقِّق الحُلِّي قدس سره فأعاب عليهم هذا الأمر، وأفهم من كان معاصراً له منهم أنَّ هذا الأمر غير مقبول منهم، لأنَّهم مجتهدون، والمجتهد يجب عليه أن يمارس عمله مستقلاًّ بنفسه إمَّا لنفسه أو لنفسه وغيره من العوام، وإن ما أُثر من عملهم هذا تجاه أستاذهم قدس سره قد تسبَّب منه إشاعة أنَّ هذا منهم إجماع فقهي.

وبعد توجُّه وتوجيه الشَّيخ المحقِّق قدس سره ومن تلاه من أمثاله ثبتت الإشاعة المعاكسة للسَّابقة، وهي عدم قبول اجماعات ما بعد الشَّيخ الطوسي قدس سره، وما بقي من هذا النَّحو من تقليد الموتى إلاَّ الاستمراري بقاءاً لا ابتداءاً، وهو ما به مجال البناء عليه في الجملة بين مطلق المجتهدين على ما سوف يتَّضح أمره في الفقه الاستدلالي.

وبعد حلول المشاكل الكثيرة - وبالخصوص أبان ضيق خناقها علينا نحن ملَّة الفرقة النَّاجية بعد ما كان على كل من سبقنا من غيارى السَّلف الصَّالح أمام أعداء نشأوا من نفسالدَّاخل الإسلامي من المسلك المخالف من بقيَّة المذاهب الأخرى بعد أن رأوا من واقعنا هذا التَّفرُّق أو ما يلوح في أفقه وإن نشأ عندهم ذلك التَّفرُّق المذهبي الرُّباعي أو الأكثر وكذلك من الجمود الفكري عندهم وبما قد يزيد بحسب مسلكهم المذهبي مع التَّطاحن المعروف عنهم فيما بين مذاهبهم الأربعة لبقاءهم على تقليدهم لمذاهبهم الأربعة أو الأكثر حتَّى هذا الحين -

نشأت بعد ذلك من أسلافنا الصَّالحين بصيرة الحرص على مستقبل الأمَّة ومعها أفكار الوعي الحريص على جمع الكلمة ولو داخليَّاً لنصرة الحق الأصيل الواحد،

ص: 61

ولإظهار حقِّنا الثَّابت في دقَّة أدلَّته أمام الآخرين من أعلام الأمَّة ولدحر الجمود والتَّراجع عن الثَّقافة الدَّاخليَّة النَّامية في نفس الفكر الشَّرعي الأصيل لو خلا من التَّعصُّب ومن كل من ألقى السَّمع وهو شهيد تجاه التَّجديد الفكري المحترم داخل الأطر المحدودة لا بما يزيد.

فأثَّر أثره المهم لدفع الكثير من تلك المشاكل وإن لم يكن الكل وإن كان في ذلك بعض الشدَّة اللازمة على ما عرف عند الوحيد البهبهاني قدس سره من مقصده الشَّريف في تأسيسه الأصول الحديثة وبلسان الاستقلال عن التَّبعيَّة وإن كان بحسب الدقَّة لا غرابة فيها لأنَّها لابدَّ وأن تكون متضمِّنة لكثير من الأصول الأصيلة.

وإنَّما سمِّي بيانها منه تجديداً آنذاك فلغرابة عناوينها في فترة ما قبلها من المشاكل حتَّى أثَّرت تلك الشدَّة أثرها الكثير على معاصره الشَّيخ يوسف البحراني قدس سره وإن كان محارباً عند الإخباريِّين من معاصريه وسابقيه لاجتهاده المعروف.

وبقيت هذه الحالة مدَّة غير قليلة بسبب السَّطحيَّة في العلاقة بين العلَمين وكلاهما يقطنان كربلاء المقدَّسة.

فالبهبهاني قدس سره أصولي مؤسِّس ومجدِّد، والبحراني قدس سره أخباري مجتهد لم تفته الأصول اللازمة والمعتمدة في عمليَّة الاستنباط كما في أصوله الَّتي دوَّنها في أوَّل حدائقه.

حتَّى تعرَّف الوحيد قدس سره على واقعيَّات مقاصد الشَّيخ البحراني قدس سره في دقائق ما عرفه من حدائقه وموسوعته الفقهيَّة البادية بالأصول المعتدلة أو الَّتي في تجديد الوحيد مع الحدائق ما لا يبتعد عن الاعتدال للبحراني قدس سره .

وعليه فإن زاد شيء فهو من الخير بعد تخفيف البهبهاني قدس سره معه بعضاً أو كثيراً من شدَّته معه أو ما أبقى منها شيئاً.

فلا شكَّ أنَّه نتج من خلال ذلك بين العلَمين - وهما البحراني والوحيد البهبهاني - التَّصفية من الزَّوائد والفضول وقبول الاجتهاد المعتدل فقاهة وأصولاً وأصولاً وفقاهة بما

ص: 62

اتَّصفا به وما يناسبهما معاً.

فلله درُّهما وعليه أجرهما.

المدخل الثَّامن

بدعة الحداثة أو التَّجديد في الشَّرع بما ليس منه

ظهرت في الآونة الأخيرة بدعة جديدة تُسمَّى بالحداثة أو التَّجديد في الشَّرع ولو بما ليس منه في الظاهر، بحجَّة اقتضاء ضرورة مواكبة العصر بما يستحقُّه من التَّطورات الاجتماعيَّة.

ومن راجع النُّصوص الأساسيَّة الواضحة في الكتاب والسنَّة وظواهرها، بل ومفاهيمها المستفادة مؤكَّداً من وراء الألفاظ واللوازم من قريب أو بعيد، بل وكذا الإرشاديَّات فلم يجد شيئاً حتَّى من تعاليم الأصول الصَّحيحة يدل على شيء منها.

وممَّن أسَّس هذه الظاهرة المفترات على الشَّرع نسبة إليه - كبدع الماضي المرير أو أثار ألاعيبها وساعد على ترويجها اليوم -

هي الأحزاب المسمَّاة بالإسلاميَّة وحتَّى من داخل متطرِّفي الفرقة النَّاجية وأناسها - نجَّاها الله من سوء عواقب هذه الكوارث - وإن انتسبت على نطاق ألسنة بعض رجالها أو أناسها سطحيَّاً خجولة إلى كون بعضهم لهم نسبة علاقة في سلفهم أو بيئتهم بالدِّين ولو جزئيَّاً مع سطحيَّة.

لئلاَّ يُقال بأنَّ هذا التَّطوُّر في الحداثة خارج عن الدِّين الأساس ولو بشيء من التَّلفيق مع السَّطحيَّة من الدِّين وإن كان في نتيجة هذه المحاولة بعد نجاح المخطَّطات الكتلويَّة أن لا يكون أي شيء مع الدِّين الواقعي ولو بالمصاحبة لما توافق عليه أو على بعضه إحدى المذاهب الأخرى المعتمدة على النُّصوص غير المؤكَّدة في كونها أدلَّة على

ص: 63

المراد الفقهي مع ما تذهب إليه الأصول الصَّحيحة أو المعتمدة على ما لم يكن من الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل عند وجود بعض الانسدادات كالقياسات الممنوعة أو سدِّ الذَّرائع أو المصالح المرسلة ولو بحجَّة التَّذرُّع بمحاولة جمع الشَّمل لأكثر من مذهب لإسكات المتدِّينين.

لأنَّ مثل هذا الابتداع هو نوع من التَّنازل الخاص مع القدرة التَّامَّة على التَّمسُّك بالدَّليل الصَّحيح، بل هو في حقيقته انهزام من الواقعيَّة ولجوء إلى العلمانيَّة المجرَّدة من القيم الدِّينيَّة الثَّابتة وإن رضي الدِّين ببعض مقرَّراتها كالنَّصائح الطبيَّة أو الفنيَّة الأخرى وإمضاءه لمقرَّرات أهل الاختصاص من رجالها.

لأنَّ هذا الرِّضا والإمضاء لهما أدلَّتهما المستثنات في نفس الشَّريعة الَّتي لا علاقة لها في أن تبرَّر للجميع جواز الخروج عن الدِّين وشرعه في غير ما أستثني لتكون العلمانيَّة أو القوانين الوضعيَّة أو ما خرج من الدِّين من بعض القياسات للمذاهب الأخرى أو ما تلفَّق من هذا أو ذلك ليكون الدِّين متماشياً مع كل عصر وإن قلبت موازينه لقوله تعالى [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِفَلاَ تَقْرَبُوهَا](1) لأنَّ (حلال محمَّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)(2) وقولهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ (من أفتى بغير علم أكبَّه الله على منخريه في نار جهنَّم)(3) وغيره، كما وأنَّه قد لا تكون لها أيَّة علاقة في مقرَّراتها الحزبيَّة مع العلم من قريب أو بعيد أو حتَّى مع التَّلفيق الَّذي أشرنا إليه.

وهذه البدعة فيها محاولة خبيثة في باطنها وإن تمظهرت في ظاهرها ببعض من التَّقيُّد الدِّيني، وهي إخضاع الشَّرع الشَّريف إلى العلمانيَّة العامَّة للإيحاء إلى أنَّ الشَّرع واحد من بين الاتِّجاهات العلميَّة العديدة لاعتبار المبتدعين أنَّ التَّقيُّد الدِّيني في كل شيء هو

ص: 64


1- سورة البقرة / آية 187.
2- أصول الكافي ج1 ص 58 ، بصائر الدرجات: ص 148 ب 31 ح 7.
3- وسائل الشيعة 18/ 16، تحف العقول 61.

حرمان من فوائد العلوم الأخرى.

بينما إثارة هذا الشَّيء يُعد شبهة في قبال بديهة إذا اعتبرنا الدِّين كما دلَّت عليه الأدلَّة الثَّابتة أنَّه ناموس الحياة في كل المجالات، فإخضاعه إلى العقل المشوب بالرَّغبات النَّفسيَّة -- للنُّفوس الأمَّارة وبلا أي حاجة إلى ما ذكرناه من إمضاء الشَّرع لبعض المقرَّرات الطبيَّة المزيلة للأمراض أو النَّاشرة للصحَّة العامَّة أو الخاصَّة الَّتي يجب اتِّباعها امتثالاً للأمر الشَّرعي الآمر بإطاعة قول الطَّبيب الحاذق في تشخيص المرض والدَّواء لا أكثر -- يُعد ممنوعاً.

وهكذا المقرَّرات الفلكيَّة للعلوم الأخرى الَّتي لا تقول إلاَّ الظن وهو منهي عن اتِّباعه في القرآن والسنَّة عن العترة كقوله تعالى [وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ](1) وقوله [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً](2) وفي الحديث المنسوب إلى النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم (إياكم والظن فإنَّ الظن أكذب الحديث)(3).

إلاَّ ما حصل من عطاءه ما يطابق الشَّرع في النَّتيجة وهو المسمَّى ب- (الظن المتاخم للعلم)، كمحاولة الاكتفاء بالعين المسلَّحة بديلاً تامَّاً عن المجرَّدة لمثل الهلال، فإنَّ ذلك لا يمضى شرعاً بهذه الاستعانة بالمسلَّحة إلاَّ برفعها عن العين المجرَّدة ثمَّ ليرى الهلال بعد ذلك رؤية طبيعيَّة.

وإن قبلنا إرشاد الشَّرع إلى قبول بعض ما يقبله العقل لبعض المقرَّرات الأصوليَّة للاستناد إليها فيما لو انسدَّ باب العلم الشَّرعي فلأجل أنَّ بعض الأخبار الَّتي يُراد الاستشهاد بها كانت مهجورة من قبل الأصحاب، لأنَّها لا تستقيم مع الأخبار الأصيلة

ص: 65


1- سورة يونس / آية 36.
2- سورة الإسراء / آية 36.
3- موطأ مالك كتاب حسن الخلق - باب ما جاء في الهاجرة (15).

المتَّبعة في المقام، ولأنَّ من مباني أصول العامَّة هو اتِّباع القياس حتَّى مع الفارق.

فلا يمكن الرِّضا نوعاً في فقه الإماميَّة بما تقوله جماعة الحداثة والتَّجديد.وعلى أساس التَّنزُّل لصالح بعض المغفَّلين من دعاة الحداثة والتَّجديد - بادِّعاء القول بإمكان ذلك كما يقولون لتخليصهم بإجابتهم من بعض حالات الجمود الدِّيني الَّذي قد يخلو في نظرهم من بعض حالات تقليص الرِّوايات إلى حد توسُّع حالة انسداد باب العلم للرِّضا بمشروعيَّة عموم العلم حتَّى لو لم تدل الإرشاديَّات من الأدلَّة على شيء كالقياسات والاستحسانات ونحو ذلك أو للمجاملة للعامَّة حتَّى بالضغط على بعض ثوابتنا مع أنَّ (الرُّشد في خلافهم) في مرحلة الاختيار -

فإنَّ هذا سوف يصطدم بما ثبت في مثل دعاء النُّدبة وغيره كما في عبارة (أين المدَّخر لتجديد الفرائض والسنُّن) وغيرها، لأهميَّة انتظار قدوم صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ ليحارب أهل الفتاوى الشَّاذَّة.

وممَّا يشير إلى صدق مضمون ما في دعاء النُّدبة قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ](1) وغيره، وهل أنَّ المجدِّدين هم نفس صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ حتَّى يقبل منهم التَّجديد وإن كان مبتدعاً كما مرَّ ذكره؟

وأمَّا حالة تجدُّد الفرائض والسُّنن الأصيلة بمعنى الإعادة - ممَّا قد يُستكشف من مصادرها كذلك عند العثور عليها بعد اختفاءها - وهي الَّتي معناها وجوب أو استحباب أو مشروعيَّة ممارستها بدون انقطاع في أوقات أداءها، كما فيما يتعلَّق بليلة القدر في كل سنة.

وعدم ممارسة الفرائض والسُّنن - بمعنى إحياء ذكراها لقضايا ولو تأريخيَّة تراثيَّة - فلم يكن داخلاً فيما سنذكره، فلا ينبغي الخلط بين المعنيين.

ص: 66


1- سورة القصص / آية 5.

وعلى فرض ادِّعاء أنَّ التَّجديد من سماحة الشَّريعة كما في قوله تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ](1) وفي الحديث عنه صلی الله علیه و آله و سلم (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)(2) والحديث عنه صلی الله علیه و آله و سلم أيضاً (جئتكم بالشَّريعة السَّهلة السَّمحاء)(3)؟.

فإنَّه يُقال بأنَّ السَّماحة كانت وتكون داخل أطر نصوص الشَّريعة لا خارجها بمثل التَّقيَّة والضَّرر وتخفيف مستوى تكليف المكلَّف الأدائي لو اشتدَّ عليه لا أكثر.

وأكثر الظن أنَّ ممَّا ساعد على انتشار هذه الظاهرة أو تشجيع المبتدعين على التَّمسُّك ببعض الشُّبهات الَّتي منها قلَّة النُّصوص الكافية لردع هذه الأمور ما يأتي وهو:

خاتمة في ابتداع عمليَّة تقليص روايات الجوامع والمجامع

فإنَّ ممَّا ابتليت به الأمَّة وبالأخص في الآونة الأخيرة - ولعلَّه نصرة للتَّوسُّع في أمر الانسداد العلمي للمدارك الشَّرعيَّة الأصيلة حتَّى لو صار كبيراً، ولذا تصوَّر بعض الأصوليِّين توهُّماً أنَّه لا مانع من العمل ببعض القياسات وتنقيح المناط عموماً وتطبيق غير المنصوص على المنصوص أو قال بذلك غفلة عن الدقَّة الأصوليَّة المتورِّعة أو لجوء

ص: 67


1- سورة الحج / آية 78.
2- الكافي ج 5، ص292، باب الضرار.
3- الكافي ج 5 ص 494 باب "كراهية الرهبانيّة" وترك الباه" الحديث الأوّل، وفيه "بعثني بالحنيفيَّة السهلة السمحة".

للعلم العام حتَّى لو رفضت ذلك ثوابتنا الشَّرعيَّة من المحكمات ونحوها لتبرير القول بالحداثة والتَّجديد -

هو عمليَّة تقليص الجوامع والمجامع لرواياتنا الشَّريفة الَّتي عليها أمل الأمَّة، حتَّى وإن أدَّت إلى التَّنازل للأعداء السَّلفيِّين قليلاً أو حتَّى كثيراً وإن لم يكن بثمن مدفوع جهاراً تملُّقاً كما عُرف من فعل بعضهم ذلك، حتَّى لو سمحت بعض القواعد الأصوليَّة الصِّناعيَّة المرضي عنها عند بعض الشِّيعة الإماميَّة من ذوات النَّمط الأوسط للأخذ بالرِّوايات المتروكة عند أولئك المقلِّصين.

لأنَّ الكثير من تلك الرِّوايات الَّتي تركها المقلِّصون حتَّى على فرض ضعفها في نظر الَّذين تركوها فهي في بعضها مقوَّات بعمل الأصحاب إن لم نقل الكثير.

وإلاَّ فأين مقرَّرات وجوب استفراغ الوسع الاجتهادي مع إمكانه عند احتمال الخلاف ووجود أمل العثور على الضالَّة المنشودة للعلاج بناءاً على قاعدة (لا يخفى على فقيه طريق)، للخلاص من مثلبة الوصول إلى تغيير الدِّين في ظواهره، فضلاً عن بواطنه إذا أرادت هذه التَّغييرات العصور المتحضِّرة، حتَّى لو يكون المعروف منكراً والمنكر معروفاً.

وقد ورد عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم ذكر هذا الأمر من التَّغير في آخر الزَّمان في مورد الذَّم حتماً،ممَّا يبرهن على عدم رضاه بمثل هذه التَّغيُّرات المؤثِّرة وهو صلی الله علیه و آله و سلم (لا تزال أمَّتي بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البرِّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسُلِّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السَّماء)(1) وقال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ (لا تتركوا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فيولَّى عليكم شراركم ثمَّ تدعون فلا يستجاب لكم)(2).

ص: 68


1- بحار الأنوار 97: 94.
2- نهج البلاغة: الكتاب 47، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 17/ 6 نحوه.

وقد كان السيِّد الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره - الَّذي من ديدنه العمل بأخبار الآحاد دون الضِّعاف المجبورة - بعدما يكمل ما عليه من استدلاله على مبناه - عند حضورنا في مجلس بحثه الفقهي - يعقبه بالالتزام الإضافي للمسألة تورُّعاً بقوله (والأحوط وجوباً العمل برأي المشهور العملي)، كإشارة إلى الجابر لضعف الرِّوايات المعارضة لخبر الواحد الَّذي يعتمد عليه في أصوله لئلاَّ يقع في ورطة مخالفة الواقع.

أي حتَّى لو كان مدرك الرِّوايات المعارضة ضعيفاً لجبره بعمل الأصحاب وهو الشُّهرة العمليَّة، بناءاً على الوثوق لا خصوص وثاقة الرَّاوي، ولأنَّ سيرتهم العمليَّة كانت مستمدَّة من سيرة أهل البيت وأهل العصمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ .

وقد يكون ضعف السَّند غير مهتم به لوضوح الدِّلالة، كما عبَّر كثير من أهل العلم المختصَّين بالأدبيَّات عن هذا النَّوع بقول أحدهم (كثيراً ما صححَّنا الأسانيد بالمتون).

ولذا فإنَّ أغلب من سعى إلى هذا التَّقليص لهجر الباقي مع كون هذا - وإن كان منه الكثير والجم الغفير من هذا الباقي ممَّا يُعتز ويُفتخر به - هو المتَّهم بضعف دينه، بل تآمره عليه طاعة وتزلُّفاً للأعداء.

مع كونه فَعَل فِعلَ من كان مقلِّداً لأحد الرِّجاليِّين القائل بوثاقة الرَّاوي فقط، وهو حجَّة - إن كان مقبولاً - على نفسه لا على الآخرين.

ولكن انخرط إلى هذا الشُّذوذ والاعوجاج - في سليقة المعايشة للآخرين على اختلافهم في المذاهب - أولئك الَّذين يحبُّون التَّعايش السِّلمي معهم، لزرع أجواء الوئام والالتئام.

وهذا وإن كان لا بأس به في نفسه، بل هو مرغوب فيه جدَّاً، لو خلى من التَّملُّق والتَّنازل عن الحق الثَّابت، وبقي محدوداً بحدود التَّقريب بين المذاهب بما لا تكفير ولا ذبح ولا تهجير فيه وبما نصَّت كتب الفريقين عليه.

واكتفاءاً بالتَّقيَّة في مقامها، ولكن لا على أساس هدم أركان الاستدلال الأصيل

ص: 69

بمثل حالة الاقتصار على الرِّوايات المؤيِّدة لجمع الشَّمل وترك المدافعة عن الحق الخاص عقيدة وعملاً، سواء من كتب المخالفين أو نصوصنا، سواء منها أخبار الآحاد أو المستفيضة أو المتواترة أو الضَّعيفة المجبورة بعمل الأصحاب.

فليس إنَّ من يعمل بأخبار الآحاد والاستفاضة والمتواترة عليه أن يحارب الضَّعيفة وإن جبرها عمل المشهور، بل إنَّ كثيراً من الرِّوايات المختلفة بما ذكرنا قابلة لأن يقوِّي بعضها بعضاً.وليس لكل من يعمل بأخبار الآحاد أن يرى إعدام كل الضِّعاف المجبورة لما ذكرنا.

كما أنَّ هناك صحاح آحاديَّة مهجورة ومحمولة على التَّقيَّة كما مرَّ مرراً.

وتعطيل الحديث الكامل سوف يأتي عمَّا دار بين السِّيد المرتضى قدس سره ومخالفيه عند مجيء الحديث عن الدَّليل الثَّاني للفقه وهو السنَّة.

وخلاصة هذا المطلب:

أنَّه لا يمكن إعدام كل الضِّعاف المجبورة في قبال الآحاد، إذ أنَّ السَّير على نهج هذه الضِّعاف كثيراً ما يكون أقرب إلى الطَّاعة والورع فيها.

وأنَّ تبعثر الأصول الأربعمائة ربَّما يجمع شملها أو شمل بعضها، وهو ما يعطي الأمل من محاولة عدم التَّساهل في إسقاط هذه الضِّعاف، إلاَّ ما أسقطتها الثَّوابت الفقهيَّة والأصوليَّة الَّتي عند الجميع.

وثمَّ إنَّ قاعدة التَّسامح في أدلَّة السُّنن أو العمل على طبق روايات (من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمله كان له أجر ذلك "وإن كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لم يقله")(1) تستدعي الإبقاء على هذه الضِّعاف لرجاء العثور على مدارك مهمَّة منها لها كما في المسنونات.

وكذلك ما ذكرناه من حقيقة تصحيح الأسانيد بالمتون وثمَّ تصحيح البناء على

ص: 70


1- ثواب الأعمال - 1/ 160.

وثوق الرِّواية من جهاتها لا وثاقة الرَّاوي كما سوف يأتي ضبطه في الأجزاء الآتية أكثر.

وأكثر الظن أنَّ قصد المقلِّصين للرِّوايات المُشار إليها ومن تصرَّف مثلهم من غيرهم بالَّتي اعتبروها صحيحة وترك الباقي من الآخرين ينطبق عليهم ما ورد عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم (ستكثر عليَّ القالة)(1) أو (قد كثرت عليَّ الكذَّابة)(2).

بحتميَّة دخول مختلقي الأحاديث وملفِّقي الرِّوايات بالرِّوايات الأخرى المختلقة والمبعِّضين لما في الجوامع والمجامع بمثل الأخذ بأخبار الآحاد وترك الضِّعاف المجبورة بعمل الأصحاب وغير ذلك.

لأنَّ التَّصرُّف الأخير وما قبله قد يضطر صاحبه إلى التَّوجيه بما لم يف بالغرض الشَّرعي الوافي حينما يترك الباقي الَّذي يحتمل أن يكون محقِّقاً للغرض مع ما كان مقلَّصاً إذا كان مقبولاً في الجملة كذلك.

وأمَّا قول الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ (خذوا ما رووا واتركوا ما رأوا)(3) إذا كان اجتهادهم في خصوص المقلَّصات من الرِّوايات غير وافٍ إلاَّ بضم الرِّوايات الأخرى وإن كانت ضعيفة لجبرها بعمل الأصحاب أو الشُّهرة العمليَّة فهو رد لهم في الحقيقة.

إضافة إلى أنَّ الشُّهرة قضت بعدم إمكان الاستدلال على حجيَّة أخبار الآحاد بمفاد آيةالنَّبأ كما هو محرَّر في محلِّه الآتي عن المصدر الثَّاني من أركان التَّشريع الأربعة وهو السنَّة بإذن الله تعالى.

ص: 71


1- كنز العمال ج 5 ص 239 ، و 240 ، و 223 ، و 224 والمستدرك للحاكم ج1 ص103، ومقدمة صحيح مسلم.
2- الكافي 1: 50/ 1 باب اختلاف الحديث عنه صلی الله علیه و آله و سلم.
3- كتاب الغيبة: 240، الطبعة الثانية.

المدخل التَّاسع

التَّنويه عن مواقع ذكر ما يخص آيات الأحكام من العناوين وتوابعها أصولاً وقواعد

من مهمَّات المداخل قبل مقدِّمات المباحث اللَّفظيَّة للأصول هو الكلام عن آيات الأحكام، للإشارة إلى عنوانها الكبير الشَّامل لأمور عديدة.

حيث كنَّا سابقاً قد أعددنا كتاباً مستقلاًّ، بل موسوعة وبحثناها أو كثيراً منها في دروسنا كمحاضرات من بحث الخارج على طلاَّبنا مدَّة مديدة كاد أن ينتهي الجزء الأوَّل منه تحت عنوان (دقائق الأفهام ممَّا حوته آيات الأحكام)، وهي مسجَّلة الآن لنا صوتيَّاً أيضاً.

لا يهمُّنا الآن منها إلاَّ التَّنويه عمَّا سيأتي من المناسبة الأصوليَّة وما يلحق بها في هذا المدخل لذكره بما يستحق من الذكر المناسب خاصَّة ولو موجزاً هنا وذكر موقع الكلام عنه عن الأصول وملحقاتها.

بمعنى فتح الحديث عن لُمم هنا لما سيأتي من التَّفاصيل في كل ما يحويه كتاب الأصول هذا في كل ما له علاقة كليَّة أو جزئيَّة بنوع الآيات وتوابعها من الأحاديث أصولاً فقهيَّة، بل وقواعد فقهيَّة عند اقتضاء الحاجة بل حتَّى بعض الآيات المرتبطة ببعض الفرعيَّات الَّتي محلُّها التَّفصيلي هو ذلك الكتاب المشار إليه آنفاً.

لإعطاء فكرة نموذجيَّة تحوج إلى بعض التَّفصيل الآتي عنها في الموقع، وهو حول الكلام الأصولي عن المصدر الأوَّل لمدارك الأحكام الشَّرعيَّة، وهو ما لابدَّ وأن يعتمد عليه كليَّاً وجزئيَّاً علماء الفقاهة والأصول، وهو كتاب الله العزيز وهو الأصل الكبير عند فريقيهما، وإن كانت الأصول الصِّناعيَّة عند موسِّعيها أخيراً قد تزداد قواعدها

ص: 72

لتعادل الفقاهة القديمة الكافية في أساليبها المتقنة لو لم تزد إلى ما لا يرتضى على ما سيأتي إيضاحه.

ولذلك سوف نشير إلى ما يلزم ذكره في البحث الأصولي عند حلول الكلام عن هذا المصدر للجمع بين الحقَّين.

إذ لهذه البحوث في إجمالها وتفصيلها أهميَّة قصوى يلزم أن يتكلَّم عنها الأصولي في زمن البُعد عن المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ- كما كان يلزم أن يتكلَّم عنها الفقيه في زمن القرب، بل ويكون أيضاً في كل الآحاييين - لارتباطها الوثيق بهذا المصدر الرئيس.

ولأنَّه أوَّل الحُجج الضَّروريَّة بتواتره وغير ذلك على لسان النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والعترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ ومن معها من المسلمين - علماء وأتباع خواص وعامَّة - في محبَّة وإنصاف.

ولتعزيز قوَّة الأصول به إن توفَّرت الملائمة بينهما، ولم يكن تجاوز عن خطوطه الضَّيقة والعريضة من قريب أو بعيد في كثير من الحالات.

ولجامعيَّته المهمَّة في جنباته المعطاء برهانيَّاً لمهمَّات أصوليَّة وقواعد فقهيَّة وفقهيَّات فرعيَّة - وإن كان هذا الكتاب لا يحمل أو ليس بمحل لتفصيل هذا الثَّالث من العطاء لأنَّه تابع لموسوعة آيات الأحكام الموما إليها بل ولا الجزء الثَّاني منه لأنَّه الأقرب إلى الفقهيَّات الفرعيَّة وإن كان مع قربه إلى قواعد الأصول -

فإنَّنا نذكر بعض النَّماذج المحتاج إليها، كأمثلة نمر عليها عند مجيء المناسبة الأصوليَّة المحتاجة إلى التَّمثيل التَّطبيقي حتَّى عن القاعدة الفقهيَّة، ممَّا قد يصل إلى ما هو بين بين أو بمعونتها، لتقوية العلاقة بالفقاهة وإلى حدِّ التَّطبيق بالفرع الفقهي ولو كانت مختصرة ومجملة في تلك الآيات، لاعتمادنا على معرفتها تفصيليَّاً وقت التَّفصيل عن طريق السنَّة بواسطة العترة عَلَيْهِم السَّلاَمُوالمؤيدة من غيرها من الأدلَّة والقواعد مع بقيَّة ما يحتويه هذا المصدر الشَّريف من المعارف القرآنيَّة الأخرى.

فنظراً إلى محاولتنا الاستيعابيَّة لهذا الموضوع في الكتاب العزيز وآياته الخاصَّة في

ص: 73

كتابنا المشار إليه أعلاه على ما عرَّفناه من نظرنا في موسوعته وما سنعرِّفه ووجدنا الآيات الخاصَّة فيه كما مرَّ منقسمة إلى الأقسام الثَّلاثة وهي:

الأولى: المسمَّات بآيات الأحكام الأصوليَّة الآليَّة للفقه وهي الَّتي منها ما يعرف بقواعد مباحث الألفاظ وغير البعيدة عن أفكار الفقهاء والأصوليِّين من ذوي الطموح للوصول إلى ما توصَّل إليه الفقهاء المحنَّكون.

الثَّاني: آيات القواعد الفقهيَّة الَّتي يُنظر فيها علميَّا عند محاولة التَّطبيق لصالح الفقه، هل هي على كفاءة ليستثمر من وراءها بعد تأكُّدها بالمباشرة تيسير معرفة أحكام الله بما هو أسرع من القواعد الأصوليَّة ومحل النَّظر الاجتهادي والبت فيها بين الاجتهاد الفقهي والتَّدقيق الأصولي الخاص بالآيات أم لا؟.

الثَّالثة: آيات الفروع الفقهيَّة ممَّا عُثر عليه أو ما يؤمل أن يُعثر عليه من تلك الآيات من قبل المتتبِّعين قديما وحديثاً في نصوصها الدَّالَّة على الأحكام كليِّها وجزئيها ومنطوقها الظاهري ومفهومها المعمول به وغير ذلك وإلى حدِّ وصول استغناءنا عن تفاصيل هذه الثَّالثةوتفاصيل تطبيقاتها العمليَّة الفقهيَّة الاستدلاليَّة، لأنَّها معدَّة لكتاب التَّفاصيل المشار إليه من موسوعة آيات الأحكام.

فلم يلزم ذكره من الأثنين الأخيرين إلاَّ بنحو الاختصار المناسب الَّذي لا يخرج كتاب الأصول عن طوره.

فما بقي إذن إلاَّ ما يخص النَّواحي الأصوليَّة وما يرتبط بها من بعض القواعد الفقهيَّة مع خصوص هذا القسم الأوَّل.

فالمحل الأنسب لعرضها فيما يأتي هو نفس ما يتعلَّق بالكلام الرَّئيس عن كتاب الله من آيات أحكامه في مثل كم الآيات الأصوليَّة والفقهيَّة - قواعد وآيات فرعيَّة - وكيفها كذلك، من مثل بحوث مباحث الألفاظ السَّابقة على بيان أركان الفقه من الأدلَّة الأربعة المتعارفة.

ص: 74

ممَّا لابدَّ أن ينوَّه عنها في الأصول وإن لم يقتصر عليها كبحوث المشتق والأوامر والنَّواهي والعموم والخصوص والمطلق والمقيَّد والمجمل والمبيَّن وغير ذلك من المواضيع المطروحة اللائقة بالأصول المهذَّبة.

ويلحق بمورد الكلام هذا بعد الكتاب العزيز - وتيسير نفس القضيَّة من مجملها إلى مبسِّطها ولو ببعض الكلام عن المصدر الثَّاني - هو السنَّة الشَّارحة الواردة عن العترة الطاهرة عَلَيْهِم السَّلاَمُ وما يتبعها من المؤيَّدات من الطرق الأخرى، حيث تحل فيه بحوث مهمَّة جدَّاً.

منها ما نوَّهنا عنه من أمور آيات الأحكام وما يتعلَّق بها أو يخصُّها في الأحاديث.

ومنها ما يتعلَّق بأمور تصحيح الواردات من الرِّوايات للأخذ بها وفصلها عن الغير مثل أمور الرِّجال والأسانيد والمتون رواية ودراية وغير ذلك.

ممَّا لولاه لما قدر الفقيه المتبِّحِّر ولا الأصولي المطبَّق معه في اعتدال وتهذيب أن يحكم السَّيطرة على الفهم المقبول الَّذي لابدَّ أن يكون صاحبه مفلحاً لتصديق كلام الله من آيات أحكامه لهذا الفهم أو موافقته بما يبرئ ذمَّة صاحبه.

وهكذا ما بعدها ممَّا تقوى به حجَّتا الكتاب والسنَّة وهو الإجماع وهو الثَّالث من الأركان.

وإلى حدِّ أن يكون من بعد هذه الأمور الأصوليَّة ممَّا يتوسَّع الكلام فيه عن الاحتجاج بكتاب الله ولو إلى حدِّ جعل الآيات الإرشاديَّة ومعها الرِّوايات الشَّريفة المقويَّة للاحتجاج بها في أمر إمكان جعل الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل عاملاً من عوامل إبقاء الشَّرعيَّة للأمور الَّتي لا دلالة صريحة من الأدلَّة على ثبوت حكمها كما في الاستصحاب ودقَّة حالاته عند الشَّك وبراءة الذمَّة عند الشَّك في أصل التَّكليف ومشغوليَّتها عند الشَّك في المكلَّف به ولو احتياطاً وأصالة الحليَّة في الشَّيء فيما لم يعلم حكمه من مدرك بعينه على ما سوف يأتي الكلام والإتمام فيه بتوفيق الله تعالى.

ص: 75

المدخل العاشر

التَّقيَّة وكون استنباط الحكم الشَّرعي الواقعي أو حتَّى الظَّاهري أصوليَّاً مانعاً أم لا؟

إنَّ الحديث عن هذا الموضوع يحتاج في بدايته إلى مقدِّمة عن المعنى اللُّغوي والاصطلاحي والمقارنة بين المعنيين ثمَّ من بعده يأتي عن ذي المقدِّمة.

فالتَّقيَّة في نظر علماء اللُّغة وجامعي القواميس حيث جاء في بعض كتبهم أنَّ مصدر (اتَّقيت) هو (الاتِّقاء) حيث قال في المصباح المنير (اتَّقيت الله اتِّقاء والتَّقيَّة والتَّقوى اسم منه والتَّاء مبدلة من واو والأصل وقوي من وقيت لكنَّه أبدل ولزمت التَّاء في تصاريف الكلمة والتقاه مثله وجمعها تقى)(1).

وقال في مجمع البحرين ما هو نظير ما في المصباح (والتَّقوى فعلى كنجوى والأصل فيه وقوى من وقيته: منعته قلبت الواو تاء وكذلك تقاه والأصل وقاه، قال تعالى [إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً](2) أي اتِّقاء مخافة القتل وجمع التَّقاة تقي كطلي للإعتاق وقرء تقية والتقية والتقاه اسمان موضوعان موضع الاتِّقاء)(3).

أقول: وممَّا يؤيد أو يؤكِّد هذا نظر بعض علمائنا على أنَّ التَّقية وما ساواها اسم لاتَّقى يتَّقي، لأنَّها تحمل في جعبتها نتيجة الحدث، لا ما يحمله الثَّالث في التَّصريف وهو نفس المصدر وهو الاتِّقاء كما في هذين المصدرين اللُّغويَّين المهمَّين من العامَّة وهو المصباح والخاصَّة الإماميَّة وهو المجمع.

ص: 76


1- المصباح المنير 2: 922 الطبعة السَّابعة.
2- سورة آل عمران / آية 28.
3- مجمع البحرين 1: 452 الطبعة المحقَّقة الثَّانية.

وهو ما اعتبره الشَّيخ الأعظم الأنصاري قدس سره لغويَّاً حيث مال إلى هذا الرَّأي، دون أن يعتبر هذه الكلمة وما ساواها مجرَّد كونها مصدراً.

ولعلَّه ينسجم مع مصاديق ما يحمله الكثير من روايات أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ كقولهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ (التَّقيَّة من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقيَّة له)(1) و (لا دين لمن لا تقيَّة له، ولا إيمان لمن لا ورع له)(2) و (اتَّقوا على دينكم فاحجبوه بالتقيَّة، فإنَّه لا إيمان لمن لا تقيَّة له)(3) و (التقية ترس المؤمن، والتقيَّة حرز المؤمن)(4) و (ليس منَّا من لم يلزم التقيَّة ويصوننا عن سفلة الرعيَّة)(5) و (التقيَّة من أفضل أعمال المؤمن يصون بها نفسه وإخوانه عن الفاجرين)(6) وغيرها من الرِّوايات.

وعلى الأخص ما يشابه الرِّواية الأولى الَّتي فيها ذكر الآباء المنتهي إلى إبراهيم الخليل الحنيفي عَلَيْهِ السَّلاَمُ الَّذي لم يخرج معنى التقيَّة لغويَّاً عن معنى العموم المتطابق مع معنى الخصوص الآتي ولو في الجملة، لوجود وجه شبه بين عهدي القديم والحديث فيما ألمحت إليه بعض الكتب اللُّغويَّة الجامعة، ولأنَّ ما بين عهدنا وتلك القديمة تشابه ولو بالنَّحو الإجمالي بمثل الصَّلاة والصَّوم والحج والزَّكاة وغير ذلك.

وكانت بقيَّة تلك الأحاديث عنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ ملحقة بالرِّواية الأولى، سواء من مواقع الابتلاء العام من مثل عموم الأعداء كفَّاراً وغيرهم أو الخاص من بعض المذاهب المخالفة.

ص: 77


1- أصول الكافي 2: 219/ 12، باب التقيَّة.
2- صفات الشيعة / الشيخ الصدوق : 3/ 3.
3- أصول الكافي 2: 218/ 5، باب التقية.
4- أصول الكافي 2: 221/ 23، باب التقية.
5- أمالي الشيخ الطوسي 1: 287.
6- تفسير الإمام العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ 320/ 163.

لكنَّه إمَّا بناءاُ على أنَّه عَلَيْهِ السَّلاَمُ ألحق أمرهم في الرِّوايات الماضية بالعموم كما في قاعدة (لا ضرر) الواردة في البدء فيما بيننا وبين أهل الكفر - كما في قضيَّة شروط صلح الحديبيَّة لإراءة الكفَّار أساليبنا العامَّة الاصطلاحيَّة العادلة وإن كانوا لعنادهم على بعض الوجوه يستحقُّون القتل، فصبر النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم لهم للحكمة الإلهيَّة الأبلغ من القتل حتَّى لو كان مقدوراً - أو فيما بين المسلمين أنفسهم قبل رسوخ المعاني الاصطلاحيَّة الآتية كسمرة ابن جندب الَّذي مارس العناد والتَّمرُّد وقلع نخلته صاحب الدَّار.

وإمَّا أنَّ المعنى اللُّغوي والشَّرعي قد يلتقيان كما يأتي، ليتطابق مع خصوص المسلك اللُّغوي، وهو ما يمكن أن ينسجم مع كثير من الآيات العامَّة كقوله تعالى [وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ](1) وقوله [وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ](2) وقوله [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ](3) وغيرها، لأنَّ من معانيها التَّحفُّظ عن كل ضرر والاتِّقاء من كل ما يخاف ويختشى دينيَّاً كان أو دنيويَّاً.ولكن عند مراجعة بعض الكتب اللُّغويَّة الأخرى قد نجد ما قد يبرِّر الميل إلى كون التَّقيَّة ليست إلاَّ مصدراً حسب، وهي مصدر تقيَ يتَّقي لأنَّها الثَّالث في تصريف الكلام، واسم مصدرها الحامل لنتيجة الحدث هو التَّقوى، إلاَّ أنَّها مصدر ثاني لا أوَّل حيث قال في القاموس (واتَّقَيْتُ الشيءَ وَتَقيْتهُ أتَّقيه وأتْقِيه تُقىً وتَقِيّةً وتِقاءً ككساء حَذِرْتهُ، والاسم التَّقْوى)(4).

وقال ابن منظور في لسان العرب (وقد توقَّيتُ واتَّقَيتُ الشيء وتَقَيْتهُ أتَّقيه واتْقِيه تُقىً وتَقِيّةً وعن اللحياني أن تقاء هي الثَّالث في تصريف الكلام بمعنى حذرته وأن اسم

ص: 78


1- سورة البقرة / آية 189.
2- سورة البقرة / آية 197.
3- سورة النساء / آية 1.
4- القاموس المحيط 4: 582 الطبعة الأولى.

المصدر في الجميع هو التَّقوى باعتبار أن التَّاء بدل من الواو والواو بدل من التَّاء)(1).

وقد تنبَّه إلى اختيار هذا الأمر سيدنا الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره في تقريرات بحوثه من التَّنقيح للأستاذ الشَّيخ الغروي قدس سره(2).

وممَّا ذكره ابن منظور من الأحاديث النَّافعة في الدِّلالة على العموم اللَّغوي قوله (وفي الحديث ""قلت وهل للَّسيف من تقيَّة قال نعم تقيَّة على إقذاء وهدنة على دخن"" وهو المفسَّر باتِّقاء بعضهم البعض الآخر مع إظهار الصُّلح والاتِّفاق وكون الباطن بخلاف ذلك)(3).

فأقول بعد ذلك: بناءاً على براءة الكتب اللُّغويَّة المعتمدة - فيما تنقل عن مصادرها الموثوقة عند أصحابها وعند أهل الخبرة من الأعلام الماضين لو لم يظهر شيء من علائم الأرجحيَّة بين الرأيين الماضيين ولو بحسب الظاهر في هذه العجالة وعلى أي تقدير وبالأخص حينما لم يظهر ما بين اختياري العلمين المهمِّين من أعلامنا ما يضر في النَّتيجة المختارة لو توحَّدت -

فالتَّقيَّة أو التَّقوى أو الاتِّقاء لابدَّ أن يكون لها معنى عام وهو اللُّغوي الَّذي لم يتقيَّد بتعاليم شرعنا العظيم بتمام الدقَّة وإن شمل بعض مصطلحاته في بعض أو كثير الأحيان، بناءاً على القول بالحقيقة المتشرعيَّة دون الشَّرعيَّة على ما مرَّ ذكره من الاستشهاد ببعض الرِّوايات والآيات والمعاني العامَّة وما تعطيه أسماء المصادر من نتائج أحداثها.

وأمَّا المعنى الخاص فلم يظهر كذلك في هذه المصادر اللغُُّويَّة، إلاَّ ما إذا فصل بين اللُّغوي والاصطلاحي الشَّرعي تفصيل افتراق تام، وهو الَّذي لم يتطابق إلاَّ مع الحقيقة

ص: 79


1- لسان العرب 15: 378 الطبعة الأولى بتصرُّف.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى 5: 253 الطبعة الثانية.
3- لسان العرب 15: 41 بتصرُّف.

الشَّرعيَّة الآتية.

ولكنَّه لم يُرد منه هذا المعنى بدوام لإمكان دخول هذا الخاص بالعام اللُّغوي الَّذي كُدِّس فيه المعلومات أو الَّتي ما صرِّح فيها بأي معلوم خاص إلاَّ بعد التَّعرُّض على المصطلح الخاص وتبيَّن أنَّ العموم الَّذي فيها بشمله ولو استعمالاً بالمساواة.

وهذا هو الأهم كما يلوِّح ممَّا ذكره ابن منظور من الأحاديث النَّافعة وهو كتاب لغوي واستشهاده بالحديث تحت ظلَّه لغويَّاً.

وأمَّا التَّقيَّة في الاصطلاح فبعد بزوغ شمس الشَّريعة المقدَّسة بعد إشراقة عقائدها الحقَّةظهر من تعاليمها ما قد يختلف بالقصد والكيفيَّات والكميَّات وإن تشابه بين العرف اللُّغوي العام وبين العرف الشَّرعي الخاص على ما حدَّدناه الآن كما مرَّ من نقل ابن منظور للحديث الماضي وما عرف عن شيخنا المفيد "أعلى الله مقامه" من قوله (إنَّ التَّقيَّة كتمان الحق، وستر الاعتقاد فيه، ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدِّين والدُّنيا)(1) وهو ما يجمع فيه رأي العامَّة والإماميَّة.

ويؤكِّده تعريف شيخنا الأنصاري لها بأنَّها (الحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق)(2).

ويزيد في الألفة بين الجهتين من العامَّة والخاصَّة أكثر ما قاله السَّرخسي الحنفي عنها في الاصطلاح حيث قال (والتقيَّة: أن يقي نفسه من العقوبة، وإن كان يضمر خلافه)(3).

وبمثل هذا التَّعريف جاء عن بعض علماء العامَّة منهم ابن حجر العسقلاني في فتح الباري(4) وعز الدِّين ابن عبد العزيز ابن عبد السَّلام السَّلمي في قواعد الأحكام في

ص: 80


1- تصحيح الاعتقاد / الشيخ المفيد : 66.
2- التقية / الشيخ الأنصاري : 37.
3- المبسوط / السرخسي الحنفي 24: 45.
4- فتح الباري بشرح صحيح البخاري 12: 136.

مصالح الأنام(1)، وهكذا الآلوسي في روح المعاني(2) والمراغي في تفسيره(3) ومحمَّد رشيد رضا في تفسير المنار(4) وغيره، وكأنَّ الأمر متَّفق عليه بين الإماميَّة وغيرهم.

ولعلَه يظهر منه حتَّى ما يدل على تجويز الجميع ارتكاب ما يحتاج إليه من هذا التَّوجيه عند الحاجة الماسَّة والاضطرار إليها، بل إنَّه مستعمل عندهم جميعاً إلاَّ ما قد يتفاوت بين الإكثار المثير للأزمات بسبب التَّملُّق كثيراً في التَّقيَّة بما لا داعي له وعنه قد يدوم بطش الظالم كثيراً والقلَّة المخلَّة بشرف الأتقياء حينما لم يقدروا للحاجة قدرها الَّذي لم ينتقد به الإماميَة فقط بل شمل الكل في الكل كدلالة القرآن عمَّا سبق من عهد موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ من خروجه خائفاً يترقَّب وقضيَّة مؤمن آل فرعون الَّذي كان يكتم إيمانه ثمَّ تجاهر بالنَّصيحة عند انتهاء شدَّة الأزمة، وهكذا ما ابتلي به نبيُّنا صلی الله علیه و آله و سلم من أمر الدَّعوة السريَّة وبتجاهره عند انتهاء مقتضيها وعدم المانع أو لزومه من المجاهرة.

وهو ما لم يمكن إنكاره حينما يحسن الظن بالجميع من أهل العقل والدِّين والإنصاف إلاَّ ما قلَّ وندر بأنَّهم لم يتركوا الاستفادة من دلائل الآيات المناسبة للمقام عند الابتلاء بها كقوله تعالى [مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ](5) وقوله [فَمَنِ اضْطُرَّغَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ](6) وما الَّذي قلَّ وندر إلاَّ أولئك المكفِّرة الَّذين يشِّهرون بالإماميَّة لكونهم في نظرهم المعادي يدَّعون بهتاناً بأنَّهم يسترخصون أحكام الإماميَّة الأصيلة عندهم ويلتزمون بأحكام التقيَّة الَّتي لم يعتقدوا

ص: 81


1- ج1: 107.
2- ج3: 121.
3- ج3: 137.
4- ج3: 280.
5- سورة النحل / آية 106.
6- سورة البقرة / آية 173.

بها أنَّها الجائزة منها عند التَّقيَّة، وهذا في شبهتهم ضدَّنا مخالف للتَّطبيق المشروع، بينما مذاهبهم الأربعة في أزماتهم الخاصَّة بهم قد مر الكثير والجم الغفير من هذا الإدِّعاء الَّذي يعود عليهم أكثر فأكثر فيما بينهم، ونحن في تقيُّدنا بالشَّرع عند الاضطرار أنقى وأثمر لاعتبار أنَّ الضَّرورة تُقدَّر بقدرها لا كما يُفترى علينا.

وبعد ذكر المعنيين اللُّغوي والاصطلاحي للتَّقيَّة وما يتبعها والاكتِّفاء بما عرضناه بدون داعٍ للمزيد عليه لابدَّ من التَّفكير بالعلاقة بينهما في أنَّها كانت بنحو المساواة كما ألمحنا بشيء من ذلك آنفاً أو بنحو العام اللُّغوي والخاص الاصطلاحي الَّذي لم يخرج عن التَّلاقي ولو في الجملة كما سيأتي، وكلا المعنيين لابدَّ أن ينسجما مع القول بالحقيقة المتشرعيَّة الآتية إلاَّ المعنى الثَّالث وهو عدم الانسجام الكامل عند القول بالحقيقة الشَّرعيَّة الآتي ذكره في أمور الباب الثَّاني وهو الَّذي سوف يتبيَّن فيه المطلب بما هو أوضح وأمتن.

وبعد هذا كلِّه علينا أن نبيِّن المراد من عنوان البحث وهو أنَّ التَّقيَّة حينما كانت مشروعة ولو في الجملة ولنفرضها أيضاً كذلك لا تفضيلاً هل يمكن القول بمنع استنباط الحكم الشَّرعي الواقعي أو حتَّى الظاهري أصوليَّاً أم لا؟ والمجتهد لا محالة هو أحد المكلَّفين، بل هو المرموق من بينهم لعلمه أنَّ جميع الشَّرائط المتوفِّرة يه تفرض عليه السَّعي الجاد لتحقيق الأحكام أصوليَّاً لنفسه وغيره.

فنقول: لابدَّ من القول بأنَّ الحكم الإلهي الشَّرعي في أساسه ما جاء في واقعيَّته مع تبيُّن مداركه وظاهريَّته مع تبيُّن مداركه بالمرتبة الثَّانية عند الانسدادات المناسبة إلاَّ على أساس الحريَّة المعطاء إلهيَّاً للبشر، وأهمُّهم دعاة الاعتدال والاستقامة وعندنا في المنظور الشَّرعي هم الأنبياء والرُّسل وأولوا العزم وأوصياءهم.

وما نحن فيه الآن هو قضيَّة الخاتم صلی الله علیه و آله و سلم وشريعة الإسلام ومن ناب عنه من الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ وبعد غيبة الإمام الثَّاني عشر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ ومجيء النَّواب الأربعة (رض) وانتهاء دورهم

ص: 82

ومجيء نيابة الفقهاء الكرام العامِّين لابدَّ من تفكيرهم الاجتهادي الدَّائم عند الحاجة إلى حل المشاكل الشَّائكة على أساس من تلك الحريَّة التَّامَّة، لا ذل عداوة هذا وذاك أو معاداة غيرهم من الأحرار المؤمنين في العالم من قبل الطغاة والظلمة.

وما استعباد البشر للبشر أو ما يشبه ذلك من غطرسة الطَّواغيت والفراعنة على الشُّعوب أو أبعاضها في كثير من الفترات أو بعضها إلاَّ قضايا طارئة ما أنزل الله بها في مقابل الشَّرع الشَّريف والدِّين الأصيل الحنيف من سلطان.

وما ورد من جواز التَّقيَّة للحفاظ على الحياة والخلاص من الأعداء أو وجوبها فهو من كونها المقدَّرة بقدرها عند الاضطرار إليها، وما أن انتهى دورها ينتهي ذلك التَّكليف بها ليرجع ذلك التَّكليف الأوَّلي لأولئك الأحرار وبما كان عليهم على أولَّيته وعلى نفس طغاتهموفراعنتهم لو كانوا يعقلون.

ولا يذهب على السَّطحيِّين من أهل الإنصاف بأنَّ أحكام التَّقيَّة من الواقعيَّات المطابقة لأدلَّة العامَّة وكما يريدون، لأنَّها غير المعتمدة عندنا إماميَّاً، وإنَّما يشهِّر بعض العامَّة بنا إذا التزمنا بها تقيَّة لأنَّهم يعتبرون ذلك منَّا تزلُّفاً ونفاقاً لا كما نعتبره وقاية واستكفاء من شرِّ أهل الشَّر منهم، لأنَّ الواقعيَّة في خصوص أدلَّتنا في مواقع الحريَّة والاختيار لا في موارد الإكراه والاضطرار.

وأمَّا الرِّوايات الَّتي قالها أئمَّتنا عَلَيْهِم السَّلاَمُ في موارد الضَّرورة فهي وإن كانت صحيحة السَّند ومعتبرة عندنا لكونها ذات علاقة بالحكم الثَّانوي لا الواقعي الأوَّلي، إذ متى ما انتهى دورها لابدَّ من البناء على ذلك الواقعي الأوَّلي وعلى ضوء أدلَّتنا الثَّابتة في أصولنا.

ولا يذهب على هؤلاء أيضاً أنَّ أحكام التَّقيَّة من نوع الظاهريَّة حينما كانت الواقعيَّة غير متيسِّرة، فإنَّها وإن كانت كذلك في وجه إلاَّ أنَّها لا بمعنى الظاهريَّة الدَّائميَّة البديلة عن الواقعيَّة الدَّائميَّة لو لم تتيسَّر، بل إنَّ ظاهريَّتها بمعنى الحكم الظاهري

ص: 83

الثّانوي المناسبة.

وستأتي تفاصيله تباعاً على ضوء ما نعرضه من الأصول.

المدخل الحادي عشر

أصالة عروبة الدَّليلين اللَّفظيَّين ولوازمهما بين المولوي الاجتهادي والإرشادي الفقاهتي دون غيرها

حديث هذا الأمر طويل عريض في ظرافته المعنويَّة والأدبيَّة العامَّة والخاصَّة نذكره ولو كمقدِّمة لمباحث الألفاظ الآتية، وسوف نبيِّن منه المهم وندع الباقي في مناسباته الخاصَّة به، ولعلَّ من ذلك ما يكون موقعه في نفس هذه الموسوعة الأصوليَّة للفقه من المقامات الأخرى الآتية وما حشر فيها من مهمَّات أصول آيات الأحكام.

فبعد تفاوت الأقوال التَّأريخيَّة - أو عدم صفاءها على الإجمال وإن لم يكن التَّأريخ بحدِّ نفسه حجَّة تامَّة تثبت الآصالة لأصول اللَّهجات اللِّسانيَّة واللَّغات البيانيَّة، إلاَّ ما أنبأ به الوحي الإلهي من الإشارة المحتاجة إلى التَّفصيل الآتي في مقامه -

بين كون اللَّفظ الأدمي كان من أي لغة من اللَّغات حتَّى تكون الآصالة فيها بادية منها وفعَّالة فيها ليرجع إليها أو لا يعاب عليها حينما جاء القرآن عربيَّاً في اعتبارها بما قد يغايرها كيف إن كانت اللُّغة عربيَّة ولو بأن لم يمنع هذا التَّأريخ من الأخبار بالعربيَّة إن كان عدم المنع داخلاً في حلقة الظَّن المأخوذ به بين العقلاء وأهل العلم في نسبه المرجِّحة للأخذ به.

وبين كون اللَّفظ الآدمي كان من خصوص لغة العرب كما لم يكن ذلك غريباً لثبوت استعمال هذه اللَّغة من بين اللُّغات قبل نزول الوحي القرآني بل مألوفيَّة كونها اللُّغة الخاصَّة لقوميَّة العرب وبما قد يزيد على كونها كانت على نحو خصوص

ص: 84

الاستعمال الخاص حسب بعد ثبوت أساسيَّاتها وثوابتها قديماً بمثل الوضع السَّابق عليه بما سيأتي قريباً وغيرهما كالمخلوطة.

كان لزاماً علينا ولغرض الوصول في مثل هذا الأمر الهام على ما سيتَّضح بيانه إلى ما به الاعتقاد الجازم.

ولغرض التَّطبيق في الميدان العملي في المجالات الكثيرة المهمَّة لغويَّاً وعلى مستوى ما ذكره أو ظنَّه المؤرخون مع الاحترام للمهمَّات من اللُّغات الأخرى من رجحان اللُّغة العربيَّة، بل تعيُّنها عند أهلها على الأقل أو لا أقل من عدم البأس فيها لهم وللآخرين ومنها ما يلي:

1 - أنَّه قد نصَّ بها في الوحي القرآني الإعجازي المتواتر من كون هذه اللُّغة هي المشار إليها في أحد التَّوجيهات في ضمن ما يراد من قوله تعالى [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء](1) أي اللُّغات، وما جاء بها في القرآن لأهميَّتها إلاَّ باللُّغة العربيَّة وإن فُسِّرت بالمعصومين الأربعة عشر قدس سره.

ومن كونها كما هي عربيَّة كانت لغة أهل الجنَّة بعد أن قال الله تعالى لآدم [وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ](2) بعد حديثه تعالى العربي كذلك مع الملائكة عند أمره لهم بالسُّجود لآدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وتحقَّق سجود الملائكة إلاَّ إبليس.

ولأنَّ آدم قدس سره أوَّل من نطق بها في الدُّنيا بعد نزوله إلى الدُّنيا بسبب الأكل من الشَّجرة، حيث دعا الله ومعه زوجته بعد أكله من الشَّجرة أن يغفر له ولزوجه بقوله تعالى [قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ](3).

ص: 85


1- سورة البقرة آية / 31.
2- سورة البقرة / آية 35.
3- سورة الأعراف / آية 23.

وما دار من الكلام فيه بين قابيل وهابيل قبل القتل وبين الأنبياء والرُّسل وأقوامهم وإلى حين نزول القرآن العظيم كما في القصص القرآنيَّة الحاكية عن ألسنة تلك الأزمنة الأولى.

بل إنَّ كلام الله كان جامعاً شمل كل الكتب السَّماويَّة السَّابقة الحاوي لكل العلوم والمعارف المسبِّبة لكل نحو من أنحاء الهدايات والدَّافعة لكل نحو من أنواع الشُّرور والبلايا بما يجعل هذا الظن لدى أرباب التَّأريخ قطعيَّاً في الأرجحيَّة بل يقينيَّاً على بقيَّة اللُّغات كما قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ](1).

كما عرف الكثير من ذلك عند المقارنة بين القرآن وبين الكتب التَّأريخيَّة الأخرى الَّتي تحكي عمَّا في الكتب السَّماويَّة أو بينه وبين ما بقي سالماً من تلك الكتب السَّماويَّة كما قال تعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ](2).وإن قيل: بأنَّ التَّأريخ لا حجيَّة في قراراته دوماً إلاَّ في حالات وجود ما به استدلال الفقهيَّات الاصطلاحيَّة معه؟

فنقول: أنَّه حين الوصول إلى تمام ما نريده فلابدَّ من وجوب الأخذ به كحالة الاستدلالات المولويَّة المتينة شرعاً، لعدم الفرق بين التَّأريخ وبين السِّيرة الشَّريفة لو تواءمتا أو تلاءمتا.

وإن قيل: بأنَّ القرآن مهما نُقل ما ظاهره تأييد كون اللُّغة العربيَّة أفضل من غيرها فهو محصور في الزَّاوية القرآنيَّة الَّتي عند المسلمين ومن يصدِّقهم فقط، لمطابقته للحق وإن قَّل النَّاصرون جهلاً عناديَّاً.

فلا فائدة من الفرض على الجميع من بقيَّة القوميَّات المعتزَّة بقوميَّاتها لغويَّاً؟

ص: 86


1- سورة النحل / آية 89.
2- سورة الأعراف / آية 157.

فإنَّا نقول: مضافاً إلى ما ذكرنا في آخر ما لو قيل بأنَّ اللُّغات الأخرى الَّتي جاءت على نهجها الكتب السَّماويَّة السَّابقة لضعفها أو عدم كفاءتها كانت تلك الكتب مصيرها التَّحريف، بينما القرآن كان عصيَّاً على الزَّنادقة والمحرِّفين ولذا قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ](1)، وإن حاول أعداء الخارج والمنافقون من الدَّاخل تحريف المعاني، لكونهم ما نجحوا كذلك ببركة حُجج الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ الدَّامغة لهم أيضاً.

بل إنَّ السنَّة الشَّريفة مع التَّأريخ المعاضد كانت خير عضد وحام للنُّصوص القرآنيَّة في قول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم المتواتر بين الفريقين بواسطة العترة المطهَّرة (أيَّها النَّاس; قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي)(2) وغيره.

ونزوله عربيَّاً لمن ينطق بالعربيَّة دون غيرهم من بعض الأعاجم كان مطابقاً للحكمة البالغة لقوله تعالى [وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ](3) أي لعدم علمهم السَّابق بالعربيَّة، لأنَّه كانت مسؤوليَّتهم التَّعلُّم ومسؤوليَّة دعاة الإسلام توفير المساعدات على ذلك.

أمَّا أولئك العرب فقد أسَّسوا قواعد العربيَّة بواسطة أمير المؤمنين قدس سره حيث علَّم أبا الأسود الدؤلي بقوله على ما ورد من طرق العامَّة والخاصَّة عن مولانا أمير المؤمنين قدس سره أنَّه (أمر أبا الأسود الدؤلي أن يدوِّن علم النَّحو وأملى عليه وأن ينحو نحوه بما نصُّه "الاسم ما أنبأ عن المسمَّى والفعل ما دلَّ على حركة المسمَّى والحرف ما أوجد معنى في غيره")(4) لتوسعة رقعة الإسلام بين جميع الأقوام.

ص: 87


1- سورة الحجر / آية 9.
2- الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59)، وأبو يعلى في مسنده ( 117) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).
3- سورة الشعراء / آية 198.
4- سير أعلام النبلاء ص 83، 84، 85، أعيان الشيعة / الأمين العاملي ج1 ص 162.

ولم ينجح من الأعاجم إلاَّ من عاشر العرب وأتقن قواعد هذا الأدب وصار فقيهاً متمكِّنا في باب الفقاهة وأصولها، حتَّى لو درس هذين العِلمين بلغته غير العربيَّة، فإنَّها لا تنفعه غاية النَّفع كانتفاعاته على ضوء المعرفة العربيَّة التَّامَّة.

2 - ثبوت ذلك التَّواتر القرآني لدى كل المسلمين فضلاً عن المؤمنين بل عن المؤمنينالأخص ومن الَّذين صدقوا فيما عاهدوا الله عليه وتفانوا في سبيل عروبته ومحكمات آياته وتبيُّن المحكمات من المتشابهات بواسطة إحكام أمرها بالآيات الأخرى الَّتي يفسِّر بعضها بعضاً وبالسنَّة بواسطة العترة وما وافقها وأيَّدها من غيرها تفسيراً وتأويلاً في أصول الفقه وفروعه من آيات الأحكام وهبوط معنويَّات الزَّنادقة وفشلهم الذَّريع أيَّام الإمام الصَّادق قدس سره لمَّا رأوا إعجازه القرآني وعلى يديه في سديد إجاباته على شبهاتهم بعدما لم يقدروا على ادِّعاء ذلك التَّهافت اللَّفظي المزعوم فيه وكذا المعنوي -

وكان من قضيَّتهم ما جاء في الاحتجاج(1) عن هشام بن الحكم قال:

(اجتمع ابن أبي العوجاء وأبو شاكر الدَّيصاني الزِّنديق وعبد الملك البصري وابن المقفَّع عند بيت الله الحرام يستهزءون بالحاج و يطعنون بالقرآن.

فقال ابن أبي العوجاء: تعالوا ننقض كل واحد منا ربع القرآن وميعادنا من قابل في هذا الموضع نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كلَّه، فإنَّ في نقض القرآن إبطال نبوَّة محمد وفي إبطال نبوَّته إبطال الإسلام وإثبات ما نحن فيه.

فاتَّفقوا على ذلك وافترقوا، فلما كان من قابل اجتمعوا عند بيت الله الحرام.

فقال ابن أبي العوجاء: أما أنا فمفكِّر منذ افترقنا في هذه الآية [فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا](2) فما أقدر أن أضمَّ إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئا فشغلتني هذه الآية عن التفكُّر فيما سواها.

ص: 88


1- الاحتجاج / الطَّبرسي، ج 2، ص 142 - 143، ط النَّجف الأشرف.
2- سورة يوسف / آية 80.

فقال عبد الملك: و أنا منذ فارقتكم مفكِّر في هذه الآية [يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ](1) ولم أقدر على الإتيان بمثلها.

فقال أبو شاكر: و أنا منذ فارقتكم مفكِّر في هذه الآية [لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا](2) لم أقدر على الإتيان بمثلها.

فقال ابن المقفَّع: يا قوم إن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر وأنا منذ فارقتكم مفكِّر في هذه الآية [وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ](3) ولم أبلغ غاية المعرفة بها ولم أقدر على الإتيان بمثلها.

قال هشام بن الحكم: فبينما هم في ذلك إذ مرَّ بهم جعفر بن محمَّد الصادق عَلَيْهِما السَّلاَمُ فقال: [قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً](4).فنظر القوم بعضهم إلى بعض وقالوا: لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت أمر وصيَّة محمَّد إلاَّ إلى جعفر بن محمَّد، والله ما رأيناه قط إلاَّ هبناه واقشعرَّت جلودنا لهيبته ثمَّ تفرَّقوا مقريِّن بالعجز).

3 - إذعان الكثير من الأدباء حتَّى من غير المسلمين أخيراً بعد انبهار الوليد ابن المغيرة (لع) وغيره قديماً، حينما أتقن أولئك الأدباء علوم اللُّغة والصَّرف والنَّحو

ص: 89


1- سورة الحج / آية 73.
2- سورة الأنبياء / آية 22.
3- سورة هود / آية 44.
4- سورة الإسراء / آية 88.

ومخارج الحروف النَّحويَّة والمعاني والبيان والبديع الَّتي عظمت قواعدها المتقنة مقام القرآن فآمنوا، بل سبَّب ذلك هداية الكثير منهم إلى إتقان الإيمان به على طول الزَّمن طوعاً لا كرهاً.

4 - وممَّا أمكن بعد ذلك الاستناد إلى آياته الَّتي منها آيات كثيرة تذكر، بل تؤكِّد عروبة القرآن بأجمعه في أسماءه ومسميَّاته بمعنى عدم وجود العجمة فيه، أي كونه أنزل في قالب عربي أو ترجم بلسان عربي مبين وإن كان بمضامين تعد أوسع من الكتب السَّماويَّة السَّابقة، لتكون مشعَّة في أضواءها كل أجواء الملل والنِّحل الأخرى.

فمن الآيات الصَّريحة في ذلك قوله تعالى من سورة يوسف [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ](1) أي لأنَّ تمام ما به تمام التَّعقُّل عند أهل الأبصار وأحسن الحواس والبصائر.

وأثمر النَّتائج لن يتم إلاَّ بالمرور على عالميَّة أفضل اللُّغات أو أوسعها ظرفيَّة، وبدقَّة الظرافة واللَّطافة وذات الزَّوايا والخبايا الحاوية لكل المعاني الدَّقيقة مع قرائنها الصَّارفة ومعيَّنة المراد والمفهمة وعلى الأخص في الَّذين نزل الوحي فيما بينهم ولأجلهم بين المشركين العرب على أساس من قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ](2)، مع كون الرِّسالة عامَّة تصغر عندها لغات بقيَّة الأقوام احتراماً، لأصالة هذه اللُّغة العربيَّة بينما بقيَّة اللُّغات أهم شيء فيها التَّعبير عن الكليَّات ولا تراد فيها إلاَّ القرائن المقاميَّة كما سيتَّضح أكثر في آية مشابهة ونحو ذلك.

وقو له تعالى من سورة طه [وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا](3) بمعنى ما فيه من المرونة العربيَّة المبقية للمعنى

ص: 90


1- سورة يوسف / آية 2.
2- سورة إبراهيم / آية 4.
3- سورة طه / آية 113.

الوحيد الدَّائم أو أن يأتيهم بناسخ إذا كان القرار الأوَّل مؤقَّتاً حسب مقتضى المقام البلاغي في المعنى دون نسخ التِّلاوة والمفسَّر بالتَّخصيص لقوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا](1) أي بحيث لا تُسبِّب خللاً في القراءة السَّابقة بينما بقيَّة اللُّغات ليست فيها هذه المرونة على ما سيجيء في لغة موسى وهارون.

وقوله تعالى [قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ](2) أي وهو ما يراد منه الإفصاح الطَّبيعي للألفاظ ونفي العجمة الَّتي عن طريقها تلوى الألسن على غير الطَّبيعة وكما قال تعالى في ذمِّ من يلوي لسانه في قراءة القرآن [وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِلِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ](3) لأنَّ وحي الله معطاء فيصح بطبيعته بلا اختلاف عمدي.

بل إنَّ من حاول أن يزعم أن فيه العجمة حاول تفريعاً عن جعله من وضع البشر، لعدم ارتكاب حالة الإعجاز في ذلك لعدم الكفاءة بشريَّاً حتَّى لو جيء بها عربيَّاً.

بينما المجرَّب بين مئات الآلاف والملايين وملايين الملايين نجاح إفصاح الأعاجم على اختلافهم وبما يطابق إعجاز النَّص القرآني الكامل طول التَّأريخ وبما يُفتخر به لا كما يُطبَّل ويُزمَّر ضدَّ هذا الإعجاز، ولذا قال تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا](4) مضافاً إلى قوله [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى](5) وغيره.

ولأنَّ القليل في الآية الأسبق لو أهمل يمكن السَّيطرة عليه بعد التَّأمُّل من حالات

ص: 91


1- سورة البقرة / آية 106.
2- سورة الزمر / آية 28.
3- سورة آل عمران / آية 78.
4- سورة النساء / آية 82.
5- سورة النجم / آية 3.

التَّوجيه المقبولة أدبيَّاً حسب المتعارف في القواعد الخاصَّة في العلوم العربيَّة، وقوله تعالى [كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ](1) وهي الَّتي فيها رد لما قاله الجهلة الَّذين حكى عن حالهم القرآن الكريم من قوله [وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ](2) وما بعدها لجهلهم و (لأنَّ النَّاس أعداء ما جهلوا).

فإنَّ فيه دلالة واضحة على نفي العُجمة في القرآن الكريم حتَّى في تلفيق آياته بين العروبة والعُجمة بصيغة الاستفهام الإنكاري، إلاَّ ما كان مستعرباً في تسميته ممَّا كان أعجميَّاً في أساسه، مع أدلَّة نفي العُجمة الكثيرة الأخرى السَّابقة واللاحقة من القرآن وغيره وسبق علمه تعالى بذلك، ممَّا قد أوضحته الكتب السَّماويَّة السَّابقة كذلك بألسنتها الماضية المطابقة في أمَّهات المطالب لما في القرآن الكريم المحفوظ.

وأمَّا ادِّعاء أهل التَّيه والضَّلالة شيئاً أو بعض شيء منه باطلاً فمن الوقر في آذانهم، لأنَّهم (أعداء ما جهلوا) وإن نودوا من أقرب الأماكن.

بينما أهل الإيمان بما صحَّ قديماً وحديثاً قد صدَّقوا ويصدِّقون بعروبة هذه الآيات، لعوامل العروبة الثَّابتة أدبيَّاً وإن نودوا من الأماكن البعيدة.

وقوله من سورة الشُّورى [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا](3)، وفي هذه الآية شموليَّة معارف القرآن الكريم في إنذار الأقوام الأخرى وعدم الاقتصار على أهل هذه اللُّغة لكن بعد تعلُّمها بل وجوبه عليهم جميعاً، وجعل قواعدها من مقدِّمات مباحث الألفاظ مباني أصوليَّة لعلمائهم في الاستنباط من آيات الأصول والفروع ومعها الرِّوايات الشَّريفة أصولاً وفروعاً على ما سيتَّضح في محلِّه.

ص: 92


1- سورة فصلت / آية 3.
2- سورة فصلت / آية 44.
3- سورة الشُّورى / آية 7.

وقوله من سورة الزُّخرف [إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ](1) مثل آية سورةيوسف أي تعقلون دقَّة ما فيها من المنطوق والمفهوم ونحوهما من مختلف ما فيه من مضامين كافَّة المعارف، ومنها ما نحن بصدده بما أودعتم إلهيَّاً من الميزان العقلي المفرِّق بأدنى تأمُّل بين الحق والباطل كي لا يتلابسا.

وثمَّ إنَّ هذا الجعل الإلهي بعمومه وإطلاقه لا يدع ولن يدع أي مجال لأي زاعم بأنَّ فيه شيء من العجمة الملكِّأة لفهم تلك المعاني السَّامية.

كما وأنَّ [تعقلون] في الآية السَّابقة قابلة لفهم ما ذكرناه الآن وكذلك هذه الأخيرة قابلة لفهم ما ذكرناه عن السَّابقة.

وقوله من سورة الأحقاف [وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ](2)، بمعنى أنَّ القرآن في عروبته تصديق لما في التَّوراة ذات اللُّغة الخاصَّة قبل التَّحريف وزيادة بالتَّبشير للمؤمنين بعد ذلك الإنذار مع تبشيرات الإنجيل الأخلاقيَّة بعد ذلك به كإنجيل برنابا.

وإذا كان كتاب موسى قدس سره - التَّوراة - خير مدعاة للتَّصديق بما في قرآننا فلما فيها ممَّا في هذا القرآن العربي وغيره وممَّا فيها من الأحكام السَّالفة.

كما أنَّ قرآننا مدعاة للتَّصديق بتوراة اليهود لجمع الشَّمل السَّماوي والإسلامي العام لكل ديانات السَّماء باعتراف آياته لأهميَّة اللُّغة العربيَّة والإفصاح فيها بما اختار ه الوحي الإلهي من أحسن البيان وعلى لسان أفصح من نطق بالضَّاد صلی الله علیه و آله و سلم ولسان وصيِّه سيد الفصحاء والبلغاء عَلَيْهِ السَّلاَمُ جامع القرآن من بعده كما فعل ذلك في حياته.

وكان موسى قدس سره آنذاك يتوق أن تصل رسالته إلى جميع من في عالمه كما بشَّر بها السَّابقون من الأنبياء والرُّسل وإلى آخر يوم من الدُّنيا تحت ظل الإمام المنتظر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ

ص: 93


1- سورة يوسف / آية 2.
2- سورة الأحقاف / آية 12.

وبأفصح لسان، لأنَّه لم يتكلَّم بالعربيَّة أو لعارض يعيقه حيث حكى عنه القرآن في سورة طه والشُّعراء داعياً الله تعالى بقوله [وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي](1).

وما تمَّت دعوته إلاَّ بمؤازرة أخيه هارون قدس سره ذي السُّلطة التَّنفيذيَّة والحنكة البيانيَّة والتَّوضيحيَّة ولو بما يشبه العربيَّة في المؤدَّى العبري إن لم تكن هي نفسها، لأنَّه كما قال موسى قدس سره معترفاً بأفضليَّة لسان أخيه عليه فعلاً في قوله تعالى الآخر [وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا](2)، للعارض الطارئ من إيذاء فرعون له كأفضليَّة لغة الضَّاد على بقيَّة اللُّغات في الإفصاح.

وكما كان أمير المؤمنين قدس سره لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الخاتم في حديث المنزلة المتواتر بين الفريقين فإنَّ النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم ووصيِّه قدس سره هما الآيتان في الإفصاح ولسانا الكتاب والسنَّة الكاملان.

وهذه قضيَّة نوعيَّة لابدَّ أن تكون في كل لغة يراد منها الإفصاح، وبالأخص في القضايا الرِّساليَّة الخطيرة، ولذا عرف أصوليَّاً كلاميَّاً ب- (قبح العقاب بلا بيان).فلابدَّ من أن يكون الإفصاح الإعجازي للقرآن الكريم - وعلى لسان خيرة دعاته لما سردناه ونسرده من الأدلَّة الأخرى الآتية أفضل - مدعاة للتَّصديق به رغم حقد الحاقدين كما في التَّوراة غير المحرَّفة إن بقيت أو شيء منها حتَّى الآن.

ولا يمكن كذلك أن يقبل في لغة القرآن الخلط ولو بأقل نسبة من العجمة، ولذا كانت أفصحيَّة لسان نبي الرَّحمة صلی الله علیه و آله و سلم ووصيِّه عَلَيْهِ السَّلاَمُ ومن تلاه من بقيَّة العترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ أفضل حجَّة للتَّمسُّك بها في علم الأصول على ما سوف يجيء في البحث عن الحجَّة.

وقوله من سورة الشُّعراء[نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ

ص: 94


1- سورة طه / آية 28.
2- سورة القصص / آية 34.

بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ](1) أي أنَّه مخبر عنه غيبيَّاً إلهيَّاً في الكتب السَّماويَّة السَّابقة بكونه قرآنا عربيَّاً آتياً كما مرَّ بيانه سابقاً.

5 - ومع آيات عروبة القرآن آيات نفي الأعجميَّة عنه، وهي عديدة وبأساليب بيانيَّة متعدِّدة كقوله تعالى [وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ](2) وقوله تعالى [وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء](3)، وقوله تعالى [وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ](4) وقد مرَّ علينا قبل هذه الآيات ما لا تخفى على المتابع بإتقان.

6 - ومعها أيضاً الآيات المتلازمة مع أدلَّة العروبة تلازمها البيِّن وهي كثيرة جدَّاً كقوله تعالى من سورة إبراهيم [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ](5) أي ومن ذلك اللَّغة العربيَّة الَّتي في لسان نبيِّنا 2، لأنَّه من قريش وإن كان في عقيدتنا وعقيدة من يؤيِّدنا أو لا يمنع من ذلك أنَّه كان يعرف بقيَّة اللُّغات بإذن الله وأمره إن اقتضى المقام للامتثال أو التَّصدِّي لأعمال قدرته الإلهيَّة في أي لغة أخرى كما عرف عن الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من بعده كذلك إن أرادوا.

وقوله من سورة مريم [فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا](6) أي لأنَّ لسان النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم في أساسه كان عربيَّاً صالحاً للتَّبشير والإنذار معاً على

ص: 95


1- سورة الشعراء / آية 194 - 195.
2- سورة الشعراء / آية 199 - 200.
3- سورة فصلت / آية 44.
4- سورة النحل / آية 103.
5- سورة إبراهيم / آية 4.
6- سورة مريم / آية 97.

خلاف سيرة الأنبياء المكلَّفين بالإنذار فقط.

وقوله تعالى من سورة القيامة [لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ](1) أي قبل نزول الوحي المناسب لأسباب النُّزول من النُّجوم وإن كان حافظاً للقرآن في نزوله الكامل الأوَّل على صدره، لتكون المطابقة حاصلة دائماً بما هو أنسب، أو لئلاَّ ترد شبهة من الأعداء في التَّقولمنه صلی الله علیه و آله و سلم حاشاه منه، وهو ما أشار إليه قوله تعالى [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ](2)، كل ذلك لتثبيت خصوص كون ما أتى به النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم هو الوحي القرآني العربي [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى](3) وقوله [سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى](4) أي الآيات الأخرى كما أمره عَلَيْهِ السَّلاَمُ في البداية أن يقرأ سورة العلق.

وقوله من سورة القمر [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ](5) أي فهل من مغتنم للفرص بإدكار لنفسه من ذكره، لأنَّ القرآن في لفظه ومعناه ربيع القلوب.

وقوله من سورة آل عمران [هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ](6)، أي قريش وغير قريش عربهم وأعاجمهم، لإخضاعهم لمضامينه العربيَّة ولو بعد حين من التَّعلُّم.

وقوله من سورة القدر [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ](7)، والضمير عائد إلى القرآن

ص: 96


1- سورة القيامة / آية 16.
2- سورة الحاقة / آية 46.
3- سورة النجم / آية 3 - 5.
4- سورة الأعلى / آية 6.
5- سورة القمر / آية 17.
6- سورة آل عمران / آية 138.
7- سورة القدر / آية 1.

لمعلوميَّته الثَّابتة والكناية أبلغ من التَّصريح.

وقوله [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ](1) والضمير عائد إلى القرآن أيضاً لمعلوميَّته الثَّابتة وكالآية السَّابقة.

وقوله [الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ](2) وهو البيان العربي المعهود.

وقوله [إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ](3) أي جاء بهذه اللُّغة المعطاء.

وقوله [لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ](4)، أي فكيف بالعقول البشريَّة الميَّالة في طبيعتها وفطرتها ولو بشيء من التَّأمُّل إلى هضم المعاني الحقيقيَّة لإسعاد البشريَّة.

وغير ذلك من كثير الآيات المتلازمة مع صراحة الآيات السَّابقة عليها في التَّعبير عن عروبة القرآن تلازمها البين بسبب وفرة قرائن القرآن الَّتي لا تخفى على المتتبِّع والمطِّلع على علم المعاني والبيان وعلى قاعدة تفسير القرآن بالقرآن أو عموم تفسيره أو حتَّى بالسنَّة الَّتي تُعد الثِّقل الثَّاني بعد وحي الله القرآني في عروبتها من حديث الثَّقلين المتواتر بين الفريقين وغيره بلا أي حاجة إلى الإكثار منها بعد هذه النَّماذج الكافية.

7 - وكذلك ما ورد عن المخلوق والمكلَّف الشَّرعي الثَّاني وهم نوع الجن وهو قوله منسورة الأحقاف حكاية عنهم لمَّا عرفوا وحي الله العربي [قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ](5)

ص: 97


1- سورة الدخان / آية 3.
2- سورة الرحمن / آية 1 - 3.
3- سورة التكوير / آية 19.
4- سورة الحشر / آية 21.
5- سورة الأحقاف/ آية 30.

أي على ما هو عليه من بيانه العربي.

وقوله من سورة الجن [قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا](1).

وفي هتين الآيتين وغيرهما من الأدلَّة المناسبة تمام الرَّد لمن يدَّعي بأنَّ القرآن من تعليم الجن للنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم حاشاه.

وإذا كان النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم هكذا فكيف كان أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ والوصي والإمام من بعده معروفاً بإمام الإنس والجن، ولذا قال الشَّاعر عامر ابن ثعلبة في مدحه:

علي حبُّه جنَّة *** إمام الإنس والجِنَّة

وصي المصطفى حقَّاً *** قسيم النَّار والجنَّة

وكأنَّ رسالة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم المعطاء تكمن في خصوص كونه صلی الله علیه و آله و سلم عربيَّاً وكون رسالته كذلك بين القرشيِّين كما مرَّ في عبارة الآية وهي [وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ](2) وأمثالها.

أي أنَّه يؤكِّد على لزوم اتِّخاذ الشَّكل اللُّغوي العربي للخطاب والتَّداول فيه بأكثر من تأكيده على مضمونه وإن كان المضمون مهمَّاً جدَّاً خصوصاً في احتواء هذه اللُّغة لجميع جوانبه بأكثر من بقيَّة اللُّغات مهما استوعب بعضها من المعاني ما استوعب كما سبق بيانه.

لأنَّ القرآن فيه كل ما في الكتب السَّماويَّة السَّابقة من المضامين وزيادة كالتَّبشير بعد الإنذار دونها، لاقتصار تلك على الإنذار عدا الإنجيل الأخلاقي.

ويكفيه ما سبق ذكره من قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ](3)، للحاجة الآن إلى بثِّها عربيَّة، كما ورد في أوَّل الإرسال عربيَّاً، ولتذكير غير العرب بما

ص: 98


1- سورة الجن / آية 1.
2- سورة النحل / آية 103.
3- سورة النحل / آية 89.

ورد في كتبهم السَّماويَّة السَّابقة من الَّذين اهتدوا للتَّصديق به إسلاماً وإيماناً وعمقاً فيه والَّذين سيهتدون أو سوف يهتدون وللحاجة الماسَّة إلى تعلُّم اللُّغة العربيَّة كما هي الآن في رسميَّتها الشَّهيرة في العالم، لأنَّ تلك المضامين الملازمة لها لابدَّ أن تتبعها.

لكن ورد في مقابل هذا أمثلة على كلمات قرآنيَّة اعتبرت على رأي بعض أنَّها أعجميَّة مستفادة من لغات أخرى غير عربيَّة(1).

ومن هذه الألفاظ [الطور] بمعنى الجبل و[طفقا] بمعنى قصدا و[الرَّقيم] بمعنى اللَّوح و[هدنا] بمعنى تبنا و[طه] بمعنى طأطأ الأرض يا رجل و[سينين] بمعنى الحسن و[السِّجل] بمعنى الكتاب و[الاستبرق] بمعنى الغليظ و[السندس] بمعنى الرَّقيق من السَّتر و[السري] بمعنى النَّهر الصَّغير و[المشكاة] بمعنى الكوَّة و[الدُّري] بمعنى المضيء و[ناشئة اللَّيل]بمعنى الاستيقاظ من النَّوم ليلاً والقيام إلى الصَّلاة و[كفلين] بمعنى ضعفين و[قسورة] بمعنى الأسد بالحبشيَّة والحمار الهرم بالسِّريانيَّة و[وراءهم] بمعنى أمامهم و[أباريق] بمعنى أواني و[إنجيل] بمعنى بشارة و[تابوت] بمعنى صندوق و[جهنَّم] بمعنى وادي هنوم خارج القدس حيث كانت تحرق الأضاحي البشريَّة قرباناً للوثن مولوخ و[زنجبيل] بمعنى نبات و[سجيل] بمعنى طين متحجِّر و[سرادق] بمعنى سور أو فسطاط يجتمع فيه النَّاس لعرس أو مأتم وغيرهما و[سورة] بمعنى فصل و[طاغوت] بمعنى كل ما عبد من دون الله و[فردوس] بمعنى بستان و[ماعون] بمعنى أداة منزليَّة كالقدر والقصعة و[عليون] بمعنى منزلة عالية في السَّماء و[سجِّين] بمعنى موضع و[مرقوم] بمعنى مسطور واضح الكتابة و[أراءك] بمعنى مقاعد منجَّدة و[تسنيم] بمعنى عين ماء.

وأقول: إلى غير ذلك من أسماء الأنبياء والرُّسل من الأقوام غير العربيَّة كإبراهيم الَّتي أصلها بالأعجميَّة (ابراهام) وغيرهم.

ص: 99


1- على ما ورد في كتاب المتوكِّلي للسيوطي والإتقان له كذلك ج1 ص 139.

حتَّى تراءى للبعض أنَّ هذا يحكي تناقضاً بين فكرة وجود كلمات أعجميَّة في القرآن وأنَّه جاء منزَّلاً ومفصَّلاً بلسان عربي مبين.

وجوابنا في المقام: بعد التَّعريب أو التَّحوير إلى لسان تمام الحروف العربيَّة الهجائيَّة الثَّمانية والعشرين والاستعمال قلَّة أو كثرة لابدَّ من أن يُحسب على اللُّغة العربيَّة، وكما عُرف أنَّ الأسماء لا تعلل.

بل إنَّ هناك من الألفاظ ما لم يعرف لها منشأ استعمال، ومنها ما قد تمَّ تخريجه على نهج القواعد العربيَّة التَّجويديَّة والصَّرفيَّة ونحوهما، وكما مرَّ عن كلام أمير المؤمنين لأبي الأسود الدؤلي للخلاص من غزو الأعاجم للغتنا إن لم تكن لغتنا هي المؤثِّرة في بعض الأحوال فيظهر ما هو عربي عند الأعاجم وفي لغتهم لو استعمل عندنا أو عاد إلى عروبته أنَّه هو أعجمي استعمل عندنا، ولذا صرَّح الطَّبري والشَّافعي بعروبة هذه الألفاظ.

وأمَّا ما عرف في بعض الرِّوايات من اعتبار هذه الألفاظ أعجميَّة - كما عن ابن عبَّاس وعكرمة ومجاهد والسَّيوطي وغيرهم كما عرف أيضاً عن بعض المتصدِّرين عنوة من الصَّحابة -

فهو إمَّا على اعتبارها عربيَّة بعد التَّحوير والاستعمال أو أنَّها عربيَّة حسب إذا كانوا أقوياء في دين الله ولا يبغون سوى إسنادهم عروبة القرآن بأدلَّة ذلك أو مع سبق إصرار بعضهم على عجمته لها فهو من نفاق ذلك البعض.

لكونهم جهد إمكانهم أرادوا الخدشة فيه من هذا الأمر ونحوه على نهج أولئك المشركين الأوائل الَّذين حاولوا إضعاف حجيَّته وما قدروا.

فإن قيل: بأنَّ هناك ألفاظ غير مألوفة في لغتنا فلربَّما هي الدَّاخلة في العجمة؟

فإنَّا نقول: ليس كل عبارة نادرة هي أعجميَّة كما في بعض لغات العرب المتعدِّدة في لهجاتها بل بعضها عربيَّة أصيلة مستعملة كثيراً عند قوم وبقلَّة عند قوم آخرين، ومن

ص: 100

تلك ما قد تستعمل عند بعض الأعاجم وهي عربيَّة.

وكذا ما عُرف بندرة استعماله في النَّثر لربَّما كان مألوفاً في الشِّعر كما في المعلَّقاتوغيرها مثل كلمة (السجنجل) وهي لغة رومية، ومعناها: المرآة; وقد وردت هذه الكلمة في شعر امرئ القيس في قوله في المعلقة:

مهفهفة بيضاء غير مفاضة *** ترائبها مصقولة كالسجنجل

كذلك كلمة (الجُمان) وهي الدرة المصوغة من الفضة، وأصل هذا اللفظ فارسي، ثم عُرِّب، وقد جاء في قول لبيد بن ربيعة في معلقته:

وتضيء في وجه الظلام منيرة *** كجمانة البحري سلَّ نظامها

وأمَّا ما عُرف من استغراب أبي بكر وعمر وغيرهما -- باعتبار أنَّهما من أهل اللِّسان وأساسه كما حصل عندهما - حول كلمة [وَفَاكِهَةً وَأَبًّا](1)، حيث قال أبو بكر (أي سماء تظلُّني وأي أرض تقلُّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم)(2).

فجوابه:

أوَّلاً: بجرأتهما على الله ورسوله صلی الله علیه و آله و سلم حينما كانا يقولان (حسبنا كتاب الله)(3) - وقد أثبتت ذلك كتبهم - ويتركان العترة الَّتي منعا تدوين السنَّة عن طريقها، لأنَّها الَّتي تعرفهما كل شيء يجهلانه.

وثانياً: بأنَّ صاحب اللِّسان الأقوم وهو علي قدس سره وهو القرآن النَّاطق بمقولة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم الشَّهيرة فيه (علي مع القرآن والقرآن معه)(4) والَّذي جاء فيه عن زيد الشَّهيد، عن أبيه علي زين العابدين، عن أبيه الحسين سيد الشهداء عن أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي

ص: 101


1- سورة عبس / آية 31.
2- الدر المنثور للسيوطي ج 8 ص 421.
3- البخاري / ج: 8 ص: 138.
4- الصَّواعق المحرقة ص 76.

طالب عَلَيْهِم السَّلاَمُ : قال: (سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول وقد سئل: بأي لغة خاطبك ربُّك ليلة المعراج؟ قال: خاطبني بلسان علي، فألهمني أن قلت: يا رب خاطبتني أم علي؟ فقال: يا أحمد أنا شيء ليس كالأشياء، لا أقاس بالنَّاس، ولا أوصف بالشُّبهات، خلقتك من نوري، وخلقت عليَّاً من نورك، اطَّلعت على سرائر قلبك فلم أجد أحداً إلى قلبك أحب من علي بن أبي طالب، فخاطبتك بلسانه كيما يطمئن قلبك)(1).

أنَّه أجاب الأوَّل بأنَّ ما بعدها يفسِّرها وهو قول الله تعالى[مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ](2)، وأمَّا قول الثَّاني الأجرأ ممَّا سبق حيث قال ما يكفي في ردِّه المنبئ عن مقامه عن [أبَّا] بأنَّها جاءت بتكلَّف فترد إلى ربِّها.

وخلاصة كل ما سبق وعلى أساس هذه العروبة الَّتي لا غبار عليها بأي معنى قبلناه أنَّه لابدَّ وأن يكون القرآن وبالأخص آيات أحكامه حجَّة توجب علينا استغلال ثروته وعطاءه،ويلحق به السنَّة الصَّحيحة في كافَّة الأمور المولويَّة والارشاديَّة.

وأن نغتنم معالمهما على ضوء المعالم العربيَّة وقواعدها المرتبطة بمباحث الألفاظ كالأوامر والنَّواهي والعموم والخصوص والإطلاق والتَّقييد والإجمال والتَّبيين والنَّاسخ والمنسوخ المفسَّر بالتَّخصيص وكل ملازمات هذه الأمور لا على غير ذلك.

وإن كان المأمول من مدرِّسي الحوزة الأفاضل ممَّن لم يتقن العربيَّة أن يشجِّعوا على مزاولة هذه اللُّغة، فإنَّ إتقان هذه اللُّغة لابدَّ أن يزيد في فقاهة الفقيه بينما الَّذي لم يتقنها وإن قويت أصوليَّته لم يوفَّق عادة كما ينبغي لإتقان الفقاهة كمن أتقن هذه اللُّغة.

وأمَّا أمر النَّقل بالمعنى فهو ممَّا صحَّ ويصح في مجال ما يحتاج إليه من ذلك كما في

ص: 102


1- رياض السِّالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عَلَيْهِ السَّلاَمُ - السيد علي خان المدني الشيرازي - ج1 - الصفحة 32، وورد في مناقب الخوارزمي: 78 / الحديث 61، وينابيع المودة 1: 246 - 247/ الحديث 28، عن عبد الله بن عمر.
2- سورة عبس / آية 31.

النُّصوص القرآنيَّة الَّتي لم يستحضرها المرء فينقلها مضموناً إذا أتقن ذلك ليراجع بعده النَّص الأساس ويبني عليه بنفسه وكذلك السنَّة غير المحفوظة بنصوصها في مثل الآيات.

بل لا مانع من نقل رواة الرِّوايات مثل ما حصل بالمعنى كثيراً من قبل المعتبرين والموثوق من رواة الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ إذا طابق المعنى نفس معنى لفظ الإمام والقدر المتيقِّن ممَّا يحتمل فيه بعض الزَّوائد الَّتي لم تحقِّق بعد، على ما سوف يجيء تحقيقه في حينه من بحث الرِّوايات وعلاجات الأخذ بها سالمة أو بما يعوِّض عنها.

المدخل الثَّاني عشر

من أصول الاستنباط الشَّرعي

نثريَّة النُّصوص في الكتاب والسنَّة لا شعريَّتها

إنَّ من جملة حالات الإعجاز القرآني عموماً وفي آيات الأحكام خصوصاً - وأنَّه لا تناقض في القرآن كما سيجيء حتَّى لو توسَّعنا فيها من الأصول بكلا نوعيها اعتقاديَّة وفقهيَّة ولأصولِّي أهل التَّشيُّع وأهل التَّسنُّن للفقه المقارن إن أمكن إرساء دعائم التَّقريب بين المذاهب وحصل بعض التَّلائم أو كثير منه في الأصول والفقه، وكذا القواعد الفقهيَّة وغير ذلك ممَّا تحتمله كلمة الأحكام من التَّوسعة، وممَّا يناسب أن يدخل في هذا الخصوص أيضاً من العلميَّات الأخرى بقيَّة المعارف الَّتي تحتضنها الآيات والَّتي لابدَّ وأن ترتبط بهذا الإعجاز الإلهي والَّذي ما جاء لنبيِّنا صلی الله علیه و آله و سلم وأنزل عليه إلاَّ من الوحي النَّثري المبين لا كما يفتري أعداءه من كونه شعراً لخرق العادة دعماً لرسالته العامَّة كبقيَّة من سبقه في مقابل قريش الفصيحة البليغة -

هو نثريَّة الألفاظ لا شعريَّتها، وبما لا يقوى قول بشر على مباراتها إذا كان عربيَّاً آنذاك فضلاً عن غيره شعراً ونثراً وفي عالم أدبها المعروف وإن اشتهر قول رسول الله

ص: 103

صلی الله علیه و آله و سلم (إنَّ من الشِّعر لحكمة وإنَّ من البيان لسحراً)(1) والّذي لابدَّ وأن يكون الكلام المعجز في هذه الأمور دقيقاً غاية الدقَّة وبلفظ يحوي كل معانيه الإلهيَّة السَّامية عالميَّاً وإن تعدَّدت لأسبابها كجزل الغضا ومفحماً للأعداء مهما أوتوا من مهارة بيانيَّة في الفصاحة والبلاغة وبعيداً عن الشَّطط والمبالغات والمجازات والكنايات والخيالات الَّتي لا يخلو منها عادة كلام البشر والآدميِّين من العرب من غير الوحي القرآني نثراً وشعراً فضلاً عن غيرهم لعدم ضمان الواقعيَّة المطلوبة فيه إلاَّ ما قلَّ وندر.

وممَّا لا يمكن لهذا النَّادر أن يكون دستوراً سماويَّاً لجميع العالم بما يحوي كل ما مضى من الرِّسالات وزيادات ولآخر أزمنته إلاَّ ذلك البيان النَّثري والوحي الإلهي المبين، حتَّى أخضع الأعداء لمَّا سمعوا بعض آياته كالوليد ابن المغيرة المعروف بخلفيَّته الفائقة ثقافيَّاًفطريَّاً آنذاك حينما سمعه من النَّبي الأمي صلی الله علیه و آله و سلم الَّذي كان من أقواله عنه (والله إنَّ لقوله الَّذي يقول لحلاوة وإنَّ عليه لطلاوة وإنَّه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنَّه ليحطم ما تحته وأنَّه ليعلوا وما يعلى)(2) والفضل ما شهدت به الأعداء.

وغير ذلك من الأعاجيب الَّتي سبَّبت هداية أمثاله للإسلام من الآخرين وإن لم يوفَّق هو له لمنع أبي جهل له عنه محرجاً.

بل هو عدم احتواءه على أي تناقض مزعوم على ما سيجيء، كما بيَّن منع أن يكون شعراً أو وجود الشِّعر فيه ولو مختصراً، وبيَّن ذمِّ الشِّعر والشُّعراء، ومنع أن يكون النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم شاعراً.

وفيما قد أورده بعض الأعداء أيَّام جاهليَّة الشِّرك ووثنيَّته آنذاك ممَّا أشارت إليه بعض الآيات القرآنيَّة الآتية، وفيما أورده بعض الأعداء الآخرين ممَّن تلاهم حين انتابهم

ص: 104


1- أخرجه أحمد برقم 2813، وأبو داود برقم 5013، وأصوله في صحيح البخاري برقم 5146، ومسلم برقم 2046.
2- تفسير الطبري 12/309 وتفسير عبد الرزاق 2/ 1328.

الجهل العلمي والحماقة الفهميَّة وقلَّة التَّدبُّر أو عدمه على ما في هذه الآيات وصيغها ممَّا حوى فيها بعض الأوزان الشِّعريَّة أو حتَّى الستَّة عشر المعروفة عروضيَّاً بأجمعها على ما سيجيء سرده بعد استعراض شبههم.

فقالوا ما مضمونه للتَّوضيح أكثر:

لماذا ورد الذَّم والتَّحريض ضدَّ الشِّعر والشُّعراء ومنع كون قول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم حينما ينقل وحياً قرآنيَّاً للنَّاس أن يكون متَّصفاً بالشِّعر حتَّى لو استثني بعض الشِّعر من حالة ذلك الذَّم ممَّا لا يعطي أي مشروعيَّة له ما دام الشِّعر من وضع البشر؟

وذلك لكون لسان الوحي القرآني لا ينسجم مع الشِّعر ولو قليلاً، لقلَّة ذلك القليل وضعف ذلك المستثنى أمام المنع العام لصالح دستور العالم في لسانين متفاوتين وهما:

لسان الشِّعر المحدود بقيوده الَّتي لا يتعدَّاها روياً ووزناً وقافية.

ولسان النَّثر الإلهي الغالب لقدرات فصحاء وبلغاء القرشيِّين، وإن صحَّ للبشر أن يقول المستثنى في عادي كلامه حتَّى النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والإمام قدس سره .

وتلحق السنَّة بالقرآن أيضاً في نثريَّة ألفاظها في أمر الاستنباط منها ربطاً بحديث الثَّقلين المتواتر بين الفريقين، لنفس الغرض كما سيتَّضح دون أن يرجع إلى أي نوع من الشِّعر، حتَّى لو عًدَّ في بابه أرقى ما يكون أدبيَّاً، وحتَّى لو قلنا بجواز النَّقل بالمعنى حينما لم يحفظ نص ما قاله المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، لعدم مألوفيَّة أن يعوَّض عن كلامه الشِّعر ما عدا النَّثر المسموح به في باب الدِّراية والحديث.

ولعلَّ عناد المعاندين في جاهليَّتهم الحمقاء - من نسبة التَّناقض لما أتى به النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم من وحي الله تعالى القرآني ممَّا مرَّ ذكره في ادِّعاءهم أنَّه شعر أو من الشِّعر، لأنَّ الشِّعر من مقدور البشر الاعتيادي -

لمحاولة إثبات أنَّ القرآن من وضع محمَّد صلی الله علیه و آله و سلم على حدِّ زعمهم لا الوحي.

مع أنَّ زعيمهم الوليد بن المغيرة قال غير ذلك مادحاً كما مرَّ، ممَّا يعني أنَّ الجاهليِّين

ص: 105

هم الواقعون في التَّناقض لا القرآن، حينما كانوا هم المولعون بالشِّعر قبل الإسلام.وأنَّ نثرية القرآن متحفة بالمحسِّنات ومشوِّقات الإصغاء إلى أساليبه الجذَّابة، فكيف يكون النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم هو المذموم عندهم لأنَّه شاعر أو أنَّ قرآنه شعر أو فيه الشِّعر، ومنع القرآن أن يكون النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم شاعراً أو قال غير الوحي.

مع أننَّا لو تتبَّعنا آيات القرآن جيِّداً - لو تنزَّلنا قليلاً للخضوع لأي شيء من التَّناقض ولكن للحق الَّذي لابدَّ أن يقال من ناحية أدبيَّة أخرى - لوجدنا الكثير منها مطابقاً للأوزان الشِّعريَّة أو بعضها، لا تأييداً لمن يقول بهذا التَّناقض، وليفرض أن يكون ذلك من ذلك المستثنى في آيات المنع كما سيجيء ومن ذلك ما جمع شطرين كاملين في عدَّة موارد أو ثلاثة أشطر كما سيأتي التَّمثيل له، وهو ما قد يوضِّح بعض حالات ما يسمَّى بالتَّناقض المزعوم في ادِّعاءهم.

ولكن لا يلزم أن تسميِّه من الشِّعر الاصطلاحي على ما يأتي ذكره في تسميته، بل لابدَّ أن نسميِّه ذكراً لعدم كفاءته الاصطلاحيَّة بين الأدباء وكما قال تعالى [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ](1) وإن أضيفت عليه صفة الوزن والسَّجع وتنسيق الكلام فإنَّ محاسن النَّثر كثيرة والقرآن مليء بأعلاها.

وعلى الرَّغم من أهميَّة الشِّعر أدبيَّاً عربيَّاً وغيره بعد النَّثر في الجاهليَّة وفي الإسلام وعند الأعداء والأصدقاء فلاعتباره الأهم بعد النَّثر في الاستعانة به لحفظ المعاني المقصودة والتَّذكُّر والتَّذكير به ونحو ذلك إعلاميَّاً.

ولربَّما يفوق على النَّثر المصوغ لبعض الآدميِّين في بعض المقامات الاجتماعيَّة وغيرها كالمنظوم للعلوم والمعارف والحكم والمواعظ وللدِّفاع عن الحق ودفع الباطل.

كما ربَّما يفوقه النَّثر في مقامات أخرى بمختلف أقسامهما الأدائيَّة وبالأخص في المجال العربي بصفة كبيرة جدَّاً في كافَّة الأوساط العلميَّة دينيَّاً وأدبيَّاً في غير ذلك حينما

ص: 106


1- سورة يس آية / 69.

يكون الشِّعر ماجناً وضالاًّ ومضلاًّ وللامتهان المادِّي أو للتَّزلف إلى الباطل وأهله وكما قال القرآن الكريم بلا اطلاق في ذمَّه للممتهنين به ونحوه في آخر سورة الشُّعراء [الشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ](1).

حيث استثنى تعالى من الشِّعر ما به نصرة الحق والمظلومين ومن الشُّعراء من كان مؤمناً وناصراً للحكمة والحق وقال الحديث الشَّريف وكما مرَّ (إنَّ من الشِّعر لحكمة وإنَّ من البيان لسحرا)(2) استثناءاً فيه بمن التَّبعيضيَّة عمَّا لم يكن مرغوباً فيه منه كما في آيات الله المانعة.

ومن ذلك ما نظم للعلوم وجمع شمل ما تبعثر منها وعموم الدِّينيَّة وخصوصها وبمختلف أوزانها، ومنها الأراجيز المستخدمة لجمع الشَّمل أصولاً عقائديَّة وأصولاً منطقيَّة وفقهيَّةوفرعيَّات فقهيَّة وأخلاقيَّات وتأريخيَّات وأنساب وغيرها، لتسهيل حفظها حسب المألوف بين الممارسين لهذا النَّوع من الأدب المحترم في بابه عند أهله من أهل الذَّوق الخاص في مجال حسن اختياره.

ومن حالاته ما يستثنى سائغاً في الحجِّ والعمرة والاعتكاف والصَّوم بل واجباً في بعض الأحوال وما به مدح النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وآله عَلَيْهِم السَّلاَمُ .

إلاَّ أنَّ البيان نوعاً وما يسمَّى بالنَّثر من الكلام العربي لابدَّ أن يكون مفضَّلاً على الشِّعر حتَّى في محاسنه الممتازة، لا في خصوص ما لو استقصى بيان الحقيقة له للزومه وعدم كفاءة الشِّعر إلهيَّاً له لأجل مصدري الكتاب والسنَّة الشَّرعيَّين النَّثريَّين من الوجهة

ص: 107


1- سورة الشُّعراء آية / 114 - 117.
2- أخرجه أحمد برقم 2813، وأبو داود برقم 5013، وأصله في صحيح البخاري برقم 5146، ومسلم برقم 2046.

الأساسيَّة في باب توليد أو تولُّد القواعد الأصوليَّة والفقهيَّة وفي بابي الاستدلال الاستنباطي منهما مولويَّاً وارشاديَّاً لانحصار أمره فيهما.

بل حتَّى الأراجيز الَّتي تشبه النَّثر إنَّ صحَّ الحاقها بالنَّثر كما عند البعض، لأنَّها قد تُمكِّن ناظمها من استيعاب بعض التَّفاصيل العلميَّة أو كثيرها لهذا الانحصار النَّثري الأصيل، ومع ذلك لم يكن شيء من الأراجيز بموجود في النَّصَّين الشَّريفين.

ولذا لوكان ذلك ممكناً لوجد شيء منه كاملاً ولو قليلاً في القرآن الكريم لإلحاقه بالشِّعر في أضعف مستوياته عند آخرين.

وإن نفاه بعض الاصطلاحيِّين أن يكون من الشِّعر، لأنَّ الشِّعر مهما بلغ ما بلغ من الرُّقي ومنه ما يُعد في بعض أو كثير من الأوساط من توابعه وهو هذه الأراجيز، فإنَّه لن يزيد على ما ينعش النُّفوس المتأثِّرة به من روعة التَّلخيص وجمع المتفرِّقات أو بعض التَّصريحات بأعذب العبارات أو كثير من الكنايات، ولو لاعتبار أنَّ (أكذبه أعذبه) على ما قيل، وإن خرج بعضه مباحاً كالكذب للمصلحة أو لإصلاح ذات البين ونحو ذلك ومنه الغزل العذري وأنَّ الكنايات منه أبلغ من التَّصريح ممَّا يحل، لأنَّ التَّفصيل النَّثري المحتاج إليه في الدستور وتابعه غير ما بني على الاختصار.

وإنَّ قدِّمت الأراجيز على الشِّعر في بعض الحالات فلقربها من النَّثر في الإفادة وإمكان الاستفادة منها كالنَّثر عند روَّاد النَّثر كما نوَّهنا.

فإنَّ الكثير من أهل الاختصاص الشِّعري وإن نفوا كونها من الشِّعر الَّذي يقصدونه، فقد ذمَّ القرآن والسنَّة نوع الشِّعر وهو أكثره، وإن لم يقصدا ما كان مستثنى منهما ممَّا مضى ذكره وما يأتي، فلا أقل ممَّا يخص القرآن والسنَّة وألفاظهما النَّثريَّة غير الموزونة بأي موزون شعري حقيقي، حتَّى الأراجيز لكونها تابعة لذلك النَّوع.

كيف والعلميَّات غير المحدودة بحدود ما كان موزوناً من أي شعر كامل في الصَّدر والعجز ممَّا حدِّد أدبه لا تكون ناجحة في أداء الحجَّة العلميَّة إلاَّ بالتَّفاصيل الحرَّة غير

ص: 108

المرتبطة بالأوزان والمقيَّدة بالقوافي حتَّى القافية الواحدة لكل بيت في الأرجوزة إذا اعتيد عليها أن تسمَّى شعراً ومن نوع الرَّجز اصطلاحاً.

وما ذاك إلاَّ خصوص البيان والنَّثر غير المرتبط بأي نوع من الشِّعر سواء اتَّفق عليه أو لم يتَّفق عليه.واستثناء القرآن والسنَّة بعض الشِّعر من الذَّم لا يعني أنَّ هذين المصدرين جوَّزا أن يكون فيهما أي نسبة من الشِّعر في جميع مجالاتها الثَّقافيَّة ليستنبط الحكم من لسانيهما حال كونهما شعريَّين.

بل فسح المجال في ذلك بعد أخذ المعلومات الكليَّة من اللِّسانين الشَّرعيَّين، ثمَّ التَّطبيق بالتَّعبير الآخر شعراً مستفاداً منهما لا غير من قبل العلماء، بما يتكفَّل بيان الحقائق عن طريقه لا مانع منه بخصوص هذا المقدار فقط.

بل قد نفى القرآن الكريم أن يكون بيانه شعراً من أي نوع من أنواعه حيث قال تعالى عن القرآن [وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ](1) ذمَّاً لمن يقبل كون ذلك من الشِّعر، وقال عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ](2)، حيث انتقل عن كلامه عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم إلى كون كلامه الذِّكر والقرآن المبين دون الشِّعر المفترى المرتبط بالآخرين.

وهذا النَّفي الثَّابت بما مضى وبما سيأتي - وإن أصرَّ المشركون وأمثالهم من أهل الكفر - فلإضاعة الحقيقة الواضحة لكل رائد لها حقيقة في بداية التَّشريع والدَّعوة إلى التَّوحيد والنبوَّة الرِّساليَّة وقرآنها السَّماوي، بمثل قوله تعالى على لسان أولئك العصاة [بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ](3)

ص: 109


1- سورة الحاقَّة آية / 41.
2- سورة يس آية / 69.
3- سورة الأنبياء آية / 5.

وقوله عنهم [وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ](1) وقوله عنهم [أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ](2).

والشَّاعريَّة المدَّعاة منفية باعتراف الوليد ابن المغيرة نفسه على ما مرَّ بأنَّ هذا الكلام ليس بكلام بشر، لأنَّ من اتَّهم النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم بأنَّه شاعر لمحاولة اتِّهامه - ولو بأتفه شبهة - بكون الشِّعر من البشر هو باطل.

وإنَّها عن الجن فهي منتفية كذلك لما مرَّ ذكره في بحث عروبة مصدري الاستنباط من انبهار الجن بالقرآن وإيمانهم به حتَّى صار دستور الجن والإنس معاً، كما نطق القرآن الكريم حول هذا الأمر في مطلع سورة الجن من الآيات.

هذا وإن عثر على ألفاظ كثيرة في القرآن والسنَّة من ذوات الأوزان الشِّعريَّة - كما أشرنا سابقاً على اختلافها كبعض الصدور من دون عجز مكمِّل لها أو أعجاز من دون صدور سابقة لها -

فإنَّها لم يُرد منها الشِّعر الكامل كما لا يخفى، إضافة إلى كون ذلك عفويَّاً من جمال التَّعبير المرغوب فيه جدَّاً عند أهل الذَّوق، وبالأخص حينما كان محلَّى بألوان من السَّجع البديعي ونحوه.ومن بقي على إصراره ممَّن مضى ومن الآخرين عناداً حتَّى هلاكه فليس بمهم ما دام الحق محترماً عند أهله.

والتَّناقض منفيَّاً بل منتفياً وإن عاداه الجهلة الحمقى الَّذين كانوا وما يزال أتباعهم يُقدِّسون الشِّعر الخيالي وأمثاله وقد يُفضِّلونه حتَّى على القرآن العظيم لو توقَّفت مصالحهم على ذلك حينما ناقضوا أنفسهم لا ما افتروه على القرآن الكريم منه.

وإن اعترض: بأنَّ الإيجاز وغيره المعروفين عن الشِّعر المعيب في أن يكون القرآن

ص: 110


1- سورة الصافات / آية 36.
2- سورة الطور آية / 30.

موصوفاً به للتُّهمة الواردة عليه باطلاً واضحاً من أعداءه قد يرجع العلاقة بالشبه في السُّور المكيَّة القصار المعروف عن بعضها أنَّ فيه الموزون الشِّعري مثل قوله تعالى [إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ](1) وقوله [وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا](2) وغيرهما؟

فإنَّه لابدَّ أن يجاب بأنَّ المجملات فصِّلت بالمدنيَّات، وبما فصَّله النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم من نفسه وبواسطة عترته عَلَيْهِم السَّلاَمُ وما سار على نهجها من روايات الآخرين ممَّا لا يخلو بعضها عن كثير من الموزون غير المقصود به الشِّعر كذلك، لعدم تكامله وإن قبله الوزن في بعضه من العجز الَّذي لا صدر له أو الصَّدر الَّذي لا عجز له أو ما تكامل فيه موزونان صدر وعجز ولكن كل له وزنه الخاص حسبما عثر عليه من ذلك وهو ما صنعته قريحة الكلام المقصود فيها الأكثر في أنَّه بيان المعنى لا الشِّعر.

والنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وإن ظهر منه بعض من الشِّعر غير القرآني وهو المستثنى المباح أو الحسن كما ورد عنه قوله:

أنا النَّبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطَّلب

إلاَّ أنه باق على كونه ممَّا لا ينبغي له أن يكون شاعراً كالآخرين المكثرين منه، لعدم إكثاره الثَّابت، لئلاَّ يمكن إصابته من أعداءه المتحجِّجين ضدَّه بالنَّقد الرَّخيص، لأنَّه صاحب رسالة سماويَّة سامية، ولأجل أن يؤخذ من لسانه الشَّريف ما به دوام كونه حجَّة نثريَّة في كلامه.

وثبوت هذه الحقيقة لابدَّ من الاهتمام بها في مقدِّمات مباحث الألفاظ من الأصول، سواء في عموم الأصول المستفادة من الكتاب والسنَّة والعقل المرتبط بالأدلَّة الإرشاديَّة العامَّة، أو خصوص أصول آيات الأحكام التَّابعة للبحث العام، حتَّى الفقه العام الشَّامل للعقائد والشَّرعيَّات.

ص: 111


1- سورة الكوثر آية / 1.
2- سورة العاديات آية / 1.

للحاجة الماسَّة إلى التَّفصيل المقوِّم للحجَّة بما هو أفضل كثيراً من الشِّعريَّات المحدودة باصطلاحيَّاتها الضَّيقة.

تبقى الشِّعريَّات الشَّائعة وفي خصوص ما شاع منها من كلام الآدميِّين النَّافع - ولو عن طريق عدم كمال الشِّعر الاصطلاحي عند البعض - عن الأراجيز أو ما اختلف فيه بين العروضيِّين.

فلأنَّ الكمال لله ورسوله صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ في هذا الاستعراض، لإثبات نفي التَّناقضالقرآني بين نفيه الشِّعر وبين ادِّعاءه، لبيان نتائج الأفكار في ألفاظ الآدميِّين كما مرَّت الإشارة إليه سلفاً ولمن يألفها أو يحتاج إليها، وان اشتملت على ما يوافق الكثير من فوائد المعقول والمنقول محصورة فيما لم يمنع منه الذَّوق الأدبي الآخر عند أهله أو يمدحه.

ومن خلال ما مرَّ من تأكيد القرآن الكريم حول تكرار نفيه كونه فيه شيء من الشِّعر حتَّى المستساغ منه، ونفي اتِّصاف النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم به، فبدليل الحجِّية الثَّابتة بالتَّواتر المعروف عمَّا بين الدَّفتين حتَّى أنَّه لم يكن مألوفاً عنه قول السَّائغ إلاَّ نادراً إن كان.

وإن حاول بعض أهل العلم الأفاضل استيعاب الأوزان الشِّعريَّة من آيات القرآن الكريم على اختلافها، لإرجاع إمكان أن يأتي القرآن في معلوماته بالشِّعر السَّائغ ولو في الجملة، وإن منعناه.

أو لبعض النَّواحي الأدبيَّة غير المخلَّة لا بعنوان الذِّكر السَّائغ شعراً ولو في الجملة.

أو لبعض النَّواحي الأدبيَّة غير المخلَّة كذلك، لغلق الباب المرتبط بأصل الاستحالة ولو لخصوص مجال الاستثناء المبيح آنف الذِّكر ثبوتاً وإن لم يكن إثباتاً للقرآن نفسه، ولعلَّه لبيان عدم كمال الشِّعر بالتَّالي فيه.

أو ليجوز استعماله خارجاً لدى كلام الآدميِّين مع منعه في كلام الله تعالى قرآنيَّاً وفي السنَّة أيضاً.

ص: 112

فذكر الأستاذ الحجَّة آية الله أديب العلماء الكبير السيد مسلم الحلِّي قدس سره في كتابه (القرآن والعقيدة) عن بعض الأدباء وهو ما يعتقده البعض أنَّه (صفي الدِّين الحلِّي قدس سره) (1) بأنَّه نظم البحور العروضيَّة الستَّة عشر بأوزانها الخاصَّة وضمَّنها آيات أو بعضها أو أزاد عليها شيئاً من القرآن الكريم بكامل المصراع الثَّاني لإكمال صورة الشُّبهة.

وذلك للسَّعي في ردِّها إن أمكن بمقدار الميسور منه أو ما هو الواجب أو احتيج إلى ذلك، ولو للإدلاء إلى ما يصحِّح التَّضمين تشرُّفاً ببعض الآيات أو أجزاءها في أشعار الشُّعراء، أو للاستدلال بها لتقوية تلك الأشعار.

لا لأجل تبرير ادِّعاء إمكان أن يكون القرآن شعراً كما أفتري.

مع إدلاء بعض التَّعليقات الَّتي نأتي بها في أثناء عرضها، كما سوف نبيِّنه بإذن الله من فئة المصراع الواحد الأخير:

فقال عن بحر الطَّويل:

أطال عذولي فيك كفرانه الهوى *** وآمنت يا ذا الظبي فانس ولا تنفر

فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن *** فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ (2)

وقال عن بحر المديد:

يا مديد الهجر هل من كتاب *** فيه آيات الشفا للسقيم

فاعلاتن فاعلن فاعلاتن *** تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ(3)

ص: 113


1- وفي "ميزان الذهب": 121 للهاشمي: فقد ذكر أنَّها للشِّهاب وهو "الشهاب أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي المصري"، قاضي القضاة، ولد 977 ه-، تنقل في البلاد الإسلامية قاضيا ومعلما إلى أن استقر به الأمر في مصر، فعاش بها حتى توفي 1169 ه-، وله تصانيف كثيرة منها: ريحانة الألبا، حاشية على تفسير البيضاوي، قلائد النحور في جواهر البحور في العروض.
2- سورة الكهف آية / 29.
3- سورة لقمان آية/ 2.

وقال الآخر أيضا عن نفس البحر بنقل من السيد الأستاذ قدس سره:

لو مددنا بابتهال يدينا *** نرتجيكم هل يكون العطاء

فاعلاتن فاعلن فاعلاتن *** [إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء](1)

وقال نفس المنقول عنه الأوَّل عن بحر البسيط :

إذا بسطت يدي أدعو على فئة *** لاموا عليك عسى تخلو أماكنهم

مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن *** [فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ](2)

وقال عن بحر الوافر :

غرامي في الأحبة وفّرتْه *** وشاة في الأزقة راكزونا

مفاعلتن مفاعلتن فعولن *** [إِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَا](3)

أقول: إنَّ الألف في المصراع الأخير من البيت الثَّاني زائدة على النَّص القرآني للرَّوي مع مساواة الوزن للبحر.

وقال عن بحر الكامل :

كملت صفاتك يا رشا وأولوا الهوى *** قد بايعوك وحظهم بك قد نما

متفاعلن متفاعلن متفاعلن *** [إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا](4)

أقول: وهذا المصراع من الآية فيه إضافة (إنَّما) من جملة أخرى في الآية الكريمة لا يتم إلاَّ بتبعيَّتها لها، وهي مثل يبايعونك الماضية داخلة في خبر إنَّ، فلا وزن في كل الآية، وتمام المعنى في ذلك بما بعدها وهي (يبايعونك) الأخرى، فلا وزن في جملة كاملة، وعليه فلا شعر كما ينبغي.

ص: 114


1- سورة الجمعة آية / 6.
2- سورة الأحقاف / آية 25.
3- سورة المطففين / آية 30.
4- سورة الفتح / آية 10.

وقال عن بحر الهزج :

لئن تهزج بعشاق ***فهم في عشقهم تاهوا

مفاعيلن مفاعيلن *** [وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ](1)

وقال عن بحر الرجز :

يا راجزا باللوم في موسى الذي *** أهوى وعشقي فيه كان المبتغى

مستفعلن مستفعلن مستفعلن***. [اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى](2)

وقال عن بحر الرمل :

إن رملتم نحو ظبي نافر *** فاستميلوه بداعي أنسه

فاعلاتن فاعلاتن فاعلن *** وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ](3)

وقال عن بحر السريع:

سارع إلى غزلان وادي الحمى *** وقل أيا غيد ارحموا صوبكم

مستفعلن مستفعلن فاعلن *** [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ](4)

أقول: وهذه الآية من المصراع الأخير في بيت الوزن العروضي يمكن أن يكون من توابع آيات الأحكام أو الأعم من الَّتي منع القرآن أكثر الشِّعر عنه، والأقل المستثنى لا يبرِّر له إثبات الشِّعر فيه في الأمور الشِّرعيَّة.

ولربَّما يرتبط بالأمر بالتَّقوى عند عدم الإطاعة أو فعل المعصية عموماً ولغرض الاهتمام بدفع الشُّبهة عمَّا نحن في صدد البحث فيه عن الإعجاز وعدم التَّعارض كذلك.

ص: 115


1- سورة آل عمران / آية 173.
2- سورة طه /آية 24.
3- سورة يوسف / آية 32.
4- سورة يوسف / آية 32.

وقال عن بحر المنسرح :

تنسرح العين في خديد رشا *** حيى بكأس وقال خذه بفي

مستفعلن مفعولات مستفعلن *** [هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي](1)

أقول: وهذا البيت الثَّاني مصراع تعود ألفاظه للقرآن الكريم ويعود الوزن الشِّعري من هذا البحر كذلك، لكنَّه لم يكن بمصراع مؤدِّي إلى معنى تام كما تؤدِّيه الآية الكاملة بطبيعتها النَّثريَّة، إلاَّ بأن يوصل لفظ (في) بما بعد لتكون الآية تامَّة المعنى.

إلاَّ أنَّها تبقى ألفاظها نثريَّة لا شعريَّة لو رفعت (في) منها.

وقال عن بحر الخفيف:

خف حمل الهوى علينا ولكن *** ثقلته عواذل تترنم

فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن .*** [رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ](2)

أقول: وهذا المصراع الأخير ما بين قوسين فيه ناحية ارتباط بآيات الأحكام العامَّة أو الخاصَّة كآية الأمر بالتَّقوى الماضية ولو من ناحية عقاب العصاة فيها.

وقال عن بحر المضارع:

إلى كم تضارعونا *** فتى وجهه نضير

مفاعيلن فاعلاتن *** [أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ](3)

وفي رواية أخرى [وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ](4)

وقال عن بحر المقتضب:

اقتضب من وشاة هوى *** من سناك حاولهم

ص: 116


1- سورة الفتح / آية 4.
2- سورة الفرقان / آية 65.
3- سورة الملك / آية 8.
4- سورة الأنعام / آية 103.

مفعولات مفتعلن *** [كُلَّمَا أَضَاء لَهُم](1)

أقول: وهذا المصراع الأخير من الآية لم يكمل معناه أيضاً إلاَّ بباقيها وهو (مشوا فيه)، ولذلك لا يكون هذا المقدار الموزون من الشِّعر الوافر في معناه، لعدم دلالة السِّياق عليه إلاَّ بما يأتي ولم يذكر.

وقال عن بحر المجتث:

إجتث من عاب ثغرا *** فيه الجمان النظيم

مستفعلن فاعلاتن *** [وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ](2)

وقال عن بحر المتقارب:

تقارب وهات اسقني كأس راح ***وباعد وشاتك بعد السماء

فعولن فعولن فعولن فعولن *** [وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء](3)

وقال عن بحر المتدارك [ بل هو الخبب ]:

دارك قلبي بلمى ثغر *** في مبسمه نظم الجوهر

) فعلن فعلن فعلن فعلن *** [إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ](4)

وقال عن بحر مخلع البسيط:

خلعت قلبي بنار عشق *** تصلى بها مهجتي الحرارة

مستفعلن فاعلن فعولن *** [وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ](5)

أقول: وهذا ما يتعلَّق بآيات الأحكام لتابعيَّته للسِّياق وقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

ص: 117


1- سورة البقرة / آية 20.
2- سورة البقرة / آية 255.
3- سورة الكهف / آية 29.
4- سورة الكوثر / آية 1.
5- سورة التحريم / آية 6.

آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا].

هذا ما أبداه الأديب الأوَّل ومن تلاه بنقل من سيِّدنا الأستاذ قدس سره من المصاريع الأخيرة الموزونة المسبوقة بما أبدى من النَّظم المطابق للبحور المتعارفة مع بعض تعليقاتنا المناسبة في الأثناء.

وبدورنا بعد ذلك ننقل عن أديب آخر من مصدر آخر ممَّا ينقله صاحبه عن بعض الأدباء من فئة المصراع الواحد من نوع الرَّجز وهو قوله:

قد قلت لما حاولوا سلوتي *** [هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ](1)

أقول: وأمَّا ما يرتبط بما قد يصلح أن يكون موزوناً من الآيات بوزن بعض البحور من مصراعين ولكن بتصرُّف فقد عُثر على شيء من ذلك عن هذا المصدر الآخر ممَّا تكلَّف له أحد الأدباء قادراً أن يكمله بيتاً وهو ما يسمَّى بالتَّضمين كقوله:

سبحان من سخر هذا لنا ***حقَّاً وما كنا له مقرنينأقول: وهو من الخفيف، لكن لا على نسق الآية وهو قوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ](2)

وبذلك كان قد بدَّل هذا مكان لنا في الشَّطر الأوَّل وأزاد كلمة حقَّاً لتحقيق الوزن العروضي للبحر.

وهذا ما به تصرف في المعنى قد لا يكون له موجب أو مبيح بلاغي في القرآن كذلك مع عدم مصداقيَّة الشِّعر كاملاً من نفس الآية.

ويحتمل أن يكون هذا الأديب هو أبو نؤاس.

ومثل ذلك ما تصرَّف فيه أبو نؤاس في قوله تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ.... فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ](3) من البحر الخفيف فقال بعد قوله:

ص: 118


1- سورة المؤمنون / آية 16.
2- سورة الزخرف / آية 13.
3- سورة الماعون / آية 2.

وقرا مُعلناً ليصدعَ قلبي *** والهوى يصدعُ الفؤساد السقيما

أرأيت الذي يُكِذّبُ بالدي *** -ن فذاك الذي يدع اليتيما

والتَّصرُّف في ذلك هو أنَّه قطع كلمة الدِّين فجعل (الدِّي) في الشَّطر الأوَّل و (النون) في بداية الثَّاني مع حذف اللام من كلمة ذلك وزيادة الألف في آخر كلمة اليتيم ولذلك لم يكن من الشِّعر القرآني مثل ما يدَّعى ومثل ذلك قول الآخر:

وفؤادي كعهده بُسليمى *** بهوىً لم يَحُلْ ولم يتغيرْ

ولذا فهو غير كاف حينما نضيف له ما مرَّ من البيت الثَّاني مع معانيه.

وأمَّا ما يرتبط بما قد يصلح ليكون موزونا من الآيات بوزن بعض البحور لوزن أبيات كاملة فقد عُثر على شيء من ذلك عن هذا المصدر الآخر(1) ممَّا تكلَّف له أحد الأدباء بترتيبه كاملاً.

ومن ذلك ما زعم أنَّه بيت هو قوله تعالى من بحر الرَّمل

[وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ](2)

وهو ما قيل أنَّ مثله من شعر الآخرين:

ساكن الرِّيح نطوف ال *** مزن منحل العزال

وهو ما يوصف فيه يوم مطير والنطوف القطور، وليلة نطوف ليلة بمعنى قاطرة تمطر حتى الصباح.

وممَّا زعم أنَّ بيتاً من بحر الخفيف وهو قوله تعالى [وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ](3)

كقول الشَّاعر:

ص: 119


1- وهو كتاب الإعجاز في القرآن العظيم لأبي بكر محمَّد ابن الطِّيب الباقلاني.
2- سورة سبأ / آية 13.
3- سورة فاطر / آية 18.

كل يومٍ بشمسه *** وغدٍ مثل أمسه

ومن ذلك من بحر المتقارب قوله تعالى:[مَنْ يَتَّقِ اللَّهِ يَجْعَلْ لَّهْ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتسِبُ](1)

فعولن فعولن فعولن فعولن *** فعولن فعولن فعولن فعولن

ومن ذلك ما يوازن الرَّجز هو قوله تعالى في زعمهم: [وَدَانِيةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلِتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا](2)

أقول: وهذا لا يمكن إلاَّ بعد حذف واو (ودانية) واشباع حركة الميم في (عليهم) لإكمال الوزن في الرَّجز.

وذكروا أنَّ أبا نؤاس أنَّه ضمَّن ذلك شعراً يليق بأن يكون قبل الآية قائلاً:

وفتية في مجلس وجوههم *** ريحانهم قد عدموا التَّثقيلا

ولكن لا يتم ما ادَّعوه عن القرآن من الشِّعريَّة في طبيعة آياته لما مرَّ ولما سيتَّضح في الختام.

وهكذا قالوا أنَّ ممَّا يوازن بحر الوافر قوله تعالى: [وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ](3).

كقول الشَّاعر امرئ القيس:

لنا غنم نسوقها غزار *** كأنَّ قرون جلتها عصى

وكذا قالوا أنَّ من بحر البسيط قوله تعالى: [والْعَادِيَاتِ ضَبْحًا *** فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا](4).

ص: 120


1- سورة الطلاق / آية 3.
2- سورة الإنسان / آية 14.
3- سورة التوبة / آية 14.
4- سورة العاديات / آية 1 - 2.

وهكذا قوله [والذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً](1).

إلى غير ذلك وهو كثير.

وإلى هذا الحد كنَّا قد وفَّرنا ما تيسَّر بوسعنا من المصاديق المزعومة من الآيات أو أجزائها في كونها من الشِّعر العروضي ولا داعي إلى التَّوسُّع فيه أكثر ما دام مستوى الزَّعم قد علمت محدوديَّته العاجزة تجاه قرآن الإعجاز العظيم.

بقي علينا واجب الرَّد والتَّوجيه لإثبات بقاء المُعجز على حاله في عدم وجود التَّعارض.

فهذا التَّشخيص باطل من جهات بمعونة ما أفاده في ضمنه آخرون:

الجهة الأولى: أنَّ النَّثر لم يتقيَّد اعتباره نثراً في الأدب العربي بخصوص أن لا يكون موزوناً دائماً بالوزن العروضي أو المقفَّى منه حتَّى لو لم يكن مقصوداً، لإشاعة توفُّر هذه الحالات فيه كثيراً، مع احتفاظ انطباق هذا العنوان على مصاديقه ما لم يكن مقصوداً في الوزن والقافية وما يناط بالشِّعر من الخيال والاستعارات والكنايات والتَّشبيه والوصف والمبالغات ممَّا يخلو من النَّثر الواقعي الاصطلاحي عادة إلاَّ ما قلَّ من المحسوب له حسابه كالشِّعر الاصطلاحي.

ومن النَّثر ما يسمَّى اليوم بالشِّعر الحر إذا خلى من خصوصيَّات الشِّعر المرتَّب فيالقصد ونحوه.

والجهة الثَّانية: أنَّ فصحاء العرب ومنهم أهل الفن الشِّعري حين أورد عليهم القرآن لو كانوا يعتقدونه أو بعضه شعراً في أمثال الموزون ممَّا ذكرناه بتمام المعنى ولم يروه خارجاً عن أساليب كلامهم الشِّعري لبادروا إلى معارضته.

لأنَّ الشِّعر مسخَّر بهم وسهل عليهم.

فلا قيمة لهذا الزَّعم من هذا وذلك، وإلاَّ لم يكن الأديب الشَّاعر أديباً شاعراً إذا

ص: 121


1- سورة الذاريات / آية 1 - 3.

كان يقول بأنَّ في القرآن شيء من الشِّعر مثلاً.

وإنَّ من هؤلاء من يصر وهو من حفظة الاصطلاحات الشِّعريَّة على القول بذلك من دون رضاه بأن يجابه بالتَّدقيق في قبال قوله.

فلابدَّ من أن يكون هذا الإصرار منه ومن أمثاله ناتج عن الحقد والحسد والعداء مع عدم توفُّر اصطلاحيَّات الشِّعر حتَّى في عقيدة هذا المصر لو خُلِّي وطبعه.

والجهة الثَّالثة: أنَّه عُرف بين أهل العلم والأدب والاصطلاح بأنَّ البيت الواحد وما كان على وزنه فضلاً عن المصراع الواحد لا يكون شعراً وإن أقل الشِّعر عندهم بيتان ثمَّ يتصاعد.

وقالوا أيضاً بأنَّه إذا كان مألَّفاً من بيتين ولكنَّه يختلف وزنهما أو قافيتهما فليس بشعر أيضاً، إلى أن قال بعضهم أنَّ الرَّجز ليس بشعر لفقدانه القافية الواحدة في بيتين لا سيَّما إذا كان مشطوراً.

وبهذا يتم المطلوب الدِّفاعي عن إعجاز القرآن النَّثري الشَّريف وإن تحلَّى بشيء من الطَّراوة والطَّلاوة والحلاوة بالسَّجع البديعي وقطع من الموزون الشَّبيه بالشِّعر غير الاصطلاحي، لأهميَّة أن يكون أخاذاً للقلوب المحتاجة إلى الهداية السَّماوية ما دامت أدران الجاهليَّة العمياء متراكمة عليها.

لأهميَّة الأسلوب النَّثري في الاستدلال في جميع مجالاته، ومن أهمِّها بل أهمُّها الآن في الاستدلال الفقهي والأصولي وإن استعمل الشِّعر لدى الآدميِّين ومنهم أهل الدِّين بما فيه الكثير من الفوائد الاستدلاليَّة العامَّة والخاصَّة ومنها ما نحن بصدِّده، إلاَّ أنَّها بالأساليب والنَّتائج الإجماليَّة حتَّى الرَّجز من أنواعه مهما توغَّلوا في أعماق أساليبه للتَّوسعة في الاستدلال المحتاج إليه في أمر الفقه والأصول، لعدم إمكان نكران أوسعيَّة النَّثر ونجاحه التَّام في هذا المجال.

وقد أثبت النَّثر المطابق للقرآن والسنَّة من كلام الآدميِّين الخاص وجوده النَّاجح في

ص: 122

طول الزَّمان من زمن التَّشريع الأوَّل إلى هذا الحين وإلى أقصى أعماق أنواع الاستدلال المطلوب وهو ما يتطابق مع نفس الإعجاز القرآني المذكور وإن لم يستوعب أعماقه الأكثرون.

ص: 123

الباب الثَّاني

اشارة

فهرست الدِّراسات الأصوليَّة الآتية

قد أظهر الشَّيخ أستاذ الأساتذة المحقِّق الأصفهاني (الكمباني) قدس سره المعروف بشارح الكفاية بما كان أعمق منها بالدقَّة الفلسفيَّة في نظر أهل العلم الواردين في مجالات ذلك، وإن ابتعد عن الفلسفة في التَّطبيق كثيراً لصالح الدِّراسة الأصوليَّة ممَّا لم يكن مألوفاً بين من سبقه من التَّقسيم للبحوث الأصوليَّة وبالنَّحو المتسلسل من البداية إلى النِّهاية المفترضة في طرحه لها.

وقد تكون هذه الملاحظة الاقتراحيَّة البيانيَّة منه فيها ما يعين حسب خبرته التَّحقيقيَّة على إمكان تصوُّر أن تكون الأصول من سنخ العلوم الَّتي يصح ضبطها وتعريفها في قبال من لا يرى أنَّه من العلوم، وإنَّما هو مجموعة فوائد عُثر عليها في طريق التَّفكير الفقهي الدقِّي كما سيأتي بيانه.

ونحن نأنس بهذا الاقتراح حتماً ما دمنا في مسلك التَّجربة البحثيَّة لاستكشاف ما ينبغي قبوله من غيره وإن لم نتقيَّد بتماميَّة علميَّة هذه الأصول.

وذكر السيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره - وهو من قدامى تلامذته المعروفين بنعمة الحافظة - هذا المطلب استفادة منه في بداية دروسه الأصوليَّة لطلاَّبه تحت عنوان الفهرست، وهكذا بدأ البعض الآخر بنحو متشابه.

ولذا جعلنا عنوان هذا الموضوع في بداية مبادئ الأصول أو مقدِّمات مباحث الألفاظ باسم (فهرست الدِّراسات الأصوليَّة الآتية).

ولكن دخولنا فيها ينبغي أن يكون بعد بيان موجز الاستفادة من الأصول إن كانت تامَّة وتفصيليَّة وعن أي طريق تكون؟

ص: 124

إذ بعد الفراغ من تعاريف وخصوصيَّات هذا العلم - في صحَّتها من عدمها فيما يأتي بيانه بتوفيق الله تعالى - لابدَّ من السَّعي الجاد لمعرفة موارد الاستفادة منه موجزاً في تقديمنا هذا قبل تلك التَّفاصيل العلميَّة الآتية.

وهي بمعنى أنَّ أيَّ شيء يمكن أن نعرفه منها افتراضاً - عن الاستنباط القواعدي الأصولي - منتجاً أو ما يُسعى له لتأسيسه من القواعد عند مراجعة مدارك الفقه الأصوليَّة وملحقاته مع بعض الأمثلة للتَّقريب فهو داخل وإلاَّ فلا.

وهو مع هذا بلا شك ولا شبهة محرز النَّجاح ولو إجمالاً من كثرة التَّجارب والممارسات الاجتهاديَّة قديماً وحديثاً لدى الأساطين حتَّى جعل القطع النَّوعي في مسلك أهل البيت صلی الله علیه و آله و سلم الفقهي ومن سايرهم أو شابههم في مسلكهم من بعض المذاهب الأخرى ممَّا اتَّفق من ذلك بيننا وبينهم فيما قلناه عنَّا وعنهم من الإجمال إلى حين انكشاف الواقع الكامل عن الفقه والأصول في البحوث الآتية بالتَّساوي المجمل أو التَّشابه المطلوب من عدمه حوله.

إلى أن أصبح يؤخذ بتطبيق تلك القواعد الأصوليَّة المتَّفق عليها في موارد الحاجة وبما يكون الأمل فيه ناجحاً فيها ولو فيما بعد ولو في أوَّل وهلة على ما سيتَّضح في مقامات الاستدلال على كل مسألة فقهيَّة عن هذا العلم من الأبواب الفقهيَّة الآتية إن شاء الله تعالى.

وخلاصة المستنتج النَّوعي الَّذي ينبغي أن يكون من ذلك في أمرين وهما:

الأوَّل: الحكم الواقعي

وهو ما لو كان ثابتاً للشَّيء بما هو في نفسه فعل من الأفعال كوجوب الصَّلاة المستدل عليه من أوامره وأدلَّته المتعدِّدة في آيات الأحكام والسنَّة التَّابعة لها وغير ذلك، لأنَّه ثابت لها بما هي صلاة في نفسها وفعل من الأفعال، مع قطع النَّظر عن أي شيء آخر حتَّى كونها في الدَّار المغصوبة أو في حال وضع الكراهيَّة ككونها في آخر الوقت أو في

ص: 125

الحمَّام أو غير ذلك ممَّا لم نلاحظه طارئاً في الذِّهن حولها أو لكونها من الضَّروريَّات الَّتي لا يجوز نكران واقعيَّة وجوبها للغرض القاضي بفوريَّة الإطاعة فيه بالالتزام بها عند حلول وقتها من قبل المكلَّفين بحيث (لا تسقط بحال).

وهكذا وجوب الفرائض المسلَّمة والضَّروريَّة الأخرى الَّتي لا اختلاف فيها وإن اختلفت عن الصَّلاة في كون الصَّلاة (لا تسقط بحال) وبقيَّة الواجبات الضَّروريَّة مشروطة بأن تكون واجبة عند توفُّر الشَّروط كي تكون كالصَّلاة وهي بأجمعها الواجبات الَّتي يطلق عليها بفروع الدِّين الأساسيَّة العشرة.

وهكذا كل ما يصل إليه الدَّليل التَّام فهو مثل ما مرَّ من غيرها حتَّى بعض المسنونات المسلَّمة من غير التَّسامحيَّة في أدلَّتها.

وطريق هذا ما يسمَّى بالدَّليل الاجتهادي والمرتبط دائماً بالألفاظ القرآنيَّة الخاصَّة وتوابعها بحيث لم يفترض في موضوعه الشَّك في حكم شرعي سابق، وقد يطلق على هذا الواقعي:

أ - الأوَّلي: مثل الوضوء والغُسل للتَّهيؤ للطَّهارة المشترطة في أداء العبادة الخاصَّة المرتبطة بها إذا دلَّ الدَّليل المماثل نفسه عليه.ب - الثَّانوي: إذا دلَّ مثل ذلك عليه وهو التَّيمُّم المعوِّض عن الوضوء أو الغُسل لو فقد الماء أو منع استعماله من مرض أو نحوه.

الثَّاني: الحكم الظَّاهري

وهو ما يكون ثابتاً للشَّيء بما أنَّه مجهول الحكم الواقعي أو افترض في موضوعه الشَّك في حكم شرعي سابق، كما إذا اختلف الفقهاء في حرمة النَّظر إلى الأجنبيَّة أو وجوب الإقامة في الصَّلاة، ونحو ذلك الكثير من الأشباه والنَّظائر، بسبب البُعد الزَّمني عن الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ المؤثِّر على النُّصوص، أو بسبب ما حصل من الآثار والكوارث الطَّبيعيَّة وغيرها على بعض الأدلَّة الَّتي ما أبقت من أدلَّتها إلاَّ الظواهر غالباً.

ص: 126

فعند عدم الدَّليل على أحد الأقوال مثلاً كذلك - ولأجل عدم البقاء على الحيرة وبالأخص بعد العلم الإجمالي بأنَّ كل شيء من هذا القبيل ولو نوعاً لا يخلو من الحكم الشَّرعي حتَّى لو كان ظاهراً لتماميَّة شرع الله الثَّابتة في نصوص الكتاب والسنَّة وغيرها -

فلابدَّ له من وجود حكم آخر ولو كان عقليَّاً بسبب الانسداد كوجوب الاحتياط إن سميَّناه حكماً أو البراءة أو التَّخيير أو أصالة الحل أو عدم الاعتناء بالشَّك في بعض الموارد الخاصَّة أو البناء على تصديق الثِّقة وإن لم يكن عادلاً أو سائر الإمارات الأخرى إن تمَّ قبول هذه العلاجات عن نوعيَّة الانسداد المتفاوتة.

ولهذا وأمثاله سُمِّي حكمه بالحكم الظاهري، والدَّليل الدَّال عليه في مثل الأصول العمليَّة بالدَّليل الفقاهتي أو الأصل العملي المقرِّر للشَّاك في مقام العمل ممَّا سوف يأتي توضيحه والتَّدقيق فيه أكثر وبيان المختار من البحوث الأصوليَّة الآتية أكثر.

وبهذا تتلخَّص صلاحيَّة علم الأصول بتكفُّل بحوث الأصول على ما سيأتي ذكره في أن تكون عن أي شيء تقع نتيجته في طريق استنباط الحكم الواقعي تارة وعمَّا تقع في طريق الحكم الظاهري أخرى وعلى ما سيجيء ذكره في التَّعريف قريباً إنشاء الله تعالى.

ويلحق أوَّلاً بالحكمين النَّوعيَّين أهميَّة ذكر الأحكام الشَّرعيَّة أو التَّشريعيَّة التَّكليفيَّة الخمسة ومن بعدها الأحكام الوضعيَّة، لأنَّها أيضاً ممَّا يُستكشف أمره بواسطة الأصول أو الممارسات الفقهيَّة:

أمَّا الأولى: فهي الوجوب والتَّحريم والاستحباب والكراهة والإباحة من دون زيادة بسبب التَّتبُّع الكامل أو الحصر العقلي ودون نقيصة لمانعة الخلو، لأنَّ كل شيء في الحوادث الطَّارئة لا يخلو من أحد هذه الخمسة من لطف الله وفائق عدله وعلى أساس أن لا تكون المثوبة أو العقوبة في المباح.

والأوَّل: هو الإلزام بفعل الواجب بحيث يُثاب المرء على فعله ويُعاقب على تركه، وعن هذا الواجب يتفرَّع الوجوب إلى العيني والكفائي، ومنه يحصل الانقسام إلى

ص: 127

التَّعييني والتَّخييري.

والثَّاني: هو الإلزام بترك الحرام بحيث يُثاب المرء على ذلك التَّرك ويُعاقب على الفعل والارتكاب.

والثَّالث: هو الاستحباب، بحيث يُثاب المرء على الفعل ولا يُعاقب على التَّرك: إلاَّ أنَّهمرجوح بتسبيب الحرمان من فعل المستحب إمَّا بقلَّة الثَّواب أو عدمه.

والرَّابع: هو الكراهة، وهي عكس الثَّالث بحيث يُثاب المرء على التَّرك للمكروه ولا يُعاقب على ذلك الفعل، إلاَّ أنَّه مرجوح بسبب الحرمان من ثواب ترك المكروه بالمرَّة أو بتبعيضه.

والخامس: هو الإباحة، بحيث لا ثواب ولا عقاب في فعل شيء لا يعتريه حكم راجح أو مرجوح زائد عمَّا تساوى فيه الجانبان بل المرء مخيَّر فيه بتساوٍ بين الفعل وعدمه حول تلك الإباحة وهو حكم إلهي لا بتشريع أي عاقل على ما سيتَّضح في الفقه فراجع.

وسيتَّضح الأمر عن الإباحة بصفة أكثر في الأصول الآتية كما أوضحنا هذا الأمر في بحوث الاجتهاد والتَّقليد المتعلِّقة بالعروة.

وأمَّا الثَّانية: وهي الأحكام الوضعيَّة فهي الَّتي لم تظهر من الأدلَّة بصراحاتها في الغالب وإن ذكرت آيات الأحكام والرِّوايات التَّابعة لها خصوصاً وعموماً في بعض الأحوال كالنَّماذج مثل قوله تعالى [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ](1) وقوله [وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ](2) وقوله [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ](3) وغير ذلك.

ص: 128


1- سورة المائدة / آية 27.
2- سورة هود / آية 16.
3- سورة الزلزلة / آية 7.

لكنَّها في ذلك الغالب اصطيدت منها أمور بالنَّحو الموسَّع بصفة أكثر من قبل الفقهاء من تلك الأدلَّة الأخرى، بحيث لم تكن ملازمة دوماً للأحكام التَّكليفيَّة السَّابقة.

لأنَّ بعض من لم يجب في حقِّه شيء من الواجبات وإن كان بالغاً كالمجنون مثلاً في عدم وجوب الصَّلاة المشروطة بالطَّهارة عليه لا يعني ذلك أن يسمح له وليُّه حسب تكليفه الشَّرعي كولي يتبع حكماً من الأحكام ببقاءه على النَّجاسة في جسمه أو ردائه ولو من جهة الآخرين.

كما أنَّ الحكم التَّكليفي قد يأتي مثل شرب العصير العنبي وهو الحرمة وإن لم يكن نجساً وأمثلتها الطَّهارة والنَّجاسة والصحَّة والفساد والقبول والعدم ونتائج العقود كالزَّوجيَّة والملكيَّة ونحو ذلك.

ولذا بُحث هذا الأمر في الأصول تحت عنوان (هل أنَّ الأحكام الوضعيَّة جاءت متأصِّلة في الجعل أم منتزعة؟)

بمعنى أنَّ انتزاعها تابع للأحكام التَّكليفيَّة الشَّرعيَّة ومن أمثلة المتأصِّلة في الجعل الملكيَّة والزَّوجيَّة ونحوهما ممَّا يُعطي حليَّة التَّصرُّف في الأدلَّة ومن المنتزعة هي المصطيدة من قبل الفقهاء بفضل سعيهم وعثورهم عليها مثل الجزئيَّة والشَّرطيَّة للمكلَّف به أو كالسَّببيَّة والشَّرطيَّة لنفس التَّكليف.

أمَّا فيما تكون بالنِّسبة إلى المكلَّف به فهو المجعول بالتَّتبع لا بالأصول كجزئيَّة السُّورة للصَّلاة لعدم إمكان جعلها مستقلَّة لضرورة كونها تابعة للأمر المولوي.وأمَّا فيما يكون بالنِّسبة إلى نفس التَّكليف فلا يقبل الجعل الاستقلالي، بل هو أمر منتزع عن التَّكليف، لأنَّ سببه دلوك الشَّمس لوجوب صلاة الظهر مثلاً المجعول للشَّارع بتبع جعل الحكم التَّكليفي فلا تناله يد الجعل ابتداءاً.

وخالف في هذا بعض الأعلام، وهو ما سيجيء الوقوف عليه حين الوصول إلى تفصيله المناسب.

ص: 129

ويلحق ثانياً بالدَّليلين الماضيين الاجتهادي والفقاهتي وممَّا يخصُّهما ما ذكره أحد العلماء الأفاضل من التَّقسيم الأوسع في هذا الفهرست ممَّا لابدَّ من إمراره على الأصول الآتية، لتطبيق نجاحه في الأصول إن كان كما كان مطبَّقاً على ضوء الفقاهة القديمة وإن كان بلحاظ ما قد يكون مختلفاً باختلاف خاص به.

وهو كون انقسام الأدلَّة إلى ثلاثة وهي:

الأوَّل: الدَّليل اللَّفظي، وهو ما يأتي معناه قريباً.

الثَّاني: الدليل البرهاني، وأقلًّه كاستدلال بعض العوام على دليل صحَّة عمله (هذا ما أفتى به المفتي وكل ما أفتى به المفتي واجب في حقِّي فهذا واجب في حقِّي).

ولابدَّ أن يتجاوز إلى ما هو الأعمق وكما قال تعالى [وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ](1) أي عند الاجتهاد في انقسامه إلى البرهان اللمِّي وإلى البرهان الإنِّي وسيأتي التَّفصيل في محلِّه إن شاء الله تعالى.

الثَّالث: الدليل الاستقرائي، كالإجماع المحصَّل أو المتَّواترات الكاملة أو أخبار الآحاد من نوع المستفيض أو ما دونه وهو الواحد ومنه الأعلائي في جميع أفراده مع القرائن من الرُّواة ويلحق به موارد التَّطبيق الفقهي الأخرى ونحو ذلك.

ويمكن انحلال الدَّليل البرهاني في هذا التَّقسيم إلى المباحث العقليَّة ومباحث الحجَّة وهو ما يزيد في عدد الأقسام.

ولذلك يكون ما ذكره الشَّيخ المظفَّر قدس سره من التَّقسيم الرُّباعي الآتي في أصوله على ما استفاده من أستاذه الشَّيخ الكمباني قدس سره مع تصرفاتنا السَّابقة والحاليَّة هو الأقرب إلى الصَّواب وهو انقسام الأدلَّة أو مباحثها إلى أربعة وهي:

أوَّلاً: مباحث الألفاظ، وهي الباحثة عن مداليل الألفاظ وظواهرها من جهة عامَّة نظير البحث عن صيغة (افعل) في الوجوب وصيغة (لا تفعل) في الحرمة ومباحث العام

ص: 130


1- سورة يوسف / آية 76.

والخاص والمطلق والمقيَّد ونحوهما.

ثانياً: المباحث العقليَّة، وهي ما تبحث عن لوازم الأحكام في أنفسها ولو لم تكن تلك الأحكام مدلولة للفظ كالبحث عن الملازمة بين حكم العقل والشَّرع بنحو ما يوصل إلى الحكم الشَّرعي بعلم وجداني وتنقسم إلى قسمين:

الأوَّل: المباحث العقليَّة المستقلَّة.

الثَّاني: المباحث العقليَّة غير المستقلَّة، وهي القواعد الَّتي يتوقَّف استنباط الحكم الشَّرعي منها على ضم مقدِّمة شرعيَّة إليها كمباحث الضِّد ومبحث اجتماع الأمر والنَّهيومبحث النَّهي عن العبادة ومبحث مقدِّمة الواجب ونحوها.

ثالثاً: مباحث الحجَّة أو الحجج والإمارات، وهي الباحثة عن الحجيَّة، والدَّليليَّة كحجيَّة خبر الواحد وظواهر الكتاب وحجيَّة الظن والإجماع المنقول وكل دليل تثبت حجيَّته شرعاً.

رابعاً: مباحث الأصول العمليَّة، وهي ما تبحث عن مراجع المجتهد عند فقدان الدَّليل الاجتهادي أو فقدان ما يعين الوظيفة الشَّرعيَّة، كالبحث عن أصول البراءة والاحتياط والاستصحاب ونحوها وهي قسمان:

الأوَّل: الأصول العمليَّة الشَّرعيَّة، وهي ما يستعمله الفقيه كدليل شرعي مباشر على الإثبات للجعل الشَّرعي الكلِّي تعذيراً أو تنجيزاً كالاستصحاب والبراءة الشَّرعيَّة.

الثَّاني: الأصول العمليَّة العقليَّة، وستأتي تفاصيلها في مواضعها الآتية إن شاء الله تعالى.

وهذه الأقسام الأربعة في هذه المقدِّمة من الإلحاق الثَّاني المسبوق بالإلحاق الأوَّل وما قبله الَّذي سميَّناه بالفهرست عن المطالب الأصوليَّة الآتية بتفاصيلها الآتية بعدها.

ولنجعل المطلب الأخير لهذه الأصول لا كما جعله الشَّيخ المظفَّر قدس سره - وهو ما يعبَّر عنه عند أهل التَّدوين للعلوم ومنه موضوعنا الحالي (علم الأصول) بالخاتمة ولم يطبِّقه

ص: 131

هو رحمه الله فيما دُوِّن له من الكلام الأصولي بطباعته وهو الكلام عن مباحث التَّعادل والتَّراجيح أخيراً أو ما يعبَّر عنه عند آخرين من أقرانه كالأستاذ السيِّد السَّبزواري قدس سره بتعارض الأدلَّة وإن قدَّمه في كتابه (تهذيب الأصول) في أواخر مباحث الألفاظ لما قد بيَّن هناك بعض أسباب ذلك كما سيتَّضح للمتتبِّع -

وإنَّما لنجعله في خاتمة مباحث الحجَّة كما صنعه الشَّيخ المظفَّر قدس سره مع ذكر المرجِّح لذلك.

ومحاولة التَّعرُّف الكامل في المقام هذه ليكون تمام الكلام عن المقدِّمة الأصوليَّة ومعروضاتها وخاتمتها مسبوقاً بما لخصَّناه في هذا الفهرست لما فيه من الفوائد الجمَّة.

ص: 132

بداية ما يُسمَّى بمبادئ علم الأصول أو مقدِّمات مباحث الألفاظ

وفيه مباحث:

المبحث الأوَّل

موضوع كل علم وبالأخص علم الأصول

بعد أن ذكرنا سابقاً أنَّه عند الدخول في علم أهل الميزان خادم العلوم - المسمَّى بالمنطق للاستفادة منه وبواسطته في التَّعرُّف على كل علم يختاره طالبه -

لابدَّ في البداية من التَّعرُّف على ذلك العلم عن طريق الرؤوس الثَّمانية الَّتي أهمُّها تعريف ذلك العلم وغاية ذلك العلم وموضوعه وفائدته ورتبته.

وإذا أريد التَّعرُّف على مجموع تلك العلوم في آن واحد قبل ذلك فلابدَّ من التَّهيؤ لذلك بما يمكن السَّيطرة عليه وبما فيه تمام الفائدة ثبوتاً أو ثبوتاً وإثباتاً حتَّى لو خرج عن طور الذَّاتي والذَّاتيَّات إذا تطابق المصداق مع الأدلَّة كما في مثل علم الأصول لصالح المخدوم من جانبه وهو الفقه العظيم على ما سوف يجيء، ليكون أي علم خاص يخاض فيه منبثقاً من ذلك المعنى المتلائم معه إن كان كذلك لإثبات أصالته، بناءاً على أنَّ كل علم من تلك العلوم هو علم اصطلاحي في بابه حتَّى في أمر الموضوع الخاص به.

وأهم تلك الرؤوس الأربعة أو الخمسة - في نظر الشَّيخ الآخوند قدس سره عن كل علم في كفايته الَّتي أعدَّها تلخيصاً لما كتبه السَّابقون عليه من الأعاظم مع إبداء أرائه الخاصَّة في أي مقام من بحوث علم الأصول إن كان بعد التَّحدُّث في البداية عن أمر كل العلوم مقدِّمة له، سواء ضدَّ المشهور أو ضدَّ بعض الآراء الخاصَّة للتَّهذيب من الزِّيادة

ص: 133

والفضول - هو الموضوع.

ولذلك قدَّم الكلام أوَّلاً عن موضوع كل علم ثمَّ ثانياً عن خصوص علم الأصول، لأنَّ الكلام عن هذا الموضوع الثَّاني في البداية وإن لم يكن التَّعرُّض له مألوفاً بين الأصوليِّين السَّابقين ولذلك أخَّره فلما قد يتَّضح منه غرضه أكثر حينما يأتي على ما ذكر هذا المعنى السيِّد الشَّاهرودي قدس سره في تقريرات بحثه(1).

إضافة إلى أهميَّة ذكر أصل الموضوع للعلم أي (أي علم) كان ليميز الطَّالب بين ذلك العلم وعلم آخر وإلاَّ فتختلط عنده العلوم، ولذلك يكون ما يبتغيه غير مركِّز على الجهة الَّتي ترفع عنه الجهالة الخاصَّة حول العلم الَّذي أراده أو ما قد يزيده تشخيصاً له أو يرفع عنه بعض الاختلاط مع العلوم الأخرى أو بعضها إن كان محيطاً بالباقي حتَّى عرف لدى مشهور الأصوليِّين أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات وإن كان للشَّيخ قدس سره رأي آخر يخالفه، وهو فياعتبار كون التَّمايز بتمايز الغايات على ما سيتَّضح.

ولعلَّ بالخوض في محاولة التَّعرُّف على موضوع كل علم إن أمكن - بناءاً على تماميَّة كل العلوم المتعارفة اصطلاحاً - يمكن إن يُعلم ما كان مجهولاً من موضوع خصوص علم الأصول.

وإن لم يمكن فسوف يتبيَّن من التَّحقيق الآتي إن شاء الله تعالى أنَّ علم الأصول هو من تلك العلوم الاصطلاحيَّة أم لا؟ حتَّى يكون له موضوع معيَّن لو كان منها، وتلحق بذلك بقيَّة الرؤوس.

ونحن الآن نبقى مع المشهور تجربيَّا في البداية، لنعرف مدى العلاقة وإلى أي نحو تنتهي مع موضوع كل علم ولو مقداراً ممَّا قد يوصلنا إلى ما به إمكان الاستثمار الإثباتي؟

أم حتَّى لمجرَّد الثُّبوتي على أمل أن يعثر له في المستقبل ولو على مصداق من

ص: 134


1- نتائج الأفكار ج1 ص 17.

المصاديق؟

أم لمجرَّد توسعة الذِّهن إن ارتضيت على أقل تقدير كما في أمر الحاجة إلى التَّوغُّل في المنطق المقصود منه تلك التوسعة؟

أم إلى ما لا فائدة فيه ممَّا لا نريده ويرفضه الحريصون على أوقاتهم؟

أم به مضرَّة يضيع بها العمر ولو في المسير مع هذه النَّاحية بعضاً من طريقها؟

لنستشعر فيه ما وصل إليه نوع المدقِّقين، للفرق بين ما يدقِّقه الأصوليُّون بالدقَّة العرفيَّة وبين دقَّة الفلاسفة الَّذين يدخلون معارفهم الفلسفيَّة في المباحث الأصوليَّة، ولو بناءاً على ما ظهر من تجاربهم الأصوليَّة المثمرة إن كانت مميِّزة عن غيرها، ولو كنَّا نفضِّل الأعراف الأصوليَّة والمثمرة أكثر من غيرها.

لنرى أي القبيلين هو المنتج للعبور بعد ذلك القرار الآتي حول موضوع كل علم من غيره.

إلى حين مجيء دور الكلام عن موضوع خصوص علم الأصول، للتَّحدُّث عن موضوعه ثمَّ بقيَّة الكلام عن المهمَّات آنفة الذِّكر من الرؤوس اعتماداً على تقديم العام على الخاص حسب التَّسلسل الطَّبيعي المقبول.

ثمَّ يتبيَّن رأينا الأخير حول الموضوع بين المشهور والشَّيخ، أم هناك رأي آخر يصح التَّمسُّك به؟.

فذكر الشَّيخ قدس سره وغيره من الأساطين هذا الرَّأي عن موضوع كل علم حيث جعلوا بعض عبارات الكفاية محور أحاديثهم الأصوليَّة وإن خرجوا عن صدد مجاراتها في كل شيء تقريباً ارتباطاً بآرائهم الخاصَّة أو أساليبهم البيانيَّة أو كليهما.

ونحن على النَّهج الاستقلالي كذلك إن حالفنا التَّوفيق عن كلام الشَّيخ قدس سره جهد الإمكان بعد ذلك التَّقييد ولو في الابتعاد حسب المقدور عن التَّعقيد مع الإكثار من الأمثلة للتَّقريب إلى الذِّهن بكل ما فيه فائدة ملموسة دون غيرها.

ص: 135

ونبدأ معه قدس سره من قوله (أنَّ موضوع كل علم - وهو الَّذي يبحث فيه عن عوارضه الذَّاتيَّة، أي بلا واسطة في العروض - هو نفس موضوعات مسائله عيناً وما يتحد معهاخارجاً وإن كان يغايرها مفهوماً تغاير الكلِّي ومصاديقه والطَّبيعي وأفراده)(1).

أقول: كمغايرة مفهوم الفاعل مرفوع في علم النَّحو مثلاً لمفهوم الكلمة.

ولعلَّ سر الكلام حول موضوع كل علم أيضاً هو للإشارة إلى ما قد اعترى نفس علم الأصول الآتي بيانه وحده في كلام الأصوليِّين عن موضوعه بعد هذا المطلب لكونهم تطرَّقوا فيما ذكروه عنه أنَّه يبحث عن مجموعة مسائل متشتِّتة تصلح أن يكون كل منها علماً برأسه وحينئذ كيف يمكن السَّيطرة على موضوع موحَّد له، وهو ما سيتَّضح أمره أكثر عند بيان عبارة الشَّيخ قدس سره عن المتشتِّتة في كل علم مسائل علم الأصول الَّتي أنكر أن يكون لها موضوع محدَّد كما سيجيء.

وقد علم من هذا الكلام أيضاً عن الموضوع العام لكل علم بأنَّ المراد من عوارضه الذَّاتيَّة المرادة من البحث فيه هو للإشارة إلى عدم إرادة ما يقابلها وهي العوارض الغريبة في التَّحديد حيث أنَّ القدماء من علماء المنطق والأصول قسَّموا العرض إلى قسمين:

ذاتي، وهو المراد.

وغريب، وهو غير المراد حسب المستفاد من هذه الإشارة.

وعلى الأكثر أنَّ العرض الذَّاتي عندهم انقسم إلى ثلاثة أقسام، وكذلك ما يقابله من الغريب في تجارب الأحداث للأعراض من المتقابلين.

وقد اختلفت كلماتهم في تحقيق ما هو الذَّاتي وما هو الغريب حينما يلاحظ الذَّاتي بلحاظين مختلفين، وكذا العرضي ممَّا قد أوقع أو حتَّى ما قد يوقع البعض الآخر في الالتباس بسبب تفسير الذَّاتي بلا واسطة في العروض أنَّه ذا واسطة ولكنَّه لم يكن

ص: 136


1- كفاية الأصول ص 7.

كذلك حقيقة بعد التَّأمل أو مشابهة بعض الأمثلة مع بعض الوسائط للذَّاتي الحقيقي على ما سيجيء مع ما لم يكن مراداً بالدقَّة العرفيَّة دون الفلسفيَّة.

ولعلَّ الأقرب إلى الأذهان أنَّ الذَّاتي وهو القسم الأوَّل منه:

وهو ما كان عارضاً على الشَّيء أوَّلاً وبالذَّات هو من دون توسُّط شيء هناك أصلاً كما مرَّ في التَّفسير، كعروض الزَّوجيَّة للأربعة وعروض (كلَّما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان للإمكان ما لم يذدك عنه ساطع البرهان)(1) وعروض عدم الإمكان للممتنع لارتباط هذه الأمثلة بما لا واسطة فيه للعروض.

والثَّاني: ما كان عارضاً على الشَّيء بتوسُّط الأمر الذَّاتي المساوي له وذلك كعروض التَّعجُّب على الإنسان بواسطة النَّاطق، فإنَّ الإنسان والنَّاطق متساويان وهو ذاتي له، وإنَّما يعرض التَّعجب للإنسان لأنَّه ناطق، والتَّعجُّب والنَّاطقيَّة متلازمان و (مساوي المساوي مساوي) من ناحية ما ذكرناه من التَّلازم لذاتيَّته.

والثَّالث: ما كان عارضا للشَّيء بواسطة الأمر الخارج عنه اللاّزم له المساوي له، وذلك كعروض الضَّحك على الإنسان بواسطة أنَّه متعجِّب.

فالتَّعجُّب أمر خارج عن حقيقة الإنسان إلاَّ أنَّه لازم له ومساوي له فالضَّحك إنَّما عرضعلى الإنسان بواسطة هذا الأمر الخارج عنه المساوي له.

والمساواة هناك بمعنى أنَّ التَّعحب لا يعتري غير الإنسان من مثل القرد أو غيره من الحيوانات الأخرى وإن كان قد يظهر على بعضها الضَّحك في بعض الأوقات لأنَّها لا تعقل، لكون المتعجُّب مصاحباً للعقلاء حسب لأنَّه منهم وإن لم يكن دائماً على ضحك في تعجُّبه في بعض أحواله.

هذه هي أقسام العوارض الذَّاتية الثَّلاثة.

ولكن هل سلمت من الواسطة في العروض بأجمعها كالأوَّل، أم كان الاثنان

ص: 137


1- عن ابن سينا الإشارات والتنبيهات 3/ 418 النمط العاشر في أسرار الآيات.

الأخيران فيهما الواسطة فيه فقط؟ أو أنَّ الواسطة هنا لا تعد واسطة مخلَّة؟

المبحث الثَّاني

عدم الفرق بين الذَّاتيَّات والعوارض الغريبة في الشَّرعيَّات

فعلى رأي أهل الدقَّة الفلسفيَّة من الأصوليِّين - وهم من المشهور - أنَّ في الاثنين هذه الواسطة موجودة، لعدم انسجامهم مع العرف.

وعلى رأي أهل العرف من مثل الأصوليِّين القريبين من الواقع المعاش ومنهم الشَّيخ قدس سره أنَّ الواسطة فيهما غير موجودة على ما سيجيء بصورة أوضح.

وأمَّا أقسام العوارض الغريبة فهي أيضاً ثلاثة:

الأوَّل: ما كان عارضاً للشَّيء بواسطة المباين، وذلك كعروض الحرارة على الماء بواسطة النَّار.

الثَّاني: ما كان عارضاً للشَّيء بواسطة جزئه الأعم، وذلك كعروض المشي على الإنسان بواسطة أنَّه حيوان.

الثَّالث: ما كان عارضاً للشَّيء على جزئه الأخص، وذلك كعروض الضَّحك على الحيوان بواسطة الإنسان.

وهذه أقسام العوارض الغريبة أيضاً قد يكون لأهل العرف الأصولي فيها رأي يخالف أهل الدقَّة الفلسفيَّة منهم في أمر إمكان الذَّاتيَّة فيها بتوجيه مقبول.

وأمثلة الثَّلاثة الذَّاتيَّة والثَّلاثة العرضيَّة بأجمعها قال بها المشهور ونفوا الواسطة في القسم الأوَّل في مثالي الزَّوجيَّة للأربعة والإمكان والامتناع فقط وثبَّتوا الواسطة في الباقي.

ولكن الشَّيخ الآخوند قدس سره بقوله المعلوم (بلا واسطة في العروض) خالف المشهور

ص: 138

كما وعدنا بذكره(1) حيث جعله الميزان.

فأشار بهذا إلى أقسام الواسطة حيث جعلها ثلاثة بالصِّفة المقرِّبة للذِّهن بالنَّحو المقبول عنده ومن معه.

ونحن نعتبره الرَّأي الصَّائب على ما سيجيء بإذن الله، وهي:

الأولى: هي الواسطة في العروض، وهي الواسطة الَّتي يعرض العرض عليها أوَّلاً وبالذَّات، ثمَّ يعرض إلى ذي الواسطة، ثانياً وبالعرض، وذلك كالحركة العارضة على راكب السَّفينة بواسطة حركة السَّفينة، فإنَّ الحركة عرضت أوَّلاً وبالذَّات للسَّفينة ثمَّ بواسطتها عرضت على راكب السَّفينة، فنسبة الحركة إلى راكب السَّفينة بالعرض والمجاز، ويصح سلب تلك الحركة عن راكب السَّفينة، فيقال راكب السَّفينة ليس بمتحرِّك في نفسه حقيقة، ومثل هذا نسبة الجريان إلى الميزاب أو إلى النَّهر لا كجريان الماء نفسه فيهما، وهذا ما لا ينكره الشَّيخ قدس سره وأمثاله إلاَّ إذا أمكن توجيه اعتبار المجازيَّة للأخذ بها وتطابق الدَّليل الشَّرعي معه.

الثَّانية من أقسام الواسطة: هي الواسطة المسمَّاة بالواسطة في الثُّبوت، وهي عبارة عن العلَّة الَّتي تكون سبباً لعروض العارض على معروضها حقيقة، وذلك كالشَّمس أو النَّار الَّتي تكون علَّة وسبباً لعروض الحرارة على الماء، فالماء قد عرضت له الحرارة وأتَّصف بها اتصافاً حقيقيَّاً لا يصح سلبه عنه، فالماء حار حقيقة ولكن عرضت له الحرارة بواسطة الشَّمس أو بواسطة النَّار، فالنَّار هي العلَّة في عروض هذا العارض وهو الحرارة على المعروض وهو الماء فهي واسطة في الثبوت.

الثَّالثة: هي الواسطة في الإثبات وهي عبارة عن العلَّة الموجبة لثبوت شيء لشيء،

ص: 139


1- المخالفات للمشهور عند المرحوم الشَّيخ قدس سره عديدة، لكن لم نلتزم نحن بتعدادها في هذا الجزء أو فيما بعده على نحو التَّسلسل الكامل، وإنما ذلك حسب المصادفات في أهمية استعراض كلامه المخالف واقتضاء الحاجة المقاميَّة.

وذلك كالمتكرِّر من الحد الأوسط في قياس الشَّكل الأوَّل البديهي الإنتاج مثل (المتغيِّر) في قولنا (العالم متغيِّر وكل متغيِّر حادث) والنَّتيجة الحاصلة منه هي قولنا (العالم حادث)، فالَّذي حصل ههنا علَّة للعلم بثبوت الأكبر وهو (حادث) إلى الأصغر وهو (العالم) هو قولنا (متغيِّر).

فهذه العلَّة الَّتي صارت سبباً للعلم بهذا الحكم نسميِّها الواسطة في الإثبات ومثل هذا المثل ما أمكن تحقُّقه من الإشكال في المجالات الشَّرعيَّة.

وبعد معرفة هذه الأقسام الثَّلاثة للواسطة نعرف ما هو الميزان جيِّداً عند الآخوند قدس سره في كون العرض عرضاً ذاتيَّاً أو عرضاً غريباً، عدا تحرُّك راكب السَّفينة عند الشَّيخ بالعرض والمجاز لتحركه بالواسطة الواضحة كما في جري الميزاب أو جري النَّهر إلاَّ إذا قبل توجيه مجال الأخذ بها مع القرينة الواضحة.

والفرق بين الواسطة في الثُّبوت والواسطة في الإثبات:

أنَّ الواسطة في الثُّبوت من صفات سبب العارض لا نفس العارض والثُّبوت من صفاته.

والواسطة في الإثبات أعم من الواسطة في الثُّبوت.

لأنَّه كما يكون العلم بالعلَّة واسطة في العلم بالمعلول كذلك يكون العلم بالمعلول واسطةفي العلم بالعلَّة وأعم من الواسطة في العروض، لأنَّ العرض الَّذي يكون نسبته إلى المعروض بالعرض والمجاز يكون العلم به سبباً للعلم بالمعروض وبالعكس أيضاً.

وعليه فالعرض الَّذي تكون الواسطة فيه واسطة في الثُّبوت أو الإثبات هو عرض ذاتي عند الشَّيخ قدس سره .

والعرض الَّذي تكون الواسطة فيه واسطة في العروض هو العرض الغريب في التَّمثيل.

بلا فرق عنده بين الأعم والأخص مطلقاً والمباين، لإمكان توجيه الأمثلة بالذَّاتيَّة

ص: 140

أيضاً.

وللتَّوضيح أكثر بين فريقي الشَّيخ قدس سره والمشهور يتبيَّن ممَّا أشار له الشَّيخ في عبارته الماضية وهي (هو نفس موضوعات مسائله عيناً وما يتَّحد معها خارجاً) مدى الالتباس على القوم في مسألة العوارض العارضة على موضوع العلم بواسطة موضوع المسألة.

وذلك كالرَّفع مثلاً العارض على الفاعل الَّذي هو موضوع المسألة في علم النَّحو مثلاً عند عروضه على موضوع العلم وهو الكلمة.

فبناءاً على رأي المشهور يقع الإشكال في ذلك، حيث أن العوارض العارضة على موضوع العلم بواسطة موضوع المسألة عندهم هي من العوارض الغريبة، لأنَّها عروض على الأعم بواسطة الأخص في حين أنَّها في الواقع هي من العوارض الذَّاتيَّة، لأنَّ الواسطة فيها واسطة في الثبوت لا في العروض، لأنَّ الأخص لا يمكن إنكار حصَّته من الأعم في الذِّهن فلا يمتنع دوره في الوساطة وإن لم تطبَّق كليَّته المصداقيَّة في الخارج كالكلِّي العقلي الَّذي لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين في الذِّهن فقط.

فأراد الشِّيخ قدس سره التَّنبيه على اشتباه القوم بما التبس عليهم من ذلك فيما أعطاه من الميزان من التَّمييز بين العرض الذَّاتي والعرض الغريب.

فتكون بناءاً على نظر الشَّيخ قدس سره من العوارض العارضة للأعم بواسطة الأخص من العوارض الذَّاتيَّة، لأنَّ الواسطة فيها واسطة في الثُّبوت وهو ما يصل فيه المثال المضروب إلى حدِّ الاستقرار الثُّبوتي في الذِّهن وإن لم يكن مرتبطاً فعلاً بالمصداق الخارجي.

بخلاف ما لا يمكن فيه عدم إنكار ما لا يزيد على مجرَّد العروض من الواسطة كحرارة الماء بواسطة الشَّمس أو النَّار، لعدم إمكان إنكارها وجداناً تجربيَّاً في أمر الثُّبوت وكراكب السَّفينة في تحرُّكه بواسطة تحرُّك السَّفينة في أمر العرض الغريب، لإمكان إنكار أن يكون هو المتحرِّك وجداناً في ذاته في العكس إلاَّ إذا قبل توجيهه في الأدلَّة الشَّرعيَّة.

ص: 141

فمن هنا تتَّضح مخالفته للمشهور أكثر في شيئين:

أوَّلهما: التَّمييز بين العرض الذَّاتي والعرض الغريب.

ثانيهما: أنَّ العرض العارض على الأعم بواسطة الأخص من العرض الذَّاتي لا كما قاله القوم للمشاركة بين الأعم والأخص في الجملة.

وللتَّقريب إلى الذِّهن في المجال الفقهي تطبيقاً لما نحن فيه جرياً على مسلك الشَّيخ قدس سره أيضاً أنَّ الوجوب والحرمة العارضين للصَّلاة وجوباً ولشرب الخمرة حرمة قد عرضا عليها بواسطة المصالح والمفاسد كما هو رأي مشهور العدليَّة، مع أنَّ المصالح والمفاسد مبائنان لهما.وعلى ما التزم به المشهور في العرض الذَّاتي تكون أعراضاً غريبة، مع أنَّ الالتزام منهم بكونها غريبة غريب جدَّاً، إلاَّ أن يلتزموا بأنَّ الموضوع ليس هو فعل المكلَّف مطلقاً بل هو المتغيِّر بالمصلحة أو المفسدة، والحال أنَّه لم يصرِّح أحد بهذا القيد.

والَّذي يزيد المسألة إشكالاً أنَّ أهل المعقول فسَّروا العرض الذَّاتي بما فسَّره الشَّيخ قدس سره، ومع ذلك التزموا بأنَّ العارض للشَّيء بواسطة أمر أعم أو أخص داخليَّاً كان أو خارجيَّاً عرض غريب.

لأنَّ مرادهم من الواسطة في العروض المقابلة للعرض الذَّاتي ما كانت بحسب النَّظر الدقِّي لا العرفي.

والعرف للمتشِّرعة مقدَّم على النَّظر الدقِّي - من غير فرق بين عهدهم أيَّام التَّشريع الأوَّل وبين هذه الأيَّام - لأنَّ الأمور مبنيَّة على التَّسهيل ونفي العسر والحرج، ولأنَّ معنى الفلسفة عربيَّاً حب الحكمة لا الحكمة بدقَّتها دينيَّاً، ولأنَّ لسان الأدلَّة المرتبطة بالفقه والأصول غير ما هو النَّظر الدقِّي العقلي المستقل.

والمحكمات من تلك الأدلَّة ما كانت لتتَّكئ يوماً على العقل المستقل، لأنَّ (دين الله لا يصاب بالعقول) وإلاَّ لجعل مبنى الأمور دوماً عليه من دون حاجة إلى الأدلَّة الأربعة

ص: 142

حتَّى لو كان الانسداد العلمي صغيراً.

ولذا لو يتماشى مع مسلك أهل الدِّقة يلزم خروج جملة من العوارض المبحوث عنها في علم النَّحو وعلم الأصول وغيرهما عن كونها أعراضاً لموضوع العلم.

فالرَّفع المبحوث عنه فيما بيننا آنفاً في باب الفاعل يعرض موضوع علم النَّحو وهو الكلمة والكلام بواسطة الفاعليَّة وهي أخص من الكلمة والكلام.

ومثل مقدِّمة الواجب المبحوث عن الملازمة فيها في علم الأصول فإنِّها إنَّما يعرضها الوجوب أو عدم الوجوب لكونها مقدِّمة واجب لا لكونها مستفادة من خصوص الأدلَّة الأربعة على ما سيجيء بيانه في تشخيص موضوع علم الأصول.

فالوجوب يعرضها بواسطة أمر أعم فتكون على مبناهم من الأعراض الغريبة فتكلَّفوا في الجواب تكلُّفات هم في غنى عنها، لأنَّ أساطين العلمين نحواً وأصولاً لم ولن يتركوا مثل بحث الرَّفع في بابه وبحث مقدِّمة الواجب في بابه.

ثمَّ عقَّب الشَّيخ قدس سره بعد ما مضى بيانه من القول الماضي بقوله (وإن كان يغايرها مفهوماً تغاير الكلِّي ومصاديقه والطَّبيعي وأفراده)، أي أن موضوع العلم حسب مراده كلِّي طبيعي لا عقلي فقط ولا منطقي وموضوعات المسائل أفراده نسبته إليها نسبة الطَّبيعي والفرد فهو عطف تفسير.

وفيما ذكره سابقاً من قوله أنَّ (موضوع العلم - هو نفس موضوعات مسائله) إشارة إلى ما يراه من ردِّه لما يراه علماء المنطق في خاتمة علمهم من أنَّ موضوع المسألة ربَّما يكون نفس موضوع العلم وربَّما يكون مغايراً له.

لأنَّه إن كان المنطق كذلك عندهم فلا يلزم أن يكون الأصول كذلك مع بقيَّة العلوم الأخرى، كيف والمنطق كثير منه تحت التَّجربة على ما دقِّق في شرح المطالع وغيره.

بل إنَّ السيِّد الشَّاهرودي قدس سره في تقريرات بحثه ردَّ على ما تعرَّض له الشَّيخ الآخوند قدس سره من ردِّ المنطقيِّين على كون موضوعات مسائل العلم - أي علم هي نفس موضوع

ص: 143

العلم العام(1) - بأنَّ النَّفسيَّة هنا غير واردة في المقام ما دام شتات المسائل باقياً.

فإنَّ البحث عن حكم اسم إنَّ وخبرها واسم كان وأخواتها ونصب التَّمييز والحال وغير ذلك من أحوال النَّحو هي بحث عن أحوال موضوعات مسائل النَّحو لا حالات موضوع علم النَّحو إن حقِّق.

وهكذا ما يتعلَّق بعلم الأصول، فإنَّ حجيَّة خبر الواحد والشُّهرة والإجماع المنقول وهكذا هي من عوارض موضوعات مسائل الأصول، لا من حالات موضوع هذا العلم على افتراض تحقُّقه وهو الحق.

لأنَّ المسائل المطروحة لبحث الباحث كموضوعات للمناقشة والنَّقض والإبرام فيها - لمحاولة استنتاج القواعد من هذا العلم أو ذاك، وقد لا يكون التَّوفيق حليفاً لهذا الباحث أو ذاك وإن كان على مبلغ هائل من العلم فلم يوفَّق لاستنتاج البعض منها -

لم تكن كالمؤكَّدة في كونها موضوعاً لهذا العلم و ذاك ولو افتراضاً ليتحتَّم نجاحه.

المبحث الثَّالث

كيف تُرد شبهة أنَّ الواحد يمكن أن يصدر من متكثِّر لموضوع كل علم؟

قد دأب المشهور على تبَّني قاعدة أنَّ (الواحد لا يصدر إلاَّ من واحد) في جميع المجالات(2) وإن كان صحيحاً في الجملة لا في الجميع، كما في مقام الذَّاتيَّات التَّكوينيَّة

ص: 144


1- نتائج الأفكار للمروِّج الجزائري تقريراً لأبحاث السيِّد الشَّاهرودي قدس سره ج1 ص 22.
2- عن الأسفار الأربعة، وشرح منظومة الشَّيخ هادي السَّبزواري قدس سره قسم الحكمة وغيرهما.

وقضايا الخالق تعالى مع مخلوقيه والعلَّة الحقيقيَّة مع معلولها بحسب الدقَّة الفلسفيَّة، دون العرفيَّات وأمور العلوم المتعدِّدة في باب اتِّخاذ موضوع واحد لكل علم حسب افتراض أن يكون واحداً إن أمكن، وإلاَّ فلا موضوع لكلِّ علم.

لشتات مسائل بعض العلوم واختلاف بعضها عن بعض، بما لا يمكن فيه الجمع بينها على موضوع موحَّد على ما سيتَّضح بالمثال أكثر فكيف بموضوع كل علم.

أمَّا مسألة تشتُّت المسائل الموضوعة ممَّا مرَّت الإشارة إليه لكل علم عمَّا سيعرضه الشَّيخ الآخوند قدس سره بعد عباراته السَّابقة.

فقد قال قدس سره بعد ما مضى ذكره من أقواله (والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتِّتة جمعها اشتراكها في الدَّخل في الغرض الَّذي لأجله دُوِّن هذا العلم)(1).

أقول: أي هذا العلم أو ذاك حسب المستفاد من سياق عباراته قبل الدُّخول في صميم الكلام عن خصوص موضوع علم الأصول الآتي بيانه بعد هذا الكلام عن كل علم.

فالمسائل الَّتي يجب معرفتها قبل الشُّروع في هذا العلم أو ذاك ممَّا يعود إلى كل علم منها قد اختل فت كلمتهم في تحقيق ما يسمَّى (مسائله) للعلم الَّذي ارتبطت به.

فقيل أوَّلاً: أنَّ المسألة هي عبارة عن المحمولات على الموضوع فقط، مثلاً في قولنا (الفاعل مرفوع) تُعد المسألة منه هي قولنا (مرفوع).

وقيل ثانياً: هي المحمولات المنتسبة أي المحمولات بقيد الانتساب إلى الموضوعات، فمرفوع بقيد انتسابه إلى الفاعل هو المسألة.

وقيل ثالثاً: أنَّ المسألة هي المجموع المركَّب من الموضوعات والمحمولات، فتكون المسألة على هذا هي مجموع قولنا (الفاعل مرفوع).

وهذا الثَّالث والأخير هو المختار عند الشَّيخ الآخوند قدس سره أكثر من الثَّاني، وإن كان

ص: 145


1- كفاية الأصول ص 7.

فيه معنى الانتساب الواصل إلى التَّركُّب لظهور التَّركُّب في التَّعبير معنىً.

ووجه استكشاف هذا الثَّالث من قوله الَّذي ذكرناه آنفاً هو كونه عرَّف المسألة بأنَّها جملة من قضايا، والقضايا لا تكون إلاَّ مركبة.

ومن هنا وممَّا رتَّبه الشَّيخ قدس سره عليه من أنَّ المسائل المتشتِّتة المختلفة موضوعاً ومحمولاً مع اختلافها في هذا يطلق عليها اسم (علم واحد)، لوحدة الغرض المترتِّب على تلك المسائل لا للموضوع كما أفاده قوله الماضي (متشتِّتة جمعها اشتراكها في الدَّخل في الغرض الَّذي لأجله دُوِّن هذا العلم)، وهو ما قد يضعف كيان الموضوع في تبنِّي تمييز علم عن علم لا كما قاله المشهور.

ويقوِّي هذا الأمر في الغرض والغاية كما مرَّت الإشارة إليه وكما سيأتي بصورة أصرح في عبارة الشَّيخ قدس سره ، لإعرابه عن رأيه بقوله الآتي الَّذي يلي ما مضى بكلمة الإنقداح عنده بأنَّ التَّمايز بالغايات لا بالموضوعات.

ولكن قد يتعدَّد الغرض في المسألة الواحدة فتذكر في عِلمين مختلفين لاختلاف الغرضالمترتِّب عليها وذلك كمسألة اجتماع الأمر والنَّهي مثلاً.

فإنَّه تارة يبحث عنها في علم الكلام لغرض خاص فيه وهو معرفة ما يتعلَّق بأفعال الخالق سبحانه من أنَّه هل يجوز فيه اجتماع إرادة وكراهة لشيء واحد أم لا؟

وقد يبحث عن هذه المسألة تارة أخرى في علم أصول الفقه لما يترتَّب عليها من الغرض الملحوظ في أصول الفقه بعبارة الأمر والنَّهي ممَّا يناسبه من المدارك المثبتة للواجب والمحرَّم عن طريق تلك الأصول.

وهو أنَّ تعدُّد الجهة والعنوان هل يوجب تعدُّد المعنون فيكون شيء واحد مأموراً به من جهة وعنوان ومنهيَّاً عنه من جهة وعنوان آخر أم لا؟

وكذلك مسائل أخرى كثيرة من هذا القبيل، لكن لا تساعد على إمكان الاعتقاد باطمئنان أن يكون موضوع ومحمول للعلوم المتعدِّدة دوماً.

ص: 146

ولا أن يكون هو المايز لكل منها كالغاية والغرض ما دام العنوان الغائي متعدِّداً.

المبحث الرَّابع

بأي شيء تمايز العلوم هل هو بالموضوع أم بالغاية؟

لكن ممَّا استدلَّ به على أنَّ المايز في التَّحديد هو الغاية والغرض لا الموضوع والمحمول أمران:

أوَّلهما: ما تعرَّض له الشَّيخ قدس سره وهو أنَّه بناء على كون التَّمييز بالموضوعات يلزم عندنا أن يكون اختلاف كل موضوع موجباً لاختلاف الشَّيء نظراً إلى أنَّه موجب للتَّمييز فيلزم أن تكون المسألة الواحدة علماً على حِدة بناءاً على ما اشتهر بين المشهور بأنَّ (الواحد لا يصدر إلاَّ من واحد) في جميع المجالات ومسألتنا متعلِّقة بالعلوم.

وهذا لا يلتزم به ملتزم فيها وفيما لو تعدَّدت العلل المختلفة في أفعال المخلوقين أيضاً كالبيت الَّذي اشترك في بناءه تصميماً وإعماراً وكهرباءاً وماءاً وأبواباً ونحو ذلك جماعة كل له عمله المستقل.

وهذا أبسط مثال له مصاديقه الكثيرة في إنتاج الواحد من متكثِّر إلاَّ أن نجعل البيت موزَّعاً على أقسام كل قسم اختص به عامل خاص فلا وحدة للبيت كما لو جعلنا كل مسألة من علم من العلوم اختصَّ بها عالم امتاز بها عن غيره كعلم النَّحو في مسائله الكثيرة المشتركة في موضوع واحد.

فلابدَّ في هذا من الجامع العنواني وإلاَّ فلا علميَّة له وإن تشخَّص موضوعه.

وليس من هذا القبيل علم الفقه في مسائله لو تمَّ الاختصاص في كلٍّ منها لعالم متخصِّص لكن لا يمكن احتواؤها في جامع وإن كان هو أشرف العلوم بعد العقائد.

وقد علَّل سيِّدنا الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره بقوله عن علم الأصول (فلأنَّه تارة

ص: 147

يبحث عن الجواهر مثل الماء وحكمه وأخرى عن الأعراض مثل شرب الخمرة وتارة عن الأمور الحقيقيَّة مثل الماء أيضاً وأخرى عن الانتزاعيَّة كالغصب وتارة عن الأمور الوجوديَّة مثل الصَّلاة وأخرى عن الأمور العدميَّة مثل الصَّوم وتروك الإحرام وتارة عن بعض المقولات وأخرى عن بعض آخر ومعلوم في محلِّه استحالة الجامع بين الأمور الوجوديَّة والعدميَّة وجامع بين مقولتين الجواهر والأعراض وبين الحقيقي والانتزاعي)(1).

أقول: وهو ما لا يمكن نكرانه.

ودعوى: أنَّ الجامع هو أفعال المكلَّفين.

مدفوعة بأنَّه جامع انتزاعي لا حقيقي، والكلام في الحقيقي مضافاً إلى أنَّ أفعال المكلَّفين هو الجامع مع أنَّه أوَّل الكلام، فإنَّ نجاسة الماء وطهارته ونجاسة الخمر وطهارته ومثل كون المال ميراثاً وغيرهما من الأحكام الَّتي موضوعها ليس هو أفعال المكلَّفين.وبهذا ظهر سقوط لزوم أن يكون للعلم موضوع يمتاز به أصلاً لأنَّ دليل لزوم الموضوع مرَّ ما فيه.

ثانيهما: أنَّهم بعد أن قالوا أنَّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات وجاء الإشكال عليهم باتِّخاذ العلوم العربيَّة جميعاً في موضوع واحد مثل علم الصَّرف والنَّحو واللُّغة والتَّجويد وعلوم البلاغة الثَّلاثة وهي المعاني والبيان والبديع وغيرهما من سائر العلوم العربيَّة وهو اشتراكها جميعاً بالكلمة، فإذن لم يكن هذا الموضوع مميِّزاً علماً عن علم من هذه العلوم مع بقاء كل منها متميِّزاً عن الآخر بما لا يمكن إنكاره بين أقل من يكون من الطلاَّب الأذكياء؟

وأجابوا المستشكل عليهم عن مرادهم: بأنَّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيَّات.

ص: 148


1- في تقريرات بحثه من قبل شيخنا الجواهري قدس سره (غاية المأمول ج1 ص 95).

وممَّن اعتبر الحيثيَّة في المقام الشَّيخ النَّائيني قدس سره، لكن سمَّاها بالقابليَّة(1)، وقال بالحيثيَّة أيضاً صاحب نهاية الدِّراية قدس سره(2) بما إيضاحه:-

أنَّ مثل موضوع علم النَّحو هو الكلمة لكن لا مطلقاً بل من حيث الإعراب والبناء وكذلك موضوع علم الصَّرف هو الكلمة لكن لا مطلقاً أيضاً بل من حيث الصحَّة والاعتلال، وكذا علم المعاني هو الكلمة لكن من حيث معرفة الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وكذا علم البيان بأنَّ موضوعه الكلمة لكن لا مطلقاً بل من حيث إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة، وكذلك علم البديع موضوعه الكلمة لكن من حيث معرفة المحسِّنات البديعيَّة.

وهكذا حيثيَّات بقيَّة تلك العلوم العربيَّة إذن فالموضوع بهذا الاعتبار باق على اتِّحاده في ذاته وإن تعدَّد من ناحية الحيثيَّات فلا ضرر بهذا الاعتبار.

ثمَّ جاءهم الإشكال بعد ذلك مفصَّلاً لما قالوه بأنَّ هذه الحيثيَّة المعتبرة في الموضوع إمَّا أن تكون حيثيَّة تعليليَّة، وإمَّا أن تكون حيثيَّة تقييديَّة.

فإن كانت تعليليَّة فلا تفيدنا شيئاً لأنَّها تخصُّ العلَّة فلا يتعدَّد بها الموضوع ولا يتكثَّر، والعلوم مسلَّمة التَّعدُّد لو لم تتداخل بعضها مع بعضها الآخر.

وأمَّا أن تكون حيثيَّة تقييديَّة فهذا ليس بصحيح، لأنَّ مثل الإعراب والبناء في الكلمة المرتبطة بعلم النَّحو مثلاً من العوارض المتأخِّرة عن موضوعيَّة الكلمة فلا يعقل أن يتقيَّد بها موضوعيَّة الكلمة لأنَّه يلزم من ذلك أخذ ما مرتبته التَّأخُّر متقدِّماً وهو خلف صريح.

لكنَّ السيِّد الشَّاهرودي قدس سره في تقريرات السيِّد المروِّج لبحوثه(3) قال (إنَّ العلوم إن

ص: 149


1- فوائد الأصول / الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني ج1 ص 24.
2- نهاية الدراية في شرح الكفاية / الغروي الأصفهاني ج1 ص11.
3- مجلد أوَّل ص 25.

كانت موضوعاتها متباينة كعلمي النَّحو والطِّب فيكون تمايزها من وجهين الموضوع والغرض وإن كانت موضوعاتها متَّحدة كالعلوم العربيَّة فيكون تمايزها بالغايات والفوائد المقصودة منها مثلاً صيانة اللِّسان عن الخطأ في المقال تغاير الفصاحة والبلاغة وهكذا.

وهذا الأمر وجداني إذ الموضوع بعد أن كان واحداً في علوم، فالوجدان قاضٍ بكون جهة المغايرة الموجبة لتعدُّد العلم هي الفوائد والغايات المطلوبة من العلم، كما أنَّ الموضوعإن كان متعدِّداً يكون تغاير العلوم من ناحية الموضوع والغاية.

وخلاصة محاصيل ما نتج من هذا البحث أمور:

أحدها: عدم الفرق بين العرض الذَّاتي والغريب، لإمكان الاستفادة من القرار العلمي حتَّى من حامل المعنى المجازي مع القرينة ومن ذلك القرار الشَّرعي ولو بالتَّشخيص العرفي.

ثانيها: الواحد لابدَّ أن ينتج من واحد فيما بين الخالق والمخلوق كالكون والعلَّة والمعلول دون العلوم وما يشبهها من أعمال بني البشر فيكون واحدا من متكثِّر إلاَّ بالتَّوجيه الَّذي مرَّ ذكره.

ثالثها: تمايز العلوم بتمايز الغايات والفوائد في الجملة دون أن يكون في الموضوعات بالكليَّة وإن بقيت مشخَّصة لشتات المسائل، ولاشتراك جملة من العلوم في الموضوع كالعلوم العربيَّة بما لا تلاقي كل منها في مواضعها عند التَّخصيص في كل منها للتَّفاوت الملحوظ في المسائل ولعدم تماميَّة الحيثيَّة والقابليَّة، لكن العلوم إن كانت موضوعاتها متباينة كعلمي النَّحو والطِّب فيكون تمايزها من وجهين الموضوع والغرض كصيانة اللِّسان من الخطأ في المقال في الأوَّل وصيانة البدن من الأمراض في الثَّاني وإن اتَّحدت فكما مرَّ بالغايات والفوائد فقط.

رابعها: اشتراط أن تكون العلوم اصطلاحيَّة، كي يمكن أن يبحث عنها فيما مضى

ص: 150

وإلاَّ فلا داعي للبحث فيها.

خامسها: لابدَّ من التَّدقيق إن أريد في الشَّرعيَّات وأصولها بالعرفيَّات لا بالمنظور الفلسفي.

سادسها: قد تتداخل العلوم بعضها في بعض، وقد يكون علم واحد يمكن تجزئته في مسائله إلى علمين أو أكثر، وعن هذا الطَّريق أو ذاك قد يتضيَّق الجامع أو يتوسَّع أو غير ذلك لو لم تكن العلوم أو بعضها اصطلاحيَّة.

سابعها: إ نَّ موضوعات مسائل العلوم ليست هي موضوع نفس العلم وإنَّما هي نفسه بقيد الشَّتات في بعض الحالات قبل التَّحقيق أو كما في نفس موضوع العلم المحقَّق ولو افتراضاً.

ثامنها: ما ينقل عن الشَّيخ البهائي قدس سره قوله (سبقت كل ذي فنون وسبقني كل ذي فن).

أقول: وهو ما يدل فيما يدل ممَّا يظهر من عبارته عدم السَّيطرة الكاملة على الفنون العديدة وهي العلوم وهو ما يلازمه عادة معنى السَّطحيَّة في العلم لها، ومن ذلك ما سبق ذكره، ومنه ما سيأتي ذكره ممَّا يخص علم الأصول في شتات مسائله وإن كان كل منها علم برأسه.

وغير ذلك ممَّا لم يحضرنا الآن على ما سيتَّضح أكثر.

إلى هنا ينبغي أن نمسك عن الاسترسال بالكلام عن التَّدقيق في موضوع كل العلوم موحَّداً مع تفاوت تلك العلوم، لعدم إمكان السَّيطرة الكاملة عليه ما دام الفطاحل والفحول رأوا رجحانه، ولذا رأوا أنَّ الإطالة في ذلك هو من التَّطويل بدون طائل، وإنَّما المهم هو الدخول في صميم موضوع أصول الفقه إن كان الإنسان موفَّقاً في تحصيله، ومن الله التَّوفيق.

ص: 151

المبحث الخامس

ما هو موضوع علم الأصول الخاص به إن كان؟

بعد أن أغلقنا الكلام عن محاولة تشخيص موضوع جامع لكل علم - عندما تكلَّمنا بعض الشَّيء للوقوف على خبرة من التَّجربة ولو كانت يسيرة وإن لم يُحقِّق هذا الأمر تامَّاً كما فعل آخرون قبلنا من الأعاظم ومنهم من عاصرنا لا تقليداً لهم ولا تواطياً معهم، بل إنَّ آخرين من الأعاظم تجنَّبوا الدُّنو من هذا الباب من البداية حرصاً على الفرص الثَّمينة منهم لئلاَّ تذهب سُدى، وممَّن كتب شيئاً أو بعض شيء منه وإن أصابوا شيئاً من المرجِّحات أخذ الفكرة المختصرة عن حالة كونه غير منتج أو غير مريح في إنتاجه ثبوتاً لا إثباتاً إن كان كذلك، حذراً من الوقوع في مطب ما لا طائل تحته لما لخَّصناه في آخر مطاف الكلام السَّابق وما قبله من تمايز العلوم من خلاصات ما مضى، ممَّا قد يظهر عليها شيء كثير أو غير قليل من ارتباك أهل التَّدقيق في أمر إمكان إصابة ما ينفع حتَّى ما كان لتوسعة الذِّهن، ولذا أعرض المعرضون عنه من الأوَّل -

لزمنا الخوض في المقصود المشخِّص المهم من الرؤوس الأربعة أو الخمسة المختارة، بإضافة رتبة هذا العلم، وهو خصوص موضوع علم الأصول.

لئلاَّ يكون البحث عن مجهول بين العقلاء كما سبق، على فرض كون أصول الفقه علماً اصطلاحيَّاً كما يقال، للسَّعي في البحث عن تحديده أو الأدنى للسَّعي في تعريفه أو أي شيء يناسب الوصول إليه بعد اليأس ممَّا سبق أو يسبق الوصول إليه عند العجز عنه.

بل لأنَّ علم الأصول هو أيضاً غير متكفِّل للبحث الدَّقيق عن موضوع خاص له كما سبقت الإشارة إليه وكما سيتَّضح.

بل يبحث عن موضوعات شتَّى قد تشترك كلَّها أو بعضها في غرضنا المهم منه وهو استنباط الحكم الشَّرعي.

ص: 152

ولذا لم ينجح القرار الأصولي القديم للمشهور - وهو المنسوب إلى صاحب القوانين - في جعل الأدلَّة الأربعة وهي الكتاب والسنَّة والإجماع والعقل هي الموضوع له بما هي أدلَّة.

وكأنَّ هذه الأدلَّة مرهونة للتَّطبيق الاستنباطي الاستدلالي على نهجها فقط هي وأجزاءها من دون أن يكون للأصولي مجال للنَّظر الاجتهادي فيما اختلف فيه وعلى الأقل فيما وراءها.

ويرد عليه خروج مباحث الألفاظ، فإنَّ البحث فيها ليس من دليليَّة الدَّليل والالتزام بالاستطراد فيها كما ترى، وإنَّها من المبادئ في رأي الأستاذ السيد الخوئي قدس سره، لكنَّها لا يستغنى عنها في كثير من الأمور، بل منها ما يُعد من أُمَّهات علم الأصول وإن كانت قد تستخدم في مجالات علميَّة أخرى عديدة.

وسوف تأتي مصاديق استخدامها الأصولي بإذن الله كاستعمال (افعل) على الوجوب ونحو ذلك.

وكمسألة أنَّ الجمع المعرَّف بالألف واللام يفيد العموم؟ أو لا يفيد العموم؟ وهكذا.

أو بإضافة الاستصحاب بإضافته دليلاً خامساً غير الأصول العمليَّة، لاختلافهم في أنَّه من محض الدَّليل الشَّرعي أو العقلي أو منهما.

أو بإضافة القياس والاستحسان كما صنعه المتقدِّمون إن قُبلا كأدلَّة، وإن لم يكن ذلك القياس وما يشبهه مرتبطاً بخصوص أصولي العامَّة، لإمكان أن يتعدَّى ذلك قرارهم إلى قرار بعض علماءنا ممَّن أدخل تنقيح المناط في بعض حالاته عند البحث فيه، وكذلك بعض الأصول العمليَّة المسمَّاة عند العامَّة بالقياس مع خلوِّها عن الاستدلال لها بالأدلَّة الإرشاديَّة وعندنا بالأصول العمليَّة مع تمام ارتباطها بتلك الأدلَّة كأدلَّة حسن الإحسان وقبح الظلم، وإن كان قد يستفيد الجميع من ذلك حالة محاولة التَّقريب بين

ص: 153

المذاهب ولو لفوائد اجتماعيَّة خارجة عن التَّصادق على الحق الموحِّد بين الفريقين كالاستدلال من قبلنا للعامَّة لا لنا، بما يمكن أن يوصل إلى الوفاق فيما بيننا وبينهم مع كون دليلنا صحيحاً في نظرنا دون دليلهم.

ولا ما قاله صاحب الفصول قدس سره ردَّاً على قول المشهور أيضاً من أنَّها هي الأدلَّة الأربعة بما هي هي، وهي الأعم من كونها يبحث فيها عن الدَّليليَّة وغيرها ممَّا يخص جميع جوانب الأصول الخادمة لكلِّ أمور الفقه من أوَّله إلى آخره كليَّات وجزئيَّات.

وإن كان النَّقض على رأي القدماء يُسهِّل له المجال المحتمل للتَّصديق به في بعض المجال، للتَّخلُّص عمَّا يرد على التَّعريف الأوَّل من كون البحث فيه عن حجيَّة الخبر والظواهر ونحوهما بحثاً عن وجود الموضوع لا عن عوارضه فتخرج تلك المباحث عن مسائل الأصول وتندرج في المبادئ.

كما ويرد على هذا الثَّاني خروج مباحث الحجج كحجيَّة خبر الواحد والاستصحاب الَّذي أشرنا إليه للبحث حوله والتَّعادل والتَّراجيح عنها المعبَّر عنه أيضاً بتعارض الأدلَّة، لعدم إمكان الاستفادة منها قبل حصول النَّتيجة مع الحاجة إليها في الميدان الاستنباطي المتين ولو في الصُّورة الاستثنائيَّة، مع الحاجة الماسَّة إليه كذلك لتوسعة الدَّليليَّة بالأكثر ممَّا حدِّد ولذلك رجَّح الشَّيخ قدس سره اتِّخاذ رأيه الخاص به عن الموضوع بقوله في كفايته (موضوع علم الأصولهو الكلِّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتِّتة)(1).

بل وكذلك يمكن القول بخروج حتَّى الجامع بين موضوعات مسائل علم الأصول كما قاله المحقِّق الخراساني قدس سره عند قوله في الكفاية عن الموضوع عن أن يكون صالحاً لتمثيله عن الموضوع.

وإن كان هذا التَّعريف من الشَّيخ قدس سره يُعد احدى مخالفاته للمشهور كما سبق إن

ص: 154


1- كفاية الأصول ص8.

نسبنا بعض المخالفات منه ضدَّهم، فإنَّ الحسن في بعض ما يقوله ضدَّهم لا يلزم منه أن يكون دائم الحسن في البعض الآخر، ولأنَّ فيه عدم انقداح وحدة موضوع العلم خصوصاً في علم الأصول لا كما يدَّعي قدس سره .

إذ لا يمكن تصوير الجامع بين كثير من موضوعات مسائله لتضادِّها كالإمارات كاليد وسوق المسلمين والأصول كالتَّخيير والبراءة ونحوهما ودليل الانسداد في أمر الظنون الضعيفة وغيرها، فإنَّ مباينة موضوعات هذه المسائل ممَّا لا يخفى.

ولذلك يمكن أن يكون التَّعبير الأنسب عن الموضوع ما في نظر السيِّد الشَّاهرودي قدس سره(1) وهو (أنَّ علم الأصول عبارة عن كل ما له دخل بنحو الجزء الأخير للعلَّة التَّامَّة في استنباط الحكم الشَّرعي).

فخرج بالقيد الأخير العلوم العربيَّة والرِّجال، لأنَّها وإن كانت دخيلة إلاَّ أنَّها ليست هي الجزء الأخير من العلَّة التَّامَّة، بل هي تنتج صغريات مسائل الأصول لدخل العلوم العربيَّة في إثبات الظهور الَّذي يبحث في علم الأصول عن حجيَّته والرِّجال ينتج خبر الثِّقة الَّذي هو موضوع الحجيَّة في علم الأصول.

وقد يقترب هذا المعنى من الموضوع مع ما عرف عن تعريف السيِّد البروجردي قدس سره له بقوله (إنَّ موضوع علم الأصول هو الحجَّة في الفقه)(2).

فيمكن القول به على أساس كون الحجَّة موضوعاً افتراضيَّاً أو حقيقيَّاً ليلتجأ إليه حين العثور عليه وليُحقِّق في مسائل علم الأصول عن طريق الملائمة معه، لكن بناءاً على عدم إمكان القول بوجود موضوع ثابت للأصول جامع لتشتُّت مسائله، إلاَّ أن تثبت حجيَّة الحجَّة الفقهيَّة عن طريق التَّحقيق ولو طال الأمد.

فتتطابق حجيَّة تلك المسائل مع الموضوع المفترض له الحجيَّة للغرض الاستنباطي

ص: 155


1- نتائج الأفكار تقريرات الموسوي الجزائري المروِّج ص27.
2- نهاية الأصول، لحسين علي المنتظري / تقريرات بحث السيد البروجردي: 11.

الموحَّد بمستوى الحجيَّة الكاملة، ولإمكان أن تنحل مسائله إلى علوم متعدِّدة للتَّخصًّص في بحوثها أو بعضها فيتشتَّت موضوع كل منها على ضوء الحجَّة الفقهيَّة لا الموضوع الأصولي.

ففي الحقيقة أنَّه بالإمكان أن لا يكون موضوع للأصول حين البحث عنه بالتَّشخيص الافتراضي، وأن يكون له موضوع بعد الفراغ من تثبيته له والاستدلال النَّاجح للفقه عن طريقه.ولتأكيد عدم ضمان ثبوت الموضوع للأصول في كل حال جاء للسيِّد الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره ما مضمونه أنَّه على افتراض القول بأنَّ الموضوع هو أفعال المكلَّفين كما لا يخفى ممَّا سبق ذكره -

فإنَّه يقال بامتناع ذلك المتطابق من أفعالهم تماماً مع ما ينتج من توسُّط قواعد الأصول من نتائج الاستنباط، كوجوب الأشياء وحرمتها أو حليَّتها وحرمتها أو طهارتها ونجاستها ونحو ذلك بل على أساس الابتلاء بها.

وهذا هو الحق عند تقارب قرار العلَمين السيِّد الشَّاهرودي قدس سره والسيِّد البروجردي قدس سره.

المبحث السَّادس

التَّحديد أم التَّعريف والرَّسم أم شرح الاسم لعلم الأصول؟

بعد أن أتممنا ما وفِّقنا له من البيان على العجالة الَّتي بين أيدينا حين كثرة انشغالاتنا الدِّينيَّة وتبلور البال في شتَّى الشُّؤون الحوزويَّة والدنيويَّة المشروعة عن الرَّأس المختار من الرؤوس الثَّمانية المتعارفة بين المنطقيِّين ليكون الأوَّل في الذِّكر من بينها وهو موضوع

ص: 156

علم الأصول وسبقه بما يتيسَّر عن موضوع كل علم لما مرَّ التَّعرُّض له من وجيز سبَّب اختلاف الأصوليِّين في أمره مجاراة منَّا للشَّيخ الآخوند قدس سره في كفايته بالتَّقيُّد في عباراته الأولى ولو تبرُّكاً بالمطلع منها وإن لم نتقيَّد في بحوثنا الأصوليَّة الباقية هذه بشرح كفايته كبقيَّة الشُّروح وهي كثيرة جدَّاً، بينما هو الثَّاني في تعداد الرؤوس المعروفة لدى المنطقيِّين خدمة للأصول من بقيَّة العلوم.

جاء دور الثَّاني غير الاعتيادي في تسلسل الرؤوس عندهم، ليكون مكان ما مضى بيانه، لإتمام ما يلزم بيانه من مهمَّاتها.

وهو ما عن تعريف علم الأصول ولو لم يكن الوصول إلى حقيقته وحده على الأقل للسَّيطرة ولو بعض الشَّيء ذهنيَّاً أو حتَّى ما هو الأقل في التَّشخيص بما يسمَّى بشرح الاسم إن قبل.

لئلاَّ يدور الكلام حوله عن المجهول المطلق، وهو ممتنع عادة عقلائيَّة بين العقلاء من أهل العلم لما مرَّ ذكره وهم طلاَّبه الَّذين يحاولون الاستثمار من مفاهيمه ولو بهذا المستوى الضئيل، ولئلاَّ يتهَّم العقلاء من طلاَّبه فضلاً عمَّن يتفوَّق عليهم أنَّهم في شيء من السَّفه، وهو أنَّهم من طلاَّب المجهول أو بإغراء لهم في ذلك من بعض أساتذتهم وهي الخيانة العظمى لما ائتمنوا عليه.

والاهتمام بهذه المهمَّات قبل المقصود منها لمحاولة الوصول إلى ما به التَّكافل عن علم الأصول منها ليشد بعضها بعضاً ولتكون جملتها من مستوى معتبر واحد وإن حصل تفاوت عن بعض عنه.

ومن ثمَّ ليتبيَّن المراد عن حقيقة هذا العلم أنَّها من نوع الحد التَّام أو الرَّسم التَّام أو النَّاقصين أو ما يسمَّى بشرح الاسم لتقييم ما يتوصَّل إلى الاستنباط الفقهي عن طريقه أنَّه ممَّا قرِّر علميَّاً بأنَّه من القواعد التَّامَّة آليَّاً أصوليَّاً أو قواعديَّاً فقهيَّاً مباشراً معتبراً من أدلَّتهما المعتبرة؟

ص: 157

أم ممَّا عثر عليه ولو من مجموع الشَّتات أو بعضه الكافي من النَّصوص أو الظواهر من الآثار الشَّريفة حتَّى بما زاد على الأدلَّة الأربعة ممَّا حقِّق أن يكون من الأدلَّة موضوعاً وغاية لما دعت إليه الحاجة الشَّرعيَّة الماسَّة، والحاجة أم الاختراع كبعض المستحدثات المعاصرة من المسائل.

المبحث السَّابع

لماذا بدأ صاحب المعالم قدس سره بتعريف الفقه دون الأصول؟

وقبل الخوض بالكلام عن خصوص التَّعريف لعلم الأصول وما دار بين ما يسمَّى بالمشهور وبين ما يمكن تسميته بالمعارض كالشَّيخ الآخوند قدس سره يرجح منَّا التَّنويه عن رأي صاحب المعالم قدس سره قبل ذلك.

حيث ابتدأ بتعريف الفقه دون الأصول، والتَّلخيص لشيء من سرِّ ذلك، ومنه إمكان العلمبواقعيَّة علم الأصول والحاجة إليه كعلم قابل لأن يركن إليه أكثر ممَّا يركن إلى قابليَّة وفعليَّة الفقيه المجتهد المتضلِّع أو ما هو العكس أو ما به تتساوى الطَّاقتان وأدائياتهما حسب التَّحقيق الَّذي يوفَّق له السُّعاة.

فقال صاحب المعالم قدس سره عن الفقه في الاصطلاح (هو العلم بالأحكام الشَّرعيَّة الفرعيَّة عن أدلَّتها التَّفصيليَّة)(1).

فخرج ما كان في نظره الشَّريف خارجاً عن الفقه وأبقى ما كان مرتبطاً بالفقه في إصطلاحيَّاته مكان تعريف علم الأصول.

وكأنَّ التَّضلَّع الفقهي الاجتهادي الدَّقيق على النَّهج القديم عنده هو الأصول، أو أنَّها نابعة من حنكة التَّضلُّع من دون حاجة إلى التَّشخيص، أو أنَّ أسلوب الأصول

ص: 158


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين، مطبعة بهمن، قم المقدسة، ط5 /66.

القديمة هي الأقرب إلى النُّصوص كبحَّار ناجح في غوصه يلتقط من بحر فقهه ما يفيده من الأصول.

إلى أن أنهى علاقته بالفقه ثمَّ بدأ التَّعريف ببقيَّة ما يلزم من الرؤوس.

ولأجله علَّق من لم تثبت منه خبرة في الأصول عن المعالم الَّتي كانت لها ولأمثالها المرتبة المهمَّة بانتشارها الحوزوي المهم قبل الصِّناعيَّات المخترعة للأصول ومنها الزَّائدة بما مضمونه بأنَّ (المعالم ليس بكتاب أصول).

إلاَّ أن يريد من الأصول المعتبرة اليوم هي المطابقة للصِّناعة لا غير وإن زادت عن الحاجة أو أخرجت تلك الزَّوائد الفقه الأصيل عن طوره.

ولأجل هذا وأمثاله مع الأسف قلَّت العناية بالمعالم في الحلقات الدَّرسيَّة، بينما كانت في العناية بها أنَّها أوَّل السُّطوح.

وأكثر الظَّن أنَّ هجرها من هذا ومن ذاك لما ذكرنا كان من قلَّة المدرِّسين فيها، فكان السَّبب في ضعف خبرتهم بمضامينها العالية على النَّهج القديم والإغراء بتركها وإبدالها بما لم يعوَّض عنها حتماً ولو لخصوص ما تمتاز به أصوليَّاً في عصرها وفي هذا الزَّمان الَّذي خسرها غير العارفين بقدرها.

وأمَّا فيما بعد صاحب المعالم قدس سره وأمثاله فقد احتدم الخلاف بعد ذلك كثيراً بين الأصوليِّين قديماً وحديثاً، ولنختر المهم الشَّائع بين الفطاحل.

فقال المشهور عن الأصول في عبارة الكفاية وضمَّ إليها الشَّيخ عباراته التَّصحيحيَّة لما في نظره:

(ويؤيَّد ذلك تعريف الأصول بأنَّه العلم بالقواعد الممِّهدة لاستنباط الأحكام الشَّرعيَّة وإن كان الأولى تعريفه بأنَّه صناعة يُعرف بها القواعد الَّتي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو الَّتي تنتهي إليها في طريق العمل)(1).

ص: 159


1- كفاية الأصول ص9.

أقول: أي ويؤيِّد ما مرَّ ذكره من أمر الحاجة إلى البحث عن موضوع كل علم لو كان بالإمكان تشخيصه ممَّا قد بدأنا به، لئلاَّ يكون البحث عن المجهول وبالأخص عن خصوص موضوع علم الأصول، لنفس السَّبب من أنَّ نتيجته عند ذكر الأقوال الذَّاكرة له هل كانت لإمكان هذا التَّشخيص من عدمه وأسباب ذلك والوصول إلى النَّتيجة المناسبة أم إلى ترجيح كون هذا الأمر مرتبطاً بما يتناسب وترجيح القول بشرح الاسم ممَّا دون الحد والرَّسم؟

لأنَّ الموضوع في الماضي هو المسائل المتشتِّتة دون حقيقة العلم ورسمه على ما سيجيء حوله.

ولأجل هذا حاول الشَّيخ الآخوند قدس سره الوصول إلى ما يثبت ذلك عدولاً عن عبارة المشهور بقوله في المنقول عن الكفاية من كلام المشهور وكلامه بقوله بعد نقل كلامهم (وإن كان الأولى تعريفه بأنَّه صناعة ...إلخ).

ولم يقل عن ذلك عبارة (والأصح) مثلاً بدلاً عن الأولى على ما سوف يتَّضح أكثر، ولذا حذف كلمة العلم في تعريف ذلك المشهور وأبدلها بكلمة (صناعة) ممَّا يعرب عن السَّطحيَّةعمَّا يختاره الأصوليُّون عمليَّاً دون العلم الحقيقي حدَّاً ورسماً.

وبذلك يتَّضح معنى الأولويَّة الَّتي أرادها، وهو أنَّه ليس لعلم الأصول قواعد مضبوطة حتَّى يعلم بأنَّه علم بتلك القواعد كما في سائر العلوم.

بل علم الأصول - مع سطحيَّة التَّعبير حقيقة - الأجدر بها أن تسمَّى كما في تعبير أحد الأعاظم قدس سره :

(صناعة يقتدر بها على تأسيس قواعد تقع في طريق استنباط الحكم الواقعي والظاهري)(1).

وكأنَّها صياغة جديدة خارجة عن التَّعبيرات العلميَّة الواقعيَّة للعلوم إن كانت لها أو

ص: 160


1- منتهى الدراية ج1 ص22.

لبعضها واقعيَّة.

وهذه عبارة كنَّا نسمعها كثيراً في بحث السيِّد الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره وهي مقبولة لو لم تصطدم بمقررَّات الشَّريعة الأساسيَّة وثوابتها لتدوين الأصول.

المبحث الثَّامن

بعض الكلام عن الفرق بين القاعدة الأصوليَّة والقاعدة الفقهيَّة

وهذه المخالفة من الشَّيخ للمشهور تعد الخامسة من بداية ما راقبنا عباراته الماضية الشَّريفة إلى حد الآن، وكأنَّ الوفاق موجود في الجملة بينه قدس سره وبينهم إلى حد ما مع زيادة الأولويَّة بسبب التَّباين الموجود في المسائل التَّطبيقيَّة بين الموضوع والمحمول بين ما ينتج منه من خلال البحث فيه عن القواعد الأصوليَّة وما يلحق بها من القواعد الفقهيَّة.

وبين ما لم ينتج منه شيء فيلتمس بمسلك الانسداد بالتَّبعيض في الاحتياط بين الاحتياط الفعلي وبين التَّركي.

ووجيز الفرق بين القاعدة الأصوليَّة أنَّها كالآلة تستخدم في جميع ميادين الاستنباط.

بينما القاعدة الفقهيَّة تستخدم في الركون إليها في مقام استحقاق أن يستدل من مقاماتها الخاصَّة، وقد سبق ذكر هذا الأمر في احدى الفوائد الماضية.

وكثيراً ما كانت هذه الثَّانية مستخدمة من الفقهاء حتَّى قبل انتشار الصِّناعيَّة وبما لا يضر بل بما ينفع.

ويمكن الاستغناء عن لزوم إخراج الفقهيَّة المشتركة مع الأصوليَّة خوف الوقوع في الاشتراك بسبب قرينة (الباء) في الأصوليَّة لدلالتها على الآلية في تعريف المعبِّرين

ص: 161

بالصِّناعة عن الأصوليَّة في المبحث السَّابع، بينما الفقهيَّة لا تناسبها سوى كلمة (فيها).

وتوضيح المناقشة على أساس الأولويَّة بما يجعل تعريف المشهور غير جامع ومانع.

إنَّ قول المشهور بأنَّه (العلم بالقواعد الممِّهدة ...إلخ) لم يصلح أن يكون العلم جنساً قريباً لما مرَّ من عدم تصافي الكلام عن وجود موضوع محدَّد له.

ولذا أبدله الشَّيخ قدس سره من نفسه بكلمة (صناعة) وهو الفن الخارجي والقواعد الممِّهدة لم تصلح أن تكون هي الفصل القريب لتفاوت بعضها عن بعض ولا ما يكمل الرَّسم، لعدم ضمان أن تكون تلك القواعد قواعد جاهزة سواء بالواسطة أم بلا واسطة في تحرُّكها لصالح الاستنباط، لما مرَّ ذكره من الحاجة إلى عرضها على بساط البحث قبل اتِّخاذها قاعدة للتَّعرُّف في النَّتيجة على أنَّها صالحة لتكون واسطة بكلِّها أم ببعضها أم لا؟

مع احتمال تأكيد المشابهة بين تعبير المشهور بالعلم وتعبير الشَّيخ قدس سره بالصِّناعة إذا جملنا العلم على غير الاصطلاحي.

وعلى فرض عدم كفاية كلام المشهور في الجملة فيما لو انسدَّ باب العلم بوجوب الرجوع إلى الأصول العمليَّة الأربعة أو الأوسع منها.فقد حاول الشَّيخ قدس سره التَّعويض عن ذلك أيضاً بقوله الماضي مع إضافة (أو التَّي ينتهي إلها في طريق العمل) ليختار أحد التَّعبيرين.

وبهذا ينتهي الأمر إلى عدم التَّحديد وعدم التَّعريف التَّام، والبقاء على مستوى شرح الاسم إن لم نتجاوز الأدنى وشرح الاسم لم يعط أكثر ممَّا يكون الواضح والأجلى كما أشرنا سابقاً.

ولأجل أهميَّة هذه النَّتيجة ينبغي لطالب العلم الذَّكي أن لا يغيب عنه هذا الأمر مع التَّدبُّر.

فلم يكن التَّعريف في تعبير المشهور وتعبير الشَّيخ قدس سره بالجامع المانع، وأنَّ المسؤوليَّة

ص: 162

لابدَّ أن تتضخَّم أكثر حسب مستوى القضيَّة أمام المتورِّعين عسى أن يعثر على ما هو الأيسر والأبهر براءة للذمَّة.

ومن أسباب ذلك الأمور المتباينة موضوعاً ومحمولاً، وهي كثيرة من الَّتي تمر في طريق المستنبط بين الموضوع والمحمول وممَّا مرَّ ذكره من التَّمثيل تحت ما يناسب من العناوين الماضية.

فلا مجال إذن إلاَّ أن يعرَّف بما لا يزيد على مستواه بأنَّه (علم بقواعد) أو (نتائج تقع في طريق الاستنباط).

سواء كانت تلك النَّتائج كبرى القياس المنتج للحكم الكلِّي الفرعي كحجيَّة الخبر فإنَّها تقع كبرى قياس الاستنباط، إذ يصح أن يقال (صلاة الجمعة ممَّا قام على وجوبها خبر الثِّقة) (وكل ما جاء كذلك فهو واجب) فينتج (صلاة الجمعة واجبة) أم صغرى للحجيَّة كقولنا (الأمر ظاهر في الوجوب) و(كل ظاهر حجَّة) ف- (الأمر حجَّة في الوجوب).

فلا فرق في كون المسألة الأصوليَّة بين أن تكون بنفسها واقعة كبرى لقياس الاستنباط أو بالواسطة.

وعلى هذا فالقواعد الفقهيَّة المبحوث عنها في علم الأصول كقاعدتي التَّجاوز والفراغ وقاعدة نفي الضَّرر والأصول العمليَّة الشَّرعيَّة داخلة في علم الأصول.

كما وأيَّد ذلك جملة من الأعلام كالسيِّد الشَّاهرودي قدس سره والسيِّد السَّبزواري قدس سره في تهذيبه والشَّيخ المظفَّر قدس سره في أصوله ونحوهما وهي كذلك.

ص: 163

المبحث التَّاسع

الكلام عن بقيَّة ما يلزم من الرُّؤوس عن الأصول

الثَّالث: منها غاية علم الأصول

فلأجل عدم إيقاع طلاَّب علم الأصول - وتذكير مدرِّسيهم بأن لا يوقعوهم - في مطبَّات ما لا غاية معقولة ومقبولة له من هذا العلم ، لأنَّ عدمه يقترب ولو ظاهراً من عدم قصد أن يستثمر بشيء في قصده لعدم عقلانيَّة المقاصد العبثيَّة لاستحالتها في تصرُّفات العقلاء ومدى خطورة ذلك البالغة.

لابدَّ من إبداء لزوم أن تكون غاية مرتجاه تناسب المقام في طلب هذا العلم والتَّركيز عليها من بداية الأمر إلى نهاية بحوثه، سواء كانت الأصول تامَّة القواعد - كالمسلَّمات والأساسيَّات منها والَّتي تحت التَّحقيق لإعداد كونها صالحة للاستفادة منها من القواعد الإضافيَّة - أم لا؟ ولو افتراضاً أو إلى حين أن تكون جاهزة لتلك الاستفادة بانتظار أمر يتناسب معه كما بين الثُّبوت والإثبات، وسواء كانت تلك المسائل والقواعد متشتِّتة أو منظومة علميَّاً أو بعضها الصِّناعي الآخر كذلك.

ولم يتعرَّض الشَّيخ الآخوند قدس سره في كفايته إلى الغاية.

ولعلَّه لاكتفائه بذكر التَّعريف غير المبعد للغاية في مضامين عبارته اصطياداً، ولصحَّة التَّداخل من قوله (القواعد الممهِّدة لاستنباط الأحكام) والاستنباط هو الغاية المنشودة كما سبتَّضح قريباً أكثر.

وقد يجتمع هذا الرَّأس أيضاً مع شيء آخر من تلك الرؤوس وهو الفائدة، لعدم إمكان تحمُّل أن لا تكون بين العقلاء عند قصد تعلُّم هذا العلم أو هذه الصِّناعة.

والمساعد على ذلك - وإن أمكن وجود ضرورة هذا التَّعقُّل حتَّى عند إفراد الكلام

ص: 164

عن خصوص هذه الفائدة - هو إمكان بل معقوليَّة التَّداخل بين بعض هذه الرؤوس كما بين الغاية والفائدة، لكن الفائدة أعم من الغاية كما سيتَّضح في الأفراد عن الفائدة.

الرَّابع منها: فوائد علم الأصول

بعد تسليم أنَّ أي مسألة عامَّة وخاصَّة لابدَّ وأن يكون لها حكم إيجابي أو سلبي في الشَّريعة الإسلاميَّة، سواء كان لأمور الدُّنيا والآخرة حسبما حُقِّق في محلِّه عقائديَّاً بالارتباط بما بين المبدأ والمعاد أو خصوص ما يتصوَّر جهلاً عند الوجوديِّين العلمين وغير المسلمين من أمور الدُّنيا حسب.

لأنَّ الإسلام هو الجامع لكل جواهر المبادئ السَّماويَّة السَّابقة كمبادئ اليهود الَّتي كانت قبل التَّحريف والنَّصارى الرُّوحيَّة والأخلاقيَّة كذلك أيضاً والإسلاميَّة اللاحقة وزيادات في الإسلام سماويَّة في هذه الدُّنيا وأرضيَّة وإن حرَّفاها بعد ذلك.

فإنَّه لابدَّ أن يكون دين الله الكامل بعد أن كان إلهيَّاً في لطفه وصافياً من التَّحريف قبل وقوعه في الدِّيانات القديمة والحديثة المحفوظة في منظور المدقِّقين المنصفين لو خلُّوا وطباعهم الفطريَّة والعقليَّة السَّليمة من إبليس والدُّنيا والنُّفس الأمَّارة والهوى.

وإنَّ دين خاتم الأنبياء والمرسلين وما سبقه هو قانون الحياة لجميع معانيها حتَّى السِّياسات الَّتي أرادها الأعداء والجهلة، لأن تكون بعمومها وخصوصها فضلاً عن العلوم النَّافعة المزعوم بكونها غير شرعيَّة كالطِّب والصَّيدلة والفلك والهندسة والفيزياء والجبر وغيرها في معزل تام عن تصوُّر وتصرُّف النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ حاشاهما والفقهاء الجامعين المانعين.

فإنَّ القرآن الكريم - بعد أن ذكر أهل الدِّيانات القديمة كاليهود والنَّصارى وما أجروه من التَّحريف لمداركهم السَّماويَّة بما بين الإفراط والتَّفريط بما قد يتصوَّره السَّطحيُّون في دياناتهم ودراساتهم من هذه الشُّبهة وغيرها من الماديَّة والرَّهبنة -

ص: 165

ذكر ما ينفي التَّجاوزين ودعى إلى المسلك التَّوسطي في الدِّين الشَّرعي بعد العقائدي وفي الأخلاق والاستقامة بما بين المبدأ والمعاد ونحو ذلك من خصوص أمور الدُّنيا بمثل قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا](1).

ولا يخفى أنَّ الخطاب الإلهي في هذا التَّوسُّط كان للجميع وبقرينة ذكر النَّاس عموماً بشتَّى مشاربهم لمحاسبتهم أخرويَّاً، لأنَّ الدُّنيا دار عمل ولا حساب والآخرة دار حساب ولا عمل في مثل قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ](2) وغيره.

وقول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم عن الأخلاق والتَّعامل السُّلوكي بين المجتمعات (إنَّما بُعثت لأتمِّم مكارمالأخلاق)(3) لاعتزازه صلی الله علیه و آله و سلم بما بين المبدأين السَّماويَّين السَّابقين قبل التَّحريف.

وقد ذكر تعالى حرمة التَّحريف بقوله [مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ](4) وغيرهم كذلك في ذمِّ السَّابقين من أهل التَّحريف ومحاولات الملاحقين لقرآننا.

ولذا تصدَّى تعالى إلى حفظه ببركة مساعي النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ وصفوة الحواري بقوله [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ](5) وبعض العوامل الإلهيَّة الخفيَّة الَّتي تضمَّنها حديث الثَّقلين.

ص: 166


1- سورة البقرة / آية 143.
2- سورة الحجرات / آية 13.
3- البحار ج16ص210.
4- سورة النساء / آية 46.
5- سورة الحجر / آية 9.

ولذا نجد إسلامنا الصَّافي - بعد التَّحقيق العقائدي والشَّرعي والأخلاقي بعد التَّأمُّل والاجتهاد فيه وعن طريق الأصول المهذَّبة الَّتي لا تبتعد عن الثَّوابت الشَّرعيَّة غير المخلوطة بشبهات الأعداء من الخارج والدَّاخل والجهلة الَّذين لا نصيب لهم من العلم الكافي وإن كانوا في بعض التَّمسُّك الدِّيني الحري بهم لأن يكونوا فيه من المقلِّدة للمجتهدين الأتقياء -

أنَّه يدعوهم بأتم الأدلَّة العامَّة والخاصَّة إلى أن يكون مرجعاً لكل أمور الحياة وجميع مسائلها وقد أيَّدت ما ذكرناه مقولة الإمام الحسن المجتبى وهي قوله عَلَيْهِم السَّلاَمُ (اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً)(1).

والمعين على تيسير استنباط الأحكام العامَّة المذكورة من المدارك الثَّابتة الصَّحيحة هو علم الأصول ولو بالنَّحو المقرِّب لنقض كل ما يدَّعى غلطاً أنَّ هذه الأمور ليست من الشَّرع في شيء حتَّى يرى رأيه الصَّواب فيه بأن يكون منه ولو من المدارك العقليَّة التَّابعة للمشرِّع ولو ممَّا أرشد الشَّرع إليها لو أعوزتنا صراحة النُّصوص في بعض الأوقات.

على شرط أن لا يتمسَّك بالعقول المعارضة للشَّرع في كل مجالاته كآراء العلمانيِّين والفلاسفة في قوانينها الوضعيَّة غير الشَّرعيَّة، سواء الفلسفيَّات ممَّا قبل التَّرجمة الإسلاميَّة لها أو بعد التَّرجمة الَّتي ما سلمت من بقاء أو إبقاء الشُّبهات أو بعضها.

ممَّا أثار أهل الكفر إلى أن يقولوا باستنقاص الإسلام بعجزه عن حلِّه للمعضلات العلميَّة عن طريقه.

بينما أمره بمراجعة أهل الاختصاص عند الحاجة كالأطبَّاء ونحوهم هو كاف في أنَّ له الرَّأي الصَّواب وعدم تجويزه مراجعته ليترك ما هو مكلَّف به شرعاً في غير مورد الحاجة، كيف وهو الطَّبيب النَّطاسي في مجال عدم وجود الأطبَّاء الخاصِّين.

وأمَّا السِّياسات الَّتي منها بث النَّصائح للحكَّام لاستقامة أمور البلد في الحرب وفي

ص: 167


1- من لا يحضره الفقيه 3/ 156، وسائل الشيعة 17 / 76.

السِّلم كما كان أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ يوجِّه نصائحه لولاته على ولاياته في البلدان بين حين وآخر.

فإنَّه من صميم تعاليم الدَّولة الإسلاميَّة حتَّى كان حثَّ ذلك منه وهو الإمام العادل حثَّاً لهم كما ورد في الحديث (أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر)(1) ومن قبل أي إنسان.

لا كما قيل بأنَّه يجب على سائر النَّاس مطاوعتهم لأي سلطان وإن كان جائراً حتَّى ولو كان المسلم في داره مختاراً، لأنَّها مغالاة في المطاوعة والتَّقيَّة في غير مقامها، وأمَّا حفظ النِّظام العام غير المخل بالحياة الإسلاميَّة للفرد والمجتمع فهو واجب وفي غير موردنا المبحوث عنه.

وأمَّا الدُّخول في مسار سياسات أهل الكفر والظلمة ممَّا اصطنع منها فنيَّاً عندنا اغراءاً وعلى الأساليب الشَّيطانيَّة المورِّطة للمؤمنين وأهمُّهم العلماء.

فلا يجوز اقتحامها فإنَّها مسالك هلكة، إلاَّ إذا أحكم العالم البصير السَّيطرة على سلامة دينه ودنياه وشخصه ومجتمعه وأمَّته ولو بسحب نفسه من شرك الاصطياد عند الشُّعور بالخطر، فضلاً عن تأكُّد الضَّرر أو البقاء معهم حتَّى النَّصر إذا كان زمام المبادرة بيده حتَّىآخر مسار أهل الكفر والظلمة ولو بالاستعانة بنفس أهل الكفر والظلمة الأغبياء في سياستهم، لحرمان أنفسهم من فضيلة الإسلام وخط أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ بما كسبت أيديهم أو الاعتماد على الثَّوابت الإسلاميَّة العامَّة بين الجميع لو كان الظلمة في نفس المسلك الولائي الخاص أو الإسلامي العام بما لا إحراج للتقيَّة فيه أو الثَّوابت الإنسانيَّة الَّتي لا خوف من المعارضة فيها بين الحكَّام الظلمة أو من طغى من أهل الكفر، لصراحة الأدلَّة الإسلاميَّة العامَّة بين المذاهب الإسلاميَّة كلِّها أو الأدلَّة السَّماويَّة العامَّة بين الملل والنِّحل كلِّها من كافَّة الكتب حتَّى المحرَّفة فيما تبقَّى منها ولو إنسانيَّاً.

ص: 168


1- غوالي اللئالي ج1ص 432 المسلك الثالث ح131.

ومن مضار ترك الأصول النَّاصرة - في قواعدها الأصيلة للثَّوابت من المدارك الإسلاميَّة وما اتَّسع من تلك القواعد الزَّائدة عليها غير الخارجة عن صميم الأدلَّة أو الإرشاد حجَّيَّة ما تقر به العقول المقبولة في كل منطوق ومفهوم -

هو الخروج عن الدِّين وعليه وعن تعاليمه بالبدع الَّتي ما أنزل الله بها من سلطان بمثل القياسات والاستحسانات وسدِّ الذَّرائع ممَّا حوته وتمسَّكت به أصول الآخرين أو بالتَّمسُّك باطلاً بما وضع باطلاً من النُّصوص من كعب الأحبار وأمثاله قديماً وأيَّام الأمويِّين.

ملحق بفوائده ومضار تركه

ومن تلك الفوائد ومضار التَّرك هو ما ذكرناه آنفاً متناسباً في الجملة أو التَّفصيل مع الثَّالث، ولأجل الحديث عنه مستقلاًّ نقول:

لم تكن فائدة علم الأصول منحصرة في خصوص هذا العلم ولا محصورة في معنى خاص من معانيها إن تعدَّدت فيه أو منه، بل هناك فقاهة اجتهاديَّة مثلى كانت عند حواري النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من عترته ناتجة عن خير الاستدلالات أيَّام تجوالهم بابتعادهم عن أئمَّتهم للتَّبليغ في بقيَّة البقاع من الأرض كما دلَّت عليه آية النَّفر وغيرها.

وقد سبقت حالة اشتهار علم الأصول واتِّخاذه صناعة بعد ذلك مفصَّلاً على ضوء قواعده الثَّابتة أو المتكاملة للاستنباط بواسطتها.

وإن كانت تلك الفقاهة في القديم لا تخلو من بعض أو حتَّى كثير من القواعد الأصوليَّة غير الملتفت إليها في طريق الاستنباط، نتيجة للممارسات النَّاجحة الكثيرة والمتظافرة خلفاً عن سلف ومن أهم المصادر الشَّرعيَّة وعن أفضل الأساليب وأبسطها.

وقد دوَّن بعضها في زمنهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ مع القواعد الفقهيَّة الكثيرة المطبقة آنذاك.

كما قد اختير بعضهم قضاة ناجحين في اجتهادهم وبإشراف أهل الخبرة والأئمَّة

ص: 169

عَلَيْهِم السَّلاَمُ في فترات مسجَّلة في الكتب الأربعة الأولى والأخيرة وغيرها من مصادرنا الشَّريفة.

وعلى أساس عدم لزوم أن تكون تلك الفقاهة ظاهرة عن نفس علم الأصول، حتَّى لو عرفت صناعيَّة في قواعده لأصالة الشَّرعيَّات الفقهيَّة وما صحَّ من مصادرها الأساسيَّة متواتراً عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والعترة المطهَّرة عَلَيْهِم السَّلاَمُ.

بل إنَّ قواعد الأصول أكثرها ظاهراً فيما قبل منه ونجح صناعيَّاً فيه بعد البحث والتَّنقيب عن تلك الفقاهة، وذلك التَّبحُّر الَّذي قد تضييع عنده تلك الأصول، ممَّا قد احتمل فيه أنَّ هناك خلفيَّة فقهيَّة - طالما تفوق بعض أصول الأصوليِّين المحدِّثين - مكَّنت الفقهاء العظام ليمنحوا القواعد والفوائد من فقاهتهم ثمَّ أنجحت بأيديهم كيف يستنبطون بنجاح الأحكام عن القواعد والفوائد.

وقد أشرنا حول الكلام عن تعريف الأصول إلى هذا المعنى، وهو ما جعلناه الثَّاني من الرؤوس المنطقيَّة لكل علم، وهو الماضي ذكره باستشهادنا بما عرَّفه صاحب المعالم قدس سره في كتابه من تعريفه للفقه دون الأصول إلى شيء أو بعض شيء، ممَّا خالف أسلوب الأصوليِّين اليوم، مع كون المعالم يُعد حوزويَّاً في النَّجف الأشرف وغيرها أول السُّطوح في الأصول،ولذا عدَّت دراستها مهمَّة في بابها قبل دراسة أصول اليوم.

مع عدم ضمان النِّجاح التَّام في تعريف الأصول بما يساوي الفقاهة العظمى، لكثرة من حوى الأصول وتوغَّل فيها، بل عُدَّ من أكابرها ولكن ليست له تلك الفقاهة أو أوصله ذهنه وعقله إلى عدم رفضه أو رضاه ببعض القياسات الممنوعة.

ولأجل عدم البخس بحق العلمين النَّاجحين لو تكاملا في واحد قد جمعهما - وإن ندرت مصاديقهما فيه الفقاهة العظمى عن التَّبحُّر والممارسة وأصول الفقه النَّاجحة في أفضل ما بينَّاه - كنَّا قد قلنا بعدم الانحصار في فائدة واحدة.

وهذه الفائدة في نوعها هي الَّتي مرَّت في الكلام عن الغاية وبما لم ينحصر في فائدة معيَّنة، وهي القدرة على الاستنباط وتيسير فعليَّته أو تسهيله بكثرة الممارسة أو حتَّى من

ص: 170

مرَّة واحدة، ولإلقاء الحجَّة من الشَّرع على المكلَّفين، ولإبراء الذمَّة وحتَّى بما لم يفوت علو درجة العبد الرَّاغب في المزيد كما في استنباط المستحبَّات ليلتزم بها والمكروهات لتجتنب استحباباً حتَّى الَّذي يستكشف أمره في تخيير بين الفعل والتَّرك، ولتثبيت المعذريَّة بين يدي الله وشرعه وإن لم يوفَّق لإدراك ما كان يصبوا نحوه بعد عدم تقصيره عند اقتضاء الحاجة لاستفراغ وسعه فقهاً وأصولاً.

واعلم أنَّه لم تتقيَّد هذه الفوائد أو بعضها بخصوص قصد الطالب لها من بداية طلبه لهذا العلم بمثل ما تتقيَّد الغاية بالقصد لها من بداية طلبه قريباً.

بل كثيراً ما تنال فوائد هذا الأمر وإن لم يلتفت إليها من البداية مع التَّوجُّه التَّام إليها ولو في الطريق بل حتَّى الغاية لو التفت إليها الطَّالب في ذلك وقصدها، فإنَّه لم يكن ضامناً لما يريد مثل ما يدركه صاحب التَّوفيق إليه لو أخلص في منواه.

الخامس منها: حول مرتبته العلميَّة بين العلوم

فالأصول على أي نحو وصل بأيدينا منه ما وصل لابدَّ وأن يصل حتَّى إجمالي ما يعتبر منه أنَّه إلى الأدنى من علم الفقه إلى مسلَّماته في ضروريَّاتها الإجماليَّة وغير الضَّروريَّات المحتاجة إلى استفراغ الوسع واستغناء هذه الأصول عن الفقه من غير المسلَّمات الَّتي لا تتنجَّز حالة النَّفع منها لكونه صناعة كما هو موفور قدسيَّاً فيه وفي أهله ما يفيد.

بل هو المعد خادماً لمقامه بعد أن كان الفقه هو أفضل علم عرفته الحياة الشَّرعيَّة الإلتزاميَّة بعد علم العقائد.

ومنه يتجلَّى وعن طريق تداخل بعض الرؤوس ببعض نوع الحاجة إلى الفقه الأعظم، وعن طريقه تتجلَّى الحاجة إلى ما تكامل من أمر خادمه من الأصول، وإن تقدَّم عليه في الرُّتبة الدِّراسيَّة في الآونة الأخيرة.

ص: 171

المبحث العاشر

من مبادئ مباحث الألفاظ ذو المقدِّمة (الوضع) للمسائل

بعد التَّفرُّغ النِّسبي - عن الَّذي لا ينبغي تركه أو لابدَّ منه بين الأصوليِّين وأهل الصِّناعة - من الرؤوس الثَّمانية - قبل مقصودهم من المقدِّمات التَّمهيديَّة طبقاً لما تعارف منطقيَّاً أن يجري لكل علم يُراد معرفته للتَّمكُّن من الاستفادة العلميَّة منه على ضوء ما حواه، ومن ذلك ما نحن بصدد استعراض مجمل بحوثه من بدايتها إلى نهايتها بتطبيق هذه المقدِّمات أو بعضها عليه، بعد الاستعانة بالله والتَّوكُّل عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل -

لزمنا الخوض في ابتداء الكلام عن ذي المقدِّمة، وهي مبادئ مباحث الألفاظ الَّتي مطلعها الكلام عن الوضع للألفاظ المعنونة لما يبحث فيه عادة من مضامين المسائل المطروحة، لتكون معبِّرة بعد الفراغ من البحث فيها عن احدى القواعد الأصوليَّة الممهِّدةللاستنباط أو المؤسَّسة له ونجاح ذلك فيها ثمَّ تتلوها الأخرى وهكذا تباعاً.

وقبل ممارسة ذلك لابدَّ من التَّنبُّه إلى الغاية لعلم الأصول بعد عدم ذكر الشَّيخ قدس سره صراحة لها، لما كنَّا قد أسلفنا عنه في تصدِّيه في كفايته بأنَّها يمكن اصطيادها ممَّا ذكر عن المشهور وكذا عن جنابه قدس سره في التَّعريف، وهو ما يصلح أن يطلق عليها قول (غاية علم الأصول هي معرفة القواعد الَّتي يمكن أن تقع في طريق الاستنباط أو التَّي ينتهي إليها في مقام العمل)، لتصلح الممارسة لما يأتي بعد العلم بالغاية.

ص: 172

(أقسام الوضع من حيث المناشئ)

وبعده نقول:

إنَّ من جملة مبادئ المباحث اللَّفظيَّة الَّتي أدرجت في المسائل الأصوليَّة هي مسألة معرفة حقيقة الوضع أي وضع اللَّفظ وجعله لمعناه، لاعتياد الأصولييِّن على ذكر الوضع في المقام، نظراً إلى أنَّ المباحث اللَّفظيَّة إنَّما تتعقَّل بمعرفة دلالة اللَّفظ على معناه ودلالة اللَّفظ على معناه لا تكون إلاَّ بالوضع عادة نظامية، سواء في كلام الوحي أو السنَّة والآدميِّين.

فإذن وجب معرفة الوضع أوَّلاً لنعرف كيفيَّة الدِّلالات عن هذا الوضع بعد معرفة علاقة الوضع بالألفاظ ودلالتها، لأنَّه محورها بين العقلاء ولو في الجملة، كبدايات الرَّبط بين اللَّفظ والمعنى لا دائماً على ما سوف يجيء، وهو انسجام اللَّفظ مع المعنى بقوَّة وإن لم يمنع من تعدُّد الواضع في طول التَّأريخ وعرضه.

(الوضع التَّعييني والتَّعيُّني والاستعمال في كل منهما)

ثمَّ اعلم إنَّ القوم السَّابقين على أمثال الشَّيخ الآخوند قدس سره منهم من عرَّف اللَّفظ بأنَّه (تخصيص اللَّفظ بالمعنى) ومنهم من عرَّفه ب- (تخصُّص اللَّفظ بالمعنى).

نظراً إلى أنَّ التَّعريف الأوَّل تخصَّص بخصوص الوضع التَّعييني، لأنَّه ما جاء إلاَّ بوضع واضع وجعل جاعل.

والتَّعريف الثَّاني تخصَّص بخصوص الوضع التَّعيُّني الحاصل، بسبب كثرة الاستعمال للَّفظ في المعنى ولو مجازاً لا بسبب الواضع أو حتَّى الواضع الواحد وإن بدأ أوَّلاً منه بغفلة عنه.

ولعدم وضوح الرؤية المميِّزة لأحد الرَّأيين على الآخر - ولو من حيث الأساس

ص: 173

ووجود كلتا الحالتين في كلام الوحي وكلام المعصومين أنبياء ورسل وأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ بعد ورود النُّصوص من الجانبين وفي كلام سائر الآدمييِّن وبما لم يمتنع عن تعقُّله كافة العقلاء الأدباء -

خالف الشَّيخ قدس سره، بل عدل عن كلام السَّابقين في هذا الوضع من العلاقة بقوله عنه (هو نحو اختصاص للّفظ بالمعنى، وارتباط خاص بينهما، ناش من تخصيصه به تارةً، ومن كثرة استعماله فيه أُخرى)(1).

أقول: فلا يستبعد هذا الرَّأي للحالتين وإن لم يكن التَّعيين مرتبطاً بالاستعمال المستمر على أحد الآراء والتَّعيُّن بكثرة الاستعمال بعد ابتدائه بالكثرة وإن كان أساس وضعه مصادفة وبلا مناسبة حتَّى قبل أوان المدنيَّة من تحركُّات بعض الأفواه بواسطة الصَّوت وتحرُّك الألسنة وحروف الحلق.

وقد سار تقريباً على هذا النَّهج من التَّعريف السيِّد المقدَّس الشَّاهرودي قدس سره.

وفرَّع الشَّيخ قدس سره على هذا قوله الآخر (وبهذا المعنى صحَّ تقسيمه إلى التَّعيينيوالتَّعيُّني) لعدم إمكان نكران الحالتين وهما الاعتياديَّتان في الوجدان وعلى الدَّوام.

(تجلِّي معنى الوضع بين ما قيل وما يُقال)

وبما مرَّ من المعنى يتجلَّى معنى الوضع إضافة إلى ما سيجيء من نفي المانع.

وبما مرَّ أيضاً من المخالفة الظاهرة عند من يراها بالدقَّة كذلك تكون من الشَّيخ قدس سره للمشهور القديم مخالفة سادسة.

ولعلَّ سبب هذه المخالفة للمشهور إذا كانت سطحيَّة هو الَّذي جعل كلا الوضعين تعيينيَّاً وتعيُّنيَّاً صحيحاً عند الشَّيخ قدس سره وعندهم، وحينما كان كلا القبيلين من المشهور

ص: 174


1- كفاية الأصول ص9.

أيضاً ممَّا قد لا يمنع أحدهما الآخر ممَّا صحَّ عنده من التَّعيين أو التَّعيُّن وكأنَّهما عند القبيلين كما عند الشَّيخ قدس سره وعلى الأخص لو كان كل منهما في الأساس من وضع واضع ثمَّ ازداد أحدهما الآخر بالغفلة عن التَّعيين من كثرة الاستعمال، وقد يجعل المكثور عند قوم تعيينيَّاً من واحد، وقد يجعل الأحادي عند آخرين مكثوراً تعينيَّاً ولو مجازاً وإن كان قد حصل ذلك في الكتب الأدبيَّة بنحو الإجمال الَّذي لم يكشف عن شيء حتَّى الآن من بواطنه، ولعلَّ المخالفة في هذه السَّطحيَّة غير جليَّة.

أمَّا المخالفة الواقعيَّة الدَّقيقة لو كانت فلم نتناسب مع ما صحَّحه الشَّيخ من الوضعين وبالأخص لو اقتضت الحاجة شيئاً ممَّا قد يتصوَّر ولو اشتباهاً من الممنوع إلاَّ إذا كان القائل لأحد القولين دوماً يمنع الآخر.

وهذا لم يثبت لأنَّ الكثرة الاستعماليَّة قد تظهر مألوفة من الواحد الغافل عن الجعل والتَّخصيص أو الأكثر ولم يتفطَّن الجميع إلاَّ إلى خصوص هذه الكثرة لا إلى التَّعيين والجعل، وبهذه الواقعية تتجلَّى المخالفة للمشهور أكثر.

وقد قيل في تعريف الوضع قول آخر وهو ما عن النَّهاوندي قدس سره في تشريح الأصول(1) والمحقِّق الحائري قدس سره في درر الفوائد(2) والشَّيخ النَّائيني قدس سره في أجود التَّقريرات(3) وأغا رضا الأصفهاني قدس سره في وقاية الأذهان(4) والسيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره في المحاضرات(5) بما مضمونه ومحصَّله (إنَّ الوضع عبارة عن التَّعهُّد والالتزام القلبي من الواضع بأنَّه متى أراد إفهام معنى خاص تلفَّظ بلفظ مخصوص).

ص: 175


1- تشريح الأصول : 47.
2- درر الفوائد 1: 4.
3- أجود التقريرات 1: 12.
4- وقاية الأذهان: 62، ط آل البيت.
5- محاضرات في أصول الفقه1 : 38 و43.

لكن هذا القول قابل للرَّد من وجوه نقتصر على واحد منها فقط:

وهو أنَّ الوضع من الفعل والالتزام من الانفعال، فلا يمكن تعريف أحدهما بالآخر وذلك من جهة تعريف المباين بالمباين، لأنَّ الفعل غير الانفعال.

إذ كيف يصنع الإنسان قاعدة أصوليَّة ويعاهد نفسه على الالتزام بها، وهو ممَّن قد يكثر اشتباهه بجعلها في طريق استنباط الأحكام في قبال شرع الله تعالى الجاعل لتلك المدارك، وإن جهل بعضها أو الكثير من دقائقها للاجتهاد فيها أصوليَّاً ولو أطلقنا على بحوث تلك الأصول بالصِّناعة.

لأنَّ كثيراً من الاجتهادات الصِّناعيَّة قد تخرج بعض أصحابها عن طور نتائج الفقه الاستدلالي الشَّريف زحفاً نحو أطوار بعض القياسات المرفوضة ولو اشتباهاً أو لقصد محاولة التَّقريب بين المذاهب الأخرى وخوف الوقوع في التَّشريع المحرَّم.

وهو غير ما قلنا في فقهنا الاستدلالي والعملي من وجوب التَّعهُّد والالتزام في تقليد المجتهد الجامع للشَّرائط.للفرق بين هذا الموقف الأصولي الصِّناعي الَّذي قد لا يخلو من بعض السَّطحيَّات والاشتباهات وبين ذلك الموقف الفقهي المليء صاحبه بالرَّصانة الفقهيَّة الجامعة للشَّرائط مع التَّحفُّظ عن بعض التَّوسُّعات الأصوليَّة المخيفة المتأخِّرة الأخرى.

ولو قيل: لم يكن المقصود هو خصوص وضع القاعدة الأصولية الَّتي تخرج واضعها في التَّطبيق عن الصَّدد الشَّرعي، بل مرادنا هو عهد المؤمن مع الله على أمر من الأمور المشروعة، فلابد أن يلتزم به لما ورد (المؤمن إذا وعد وفى)(1) وغيره وهو شرعي.

فنقول: إنَّ المراد من الوضع المناقش فيه هو مطلق الوضع على الأساس الأصولي الصِّناعي البعيد عن الشَّرعيَّات المؤكدَّة فتواءيَّاً تقليديَّاً وإن كان علميَّاً معدَّاً لخدمتها.

وعلى هذا الأساس الَّذي ذكرناه من تعريف الوضع تعيينيَّاً وتعيُّناً ولو غفلة ونحوها

ص: 176


1- دعائم الإسلام ج1 ص 64.

في التَّعيُّن وعلى ما مرَّ ذكره من الاستعمال في كلا القسمين وما يرتبط به من صحَّة اطلاق (سمَّيت ولدي هذا عليَّاً) وصحَّة اطلاق (ناولوني ولدي عليَّاً) بتسميته الجديدة وما سيأتي ذكره من ارتباط الدِّلالة بهذا النَّوع من الأوضاع وصحَّة الاستفادة من معانيها يمكن القول بأنَّ تعريفه بما مرَّ ذكره بين غيره من التَّعاريف مع جلالة قدر أصحابها مع كون المسألة لغويَّة مقدَّم عليها.

المبحث الحادي عشر

من هو الواضع للألفاظ

ولهذا الأمر جاء الخلاف بينهم في أمر الواضع للألفاظ في البداية بأنَّه من هو؟ هل هو الله تعالى؟ أم البشر؟ أم الاثنان الآمر ودعاة التَّطبيق والحكاية ومن وراءهم بقيَّة البشر أو المكلَّفون؟

فالأمر وارد فيه قولان:

الأوَّل: إلهيَّة الوضع

وهو ما لا يمكن قبوله بتفاصيله الكاملة، لئلاَّ يكون كلام كل البشر - على اختلافهم بين الأنبياء والرُّسل وبقيَّة المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ وغيرهم من سائر النَّاس الآخرين - وحياً وقرآناً، وهو غير معقول.

لأنَّه لو كان كذلك لانعكس على أفعالهم وكان كلُّهم صلحاء، بينما الوجدان لا يدل إلاَّ على التَّفاوت بين صلحاء وغيرهم.

بل قال الوحي في أكثر من آية في ذمِّه البالغ للعصاة من حيث الكم كقوله تعالى

ص: 177

[لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ](1) وقوله [وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ](2).

ولم يستثن أحداً في لغات النُّطق إلاَّ تمكين عموم البشر على النُّطق والتَّداول التَّفاهمي من غير الوحي مع نزول أوامر التَّشريع المستقلَّة لتطبيقها ونواهيه كذلك للتَّجنُّب عنها وغير ذلك من الله على الأنبياء والرُّسل حسب.

وكذلك من النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم في سنَّته الواردة عن عترته عَلَيْهِم السَّلاَمُ المرتبطة بصميم الوحي وجوهره، ومن دون أن يكون هذا التَّمكين في كل شيء حتَّى بما لا يتساوى مع معنى الجبر فقط أو التَّفويض كذلك، بل في خصوص ما سوف يتجلَّى عرضه من معنى المنزلة بين المنزلتين إن شاء الله، كما سيتَّضح في الموضوع الآتي.

الثَّاني: بشريَّة الوضع

وهو بناءاً على أنَّ الحاجة أم الاختراع مع سبق القدرة والقابليَّة على النُّطق في البشر إلهيَّاً كما سبق، لكن التَّفاصيل لا تتناسب كلُّها مع البشر كذلك، لكون الكثير منها تشريع، لا مجرَّد الكلام اللُّغوي التَّفاهمي.

وأنَّ التَّكويني لا يمكن في البشر إلاَّ بسبق إذن منه تعالى كإنطاق البشر البُكم أو إنطاق النَّاطقين بلا إرادتهم أو تسبيح الحصى في يد النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وغير ذلك، مع دوام سيطرته تعالى على ألفاظه، لدوام قدرته على التَّحديد لتصرُّفاتهم وبما فصَّلناه في المعنى الأوَّل، وإلاَّ يكون الأمر كما في الآية [وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ](3)، وهو ممنوع، لأنَّ الَّذي غلَّت يده هي أيديهم كما ورد في الآية الَّتي بعد ذلك.

وممَّا دعى إلى هذا التَّفاوت النَّظري حول ذلك هو نزول آيات شريفة حكت عمَّا

ص: 178


1- سورة الزخرف / آية 78.
2- سورة ص / آية 24.
3- سورة المائدة آية / 64.

قبل المدنيَّة في العالم كقوله تعالى [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(1)] وقوله تعالى [خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ](2) وقوله [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ](3) وقوله [وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ](4).

حيث ورد في تفسير المراد من الآية الأولى أنَّه أسماء الله تعالى الحسنى، أو أنَّها أسماء اللُّغات، أو أنَّها مسمَّيات اللَّغات.

وأنَّ [علَّمه البيان] في الآية الثَّانية بمعنى فهَّمه كيف ينطق ابتداءاً بمعونة الإلهام للتَّطبيق والتَّفريع فيه، وهو المناسب لمعنى أنَّ الحاجة أم الاختراع، وهو المعوَّل عليه تجربيَّاً عمليَّاً ولو في الجملة الظَّاهريَّة، حينما لا يتنافى هذا الأمر مع أسماء الله في المشتركات غير الخاصَّة بالله تعالى.

وعن الآية الَّتي بعدها حول جعل لسان الأنبياء والرُّسل لابدَّ أن يكون مطابقاً لما يفهمه أقوامهم من الأوامر والنَّواهي، وإلاَّ لا يكون مطابقاً لمقتضى المقام، بل يكون من قبيل الإغراء بالجهل إلاَّ بعد تعليمهم تلك اللُّغة ليفهموا مقاصدها.

وهو أمر لا تساعد عليه الفوريَّة المحتاج إليها في بعض الأحوال، بل هو معنى ما شاع عن الأصولييِّن بقبح العقاب بلا بيان ليعملوا به.

بل من هنا أثيرت شبه الأعداء بأنَّ الوحي من اختراع النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم دون صميم الوحي؟

فرُدُّوا: بخوارق الإعجاز المعنويَّة والبيانيَّة ونحوهما، كما شهد بهذا الإعجاز الوليد

ص: 179


1- سورة البقرة آية / 31.
2- سورة الرحمن آية / 3 - 4.
3- سورة إبراهيم آية / 4.
4- سورة الشُّعراء آية / 84.

ابن المغيرة (لع) المعادي وغيره، بل ليصدَّقوا بهم كما في الآية الأخرى الرَّابعة.

ومن ذلك السنَّة النَّبويَّة المحاطة بالحفظة وهم العترة إذا جعلناها أو بعضها غير خارجة عن كلام الآدميِّين من حيث القدرة على فهمها، لكونها قطعيَّة الدِّلالة.فلم يظهر من الجميع المعنى البارز المسيطر من بين القولين الماضيين من هذه الآيات وأمثالها، إلاَّ ما يتعلُّق بصولة المكوِّن والمشرِّع تعالى مع ديمومته رقيباً عتيداً على سائر العباد وفي تصرُّفات خير المعصومين من البشر إسناداً وتسديداً لهم.

ومن ذلك أمر لغاتهم الَّتي حلَّ بسببها الاهتداء إلى الحق في القلوب وبأفضل الطرق والأساليب.

لكن يمكن تصوُّر الأمر المعقول ولو من عدم امتناعه ودخوله في بقعة الإمكان، بل الَّتي لا تخلو من المصداقيَّة.

وهو معنى ما يقبل الاشتراك اللَّفظي بين الخالق وخواص المخلوقين من البشر، لإيصال أنباء السَّماء لبقيَّة الأمم بواسطتهم، لأنَّهم خير الوسيلة بين الأمم وبين الله أو بينه وبين عمومهم في أمور عموم التَّداول اللُّغوي وإيجاد الاصطلاحات اللُّغويَّة الأصوليَّة.

وهو غير بعيد عمَّا نريده من الهدف المنشود وهو ما لا يبتعد في جملته المألوفة أيضاً بل المفصَّلة بعد المدنيَّة المنتشرة.

ونحن لم نذكر الكلام عن الواضع في المطلب السَّابق المعد (حول بقيَّة الرؤوس الثَّمانيَّة)، للاقتراب من البحوث الصِّناعيَّة.

بينما مناسبة الكلام هناك أقرب إلى أن تكون مع المشرِّع تعالى لا خصوص الصِّناعي.

ص: 180

المبحث الثَّاني عشر

توجيه معنى الوضع الذَّاتي وغيره

ومن هنا لابدَّ من معرفة أنَّ وضع الواضع للألفاظ المخصوصة للمعاني المخصوصة هل كان لعلاقة ذاتيَّة في نفسها جاءت لوحدها بين اللَّفظ والمعنى، دون تصدِّي هذا الواضع ولكن تفطَّن لها بعدما حلَّت أو انكشفت المناسبة ووضع الألفاظ لها جعلاً أو كشفاً، وبأنَّ ما تحمله من المناسبة من أوَّل الاستعمال أو من الأكثريَّة فيه؟ أو حتَّى من آخره كشفاً؟

أم لمناسبة يختارها الواضع من نفسه تعييناً ثمَّ تتَّضح المناسبة منه شيئاً فشيئاً؟ أولم يتَّضح باختفائها شيء؟ وتبدوا أخرى تعيُّناً؟

أم كانت مرتجلة بدون مناسبة ثمَّ نشأت الرَّوابط تعيُّناً حقيقة عن طريق التَّفاهم حتَّى ظهرت القواعد؟

أم كانت مجازيَّة في التَّعيين أو في التَّعيُّن عند قرائن المجازيَّة أم لا؟ كالمجعولات المهجورة الَّتي لم يعرف واقعها لغويَّاً وإن حفظتها بعض القواميس.

فنقول ممَّا يحضرنا في الجواب بعد هذا الرُّكام من التَّساؤلات المتعدِّدة:

إنَّه بعد الكلام عن خصوص الواضع والجاعل من هو.

قد ينقدح في الذِّهن ما يصل معنى ما قد يكون الوضع أو الموضوع بحاجة إلى معرفته بدقَّة أكثر كارتباط اللَّفظ بالمعنى للمناسبة الذَّاتيَّة المحتملة.

لورود بعض الأدلَّة وأن يُقصد منها جميع الألفاظ، إلاَّ أنَّه قد يصطدم الواقع بالواضع، فأين يكون دوره تجاه ذلك؟

أو لمناسبة يختارها الواضع، لكن قد يتصرَّف آخرون بهذه اللَّفظة نفسها أو تلك لنفس المعنى صدفة بما لم يعلم ذلك من قصد القاصد الأوَّل في وضعه أو من غيره

ص: 181

حقيقة أو مجازاً أو لا لمناسبة كالمرتجلات والمجازات المرتبطة بقرائنها حتَّى الَّذي ما قد ينشأ تعيُّناً من كثرة الاستعمال في وضع اللَّفظ من قبل الآخرين بعد الاستعمالات الأولى لنفس مقصود الأوائل أو غيره.

وهذا ما قد يحتاج إلى بسط الكلام فيه للإيضاح، فنقول كذلك:

أمَّا خصوص الأوضاع المرتبطة بين اللَّفظ والمعنى - حسب الموجود في القواميس مع غض النَّظر عن الواضع من هو؟ وكيف وضعه؟ وأين هو؟ ومتى هو؟ ارتباطها للمناسبة الذَّاتيَّة -

فهي موجودة في الجملة لا محالة، ولا يمكن نكرانها في ثنايا التَّأريخ على هذا الإجمال، ومعه القواميس اللُّغويَّة والآيات والرِّوايات الشَّريفة.

ولم نقصد من هذا الوضع ارتباطه بخصوصه بالحروف أو ملحقاتها والأسماء أو مسميَّاتها والجمل النَّاقصة والتَّامَّة حقائقها ومجازاتها وما يخص جميع ألفاظ البحوث الأصوليَّة من مباحث الألفاظ لخدمة الفقه في نصوصه الدِّلاليَّة، بل وكذا وضع الواضع الأصولي للأصول حتَّى لو خرج عن الأصول الأصيلة إلى الصِّناعة المقبولة ونتائجهاوالقواعد الشَّرعيَّة وآثارها.

إذ لابدَّ أن يتعدَّى هذا الأمر إلى ما لا ذاتيَّة فيه في غير ما مضى من حالة الإجمال.

فقصص السَّير وروايات النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والعترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ - حول أنباء السِّيرة المطهَّرة لهم وما نقلوه عن أنباء الأنبياء والرُّسل السَّابقين رجوعاً إلى حدِّ أبينا آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وما حواه وضعه والأوضاع الأخرى قبل المدنيَّة وبعدها - خير شاهد على بعض المصاديق وإن لم يستوف الكل.

وقد بدأت من قوله تعالى في القرآن الكريم [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا](1) لحمله وجوهاً عديدة:

ص: 182


1- سورة البقرة / آية 31.

منها: ما يؤول بعضها إلى المناسبة الذَّاتيَّة، أو ما يقرب منها في بعض الوجوه وعلى ما في كتب التَّفسير وروايات التَّفسير والتَّأويل المدرجة في كتبنا أعني كتب الجوامع والمجامع للسَّلف الصَّالح الَّتي منها روايات أسماء الله الحسنى الخاصَّة في الله، والمشتركة بينه وبين مخلوقيه كالرَّازقيَّة والخالقيَّة والرَّحيميَّة المتفاوتة بين الشدِّة المناسبة لله والخفَّة المناسبة للعباد، ممَّا لم يضر بثوابت العقيدة الإسلاميَّة الحقَّة.

ومنها: ما صحَّ أن يكون داخلاً فيها من أسماء النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وبقيَّة المعصومين الأربعة عشر عَلَيْهِم السَّلاَمُ الَّذين اشتَّقت أسماءهم من اسم الله كرواية علاقة رسول الله محمَّد صلی الله علیه و آله و سلم بالمحمود تعالى وأمير المؤمنين علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالأعلى تعالى وفاطمة الزَّهراء سلام الله علیها بفاطر السَّماوات والأرض تعالى والحسن عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالمحسن تعالى والحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ بقديم الإحسان تعالى(1).

وقد وجَّه صاحب الميزان قدس سره هذا الأمر أو بعضه بما قد يكفي على إجماله لما نقصده حول الآية، وذكر رواية تناسب المقام عن كتاب المعاني عن جعفر ابن محمَّد الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ :

(إنَّ الله عزَّ وجل علَّم آدم أسماء حججه كلَّها ثمَّ عرضهم وهم أرواح على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين بأنكم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم فقالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال الله تبارك وتعالى: "" [قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ] وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله عز ذكره، فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في

ص: 183


1- هذا مضمون الرِّواية عن علي ابن الحسين ( عَلَيْهِما السَّلاَمُ عن أبيه عن أبيه عَلَيْهِم السَّلاَمُ عن جدِّه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حول الأشباح الَّتي رآها آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ في ذروة العرش ثمَّ دعا بهم فتاب عليه وغفر له. انظر تفسير العسكري : ص 219 - ينابيع المودة : 1/ 95 - تأويل الآيات الظاهرة : 1/44 - ح19 - البحار :11/150 - ضمن ح 25 و 26/ 337 - البرهان: 1/88 - ح13 - فرائد السِّمطين: 1.

أرضه وحججه على بريته""، ثمَّ غيَّبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم، وقال لهم :[أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ] فراجع(1).

وهكذا الباقون المرتبطون بأهل العصمة عقيدة وعملاً، لأنَّهم امتداد لذلك الجوهر الواحدوتفرَّعوا عن هذه الأسس الطَّاهرة والثَّوابت الزَّاهرة انطلاقاً من كونهم جميعاً من النَّور الواحد تأسيَّاً بأوائلهم وابتغاءاً لوسيلتهم.

وهكذا بقيَّة الأسماء الَّتي لبعض الآخرين إقتداءاً بمن سبقهم من المعصومين الأربعة عشر عَلَيْهِم السَّلاَمُ ممَّن سمُّوا بأسمائهم، للانسجام الإيماني الكامل بينهم وبين أئمَّتهم وأولياءهم.

وهكذا المسميَّات والمعاني ومختلف ألفاظها حتَّى الحروف وملحقاتها، ممَّا يمكن تعقُّل كونها ذات علاقة ذاتيَّة بأصحابها بسبب الجامع الإيماني.

بل قد تنشأ من ألفاظ أخرى مناسبة كقول الإمام الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ لمَّا صُرع الحر ابن يزيد الرِّياحي شهيداً مهنِّئاً له (أنت حر كما سمَّتك أمُّك حرٌّ في الدُّنيا وسعيد في الآخرة) وغير ذلك.

وإن كان الاسترسال في هذا الأمر قد يخرجنا عن طور بحوثنا العلميَّة الأصوليَّة بعض الشَّيء ما دمنا في غير تحفُّظنا عن الإكثار فيه بدون مناسبة.

فالذَّاتيَّة قد تعقل إمَّا لما ذكرناه من الرِّواية الذَّاكرة لمناشىء تسمية المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ والرِّوايات المناسبة الأخرى الخاصَّة والعامَّة.

وإمَّا من جهة حسن الصُّدفة الحاصلة من ذلك بين الاسم والمسمَّى من المناسبة، ثمَّ يتعارف وضعها أكثر عند المألوفيَّة الأكثر حين التَّطابق الخارجي كما سبق ذكره وإن كان في آخر ساعة من الحياة.

ص: 184


1- الميزان في تفسير القران ج1 ص114 - 121.

وإمَّا من اتِّباع آيات وروايات نصائح التَّربيَّة النَّبويَّة والإماميَّة للأمَّة في تسميتهم لأبنائهم، كقولهم من طرقنا وطرق الآخرين في الحديث الشَّائع (خير الأسماء ما حمِّد وعبِّد)(1)، للأفضليَّة الَّتي قد يتوصَّل عن تطبيق أمرها إلى الموضوعيَّة ولو تدريجاً.

أو للموضوعية الكامنة في هذا الحديث - والَّتي لا تبتعد عن الذَّاتيَّة ولو بنشؤها بعد حين - وفي أحاديث المنع ممَّا يستقذر من الأسماء المبغوضة المعروفة من قباحة أعمال رجالها حتَّى ورد المنع عنها - أو قباحة نفس الأسماء وإن كان المسمَّى لا عيب فيه - تجنُّباً عن سيرة الجاهليَّة ذات التَّعلَّق حتَّى بأسماء البهم الحيوانيَّة أكثر من أطوار الحضارة المدنيَّة.

لتكريم أهل الفطرة السَّليمة من بني آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ لقوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ](2).

إضافة إلى إسناد هذا الشَّائع من روايات (من بلغه ثواب على عمل)(3) كتسمية البعض باسم الحارث ومروان وغيرهما.

وقد تكون ذاتيَّة هذا الارتباط منطلقة من اتِّباع روايات استحباب تحسين الاسم حتَّى لو كان المسمَّى غير جميل في مظهره الخارجي إدراكاً لجمال وواقع المسمَّى الإيماني لقوله تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ](4) ليتناسب الاسم المحسَّن مع واقع المسمَّى الإيماني مع الذَّاتيَّة المأنوس بها ولو في أحد الوجوه.

ولكن هذا وإن كان موجوداً بمعانيه فهو في واقعه لم يتجاوز عن الإجمال المقدَّر له

ص: 185


1- فعن أبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، قال : أصدق الأسماء ما سمّي بالعبوديّة، وأفضلها أسماء الأنبياء، الوسائل : ج15 ص124 ح1.
2- سورة الإسراء / آية 70.
3- ثواب الأعمال - 1/160.
4- سورة الحجرات / آية 13.

حسب سعينا وسعي السَّاعين لإحصاء كل معانيه أو ما أمكن منها، لأنَّ الحقيقة في الإجمال الكافي الَّذ ي ذكرناه لا أكثر، لأنَّ الذَّاتيَّة وإن كنَّا قد عرفناها بما مرَّ بما لا يمنع من ارتباط الذَّاتيَّة بالمكوِّن تعالى تكويناً وتشريعاً بواسطة الوحي مثلاً.

إلاَّ أنَّ الذَّاتيَّة الخارجة في معناها عن قدرة المكوِّن والمشرِّع تعالى بما يناسبه لم تكن بمعقولة فهي بعيدة، إضافة إلى نقطة الخلاف بين الكلاميِّين وغيرهم عن قِدم كلام الله وحدوثه - حذراً من تعدُّد القدماء - وأنَّ الله تعالى يكون محلاًّ للحوادث ممَّا سيأتي، وإن أشرنا إلى ذلك من المحاذير الَّتي يجب الانتباه لها.

تبقى الذَّاتيَّة المعقولة والمقبولة بما بينَّاه من مثل نصوص الوحي ونصوص السنَّة الصَّحيحة عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والمعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ وأسماء الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ والزَّهراء سلام الله علیها بعد النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم تمتاز عن غيرها بوجوب احترامها وعدم جواز التَّحريف لها وعدم جواز مسِّها إلاَّ بعد الطَّهارة بما هو مفصَّل في الفقه.

وأمَّا ما كان من مناسبة ما يختاره الواضع الآخر فهو معقول بمَّا بينَّاه وكما وجَّهناه أيضاً في الذَّاتيَّة بمعناها الرَّابط بين الاسم والمسمَّى الَّتي جاءت لوحدها ثمَّ حصلت مألوفيَّتها البالغة عن كثرة الاستعمال تعيُّناً.

ثمَّ إنَّ المناسبة الذَّاتية في الوضع إن كانت بوضع واضع حسبما شرحناه من معاني ذلك، أو من دون وضع واضع كالمصادفات المقولة على الشَّيء من دون قصد، وإنَّما هي من مصاحبة لفظ لمعنى قد لا يعرفه اللافظ وإنَّما قاله إلهاماً لا إراديَّاً ثمَّ تشكَّلت العُلقة بين النَّاس حتَّى صارت لها مناسبة حتَّى قيل لقوَّتها في التَّعلُّق بأنَّها ذاتيَّة مع إمكانها فهي محتملة فيما مرَّ من الإجمال.

كل ذلك نقدر أن نقول عنه: بأنَّه من الوضع الحقيقي في أساسه إذا كان بلا قرينة لتبادر المعنى إليه - ومن المجازي مع حاجته إلى القرينة.

وقد يكون الوضع بلا مناسبة كالمرتجلات في بداية أمرها، وقد تقلب بعض الحقائق

ص: 186

فتهجر الأولى وتشاع الأخيرة.

وإلى غير هذا ممَّا سيأتي من العناوين اللَّفظيَّة عند حلول مناسبتها الأصوليَّة من المباحث الأصوليَّة الأخرى الآتية كمبحث الحقيقة الشَّرعيَّة والمتشرعيَّة ونحو ذلك، فستأتي تباعاً بعد الفراغ من سلالة ما بأيدينا.

المبحث الثَّالث عشر

القِدَم والحدوث القرآني وألفاظ آيات الأحكام

مناسبة البحث

إنَّ الكلام عن آيات الأحكام هو كبقيَّة ألفاظ القرآن الكريم الَّتي حصل النِّزاع فيها بين المسلمين قديماً - وهم الأشاعرة والعدليَّة من المعتزلة والإماميَّة - حول القِدَم والحدوث، مع إجماعهم - أو حصول التَّواتر فيما بينهم - بأنَّ ما بين الدَّفتين هو كلام الله حقَّاً.

علماً بأنَّ حديثنا الآن أصوليَّاً عن قِدم ألفاظ المدارك كتاباً وسنَّة أو حدوثهما، وهو ممَّا يتناسب والمقام وإن تتفاوت العقيدة عن المبادئ الأصوليَّة، لأنَّ كل علم له طريقه وطريقته.

فقالت الأشاعرة - جماعة أبي الحسن الأشعري تبعاً لصاحبهم - بقِدَم كلام الله، بل نقل القوشجي عن بعض العامَّة وهم الحنابلة القول بقِدَم ما بين الدَّفتين حتَّى الجلد والغلاف، وهو ما معناه صحَّة هذا القول عندهم حتَّى لو أدَّى إلى قبول الجسميَّة في ذات الخالق تعالى.

وفي مقابل ذلك قول الكراميَّة، وهو أنَّ الحروف والأصوات حادثة قائمة بالذَّات.

وقالت العدليَّة من المعتزلة وهم جماعة واصل بن عطاء - تبعاً لصاحبهم - ومعهم

ص: 187

الإماميَّة تبعاً منهم لمدرسة أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ بحدوث هذا الكلام، انتصاراً للعدل الإلهي البعيد عن الجبر والتَّفويض(1).

ولإيضاح المناسبة بما هو أنسب نقول:

بأنَّ هذا البحث وإن لم يكن كبير الأهميَّة في مقام أطروحتنا الأصوليَّة من هذا المدخل لبحوث آيات الأحكام أصولاً وفقهاً وإنَّما هي في الجملة - وإن كان مهمَّاً من حيث نفسه عقائديَّاً - لارتباطه بالجانب العقائدي أكثر.

إلاَّ أنَّه للوصول إلى كون الحجيَّة فيها ثابتة في خصوص تشخيص حالة الحدوث الأنسب لهذا القرآن وآيات أحكامه.

لا القِدَم من حيث انسجامه مع العقيدة الحقَّة بعدم تعدُّد القدماء لو قلنا بالقِدَم وانسجامه مع الشَّرع فقهاً وأصولاً بما يرتبط بالوحي الحادث من القوَّّة الإلهيَّة الخارقة بإحداث الكلام الَّذي يقدر على بيانه الوحي للنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم لئلاَّ يكون الله محلاًّ للحوادث.

فإنَّ مدركها بعدما صحَّ أنَّه هو الوحي الثَّابت، وهو فوق مستوى كلام الآدميِّين، وبه اتَّضحت الوسطيَّة.لأنَّا لو رجعنا إلى قول الأشاعرة كما يريدون وكما سيتَّضح أكثر بأنَّ قولنا بأنَّ هذا الكلام قديم وأردنا منه الكلام النَّفسي الآتي واتَّضح لنا بعد التَّدقيق الآتي تفسيره بأنَّه من الخيال المحض فهو الَّذي سوف يكون ممَّا لا حجيَّة فيه حين ذكر أدلَّتهم ونقضها.

إضافة إلى ناحية تسبيب هذا ضعف حجيَّة هذا الكلام الَّذي ما بين الدَّفتين، بينما الحجيَّة هي الكاملة فيه على رأينا نحن الإماميَّة.

وقد أشبعنا الكلام في بيان حجيَّة النُّصوص والظواهر القرآنيَّة سابقاً في بعض المواضيع السَّابقة ،لكونها تابعة لوحي الله الإعجازي من آيات أحكامه، ممَّا لا داعي إلى الإطالة فيه.

ص: 188


1- راجع كتاب النَّافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر - العلامة الحلي - الصفحة 46.

سبب النِّزاع في القِدَم والحدوث بين المسلمين

هو الفلسفة اليونانيَّة وأسباب أخرى

ومن أسباب النِّزاع بين المسلمين - أهل كلمة لا إله إلاَّ الله محمَّد رسول الله وأهل القبلة الواحدة والنَّبي الواحد والقرآن الواحد والجوامع المشتركة الكثيرة الأخرى وللأسف الشَّديد المؤلم عندما نشاهد التَّفرُّق والتَّشتُّت بين المسلمين -

هو دخول أو إدخال الأفكار الأجنبيَّة البعيدة عن قيم السَّماء، حتَّى الَّتي سبقت الإسلام العزيز في بعض ما بقي منها من دون تحريف وغزوها لنا في عقر دارنا الإسلامية الواسعة ومن دون تضخيم في الرَّدع المناسب وحتَّى منذ بداية نشوء المدارس العلميَّة الإسلاميَّة وإن كان من استضعاف الأعداء لنا طوال أوقات غير قصيرة كتبشير المبشِّرين وغزو المستشرقين اليوم بأفكارهم المحرَّفة الأخرى.

ألا وهي أفكار فلاسفة اليونان الَّذين غزونا آنذاك وتأثَّر بأفكارهم كثير من المسلمين الَّذين تطرَّفوا وما التزموا بتنفيذ وصية النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم بحفظ تمام الثَّقلين.

بل رحَّبوا بتلك الأفكار المستوردة ليضيفوها إلى سمومهم النِّفاقيَّة الانتقاميَّة وفضَّلوها في تحليل القضايا وتعليلها سفسطة على مبادئ المبدأ السَّماوي الأعظم والَّتي أهمُّها ما يتعلَّق بفلسفة كلام الله وكتابه المقدَّس.

وإن كان ذلك التَّحليل أو تلك التَّعليلات قد نتجت من أهل العقول الأجنبيَّة تهرُّباً من صميم المبادئ السَّماوية حينما تتَّسع آفاق أفكارهم الشَّيطانيَّة المليئة بالشُّبهات والأوهام، حتَّى أصرُّوا على ترك العترة وقالوا مقولتهم المعروفة (حسبنا كتاب الله)(1) - حينما عرفوا أنَّ إكمال الدِّين وإتمام النِّعمة والتَّحليل والتَّعليل الصَّحيحين لا يكونان

ص: 189


1- البخاري / ج: 8 ص: 138.

ناجحين بالعقل السَّديد إلاَّ بإتِّباع العترة مع الكتاب - جهلاً وعناداً.

بل انقلاباً على الأعقاب وقد كانت الأساسيَّات منهم سلفيَّة سبقت هذه الأحداث وفي تفصيلها شجون وألآم كما هو معلوم ومدوَّن في الكتب التَّأريخيَّة العامَّة والخاصَّة، ثمَّ توسَّعت هذه المنازعة بين المسلمين إلى منافرات عدائيَّة طويلة أوصلت إلى القتل والفتك واستباحة الدَّم واغتصاب الأرض والعِرض وإلى آخره.

ولعلَّ من الذي أهاج هذا النَّزاع واحتدامه وأزَّمه أو ساعد عليه هو إحراج المأمون العبَّاسي "لع" علماء زمانه بامتحانه لهم في أمر كون القرآن هل أنَّه كان مخلوقاً أم غير مخلوق؟

ولعلَّ تسمية علم أصول العقائد بعلم الكلام انتشرت بسبب هذه القضيَّة الواقعة في النِّزاع ،حيث أنَّ أوَّل مسألة طرقوها آنذاك هو أنَّ كلام الله هل هو قديم أو حادث؟

وعن تحقيق هذا الأمر عن الكلام المبارك يتم الارتباط الصَّحيح عقائديَّاً وشرعيَّاً، وبه تتبيَّن المناسبة الأنسب في هذا الموضوع عن الأصول الفقهيَّة.وقد ذكر بعض المؤرِّخين أنَّ من الأسباب قول الشَّاعر المعروف بالأخطل:

إنَّ الكلام لفي الفؤاد وإنَّما

جعل اللِّسان على الفؤاد دليلاً

كما أنَّ من جملة ما حرَّك أذهان المسلمين إلى محاولة التَّدقيق في هذا الأمر هو بعض الآيات القرآنيَّة النَّاطقة بما يدلَّ صريحاً على كون القرآن هو كلام الله كقوله تعالى [وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا](1) وقوله [حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ](2).

مع العلم بعدم وجود تلازم ثابت بين الكلام المنسوب إليه تعالى لو تأمَّلناه في نظرته السَّطحيَّة في أن يكون هذا المنسوب يجب أن يكون من خصوص الذَّات أو من الأفعال أو ممَّا هو أبعد من ذلك كما سيتَّضح، فاحتيج إلى التَّدقيق في هذا الأمر.

ص: 190


1- سورة النساء / آية 164.
2- سورة التوبة / آية 6.

ولهذا ولأمثاله أنشئت الفلسفة الإسلاميَّة آنذاك بعدما كانت أصولها باللُّغة اليونانيَّة.

وهي وإن كانت في بعض غايات إنشاءها للانقضاض على معاهد الفلسفة اليونانيَّة، إلاَّ أنَّ آثار ذلك الغزو والتَّأثير المشؤوم لم يترك الأمور على بساطتها بل أنشئت معها أيضاً هذه المشاكل وأمثالها ممَّا بين المسلمين أنفسهم ممَّا حصل ما بين الأشاعرة ومن عارضهم، ومنهم من وُفِّق للهدى والسَّير على منهجه كاملاً حرصاً على مذهب الحق.

توضيح حول انقسام المسلمين

إلى الأشاعرة والعدليَّة من المعتزلة والإماميَّة

فانقسمت الأمَّة إلى قسمين:

أحدهما الأشاعرة، فقالت بأنَّ كلام الله قديم بقِدَم الله.

لأنَّه كان في نظرهم أنَّه لابدَّ وأن ينقسم إلى قسمين لفظي ونفسي، والنَّفسي هو القائم بذات الله والقديم بقِدَمه، ولذا يكون إحدى صفاته الثُّبوتيَّة الذَّاتيَّة، فلابدَّ من أن يكون الكلام عندهم قديماً وهو هذا النَّفسي دون اللفظي.

الثَّاني: وهم العدليَّة من المعتزلة والإماميَّة فذهبوا إلى كون الكلام حادثاً.

لأنَّه منحصر في اللفظي الَّذي نطق به الوحي المبين وأنطقه النَّبي الصَّادق الأمين صلی الله علیه و آله و سلم ، وإلى أنَّ هذا التَّكلُّم لا علاقة له بالذَّات وإنَّما علاقته بالفعل، وهو معنى ما يناسب الحدوث لا القِدَم، لعدم إمكانيَّة تعقُّل الكلام النَّفسي كما سيتَّضح بمعنى موجَّه كما يريده أولئك.

ص: 191

انقسام الصِّفات الإلهيَّة كلاميَّاً إلى ذاتيَّة وفعليَّة والفرق بينهما

وقبل الخوض في صميم الموضوع - لتمييز الوصف عن الموصوف ومدى علاقة الله تعالى بذلك، أو أي شيء منه من عدمه ومدى ارتباط معنى الاثنينيَّة بالنِّسبة إليه وإلى غيره، ولزوم كون الوصف بعد التَّفريق بين الخالق والمخلوق -

لابدَّ وأن ينقسم الوصف إلى ذاتي وفعلي حتَّى تصح النِّسبة بدقَّة مقبولة.

فنقول: إنَّ الصِّفة لا تكون مناسبة للموصوف أيٍّ كان إلاَّ إذا ناسبت شأنه بلا أي إفراط أو أي تفريط، فإذا كان الأمر في مثل الله تعالى فلابدَّ من أن لا يتناسب القديم بقِدَم الأزمان تعالى مع تلك المجهولات الَّتي لو فرض جدلاً بأنَّها اتَّضحت في معنى وضعها، كالكلام النَّفسي محل البحث عند الأشاعرة.

ولكن لمَّا لم يتعقَّل أحد لو خلِّي وفطرته العقليَّة السَّليمة إلاَّ حدوثها - لكونها مثلاً لا يصدق عليها إلاَّ كونها مخلوقة لله بعد فرض كونها قديمة بقِدَم الزَّمان بسبب جهل حقيقتها أو العلم بها - فلا يصح نسبتها إليه تعالى، لئلاَّ يكون الله محلاً للحوادث.

أو كان الوصف قديماً فيتعدَّد القدماء، لوجوب تجنُّب معنى الاثنينيَّة، والله أحد فرد لا تعدُّد فيه.

أو كانت المجهولات ممَّا لم يتَّضح لها معنى سوى صرف ذلك الخيال من الأشاعرة. فلا حصيلة لذلك المطلوب.

وإذا فرضت مناسبة ذلك للشَّأنيَّة المرتبطة بالله فلابدَّ من عدم تصوُّر الاثنينيَّة، فراراً من الحال والمحل بالنِّسبة إليه ومن تعدُّد القدماء وانقلاب القديم إلى حادث ونحو ذلك.

ولأجل كل ذلك فلابدَّ من تقسيم الصِّفات الإلهيَّة بما اتَّفق عليه الكلاميُّون المدقِّقون إلى ذاتيَّة وفعليَّة، لمعرفة كلام الله من أي قسم يكون.

فالذَّاتيَّة: هي الَّتي يستحيل على الله سبحانه أن يتَّصف بنقيضها كالعلم والقدرة

ص: 192

والحياة، فإنَّه تعالى لم يزل ولا يزال كل شيء من تغيُّرات الأمور في المخلوقين وتقلُّباتها فيهم تحت قبضته وسعة سلطانه عالماً قادراً حيَّاً، لاستحالة أن يكون كذلك في أي حال من تلك الأحوال.

والفعليَّة: هي الَّتي يمكن أن يتَّصف بها في حال، وبنقيضها في حال آخر، كالخلق والرِّزق والرَّحمة، حتَّى لو أدَّى ذلك إلى وصول اشتراكٍ للإنسان مثلاً في بعض من ذلك معه تعالى بما يناسبه مناسبة المخلوق إلى خالقه.

ومن الخلق خلق الكلام القرآني، فيمكن أن يقال إنَّ الله تعالى خلق كذا ولم يخلق كذا ورزق فلاناً ولداً ولم يرزقه ولدين أو بنتاً أو مالاً أو خلق ما بين الدَّفتين من وحيه وكلامه ولم يخلق الأكثر وهكذا الباقي.

وبهذا يتَّضح أنَّ التَّكلُّم من صفات الله المناسبة لشأنه، ولكنَّها فعليَّة لا ذاتيَّة فيقال [كلَّم الله موسى] ولم يكلِّم فرعون، ويقال [كلَّم الله موسى] في جبل طور ولم يكلِّمه في بحر النِّيل.

ولكن هذا الكلام لم يخرج منه تعالى بواسطة جوارح مجسَّمة كما فينا، وإنَّما بسبب الإنطاق للنَّبي بالمعجز أو من الوحي أو بالمنام أو من وراء حجاب.

وباتِّضاح تشخيص الصِّفة المناسبة لله دون البشر - لكونهم هم المباشرون للتَّكلُّم - فلابدَّ من وجوب البقاء على الارتباط بخصوص ما يناسبه، حتَّى لا يشاركه البشر بتمام المشاركة.

وبما أنَّ الكلام ما هو إلاَّ المتكوِّن من الألفاظ اللغويَّة المعبِّرة عن معانيها فلا يمكن إلاَّ وأن تكون مناسبة لمن جعلت له، وهم عباده المخلوقون له، وأوَّلهم الأولياء، لتكون ألفاظه وأهمُّها الوحي القرآني مكوِّناً آخر لهم منه تعالى، ليستضيؤا بنور معانيه في حياتهم.

ومضمون هذا القول هو قول ما عدا الأشاعرة ومن التحق بهم ولو في الجملة من

ص: 193

عموم المسلمين الآخرين.

لمَّا مرَّ تعليله من المحاذير المانعة من كون هذا النَّوع صفة قديمة بقِدَم الأزمان، بلا أن يكون لهم تشخيص آخر ممَّا وراء اللَّفظ ليقولوا به كالأشاعرة من كونه قديماً باسم الحديث النَّفسي، ولذلك كان قول الله تعالى في كتابه[مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ](1) ممَّا سيأتي الاستفادة منه بصورة أكثر.

الحديث النَّفسي وعدم تعقُّله

وأمَّا الأشاعرة - وهم على ما يظهر منهم أنَّهم غالب المسلمين - فإنَّهم قد اتَّفقت كلمتهم على وجود نوع آخر غير النَّوع اللَّفظي المتعارف، سمُّوه ب- (الحديث النَّفسي).

ثمَّ اختلفوا، فذهب بعضهم إلى أنَّ هذا الحديث هو نفس مدلول الكلام اللفظي ومعناه.

ونظراً إلى أنَّ هذا اللفظ وما يحويه لا يخرجان عن إطار المخلوق الحادث - الَّذي لا يتناسب مع ذات القديم تعالى بوضوحٍ بيِّن حتَّى يكون صفة ذاتيَّة له -

قال آخرون منهم عنه - ولعلَّه للفرار من هذا الإشكال - بأنَّ المعنى المراد هو المغايرلمدلول اللَّفظ، وأنَّ دلالة اللَّفظ عليه دلالة غير وضعيَّة، فهي من قبيل دلالة الأفعال الاختياريَّة على إرادة الفاعل وعلمه وحياته.

إلاَّ أنَّ هذا الأمر أيضاً لا يعطي المجال لأن لا يبقي شيء من الإشكال.

لأنَّ حقيقة تمكين الوحي بأمره تقوم لينطق النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم بما يريد من ألفاظ كتاب الله الكريم - ومنها آيات الأحكام - من تلك الإرادة.

والقوَّة الخاصَّة لا يسمَّى في نفسه كلاماً ولا ينفي الملفوظ المتعارف الحامل لمعانيه

ص: 194


1- سورة الأنبياء / آية2.

الغالية بإعجازه واستيعابه مع إيجازه عن كونه كلام الله، وإن كان حادثاً ككون النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والإمام عَلَيْهِما السَّلاَمُ والخواص والعوام عباداً حادثين عائدين لله تعالى أيضاً، وغير ذلك من المخلوقات.

إلاَّ أنَّ هذا الكلام القرآني أو النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم أو الإمام عَلَيْهِما السَّلاَمُ حضوا بالقدسيَّة لما فيهم من مضامين العلو والرِّفعة وحمل الرِّسالة الخالدة والإعجاز الباهر.

بعض ما قد يستدل به المتطرِّفون

في القِدَم والحدوث لكلام الله والإجابة عليه

فيقول الحنابلة بأنَّ القرآن هو هذه الحروف والأصوات المتركِّبة من الأجزاء المتعاقبة المرتَّبة في الوجود، إضافة إلى قِدَمه عندهم بقِدَم الذَّات، بل إنَّ ما بين الجلدتين والغلاف كان عندهم كذلك من دون أن يلاحظوا عيب تعدُّد القدماء الممتنع في مقام الله.

وحاول بعض الكلامييِّن أن يصيِّغ لهم دليلاً قياسيَّاً من نوع الشَّكل الأوَّل المعروف بين المنطقييِّن في بداهة إنتاجه، وهو ما كان بنحو إيجاب الصغرى وكليَّة الكبرى وحذف المتكرِّر، لإنتاج تلك النَّتيجة، وهو ما كان على صورة (الكلام صفة من صفاته تعالى وكل ما كان صفة من صفاته فهو قديم).

وبالطَّبع إن رتِّبت صورة القياس على هذا النَّحو في الظاهر بعد حذف المتكرِّر من دون تطبيق التَّدقيق الكامل في شروط هذا الشَّكل تكون النَّتيجة لهم هي قول المصوِّر للشَّكل المزعوم صدقه (الكلام القرآني قديم).

ولكن لو أردنا ردَّهم حتَّى في مهزلتهم جوهريَّاً وشكليَّاً لو احتجوا بها بهذا الشَّكل وبما يخجل منه المبتدئ السَّطحي ويُضحك الثّكول لتبيين البطلان واضحاً.

لكونهم إن استدلُّوا بهذا على مدَّعاهم فقد فاتهم اشتراط فعليَّة الصغرى وتسليم

ص: 195

إحدى المقدَّمتين لإدراك بداهة الإنتاج وهما غير موجودين.

وأيُّ فعليَّة وأيُّ تسليم في أصوات وحروف لفظيَّة لا يقولها إلاَّ المخلوقون ابتداءاً من الملَك أمين الوحي ثمَّ النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم ومن بعده الإمام الحافظ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ثمَّ الناس الآخرون، وكلُّهم من صنائعه تعالى.

وإنَّ ما بين الدَّفتين من الورق ومعه الغلاف وما فيه من النُّقوش والرتوش الكتابيَّة وإن احتوى عليها لو قاله المتعلِّم لها لكانت ألفاظ الوحي القرآني في أساسها السَّماوي كلُّها مصنوعات بشريَّة فكيف يتَّصف بها وبما سبقها الله تعالى وهي كلُّها مخلوقة بخلق البشر الأوَّل كما قال تعالى [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا](1) ثمَّ جاءت أسسها منه تعالى وصيَّغ الصِّيغ الَّتي بعدها جامعاً ومانعاً فيما بينها ذلك الإنسان بمرور الزَّمان من الإلهام والفطرة والوحي والتَّعلُّم كما ورد في خطاب نبيِّنا الإلهي بواسطة جبرائيل [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ](2).وهو وإن صحَّت النِّسبة إلى الله بتمام الصِّحة فصار كلام الوحي (كلام الله) لبعض الاعتبارات اللازمة في صدق النِّسبة إليه عن تلك القوَّة الهائلة بتلك الأساسيَّات لكنَّه إلى غير الصِّفة الذَّاتيَّة كما سيجيء شرحه.

وربَّما لا يصح شيء من ذلك بأيِّ نحو من المجازيَّة لمخاطر مالا يناسب الدِّقَّة المفروضة في التَّوصيف لما يستحقه الوصف الحقيقي للذَّات الأقدس، لمحذور تعدُّد القدماء ليكون منها هذه الحوادث.

ويقول الكراميَّة في مقابل قول الحنابلة تماماً:

بأنَّ الكلام القرآني هو الأصوات والحروف كما في الأوَّل، ولكنَّهما عندهم شيء

ص: 196


1- سورة البقرة / آية 31.
2- سورة العلق / آية 1 - 5.

حادث كما مرَّ توجيهه في الرَّد.

إلاَّ أنَّ هذا الحادث عند هؤلاء قائم بذات الله، إذ لا مانع عندهم بكونه حادثاً وفي نفس الوقت هو قائم بذاته تعالى، حتَّى لو صار محلاًَ للحوادث وهو قديم.

وقد حاول ذلك الشَّخص من الكرامييِّن نفسه أن يصيِّغ لهم دليلاً قياسيَّاً من نوع الشَّكل الأوَّل المعروف في بداهة إنتاجه كذلك، لكن على نهج مرادهم المقابل للأوَّل، وكأنَّ الشَّكل الأوَّل الموحَّد في قواعده منطقيَّاً عند هذا وذاك قابل لأن يصاغ بما يشتهيه به كلٌّ منهما حتَّى لو يتناقض أو يتفاوت في نتائجه بغير قبول منطقيَّاً.

اللَّهمَّ إلاَّ أنَّ يُراد من عرض هذه الصِّيغة أو تلك لدحض المطلبين بسبب عدم انضباط القاعدة على مسلك الحنابلة والكراميَّة.

وعلى كلٍّ فهذه الصُّورة على نهج مراد الكراميَّة هي هكذا (أنَّ كلامه تعالى مؤلَّف من أجزاء مترتِّبة متعاقبة في الوجود وكل مؤلَّف من هكذا أجزاء فهو حادث)، وبالطَّبع تكون النَّتيجة على هذا الأساس بعد حذف المتكرِّر هكذا (أنَّ كلامه تعالى حادث).

وعليه فلا مانع عندهم من كون القديم تعالى بقدم الأزمان محلاً للحوادث على ما بيَّنه هذا الكرامي من الشَّكل.

ولكن نقول في توضيح ردِّهم في هذه المهزلة الأخرى وما يخجل أقل المستويات ويُضحك الثَّكلى إن بقي شيء لم يتَّضح بعدما قلناه من وجوب فعليَّة الصُّغرى وتسليم إحدى المقدِّمتين وبما لا مزيد عليه من حالة ما استدللنا عليه سابقاً من عدم صحَّة أن يكون تعالى محلاً للحوادث.

إضافة إلى ما قد أشرنا إليه من حالة نقض كل من الفرقتين صاحبتها بشكل يرضيها دونما يرضي صاحبتها الأخرى حتَّى لو سبَّب ذلك اختلالاً في قاعدة الشَّكل أو كان منافياً للتَّسليم لمعنى واحد يجب أن يتوحَّد فيه الطَّرفان إن كانا على حق.

ولكن المغالطات وضعف العلم والدِّين هي الَّتي أوقعت أمثالهما في هذا الخلل

ص: 197

المفضوح.

فالحنابلة: حيث يرون قِدَم الكلام وإن كان مكوَّناً من الحروف والأصوات اللَّفظيَّة بل الأكثر، فلا تراهم يؤمنون بكبرى القياس الثَّاني وهو قول الكراميَّة الماضي تصويره وهو (وكل مؤلف من هكذا أجزاء فهو حادث).

والكراميَّة: حيث يرون أنَّ الكلام أصوات وحروف لفظيَّة، وهي حادثة وإن صار اللهمحلاً للحوادث، أو أنَّهم لم يشعروا بذلك، فهم يسلِّمون بالقياس الثَّاني صغراه وكبراه.

ويقول الأشاعرة - أهل الفكرة الأدق والأساسيَّة وعلى ما فيها إجمالاً كما مرَّ - أنَّ الكلام ليس هو الأصوات والحروف، وإنَّما هو الحديث النَّفسي أو المعنى النَّفساني القائم بالذَّات والمدلول للحروف والأصوات.

فهم يقدحون بالقياس الثَّاني صغراه وكبراه، ويسلِّمون بالقياس الأوَّل صغراه وكبراه من حيث خصوص النَّتيجة المجرَّدة عمَّا بين الدَّفتين والجلد والغلاف من المادِّيات والحوادث، وبلا إذعان للأصوات والحروف اللَّفظيَّة في أن تكون في الله وإن كانت لها وجودها في البشر وإنَّما المراد عندهم هو ما وراءها كما سبق.

ونقول نحن إيضاحاً أكثر أوَّلاً: في ردِّهم وردِّ من ذكرناهم قبلهم أنَّه:

لا نرى واحداً من هذين القياسين الماضيين ممَّا كان يمكن كونه محسوباً للحنابلة والكراميَّة يسلَّم به للجميع ومعهم الأشاعرة.

وعليه كلُّهم يعدُّون من المتطرِّفين تجاه الله تعالى وقرآنه وصفاته المناسبة له وإن دقَّق الأشاعرة أكثر منهم لما مرَّ من تشبُّثهم بالمسألة الخياليَّة.

وثانياً: إضافة إلى ما أوردناه سابقاً نورد شيئاً آخر من أدلة الأشاعرة لردِّها:

ونختار ما استعرضه السيِّد الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره من أدلَّتهم وردِّها في كتابه (البيان في تفسير القران) مع بعض الإضافات التوضيحيَّة منَّا:

ص: 198

الدَّليل الأوَّل: (أنَّ كل متكلِّم يرتِّب الكلام في نفسه قبل أن يتكلَّم به والموجود في الخارج من الكلام يكشف عن وجود مثله في النَّفس وهذا وجداني يجده كل متكلِّم في نفسه واليه كانت إشارة الأخطل بقوله الماضي ذكره)(1).

وقال قدس سره في ردِّه (أنَّ تركيب الكلام في النَّفس هو تصوُّره وإحضاره فيها وهو الوجود الذِّهني الَّذي يعم الأفعال الاختياريَّة كافَّة، فالكاتب والنقَّاش لابدَّ لهما من أن يتصوَّرا عملهما أوَّلاً قبل أن يوجداه فلا صولة لهذا بالكلام النَّفسي).

وأضيف إليه: أنَّ قصده قدس سره من هذا الَّذي يريده صحيحاً هو الكلام النَّفساني، لا ما قد يتصوَّره أو يُصوِّره أولئك ممَّا يستحضره الإنسان المتكلِّم من عبائر كلامه قبل كلامه الخارجي في لوحة ذهنه، فإنَّه بعيد كل البعد عن اتِّصاف الخالق في ذاته بذلك.

لأنَّ هذا المستحضر مخلوق كصاحبه الموجد له في طيَّات لسانه، حتَّى لو تصوَّرنا اللَّوح المحفوظ بالمناسبة، وتصوَّرنا معنى كل نبي حينما يأتي بلسان قومه، لأنَّ كليهما مخلوق لا يناسب رفعة الذَّات، وإنَّما يناسب صفات الأفعال كما عرفناها مع عدم ضمان كون كل ما في اللَّوح المحفوظ أيضاً وقبل إتيان النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم كلام الوحي بما يناسب لسان القوم الَّذين حوله كان من نوع المستحضر اللَّفظي مع تلك القدرة الإلهيَّة الهائلة هو خصوص اللغة العربيَّة الَّتي في القرآن، لأن كتب السَّماء إذا كانت في روحيَّة معنويَّة متشابهة أو موحَّّدة في جواهرها كما هو الواقع، فلا شكَّ في عدم خضوع ما في ذلك اللَّوح النَّوعي المهم المرتبطاستمداد كل الأنبياء منه إلى خصوص لفظ معيَّن ما دامت تلك القدرة هي المسيِّطرة وكما قال القائل:

عباراتنا شتَّى وحسنك واحد *** وكل إلى ذاك الجمال يشير

فصفو الكلام ممَّا استدلُّوا به من كلام الأخطل - في البيت الشعري - أنَّ مراده كان هو ذلك المخطَّط اللَّفظي البشري المصوغ أو الملفوظ من البشر في تنفيذه، لا الَّذي أوحى

ص: 199


1- البيان في تفسير القرآن / السيد الخوئي ص 406.

الله به لنبيِّه صلی الله علیه و آله و سلم في قوله تعالى [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى](1) أو كان لم يختص بنطقه البشر بل الأعم منه، كما لو كان من الملَك وإن كان وحياً لما علَّلناه، لكن ذلك محصور بما يناسبه.

إضافة إلى أنَّ ممَّا يرتبط بالنَّفس هو الحديث النَّفسي المبتلى به كمرض نفسي حتَّى الكثير من العقلاء وممَّا ليس له أي علاقة بالارتباط بما في الخارج من الأحداث أثناء هذا الحديث، وهو الَّذي قد يتحرَّك معه اللسان لا إراديَّاً كما يحصل عند بعض أهل المواهب وأخذ مجالاً واسعاً من الحديث عنه برايسكلوجيَّاً وأخذت بعض الجامعات الأجنبيَّة الأمريكيَّة له مجالاً لدراسته بما سمَّوه بحديث الخواطر.

حيث أنَّه إذا صار شيء في نفس أحد من ذلك الابتلاء - والعياذ بالله - واصطدم هذا الأمر بالواقع الخارجي لاختلف القرار ووصل إلى ما لم يتوقَّع غالباً من الغرائب مثل عدم التَّطابق بين الحديث وبين الحادث المتنازع فيه.

الدَّليل الثَّاني: (يطلق الكلام على الموجود منه في النَّفس، وإطلاقه عليه صحيح بلا عناية، فيقول القائل أنَّ في نفسي كلاماً لا أريد أن أبديَه وقد قال الله عزَّ اسمه [وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ](2))(3).

وقال قدس سره في ردِّه أيضاً: (فإنَّ الكلام كلام في وجوده الذِّهني كما هو كلام في وجوده الخارجي، ولكل شيء نحوان من الوجود خارجي وذهني والشَّيء هو ذلك الشَّيء في كلا وجوديه وإطلاق الاسم عليه بلا عناية ولا يختص هذا بالكلام، فيقول المهندس إنَّ في نفسي صورة بناء سأنقشها في خارطة، ويقول المتعبِّد إنَّ في نفسي أن أصوم غداً).

ص: 200


1- سورة النجم / آية 5.
2- سورة سبأ / آية 33.
3- البيان في تفسير القرآن / السيد الخوئي ص411.

أقول: بأنَّ المراد من استدلالهم هو عدم ارتباطه بخصوص ما يتعلَّق بالكلام النَّفسي الَّذي فسَّره السيد الأستاذ قدس سره، وعليه فيخرجون عن الموضوع الَّذي يريدون إثباته، إضافة إلى أنَّ الآية الَّتي استشهدوا بها لا ترتبط إلاَّ بالنَّاس فيما أسرُّوا به من مورد وعيده لهم بسبب انحرافهم لا بما يخص كلام الله ووحيه، وإذا كان في الآية شَبه بالاستدلال الأوَّل فردُّه قد سبق ذكره فلا نعيد.

الدَّليل الثَّالث: (أنَّه يصح إطلاق المتكلِّم على الله - أي عند نزول الوحي أو بعده - وهذه الهيئة أي هيئة اسم الفاعل - وهي كلمة المتكلِّم - وضعت لإفادة قيام المبدأ بالذَّات قياماً وصفياً، ولذا لا يطلق المتحرِّك والسَّاكن والنَّائم إلاَّ على من تلبَّس بالحركة والسُّكون والنَّومدون من أوجدها.

ومن الواضح أنَّ الكلام اللَّفظي لا يمكن أن يتَّصف بمباشرته الله سبحانه لاستحالة اتِّصاف القديم تعالى بالصِّفة الحادثة فلا مناص من الالتزام بالكلام القديم ليصح إطلاق المتكلِّم على الله سبحانه باعتبار اتِّصافه به)(1).

وقال قدس سره في جوابه أيضاً: (إنَّ المبدأ في صيغة المتكلِّم ليس هو الكلام فإنَّه غير قائم بالمتكلِّم قيام الصِّفة بموصوفها حتَّى في غير الله، فإنَّ الكلام كيفيَّته عارضة للصَّوت الحاصل من تموُّج الهواء، وهو أمر قائم بالهواء لا بالمتكلِّم، والمبدأ في الصِّيغة المذكورة هو التَّكلُّم، ولا نعقل له معنى غير إيجاد الكلام، فإطلاقه على الله وعلى غيره بمعنى واحد).

أقول موضِّحاً:

وهو أنَّه على هذا كيف يقاس الله بغيره في إيجاد الكلام؟ وهو معنى واحد وهو ذلك الإيجاد الواحد مع الفارق البيِّن بين الخالق والمخلوق، وبذلك يكون الأشاعرة ما فرُّوا منه وقعوا فيه.

ص: 201


1- البيان في تفسير القرآن / السيد الخوئي ص 412.

إلاَّ أن يريدوا ذلك المعنى الخيالي الَّذي لا يمكن وصوله أبداً إلى ما قد أوضحناه سابقاً من أنَّ كون الصِّفة هي صفة الفعل لا صفة الذَّات والفاعل فراراً من الوقوع في هذه المقايسة مع الفارق البيِّن، وهي ما ليس لهم أي نفع ملموس فيها إن خضعوا للنُّصح، بل تضرُّهم حتماً لو لم يخضعوا.

وقال قدس سره أيضاً في تتمَّة الرَّد عليهم: (وأمَّا قول المستدل أنَّ هيئة اسم الفاعل وضعت لإفادة قيام المبدأ بالذَّات قيام الوصف بالموصوف فهو غلط بيِّن، فإنَّ الهيئة إنَّما تفيد قيام المبدأ بالذَّات نحواً من القيام، أمَّا خصوصيَّات القيام من كونها إيجاديَّة أو حلوليَّة أو غيرهما فهي غير مأخوذة في مفاد الهيئة، وهي تختلف باختلاف الموارد، ولا تدخل تحت ضابط كلِّي، فالعالم والنَّائم مثلاً لا يطلقان على موجد العلم والنَّوم - وإن كانا سبباً في وقوع العلم وتأثير النَّوم في الاثنين بالمباشرة - لكن القابض والباسط والنَّافع والضار تطلق على موجد هذه المبادئ، وعليه فعدم صحَّة إطلاق التَّحرُّك على موجد الحركة لا يستلزم عدم صحَّة إطلاق المتكلِّم على مطلق موجد الكلام)(1).

وأقول إضافة توضيحيَّة: بصحَّة إمكان إطلاق بل وقوع وصدق لفظ اسم الفاعل وهو المتكلِّم على موجد الكلام تعالى وإن لم يلفظه لامتناعه عنه كالخالق تعالى وإنَّما اللافظ هو النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم بعد الوحي ومن أرسل للنَّاس، لانحصار الأمر بالنِّسبة إليه تعالى في الإيجاد لا في الحلول، وإن لم يصح ذلك في المتحرِّك للفارق المذكور بين اللفظين.

وسر بطلان هذا الاستدلال هو عدم القدرة على إيجاد ضابط كلِّي لما مرَّ من أمر اختلاف الموارد وأسبابها.

ص: 202


1- البيان في تفسير القرآن / السيد الخوئي ص412.

نتيجة البحث النِّهائيَّة

ونتيجة ما مرَّ بيانه أنَّ كلام الله هو صفة لله تعالى حتَّى لو كان مؤلَّفاً من الأصوات المؤلَّفة من الحروف اللَّفظيَّة القرآنيَّة، لكنَّها من نوع الصِّفة الفعليَّة لا الذَّاتيَّة حتَّى يمنع اتِّصاف الذَّات بهذه الحوادث، ولا ينطق بها إلاَّ الوحي والنَّبي والوصي "سلام الله عليهم" وبقيَّة من أرسل لهم من النَّاس أجمعين، لكنَّه ليس هو ككلام الآدمييِّن وإن شابهه في أنَّه مخلوق إلاَّ أنَّه من الوحي الاعجازي له تعالى.

وآخره وأهمُّه القرآن العربي المبين النَّازل من لدن اللَّطيف الخبير عن طريق جبرائيل الأمين الَّذي أنزله بجملته على صدر سيِّد المرسلين صلی الله علیه و آله و سلم من مصدر القوَّة المتين، وصحَّة نسبته الفعليَّة هذه إليه كنسبة الخلق إليه عند إيجاده لهم، فهو حادث فوق مستوى الحوادث الكلاميَّة الأخرى وكما مر من قوله تعالى في ذم اللاعبين [مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ](1).

ومن مثبتات الحدوث التَّوضيحيَّة قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلنَا الذِكّرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ](2)، وما التنزيل بنحو ما وصل إلينا منه بحسب المناسبات وما الحفظ له في هذه الدُّنيا إلاَّ لكونه من عالم الكون والفساد وعالم المقولات التِّسعة، إضافة إلى قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ](3).

ومن ذلك القرآن الحاوي لتعاليم الله لجميع شؤون الحياة ومنها الشَّرع والأحكام، وقول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم في حديث الثَّقلين المعروف الدَّال على كون لسان القرآن ولسان السنَّة الَّذي تحمله العترة لا يفترقان في هذه الدُّنيا حتَّى الورود على الحوض وهو (ألا وإنَّهما

ص: 203


1- سورة الأنبياء / آية2.
2- سورة الحجر / آية 9.
3- سورة إبراهيم / آية 4.

لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(1).

وعدم الافتراق من حالاته التَّشابه اللِّساني، أو اللِّساني والمعنوي، أو المعنوي مع بعض الفرق في اللِّسان ولو لتثبيت قطعيَّة الدِّلالة في السنَّة بعد إجمال الكتاب وكونهما مخلوقان أولُّهما بالمباشرة وثانيهما بالتَّسبيب وأنَّهما متوافقان معنويَّاً أحدهما يدعم الآخر، وإن كانت السنَّة في مرتبة ثانية بعد كلام الله.

وأمَّا سر ما وراء هذا الكلام الخاص ووراء اللوح المحفوظ لصفة الفعل هذه بعدما أشرنا إليه من القدرة والإرادة والإيجاد فلا يحدَّد خيال الكلام النِّفسي الَّذي قالته الأشاعرة، والبعيد كل البعد عن ما يناسب الذَّات إلاَّ أنَّ يكون خيالهم خبالاً وكما ورد عنه صلی الله علیه و آله و سلم (تفكّروا فيخلق الله، ولا تفكّروا في الله فتهلكوا)(2).

والنَّافع في المقام لختم الكلام وكما وصفه أحد أساتذتنا العظام هو الَّذي جاء في أصول الكافي عن أبي بصير عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمَّد الصَّادق عَلَيْهِما السَّلاَمُ قال سمعت أبا عبد الله عَلَيْهِما السَّلاَمُ يقول ("لم يزل الله عزَّ وجل ربنا والعلم ذاته ولا معلوم والسِّمع ذاته ولا مسموع والبصر ذاته ولا مبصر والقدرة ذاته ولا مقدور" قال قلت فلم يزل الله متحرِّكاً قال "تعالى الله عن ذلك إنَّ الحركة صفة محدثة بالفعل" قال قلت فلم يزل الله متكلِّماً؟ قال فقال "إنَّ الكلام صفة محدثة ليست بأزليَّة كان الله عزَّ وجل ولا متكلِّم")(3).

ص: 204


1- القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 15 من طرق شتى . وأخرج ص 16 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59 )، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).
2- ميزان الحكمة 3/ 1892 للرَّيشهري.
3- أصول الكافي كتاب التوحيد، باب صفات الذات، ح1.

وعلى أساس كون القرآن والكلام المقدَّس - الَّذي فيه ومنه آيات الأحكام ومنها الأصوليَّة والفقهيَّة - من صفات الله الفعليَّة لا الذَّاتيَّة، لناحية الحدوث الَّتي فيه.

فلابدَّ من أن يكون مورد الاحتجاج بها ومدركيَّتها في إفادة الفقهيَّات هو خصوص هذه الحالة، لأنَّ الحجيَّة الَّتي فيها لابدَّ أن تكون في حالة كون ما يحتج منه أو به في متناول اليد وعاضدته القواعد والأصول، لا ما كان خياليَّاً أو لا يفهم له معنى وعلى ما سيتوضَّح الأمر فيه بصورة أكمل في مباحث الحجَّة.

المبحث الرَّابع عشر

أقسام الوضع الأربعة

إنَّ للوضع بلحاظ المعنى الموضوع بإزائه اللَّفظ أقساماً من حيث التَّصوُّر والإمكان والوقوع فنقول:

بعد أن ذكرنا التَّلازم بين اللَّفظ والمعنى عند عقلاء الآدمييِّن، سواء كانوا هم الَّذين وضعوا الألفاظ لمعانيها، أم وضعت لهم إلهيَّاً تعيينيَّاً أم تعينيَّاً غير إلهي، حتَّى لو صدر ذلك من واحد ثمَّ كثر استعماله من ذلك الواحد أو غيره أو المجموع اللُّغوي العربي مثلاً، حتَّى صار مألوفاً حين كثرة استعماله تعيُّناً بدون قصد له أو غفلة عن وضعه الأوَّل قبل كثرة الاستعمال، حتَّى الَّذي قد يمرَّن ويربَّى عليه الأطفال من الألفاظ والحروف والكلمات والهيئات الَّتي قد تبدأ غير مرتبطة قبل المدنيَّة ثمَّ يرتبط بعضها ناقصاً ثمَّ يكون كاملاً حقيقة أو مجازاً وإلى أن ينشؤوا عليه بعد تفطُّنهم على لغة كاملة جاهزة عربيَّة مثلاً تحوي بين جنباتها نصوصاً إلهيَّة، ومنها القرآنيَّة وبالخصوص آيات أصول وقواعد وفروع أحكام الشَّريعة، ومنها أحاديث السنَّة النَّبويَّة والواردة في فقهنا فقه الإماميَّة عن أهل البيت الطاهر عَلَيْهِم السَّلاَمُ وحواريهم، وما صحَّ أيضاً مطابقاً لما ورد عندنا من بعض النَّبويَّات

ص: 205

من المؤيِّدات من طرق الآخرين، ومنها كذلك ما صحَّ وتعارف بين أهل العلم شائعاً من المصطلحات العلميَّة العامَّة وبالخصوص الأدبيَّة الموصولة بالأصول والفقه وقواعد الاستفادة من تلك الألفاظ في التَّصوُّر والتَّصديق، وإلى حد الإنتاج من قوانين الأدبيَّات الموضوعة لخدمة الأصول في مباحث ألفاظها للاستنباطات الفقهيَّة، وإلى حد أن يذوب اللَّفظ في المعنى والمعنى في اللَّفظ، وإلى حد أن تكون كذلك هذه اللغة مثلاً مستعملة أو صالحة لاستعمالها في جميع شؤون وقضايا الحياة حتَّى فضِّلت عند أهلها وغيرهم قوميَّاً ودينيَّاً خاصَّاً أو حتَّى عامَّاً من بعض النَّواحي على جميع اللُّغات للتَّداول والتَّفاهم، وإلى حدِّ إمكان أن يقال بجواز أن يكون أمر التَّعيين والتَّعيُّن المقرون بكثرة الاستعمال في بقيَّة اللُّغات كالَّتي استعملت في نقل وحي الله تعالى للأنبياء والرُّسل السَّابقين.

فبعد ذكر ما مرَّ ذكره لابدَّ من معرفة أقسام الوضع الَّتي ظهرت بعد التَّأمُّل وبحسب المحتملات العقليَّة، بل منذ بدايات الحياة القديمة وأيَّام تأسُّس اللُّغات وقوانينها للكلام بما يناسبه فيها للاستفادة من فوارق ما هي عليه إن كانت ونتيجة الخلاف الحاصل، وهي أربعة:1 - الوضع العام والموضوع له العام.

2 - الوضع الخاص والموضوع له الخاص.

3 - الوضع العام والموضوع له الخاص.

4 - الوضع الخاص والموضوع له العام.

فهي بعد الانتباه إليها بجميعها متصوِّرة كما أشرنا أعلاه، لأنَّه لا يصح الحكم على أي شيء إلاَّ بعد تصوُّره بوجه من الوجوه ولو إجمالاً إن اتَّضح الأمر عن تشخيصه.

لأنَّ التَّصوُّر قد يكون للشَّيء بنفسه، وقد يكون بوجهه وهو تصوُّر عنوانه عامَّاً ينطبق عليه، لأنَّ هذا العام مراد كاشف عنه، وهذا ما يسمَّى عندهم بتصوُّر الشَّيء بوجهه وإن كان غير معلوم بالتَّمام وهو بخلاف المجهول المحض.

ص: 206

ولكنَّ الثَّلاثة الأولى داخلة في الإمكان المقابل للامتناع، حتَّى الثَّالث بعد الاختلاف الَّذي فيه، ما عدا الرَّابع منها، لاستحالة أمره على قول في مصداق معقول له وجوده العقلي، ولو بمجرَّد افتراضه ممكناً في عالم مجرَّد التَّصوُّر على قول آخر.

فهو مع ما سبقه أعني الثَّالث غير قابلين للوقوع على ما قيل في الثَّالث، لكنَّه محل بحث بينهم.

بل جعلت الثَّلاثة الأولى بأجمعها بين المشهور متعارفة في الوقوع، يبقى الأوَّل والثَّاني وارداً تماماً في التَّصوُّر والإمكان والوقوع عند الجميع.

ومُثِّل للأوَّل بأسماء الأجناس كماء وسماء وحيوان ونحو ذلك.

وللثَّاني بالأعلام الشَّخصيَّة كمحمَّد وعلي ونحوهما.

وللثَّالث بالحروف والهيئات والمبهمات من أسماء الإشارة والضَّمائر والموصولات والاستفهام ونحوها، حتَّى عُرف بين الأصولييِّن أنَّه كلَّما يذكر القسم الثَّالث يلازمه الكلام عن المعنى الحرفي، وهو الشَّاخص الأبرز ما بين هذه النَّظائر على ما سيجيء.

ولكنَّ الشَّيخ الآخوند قدس سره خالف المشهور في هذا الثَّالث، وجعله باقياً في خصوص بقعة الإمكان بلا أن يتجاوزها، وجعل الأمثلة المنسوبة إليه من قبل المشهور في واقعها عائدة إلى الأوَّل من الأقسام، مستدلاًّ على ذلك بما معناه منه قدس سره وهو:

(وذلك لأن الخصوصية المتوهمة ، إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصِّص بها جزئيَّاً خارجيَّاً، فمن الواضح أن كثيراً ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك بل كلياً، ولذا التجأ بعضٍ الفحول(1) إلى جعله جزئياً إضافياً، وهو كما ترى)(2).

بمعنى أنَّنا قد نرى المعنى الحرفي أمراً صالحاً، بل منطبقاً على كثيرين كالعام، فمثلاً

ص: 207


1- يقصد بذلك إمّا صاحب الفصول كما في الفصول ص 16، وإما المحقق التقي كما في هداية المسترشدين ص30.
2- كفاية الأصول ج1 ص11.

إذا قلت (سرت من الكوفة) ف- (من) الَّتي هي أحد حروف الجر دالة على الابتداء، والابتداء الَّذي تدل عليه (من) وإن كان معنى خاصَّاً بخصوص الابتداء بالكوفة إلاَّ أنَّه صالح في نفسه للانطباق على كثيرين، فإنَّه متعدِّد بتعدُّد النّقاط الَّتي يقع منها ابتداء السَّير، فإنَّ نقاط السَّيركثيرة من نفس البعد، ومصداق هذا خارجي.

إذن فهو بهذا المعنى كلِّي عام ليس بمتشخِّص، فلابدَّ من رجوعه إلى القسم الأوَّل.

وهذه المخالفة للمشهور تُعد للشَّيخ قدس سره هي السَّابعة.

المبحث الخامس عشر

وقوع الحروف وتوابعها وعودها للقسم الثَّالث أقرب من الرُّجوع للأوَّل

ولكنَّ الحق لا ينبغي هجرانه إن أمكن الدِّفاع عن رأي المشهور، كما قد يلوح أمر رجحان الأخذ بدفاع الشَّيخ المظفَّر قدس سره عن رأي المشهور لسلاسته، بدل إجابة الشَّيخ الآخوند قدس سره في ردِّه على المشهور ممَّا يرويه ويجعله شبهة منهم بقول السيِّد الأستاذ المحقِّق الخوئي قدس سره عن الشَّيخ قدس سره، وقد أجاب بما يحتمل وجوهاً، وهو ما قد يشعر بتمريضه على ما سيتَّضح.

ولأنَّ كلام الشَّيخ المظفَّر قدس سره أقرب إلى الواقع الوجداني مع اعتراف الآخوند قدس سره إجمالاً بعد نقله ما يحتمل من القوم أن يستندوا عليه كذلك وهو (وإن كانت هي الموجبة لكونه جزئياً ذهنياً)(1) بعدم استبعاد هذا المعنى، وهو ما يصل إلى نصف الجواب ثبوتاً لما قاله الشَّيخ المظفَّر قدس سره من الحالة الإثباتيَّة لما قاله المشهور من كون القسم الثَّالث

ص: 208


1- كفاية الأصول ج1 ص11.

داخل في الوقوع.

إلاَّ أنَّه يستوجب توضيح الإجابة بما يوافق رأي المشهور للمعنى بما يأتي، وإن كان فيه إعادة بعض ما مضى، فلا داعي إلى الاسترسال بما حاوله البعض لنصرة من يريد نفي الوقوع في الثَّالث تأييداً للشَّيخ قدس سره .

مع تحقيق السيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره بانتصاره للمشهور كما في غاية المأمول بقوله: (بأنَّ الإطالة فيه أكثر ما فيه تضييع للعمر)(1).

فقد ذكر الشَّيخ المظفَّر رحمه الله في أصوله(2) ما يؤول بالتَّالي إلى الرَّد لهذا القرار بما مضمونه بعد ذكر معان ثلاث للحروف مع بعض التَّصرُّف الإيضاحي.

أوَّلها: ما اختاره الشَّيخ الآخوند قدس سره(3) تبعاً للشَّيخ الرَّضي قدس سره(4) وخلاصته:

(أنَّ الموضوع له في الحروف هو بعينه الموضوع له في الأسماء المسانخة لها في المعنى كمن الابتدائيَّة، والفرق هو ما بين الآليَّة في الحروف إذا لوحظت غير مستقلَّة وبين الاستقلاليَّة الموضوعة للاسم الَّذي وضع ليكون كذلك)، وقد رُدَّ هذا الرَّأي بما سيأتي.

ثانيها: أنَّ الحروف لم توضع لمعان أصلاً، بل حالها حال علامات الإعراب في إفادة كيفيَّة خاصَّة في لفظ آخر فكما أنَّ علامَّة الرَّفع في قولهم (حدَّثنا زرارة) تدل على أنَّ زرارة فاعل الحديث كذلك (من) في المثال المتقدَّم تدل على أنَّ الكوفة مبتدأ منها والسَّير مبتدأ به، وفي هذا مجال للرَّد بما سيجيء.

ثالثها: وهو مورد الرَّد للشَّيخ قدس سره ، لأنَّ الحروف موضوعة لمعان مباينة في حقيقتها وسنخها للمعاني الإسميَّة وكما مرَّ بأنَّ المعاني الإسميَّة في حدِّ ذاتها معان مستقلَّة في

ص: 209


1- غاية المأمول ج1 ص 130 آخر الصَّفحة.
2- أصول الفقه ص 29.
3- كفاية الأصول ج1 ص 25.
4- شرح الكافية ج1 ص 9، 10.

أنفسها ومعاني الحروف لا استقلال لها، وهو أنَّ المعاني الموجودة في الخارج على نحوين وهما:

الأوَّل: ما يكون موجوداً في نفسه ك- (زيد) الَّذي هو من جنس الجوهر وقيامه مثلاً الَّذي هو من جنس العرض، فإنَّ كلاًّ منهما موجود في نفسه، ولكنَّ الفرق أنَّ الجوهر موجود في نفسه لنفسه والعرض موجود في نفسه لغيره، ومن هنا قد ينشأ بسبب نفسيَّة الاثنين الجوهريَّة والعرضيَّة شيء من الالتباس والإشكال.

الثَّاني: ما يكون موجوداً لا في نفسه كنسبة القيام إلى زيد، والدَّليل على كون هذا المعنى لا في نفسه أنَّه لو كان للنَّسب والرَّوابط وجودات اسنقلاليَّة للزم وجود الرَّابط بينها وبين موضوعاتها فننقل الكلام إلى ذلك الرَّابط، والمفروض أنَّه موجود مستقل فلابدَّ له من رابط أيضاً، وهكذا ننقل الكلام إلى هذا الرَّابط فيلزم التَّسلسل والتَّسلسل باطل.

فيعلم من ذلك أنَّ وجود الرَّوابط والنَّسب في حدِّ ذاته متعلَّق بالغير ولا حقيقة له إلاَّ التَّعلُّق بالطَّرفين وهو معنى الجزئيَّة.

ثمَّ إنَّ الإنسان في مقام إفادة مقاصده كما يحتاج إلى التَّعبير عن المعاني المستقلَّة كذلكيحتاج إلى التَّعبير عن المعاني غير المستقلَّة في ذاتها.

فحكمة الوضع تقتضي أن توضع بإزاء كل من القسمين ألفاظ خاصَّة، والموضوع بإزاء المعاني المستقلَّة هي الأسماء، والموضوع بإزاء المعاني غير المستقلَّة هي الحروف وما يلحق بها.

مثلا إذا قيل (نزحت البئر في دارنا بالدلو) ففيه عدة نسب مختلفة ومعان غير مستقلة: أحدها نسبة النزح إلى فاعله والدال عليها هيئة الفعل للمعلوم، وثانيتها نسبته إلى ما وقع عليه أي مفعوله وهو البئر والدال عليها هيئة النصب في الكلمة، وثالثتها إلى المكان والدال عليها كلمة (في)، ورابعتها نسبته إلى الآلة والدال عليها لفظ الباقي في

ص: 210

كلمة (بالدلو).

ومن هنا يعلم أنَّ الدَّال على المعاني غير المستقَّلة ربَّما يكون لفظاً مستقلاًّ كلفظة (من) و (إلى) و (في)، وربَّما يكون هيئته في اللَّفظ كهيئات المشتقَّات والأفعال وهيئات الإعراب.

وبهذا يتم عدم الفرق بين الحروف وبين ملحقاتها وفي الحاجة إلى الاستقلال والحاجة إلى عدمه(1).

وبهذا يتم الانتصار لما قاله المشهور، وسوف يتَّضح أمر المستقَّلات وغيرها من الحروف وملحقاتها.

وممَّا يشير إلى تقوية هذا الانتصار ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين وإمام المتَّقين ومقنِّن القواعد والقوانين في أمور التَّقسيمات الماضية على الَّتي منها تفرَّعت بحوث العلوم الأدبيَّة حتَّى ارتبطت بالأصول في مباحث ألفاظها قوله "سلام الله عليه":-

(الاسم ما أنبأ عن المسمَّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمَّى، والحرف ما أوجد معنى في غيره)(2).

أقول: فمنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ ومن ابن عمِّه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ومن بضعته سلام الله علیها وأبنائهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ كانت هذه الأصول، ومن العلماء كانت الفروع كما ورد عن الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: (إنَّما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرِّعوا)(3) وعن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ (علينا إلقاء الأصول وعليكم التَّفريع)(4).

ولأجله فإنَّ الحروف وأسماء الإشارة والضمائر والمبهمات كأسماء الموصول

ص: 211


1- أصول الفقه للشَّيخ المظفَّر ج1 ص 14.
2- الفصول المختارة الشَّريف المرتضى ص91، بحار الأنوار ج40 ص162.
3- الوسائل: ج18 ص41 باب 6 ح 51.
4- الوسائل: ج18 ص41 باب 6 ح 52.

المحتاجة إلى الصَّلات وغيرها كلُّها موضوعة بالوضع العام وإنَّ الموضوع لها خاص في التَّصوُّر والإمكان والوقوع لما مرَّ عن القسم الثَّالث.

المبحث السَّادس عشر

لماذا النِّزاع في إمكان الرَّابع والامتناع في وقوعهإنَّ سبب النِّزاع في إمكان القسم الرَّابع وهو (الوضع الخاص والموضوع له العام) - وإن كنَّا قد أشرنا إليه في السَّابق القريب إلاَّ أنَّنا قد نكون بحاجة إلى شيء من التَّفصيل فيه -- ناشئ من النِّزاع في إمكان أن يكون الخاص وجهاً وعنواناً للعام، وذلك لما تقدَّم من أنَّ المعنى الموضوع له لابدَّ من تصوُّره بنفسه أو بوجهه لاستحالة الحكم على المجهول.

والمفروض في هذا القسم إنَّ المعنى الموضوع له لم يكن متصوَّراً في عمومه وإنَّما المتصوَّر هو الخاص فقط وإلاَّ لو كان العام متصوَّراً بنفسه أو بوجهه ولو بسبب تصوُّر الخاص كان من القسم الأوَّل وهو (الوضع العام والموضوع له العام) وهو ممكن وواقع ولا كلام لنا فيه.

فلابدَّ حينئذ للقول بإمكان هذا الرَّابع من افتراض صحَّة أن يكون الخاص وجهاً من وجوه العام حتَّى يكون تصوُّره كافياً عن تصوُّر العام بنفسه ليكون تصوُّراً للعام بوجه كما عُرف رابعاً في كون الموضوع له عاماً.

ومن هنا حصل النِّزاع بين الأعلام من الأصوليِّين فبعض جعل الصَّحيح بعد التَّأمُّل أنَّ الخاص ليس وجهاً للعام وهم الأكثر إن لم يبالغ بكلمة الكل ومنهم الشَّيخ الآخوند قدس سره ، بل الأمر بالعكس لصحَّة أن يكون العام وجهاً من وجوه الخاص كالمرآة الَّتي تتَّسع لما ينعكس فيها وزيادة، ولذا أمكن القول بالقسم الثَّالث وهو (الوضع العام والموضوع

ص: 212

له الخاص) بإمكانه على الأقل على ما مرَّ تفصيله.

وبعض قال بالإمكان في الرَّابع وأوجد لما قال أمثلة يقر بها العقل، بل بما قد لا يجعل مجالاً لمن يستبعد ذلك، بل ترقَّى الأمر عند بعض مهم آخر حيث جعل تلازماً للرَّابع بالثَّالث فإمَّا أن يصح الثَّالث عندهم ويصح الرَّابع معه أيضاً وإمَّا أن لا يصحَّا معاً، وهو ما يصل في الصُّورة الأولى بالإمكان للرَّابع كالثَّالث، وعليه:

فقد نقل العلاَّمة السُّبحاني عن لفيف من المحقِّقين حسب قوله حاولوا تصحيح هذا القسم بالأمثلة التَّالية:-

(أ: إذا لاحظ الواضع فرداً خارجياً من نوع كزيد، وهو يعلم أنّ بينه و بين سائر الأفراد جامعاً كليّاً، فيضع اللفظ للجامع بينه و بين سائر الأفراد، فالملحوظ خاص أعني زيداً، لكن الموضوع له يكون الجامع بين هذا الفرد وسائر الأفراد.

ب: ما ذكره شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري(1) : إذا تصوَّر شخصاً جزئياً خارجيّاً من دون أن يعلم تفصيلاً بالقدر المشترك بينه و بين سائر الأفراد، ولكنّه يعلم إجمالاً باشتماله على جامع مشترك بينه و بين باقي الأفراد مثله، كما إذا رأى جسماً من بعيد ولم يعلم أنّه حيوان أو جماد، فوضع لفظاً بإزاء ما هو متحد مع هذا الشخص في الواقع(2) فالموضوع له لوحظ إجمالاً وبالوجه، وليس الوجه عند هذا الشخص إلاّ الجزئي، لأنّ المفروض أنّ الجامع ليس متعقلاً عنده إلاّ بعنوان ما هو متّحد مع هذا الشخص.

ج الكم المعروف ب- (المتر) الَّذي هو وحدة قياس الطول ومقداره (100 سنتيمتر) فالمخترع وضع لفظ (المتر) على الوحدة القياسيَّة الَّتي اخترعها، وعلى كل وحدة تشابهها، فالوضع خاص، لأنَّ الموضوع هو الكميَّة المعيَّنة ولكن الموضوع له هو الجامع

ص: 213


1- في درر الفوائد ج1 ص 5.
2- أي على الجامع بينه و بين غيره.

بينه وبين غيره).

انتهى ما عن السُّبحاني "دام عزُّه"(1).

أقول: وممَّن نقل رأي صاحب الدُّرر المحقِّق الحائري قدس سره أيضاً السيِّد الرَّوحاني قدس سره وجاء في كشكول الشَّيخ أحمد الإحسائي ما يشبهه وهو قوله قدس سره:-

(ثمّ التقسيم العقلي يقضي قسماً رابعاً وهو أنّ الوضع خاص والموضوع له عام وأنكروا وجوده ولا يبعد أن يكون المفقود عند وجدانه لا وجوده ويمكن أن يتحمّل في إثباته(2).

وربّما مثل له بالعقل فانّه مستعمل في كلّ عقل من سائر العقول لا بعينه في شخص خاص وأصل الاسم موضوع على العقل الأوّل وهو يدلّ عليه بمادّته وهيئته وهو ذات متشخّصة في الخارج فالواضع حال استعماله في كلّ عقل من سائر العقول لاحظ ما دلّ الاسم عليه بمادّته وهيئته وهو العقل الأوّل للتشخّص الموجود في الخارج فتكون ملاحظة ذلك المتشخّص خارجاً من حيث خصوصه وتعيّنه آلة لاستعمال ذلك الاسم في فرد لا بعينه منسائر العقول لا المفهوم الكلّي الذي لم يوجد أفراده إلاّ واحداً كما يتوهّم ليكون الوضع عامّاً لأنّ المفهوم إنّما يكون معروضاً للكلّي مع إمكان تعدّده وتكثّره وهو هنا غير ممكن لنقص قابليّة على ما هو عليه عن إمكان التعدّد فلا تتعلّق القدرة بتعدّده لا لنقص فيها وإنّما ذلك لنقص قابلية للوجود مع التعدّد). إلى آخره

أقول : هذا ما تيسَّر لدينا من الَّذي قاله العلماء الأكابر بما قد لا يلوح من أفكارهم حسب الأمثلة الَّتي ذكروها أكثر من حالة الإمكان للرَّابع في الظَّاهر.

وأمَّا ما قد يُستفاد منه قوَّة هذا الإمكان أيضاً فيه.

فقد قال الفيروز آبادي قدس سره في عنايته بعد ذكر رأي الشَّيخ الآخوند قدس سره في متن

ص: 214


1- إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج1 ص 41.
2- بمعنى أنَّ عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود وهو معنى الإمكان.

كفايته حول الأقسام الثَّلاثة وتركه للرَّابع منعاً له ما قد يُستفاد منه قوَّة إمكان الرَّابع كالثَّالث الممكن عنده وهو قوله:

("أقول" أوَّلاً لا معنى للتفكيك بين الوضع والموضوع له من حيث العموم والخصوص أصلاً فإنَّ الوضع ليس مجرَّد لحاظ المعنى كي إذا لوحظ المعنى العام كان الوضع عامَّاً سواء كان الموضوع له عامَّاً أيضاً أم لا وإذا لوحظ المعنى الخاص كان الوضع خاصَّاً سواء كان الموضوع له خاصَّاً أيضاً أم لا بناءً على جواز القسم الرَّابع كما ستأتي الإشارة إليه.

(وثانياً) أنَّ لحاظ الموضوع له على الدَّقة والتَّفصيل عند الوضع لازم عقلاً ولا يكفى اللِّحاظ الإجمالي المرآتي وإلاَّ فكما أنَّه يصح القسم الثَّاني أي الوضع العام والموضوع له الخاص(1)، فكذلك يصح القسم الرَّابع وهو الوضع الخاص والموضوع له العام إذ لم يعلم أنَّ مرآتية الفرد للطَّبيعي هي أقل من مرآتية الطَّبيعي للأفراد فكما أنَّه إذا لاحظ الطَّبيعي جاز وضع اللَّفظ لأفراده نظراَ إلى كونه وجهاً من وجوهها فكذلك إذا لاحظ الفرد الخاص جاز وضع اللَّفظ لكلِّيه المنطبق عليه وعلى أقرانه لكونه وجهاً من وجوه)(2) انتهى كلامه رفع مقامه.

وقد عُرف عن الميرزا الرَّشتي قدس سره في كتابه بدائع الأصول ما حاصل كلامه ما يشبهه أيضاً:

(أنَّه كما أنَّ الجزئي يرى بواسطة الكِّلي كذلك الكلِّي يرى بواسطة الجزئي فإنَّ ((الإنسان)) يرى مع ((زيد)) غير أنَّه تارة يوضع اللَّفظ عليه من حيث أنَّه ((زيد)) وأخرى يوضع عليه اللَّفظ من حيث أنَّه ((إنسان))).

وقد أوضح ذلك بأنَّ (من يصنع معجوناً مركّباً من أجزاء، تارة يلحظ المعجون

ص: 215


1- أي حسب التَّقسيم الَّذي في كلام الشَّيخ الرَّشتي قدس سره للأوضاع.
2- عناية الأصول للفيروز آبادي ج1 ص 18.

بلحاظ كونه معجوناً خاصّاً، وأخرى يلحظه بلحاظ الخاصيّة التي فيه، فالوضع باللّحاظ الثاني خاص والموضوع له عام ، فالفرق بين الوضع العام والموضوع له العام، وبين الوضع الخاص والموضوع له العام ، هو الفرق بين قولنا : كلّ مسكر حرام، وقولنا: الخمر حرام لإسكاره، فوزان القضيّة الأولى وزان العام والموضوع له العام، لأنه يلحظ العام المسكر ويجعل الحرمة لهذا العام، أما في القضيّة الثانية فالموضوع الملحوظ هو إسكار الخمر، لكنْ لا يضع الحكمللإسكار المختص بالخمر، بل إنّه يرى بإسكار الخمر عموم الإسكار ويضع الحكم لهذا العام)(1).

انتهى ما عن الشَّيخ الرَّشتي قدس سره .

وقال الشَّيخ السُّبحاني "دام عزُّه" في بعض أجوبته حول حياة أستاذه السيِّد الخميني قدس سره ومبانيه الرِّجاليَّة والأصوليَّة وغيرها، ناقلاً رأيه حول إمكان الرَّابع بما يشبه السَّابق أيضاً فقال:

(أبطل الإمام الرَّأي المعروف في الوضع من مباحث الألفاظ الذي يقول "الوضع الخاص والموضوع له عام محال" و "الوضع العام والموضوع له خاص ممكن" وقال : إمّا أن يكونا ممكنين معاً أو ممتنعين معاً، وقد استدلّ لذلك، وذكرنا استدلاله في "تهذيب الأصول"، وإجماله أنّه يقول بتجويز الاثنين معاً بنحو وإلى امتناعهما بنحو آخر فيما لو لاحظناهما مرآة، بحيث لا يكون الخاص مرآة للعام ولا العام مرآة للخاص، فالخاص لأجل ضيقه لا يعكس المفهوم الواسع، والعام لأجل سعته لا يُري الجزئيات، وإذا كان اللِّحاظ الانتقال فكلاهما صحيح وجائز).

أقول : هذا ما كان من أمر الرَّابع في إمكان القول بإمكانه الخاص المقوِّي لعدم صحَّة القول بامتناعه إلاَّ أنَّه من بيان العلماء السَّابقين لا ينبغي توهُّم الوقوع للرَّابع بحجَّة القول للثَّالث عند من يراه فيه ممَّن سبق ذكرهم بسبب ما ذكروه من التَّلازم بين الثَّالث

ص: 216


1- بدائع الأصول : 39.

والرَّابع حول صحَّة أحد القولين من عدمه، وهو أمَّا الصحَّة أو عدمها لأنَّهما قد لا يقولان (أي صاحبي القولين) بالوقوع في الثَّالث كمن سبق ذكرهم فكيف يقال بالوقوع في الرَّابع ملازمة له للتَّجنُّب عن القياس مع الفارق.

وبهذا يكفينا ما بينَّاه من عدم الدَّاعي إلى الإطالة فيه حذراً من تضييع العمر بأكثر ممَّا أمكن في هذا الرَّابع بما لم تضمن منه ثمرة عمليَّة فعليَّة كما مرَّ من كلام سيِّدنا الأستاذ الخوئي قدس سره في القسم الثَّالث.

المبحث السَّابع عشر

تبعيَّة الدِّلالة للإرادة أم لا؟

والثَّمرة العمليَّة المترتِّبة على ذلك

ذكر المنطقيُّون أقسام الدِّلالة في مباحث ألفاظ علم المنطق - خادم العلوم الَّتي لابدَّ أن تكون إمَّا مرتبطة بالأوضاع اللُّغويَّة المقصودة من قبل الواضعين لها من العقلاء الأوائل أو من بعدهم إذا كان بعض الأوائل قاصدين أو جادِّين في قصدهم عند ارتباطهم بمقدِّمات الحكمة أو كانوا ساهين وغافلين حينما صار الوضع الأوَّل وهكذا من شابههم من بعض من تلاهم إلى هذا الحين من بين مقاصد العقلاء اللَّفظيَّة والَّتي منها حالتا الحقيقة والمجاز أو من غيرهم حتَّى من اصطكاك حجر بحجر فتولَّد صوت مفهم أو تحرَّك الهواء بحركة ذات صوت وتنبَّه السَّامع من الحجرين أو تحرَّك الهواء إلى لفظ من دون علم السَّامع بعدم تكلُّم اللافظ البشري على ما سوف يجيء في منظور الأصوليِّين وما يلحق بذلك -

فقسَّموها إلى ثلاثة أقسام وهي المطابقة والتَّضمُّن والالتزام.

ومن بعد هذا أراد الأصوليُّون إيصال ما توصَّل إليه المنطق - خادم علمهم وغيره

ص: 217

من هذه الأقسام الثَّلاثة - في الأصول من مباحث ألفاظها الخاصَّة إلى ما به الثَّمرة العمليَّة في طريق الاستنباط الفقهي عن طريقها إلى مبحث تبعيَّة الدِّلالة من ذات معنى واحد أو معنيين قد يتسبَّب منهما معاً الخلط المخل بالتَّبعيَّة.

وإلاَّ فلا جدوى من الاهتمام بطرح هذه البحوث في الأصول، سواء كان الدَّاعي إلى هذه البحوث حول النُّصوص الإلهيَّة أو ظواهرها أو السنَّة النَّبويَّة وروايات العترة الطَّاهرة أو ظواهرها وفي لغة التَّفاهم العلمي الجدِّي لا الهزلي ولا المكذوب ولا الملفَّق بالكذب الَّذي تضيع معانيه ولا المروي تقيَّة في غير محل الاختيار أو زمانه من الأمور الَّتي منها يتسبَّب بعض انسداد باب العلم الَّذي بسببه يلوذ الأصولي بالنَّمط الآخر من الأصول، إلاَّ إذا اضطرَّ لها وبمقدار الحاجة أو غير ذلك ممَّا هو أقل من هذا المستوى حتَّى الَّذين يساوون الجهلاء وغير العقلاء وهكذا.

فالتزموا بعد الكلام عن وضع الألفاظ وأقسامه وما يتعلَّق باندماجه بالمعنى ذاتيَّاً بدلاً من عدمه بالبحث عن الدِّلالة وتبعيَّتها للإرادة أم لعدمها؟ أمَّ أنَّ الدِّلالة مستقلَّة عن بعض حالات الوضع الأوَّل لو تعدَّد الوضع؟ أم أنَّها تابعة بتمام ذلك الوضع الأوَّل؟ أم لمَّا يتجَّدد أيضاً؟وقد عُرف عنهم قبل الدُّخول منَّا في البحث أنَّ الدِّلالة على قسمين (تصوريَّة وتصديقيَّة).

والأولى: تسمَّى ذات الدِّلالة الوضعيَّة دون أن تتلازم مع مقدِّمات الحكمة، وهي من قال المنطقيون عنها بأنَّها غير تابعة للإرادة، وسيجيء تعريفها.

والثَّانية: ذات الارتباط بها(1) وهي إحراز كون المتكلِّم في مقام البيان والإفادة، وإحراز أنَّه جاد وغير هازل، وإحراز أنَّه قاصد لمعنى كلامه شاعر به، وإحراز عدم نصب قرينة على إرادة خلاف الموضوع له، وإلاَّ كانت الدِّلالة التَّصديقيَّة على طبق

ص: 218


1- أي مقدِّمات الحكمة.

القرينة المنصوبة، وسيجيء تعريفها.

فذكر الشَّيخ الرَّئيس أبو علي ابن سينا(1) e والمحقِّق الخواجه نصير الدِّين الطُّوسي(2) قدس سره أنَّ الدِّلالة تتبع الإرادة، فيلزم من ذلك ما قاله القائلون بأنَّ الألفاظ موضوعة للمعاني مع قيد الإرادة.

ولكن هذا خلاف التَّحقيق من حيث المبدأ للزوم الفصل بين حالة أمثلة التَّصوُّر وأمثلة التَّصديق، لكثرة من يقول اللَّفظ ولم يُرد المعنى الَّذي يحمله إمَّا سهواً وغفلة أو في حال النَّوم أو حكاية، لأنَّ اللافظ قد لا يعرف المقصود من هذا اللَّفظ وذاك، أو كالآيات القرآنيَّة الَّتي نزلت وحياً قرآنيَّاً أو غيره وغيرها من الكتب السَّماويَّة السَّابقة وصحفها ونصوص السنَّة الشَّريفة ونصوص أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ التَّابعة لمضامين الوحي الشَّريف لو نطق بتلك الآيات والرِّوايات الشَّريفة غير المبلِّغ الكامل، أو حتَّى من اعتبر مبلِّغاً لكنَّه لا أهليَّة له في الواقع، لأنَّه ممَّن لا يقول إلاَّ بما لم ينزل الله به من سلطان من المعاني تحريفاً ونحوه وإن كانت إرادة ذلك تابعة للمريد الأوَّل تعالى في جوهري الكتاب والسنَّة الَّتي كان مورد الاطمئنان بصدورها من الإمام المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم المرسل عن الله تعالى، وهكذا من حذا حذوه من الحواري وغيرهم، لكون المتكلِّم وإن غفل أو نحو ذلك فقال ما قال، فإنَّه ليس معنى ذلك أن لا يحمل اللَّفظ معنى في السَّابق.

إلاَّ إذا أراد العلَمان - من قولهما ذلك عند الوضع العقلائي الأوَّل أو حتَّى الوضع الثَّاني في حال الجد لا في حال الهزل أو الوضع الثَّالث، وهكذا بعد هجران الوضع السَّابق أو الأوضاع السَّابقة أو من دون قصد الهجران أو لتعدُّد الواضعين، سواء في الزَّمان الواحد والمكان المتفرِّق أو الزَّمان المتعاقب ولو في مكان واحد بحيث كل وضع يحمل معنى يغاير المعنى الآخر وبمستوى الحقيقي وهو ما يُسمَّى بالمشترك اللَّفظي إذا كان

ص: 219


1- الشفاء، قسم المنطق في المقالة الأولى من الفن الأوّل، الفصل الثامن /42.
2- حسبما حكى عنه العلاّمة الحلّي قدس سره في الجوهر النضيد في شرح التجريد / 4.

اللَّفظ الموضوع واحداً وهو ما يحتاج فهم معناه إلى القرينة معيَّنة المراد أو دون أن يكون الوضع الثَّاني مثلاً أو الأكثر يحمل المعنى الحقيقي مثل السَّابق وهو ما يسمَّى بالوضع المجازي المحتاج فهم معناه إلى القرينة الصَّارفة أو نحو ذلك من الفروع اللُّغويَّة كما في المنطق والمعاني والبيان وعلم الأصول -إرادتهما(1) مع الاستعمال لا مجرَّد الإرادة، لأنَّ الإرادة ناشئة من الاستعمال كما صرَّح الشَّيخ الآخوند في قوله قدس سره (الخامس لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي لا من حيث هي مرادة للافظها لما عرفت بما لا مزيد عليه من أنَّ قصد المعنى على أنحائه من مقوِّمات الاستعمال فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه .... إلخ)(2).

وقد يتناسب هذا المشكل مع التَّصوُّر دون التَّصديق في أكثر محاوره، وإن قلَّت المصادفات الصَّادقة، وإن كان هو رأي ذلك المشهور نقلاً عن السيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره(3) على ما سيجيء تبيُّنه من ذكر الثِّمار العمليَّة لصالح الدِّلالتين.

ولذا أوَّل الشَّيخ الآخوند قدس سره ذلك على الإجمال، لإزالة الإشكال عمَّا أراده العلَمان بإفرازه عن رأي المشهور، دون إعراب الشَّيخ قدس سره عن تأييد منه لها في ذلك والبقاء على المعنى المتيقَّن، بما يحتاج إلى بيان منَّا ولو بنحو من الاختصار، لحصر المقبول في المقام إن كان وهو (تبعيَّة الدِّلالة للإرادة) وإخراج غيره منه مع شيء من التَّصرُّف الإضافي الَّذي لا يخلو من الإفادة الإيضاحيَّة، وهو أنَّ الدِّلالة على قسمين:

الأوَّل: دلالة يُعبَّر عنها بالدِّلالة التَّصوريَّة، وهي عبارة عن دلالة اللَّفظ على معناه، أو انتقال ذهن الإنسان إلى معنى اللَّفظ الأساسي مثلاً بمجرَّد سماعه ولو علم أنَّ اللافظ

ص: 220


1- أي العلَمين وهما الرئيس والخواجه.
2- كفاية الأصول ج1 ص 16.
3- غاية المأمول ج1 ص 145.

لم يقصده، إذ مجرَّد سماع اللَّفظ من لافظ ولو بلا شعور ولا اختيار أو حتَّى من وراء جدار لابدَّ أن يخطر مدلول ذلك اللَّفظ في ذهن السّامع له بعد معرفة وضع اللَّفظ لذلك المعنى، فالعارف بأنَّ لفظة (زيد) موضوعة لذات خاصَّة بمجرَّد سماع هذا اللَّفظ ينصرف ذهنه إلى معناه بسبب اندكاك اللَّفظ بالمعنى والمعنى باللَّفظ، إن كان التَّلفُّظ به قد حصل بلا شعور ولا اختيار حتَّى من الألفاظ الَّتي لها حرمتها ولا يجوز التَّعدِّي على معانيها وتبديلها بالرَّأي، ومن ذلك انتقال الذِّهن إلى المعنى الحقيقي عند استعمال اللَّفظ في معنى مجازي، مع أنَّ المعنى الحقيقي ليس مقصود المتكلِّم.

وهنا مورد اعتاد على ذكره المنطقيُّون والأصوليُّون في هذا المقام وهو بحث علامات الحقيقة وسيجيء بيانه قريباً.

وقد يتصوَّر المعنى تصوَّره الاعتيادي بدون هذه الأمور ولو مع خفَّة التَّعلُّق ودون مستوى العمق فيه كما في معنى من معاني الدِّلالة التَّصديقيَّة، وهي في البداية تصلح أن تسمَّى تصوريَّات تحمل دلالة كبدايات نشوء الحضارة المدنيَّة للغات أو أواخر ما قبلها، وإن قالوا عنها بأنَّها في الواقع ليست بدلالة إلاَّ بنحو التَّشبيه والتَّجوُّز لتداعي المعاني، لكنَّها كانت في بداياتها صورة تفاهميَّة مختصرة رتِّب الأثر العملي عليها وكان ناجحاً في بعض الميادين وإلى الآن.

الثَّاني: هو الدِّلالة التَّصديقيَّة، وهي عبارة عن الدِّلالة الَّتي توجب الجزم للسَّامع بأنَّ مراد المتكلِّم من لفظه هو ذلك المضمون الخاص لا غير، ومن المقطوع به أنَّ هذه الدِّلالة لاتحصل إلاَّ مع إحراز أنَّ المتكلِّم كان قاصداً في كلامه ذلك المدلول الخاص، فمع عدم القصد لا تتحقَّق هذه الدِّلالة.

ومنه ما مرَّ ذكره من كلام الوحي والسنَّة إذا كان الَّلافظ هو ملك الوحي، أو النَّاطق الأوَّل من البشر وهو النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم ومن بعده بقيَّة المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ الحفظة للألفاظ ومعانيها، لحتميَّة دلالة ألفاظه عن الإرادة مع الاستعمال.

ص: 221

وقد أضاف السيِّد الأستاذ المحقِّق الخوئي قدس سره قسماً ثالثاً(1)، وهو الجملة الخبريَّة، وهي دلالة الألفاظ على كون المتكلِّم مريداً للإخبار وبصدده بإرادة جديِّة لا هازلاً أو كان في سخريَّة، إلاَّ أنَّه عزلها عن أن تكون مرتبطة بمورد بحثنا.

لوضوح أنَّ هذا القسم وهو الجملة الخبريَّة لم تكن إلاَّ من بناء العقلاء لا من وضع واضع معيَّن حتَّى يعرف أنَّ دلالة ألفاظها تابعة لإرادته أم لا؟ وهي الَّتي جعلها بعيدة عن مراد العلَمين "رحمهما الله".

لكن تبقى الدِّلالتان بعد ما ذكرناه من تأويل الشَّيخ الآخوند قدس سره في ما حاصله، أنَّ مراد العلّمين من تبعيَّة الدِّلالة للإرادة منهما هو القسم الثَّاني لا الدِّلالة التَّصوريَّة.

وإن عُرف عن المشهور الارتباط بها حسبما عُرف في تقرير بحث السيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره حيث أنَّهم قالوا بدخولها في المقام، لأنَّ كل متكلِّم لا يحمل كلامه على الإرادة الواقعيَّة له إلاَّ بعد إحراز الإرادة منه وهي الَّتي في هذا القسم.

فالَّذي قصده العلَمان "رحمهما الله" شيء والَّذي فُهم من كلامهما شيء آخر فلا داعي للخلط.

وبعد تأويل الشَّيخ المحقِّق الآخوند قدس سره وحصر مطلب التَّبعيَّة في الدِّلالة التَّصديقيَّة - حسب اتِّضاح واختيار العلَمين لهذا الرَّأي دون رأي المشهور وتبيَّن نسبة التَّصوريَّة أنَّها للمشهور كذلك ولصاحب الفصول فضلاً عن التَّصديقيَّة -

نعرف أنَّ هذا وإن كان صحيحاً في بابه عند وضع الواضع الجاد في وضعه لو لم يهجر وضعه لمعناه وبقي مستعملاً له من دون أن ينسخ بوضع جدِّي آخر وكما مرَّ ذكر ه من النَّصوص الشَّرعيَّة.

لكن نقول: وبعد أن حكى العلاَّمة الحلِّي قدس سره(2) عن أستاذه المحقِّق الخواجه الطُّوسي

ص: 222


1- غاية المأمول ج1 ص 145.
2- الجوهر النَّضيد في شرح التَّجريد / 4.

قدس سره قوله بأنَّ (اللَّفظ لا يدل بذاته على معناه بل باعتبار الإرادة والقصد)(1).

وأوضح عنه أيضاً ما ذهب إليه من أنَّ الدِّلالة المطابقيَّة هي دلالة اللَّفظ على تمام المسمَّى والدِّلالة التَّضمنيَّة هي دلالة اللَّفظ على جزئه.

أنَّه قد اعترض قدس سره على أستاذه الخواجه قدس سره بأنَّه ربَّما يكون اللَّفظ مشتركاً بين الكل والجزء، كما إذا كان لفظ الإنسان موضوعاً للحيوان النَّاطق ولخصوص النَّاطق أيضاً، فعندئذ تكون دلالة الإنسان على النَّاطق دلالة تضمنيَّة ومطابقيَّة.وأجاب أستاذه المحقِّق الطُّوسي قدس سره عن هذا الاعتراض، بأنَّ اللَّفظ لا يدل بذاته على معناه، بل باعتبار الإرادة والقصد واللَّفظ حينما يُراد منه المعنى المطابقي لا يراد منه المعنى التَّضمُّني فهو يدل على معنى واحد لا غير.

ولم يرتض العلاَّمة قدس سره بهذا الجواب حسبما نُقل عنه.

ثمَّ أجاب قدس سره عن هذا الاعتراض المذكور، بأنَّه يجب أن تقيَّد التَّعاريف في الدِّلالات الثَّلاثة بجملة (من حيث هو كذلك)، وعندئذ يندفع النَّقض.

لأنَّ الدِّلالة المطابقيَّة عبارة عن دلالة اللَّفظ على تمام المسمَّى من حيث هو تمام المسمَّى، كما أنَّ الدِّلالة التَّضمنيَّة عبارة عن دلالة اللَّفظ على جزء المعنى من حيث هو جزء المعنى، وعلى ذلك فلا ينطبق على دلالة الإنسان على النَّاطق إلاَّ أحد التَّعريفين.

ولكن نقول: إن قيل بأنَّ جزء حروف (زيد) لا يدل على جزء معناه؟

فإنَّه يمكن أن يقال بأنَّ جزء (غلام زيد) يمكن أن يدل على جزء معناه، فضلاً عن المركَّب التَّام، وأيضاً لا يمكن نكران مصاديق الثِّمار العمليَّة لصالح الحالتين ممَّا يأتي وإن كانت أقوى في الثَّانية.

وكأنَّ من إصرار العلاَّمة قدس سره على ما أفاده فيه مجال، ليكون الرَّد منه باقياً لأستاذه الشَّيخ الخواجه قدس سره وإن تكرَّر من الخواجة قدس سره الرَّد كذلك وهو كفاية قول (ناطق) عن

ص: 223


1- علماً بأنَّ نظريَّة الشَّيخ الرَّئيس نفس نظريَّة الخواجه.

الحيوان النَّاطق عند تعريف الإنسان به في الدِّلالة المطابقيَّة والتَّضمنيَّة في آن واحد.

كما وأنَّه يمكن أن يلاحظ على كلام الشَّيخ الآخوند قدس سره حينما قال في المقام (نعم لا يكون حينئذ دلالة بل يكون هناك جهالة وضلالة يحسبها الجاهل دلالة)(1).

بأنَّ هذا التَّوجيه منه لا يخلو أيضاً عن المعنى الدِّلالي بحسبه وإن كان بالمعنى العكسي في نظره، ومن ذلك تمَّ قبول دلالة كل لفظ مختصر مقيَّد في عرف البيانيِّين حقيقة لا مجازاً كما أراد العلاَّمة قدس سره .

ويؤيَّد ذلك حينما يكون التَّصوَّر للمفردات دون التَّصديق إذا قيل لفظ (رجل) وعرف منه السَّامع أنَّه الإنسان البالغ العاقل وصادف مرور مصداق مثل هذا الرَّجل أمام هذا السَّامع ورتَّب الأثر على ذلك وما يحويه من معنى خارجي لو يُراد عن طريق التَّبادر ونحوه من علائم الحقيقة وإن لم يكن اللافظ له في تمام انتباهه ووعيه.

وبذلك لم تكن الدِّلالة تابعة للإرادة من جميع الجهات بل لمجرَّد الاستعمال بعد وضعها السَّابق حتَّى ظهر للسَّامع ما ظهر.

ومن حالات ترتيب الأثر منه أنَّه لو كان ناذراً شيئاً لرجل ما حينما يسمع صوت وجوده ويراه عليه الوفاء به له ولو عن طريق هذه النِّسبة من التَّصوُّر.

وأمَّا الثِّمار العمليَّة المعتبرة في البحث فالمحتمل منها أمور:

أحدها: ما يتعلَّق بجميع عناوين مباحث الألفاظ المحتمل من حالة إتمام أمورها بحثاً وتدقيقاً.

ومن تلك الأمور كون الدِّلالة اللَّفظيَّة تابعة للإرادة أم لما هو أوسع؟ للوصول إلى تمامما تنتجه الأصول المرتبطة بما بين المنقول والمعقول، ولربَّما فيه مظنَّة العثور على مصداق خارجي بعد حين لو استقصيت بأجمعها، بحيث لو علم أنَّ من ترك بعضها يؤدِّي إلى خسارة الانتفاع المحتاج إليه من هذه المظنَّة ولم يكن البناء على شيء من

ص: 224


1- كفاية الأصول ج1 ص 17.

الاختصار مهمَّاً، عدا ما لا طائل تحته منها في عرف الأصيل منها وفي عرف الصِّناعة المحنَّكة.

ثانيها: التَّفريق بين المصطلحات العلميَّة المختلفة وأدوارها المتفاوتة بين السَّطحيَّة والعميقة الَّتي عن طريقها يتم تشخيص المعنى اللُّغوي المراد من غيره، ثمَّ الإخطار وهو الدِّلالة التَّصوريَّة، ثمَّ المرحلة الاستعماليَّة، ثمَّ الدِّلالة التَّصديقيَّة الأولى، ثمَّ عدم الهزل وهو الإرادة الجديَّة وهي الدِّلالة التَّصديقيَّة الثَّانية.

بمعنى تمييز بعضها عن بعض، لئلاَّ تتداخل بعضها مع بعض ويتراكم بعض الاصطلاحات على بعض، بما قد يغمط حق ما ليس بمعط نتيجة إيجابيَّة، وإن كان سطحيَّاً في رتبته وبما قد يعطي الحق لجهة لا تستحقه وإن كان فيها شيء من العمق، وهو ما يسبِّب ضياع القيم الفكرية والنَّكات العلميَّة بسيطة ومركَّبة سطحيَّة ومعمَّقة ومن جميع الدَّرجات سواء قلنا بكلام العلمين أم لم نقل أو فصَّلنا.

ثالثها: ما مرَّ ذكره من حالة سماع شخص لفظ (رجل) من متكلِّم لم يعلم حاله في كونه عن قصد أو غيره وصادف وجود ما يشخِّص هذا الرِّجل عند السَّامع وتذكَّر أنَّ عليه نذراً عليه أن يرتِّب الأثر له لو رآه.

وهي ثمرة علميَّة عمليَّة في نفس الوقت وفقهيَّة لصالح الدِّلالة التَّصوريَّة ولو من جانب واحد وهو السَّامع.

ر ابعها: لو تمَّت من ناحيتها الفقهيَّة فبناءاً على أنَّ كل حكم موضوعه كلام الآدميِّين يمكن أن تترتَّب عليه ثمرة من خلال دراسة الأصول للفقه.

مثاله: من تكلَّم ساهياً في صلاته بكلام الآدميِّين لو فرض أنّه ورد في الرِّوايات (من تكلَّم ساهياً فعليه سجدتا السَّهو)، شريطة اعتبار كلام الآدميِّين أن يحمل معنى وقد حمله لكن دون السَّاهي، كما لو سمع من بعض السَّامعين أو تمَّ الحكم في ذلك في نظر الإمام الصَّادر منه الحكم وإن كان تلفَّظ السَّاهي اخفاتيَّاً.

ص: 225

وهذا المعنى في (من تكلَّم ساهياً) هل يمكن أن نحمل تعبيره على المعنى الحقيقي؟ بناءاً على أنَّ الدِّلالة تابعة للإرادة، والدِّلالة هي التصوريَّة، فعندما يكون ساهياً ليس هناك إرادة ولا يعتبر كلاماً، فكيف في الرِّواية الَّتي تقول (تكلَّم)؟ أنَّ عليه السَّجدتين عند السَّهو.

فإنَّ ترتيب الأثر الشَّرعي على هذا لا من جهة كون التَّكلُّم وضع سهواً، لأنَّه لا قيمة للموضوع السَّهوي، بل من جهة أنَّ هذا اللَّفظ من الكلمات المقولة وهي المفهمة عند الآدميِّين وإن لم يقصد معناها السَّاهي.

خامسها: نقل العامَّة عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم قوله (ثلاثة جدُّهنَّ جد وهزلهنَّ جد الطلاق والنكِّاح والعتاق)(1)، وعليه وعلى أساس قاعدة الإلزام يمضي عندنا نحن الإماميَّة طلاقهم، وإن لم يتقيَّدوا فيه بمثل ما نحن نتقيَّد به وإن كان بنحو من التَّصور غير المركَّز فيه بالشُّهودونحوها.

إذن: فالبحث

وما يمكن أن يرتَّب عليه من ثمار هو من البحوث المهمَّة، ولو في مقام التَّصور بمقدار ما يمكن أن يقبل منه صحيح.

وكذا في مقام التَّصديق مؤكَّداً، إلاَّ أنَّ تبعيَّة الدِّلالة للإرادة لابدَّ وأن يكون الاستعمال مصاحباً لها أو سابقاً عليها لأجل الوضع اللَّفظي ولو من طرف واحد، لعدم معقوليَّة أن تكون الإرادة مرجعاً للدِّلالة بدون لفظ موضوع له علاقة بما يمكن أن يتصوَّر منه المعنى عند استعماله البدائي، ولذا لا يمكن أن يستفاد عند سماع مطرقة الباب المتحرِّكة من الدَّاق لها إلاَّ إذا سمع منها السَّامع - وإن كان ذلك عن قصد - لفظاً ذا حروف مجموعها تحمل معنى مقبولاً وهو غير وارد حسب المألوف العرفي لأنَّه مثل السَّالبة بانتفاء الموضوع.

ص: 226


1- أخرجه أبو داود (2/259، رقم 2194)، والتَّرمذي (3/490، رقم 1184).

المبحث الثَّامن عشر

دور الاستعمال بين الوضع والدِّلالة دون الإرادة

مرَّ التَّركيز في بحثنا الماضي عن تبعيَّة الدِّلالة للإرادة وعدمها على أهميَّة الاستعمال ولو بنحو الإشارة استطراداً بعرض نص للشَّيخ الآخوند قدس سره حوله وتأييدنا لما قاله في هذا الأمر وميلنا له مع التَّعليل له في نتيجة البحث.

وإن الإرادة ناشئة من الاستعمال دون أن تكون هي المرجع الوحيد للدِّلالة، وإن كان للعلَمين(1) شأنهما المحترم والعصمة لأهلها، بما لا يمكن فيه إنكار صدق سابقيَّة الإرادة مع الوضع لو لم يبدأ الاستعمال، بحيث لن تمح أسبقيَّة الاستعمال لها لو اجتمعت الإرادة معه أو صاحبته، حتَّى لا تطلق سابقيَّة الإرادة للدِّلالة كقاعدة أصوليَّة مع الاستعمال ينفي ما عداها في كلا الدِّلالتين.

فنقول مع الاختصار: إنَّ الاستعمال أءصل من الإرادة للفظ الموضوع، لكون الإرادة وحدها لا أثر لها، ما لم يكن هناك وضع واستعمال معاً إن كانت لذلك اللَّفظ الموضوع، ولحاكميَّة التَّجارب اللَّفظيَّة الاستعماليَّة الموضوعة لغويَّاً على الإرادة وهي متفاوتة، لأنَّ من أراد شيئاً وتلفَّظ بلفظ لم يسبق بوضع ولا استعمال ولو بالسَّابقيَّة المتَّصلة تسلسليَّاً ولو آناً ما أو شخص يستعمل وآخر يريد أو بالمصاحبة لم يكن إلاَّ من نشوز في القواعد المرغوبة.

ولذا لم يقبل من الأمثلة إلاَّ لمن قال مثلاً (أءتوني بولدي الجديد محمَّد) بعد ولادته ولم يسمِّه من قبل، حيث اجتمع الوضع والاستعمال ومعهما الإرادة المصاحبة أو الَّلاحقة في آن متقارب في تداخله أو مصاحب غير جدِّي أو مؤقَّت كالواحد إن لم يبدُ

ص: 227


1- وهما الرئيس والخواجه.

له فوراً في ذلك الوقت أو كان محمد في السَّابق مثلاً موضوع ومستعمل لشخص آخر، ولكن هذا المثال قليل الاستعمال في بابه.

بل إنَّ الاستعمال جاء بحالة الوضع المحدود بالحدود التَّصوريَّة القابلة بأن يتداول بمستواها، وإن كان خفيفاً ليس كالمركز التَّصديقي كما مرّ ذكره في حالة بدايات المدنيَّة اللُّغويَّة أو أواخر البدائيَّة أو ما قبلها من أيام بدائيات تكون اللُّغات وضعاً وتداولاً، بل حتَّى لو كان التَّداول من جانب واحد، إذا كان مسبِّب هذا اللَّفظ أو ذاك مفرداً أو مركَّباً من لافظ ساهي أو ناسي أو غافل أو هازل أو لاغي كالسَّكران ونحوه أو نائم أو ببَّغاء لا تحكي إلاَّ ما عُوِّدت عليه من الموضوعات واصطكاك الحجر بالحجر ممَّا قد يشبه صوته بعض الألفاظ الموضوعة ولم يُر الاصطكاك وإنَّما سمع ذلك الصَّوت منه حسب.

ومن ذلك ما تقوله بعض المسجَّلات الصَّوتيَّة وبعض وسائل البث الإعلامي الحديث الَّتي لا علاقة لها بمخاطبة السَّامعين أو بعض التَّيَّارات الهوائيَّة المشابهة ممَّا يُعطي من التَصوُّريَّات الَّتي لم تكن في تواطئ مقصود نوعي أو شخصي مع السَّامع الَّتي تذكر عند سماعه بما يحوج إلى ترتيب الأثر على ما يحمله المسموع من المعنى.وقد رتَّب الأثر الجدِّي على هذا التَّداول ذلك الجانب الآخر لا من جهة الرَّابط الوفاقي بين الَّلافظ والسَّامع، بل من جهة بعض المصادفات أو من مجرَّد السُّماع والتَّذكُّر بشيء يحوج إلى ترتيب الأثر ولا حبَّاً للاستماع إلى أمثال من ذكرنا بعضهم ممَّن لا يعتنى بهم دون أن يعرفه السَّامع أنَّه من اصطكاك الأحجار مثلاً أو أصوات تيَّارات الرِّيح أو غيرهما.

فما يستفيده السَّامع من دلالة هكذا ألفاظ لم تكن حقَّاً عند التَّدقيق والفحص في جوانب الأحداث المختلفة كونيَّة طبيعيَّة أو صناعيَّة فاقدة للقصد في ذاتها وإن لم تكن عن الإرادة من مصدرها بما وصفناه ولا عن بعض حالات الاستعمال إلاَّ عن الوضع السَّاذج البسيط الَّذي لا يخلو من معنى حتَّى الَّذي لم يُعلم واضعه السَّابق من هو حتَّى

ص: 228

يسأل عنه أنَّه استعمله وأراده إن احتيج إليه حتَّى ظهر إلى هذا الحين على هذا النَّحو من النُّشوء فوصوله مألوفاً يحمل معنى ولو بوحده.

وبهذا المستوى من التَّلقيَّات مع اختفاء أمر من وضعه سابقاً بأي نحو من الوضع قد لا يمنع من التَّصرُّف معه وبالمستوى التَّصوري الَّذي ذكرناه، لعدم المانع كما ذكرناه في الثِّمار ونحوها ومن المقتضيات، مع جواز إعماله مع ما يكمله من التَّركيب التَّصديقي على طبق تعاليم علم المعاني والبيان والمنطق والأصول، وكذا أمر التَّصور والتَّصديق بحسب الوضع الثَّاني أو الثَّالث وهكذا.

ولأهميَّة ما ذكرناه من الاستعمال قد تضعف حتَّى حالات الوضع من جهة الواضع الواحد المعيَّن، كما في غلبة الطَّبع لحالة الوضع على ما أستظهره السيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره بأنَّ الوجدان مساعد على عدم الاحتياج إلى الوضع، وأنَّه دائر مدار الاستحسان الطَّبعي ما دام الاستحسان الطَّبعي موجوداً وإلاَّ فلا)(1).

مثلاً يقال (فلان سلمان زمانه) فلا يتوقَّف بعد فرض المشابهة في التَّقوى إلى رخصة من واضع لفظ سلمان إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه، وحتَّى الإرادة في القسم التَّعيُّني دون التَّعييني ممَّا مضى ذكره.

أقول: وهو معنى غير بعيد عمَّا نشاهده من الشَّواهد المشابهة كقول (فلان أبو ذر زمانه) ونحو ذلك.

نعم قد تضعف حالة الاستعمال الأقوى وتفقد أهميَّته في مثل المهملات ك- (ديز) مقلوب (زيد) ولم يؤلف استعمال مثل هذا اللَّفظ إلاَّ في مقام التَّمثيل للطلاَّب، وهو مألوف على قلَّته لتقريب معنى ما كان مهملاً بالمثال.

وعلى فرض أن يقال بورود عِدَّة روايات شريفة مهمَّة عن الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ تفيد تبعيَّة

ص: 229


1- غاية المأمول ج1 ص 140 تقريرات الجواهري.

الدِّلالة للإرادة كما في الأصول الأصيلة(1) برواية محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، أنَّه سأل الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن امرأة أحلَّت لزوجها جاريتها؟ فقال: ذلك له، قال: فإن خاف أن تكون تمزح، قال: فإن علم أنَّها تمزح فلا(2).وعن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: سألت أبا الحسن عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن امرأة أحلَّت لي جاريتها؟ فقال: ذاك لك، قلت: فإن كانت تمزح؟ فقال: وكيف لك بما في قلبها، فإن علمت أنَّها تمزح فلا(3).

ورواه الشيخ بإسناده، عن أحمد بن محمد إلاَّ أنَّه قال: أحلَّت لزوجها جاريتها.

ورواه بإسناده عن محمَّد بن يعقوب، وكذا الَّذي قبله(4).

وعن محمَّد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي نصر، عن المشرقيّ، عن الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: قلت له: ما تقول في رجل ادَّعى أنَّه خطب امرأة إلى نفسها وهي مازحة، فسألت عن ذلك، فقالت: نعم؟ فقال: ليس بشيء، قلت: فيحل للرَّجل أن يتزوَّجها؟ قال: نعم(5).

إلى غير ذلك ممَّا رواه السيِّد قدس سره وغيره ممَّا يوافق هذا المعنى وهو مرجعيَّة الإرادة للدِّلالة وهي مجموعة لا بأس بها يقوِّي بعضها بعضاً.

فإنَّه يمكن أن يقال - إن احتج بإطلاق هذه الرِّوايات - بأنَّ إثبات الشَّيء لا ينفي ما عداه، وهو أسبقيَّة الاستعمال الدَّاخل في طول الإرادة لا في عرضها، وإن كانت الإرادة

ص: 230


1- للسيد عبد الله شبر قدس سره ص 117.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 289/1376، وأورده في الحديث 2 من الباب 24 من أبواب عقد النكاح.
3- التهذيب 7: 462/ 1854.
4- التهذيب 7: 242/ 1058، والاستبصار 3: 136/491.
5- الكافي 5: 563/28.

ضروريَّة في بابها الجدِّي بعد الاستعمال، للخلاص من المزاح والهزل الَّذي في باب عدم جوازهما من باب التَّصديق.

ولذا فإنَّ ما قد يظهر من بعض إرسال بعض الرِّوايات الذَّاكرة للعقود المزاحيَّة من دون ظهور المنع من الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ - ومن ذلك ما أورده العامَّة من الرِّواية الَّتي ذكرناها سابقاً عن رواتهم وهي) ثلاثة جدِّهنَّ جد وهزلهنَّ جد الزَّواج والطَّلاق والعتاق) -

فإنَّه محمول على التَّقيَّة، وإن كنَّا نبني عليه عندنا في خصوص قضاياهم على أساس قاعدة الإلزام دون قضايانا المزاحيَّة الممنوعة عندنا نحن الإماميَّة.

بل في بناءنا على قضاياهم المزاحيَّة الجائزة عندنا حسب الدَّليل المذكور دون أن يبنوا هم على مزاحيَّاتنا، لعدم الدَّليل عندنا، فيعدم لزوم الإرادة ويكون للهزل معنى مقبول، وهو ما يرجع الأهميَّة للاستعمال في مواقعه، فيدور الأمر بين الوضع والاستعمال وتتبعهما الدِّلالة.

ولأجل الفوارق المذهبيَّة في الفقه لا مانع عند التَّحيُّر من الرُّجوع إلى قواميس اللُّغة العامَّة وتطبيق القضيَّة الأصوليَّة على ما يتناسب مع المسلك المذهبي الخاص.

يبقى هنا مطلب لم نتكلَّم عنه له علاقة بالاستعمال أيضاً وإن لم تصاحبه الإرادة في باب استعمال اللَّفظ في أكثر من معنى، وهو بحث أنَّ القرآن يحمل سبعة معانٍ أو سبعين معنى تحت عنوان (دفع وهم) تعرَّض له الشَّيخ الآخوند قدس سره وغيره دون أن نذكره والبت فيه للاختصار في هذا الجزء.

ولكن سوف نذكره في المقام الأنسب، وهو الجزء الثَّاني من مباحث الألفاظ المرتبطةبخصوص كتاب الله الَّذي من آياته الآيات المتعلَّقة بالأحكام إن شاء الله تعالى.

ص: 231

المبحث التَّاسع عشر

خلاصة الأمثلة الَّتي مرَّت من بداية الأوضاع إلى آخر مواضعها

لقد تحصَّل من جميع ما مضى ذكره عن الأوضاع اللَّفظيَّة المستعملة سواء الجديَّة أو غيرها إلى آخرها الَّتي من بعضها ما قد يأتي حتَّى ما يناسب بعض المتفرِّقات والملحقات الآتية كذلك.

وهذه الخلاصة تصلح أن تكون مرجعاً لها كذلك عند الحاجة فيما إذا فقدت الإرادة في بعض الأمثلة، لكون الدِّلالة حتماً تكون تابعة للاستعمال بناءاً على ما ترتَّب سابقاً، وكذا لو كانت مصاحبة له فضلاً عمَّا لو كانت لاحقة به، إلاَّ ما لو كان الاستعمال مفقوداً، كما في الوضع والإرادة في المرتبة الدَّانية كما في المثال العاشر، فحينئذ تكون الدِّلالة تابعة للإرادة فقط.

لأنَّا نريد الآن أن نذكر أغلب تلك الأمثلة لأجل ذكر أهم المواضيع الخاصَّة المحتاجة إلى هذه الأمثلة ممَّا مرَّ ولو معجَّلاً، لبعض الأسباب التَّدوينيَّة إن لم نقدر على الكل، وإن لم نأت بعد بتلك الملحقات المتفرِّقة الَّتي قد يتناسب معها بعض هذه الأمثلة، عدا اللَّواتي تحتاج إلى القرائن المعيِّنة والصَّارفة والمفهمة، وكذلك حالة هجران الوضع السَّابق والإتيان بالوضع الجديد النَّاسخ، ليرجع إلى هذه الخلاصة عند المرور على هذه الملحقات.

وهي أمثلة لأمور سبق التَّعرُّض لها في جميع المهمَّات السَّابقة، حيث لكل مورد مثاله، حتَّى لا تخفى على الطلاَّب المتتبِّعين فضلاً عن الأفاضل، قد جمعناها الآن للتَّذكير بها على الأكثر، وللتَّنبيه على أهميَّة تبعيَّة الدِّلالة للاستعمال لا للإرادة على المبنى الماضي، وهي:

1 - الاستعمال والإرادة، وتتبعه الدِّلالة تصوريَّة وتصديقيَّة، على ما قربَّناه في

ص: 232

التَّصوريَّة سابقاً في المطابقة والتَّضمُّن، وإن لم يكن هناك وضع سابق من المستعمل كالنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم المطيع للوحي الإلهي الآمر له، لأنَّ الوضع لم يكن إلاَّ من الوحي فهو كالمتكامل الآتي من كلام الآدميِّين.

2 - ما به تكامل الحالات الماضية للأوضاع في كلام الآدميِّين، ما عدا الصُّورة الأولى السَّابقة وضعاً واستعمالاً وإرادة ودلالة، لأنَّ الواضع لابدَّ أن يكون منهم في مثل الوضع التَّعييني الاستعمالي ولو مرَّة.

3 - نفس ما مضى تعيينيَّاً من غير وضع، كالمصادفات العفويَّة الَّتي رتَّب الأثر عليها كالتَّعيين بالاستعمال حسب من قبل السَّامع، كقول السَّاهي والغافل لفظاً قد رتَّب السَّامع الأثر عليه.

4 - نفس ما مضى تعيُّناً من كثرة الاستعمال، ولو في البداية من شخص غير قاصد قد رتَّب السَّامع وغيره الأثر على كلامه في هذه الكثرة من غير وضع، كما في المصادفات الَّتي رتِّب الأثر عليها.

5 - أمثلة الاستعمال والإرادة وتتبعه الدِّلالة ولكن بدون الوضع، كمن جاء بما يستحسنه الطَّبع، كوصف أحد الأتقياء بأنَّه (سلمان زمانه) أو وصف المجاهد الموالي الصَّادق بأنَّه (أبو ذر زمانه)، وكذا في عكس ذلك لذم الطَّاغوت مثلاً بأنَّه (يزيد عصره).

6 - الوضع والاستعمال بلا إرادة، كما مرَّ في أمثلة الثِّمار العمليَّة الماضية(1).

7 - نفس السَّادس لكن فيما ذكرناه عن جواز ترتيب الأثر في حالات المزاح الثَّلاثة الخاصَّة عند العامَّة فقط.

8 - عن مقولة الأب الَّذي رزق بمولود في قوله (أءتوني بولدي محمَّد) قبل أن يضع له اسماً، حيث اجتمع تسامحاً بما ظاهره الوضع والاستعمال والإرادة المصاحبة،

ص: 233


1- ص65.

والدِّلالة تتبع الاستعمال أيضاً.

9- عدم الوضع والاستعمال والإرادة كالنَّائم والسَّاهي وغيرهما، ولكن الَّذي رتَّب الأثر هو السَّامع فوضع واستعمل وأراد.

10 - حالة الخلو من الاستعمال ولكن الوضع والإرادة موجودان في أمثلة المهملات الَّتي لا يُعتد بها في مألوف الاستعمال، لكن تقال في معناها الشَّاذ للتَّقريب إلى الأذهان ك- (ديز) مقلوب (زيد)، وبهذا تكون الدِّلالة تابعة للوضع والإرادة وإن كان المعنى بالمرتبة الدَّانية، لأنَّ الاستعمال لا يعطيها معنى مألوفاً.

هذه الأمور هي الميسورة حسب ما عثر عليه في العلوم المرتبطة بالألفاظ كالمعاني والبيان والمنطق والأصول وغيرها من معارف قواعد وآداب الألسنة.

وربَّما تستفاد كذلك بعض تفاصيل أخرى، إضافة إلى ما مرَّ من مواضيع الأوضاع إلى آخرها من بعض الكتب اللُّغويَّة كمجمع البحرين والقاموس وغيرهما، شريطة أن لا تخرج الأمثلة عن الصَّدد الشَّرعي في هذه الخدمة اللُّغويَّة، لأنَّ مرجع القضيَّة الشَّرعيَّة لفظيَّاً هما الكتاب والسنَّة وما راعاهما من كلام الآدميِّين في الأصول.

تتمَّة تابعة لما مضى

وهي استعمال اللَّفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله أو شخصه في المعنى المجازي المأخوذ بالطَّبع لا بالوضع.

فبعد أن اعتاد الأصوليُّون اليوم ذكر هذا المطلب لأهميَّته وعمَّا تعرَّض له الشَّيخ الآخوند قدس سره في كفايته على نهج من سبقه.

فلابدَّ من الاهتمام بذكر وإيضاح عبارته المختصرة وتصفية ما ينبغي قبوله عمَّا لم يمكن قبوله.

فاعلم أنَّ كلَّ لفظ إذا اطلق فالمراد منه هو الحكاية عن مدلوله ومعناه، فإذا قلت

ص: 234

مثلاً (زيد) فزيد إنَّما يحكي عن الذَّات المشخِّصة المدلول عليها بلفظة زيد، فاللَّفظ محدود بحدود الدِّلالة على معناه فقط.

هذه هي الاستعمالات المتعارفة، وهناك نوع استعمالي آخر في مقابله، وهو المحصور في أربعة أقسام:-

أوَّلها: اطلاق اللَّفظ وإرادة نوعه مثل أن تقول (ضرب) فعل ماض، فتطلق لفظة (ضرب) ولا تريد بها الحكاية عن معناها المتعارف المذكور، وإنَّما تريد بها الحكاية عن نوعها العام، والنَّوع كلِّي مقول على ما تحته من الأفراد المتساوية كالإنسان نوع.

ثانيها: اطلاق اللَّفظ وإرادة صنفه، والصّنف هو النَّوع المقيَّد بالعرضيَّات المشخَّصة كمثل الزَّنجي أو الرُّومي صنف، ومثال هذا الثَّاني في نفس مثال الأوَّل تريد به الصِّنف.

ثالثها: أن يطلق اللَّفظ ويراد به مثله كما تقول أيضاً (ضرب) فعل ماض وتريد به المثل، وهو المماثل لقرأ صرفيَّاً مثلاً ونحوه.

رابعها: أن يطلق اللَّفظ ويراد منه شخصه، بأن يطلق لفظ من الألفاظ ويراد منه شخص نفس اللَّفظ، كما يقال (زيد لفظ) ويجعل زيد حاكياً عن نفس لفظه.

فهذه الأقسام الأربعة ذات الحكاية غير المتعارفة.

والثَّلاثة الأوُل منها هي الَّتي لا إشكال فيها، كما عبَّر بذلك الشَّيخ قدس سره كمن سبقه مع المجازيَّة الَّتي فيها.

وأمَّا الرَّابع: فهو محل للإشكال.

لأنَّ الأمر في حكايته يدور بين أمرين وكل منهما فيه إشكال كذلك، لأنَّه ان اعتبرت الدِّلالة والحكاية في مثالها في الأمر المشكل الأوَّل حيث يراد منه شخصه فلابدَّ من اتِّحاد الدَّال والمدلول، بينما الدَّاليَّة والمدلوليَّة من الأمور المتضايفة، وتلك المتضايفة بما أنَّها من الأمور النِّسبيَّة لابدَّ من أن تقوم بين طرفين، إذن فلم يعقل اتِّحاد الدَّال والمدلول الَّلازم حسب المثال.

ص: 235

وأمَّا في الأمر المشكل الثَّاني وهو اعتبار ناحية الحمل في المثال، وهو أن تعتبر الشَّخص فيها لقضيَّة حمليَّة، فتكون القضيَّة بهذا الاعتبار ثنائيَّة الأجزاء، لأنَّ المفروض أنَّ المحمول فيها هو نفس الموضوع، في حين أنَّ القضيَّة الحمليَّة واقعها ثلاثيَّة الأجزاء لا ثنائيَّة وهو الموضوع والمحمول والنِّسبة، بينما إنَّ البناء على اعتبار الحمل في هذه المسألة للبقاء على الاتِّحاد تكون القضيَّة متكوِّنة من محمول ونسبة فقط، تعبيراً عن المحافظة على الاتِّحاد، وهذا لا يجوز فلا إشكال وارد على كلِّ حال.

ولذلك لابدَّ في مقام هذا القسم الرَّابع من البقاء على التَّوجيه والإيضاح الَّذي ذكرناه، لئلاَّ يصل الأمر إلى الالتباس بالإيرادين، كما صرَّح بذلك الشَّيخ قدس سره نفسه، لاستلزامه اتِّحاد الدَّال والمدلول أو تركب القضيَّة من جزأين وهي من ثلاثة.

ولأجل المزيد من الإراحة أكثر نذكر مضمون إجابة الشَّيخ قدس سره وبأسلوبه عن الإشكال الأوَّل:

وهو أنَّ باستطاعتنا رفع المحذور من اتِّحاد الدَّال والمدلول بالتَّغاير الاعتباري، فاللَّفظمن حيث أنَّه دال فهو حاكي، ومن حيث أنَّه هو نفسه المقصود والمدلول فهو محكي عنه بهذا الاعتبار إذن، فلم يتَّحد الدَّال والمدلول للتَّغاير المذكور.

وكذلك نذكر إجابته عن الإشكال الثَّاني:

بأنَّ القضيَّة الحمليَّة ههنا متكوِّنة في واقعها من ثلاثة أجزاء لا اثنين، غاية الأمر قد احضر الموضوع بنفسه وشخصه لا بشيء حاك عنه فكأنَّ نفس معنى اللَّفظ قد أحضر بذاته أمام المخاطب وحكم عليه بالحكم المذكور بدون واسطة حاكياً عنه كمثال أنَّ شخصاً يريد أن يحكم على النَّار بأنَّها حارَّة فيأتي بنفس النَّار وذاتها ويقول (حارَّة) أو يريد أن يحكم على زيد بأنَّه قائم فيحضر ذات زيد عيانا في قيامه ويقول قائم.

وهذا النَّوع من الإتيان بالموضوع أشد حضوراً من الحكاية عنه بلفظه الدَّال عليه وأبلغ عند الحاجة إليه، وهو متَّبع في لسان الأدباء إذا أيقنوا ذكاوة المخاطبين وانتباههم

ص: 236

إلى مرام المتكلِّمين لو اختصروا الكلام لو اقتضى المقام أو أنَّهم لا يهمُّهم ذكاوة المخاطبين، ولكن المهم عندهم حسن قصد أنفسهم الأدبي وعلى السَّامع إن أراد فهم مقصدهم عليه أن يتعلَّمه كما في باب الكنايات الأوسع.

وبعد دفع الإشكالين منه قدس سره بتصرُّف منَّا لابدَّ من بيان نتيجة المطلب المبدوء به في التتمَّة.

فقد تبيَّن أنَّ صحَّة اطلاق اللَّفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله ليس بالوضع، لأنَّ هذه الاستعمالات تصح في المهملات، فيصح أن يقال أنَّ (ديز) لفظ باعتبار نوع لفظ (ديز) مقلوب (زيد) الصَّادر من أي أحد، وأن يراد صنفه بأن يقيَّد بالصَّادر من شخص خاص وزمان خاص من العرضيَّات، وأن يراد به مثله بأن يقول (ديز) ثمَّ يقول بعد أن يتكلَّم أنَّ (ديز) الَّذي قد تكلَّمت به لفظ، وأن يراد به شخصه وهو أن يقول (ديز) لفظ ويحمل اللَّفظ على خصوص شخص(ديز).

ولو كانت هذه الإطلاقات إنَّما تصح بالوضع وهي مهملة في واقعها لما صحَّت في لفظ (ديز) المهمل على الدَّوام.

المبحث العشرون

معنى الحكم الشَّرعي وتوجيه مراتبه

قبل البدء بالموضوع ينبغي لنا أن نعرِّف الحكم، وإن كنَّا قد ذكرناه مختصراً في الفهرست العام الماضي لغةً واصطلاحاً للتَّعريف بما بين المعنيين.

أمَّا اللُّغة، فقال الفيروز آبادي في قاموسه (الحُكم، بالضم: القضاء، ج أحكام، وقد حكم عليه بالأمر حُكماً وحُكومة، و - بينهم كذلك. والحاكم: منفِّذ الحُكم، كالحَكم محرَّكة، ج: حُكَّام، وحاكمه إلى الحاكم: دعاه وخاصمه. وحكَّمه في الأمر

ص: 237

تحكيماً: أمره أن يحكم فاحتكم. وتحكَّم/ جاز فيه حكمه، والاسم: الأُحكومة والحُكومة. وتحكُّم الحروريَّة: قولهم لا حكم إلاَّ لله...... إلخ)(1).

أقول: وبالإمكان قبول ما أجمله من كلمة الحُكم بضم الحاء وتسكين الكاف، ممَّا يقبل الاشتراك اللَّفظي الجامع للحكم القضائي الخاص والحكم الشَّرعي الفقهي العام التَّابع كل منهما لقرينته عند الحاجة إلى الإفراد، ويمكن أن يستوضح الأمر بما قاله الحروريَّة وهم الخوارج، بأنَّ الحكم لله الَّذي ظاهره شرع الله الجامع في جملته الحكم القضائي.

وقال الطَّريحي في مجمع البحرين (والحُكْمُ : العلم والفقه والقضاء بالعدل، وهو مصدر حَكَمَ يَحْكُمُ) ثمَّ قال (والحُكْمُ الشرعي: طلب الشَّارع الفعل أو تركه مع استحقاق الذم بمخالفته وبدونه أو تسويته، وعند الأشاعرة: هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين)(2).أقول: لا يخفى ما ذكره المصدران وغيرهما ممَّا لا يمنع من التَّصادق بين اللغة وبين الاصطلاح الشَّرعي الآتي الآن.

وهو أنَّ الحكم الشَّرعي ليس ببعيد عن المعنى اللُّغوي العام الشَّامل للمعنى الشَّرعي الخاص، وهو ما ورد سماويَّاً من الأحكام الشَّرعيَّة من آيات الأحكام ومعها السنَّة وغيرها من المدارك عند نبيِّنا صلی الله علیه و آله و سلم وعند أئمَّتنا عَلَيْهِم السَّلاَمُ من الحفظة الكرام من الطَّهارة إلى الدِّيات ومنه القضاء، وما زاد عليه ممَّا سبقه من الأحكام السَّماويَّة الأخرى الماضية المشابهة والأحكام الوضعيَّة المرتبطة بالقوانين الحاليَّة إذا جمع شمل الكل ذلك العقل البعيد عن القياس في فطرته كما سنشير إليه في نهاية الحديث.

وبعد هذا لمَّا ذكرنا أيضاً عند الكلام عن فهرست المواضيع المقرَّر إيرادها في هذا

ص: 238


1- القاموس المحيط باب حكم ص 1095.
2- مجمع البحرين ج 6 ص 46 - 48.

الباب الثَّاني من المقدِّمات والمبادي وما بعده نبذ التَّفصيل بعضها أو كثيراً منها أو جلُّها حسب الحاجة الملزمة إلى ذكرها وحسب ما تقتضيه مناسبتها ومنها شيء عن الحكم الواقعي ومعناه الاصطلاحي بعد أن لم يكن معناه اللُّغوي العام مخفياً على أحد من المتتبِّعين كما مرَّ وأخر عن الظاهري وعن معناه الَّذي قد لا يتناسب ذكره مفصَّلاً إلاَّ في باب الحجج من الأبواب الأخرى الآتية إن شاء الله تعالى.

لابدَّ للتَّفريع المناسب أكثر عن رموزنا في ذلك الفهرست - للتَّعرُّف على التَّفاصيل أو بعضها - أن نضيف إليه شيئاً أو بعض شيء من المراتب المتعارفة سابقاً للحكم الواقعي.

وهذه المراتب كما عرف عن الشَّيخ الآخوند قدس سره ) تعليقاً منه على فرائد الأصول(1) للشَّيخ الأعظم الأنصاري قدس سره في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية، وهي أربعة هي:

الاقتضاء والإنشاء والفعليَّة والتَّنجُّز

وعرف عنه قدس سره كذلك تفسيره للأوَّل منها مع شيء من التَّقريبات منا ولبقيَّة المراتب الأخرى بأنَّه:

بمرتبة من الحكم يكون فيها مناطة ومقتضية، أي أنَّه ذا ملاك يقتضي الحكم الفلاني على طبق ذلك الملاك أو بما يصح أن يعبَّر عنه بأنَّه ذو مرتبة ذات شأنية في الوجود من دون أن يكون موجوداً أصلاً.

وللثَّاني وهو الإنشاء: بأنَّه بمرتبة جعل صورة الحكم من قبل المولى تعالى من دون أن يشتمل على بعث أو زجر، أي أنَّه عبارة عن إنشاء الحكم على طبق المصالح والمفاسد الكامنة في الأشياء ضرباً للقاعدة والقانون من دون أن يكون في البين إرادة أو كراهة فعليَّة.

ص: 239


1- حاشية فرائد الأصول / 36 - الطبعة الأولى.

وللثَّالث وهو الفعليَّة المفسرَّة: بما إذا بلغ ذلك الحكم الصُّوري إلى مرتبة البعث والزجر، أي أنَّه عبارة عن تعلُّق الإرادة الفعليَّة أو الكراهة الفعليَّة بشيء وإلى حدِّ التَّرخيص من دون أن يبلغ لرتبة التَّنجيز.

وللرَّابع المفسَّر منه مع إيضاحاتنا: بما إذا وصل الحكم الفعلي من طريق العلم أو العلمي إلى المكلَّف فاستحق العقوبة، بخلاف الحكم الاقتضائي والإنشائي، إذ الحكم ما لم يصرفعليَّاً لم يكد يبلغ مرتبة التنجُّز واستحقاق العقوبة على مخالفته وبعبارة أخرى أنَّه عبارة عن حكم العقل باستحقاق العقاب على مخالفة حكم المولى وعصيانه بعد وصوله إليه بعلم أو علمي.

لكن أكثر من تأخَّر عن الشَّيخ قدس سره حسب بعض التَّوجيهات لبعض أهل العلم المتتبِّعين ومنهم الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره(1) والسيِّد الخميني قدس سره(2) جعل للحكم مرتبتين من هذه الأربعة وهما الإنشاء والفعليَّة حسب وعلى نهج أهل القواعد والقوانين الوضعيَّة وخصوصاً إذا ربطنا الأمر بكون الملاك هو العلم أو العلمي ربطاً له بالوجدان، وقد يلتقي الشَّرع بالعقل كما أنَّه قد يلتقيان باللُّغة في عمومها.

وقد حدَّد بعض علمائنا المهمِّين(3) استعراضه لكلام الشَّيخ الآخوند قدس سره والنَّقد له في آن واحد بما مضمونه:

أنَّ المراتب المتعارفة للحكم الواقعي المرتبطة بحمله على الشَّأنيَّة أو الإنشائيَّة والظاهري المرتبط بحمله على الفعليَّة وكما سوف يأتي ذكره فيه وفي متعلَّقه في باب الكلام عن الحجَّة.

وأمَّا التَّنجُّز الَّذي لم يذكره السيِّد البجنوردي قدس سره في بداية استعراضه مقتصراً على

ص: 240


1- مصباح الأصول: ج1 ص 49 - 50.
2- تنقيح الأصول: ج3: 19.
3- منتهى الأصول ج2 ص 70.

الثَّلاثة فلأنَّه حكم عقلي لا شرعي، فلا وجه لأن يُعد من مراتب الحكم الشَّرعي إذا أريد منه الشَّرعي دون الأكثر.

وبتعبير البعض أنَّ المعقول والمشهود من مراتب الحكم عند العقلاء مرتبتان فقط وهما مرتبة الإنشاء وهي ما قد مرَّ معناها أو أنَّها جعل الحكم قبل أن يوضع بيد الإجراء ومرتبة الفعليَّة وهي مرحلة جعل الحكم بمقام الإجراء(1).

وهذا ما معناه بوضوح أكثر في أنَّه ليس للشَّارع طريقة حديثة ولو في بعض الانسدادات العلميَّة الشَّرعيَّة وإن قلَّت، وكأنَّ المولى تعالى من البداية أعطى صلاحية الحكم والبت به للعقل ولو من أدلَّته الإرشاديَّة الحاثَّة على العلم والمشجِّعة عليه كتاباً وسنَّة.

ولكن لابدَّ أن نقول كما فصلَّنا في الفقه والأصول بأنَّ هذا صحيح في الجملة، لكن لا من كل الوجوه خروجاً عن تصادم الأدلَّة الَّتي نحن في غنى عنها وعلى الأخص فيما نسعى له من تصدَّياتنا هذه.

بل إنَّ الصَّحيح دون أن يكون التَّفصيل الاستنباطي منوطاً بالعقل وحده وتخلُّصاً من القياسات الممنوعة، وإنَّما المسلك الطَّبيعي في الأصول الَّتي نبتغيها دفعاً للتَّحديث المتطرِّف هو تلك المدارك المتسلسلة المعروفة بتدرجها حسب المتوِّفر عند المقتضي وعدم المانع من الكتاب والسنَّة والإجماع والعقل وبقيَّة الفروع الأصوليَّة المعتمدة في التَّجديد المقبول.

ولذا لا ينبغي التَّسرُّع بالرَّد لما ذكره الشَّيخ قدس سره وإن كان بحد تعبير أحد الأعلام بعد مايحصر الحكم في المرتبتين دون الأكثر لقوله في تعليقه(2) المتضمِّن للاعتراف بذلك (إنّ ما أفاده من انحصار أقسام الحكم في قسمين وإن كان هو الحقّ الذي لا مرية فيه).

ص: 241


1- تسديد الأصول للشَّيخ المؤمن القمِّي على الكفاية ج1 ص 335.
2- وهو صاحب (تسديد الأصول) الشَّيخ المؤمن القمِّي على الكفاية ج1 ص 336.

ثمَّ يبيِّن ما عنده من الحاجة إلى التَّوسُّع إلاَّ بعد معرفة ما وراء كلام الشَّيخ قدس سره كما في قوله (كما لا يبعد أن يكون - أي النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم - كذلك قبل بعثته صلی الله علیه و آله و سلم).

فقال هنا أحد الأعلام "دام ظلُّه" معلِّقاً على الكفاية (ولعلَّه لذا نسب له قدس سره جعل المرتبة الأولى مرتبة الاقتضاء كما يظهر منها ومن بعض كلماته الأخر - ومنها ما في مبحث الواجب المشروط من الكفاية - أنَّ المراد من المرتبة الثَّانية ما إذا حصلت العلَّة التَّامَّة للإنشاء - لتماميَّة الملاك في المتعلِّق - فحصل الإنشاء - إلاَّ أنَّ الحكم لا يكون فعليَّاً لوجود المانع من فعليَّة البعث والزَّجر والتَّرخيص لعدم استعداد النَّاس له حيث يلزم معه تشريع حكم أخر تابع لمصلحة فيه لا في المتعلَّق وإنَّ منع الواجب المشروط قبل تحقُّق شرطه والأحكام في أوَّل البعثة قبل ظهورها تدريج والأحكام المودعة عند الحجَّة عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ الَّتي يكون هو المظهر لها)(1).

أقول: كما قد أثبتت هذا الأمر وأمثاله آيات الأحكام التَّدريجيَّة قبل البدء بالتَّكاليف، وقبل توفُّر الشُّروط في المشروطة وكل ما يرتبط بإمام الزَّمان عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ فيما يتعلَّق بأنَّه المقصود في سورة القدر وليلتها في كل عام من الحوادث.

فعلى فرض إمكان الجمع بين الرَّأيين، أي من يرى المراتب الأربعة كالشَّيخ الآخوند قدس سره وأنصاره، ومن يرى الاثنين في مثل زمن الغيبة الكبرى من الأخرين كما في الشَّرعيَّات المعلَّقة والفرائض المشروطة وإن جاءت قبل التَّكليف كما في الصَّلاة والصَّوم والحج ونحوها أو ما أعطى إمام الزَّمان عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ من صلاحيَّة الأرزاق والأعمار من التَّحديد وعدمه للسنة كلِّها كما في سورة القدر في هذه الغيبة فهو الَّذي لا مشاحَّة فيه من اصطلاح كل منهما إذا لم يكن المانع موجوداً.

وعلى فرض عدم الإمكان كما في الأمور الَّتي جاءت لها النُّصوص قبل تأكُّد وجوب الممارسة لو أدرك المكلَّف الموت قبل البلوغ أو في حال الجهل القصوري وكما

ص: 242


1- الكافي في أصول الفقه - ج1.

أنَّ في النُّصوص الأخرى أشياء يخاطب فيها صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ ولكن لأحكام تكون مرتبطة بأيَّام ظهوره دون هذه الأيَّام ممَّا عهد إليه بواسطة أجداده عَلَيْهِم السَّلاَمُ.

فهذه أمور لا تخص الأمَّة في هذا الحين فلم يبق معقول ومنجز إلاَّ المرتبتان لا غير.

وعلى هذا وبناءً على المؤكَّد من أنَّ (حلال محمَّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)(1)، لأنَّه هو الَّذي جاءت به المدارك الشَّريفة وهي مثل قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا](2) ولو بمعونة اجتهاد المجتهدين المحفوف ببراءة ذممهم لو كانت من غير أي تقصير، ولذلك لا يمكن قبول ما قد يرد كما قيل بأنَّ الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ لو ظهر يأت بدين جديد لأنَّ الكتاب وما حوته العترة محفوظان إلى حين الورود علىالحوض، إلاَّ بما لابدَّ من توجيهه بأنَّ كثرة المنكرات الَّتي ارتبطت بها أعمال الأمَّة مكان المعروف بعدمه أو قلَّته أيَّام ما قبل ظهور الإمام "عج" كأنَّها حينما يعود معروفها إلى الوجود حين ظهوره وكما أراده النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وعترته عَلَيْهِم السَّلاَمُ إلى أن يكون هو ذلك الدِّين الجديد لا غير.

وأمَّا المرتبتان الأخريتان مع عدم إمكان الجمع أو التَّقريب المذكور فلا منع لسعة الاطِّلاع من إجابة البعض من الأكابر رحمه الله في توجيه الرَّد للشَّيخ قدس سره حيث قال(3):

(وفيه أوَّلاً: أنَّه لا يصح القول بكون الاقتضاء والتَّنجُّز من مراتب الحكم، فإنَّ الحكم سواء كان من الأحكام الشَّرعيَّة أو العقلائيَّة أمر اعتباري مجعول والاقتضاء أمر حقيقي تكويني متقدِّم عليه مقتض له فلا يمكن أن يكون من مراتبه.

كما أنَّ التَّنجُّز الَّذي فسَّره باستحقاق العقوبة على مخالفة الحكم من الأحكام العقليَّة المترتِّبة على الحكم والمتأخِّرة عنه، فإنَّ العقل هو الَّذي يحكم بأنَّ المكلَّف يستحق

ص: 243


1- أصول الكافي ج1، ص58، بصائر الدرجات: ص 148 ب 31 ح7.
2- سورة الحشر / آية 7.
3- أصول الشيعة لاستنباط أحكام الشريعة ص 173 - 174.

العقوبة لو خالف الحكم الفعلي الواصل إليه بالعلم أو العلمي، فالتَّنجُّز ليس حكماً شرعيَّاً بل حكم شرعي متأخِّر عنه.

وثانياً: أنَّ الحكم الإنشائي لو كان صوريَّاً غير مشتمل على البعث والزَّجر كما فُسِّر به، فلو قلنا بعدم تحقُّق الوجوب والحرمة الإنشائيَّين في هذه المرتبة فلم يصح عدها من مراتب الحكم، ولو قلنا بتحقُّقهما فلم يصح خلو الإنشاء عن البعث والزَّجر، لأنَّ الإيجاب والتَّحريم عبارتان عن البعث والزَّجر الاعتباريَّين كما حقَّقناه في مبحثي مفاد صيغة افعل ولا تفعل من مباحث الأوامر والنَّواهي.

وبالجملة لا يمكن تصوَُّر حكم وجوبي أو تحريمي خال عن البعث والزَّجر المقوِّمين للوجوب والحرمة، لكي يصح القول بالفرق بين الحكم الفعلي والإنشائي ببلوغ الأوَّل مرتبة البعث والزَّجر دون الثَّاني ... إلخ).

ثمَّ أقول: وإن كان القارئ الكريم ينتظر منَّا شيئاً خاصَّاُ في المقام فقد مرَّ منَّا في ضمن البحث ما يكفي والحمد لله من التَّوجيه لإمكان الجمع بين الرأيين وامتناع أن يكون أمام العصر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ آتيا في زمانه الشَّريف بالدِّين الجديد إلاَّ بما وجهَّناه، وهو عودة ما أوصله المنحرفون من العلماء والجهلاء بمراتبهم المتعدِّدة بعد ظهوره إلى كون المعروف منكراً والمنكر معروفاً كهذه الأزمنة الَّتي ما خفيت أمور المعروف والمنكر مجهولة عندنا حتَّى هذا الزَّمان إلاَّ أنَّهما محاربان عند أكثر النَّاس وكثير من المسلمين.

المبحث الحادي والعشرون

اشتراك التَّكاليف الشَّرعيَّة بين العالم والجاهل في الحكم الواقعي

تنفيذا لما أوجزناه في الفهرست الماضي عن مجمل العناوين الآتية بالكلام عمَّا ينبغيبيانه أو يلزم ولو من المهم منه تباعاً وبالأخص بعد موضوع (معنى الحكم الشَّرعي

ص: 244

وتوجيه مراتبه) آنف الذِّكر الَّذي ذكرنا فيه رأي الشَّيخ الآخوند قدس سره في تعليقته على رسائل الشَّيخ الأعظم قدس سره حول مراتب الحكم وبعض المناقشات والتَّوجيهات المناسبة حولها وما تعقبه كذلك من الكلام في الرَّسائل من الشَّيخ الأعظم حول لزوم شمول العالم والجاهل معاً في تكليف واحد للأحكام الواقعيَّة في ذلك التَّعليق دون العالم وحده في قوله (أنَّ وجود الحكم المشترك بين الكل والَّذي يشترك فيه العالم والجاهل ممَّا تواترت عليه الآثار والأخبار ومعه لا يبقى مجال لتوهُّم اختصاص الأحكام بالعالمين بها، بل هي تعمُّهم والجاهلين فحالها حال بقيَّة الأمور الواقعيَّة الَّتي قد تصيب وقد تخطأ ...إلخ)(1).

وعلى كل حال فيلزمنا الآن بعد هذا الشُّروع ذكر هذا المطلب للتَّلازم بين البحثين ولو إجمالاً وفيما يأتي كذلك من عموم واطلاق الأوامر والنَّواهي الآتيتين من مباحث الألفاظ إن وسع المجال وكما قد أيَّدته الأدلَّة الكثيرة حتَّى أصبح ذلك الأمر أمر قاعدة تامَّة للتَّمسُّك بها.

بل إنَّها لابدَّ أن تشمل حتَّى الكفَّار، ولكن بدون أن يربط اختيارنا الخاص هذا في هذا التَّصدَّي بالتَّقليد لأحد، بل على نهج ما ذكرناه عنهم في البحث السَّابق والَّلاحق وما رأيناه مستقلاًّ معهم ببعض الاشتراك والتَّوجيه منَّا.

فنقول: لا شكَّ في شمول الخطاب الإلهي الشَّرعي التَّكليفي للعالم والجاهل معاً عقلاً قبل تنصيص الشَّارع المقدَّس مولويَّاً من جهة أدلَّة إرشاد العقلاء إلى ذلك قبل أدلَّة النُّصوص المولويَّة، ومن تلك الأدلَّة الإرشاديَّة قوله تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ](2).

علماً بأنَّ المسؤولين من قبل الله تعالى العالم بالحكمة في سؤاله هذا وكل سؤال

ص: 245


1- حاشية فرائد الأصول / 36 - الطبعة الأولى.
2- سورة الزمر / آية 9.

دون غيره ليحفِّز الَّذين لا يعلمون أن يتعلَّموا ويمقتوا الجهالة ولو بالسؤال وأمثاله أو بخضوعهم لأهل العلم ليتكفَّلوا وليتكلَّفوا تعليمهم بأساليبهم الخاصَّة النَّاجحة.

ومن الأدلَّة المولويَّة الشَّاملة للاثنين علماء وجهلاء في جميع التَّكاليف الشَّرعيَّة من النُّصوص والظواهر ما يملأ كتب المدارك الفقهيَّة الاستدلاليَّة، وسوف تأتي عند مجيء مناسبتها التَّطبيقيَّة الاستدلاليَّة بعد الموسوعة الأصوليَّة هذه وهي كل آيات وروايات الأوامر والنَّواهي المولويَّة من آيات وروايات الأحكام وغيرهما من الإجماعات والسِّيرة على نهج المشهور العملي.

بل إنَّ من تلك الأدلَّة ما برهن ويبرهن على كون هذا الاشتراك بين الاثنين مع التَّفاوت الظاهر المعلوم قاعدة يلزم التَّمسك بها - شاء المكلَّفون من المخاطبين وغيرهم أم أبوا - بناءً على أنَّ الخطاب مستمر إلى يوم القيامة ولا أقل من أن يكون إلى يوم قيام القائم عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ ليعرف التَّكليف الدَّقيق من قِبل الإمام عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ إن حصلت شبهة مبتدعة من بدع هذا الزَّمان ومن هنا وهناك بناءً على أنَّ المراد من الجاهل هو العالم بالقوَّة.

ولذا خوطب الحاضر والغائب الَّذي ولد ولم يبلغ سن التَّكليف أو لم يولد حالته ولكنَّهسوف يولد والكل قد اعترفوا بعد تكاملهم عقلائيَّاً بواجب التَّعلُّم، لأنَّ العالم بالقوَّة لا يتنافى مع العقل الَّذي أتحف به ولو تدرُّجاً وقد حصل تجربيَّاً ممَّا لا يُعد ولا يحصى ومن أهل هذه المصاديق الأذكياء وأهل المواهب الفائقة، وإلاَّ فلابدَّ أن يكون الجاهل هو المسؤول بين يدي الله لأنَّه الجاهل المقصِّر الملتفت، بل حتَّى غير الملتفت لو كان من المقصِّرين ولم يستثن إلاَّ ذلك القاصر الَّذي ما وصوله أو لم يصله الخطاب أو ما انتبه إليه وقد مات.

بل إنَّنا قد ألحقنا عموم الكفَّار في المسلمين بناءً على أنَّ الإسلام دين الفطرة، لأنَّ الكل هم مسلمون وإن لم ينتموا على بعض التوجيهات، ولأنَّ القاعدة في الشُّمول لابدَّ وأن تشملهم وإن ابتعدوا وبقوا جهلاء في تفاصيل دين الله تعالى، وقد أقرَّت الكتب

ص: 246

السَّماويَّة السَّابقة بالإسلام ولو في آخر الزَّمان كما في (إنجيل برنابا) وغيره ممَّا بقي منه سالماً في بعضه بلا تحريف.

وقد كتبنا قديماً حول سؤال وردنا من إحدى جامعات البصرة جواباً رتَّبناه في كتاب عن أدلَّة شمول الكفَّار فيه ومن الأدلَّة الَّتي كانت هو الشُّهرة وهي المهمَّة في الباب، بل مع انضوائه تحت القاعدة الماضي ذكرها مع الأدلَّة الأخرى سمَّيناه (غاية المسؤول التَّكليف بالفروع للكفَّار بالأصول).

ولذا جعلت العقوبة الإسلاميَّة في داخل دولتها النِّظاميَّة العادلة ثابتة دنيا وآخرة على جميع العصاة والمَردَة بعد تكامل الخطاب لهم قبل عقوبة الآخرة بناءً على استمراره منذ نزول القران وحصول السنَّة بحفظ العترة وبقيَّة المدارك وثبوت براءة الذمَّة من أهل التمرُّد وتسبيب المثوبة لجميع مطيعيهم ولو بمجرَّد التَّصميم منهم على الأداء للواجبات وبقيَّة ما ينبغي من الأعمال الشَّرعيَّة لو أدركهم الموت.

ولا يمكن اختصاص العالم وحده بذلك التَّكليف وفي خصوص الحكم الواقعي دون شمول الجاهل معه، لئلاَّ يلزم الدَّور وهو مستحيل، لأنَّ العالم بالحكم حينئذ يكون متوقِّفاً على وجود الحكم ضرورة أنَّ توقُّف العلم على معلومه كتوقُّف العارض على معروضه وهو نفسه بلا فرق، فإذا توقَّف وجود الحكم على العلم به لزم توقُّف وجود الحكم على نفسه وهو محال وهو صحيح في استحالته إذا تطابق ما في الذِّهن مع ما في الخارج، أمَّا إذا افترق ما في الذِّهن عمَّا في الخارج ككون ما في الذِّهن ثبوتيَّاً فقط بحسب الواقع وما في الخارج إثباتياً بحسب الظاهر على ما أجاب به بعضهم للتَّدرج الَّذي أشرنا إليه قبل ذلك كما في الجاهل الَّذي يصير عالماً بالفعل بعد ما كان بالقوَّة.

ولذا كان لدفع استحالة هذا الدَّور اشتراك الجاهل مع العالم في التَّكليف بما بينَّاه، وبدون فرق بين الرَّجل والمرأة وإن تفاوتا في المواريث أو سقوط بعض الواجبات عن المرأة بسبب الحيض والنَّفاس وغير ذلك - لمبرِّرات ليس هذا محلُّها - ومعهما الخنثى على

ص: 247

تفصيل في محلِّه والحاضر والغائب.

إلاَّ أن تكليف الغائب عند حضوره اعتماداً على عالميَّة الدَّين الإسلامي في تكاليفه كما في قوله تعالى مخاطباً نبيَّه المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيراً وَلَكِنَّأَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ](1) وكذلك جميع الآيات الَّتي خوطب فيها النَّاس ممَّا يتناسب مع المقام.

بل وكذا آيات الخطاب للَّذين آمنوا إذا عمَّ فيها المؤمنون فعلاً ومن لم يؤمن معهم فعلاً، تشويقاً لذلك الغير لقربه من الآخرين بحسن الفطرة، إلاَّ ما قد يستثنى من مثل أهل الفرائض المشروطة، ممَّن لابدَّ أن تشمل الأقليَّات غير المسلمة من أتباع المبادئ السَّماويَّة من السَّابقين، فضلاً عن غيرهم من الجهلة الَّذين انطلقوا لخدمة العلوم الدنيويَّة فقط من مصاديق أهل الجهل التَّقصيري مع الالتفات.

بل حتَّى الجن كما في سورة الجن وغيرها إذا وافاهم الأجل في حال قصورهم أو فاتهم شيء من ذلك وقت قصورهم ثمَّ هداهم الله لطاعته.

لكن فوت شيء ممَّا على المسلمين لابدَّ فيه من القضاء إذا كان ممَّا يقضى وفوت شيء ممَّا على أهل الكفر ممَّا مضى فهو مرفوع عنهم منه وتفضُّلاً بناءً على أنَّ الإسلام يجب ما قبله على تفصيل في محلِّه.

وقد ساعدت على هذا الاشتراك إطلاقات الأدلَّة في نفسها، كما دلَّ على حرمة الخمرة ونجاستها سواء علم النَّاس أم جهلوا، أو على ملكيَّة شيء أو سببيَّته للضمان أو موت المورِّث سبَّب لملكيَّة الوارث حصل العلم بذلك أم لم يحصل، لعدم اختصاص الإطلاقات بالعالمين.

ومن تلك الإطلاقات إطلاقات عبادات الإسلام الأساسيَّة وما يلحق بها من بقيَّة الفقهيَّات كالتَّي تحملها آيات الصَّلاة والصِّيام والحج والزَّكاة والخمس والجهاد والأمر

ص: 248


1- سورة سبأ / آية 28.

بالمعروف والنَّهي عن المنكر وموالاة أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ ومعادات أعدائهم، سواء علم الجميع تمام العلم أم لم يعلموا، وسواء كانت هذه الواجبات قديمة في تشريعها أيَّام الرُّسل الماضين أم لا مطلقة في وجوبها لا تسقط بحال وإن تفاوتت كيفيَّتها حسب طاقة المكلَّف كالصَّلاة أم مشروطة كالبواقي.

وعلى فرض عدم اشتراك الجاهل مع العالم بإدخال الحكم الظاهري مع الواقعي فلابدَّ من الخضوع للقول بالتَّصويب الممنوع عندنا، لأنَّ الجاهل إذا أراد التَّعلُّم ومنه طلب الفقاهة الاجتهاديَّة ولا يمكنه إلاَّ العمل على نهج الأحكام الظاهريَّة على الأكثر وأنَّ الواقعيَّة من الأحكام نادرة عند المجتهدين لن يوفَّق لها إلاَّ النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ والمجتهد القريب من المعصوم، فلا مجال إلاَّ بالعمل على نهجنا نحن الإماميَّة وهو نهج القول بالتَّخطئة لأنَّ التَّصويب خاص بالعامَّة ولن يفوز من الوجهة العلميَّة الأصوليَّة.

وليس لمن يتعجَّل في الأمور أن يسبقه الوهم بأنَّ الجاهل هل يشمله حكم العالم على حدٍّ سواء في الحكم الواقعي وهو لا يتناسب مع عدالة المشرِّع تعالى.

فنقول: إنَّ تبعيَّة الحكم الظاهري للواقعي - الَّذي يوظَّف له عادة من يكثر عنده الخطأ ممَّن هو دون العصمة - لا يلازمها عدم التَّوفيق في بعض الأحوال إلى بعض الأحكام الواقعيَّة، وإن كانت محتملة لأنَّها غير مضمونة، لكن الأمر كما قال تعالى [وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَاسَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى](1).

ولأنَّ الجاهل قد يتبع ويترَّقى إلى ما به الكثير من حالات الإصابة مع اعتقاده بالتَّخطئة دون التَّصويب وسوف يأتي في بحث الظاهر وبحث الظن ما قد يرتجى منه التَّوسعة المفيدة في المقام.

وعلى فرض قصد التَّبعيَّة في خصوص الواقعي فإنَّ سطحيَّة المتعلِّم أو المجتهد غير المعصوم تجاه الخواص الأعاظم وأهل التَّوفيق لا يعني أنَّه لابدَّ أن يحالفه التَّوفيق دائماً

ص: 249


1- سورة النجم / آية 39 - 40.

لذلك الواقعي، لأنَّ الواقعي قد يتسطَّح عند الأدنى من أولئك الخواص ويكون سعيه بمثابة التَّخريج في الظاهري.

هذا إذا لم يكن هناك ما يدل على مدخليَّة خصوصيَّة لا تنطبق إلاَّ على شخص خاص كالنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم في مثل وجوب صلاة اللَّيل عليه واستحبابها للآخرين أو جواز تزوجه من تسع نسوة وتحديد الأربع للآخرين في آن واحد مع العدالة واختصاصه بالنبوَّة الأخيرة في مسؤوليّتها من دون أن ينقض عليه لأنَّه لا ينطق عن الهوى ومعاجز التَّحدِّي لأعداء الله لإخضاعهم إلى دينه وحصول الكرامات حتَّى في غير موارد التَّحدِّي.

وهكذا الأئمَّة b في معاجزهم وكراماتهم وما ورد عن خواصِّهم ثمَّ يليهم بعض الأولياء في بعض الكرامات إلى غير ذلك أو اختصاص بعض الأمور الإعجازيَّة أو الكرامات الخارقة لصالح عهد الإمام الثَّاني عشر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ على ما بلَّغ به النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم عنه حين ظهوره، وكذا بقيَّة العترة أو طائفة خاصَّة من خدمة النَّبي والأئمَّة "صلوات الله عليهم" وهم الأبدال الثلاثمائة وثلاثة عشر سواء كان ثبوت هذه التَّكاليف بخطاب لفظي أم عملي أم بدليل لبِّي كالإجماع وغيره.

المبحث الثَّاني والعشرون

هل بين الأحكام الشَّرعيَّة الخمسة تضاد أم لا؟

بعد ما تمَّ الكلام ولو على إجماله لانتظار البحث في أمور آتية متمِّمة أو مسددة عن الأحكام الشَّرعيَّة الخمسة وما يلحق بها من الأحكام الوضعيَّة بنحو أكثر بأنَّها أو بعض ما ألحق بها اعتباريَّة وإن كان في الوضعيَّة شيء من الحاجة إلى التَّفصيل على ما سوف يجي كما في الاستصحاب وما قد يسبقه من الأبواب.

ص: 250

ينبغي لنا أن نعرف عن هذه الأحكام أنَّه هل بينها تضاد حكمي أي لا يجتمع كل من خمستها مع أحد منها في شيء واحد أم لا؟

بما معناه أنَّها لو اجتمعت ولو بمصداق واحد لنقص العدد وهي خمسة لا يزيد عليها إلاَّ بعض ما سميَّناه بالأحكام الوضعيَّة.

بل لولا وضع الوضَّاعين لبعض الرِّوايات أو تلفيق بعضها بما يحرَّف بعض معاني الآيات أو الرِّوايات لما أثر شيء من الشَّبه على بعض النِّسب في تغيير مسارها المطلوب شرعاً كاجتماع الوجوب مع الحرمة في وجوب الصَّلاة وحرمة شرب الخمر بناءاً على أنَّه لا يُطاع الله من حيث يُعصى، ولأنَّ دين الله في كل أحكامه دين طاعة واجبة لله تعالى لا معصية فيها في أوائل المصاديق للخمسة، إضافة إلى أنَّ الصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ومن أهم المنكرات شدَّة على المكلَّف احتساء الخمرة والعياذ بالله، بل ازداد النَّهي عن نفس القرب من الصَّلاة العباديَّة في مثاليَّاتها فضلاً عن جريرة نفس ذلك الاحتساء في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى](1)، فكيف بالصَّلاة مع ذلك الاحتساء نعوذ بالله تعالى.

ومن ذلك تعمُّد الصَّلاة في الدَّار المغصوبة مع سعة الوقت الأدائي الَّذي لابدَّ أن يكون فيه الفرار من المغصوب ثابتاً ثمَّ الصَّلاة في الخارج، ولذا قال تعالى [مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ](2).

ومثل هذه الصَّلاة في الجمع بينها وبين ما يضادُّها في الشَّرع بقيَّة الواجبات كالصَّوم والحج والزَّكاة والخمس والجهاد والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر وموالاة أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ ومعاداة أعدائهم ويلحق بذلك أيضاً صولة الأرحام الواجبة والجمع بينها وبين قطيعتهم وكذلك الجمع بين حالات التَّضاد الحكمي في الوجوب والحرمة في بقيَّة

ص: 251


1- سورة النساء / آية 43.
2- سورة الأحزاب / آية 4.

الأحكام الفقهيَّات من المعاملات ونحوها إلى آخر الفقه.

وهكذا الجمع بين الواجبات والمستحبَّات بنيَّة التَّشريع المحرَّم كأداء الصَّلاة المستحبَّة مكان الواجبة في ضيق وقتها الأدائي فضلاً عن الواجبة الفائتة، إضافة إلى حرمة التَّشريع ولو بمجرَّد التَّجرِّي الكامل.

وكذا الواجبات مع المكروهات رغبة بالتَّشريع المحرَّم وإن لم يصل المكروه إلى ما يساوي المحرَّم.

وهكذا الواجبات مع المباحات، بل كذلك كل من هذه الخمسة مع أمثالها في الوجوب والتَّحريم أو الاستحباب والكراهة من المؤقَّتات بتزاحم في التَّشريع من دون أن يساعد عليه دليل شرعي.

وكاجتماع حالة ما يستحب مع حالة ما يكره مع التَّباين العنواني، وإن كانت حالة ما بين الوجوب والحرمة أشخص في التَّباعد ظاهراً في وضوح الأمر فيما يأتي ذكره كالصَّلاة المستحبَّة في المكان المكروه أداؤها فيه كالحمام مع سعة الوقت اجتهاداً أو تشهيَّاً من قبلالعامي.

وهكذا بقيَّة العبادات المستحبَّة لو اجتمعت مع ما يضادها في العنوان باختيار، وهكذا المعاملات الفقهيَّة الأخرى، لأنَّ الفرق بيِّن في كل جمع بين ضدَّين كالمستحب والمكروه وبالأخص ما لو جمعا باختيار وتعمُّد ولو بفرق ضعف الثَّواب لوجوب تجنُّب ذلك التَّشريع المحرَّم، وكذلك الأمر نفسه بين المكروه والمستحب عكس المثال الماضي كصلاة اللَّيل في الحمَّام تشريعاً بدون دليل.

وكاجتماع حالة ما يباح فعله كشرب الماء المعروف بلا أي رجحان أو مرجوحيَّة في شرع الله مع ما كان راجحاً رجحان وجوب كشرب هذا الماء الَّذي لا يجتمع مع الصَّوم في رمضان، أو مرجوحاً في الشَّرع لحرمة شربه أثناء الصَّوم الواجب تشريعاً منه بقلب نيَّته إلى نيَّة إباحته في غير هذه الحالة، أو ما هو أدنى من الوجوب والحرمة كالاستحباب

ص: 252

والكراهة أو بالتَّصرُّف في المباح الأصلي نفسه باختيار جعله تشريعاً ممَّا يجب أو يحرم أو يستحب أو يكره بادِّعاء اجتهادي من قبل العامي بأنَّهما من مستوى واحد، فضلاً عمَّا لو كان مثل هذا الجمع بين هذا المباح وبين ما هو محرَّم لتجنُّب التَّشريع في المساواة المزعومة وهي لا تساوي فيها للمحدوديَّة في شرع الله بالنَّحو التَّوفيقي كقوله تعالى [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا](1) ولقوله صلی الله علیه و آله و سلم (حلال محمَّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)(2) وغيره.

فإنَّ المشهور بين الأصوليِّين هو كون هذه الأحكام التَّكليفيَّة الخمسة وتتبعها بعض الوضعيَّة كالملكيَّة والزَّوجيَّة والصحَّة والفساد ونحوها ممَّا سوف يتَّضح في البحوث الآتية متضادَّة كما مثَّلنا.

بل ادَّعى بعضهم أنَّ ذلك من المتسالم عليه بينهم كعدم اجتماع من اشترى شيئاً ظاهراً من مالكه بثمن معيَّن مع الإيجاب من البائع والقبول من المشتري ظاهراً وقبض الثَّمن والمثمن ممَّا بين المتعاملين في الظاهر وعدم طرو أي مانع من الخيارات ونحوها من بقاء هذا التَّعامل مع افتراض أنَّ ذلك المبيع لم يملكه مشتريه في الشَّريعة الإسلاميَّة الواحدة بحسب الدقَّة الواقعيَّة المخالفة لهذه الظواهر لكون الملكيَّة الواقعيَّة لم تكن متحقِّقة بسبب فضوليَّة التَّعاقد ومن دون انكشاف الموافقة من المالك الأصلي، وكذا افتراض الأوَّل صحيحاً والثَّاني فاسداً، لكون العقد مركَّباً من جانبين أحدهما يقوِّم الآخر فلابدَّ من سبق الصحَّة فيهما معاً ، وكل عقد مبني على ما هو فاسد فهو فاسد ولو كان طرفاً واحداً.

وهذا التَّضاد له وجوده في كل ما دلَّت عليه الأدلَّة والمدارك المتقنة اجتهاداً أو تقليداً وغير قابل للإنكار ولو في الجملة حينما يمكن عدم قبوله كفرض اجتماع واجب

ص: 253


1- سورة البقرة / آية 187.
2- الأصول من الكافي ج1، ص58 ، بصائر الدرجات: ص 148 ب 13 ح 7.

مع واجب شرعي لوقت واحد لعدم تعقُّل أن يشرِّع الله واجبين أو أكثر في آن واحد مع التَّزاحم العملي وشرعه شرع الرَّحمة والسِّعة لقوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا](1) وقوله [وَمَا جَعَلَعَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ](2) وغيرهما، وكما لو فرض اجتماع محرَّم مع محرَّم، لأنَّ كل محرَّم يمنع ارتكابه قلَّ عدده أو كثر وإن قبله العلمانيُّون المتهتِّكون في قوانينهم الوضعيَّة المحاربة للإسلام في قوانينه الصَّارمة الحديَّة سواء الرَّدع عن الجمع بينهما أو تجويز ذلك الجمع لحرمتهما على أي حال.

بل إنَّ التَّضاد الَّذي ذكرناه مع الإشارة إلى شيء من أدلَّته والتَّمثيل له بشيء من مصاديقه وذكر بعض أسباب التَّضاد كنيَّة التَّشريع المحرَّم من قبل العالم القادر على الاستنباط الشَّرعي الصَّحيح بسبب المقدِّمات والمباني الفاسدة فكيف بالعامي الَّذي نصيبه الأخذ من المجتهد الجامع للشَّرائط لا غير فضلاً عن تطبيق الأحكام المحدودة مع مضادَّاتها المحرَّمة كاختيار الصَّلاة في الدَّار المغصوبة مع سعة الوقت للفرار أو الوضوء بالنَّبيذ المسكر أو التَّصدُّق بمال السَّرقة ونحو ذلك فإنَّ التَّضاد هنا له وجوده الكامل في المنع.

مع أنَّ الحق هو إمكان عدم التَّضاد كذلك لكن لا في مقابل ما ذكرناه تماماً من حالة التَّضاد وحرمة الجمع، فإنَّ لكل من المقامين اعتبار ولحاظ لا يضر بصحَّة المعنيين، لأنَّ المطلب الأوَّل مبتنٍ على كون القدرة شرطاً في التَّكاليف وغير ذلك ممَّا ذكرناه من الحدود المحدودة للواقع الحكمي.

ولأنَّهم إن كانوا يعنون بالحكم هو البعث والزجر الحاصلين بهيئة افعل ولا تفعل وغيرهما - من الأدوات المشابهة على ما سوف يأتي في الأوامر والنَّواهي وغيرهما من الجزء الثَّاني - فلا تتحقَّق الضدِّية بينهما.

ص: 254


1- سورة البقرة / آية 286.
2- سورة الحج / آية 78.

لأنَّ البعث والزجر من الأمور الاعتباريَّة والاعتبار خفيف المؤنة لا تحقُّق له إلاَّ في عالم الاعتبار ولم يكونا من الأمور الواقعيَّة التَّكوينيَّة المتأصِّلة.

ومن أهم عوامل ما يقبل الاعتبار وسعة المدار هو سعة الوقت أو عدم ضيقه وعدم نيَّة التَّشريع المحرَّم واتِّباع النُّصوص المتكاملة في تقابلها ورفض الموضوعات والملفَّقات المشوَّشة وبما لا يمنع من الجمع في حالة ما قد يتصوَّر اشتباهاً بالمنع منه.

ومن أبسط الأمثلة هو نفس ما مرَّ ذكره في المطلب السَّابق البعيد عن إمكان الجمع فيه هناك، ولكنَّه هنا لا مانع منه بالاعتبار الحالي وهو ما يصح فيه الصَّلاة حتَّى في الدَّار المغصوبة، كما في تورُّط المكث غفلة فيها ونحو ذلك مع الغفلة عن الصَّلاة الواجبة الَّتي ضاق وقتها.

وهنا بناءاً على أنَّ الصَّلاة لا تترك بحال وبناءاً على أنَّ المكث في هذه الدَّار باستقرار محرَّم تمَّ استنباط حكم جواز الصَّلاة أو وجوبها في حال الخروج فقط، للجمع بين ما يجب وهو الصَّلاة وما يحرم وهو البقاء في تلك الدَّار بالصَّلاة إلاَّ أثناء الخروج.

لأنَّ متعلَّق البعث والزَّجر هو نفس العنوان الكلِّي وليس الموجود الواقعي الخارجي فلا يتحقَّق التَّضاد بينهما لإمكان اجتماع الحالات المتضادَّة في العنوان في آن واحد.

وفي هذا الأخير يمكن اجتماع المصلحة والمفسدة في آن واحد مع ضيق الوقت فيصح الواجب مع المسير ولا يفسده عدم البقاء لعدم شرعيَّة السُّكون فيه فقط مع الغصب.وعلى هذا الأساس أيضا يمكن الجمع بين الأمر والنَّهي كالأمر بالصَّلاة والنَّهي عن تركها أو الأمر بالشَّيء الواجب مع النَّهي عن ضدِّه الخاص كما في ضيق وقته.

وكذا الجمع بين الوجوب من الأحكام الخمسة وبين الاستحباب بجامع الرجحان العام للوجوب والاستحباب كالفريضة مع مستحبَّاتها ومنها القنوت بل بين الفريضة

ص: 255

الَّتي لم يوفَّق صاحبها للجماعة مع استحباب إعادتها جماعة لو حضرت بعد ذلك وإن كان قد أدَّاها منفرداً.

وكذا اجتماع الواجب مع المكروه كالصَّلاة الواجبة في الحمَّام بلا إثم مصاحب وإن قلَّ الثَّواب.

وكذا اجتماع الواجب مع المباح غير المانع من الصَّلاة فيه كبعض الملابس المباحة.

وكاجتماع المحرَّم مع المستحب كالصَّلاة الواجبة ماشياً في نفس الدَّار المغصوبة لو ضاق وقتها حتَّى مع القنوت غير المضر عند نفس الخروج الواجب كما مرَّ.

واجتماع المحرَّم مع المكروه كالصَّلاة الماضية مع فرقعة الأصابع عند الخروج من الدَّار المغصوبة.

واجتماع المحرَّم مع المباح في نفس المثال أيضاً لو لم يعرقل المسير.

وكاجتماع المكروه مع المستحب كصلاة النَّافلة في الحمام.

وكاجتماع المكروه مع المباح كما في النَّافلة وارتداء ما يباح لبسه.

وكاجتماع المباح مع كل من الأحكام الأربع، وسوف يتَّضح هذا الأمر في بحث الضد إن شاء الله تعالى.

وبعد الفراغ من هذا البحث كان المناسب ذكر الكلام عن التَّخطئة والتَّصويب - وإن سبق أن نوهَّنا عنهما استطراداً ببعض الشَّيء في أكثر من مورد - لكن ربما يكون الأنسب ذكره في الجزء الثَّاني تفصيلاً أو في بحث الحجَّة، فينبغي للمحتاج إليه مراجعته هناك.

ص: 256

تتمَّة نافعة

حول التَّقسيم بين التَّكليفي والوضعي والفرق بينهما من النِّسب الأربع

وعلى أساس ما مرَّ من الكلام عن الفهرست من التَّقسيم إلى التَّكليفي والوضعي، وبتعبير آخر بأنَّ الأوَّل هو ما شرَّعه الله تعالى ليتعلَّق بفعل الإنسان من غير واسطة شيء من حيث الاقتضاء والتّخيير، حيث أنَّ الاقتضاء بالفعل يتعلَّق بالوجوب والنَّدب لكون الوجوب مع المنع من التَّرك والنَّدب مع عدمه ويتناسبان مع ما مرَّ ذكره بالفريضة بما مرَّ ذكره بالفريضة والقنوت والاقتضاء بالتَّرك يتعلَّق بالتَّحريم والكراهة، لكون التَّحريم مع المنع من الفعل والكراهة مع عدمه، لكنَّها تظهر مع ما يحرم تركه من الفريضة مع المكروه الَّذي لا يبطلها ولكن يقل ثوابها كفرقعة الأصابع وإنَّ التَّخيير ما يؤدِّي إلى معنى الإباحة بين الفعل والتَّرك.

والوضعي ما يباين مفهوم التَّكليفي فلا تعلُّق له بفعل الإنسان مباشرة ولا يتضمَّن الاقتضاء ولا التَّخيير في تنوُّع مصاديقه، نعم إنَّهما يختلفان بالنَّحو الإجمالي وجوداً ومورداً.

وعليه يكون أمر الفرق بين التَّكليف والوضع متعيِّناً بالعموم والخصوص من وجه دون بقيَّة الفوارق على ما ستوِّضحه المصاديق الَّتي لا تساعد عليه غيرها.

فقد يجتمع عدم التَّكليف مع الوضع في شيء واحد كتحقُّق الوضع بانتقال الملكيَّة من غير البالغ والمجنون والسَّفيه المولَّى عليه من قبل وليِّه الشَّرعي كالأب والجد للأب أو الحاكم الشَّرعي إن احتيج إلى الرُّجوع إليه في رعاية شؤون القاصرين أو من يوليِّه وليُّه الشَّرعي كالقيِّم بواسطة الولي أو القيِّم ليقوم بما تقتضيه المصلحة في شيء ممَّا يملكه هؤلاء القاصرون عن تصرُّفهم الشَّخصي في أموالهم إلاَّ بإذن ذلك الولي أو القيِّم أو

ص: 257

تصدِّيهما المباشر في التَّعامل.

وقد يتحقَّق التَّكليف مع عدم ثبوت الوضع كما إذا أجاز صاحب المال الآخر في بيع ماله مع أنَّه غير مالك لذلك المال بالإجازة الكاشفة للفضولي أو النَّاقلة لمثل تصدِّي الوكيل.

وقد يتحقَّق التَّكليف مع الوضع كما في مثل الجماع مع الزَّوجة فإنَّه مباح وسبب في وجوب الغُسل ومع الأجنبية فإنَّه محرَّم وسبب في وجوب الغُسل إلى غير هذا من الأمثلة الكثيرة.

المبحث الثَّالث والعشرون

هل الأحكام الشَّرعيَّة والوضعيَّة من الأمور الخارجيَّة التَّكوينيَّة أم الاعتباريَّة؟

ممَّا ينبغي بل يلزم علميَّاً أصوليَّاً أن لا يفوتنا الكلام عمَّا لخَّصناه في الفهرست الماضيعن الأحكام في أمرها الشَّرعي وأنواعه الخمسة ويتبعها الحكم الوضعي عند مجيء دورها بعدما دار بين الأصوليِّين أنَّها بالدقَّة.

هل يمكن أن تكون خارجيَّة تكوينيَّة أم لابدَّ من كونها اعتباريَّة؟

فقد اتَّضح بينهم أنَّ هذه الأحكام التَّكليفيَّة منها والوضعيَّة ليست من الأمور الخارجيَّة التَّكوينيَّة، لكونها لا تدخل بتَّاً تحت أي مقولة من المقولات الواقعيَّة المتأصِّلة التِّسعة المنسوبة إلى أرسطو والَّتي منها الجِدة لخضوع الشَّرعيَّات إلى يد المشرِّع تعالى، لأنَّ بيده النَّسخ والتَّخصيص والتَّدرُّج في التشَّريع من الموجز إلى الموسَّع من علائم ما تطابق وما يتطابق مع بالغ حكمته حينما عرف من فقهاء الأمَّة وأصوليِّيها من ثبوت هذه

ص: 258

السِّيرة ونجاحها تربويَّاً.

ولذا قالوا بأنَّ هذا لن يكون مع لزوم المطابقة لمقتضى ما يتناسب مع قدرات الفرد والمجتمع وعدالة المشرِّع المليئة بالرِّفق والرَّحمة والبعيدة عن العسر والحرج، إلاَّ ما يتناسب مع كونها من الأمور الاعتباريَّة لكون الاعتبار لا تحقِّق له إلاَّ في عالم الاعتبار، وهو ما يعني تمام التَّبعيَّة لاعتبار المعتبر وكون الأمر المولوي بيده تعالى وضعاً ورفعاً وليس من الوجود الخارجي التَّكويني ولا الوجود الذِّهني و الثُّبوتي وحده أو الإثباتي وحده، ولعدم تماشيه مع التَّكوينيَّات الخلقيَّة كتكوينناً وغيرنا من بقيَّة الكائنات وإن جعل تعالى قدرته الماضية بمحض الإشاءة له جلَّ وعلا بالمحو والإثبات التَّكوينيَّين في الأعمار والأرزاق في باب القدر بيد إمام الزَّمان عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ وما خصَّ ذاته القدسيَّة به من القضاءيَّات المبرمة الَّتي قد يتصوَّرها بعض البسطاء مشابهة للنَّسخ والتَّخصيص في الشَّرعيَّات الاعتباريَّة وبما قد يجتمع فيه الاثنان في قوله تعالى [إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ](1) للفرق بين التَّكوين والتَّشريع على ما هو موضَّح ومحرَّر في مقامات مناسبة أكثر أخر عقائديَّاً دفعاً لمشكلة الجبر والتَّفويض على ما أوضح ذلك كثيراً من الكتاب والسنَّة وتثبيتاً للمنزلة بين المنزلتين كما قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ](2).

ولذا اعتبر أحد السَّادة الأساتذة الأفاضل قدس سره هذا الأمر الاعتباري في وصفه له بأنَّه برزخ بين الموجود الجوهري والموجود العرضي، فمن حيث كونه غير متقوِّم بالموضوع يشبه الموجود الجوهري، ومن حيث كونه غير متحقِّق خارجاً مستقلاًّ يشبه الموجود العرضي، وبافتقاره إلى العلَّة يكون متحقِّقاً بغيره وبكونه كالجوهر فتحقِّقه بتحقُّقه في نفسه بسبب الاعتبار لا في الذَّات.

ص: 259


1- سورة الأنبياء / آية 98.
2- سورة البقرة / آية 143.

وهو كلام متين في المقام يشكر عليه.

ثمَّ حاول الشَّيخ المحقِّق الكمبَّاني الأصفهاني قدس سره تبرير قول من قال بأنَّ الأحكام الَّتي منها الوضعيَّة اعتباريَّة دون كونها حقيقيَّة واقعيَّة بل دون كونها مجهولة بين هذه وتلك، كمن أظهر تحيَّره من العلماء الأجلاء الأساتذة مع أنَّ أستاذه الشَّيخ الكمباني قدس سره كان فيلسوف الأصول في تعليقته على الكفاية فاستدَّل على عدم كون الملكيَة من المقولات الواقعيَّة بعِدَّة وجوه، ونكتفي بالأوَّل منها والوضعيَّة الَّتي منها الملكيَّة والزَّوجيَّة ونحوهما بطبيعتها تابعة للتَّكليفيَّة.

وهذا الوجه الأوَّل في حاصله مع بعض التَّصرُّف منَّا:

إنَّ من الواضح المسلَّم بشهادة الوجدان السَّليم إنَّ كلاًّ من ذات المالك والمملوك قبل العقد البيعي وبعده على حد سواء لا يتبدَّل عرض من أعراضهما فلا يتحيَّثان بحيثيَّة وجوديَّة جديدة ولا يتحقَّق وجود مطابق وصورة في الأعيان فيهما (قبل القبض والإقباض) وصدق المقولة الواقعيَّة من دون حصول أحد هذين الأمرين مستحيل عقلاً)(1).وهو ما يعني عدم حصول الملكيَّة بما يتساوى فيه حالة ما قبل العقد وبعده وهو معنى الاعتبار في الملكيَّة دون الواقعيَّة بل لا يتساوى الاعتباري والواقعي في مورد الحيرة بتزعزع في الأوَّل أو ثبات في الثَّاني وإن صحَّ هذا النَّوع من التَّعامل شرعاً لعدم لزومه بسبب عدم ذلك القبض والإقباض، ولذا يصح فيه الفسخ، على أن لا تتعدَّى السلوك الأخلاقي أدبيَّاً مع مالك الملك تعالى حقيقة.

وقد ذكرنا هذا الأمر مع غض النَّظر عن مفاد الحديث القدسي الشَّريف القائل (الأغنياء وكلائي والفقراء عيالي فمن بخل من وكلائي على عيالي أدخلته ناري ولا

ص: 260


1- حاشية المكاسب ج1 ص 35 - 36، ونهاية الدراية ج3 ص 133.

أبالي)(1) وهو الَّذي منه ومن أمثاله علمنا إمضاء الشَّرع التَّمليك الاعتباري، ولذا يجب أن نحترم القرار الشَّرعي بتمليك المنتقل إليه عند شراءه بخصوص ما بعد القبض والإقباض وإن كان الله هو المالك الحقيقي دون ما قبل ذلك.

ولكن أورد عليه ما ذكره الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره بما ملخَّصه (إنَّ هذا البرهان ليس إلاَّ مصادرة على المطلوب - أي جعل الدَّعوى عين الدَّليل - لأنَّ الملكيَّة قد وجدت بعد وقوع عقد البيع وكونها من الأعراض المقوليَّة أو من الاعتباريَّة هو أوَّل الكلام).

لكن يمكن الإجابة انتصاراً للشَّيخ قدس سره: بأنَّ عدم القبض والإقباض من المعلوم كونهما يفسحان المجال شرعاً بعدم اللُّزوم أو ما يثبت التَّزلزل.

وبغض النَّظر أيضاً عن الملكيَّة الحقيقيَّة الثَّابتة في مالك الملك تعالى - وإن مقولة الجِدة على رأي الفلاسفة وإن تفاوتت بحسب الأعراف المتفاوتة في العالم - فهذه الأمور بأجمعها لا تعطينا مجالاً للقول بعدم المعنى الاعتباري الشَّرعي أو ما قد يظهر منه التَّردُّد في نظر السيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره بين الاعتبار أو الأعراض المقوليَّة، لكون قرار اللُّزوم في الملكيَّة لابدَّ وأن يكون بعد القبض والإقباض حسب نظر الشَّرع وأهله لا بعد ما ذكره الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره .

إضافة إلى إنَّ وجود الملكيَّة بعد وقوع العقد وحده في نظره الشَّريف وإن جعلته بعض الأعراف الوضعيَّة دون الشَّرعيَّة لازماً غير كاف فإنَّه لا ينفك إلاَّ بالتَّفاسخ والتَّقايل.

بينما التَّفاسخ والتَّقايل في الشَّرع لن يكونا إلاَّ بعد ذلك القبض والإقباض مع العقد، بينما حينما كان بعد مجرَّد العقد فالتَّزلزل واضح في اعتباره، والتَّعليل منه قدس سره أوَّل الكلام لا ما قاله الشَّيخ قدس سره .

قد يقال ما يمكن به وضوح بعض الغموض الَّذي في كلام ما ذكره الشَّيخ قدس سره من

ص: 261


1- الأمالي، للشيخ الطوسي، ص531.

الوجه الأوَّل على فرض وجوده:

أنَّه يمكن أن يقال بأنَّ (الملكية الاعتبارية تكون من سنخ الملكية الحقيقية أعني مقولة الجدة، بتقريب: أن الواجديَّة والإحاطة لها مراتب أقواها ملكية السَّماوات والأرضين له تعالى، وأيّ واجديَّة أقوى من واجديَّة العلة لمعلولها الّذي يكون من مراتب وجودها، نظير واجدية النّفس للصور المخلوقة لها، ودون هذه المرتبة واجديَّة أولي الأمر "صلوات اللّه عليهم أجمعين"، لأنها من مراتب واجديَّته جل و علا، ودونها واجديَّة الشخص لما يملكه وانلم يكن تحت تصرفه، ودونها الواجديَّة الحاصلة من إحاطة شيء بشيء كالقميص المحيط بالبدن عند التَّقمص والتَّعمُّم)(1).

وأجيب عنه أوَّلاً: (فلأنَّه لا وجه لجعل الملكيَّة الاعتباريَّة الَّتي هي من الأمور الاعتباريَّة

دون الانتزاعيَّة من الملكيَّة الحقيقيَّة بعد كون الاعتباريَّة في مقابل الحقيقيَّة والانتزاعيَّة، إذ الهيئة الحاصلة في وعاء الخارج تكون حقيقيَّة وليست اعتباريَّة، فلا سنخيَّة بين الملكيَّة الحقيقيَّة وبين الملكيَّة الاعتباريَّة وإن كان لكل منهما مراتب.

وثانياً: فلأنَّه لا وجه لتنظير واجديَّة الله سبحانه وتعالى للسَّماوات والأرضين وغيرهما بواجديَّة النَّفس للصُّور والعلَّة والمعلول، ضرورة عدم كونه سبحانه وتعالى علَّة للسَّماوات والأرضين بل هو عزَّ وجل فاعل وموجد، ولا سنخيَّة بين الواجب والممكن حتَّى يكون المخلوق من مراتب وجوده وتنظيره عظمت كبرياؤه بالعلَّة التَّكوينيَّة ممَّا لا يليق به جلَّت الآؤه)(2).

أقول: هذا الجواب من مثل السيِّد الشَّاهرودي قدس سره أو ممَّن هو من أضرابه - إضافة إلى كونه نصرة للملك الاعتباري كما قاله الكمبَّاني قدس سره لاختلاف ملكيَّته عن الملكيَّة

ص: 262


1- نقل ذلك عن الشَّيخ النَّائيني قدس سره كما في (نتائج الأفكار في الأصول) تقريرات السيِّد الشَّاهرودي قدس سره للسيِّد الجزائري قدس سره، راجع نتائج الأفكار ج6 ص 110.
2- نتائج الأفكار ج 6 ص 111.

الحقيقيَّة المنوطة بالخالق والفاعل تعالى وإن كانت الأحكام الوضعيَّة لم تصل عندنا القناعة بها عن أجمعها ما عدا الملكيَّة والزَّوجيَّة بكونها من ذوات خصوص الاعتبار لوجود تفاصيل أخرى عندنا قد تحتاج في بسطها إلى كلام خاص ربَّما يليق أمر البسط فيه تحت العناوين الآتية -

ممَّا ينسجم مع العقيدة الحقَّة في الخالق الفاعل تعالى ومن أوجدهم من المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بنسبة من السُّلطة التَّكوينيَّة لهم وأتحفهم بشرعه العادل المبين.

ولعلَّ دفاع الشَّيخ الأصفهاني قدس سره عن الملكيَّة واعتباريَّتها، وكذا من كان بعده من الأعاظم قدس سره والتَّركيز عليها وإهمال خصوص التَّكليفيَّة عن الدِّفاع عنها كان للخلاف في بعض مصاديق الوضعيَّة ممَّا أشرنا إليه دون التَّكليفيَّة الشَّرعيَّة.

وسوف يتَّضح هذا الأمر وغيره أكثر من مواضيع الأحكام الشَّرعيَّة الأخرى إذا دام توفيقنا عند الكلام عن تضاعيف بحوث الأوامر والنَّواهي وبحث الضِّد والاستصحاب من الأصول.

المبحث الرَّابع والعشرون

عِلَّة الحكم وحكمة التَّشريع

لم تكن الأحكام الشَّرعيَّة بملازمة دائماً للعلَّة التَّشريعيَّة الَّتي تعارف أن تدور مدار معلولاتها ثبوتاً ونفياً، لخفاء أكثرها في طول الزَّمن العصيب، وإن كانت العلَّة لو توفَّرت لفاقت كثيراً من مدارك الأحكام أو لقلَّة الوارد المضبوط في وروده منها.

ولذا تُعد غيرها في باب الاستدلال بها وممَّا يشبهها ممَّا يُسمَّى بحِكم التَّشريع، وإن كانت لها أدلَّتها الَّتي تُسبِّب العمل بها خطيرة لو قورنت تلك الحِكم بتلك العِلل إذا يُقاس عليها بحيث لو كانت حِكمة لخرج هذا الأمر عمَّا يرتضي.

ص: 263

لأنَّ أغلب حالات التَّطبيق الخارجي في المقام هو من نوع القياس الممنوع منطقيَّاً مهما تشابهت الأمثال فضلاً عمَّا لو كان مع الفارق.

ولذا لم يطمئن في حال الورود العام لنصوص العِلل ونصوص الحِكم لو اختلط الحابل بالنَّابل حين إفراز بعضها عن بعض لتمييز العِلل عن الحِكم، إلاَّ بما يسمَّى في حالة تصحيح القياسات المرضية من ذلك بمنصوص العلَّة ويبقى الباقي الخالي من معنى العِليَّة في الثُّبوت والنَّفي مرتبطاً ظاهراً بما لا عِليَّة فيه بدون مجال للأخذ به إلاَّ بما أوصله بعض أهل العلم للأخذ به كالمنصوص الكامل ممَّا سمِّي ب- (تنقيح المناط القطعي) دون ارتباطه بالنَّص ظنيَّاً.

وقد رأى هذا الرَّأي رهط من أهل العلم كالسيِّد الأستاذ السَّبزواري قدس سره في تهذيب الأصول والسيِّد البجنوردي قدس سره في قواعده.

وأمَّا التَّنقيح المرتبط باستيضاح مناطه من الظن دون القطع واليقين فلم يركن إليه المدقِّقون وإن سُمِّي ب- (مستنبط العلَّة) في مقابل منصوص العِلَّة، لأنَّه من القياس الَّذي لم يختص بمنعه أصوليُّوا الإماميَّة، بل سار على هذا النَّهج ابن حزم الأندلسي وأضرابه منالعامَّة وهو في حال النَّفي ليس كالعِلَّة، لأنَّ الفقيه قد ينال بُغيته من تفحُّصه أو استفراغ وسعه في الأدلَّة بما ينال به حُكماً آخر لصالح الإيجاب أيضاً، لأنَّ إثبات الشَّيء في غير العِلل التَّامَّة لا ينفي ما عداه.

وأمَّا حِكم التَّشريع وهي الخالية في نصوصها من معاني العِليَّة التَّامَّة ثبوتاً ونفياً -- وإن أفادت الأحكام الشَّرعيَّة الخمسة في كل منها -- فهي الَّتي إن كانت قد تتكثَّر منها معاني الحكم على اختلافها من منافع الوجوب والاستحباب ومضار الحرمة والكراهة وحكم المباحات وبما قد يسمَّى أيضاً بالفلسفات وغيرها، ولكن لم يظهر من كلِّ منها ما يُعادل علَّة موحَّدة تامَّة في التَّركيز عليها ثبوتاً ونفياً كالعلَّة الماضية المنصوصة أو ما يُلحق بها، بحيث تكون كل حِكمة تبيِّن مناسبة تشريعيَّة تختلف عن غيرها، وهي الَّتي ذكر عنها

ص: 264

بأنَّها من العِلل النَّاقصة وهي الَّتي إن انسجم بعضها مع بعض في الإيجابيَّة مثلاً لصالح الحُكم الإيجابي أو في النَّفي لصالح الحكم السَّلبي أو لما يتعلَّق بالحكم الجامع في المعنى الوسطي وهو الإباحة ويلحق بذلك أمور الأحكام الوضعيَّة.

فلم يكن الجميع بموضِّح سر العِليَّة الموحَّدة من مجموع تلك الحكم في تلاقيها الضمني.

ولذا إن وجب الالتزام بذلك الحُكم على اختلافه لما سبَّبه مدركه فلم يكن إلاَّ من باب التَّعبُّد وإن لم تدرك علَّته، احتراماً لجانب ما أعطاه الدَّليل لصالح الإثبات دون ما يستفاد لصالح النَّفي، وأمثلة هذين الأمرين وهما العِلَّة والحِكمة قابلة لأن تدرك من قِبل المنتبهين من أهل العلم بل هي ميسورة وإن قلَّت مصاديق الحالة الأولى.

فالحالة الأولى مثل بعض الآيات الَّتي ظاهرها التَّعليل وهي عديدة ويُغنينا عن الإطالة فيها مثل الرِّوايات الَّتي من أبرزها ما يستعرضونه للكلام عن التَّعليل أيضاً قوله عَلَيْهِم السَّلاَمُ (حرِّمت الخمرة لإسكارها)(1).

فبعد ثبوت النَّص والتَّأكُّد من صحَّته وإثبات الحُكم الشَّرعي عن طريقه - إضافة إلى ما بيَّنته الآيات لمثل الخمرة وحرمتها - لابدَّ أن تظهر عِلَّة الحكم معه وهي الإسكار أو ذهاب العقل بشُربه، سواء خفَّ إسكاره أو ثقل وسواء قلَّ مقداره أو كثر وإنَّ التَّركيز على الإسكار وإن كان المسكر له اسم آخر كالحشيشة والتِّرياق والأفيون إلاَّ بالتَّفريق بين حالتي السَّائل والجاف مع إثبات الحرمة في الحالتين.

نعم اختلف أمر الجاف بين الفقهاء عن السَّائل، فاعتبروا الأوَّل من أنواع الطَّاهر وإن حرُم والثَّاني من أقسام النَّجس في نوعه مع حرمته إلاَّ ما قلَّ كالجاف إذا أسيل فلم ينجِّس مع حرمته، بل اعتبر من السَّائل أيضاً ما كان طاهراً وإن بقي على حرمته وهو العصير العنبي وإن استنجسه قدماء ومتوسّطون مهمُّون واحتاط في أمره آخرون، لأنَّه

ص: 265


1- وسائل الشيعة : الباب 58 من أبواب الأطعمة المحرّمة الحديث 9.

من قبيل الخارج بالنَّص وبحثه الخاص به ميسور في مكانه من الفقه.

وعلى أي حال فإن عُدَّ الإسكار هو العِلَّة للحكم دون خصوص الخمريَّة فلابدَّ أن يكون كل مسكر محرَّماً ونجساً إن كان سائلاً في طبيعته ما عدا السَّائل الخارج بالنَّص آنف الذِّكر وهو العصير العنبي ومحرَّماً فقط إن كان من الجاف في طبيعته.ولأجل حرمة الجمع بين إسكار السَّائل النَّجس بأدلَّته والسَّائل الطاهر بدليله التَّحريمي وحرمة الموارد المسكرة الجافَّة شدَّد قول الله تعالى على السُّكارى بأن لا يقربوا الصَّلاة وهم سكارى في قوله [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى](1) لأخطريَّة الاتِّصال بالمولى المعبود جلَّ وعلا في عبادته بالصَّلاة حالة السكر وإن قارنته العواطف الجيَّاشة من قِبل بعض السُّكارى خوفاً وخشوعاً منه تعالى لأنَّه (لا يُطاع الله من حيث يُعصى)، لأنَّ الاستثمار الدُنيوي والأخروي روحيَّاً لن يستقرا مع أقل مقدار من فقدان الشعور أو عدم التَّهيؤ ولو من بقايا آثار السكر القديمة فكيف بالنسب الأكثر بل كيف بمباشرة الاحتساء أثناءها وفي عكس هذه الحالة تتبيَّن اللا حرمة واللا نجاسة عند ثبوت العِلَّة ثبوتاً ونفياً.

إلاَّ أنَّ أجواء هذه العبادة وأمثالها تبقى محتاجة إلى تفريع كافَّتها بما يتناسب وروحانيَّة عبادة المعبود جلَّ وعلا وبالابتداء ولو بأقل مثابات درجات الأشواق المؤكَّدة الَّتي من أوضح لوازمها بين العقلاء تكامل عقل العابد بين يدي معبوده تعالى، لإمكان أن ترتقي إلى ما به نسب القبول من حالات شكر المنعم لهم وإلى أمثال التَّسامي مع أصحاب عاشر درجات الإيمان أو القريب منها مع الإمكان وإن صوعب هذا الأمر لدى أكثر النَّاس المشغولين بانهماك في أمور الدُّنيا ومغرياتها.

وهنا تتبيَّن ميزة العِليَّة - في الإثبات والنَّفي وصحَّة القياس في المنصوص العِلَّة من عدمها في غير هذا المنصوص وهو المسمَّى أيضاً بالمستنبط - بالقياس ونحوه كما أشرنا،

ص: 266


1- سورة النساء / آية 43.

وإن كان الواجب الشَّرعي الثَّابت بأدلَّته وغيره من باقي الأحكام من الَّذي لم تُنص عليه عِلَّة تامَّة كالمنصوص وإن حفَّت به حِكم تشريعيَّة عديدة أو ما قد يُسمَّى أنَّ له فوائد ومنافع وإن ذكرتها نصوص لكن لا بمستوى منصوص العِلَّة لكل منها فلا صحَّة لأن تكون من بين تلك الفوائد والمنافع أو ما قد تُسمَّى بفلسفات التَّشريع عِلَّة موحَّدة يُقاس عليها في الوجود وجود وفي العدم عدم ، لأنَّ العقل كما مرَّ لم تُقبل قياساته بالأمثال مهما تشابهت، ولذا عُرف (الأمثال تُضرب ولا يُقاس عليها) ما دام لم يأت نص خاص تام الفائدة في تجويز القياس أو إمضاءه للإثبات إثبات وللنَّفي نفي.

وقد مُثِّل لبعض عِلل الشَّرايع وغيرها من كتب الأخبار الشَّريفة عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ بعد إشارات الآيات القرآنيَّة الكريمة الَّتي لا ينبغي عدم الاعتداد بها كعِلل تامَّة دوماً إلاَّ في النُّدرة، لأنَّ أغلبها لم تصل صناعة إلى مستوى العِلل الكاملة ومن تلك الكتب الجامعة علل الشَّرائع وغيرها، فجاءت هذه العِلل بهذه الأسماء إمَّا من باب التَّسامح في التَّعبير أو أنَّها وردت عن المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ كعِلل لم تتجاوز أفواههم الشَّريفة إلى مستوى اطِّلاع من بعدهم من الحواري إلاَّ نادراً.

فإنَّ الصَّلاة قد عبَّر عنها بقوله تعالى [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ](1) وعبَّر عنها بأنَّها في قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ (معراج المؤمن)(2) و (قربان كل تقي)(3) وغيرها.وهكذا الصِّيام بأنَّه ممَّا يُحقِّق التَّقوى في قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ](4) وفي الحديث الشَّريف (صوموا تصحُّوا)(5) وفي خطبة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم في آخر جمعة من شعبان (واذكروا

ص: 267


1- سورة العنكبوت / آية 45.
2- بحار الأنوار، ج 79 ص 303.
3- منتهى المطلب ج1 ص 193.
4- سورة البقرة / آية 183.
5- بحار الأنوار ج93 ص 255.

بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه)(1) إلى غير ذلك.

وهكذا الحج فإنَّ في قوله تعالى [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ](2) كفاية أمر كثرة فوائده ومنافعه الدُنيويَّة والأخرويَّة لنفسه وأهله ومن حوله وعموم المسلمين ولمظاهر تعظيم الشَّعائر الَّتي إن عُرف مغزاها أو لم يعرف احتراماً للتَّعبُّد، لأنَّ الله تعالى تعبَّدنا فيجب أن نمتثل أوامره وننتهي عن نواهيه وغير ذلك.

فإنَّ هذه الواجبات وغيرها من الأحكام في أدلَّتها مع تعدُّدها واختلاف ما تحمله من معاني بعضها عن بعض لم تصلح للمقايسة، لكن دون أن تنزل مستوياتها إلى محو المنافع الدُنيويَّة والأخرويَّة لصاحبها المكلَّف ما دام قاصداً وجه المعبود تعالى وطاعته إلاَّ أن تظهر من بينها علَّة واحدة يرجع إليها في باب القياس الصَّحيح كما مرَّ في منصوص العِلَّة.

والحالة الثَّانية ممَّا تحت عنوان البحث وهو حِكم التَّشريع إذا أريد الكلام عن مجرَّدها لا عن خصوص العِليَّة فهو -- وإن ذكرنا مطلبها في ضمن الأولى بما قد يُغني، لكن نقوله للتَّوضيح الأكثر في قوله عَلَيْهِم السَّلاَمُ الماضي ذكره (حرِّمت الخمرة لإسكارها)(3) - بيان آخر ولاستعراض ما هو أوسع من وجهة استدلاليَّة أخرى، لمحاولة ترجيح أحد فردي العنوان الماضي إن أمكن.

فإذا ما أريد من هذا النَّص تشريع الحكم وذاته دون العِليَّة فلابدَّ من أن يبقى مطلقاً دون أن يكون خاضعاً لذلك التَّعليل، فلا يدور الحكم مدار التَّعليل وجوداً وعدماً، فلا يصير مطَّرداً اطِّراد العلَّة كتعليل تشريع حرمة الخمرة بإلغاء الأضرار الدُّنيويَّة وهو المراد منه حِكمة التَّشريع.

ص: 268


1- مفاتيح الجنان / فضل شهر رمضان.
2- سورة الحج / آية 28.
3- وسائل الشيعة : الباب 58 من أبواب الأطعمة المحرّمة الحديث 9.

وقد بيَّن مضمون هذا النَّص الشَّريف وصيَّره إلى تعبيرين الشَّيخ النَّائيني قدس سره -- فجعل منه مثالاً خاصَّاً للأوَّل وهو التَّعليل المنصوص العِلَّة فحرَّم جميع الأنواع وهو (الخمر حرام لأنَّه مسكر)، وجعل منه لهذا الثَّاني وهو العائد لحِكمة التَّشريع دون العِلَّة فحرَّم خصوص الخمرة دون الباقي وهو قول (الخمر حرام لإسكاره) -

بما توجيه تفصيله بين ما إذا كانت العِلَّة المنصوصة المذكورة في الكلام من قبيل الواسطة في العروض.

حيث صرَّح بأنَّه يُستفاد من الأوَّل تحريم بقيَّة المسكرات باعتبار إنَّ وصف المسكر فيه من قبيل هذه الواسطة فيصير الحرام هو نفس المسكر واقعاً دون الخمر فيسري التَّحريم إلىجميع مصاديق المسكر، وهذا بخلاف الثَّاني فلا يُستفاد منه حرمة بقيَّة المسكرات، لكون الإسكار فيه من قبيل الواسطة في الثُّبوت، لأنَّ موضوع التَّحريم هو نفس الخمر لاحتمال الخصوصيَّة في إسكار الخمر.

لكن نقول: هذا لم يتبيَّن بوضوح من أصل النَّص، لعدم الفرق بين قسمي التَّعبيرين المختارين من قِبل مقامه المعظَّم قدس سره ما دامت لام التَّعليل موجودة في جامع الاثنين، لعدم الفرق بين التَّعبيرين.

ويشهد لذلك الظهور تباني العقلاء وإذهاب العقل من حالات حرمته هو غاية ما به تبانيهم، ولذا جاء عن جعفر الطيار عَلَيْهِ السَّلاَمُ لبيان مسلكه أيَّام الجاهليَّة (ما شربت خمراً قط لأني لو شربتها زال عقلي)(1).

وقد أمضى الشَّرع للعقل والعقلاء هذا الحكم الأخلاقي المحارب للخمرة بأنواعها في إسكارها القليل والكثير وبتمام العِليَّة وبما لا داعي لتوزيع العبارة الواردة عن الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ الواضح في عِليَّته نفياً وإثباتاً وهو قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ (حرمِّت الخمرة لإسكارها) وإلى

ص: 269


1- الدرجات الرفيعة ص 70 نقلاً عن الأمالي لابن بابويه / بحار الأنوار: 22/ 273، الحديث16.

التَّشقيق إلى القسمين ما دام النَّص واحداً في تعليله.

ولأنَّ احتمال مدخليَّة خصوصيَّة في إسكار الخمر لا يوجب إبطال ظهور العِلَّة في أنَّ الحكم يدور مدار العِلَّة إثباتاً ونفياً، وأنَّ العِلَّة الجارية في أصل النَّص تقتضي سريان الحُكم إلى غير مورده من دون مدخليَّة خصوصيَّة المورد.

فإنَّ عدم ذكر المواد الجافَّة الفعَّالة في الإسكار أو السَّائلة الطاهرة المسكرة وإن لم تُسمَّ بالخمرة لكنَّها داخلة في الإسكار.

ومن علائم إمضاء الشَّرع المهم في تباني العقلاء على هذا الأمر هو عدم ردعه لما تبانوا عليه، ولو كان مستصغراً بين النَّاس في خمريَّته كالفقاع ومثله النَّبيذ كما في الخبر المأثور(الفقاع خمر استصغره الناس)(1) وفي المناهي العامَّة عن عموم المعاصي قولهم (لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت)(2).

ثمَّ إنَّه عند دوران الأمر بين عِلَّة الحكم وحِكمة التَّشريع فإن كان هناك ما يعين أحدهما فبها ونعمت، وإلاَّ لزم الحمل على الأوَّل حفاظاً على النَّص، وممَّا يزيدنا في الاطمئنان بما نقوله هو توصل رهط من أعاظم أهل العلم إلى هذا الرَّأي كالأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره وللتَّوسُّع الأكثر يراجع بحث الدَّليل الِّلمي والإنِّي والحجَّة وغيرها من البحوث الآتية.

ص: 270


1- الوسائل25: 365/ أبواب الأشربة المحرمة ب 28 ح1 (باختلاف يسير).
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص 77.

المبحث الخامس والعشرون

عدم خلو كل واقعة من الحكم الشَّرعي

بعد التَّنويه الموجز في الفهرست الجامع الماضي ذكره عن الأحكام الشَّرعيَّة الكاملة ومشتقَّاتها لديننا الحنيف للتَّعبُّد به في هذه الحياة الواسعة في طولها وعرضها وعمقها والَّذي أعدَّت له جميع أصول الفقه خادمة له ولجميع أحكامه والبحث عن أموره وعلى ما يناسب سعته وبما لابدَّ أن يتناسب هذا الأمر وعلى ما صرَّحت به ولوَّحت أمَّهات آيات الأحكام ورواياتها لدستورنا القرآني العظيم الَّذي ما ترك لهذا الدِّين وبقيَّة معارف الحياة الأخرى جزئيَّة ولا كليَّة إلاَّ أحصاها مع العترة وما خزنته لهذه الأمَّة كقوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ](1) وقوله [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا](2) في أمر ولاية أمير المؤمنين وأبناءه البررة عَلَيْهِم السَّلاَمُ وزعامة أمر العترة الطَّاهرة في حديث الثَّقلين الوارد في قوله صلی الله علیه و آله و سلم (إنِّي مخلِّف فيكم الثَّقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، أيُّها النَّاس إنَّكم لا تعلموهم فإنَّهم أعلم منكم)(3) وقوله صلی الله علیه و آله و سلم (حلال محمَّد حلال

ص: 271


1- سورة النحل / آية 89.
2- سورة المائدة / آية 3.
3- القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 15 من طرق شتى . وأخرج ص 36 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59)، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).

إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)(1) وغير ذلك.

وبهذه الأدلَّة وغيرها ومن ألسنة الخاصَّة والعامَّة بعد العلم الثَّابت بكون هذه العموميَّة لكل فعل من أفعال المكلَّفين ضروريَّة دينيَّة ولدى جميع المذاهب المعروفة مع مسلك أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ وإن قاس غيرنا من بعض المذاهب للأسف مع الفارق ممَّا يؤدِّي إلى إمكان ادِّعاء أن يكون الدِّين يوماً محتاجاً إلى استخدام العقل ليستقل في أمر التَّشريع الوضعي.

وإلاَّ لصحَّ ادِّعاء أمر النَّقص في هذا الدِّين المتَّفق على كماله وهو ما قد يُسبِّب بل سبَّب جرأة الوضَّاعين والعلمانيِّين قديماً وحديثاً للتَّدخُّل في أمور الأحكام الأخرى.

بل حتَّى ما اتَّفق عليه بين كافَّة المذاهب من الثَّوابت فضلاً عمَّا اختلف فيه بين خطِّ أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ وخطِّ المذاهب الأخرى، وهو ما منعناه ونمنعه في كل مراحل الأصول الصِّناعيَّة المتطرِّفة.

وهو ما يدعو كافَّة المدوِّنين المخلصين في الأصول المهمَّة النَّزيهة أن تمتلئ أفكارهم بنواحي الخلل الموجود وما عليه أهل التَّطرُّف من مدوِّني القوانين الوضعيَّة كي يُنقِّحواالأصول من حالات التَّطرُّف ولإزاحة الخلل.

وعلى فرض ادِّعاء سعة بقعة الإمكان العقلي تصوُّراً أو تصوُّراً وتصديقاً لأن يُعطي العقل حق التَّفكير لإيجاد حل يكمل للدِّين من الأحكام المفقودة في واضح نصوصه وغير المستبعد أن تكون موجودة بما يمضيها من الإرشاديَّات.

فهو الَّذي يُبرِّر للأصولي حين وجود انسداد يحوج إلى الاعتماد على الصَّحيح من الإرشاديَّات الصَّحيحة دون التَّوسُّع إلى ما يزيد عن موارد الحاجة أو يزيده بعض الخياليِّين تطرُّفاً من دعاة التَّجديد، بناءاً على الاحتجاج بالعقل في مقابل شرع الله الواسع في مصادره وتنوِّعها مع افتراء المفترين من رواة الباطل وضعاً وتلفيقاً في مصادر

ص: 272


1- أصول الكافي ج1 ص 58، بصائر الدرجات: ص 148 ب 13 ح 7.

العامَّة أو روايات التَّقيَّة في غير مواردها وإن روته كتبنا أو ادُّعي توهًّماً أو اجتهد في أمره حليَّة شيء أو حرمته خطأ، بناءاً على القول بالتَّخطئة لا بالتَّصويب ممَّا سوف يأتي بيانه على ما هو الحق ،حذراً من التَّشريع المحرَّم بلا غطاء شرعي من المصادر الإلهيَّة المتنوَّعة.

وعلى فرض عجز الأصوليِّين عن تدبير ما يسد الخلل من الأصول الصِّناعيَّة فلابدَّ من اللُّجوء إلى الأصول الأصيلة الَّتي مورست مع الاجتهادات الفقهيَّة القديمة وغير البعيدة عن تلك الأصول الأصيلة، ولا رأي في الطِّب والحكمة في المقام لتحديد تصرُّفات البشريَّة جميعها أو بعضها إلاَّ بما أضرَّ من الزِّيادة أو النَّقيصة ممَّا أمضاه الشَّرع للطِّب والحكمة من ذلك، لأنَّ الشَّرع سيِّد الموقف في كل العلوم والفنون ومن قرار الإمضاء ونحوه.

ولو قيل بوجود خلل في علم الرِّجال أو الدِّراية والحديث كان سبباً في بعض العراقيل في طريق الفقيه الأصولي من مداركه الصَّحيحة كالانسدادات العلميَّة الزَّائدة عن المعتاد بما قد يلجئ إلى أمر هذا التَّساهل المشار إليه آنفاً.

لقلنا بإمكان الأخذ بالوثوق لا بخصوص الوثاقة ولكون الشُّهرة العمليَّة جابرة لعمل الأصحاب على ما سوف يجيء بيانه في الجزء الثَّاني وما بعده.

وأمَّا ما منيت به الأمَّة في رزية الخميس من عدم فسح المجال للنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم في أن يدلي بوصيَّته المعلومة سابقاً في أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ وما تحتاجه الأمَّة منه عَلَيْهِ السَّلاَمُ بعد وفاته صلی الله علیه و آله و سلم كتابة من المترصِّدين له بالمعاداة له وللزَّهراء سلام الله علیها وأهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ بحيث تضر قطعاً في كمال هذا الدِّين وشريعة أحكامه حيث انعزل عن أهل البيت الطَّاهر عَلَيْهِم السَّلاَمُ كثير ممَّن في قلوبهم الأمراض العدائيَّة والنِّفاقيَّة.

وإن حارب أهل السَّقيفة تدوين السنَّة بعد وفاته صلی الله علیه و آله و سلم، حيث قد سبب الأعداء غلق بعض الأبواب العلميَّة فقد فتح الله أبواباً وأبواباً بالأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ ولو بأشد الظروف وكما

ص: 273

قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (علَّمني ألف باب، وكل باب منها يفتح ألف باب، فذلك ألف ألف باب، حتَّى علمت ما كان ما يكون إلى يوم القيامة، وعلّمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب)(1)، والشَّهادة له عَلَيْهِ السَّلاَمُ بأنَّه أعلم الصَّحابة ونحو ذلك ما يقرُّ به مرَّات وكرَّات كل عدو وصديق.

بل إنَّ الوقائع الَّتي يجريها عموم النَّاس والمسلمون والمؤمنون إذا لم تتطابق منالبداية مع الحكم الشّرعي كتاباً أو سنَّة أو إجماعاً أو سيرة أو نحو ذلك بالنَّحو الصَّحيح الصَّريح فإنَّه بعد ذلك لابدَّ وأن يعثر على ما يطابقه بعد حين.

وهذا ما قد أثبت وجوده في الموسوعات العلميَّة فقهيَّة وأصوليَّة ممَّا خلَّفه لنا سلفنا الصَّالح، حيث أنَّ المئات تلو المئات من فقهاء الأمَّة وأصوليِّيها ما تركوا شيئاً إلاَّ ووثقوه بالمدرك الاصطلاحي عندهم وإن كان بعض الفروع من ذلك خاضعاً للنِّقاش العلمي الشَّريف للوصول إلى ما هو الأحسن والأمتن جزاهم الله عنَّا وعن أنفسهم خيراً دنياً وآخرة.

هذا كلُّه بما يرتبط بحكم الله الشَّرعي من دون ابتداع وعلى نهج الأحكام الخمسة وما ألحق بها من الأحكام الوضعيَّة الظاهرة في المطابقة والَّتي اكتشفت مطابقتها بعد ذلك حيث علم ذلك ممَّا ذكر وما لم يذكر من توجيه الأدلَّة الشَّرعيَّة على اختلافها من النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وأهل بيته الطَّاهر عَلَيْهِم السَّلاَمُ وحواريهم "رضوان الله عليهم" وبمختلف الأساليب الأصوليَّة الممكنة وعن طرق الأسئلة والأجوبة ومن الأثار الشَّريفة ما لا يخفى بعد كتاب الله المعظَّم من مجاميع الرِّوايات الشَّريفة.

وأمَّا لابديَّة كون أفعال المكلِّفين على اختلافها ممَّا بين حالات الإطاعة من المطيعين وحالات عدمها من غيرهم فلابدَّ بعد حتميَّة حصول هذا الأمر ممَّا سبق من الأمَّة وإلى حد الآن بلا ضمان صافٍ من المعاصي والمنكرات كما لا يخفى ومن هذا الآن إلى آخر

ص: 274


1- ينابيع المودة: ص 84.

مستقبل هذا الزَّمان إلى أن يحين حين ظهور مولانا صاحب الزَّمان عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ من وجوب الحرص بالسَّعي الحثيث واستفراغ الوسع فقهاً وأصولاً للوصول إلى ما يحل كل إشكال في أمور المدارك والقواعد الأصوليَّة.

لتوجيه الخطاب بالنَّتيجة إلى خطباء الأمَّة ووعَّاظها لوعظ الأمَّة ولتنسيق أمورها في خصوص الحلال بالحلال والالتزام به والحرام باجتنابه والابتعاد عنه بل وبما هو على نسق الأحكام الخمسة وما ألحق بها.

ولأهميَّة هذا الأمر صرَّحت الأدلَّة بما لا حاجة إلى تفصيله كثيراً، لأنَّ هذا ليس محل تبسيطه لكونه فقهيَّاً محضاً بالاكتفاء بما مرَّ ذكره في مطلع البحث وبختمه بقوله تعالى [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ](1).

المبحث السَّادس والعشرون:

الأوضاع اللُّغويَّة المتعارفة واستعمالاتها وما دار فيها من التَّفاوت النَّظري والعملي في الأصول

اشتركت علوم عديدة في أمور الأوضاع اللُّغويَّة المتعارفة من مقدّمات مباحث الألفاظ واستعمالاتها كاللُّغة وما ضمَّته قواميسها الحافظة والمعوَّل عليها بين دفَّاتها منها حتَّى النَّادر والمستعمل منها على ندرته كغريب القرآن والسنَّة وغيرهما من غريب كلام الآدميِّين لو صحَّ استعماله وفهم معناه أدبيَّاً وكعلمي المعاني والبيان والمنطق والأصول في تلك المقدِّمات العربيَّة، لكن لا بنحو الاشتراك الكامل الَّذي قد يُباح منه الاستعمال على أي تعليميَّاً من تلك الأوضاع وبأي نحو من الدِّلالة حتَّى المختلف فيها من دون تركيز

ص: 275


1- سورة الزلزلة / آية 7 - 8.

على معنى مقبول أو غير ممنوع من حالاتها وبالأخص فيما بين الأصوليِّين من تلك الأمور عربيَّاً.

وإنَّما بعد تقسيم اللَّفظ والمعنى إن اتَّحدا إلى أن يمنع نفس تصوُّر المعنى من وقوع الشِّركة فيه وهو الجزئي مثل (هذا الكتاب) و (هذا القلم) ونحوهما أو لا يمنع وهو الكلِّي مثل مفهوم إنسان وحيوان وعالم وجاهل ونحوها.

ثمَّ الكلِّي وهو (الإنسان) إمَّا أن يساوى معناه في جميع موارده وهو المتواطئ مع مصاديقه مثل (علي) و (حسن) و (حسين) ونحوهم، أو يتفاوت وهو المشكِّك بين التَّواطيء والاشتراك مثل مفهوم البياض والعدد والوجود لتفاوت بياض الثَّلج عن بياض القرطاس وتفاوت عدد الألف عن المائة وأولويَّة وجود الخالق عن وجود مخلوقيه.

وإن تكثَّر اللَّفظ والمعنى كالفرق ما بين الإنسان والفرس المحقِّق لمعنى التَّباين فالألفاظ من هذه الكليَّات تسمَّى بالمتباينة، سواء كانت المعاني متَّصلة كالذَّات والصِّفة كما بين السَّيف والصَّارم أو منفصلة كالضَّدين المراد بهما كمطلق المتخالفين، سواء كانا ضدَّين حقيقيَّين كالسَّواد والبياض أو مشهورين كالحمرة والصُّفرة أو غيرهما من أنواع التَّقابل.وإن تكثَّر اللَّفظ واتَّحد المعنى فهي المترادفة مثل أسد وسبع وهرَّة وقطَّة وإنسان وبشر.

وإن تكثَّرت المعاني واتَّحد اللَّفظ من وضع واحد فهو المشترك ك- (العين) المعروفة بكونها حاملة لسبعين معنى و (الجون) المعروف بكونه يحمل معنيين في آن واحد، وإن اختصَّ الوضع بأحدهما ثمَّ استعمل في الباقي من غير أن يغلب فيه فهو الحقيقة والمجاز كالأسد الَّذي يوصف به الإنسان الشُّجاع.

وإن غلب وكان الاستعمال لمناسبة فهو المنقول اللُّغوي كنقل (الدَّابة) عن معناه الأوَّلي وهو المتحرِّك في الأرض داباً عليها إلى مثل الفرس وغيره مع الغلبة للثَّاني أو

ص: 276

الشَّرعي مثل (الصَّلاة) الموضوعة سابقاً إلى الدُّعاء فغلبت إلى ذات الأركان الخاصَّة أو العرفي كنقل (الأبل السائرة) إلى (السيَّارة الآليَّة اليوم) وإن كان بلا مناسبة فهو المرتجل ك- (جعفر) المراد منه النَّهر في السَّابق ثمَّ ارتجل إلى كونه اسماً لشخص من دون مناسبة من منشأ التَّسمية النَّاقلة معنوياً.

ثمَّ بعد هذا التَّقسيم الَّذي لابدَّ من المرور عليه ولو على إجماله ينبغي التَّعرُّف على المهمَّات المألوفة في ذكرها بين الأصوليِّين بنحو من التَّفصيل أو ما يقرب منه.

كالَّذي دار بينهم في مبحثي الإفراد والتَّركيب، ومبحثي الخبر والإنشاء، ومبحثي الاختصاص والاشتراك، ومبحث الاشتراك المعنوي والتَّرادف، ومبحثي الحقيقة والمجاز، ومبحثي الحقيقة الشَّرعيَّة والمتشرِّعيَّة، ومبحثي النَّص والظاهر والظَّاهر والمضمر، ومبحث الأصول اللَّفظيَّة، ومبحثي الصَّحيح والأعم، ويلحقه الكلام عن أسماء العبادات والكلام عن أسماء المعاملات.

فلنمر على هذه المباحث ولو لبيان المهم منها تباعاً كما بحثه جملة المهمِّين من الأصوليِّين.

الأوَّل: مبحث الإفراد والتَّركيب

قسَّم النُّحاة وغيرهم من علماء الأدب العربي اللَّفظ إلى قسمين (مفرد ومركَّب).

فالأوَّل: هو المفرد وهو الَّذي علامته أن لا يدل جزؤه على جزء معناه ك- (زيد وعلي) ونحوهما من الأعلام وما يطلق عليه بالجواهر، فإنَّ حروف المباني في كل منهما لا يدل أحدها على جزء كل منهما، وهكذا دارس وخاطب لزيد وعلي من مفردات الأعراض، حيث حروف كل منهما وهي كل جزء منها لا يدل على جزء معنى كل منهما فهما مفردان أيضاً، وهكذا حروف المعاني المتألِّفة من حرفين فما زاد ك- (من التَّبعيضيَّة والابتدائيَّة) و (على الاستعلائيَّة) و (إلى الانتهائيَّة)، وكذا حروف المعاني

ص: 277

الموضوعة على حرف واحد حينما تحتاج إلى إظهار معناها بارتباطها بإحدى الكلمات ك- (لام الملك) و (لام الاختصاص) كلفظ (الملك لله) و (الحمد لله) وباء الملابسة في (برؤوسكم) من آية الوضوء.

وهكذا ما يلحق بالحروف من الضمائر كأبوه في (زيد قام أبوه)، حينما يراد إظهار معناه عمليَّاً ، وهكذا حروف مباني (هذا) وأمثاله من أسماء الإشارة، فإنَّ أجزاء تأليفها لو جزئت لا تدل كل منها على جزء المعنى، وهكذا البواقي في ميزانيَّة التَّدليل على المفردات من الأخريَّات.

والثَّاني: وهو المركَّب هو الَّذي ميزانيَّته أن يدل جزؤه على جزء معناه ك- (زيد دارس) و (علي خاطب)، وهكذا أمثلة الحروف وملحقاتها لو انضمَّت إلى الكلمات الأخرى الَّتي تسبِّب بذلك إظهار معانيها، فإنَّها عند التَّجزئة لها يمكن ظهور معناها، سواء في المركَّبات النَّاقصة كمركَّب (كان علي) من دون ذكر (إماماً) أو الكاملة لو أكملناها حتَّى بدون (إماماً) وهي الَّتي معناها (صار علي) وهي المسمَّات بكان التَّامَّة.

وبناءاً على هذه المقدِّمة ينبغي أن نعرف أنَّ الهيئة الموضوعة لمعنى تارة تكون فيالمفردات الجوهريَّة ك- (زيد وعلي) من أسماء الأعلام وغيرها من أسماء المعاني وأسماء الأعراض كهيئات المشتقَّات ك- (قائم وساجد ونائم) وغيرها من المشتقَّات وأخرى في المركَّبات، كالهيئة التَّركيبيَّة بين المبتدأ والخبر لإفادة حمل شيء على شيء، وكهيئة تقديم ما حقُّه التَّأخير لإفادة الاختصاص وهكذا بقيَّة الجمل والقضايا.

وكل من المفردات وما تألَّف متها من المركَّبات موضوعة بوضع مستقل، نظراً إلى أنَّ المركَّب إنَّما يحصل من انضمام مفرَّد إلى مفرد آخر.

فهل إنَّ المركَّبات يمكن افتراض أنَّها موضوعة بوضع مستقل زيادة على وضع المفردات كما قيل على حدِّ ما ذكره الشَّيخ الآخوند في كفايته (السَّادس لا وجه لتوهُّم وضع للمركَّبات غير وضع المفردات)؟

ص: 278

أقول: أي أنَّ وضع المفردات يكفي عن وضع المركَّبات؟

فقد أثير هذا الأمر بينهم فكان بين ناف ومثبت.

ويلحق بالإفراد والتَّركيب

أوَّلاً: انقسام الوضع المستعمل إلى شخصي ونوعي

فقد توهَّم جماعة أنَّ المركَّبات موضوعة بوضع مستقل عن المفردات، إلاَّ إذا أراد قسم منهم المفردات والمركَّبات القرآنيَّة ومثلها نصوص السنَّة الَّتي يجب الاستفادة منها لفهم مضامين تلك المركَّبات المجملة من دون تغيير أو تبديل لحرمة التَّحريف أو النَّقل بالمعنى بعد عدم الإذن من النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم أو الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ إلاَّ إذا تبدَّل النَّص من عند الله وحده نسخاً وتخصيصاً كما في قوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا](1).

وكذا السنَّة المناسبة للتَّبدُّل من النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم أو الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ إذا أحرزت معانيه الصَّحيحة المذكورة في الأصول على ما سوف يجيء بيانه، كما في حالات تبدُّل المقتضي وحصول المانع عن المعنى الأوَّل من مثل موارد التَّقيَّة أو التَّخصيص أو غير ذلك، وأمَّا مع الإذن من أحدهما أو كون المتصرِّف كان من حواري الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ المعتمدين خصوصاً أو المأذون بالإذن العام من أهل العلم في الغيبة الكبرى فلا مانع منه على التَّفصيل الَّذي ليس هذا موضعه الأنسب.

وذهب الآخرون إلى أنَّ وضع المفردات من كلام الآدميِّين يغني عن وضع المركَّبات ومنهم الشَّيخ الآخوند قدس سره مستدلاًّ على ذلك بما وجهه بتعبير منَّا:

ص: 279


1- سورة البقرة / آية 106.

أوَّلاً: أنَّ القصد من الوضع والحكمة الدَّاعية إليه هو التَّفهيم ولا شكَّ أنَّ هذا التَّفهيم يحصل بوضع المفردات فلا حاجة إلى وضع زائد للمركَّبات فيكون الوضع للمركَّبات لغواً ولا داعي له.

وقد أشار الشَّيخ الآخوند قدس سره بقوله بعد عبارته الماضية معلَّلاً له (بداهة أنَّ وضعها كذلك وافٍ بتمام المقصود منها)(1).

ثانياً إنَّ اللَّفظ نسبته إلى المعنى نسبة الدَّال إلى المدلول، ونكتفي في مقام الدِّلالة بدال واحد فإدِّعاء وضع ثان للمركَّب من نفسه معناه وجود دلالتين للمعنى وهما دلالة المفردات ودلالة المركَّبات وهو باطل بلا كلام، إذ لا معنى للدِّلالة على المعنى مرَّتين وبه عيب تحصيل الحاصل.

وأشار أيضاً إلى هذا المحذور الثَّاني بقوله (مع استلزامه الدِّلالة على المعنى تارة بملاحظة وضع نفسها وأخرى بملاحظة وضع مفرداتها)(2).أقول: وهذا واضح لا لبس فيه في كلام الآدميِّين كما أسلفنا، لأنَّ مركبَّاتهم متألفة من نفس المفردات الموضوعة السَّابقة، بل حتَّى مركبَّات الوحي ومركبَّات السنَّة لو كانت غامضة، فإنَّها لا تمنع من أن تشرحها مفرداتها على الأسس المأذون بها شرعاً، وكذا التَّأويل المؤدِّي إلى نفس القرض القرآني وغرض السنَّة.

وقد أوَّل القائلون بما مضى قول من يقول بوضع المركَّبات بأنَّ المقصود منها أنَّ الهيئات المتحصِّلة من الصِّيغ والهيئات الإعرابيَّة والخصوصيَّات المتحصِّلة من الجمل التَّركيبيَّة من تقديم أو تأخير أو حصر موضوعة بالوضع النَّوعي زيادة على وضع المواد بالوضع الشَّخصي كما احتمله الشَّيخ الآخوند قدس سره.

أي أنَّ الوضع الشَّخصي عبارة عن وضع المواد ويراد من هذه المواد أنَّها عبارة عن

ص: 280


1- كفاية الأصول تحقيق آل البيت لإحياء التراث ج1 ص 18.
2- المصدر نفسه.

الأمور الَّتي تقوم في ضمن حروف خاصَّة لا تقوم بغيرها فمثل مادَّة (زيد) وهي (الزَّاي والياء والدَّال) ومادَّة (رجل) أيضاً وهي (الرَّاء والجيم والَّلام) موضوعة بالوضع الشَّخصي، بمعنى أنَّ الوضع لمادَّة (زيد) لا يمكن أن يقوم في ضمن شيء آخر، وكذلك مادَّة (رجل) لا يمكن أن تقوم بلحاظ نفسها بمادَّة ثانية.

بل حتَّى ما قد تسمَّى حروفه بالنَّوعيَّة في صلاحيَّتها للتَّآلف بما لا يزيد على المعنى المسمَّى مثل ضاد وراء وباء الصَّالحة لتكوين ضرب وضارب ومضروب في كون كل منها عن شخص واحد وهو زيد مثلاً.

وأمَّا الهيئة الموضوعة للوضع النَّوعي فهي مثل هيئة فاعل الَّتي يمكن أن يتشكَّل على وزنها ألفاظ مصوغة عديدة كضارب ولابس وجالس وراكع وساجد ونحوها، فإنَّ الملحوظ بها إذا كان كل ذات نسب إليها حدث هذا المعنى أيضاً أمكن في أن يقوم في كل ذات ثبت لها الحدث نفسه كما فرضناه في الموزونات الأخرى المشابهة لكن من غير لفظ فاعل، كما كان على وزن مفعول وغيرهما وأريد منها النَّوع.

وهكذا في الجمل التَّركيبيَّة فكون تقديم المسند على المسند إليه يفيد حصول المسند بالمسند إليه وهو أيضاً موضوع بالوضع النَّوعي على خلاف التَّركيب العكسي كقوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ](1) في عبادة الصَّلاة فإنَّه للتَّشخيص.

فإذن تحصل بما مضى أنَّ المواد موضوعة بالوضع الشَّخصي والهيئات موضوعة بالوضع النَّوعي فحملوا قول القائل على أنَّ المركَّبات موضوعة بوضع مستقل عن المفردات على هذا المعنى لا على ظاهره، وهو لا ما نع منه في الجملة إذا لم يسبِّب خللاً في المعنى العميق.

ص: 281


1- سورة الفاتحة / آية 4.

ثانياً: هل الأسبقيَّة للوضع أم للاستعمال

قد اختلفت كلمة الأصحاب إضافة إلى ما سبق ذكره ومن بدايات الكلام عن خصوص الوضع، ومن بعد ذلك أيضاً حينما وصل الكلام إلى أهميَّة الاستعمال من كون الاستعمال أءصل من الإرادة وإن صاحبته أو تلاقحت معه تسلسليَّاً في بعض الأحوال لأكثريَّة مصاديق الاستعمال عليها -

بين قائل بالوضع أو لا؟ ثمَّ بالاستعمال ثانياً، ثمَّ جاءت الدِّلالة مع الإرادة أو عدمها كما مرَّ ذكره.

وبين قائل بالاستعمال ولو على غير هدى ثمَّ جاء التَّركيز على الشَّيء المراد بالوضع استئناساً بالطَّبع أو التَّطبُّع أو التَّطبيع عليه، بعد التَّفطُّن على مورد الاستئناس، أو على هدى الطَّبيعة الَّلاإراديَّة، أو هدى المطاوعة الَّتي لا تبعد عن مصاحبة الاستعمال البشري للوضع الإلهي وحياً أو في المنام أو من وراء حجاب البادي في الأنبياء والرُّسل للبشر، كما في الوضع الإلهي للنَّصوص السَّماويَّة الخاصَّة ونصوص السنَّة الشَّريفة الخاصَّة المنقولة عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والعترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ الَّتي هي من جواهر وأعراض الوحي الإلهي المعروف في عالم علم الأصول والفقه بنصوص آيات الأحكام ونصوص السنَّة الشَّارحة لمجملاتها.

وهو ما قد بدى في شرع الله الأخير لخاتم النَّبيِّين والمرسلين بأمره إلهيَّاً بذلك الوضع الخاص بواسطة جبرائيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ في الآية الأولى الَّتي أنزلت عليه قبل آيات الأحكام الخاصَّة من سورة العلق ليلة البعثة النَّبويَّة للرِّسالة وهي قول الله تعالى له يا محمَّد [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ](1) وقد أطاع صلی الله علیه و آله و سلم الأمر بعد أن أخبر الأمين جبرائيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ بأنِّي لست بقارئ وكرَّر الوحي ذلك عليه بالامتثال بادياً بالاستعمال فقرأ وتمَّت وظيفته

ص: 282


1- سورة العلق آية / 1.

الإلهيَّة في الإرسال.

وهذه القضيَّة إن أريد بها تشخيص كلام الآدميِّين في أمر الأصالة أنَّها للوضع أم للاستعمال؟ فهي في وحي الله وما يتَّصل به من جوانب شرعه في الأصول غير الخارجة عن جوهرها من البداية إلى النِّهاية.

فلابدَّ من أن يكون الأءصل هو الاستعمال ولا علاقة للوضع في المقام وكما قال تعالى [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى](1) وقال أيضاً [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ](2) إلخ وغيرهما، وهكذا أحاديث خطورة الإفتاء بغير علم كقوله صلی الله علیه و آله و سلم (من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السَّماوات والأرض)(3).

ولكنَّ صحَّة هذا الأمر الواضحة جملة أو تفصيلاً هو في زمن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والعترة الطَّاهرة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من عدم الحاجة إلى توسُّع علم الأصول كالأزمنة القريبة من عهودهم الَّتيكانت الأصول الأربعمائة ميسورة لدى جميع المهمِّين دون أزمنتنا وأنَّ فهم المعاني الأصيلة كان ميسوراً كذلك حتَّى لمن هم دون مرتبة الاجتهاد من الأفاضل.

أمَّا في أزمنتنا وأزمنة الحاجة إلى توسعة الكلام عن الأصول لملأ فراغ الحاجة إلى جعل القواعد الميسَّرة، لتبيُّن حكم الله في بعض موارد انسداد أبواب العلم كليَّاً أو جزئيَّاً أو الانفتاح غير الكامل وعلى أساس التَّوسّع الأصولي الصِّناعي ممَّا قد يحتاج إلى أن يذكر الوضع الآدمي للألفاظ لموارد التَّفاهم العلمي.

إضافة إلى التَّفاهمات العامَّة الخارجيَّة الَّتي لا بأس بها على القيم جميعها ولو في خصوص الأصول دون أن يكون في مقابل وحي الله في النَّتيجة أو لمعرفة أبعاد كلام

ص: 283


1- سورة والنَّجم آية /3.
2- سورة الحاقَّة آية / 44.
3- البحار 2: 115/ مجموعة ورَّام: 2 / كنز العمَّال 10: 193 ح29018 / عيون أخبار الرِّضا 2: 46.

الآدميِّين الأصوليِّين أو استنتاجاتهم الفقهيَّة إذا لم تخرج عن الصَّدد الأساس من الثَّوابت الفقهيَّة والمسلَّمات الأصوليَّة كموارد عرض المشتبهات من الرِّوايات على المحكمات من كتاب الله ونحو ذلك من العلاجات ومعالجة المشاكل الاستدلاليَّة المخيفة بترك القياسات مع الفوارق واجتناب الاستحسانات العلمانيَّة المعارضة للشَّريعة والالتزام بما صحَّ من النُّصوص حتَّى لو كانت نادرة لو لم تهجر أو كانت ضعيفة لو كانت معضودة بعمل الأصحاب وغير ذلك من الحالات المتوفِّرة في الأصول المثمرة والبعيدة عن الوضع البشري.

الخلاصة

ونتيجة كل ما ذكرناه فيما سبق من ألفاظ اللُّغة ومقاصدها من كلام الآدميِّين العقلاء ومن معهم من أهل التَّديُّن غير الوضَّاعين لكلام الله أن لا قاعدة تامَّة يتَّبعونها إلاَّ ما كان من حالات ما هو الأعم الأغلب وممَّا لا نقاش فيه عن الوضع والاستعمال والإرادة بمثل ما يطمئن لهم عن علامات الحقيقة الثَّابتة كالتَّبادر ما عدا كلام الوحي المبين السَّماوي للغاته وبالأخص العربي منها وهو القرآن الكريم المحفوظ، لتحريف ما سبقه من التَّوراة والإنجيل لأنَّ وضعه وما سبقه تمَّ مخلوقاً لله تعالى وفي جبرئيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ .

وكذا بترك الوضع في حالة ما يستأنس منه طبعاً، وكذا ما يرتِّب الأثر على كلام النَّائم أو السَّاهي أو نحوهما من قبل السَّامع فلم يبق إلاَّ الاستعمال والإرادة.

ولا يخفى أمر المقدَّم منهما فيما سبق وتبقى باقي المكوِّنات اللُّغويَّة لأسبابها على ندرتها غير خفيَّة على أهل الاطلاِّع والذَّوق الأدبي.

ص: 284

الثَّاني: مبحث الخبر والإنشاء

لابدَّ أن يتفاوت نظر الباحث المتأمِّل مع حياده العلمي النَّزيه مهما يحاول الإنصاف بين ما دار من الكلام حول المراد من الإخبار والإنشاء بين أهل العلم المتفاوتين في نظراتهم.

فهم في أقوالهم بين من يجعل الفرق كالفرق بين الأسماء والحروف.

وبين من يجعل الفرق بين الإخبار والإنشاء أنَّ الخبر حاك عمَّا في الخارج والإنشاء موجد لمعناه بعد أن لم يكن.

وبين من يجعل الجملة الخبريَّة موضوعة للدِّلالة على قصد الحكاية والجملة الإنشائيَّة موضوعة لإبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية.

وبين من يجعل الجملة الخبريَّة موضوعة للنِّسبة بين الموضوع والمحمول والجملة الإنشائيَّة موضوعة للحكاية عن الاعتبار النَّفسي القائم في ذهن المعتبر.

فهذه الأقوال إذا لم نختر التَّوسُّع إلى ما هو الأكثر تكون ثلاثة، ولعلَّ الرَّابع نأت به قولاً مختاراً بصياغته المقبولة:

أوَّلها: ما ذكره الشَّيخ الآخوند قدس سره(1) حيث فرَّق بين الاثنين كتفريق ما بين الاسم والحرف وهو ما يصل مؤدَّاه إلى عدم حصول أي فرق بين الإخبار والإنشاء في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه، وإنَّما كان كما أشرنا آنفاً (بين الأسماء والحروف) من قبيل الاختلاف في الدَّاعي للاستعمال فهو في الأخبار خصوصيَّة قصد الحكاية وفي الإنشاء ليستعمل في خصوصية قصد تحقُّقه وثبوته وإن اتَّفقا فيما استعملا فيه، وهو معنى أنَّ الأخبار والإنشاء متِّحدان بالذَّات والحقيقة ومختلفان بلحاظ الدَّاعي.

ومثال هذا الاتِّحاد كلمة (بعت) الَّتي تصلح أن تكون إخباراً وحكاية عمَّا أوقعه

ص: 285


1- كفاية الأصول ج1 ص 27 بتعليقة المشكيني.

سابقاً، وتصلح كذلك لإنشاء وإيجاد البيع لما يقصده حين التَّكلُّم بذلك، وكذلك كلمة (هي طالق) وغيرهما.

ولكن يرد على هذا أوّلاً:

إنَّ هذا وإن كان صحيحاً في الجملة لإظهار معنى الاتِّحاد اللَّفظي، لكن لا يجري مع كل ما يصلح لهذا الباب من الأمثلة في الحالتين ك- (علي إمام) للإخبار و (أقم الصَّلاة) للإنشاء مع مشكلة الاشتراك في كلمة (بعت) و (هي طالق) لفظيَّاً لحاجة أمر التَّشخيص إلى القرينة المعيِّنة المراد لكل من الحالتين، وإن كان الأصل في المقام عند الشَّك هو الرُّجوع إلى الإخبار، لكون الإنشاء في مثل هذه الأمثلة مبني على نحو العناية والمجاز.

ويرد ثانياً: أنَّه لو كان معنى الإخبار والإنشاء واحداً لصحَّ استعمال أحدهما بدل الآخر مطلقاً، سواء المشترك اللَّفظي أو غيره فضلاً عن عدم صحَّة استعمال بعض الجمل الخبريَّة مكان الإنشائيَّة تركيزاً كما في (زيد قائم) وأريد به الإنشاء فإنَّه من أشد الأخطاء بل إنَّما هذا ممَّا يبرهن على معنى المباينة بين الجملة الخبريَّة والإنشائيَّة.ويرد ثالثاً: إنَّ الاختلاف بين الاثنين (الإخبار والإنشاء) على ما أفاده الشَّيخ قدس سره من كلمة (بمجرَّد القصد) أمر مخالف للوجدان لكون الاختلاف جوهري بالأخص في الَّذي يتم ظهوره في أمثلته لا بمجرَّد القصد لما مرَّ ذكره من عدم اكتفاءنا في التَّمثيل ب- (بعت) وأمثاله وإنَّ صحَّ في الجملة لحاجته إلى القرينة دوماً في موضع الاشتراك الَّلفظي لوجود الأمثلة الأوضح في الحالتين.

القول الثَّاني: وهو ما ذكره جماعة ومنهم الشَّيخ العراقي قدس سره وهو أنَّ الفرق بين الإخبار والإنشاء أنَّ الإخبار حاك عمَّا في الخارج والإنشاء موجد لمعناه بعد أن لم يكن(1).

وقد أورد على (الإنشاء موجد) السيِّد الأستاذ قدس سره في غاية المأمول بأنَّه:

ص: 286


1- نهاية الأفكار ج1/56.

(صرف لقلقة لسان، لأنَّ الإيجاد الحقيقي لمعناه غير متحقِّق قطعاً، إذ ليس من الجواهر والأعراض والوجود الاعتباري عند المعتبر قائم بنفسه نطق باللَّفظ أم لا، واللَّفظ مبرز لذلك الاعتبار والوجود الاعتباري عند العقلاء أو عند الله وإن تحقَّق بتلفُّظ المتكلِّم بهذا اللَّفظ لكنَّه إذا كان قاصداً لمعناه والكلام يعد في المعنى الَّذي يقصد، فافهم)(1).

إلاَّ أنَّه يمكن أن يقال بتصحيح معنى الإيجاد بتوجيه بغير ما ذكره السيِّد الأستاذ قدس سره:

وهو أنَّ طرفي النِّسبة الاستفهاميَّة مثلاً - وهي كما لا يخفى من أنواع الطَّلب كما مرَّ ذكره من الأمثلة السَّابقة - كجملة (هل زيد عالم) هي من المفاهيم الثَّانويَّة، إذ فيها مفهوم الاستفهام والمستفهم عنه لا يكون مدلولاً للفظ بالمطابقة، وعليه فعدم دلالة الكلام على مفهوم الاستفهام بالمطابقة لا يؤدِّي إلى كونه ناقصاً على مستوى مدلوله اللَّفظي، وعلى هذا فلا تكون الجملة ناقصة على مستوى مدلولها اللَّفظي.

والفرق واضح بين نسبة ما بين المستفهم والمستفهم عنه وبين مفهوم الاستفهام والمستفهم عنه ومفهوم الاستفهام مفهوم اسمي.

ولا تدل الإرادة أو الهيئة على النِّسبة بينه وبين الجملة المدخول عليها الإرادة حتَّى يرد الإشكال:

وهو أنَّ لا يعقل وجود النِّسبة بدون وجود طرفيها(2) وإن كان في الَّلفظ ما مرَّ من الاشتراك.

القول الثَّالث: ما ذكره الأستاذ المحقِّق السيد الخوئي قدس سره في تقريرات بحثه(3) وهو أن تكون الجملة الخبريَّة موضوعة

ص: 287


1- غاية المأمول ج1 ص 137.
2- أورده في (بحوث في علم الأصول) ج1 ص 297.
3- غاية المأمول ج1 ص 138.

للدِّلالة على قصد الحكاية والجملة الإنشائيَّة موضوعة لإبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية وعلى أساس ما بني عليه من حالة التَّعهُّد.

ولكنَّ ممَّا يرد عليه أوَّلاً:

إنَّ ما اختاره من التَّعريف للإنشاء يقتضي أن يكون مطلق الإنشاء إخباراً، لأنَّه أيضاً حاكي عمَّا كان في وعاء النَّفس الإنسانيَّة فإن صارت النِّسبة موافقة لما في وعاء النَّفسفتصح أن تصفها بالصِّدق وإلاَّ فتصح أن تصفها بالكذب، ومن الواضح أن الاتِّصاف بهما إنَّما هو من خواص الأخبار.

ثانياً : إن كان يعني من كلمة (بعت) أنَّ البيع هو صرف الاعتبار النَّفساني ولكن الإنشاء يظهره في الواقع الخارجي، فهذا الأمر ليس بصحيح، لعدم صدق عنوان البيع على صرف الاعتبار النَّفساني بشهادة العرف والعقلاء.

وإن كان يعني أنَّ البيع هو مجموع الأمرين على نحو يصير البيع عبارة عن الاعتبار القائم في وعاء النَّفس شريطة أن يكون مقيَّداً بإظهاره في الواقع الخارجي وهو الإنشاء فهو غير صحيح، لاستلزامه أن يكون البيع غير قابل للإنشاء باعتبار أن الإنشاء لا يتعلَّق إلاَّ بالأمور الاعتباريَّة.

ومن البيِّن أن الإنشاء بحد ذاته من الأمور الواقعيَّة الحقيقيَّة يمتنع إنشاؤه، وبما أنَّ الإنشاء قيد للبيع فحينئذ يصير البيع ممَّا يمتنع إنشاؤه أيضاً، وهذا خلاف ما تطابق عليه قول والتزام الكل.

ثالثاً: عن التَّعهُّد الَّذي جعله أساساً في بيان الفرق، فقد أجبنا سلفاً عن رفضه، في باب الأصول وإن كنَّا قد التزمنا به في باب التَّطبيق الفقهي، وقد مرَّت الإشارة إلى سبب المطلبين(1).

وبالنَّتيجة إضافة إلى ما ذكرناه تصحيحاً لمعنى الإيجاد بدل ردِّ السيِّد الأستاذ للمحقِّق العراقي قدس سره أنَّ هناك معنى لا بأس بقبوله عن بعض الأفاضل:

ص: 288


1- ص175.

وهو أنَّ الجملة الخبريَّة موضوعة للنِّسبة بين الموضوع والمحمول والجملة الإنشائيَّة موضوعة للحكاية عن الاعتبار النَّفساني القائم في ذهن المعتبر.

وهذا التَّمييز بين الجملة الخبريَّة والإنشائيَّة هو الأمر الارتكازي الَّذي نفهمه لما يتبادر من معناهما في الذِّهن، وهو خال في ظاهره عن جميع المحاذير الَّتي أوردت على القولين الأوَّلين.

فهو من جهة يحافظ على وجود الفرق بينهما، كما أكَّد عليه أستاذنا السيِّد الخوئي قدس سره، ومن جهة ثانية لا يجعل الفرق بينهما مجرَّد القصد بل الفرق بينهما جوهري.

وهناك بعض أراء في المقام تتَّسم بالرِّضا بما قال أصحابهما فيه كأستاذ الأساتذة الشَّيخ الكمبَّاني الأصفهاني قدس سره قد يأتي تفصيلها في بعض مفصَّلاتنا.

تتمَّة مجملة

عن التحاق الجملة الشَّرطيَّة بالحمليَّة من الخبر والإنشاء

كان كلامنا الماضي عن الجمل الحمليَّة سواء الاسميَّة منها أو الفعليَّة خبريّة أو إنشائيَّة، وقد مضى الاستطراد عن الكامل والنَّاقص من ذلك بلا إسهاب، اكتفاءاً بمورد الحاجة منه وهي الَّتي حدُّها أنَّها المتكوِّنة من الموضوع والمحمول وفي مقابلها الجملة الشَّرطيَّة المتكوِّنة من المقدَّم والتَّالي على أنَّ الحمليَّة والشَّرطيَّة مع تقابلهما مهمَّتان في تلازمهما في الاجتماع والافتراق لم تتركا يوماً في علم المعاني والبيان والمنطق والأصول لمعرفة ما يؤدِّيانه بحثاً واستدلالاً واستنتاجاً من جهة استعمالهما الاصطلاحي الَّذي قد يختلف في كل علم من هذه العلوم وفي المقامات المتعدِّدة أدبيَّاً أو منطقيَّاً أو أصوليَّاً.

لكن بقيت الشَّرطيَّة مختصَّة عن شكل الحمليَّة الدَّاخلي بما يربط فيها مفاد جملة بمفاد جملة أخرى بواسطة أدوات الشَّرط مثل (إن) و (إذا) و (لو) وعلى أساس ما

ص: 289

أشرنا إليه آنفاً، وهو أن لا يخلو مدخولها دوماً من نفس الحمليَّة السَّابقة حتَّى الإنشائيَّة المشتركة بينها وبين الخبريَّة اشتراكها اللَّفظي، إلاَّ أنَّ أدوات الشَّرط إذا دخلت عليها تفرزها عن الإنشائيَّة وتمحِّضها للخبريَّة لتبقى جاهزة للجملة الشَّرطيَّة لا غير.

ولما مرَّ بيانه تتبيَّن مناسبة ذكر هذا الالتحاق لهذه الجملة الشَّرطيَّة بالحمليَّة ولو بهذا النَّحو من الإجمال تمهيداً لما يأتي من التَّفصيل الأنسب لمعرفة الموقف الأصولي تجاه مقاماتها المختلفة أنَّه ما هو عند المشهور وما هو عند الآخرين تجاه ما يؤخذ به من المفاهيم وبالتَّالي ما يلزمنا نحن من العمل به وما لا يؤخذ به عند الجميع كمفهوم المخالفة إذا كان الشَّرط من قبيل السَّالبة بانتفاء الموضوع.

ولمناسبة هذا الذِّكر المجمل من بيان الرَّبط وأهميَّة التَّفصيل الأصولي الآتي تتبيَّن ضرورة ذلك كلِّه، لأنَّ مداليل ألفاظ الشَّرطيَّة وعلى اختلاف مصاديق الحمليَّة منها لم تخل ألفاظ الكتاب والسنَّة منها وبما يخص فقهنا الحنيف، وكذا ألفاظ المتشرِّعين والبحَّاثين من ذوي المناقشات العلميَّة الاجتهاديَّة وغيرهم من أتباع القواعد الأدبيَّة المحقَّقة والمتَّبعة بينأهل الحل والعقد فلابدَّ بعد هذا التَّفصيل الآتي الأنسب أو ما يتيسَّر منه في حينه من بحث المفاهيم الَّتي أوَّلها مفهوم الشَّرط، والله الموفِّق.

الثَّالث: مبحث الاختصاص والاشتراك

لا شكَّ أنَّ الاختصاص في الألفاظ اللُّغويَّة العامَّة ومنها العربيَّة في بدايات وضعها القديم قبل المدنيَّة وبعدها مستمرٌّ في لسان الوحي السَّماوي وآخره القرآني الكريم وفي لسان الآدميِّين الجادِّين العقلاء السَّاعين لجلب منافعهم والبعيدين عن الإغراء بالجهل دفعاً للإضرار بالآخرين والأبرز منه ما في لسان المتشرِّعة من أتباع النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والعترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ الحافظة للسنَّة النَّبويَّة وهو المألوف والمتعارف وعليه الاعتماد في القواميس اللُّغويَّة والعلوم الأدبيَّة والعلميَّة الَّتي لها علاقتها بمباحث الألفاظ العامَّة والخاصَّة إلاَّ ما شذَّ

ص: 290

لحكمة وغيرها ممَّا زاد عليه من المشتركات.

وقد أشار القرآن الكريم والسنَّة الشَّريفة واللِّسان العلمي الصَّحيح للكتب العلميَّة الَّتي تحوم حول لساني المصدرين الشَّريفين بلا أي ابتعاد عن مضامينهما مهما كانت واسعة واحتيج إلى الاختصار اللَّفظي في بعض الأحوال كالتَّقيَّة أو ما عثر عليها بين الرِّوايات المنقولة إلاَّ مختصرة أو مجملة وعلى الأخص لو اتَّبع تفسير القرآن بالقرآن وتفسير القرآن بالسنَّة عن طريق العترة وغيرها من التَّابعة لها وتفسير السنَّة بالقرآن بحيث لو اتُّبعت هذه الأساليب بالدِّقَّة لم يكن لغير الاختصاص مجال للأخذ به إلاَّ مع القرائن، وما أسهل التَّعامل مع المشتركات مع تلك القرائن المعيِّنة.

وهذه المشتركات وإن كثرت مع القرائن لابدَّ أن تعد نادرة في مقابل المختصَّات من المتعارفة، وأمَّا مع عدم القرائن فلابدَّ من أن تكون من أندر النَّوادر على ما سوف يتَّضح ذكره في باب الإرادة الاستعماليَّة.

ولذلك قال الأصوليُّون عن هذه المشتركات وغيرها من المجملات الأخرى وعن تبعثر الأصول الأربعمائة أو ضياع بعضها مقولتهم بانسداد باب العلم الجزئي أو ببقاء باب الانفتاح له وللعلمي بما يقاربه ممَّا قد يحوج السُّعاة للوصول إلى دقائق الأمور إلى عدم الجمود على هذا الانسداد أو ما يشبهه من الانفتاح، بل إلى بذل الجهد باستفراغ الوسع للخلاص من تبرير العامَّة لأنفسهم العمل بالقياس الممنوع وأمثاله على ما سيتَّضح أكثر.

بل إنَّ توفُّر المألوف من المختَّصات مع ما يأتي من النُّصوص والحقائق غير المجازيَّة والمبيَّنات الَّتي لا إجمال فيها مع تلك الأمور الَّتي تعطينا معلوماتها مع قرائنها هي الَّتي تعطينا المطمئنات الكافية من القرآن الكريم والسنَّة المطهَّرة والسِّيرة الِّلسانيَّة المعتدلة المستمرَّة حتَّى الآن في مسايرتها لمضامينها الشَّريفة.

على أن الاختصاص وأشباهه هي المرادة من قوله تعالى [وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ

ص: 291

هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا](1) وقوله [وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ](2) وقوله [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ](3) وقوله [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ](4) وقوله تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ](5) وقوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ](6) ولو بنحو ما قد يحتاج ذلك أو بعضه إلى شيء من التَّوجيه ممَّا ليس هذا المقام بمحل تفصيله.

ومن ذلك كل آية تدل على قبح العقاب بلا بيان، لكونه من المستحيل على الله لقولهتعالى [وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً](7)، وقوله تعالى [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ](8) وقوله تعالى [رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا](9) إضافة إلى آية [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا](10) النَّازلة في حقِّ بيعة الغدير الَّتي لا تعطي أي مجال للمناقشة فيما مرَّ ذكره، لأنَّ صاحبها أمير المؤمنين علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ وهو الخليفة الأوَّل بحق وهو الأعلم لبيان

ص: 292


1- سورة الكهف / آية 49.
2- سورة الإسراء / آية 82.
3- سورة الأنفال / آية 42.
4- سورة النحل / آية 89.
5- سورة النحل / آية 44.
6- سورة آل عمران / آية 138.
7- سورة الإسراء / آية 15.
8- سورة الأنفال / آية 33.
9- سورة النساء / آية 165.
10- سورة المائدة / آية 3.

كلِّ غامض في الآيات وكذا الأحاديث الشَّريفة كما في أحاديث النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم فيه وفي البضعة الطَّاهرة وبقيَّة أبناءه الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ وكما اعترف الثَّلاثة الَّذين أخذوا الخلافة منه بالتَّواطئ تحت السَّقيفة حينما وقعوا في المضايق المحرجة لهم بين النَّاس من الأباعد والأجانب وأهل المدينة إلاَّ أن تكون مشاكلهم الدِّينيَّة العامَّة والخاصَّة غير منحلَّة إلاَّ من لسان أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ بقول كلٍّ منهم (لولا علي لهلك فلان) ولمرَّات وكرَّات كثيرة من لسان ثانيهم.

وأمَّا قول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم في حديث الثَّقلين المتواتر بين الفريقين (إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، أيها الناس إنكم لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)(1) فهو من الواضح في مراده دون أن يراد طبيعيَّاً شيء من غير تلك المختصَّات ومعها النُّصوص والحقائق والمبيَّنات ومن بعدها الظَّواهر المقبولة إلاَّ بشيء من العناية والتَّكلُّف في المشتركات على ما سيتَّضح قريباً.

وأمَّا الاشتراك اللَّفظي بخصوصه فكما قلنا عنه أنَّه لم يتحمَّل إلاَّ بالعناية والتَّكلُّف حتَّى لو كان مع بعض القرائن المعيِّنة المقاميَّة، فضلاً عن الخالي منها كما في حالات التَّقيَّة الَّتي لا مبرِّر لهافي حال الاختيار ولو استغني عنها، لكون الرُّشد في خلاف أهل الخلاف عند الاستغناء عنها، أو لاختيار الاختصار لحكمة عرفت بعد حين كما في الفرق بين السُّور القصار المكيَّة والطوال المدنيَّة.

وهذا على أساس ما مرَّ التَّنويه عليه عند الكلام عن ضدِّه وهو الاختصاص وأشباهه.

وأمَّا في غير ذلك ومن حيث المبدأ فقد انتهت الأقوال فيه إلى ثلاثة أو تزيد:

ص: 293


1- ينابيع المودة ص 15 من طرق شتى.

القول الأوَّل: استحالة الاشتراك(1)، ويريد بالاستحالة هي الاستحالة العاديَّة لا الاستحالة العقليَّة، لكون الإمكان العقلي حاوٍ لهذا الاشتراك حتَّى على القول بالاستحالة المذكورة على ما سيتَّضح، وإن لم نقل بالوقوع محتجَّاً بأنَّ الغرض من وضع الواضع للألفاظ لمعانيها هو التَّفهيم.

ونظراً إلى أنَّ المشترك اللَّفظي في تعدُّد معانيه بلا امتياز معنى على معنى منها يُعدمجمل الدِّلالة، وهو يعني أنَّ المعنى المقصود للمتكلِّم بحسب الظاهر غير معيَّن، وهذا الإجمال يناقض الحكمة الدَّاعية إلى الوضع بين العقلاء، فهو مستحيل لهذا الاعتبار، ومن أسباب منعه هو التَّعمية للإغراء بالجهل.

وإن قال قائل بأنَّه يعتمد في التَّفهيم على القرائن المعيِّنة للمراد فهذا اعتماد على التَّطويل بلا طائل في كثير أو أكثر الحالات إن لم نقل كلِّها، إذ المفروض الاعتيادي في المشترك اللَّفظي هو تجرُّده من هذه القرائن إلاَّ بعد حين فينظر إلى ذلك الحين وهو معنى التَّطويل وعند حصول القرينة عند التَّكلُّم فوراً ينتفي محذور الاشتراك اللَّفظي والمفروض أنَّه بدون هذه القرينة الفوريَّة في سيرة العقلاء فيبقى المنع على حاله.

فقد رُدَّ هذا الاستدلال بمنع صحَّة دعوى أنَّ الإجمال مناف للحكمة لكثرة اقتضائها بينهم للاختصار أو الاختيار أو للأحاجي أو للإيهام في باب التَّقيَّة كما مرَّ.

القول الثَّاني: جواز وقوع الاشتراك دون وجوبه وهو ما فيه مضمون الرَّد للقول السَّابق حيث رُدَّ ذلك السَّابق برد استدلاله بمنع صحَّة دعوى أنَّ الإجمال مناف للحكمة، إذ كيف يكون منافياً لها مع أنَّ الإجمال كثيراً ما يكون متعلِّقاً لأغراض العقلاء.

ومن هنا يظهر الرَّد على من يقول من الآخرين بأنَّ المشترك اللَّفظي لم يقع في كلام الله تعالى لما فيه هنا من الإجمال المذكور غير اللائق بكلامه تعالى.

ص: 294


1- ومن القائلين بهذه المقولة السيد الخوئي قدس سره بناءاً على مسلكه في الوضع أنه التَّعهد.

وشبهة من يمنع ذلك وإن أمكن تعقُّلها من حيث عدم معقوليَّة إفناء اللَّفظ الواحد في معنيين، لكون صحَّة المعقوليَّة كامنة بإفناء اللَّفظ في معنى واحد لا أكثر كما في كلام الشَّيخ الآخوند قدس سره، وعلى فرض إمكان الاستدلال لما قاله قدس سره بمثل قوله تعالى [مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ](1) إلاَّ أنَّ كلام العقلاء من الآدميِّين لا يتفاوت عن كلام الله حينما كان نازلاً على نهج كلامهم وإنَّ مستوى حمل اللَّفظ في الوضع لأكثر من معنى ليس هو نفس مستوى الاستعمال الإرادي للأكثر من معنى على ما سيتَّضح عند الكلام عن الاستعمال الإرادي قريباً وهو ما يبعد كون القلبين في جوف الرَّجل عن الأبعد من مستوى الاستعمال الإرادي وإن كان هنا بعض ما يساعد على قبول حتَّى الاستعمال الإرادي في بعض الأحوال الَّتي لها مبرِّراتها مضافاً إلى أنَّ بعض من يدَّعي عدم الوقوع في كلام الله يقول بوقوع المتشابه فيه لعدم إمكان نكرانه في قوله تعالى [هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ](2).

أقول: والمتشابهات هي من حالات ما يتردَّد فيه المتتبِّع لألفاظها وضعاً بين أكثر من معنى، ولا أقل من احتمال هذا الأمر فيها.

أقول أيضاً: وهو لا بأس به إن كان بمعنى مجرَّد الحمل لتكشف أسرارها من قبل غيرها من الآيات أو من النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم أو من العترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ ولو لأهميَّة الرَّبط التَّأكيدي بين الكتاب والعترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ وتبقى الإرادة الاستعماليَّة فهي موكولة إلى ما سيأتي قريباً.

وعلى فرض ادِّعاء عدم صحَّة استعمال اللَّفظ في أكثر من معنى استناداً إلى ما عنكتاب التَّهذيب عن ابن عيسى عن موسى ابن القاسم وأبي قتادة عن علي ابن جعفر عن أخيه عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: سألته عن صلاة الجنائز إذا احمرَّت الشَّمس أيصلح أو لا؟

قال (لا صلاة في وقت الصَّلاة وقال إذا وجيت الشَّمس فصلِّ المغرب ثمَّ صلِّ على

ص: 295


1- سورة الأحزاب / آية 4.
2- سورة آل عمران / آية 7.

الجنائز(1).

فإنَّه يجاب أوَّلاً:

بأنَّ سؤال السَّائل لا يتطابق مع جواب الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ .

ثانياً: إنَّ وجوب الشَّمس الَّذي بمعنى مجرَّد غيابها كما هو الظَّاهر لا يعنيه أنَّ كان معه غياب الحمرة وهو ما يصل إلى معنى وجود معنى التَّقيَّة في الرِّواية.

إضافة إلى ما يؤكِّده من معنى سؤال السَّائل فالرِّواية مرفوضة في مورد الاختيار.

ثالثاً: إنَّ جواب الإمام كان في مجال التَّزاحم الخارجي بين الصَّلاتين وهو غير معنى الحمل في الاشتراك اللَّفظي.

كما وقد قال الكثير من علماء الأصول قديماً وحديثاً إضافة إلى إمكان ذلك بالوقوع ومنهم صاحب المعالم قدس سره حيث قال (أصل الحق أن الاشتراك واقع في لغة العرب)(2)، وهو يعًد من أهم أدباء عصره.

وقد أيَّد ذلك من أصحاب القواميس جماعة كما في صحاح الجوهري عن لفظ (العين) ذات المصاديق المختلفة العديدة المحصاة إلى سبعين معنى كالباصرة والذَّهب والفضَّة وعين الماء وربية القوم ونحو ذلك، والفيروز آبادي صاحب القاموس عن لفظ (الأرض) وأساس البلاغة للزَّمخشري عن لفظة (رؤبة) وفي الأخبار للهروي البغدادي عن لفظ (صدى) وفي مفردات الرَّاغب الأصفهاني عن لفظ (الهلال) وغير ذلك، بل ما وقع في القرآن المجيد كلفظ (القرء) المراد منه حمله لمعنى (الطُّهر والحيض).

ومن ذلك ما في كتاب الأصول الأصيلة من الاستدلال على ذلك بقول الله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا

ص: 296


1- التهذيب 3: 320/994، وفي سائل الشيعة "كتاب الطهارة باب جواز صلاة الجنازة في وقت الفريضة ح 3192.
2- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص38.

تَسْلِيمًا](1).

أقول: مع العلم بالفرق بين معنى صلاة الله وصلاة الملائكة وصلاة المؤمنين كما هو مفسَّر بقول الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ بعدما (سئل عن هذه الآية فقال: الصَّلاة من الله عزَّ وجل رحمة ومن الملائكة تزكية ومن النَّاس دعاء)(2).

والاستدلال عليه أيضاً بقوله تعالى [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ](3).

أقول: مع العلم بتفاوت معنى السُّجود لكلِّ من ذكر في الآية لله تعالى.وهكذا أورد عن الكافي ما عن أبي علي الأشعري عن محمَّد ابن عبد الجبَّار عن صفوان ابن يحي عن ابن مسكان عن الحلبي عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قول الله عزَّ وجل [فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا](4)، قال (علمتم لهم مالاً وديناً)(5)، ورواه الشَّيخ بإسناده عن الحسين ابن سعيد عن صفوان مثله.

وهكذا فيه عن من لا يحضره الفقيه عن العلاء عن محمَّد ابن مسلم عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ في قول الله تعالى [فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا]، قال (الخير أن يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّداً رسول الله ويكون بيده عمل يكتسب به أو يكون له حرفة)(6).

ص: 297


1- سورة الأحزاب / آية 56.
2- بحار الأنوار ج 91 ص 55.
3- سورة الحج / آية 18.
4- سورة النور / آية 33.
5- وسائل الشِّيعة ج23 ص 135، التهذيب 8: 270/984، الكافي 6: 186 ح7 و 187 ح10، والمقنع: 159.
6- وسائل الشِّيعة ج23 ص 135، الفقيه 3: 78/ 278.

القول الثَّالث: وهو ما مفاده وجوب وقوع الاشتراك وبما يزيد على مجرَّد حمل اللَّفظ.

مستدلاًّ على ذلك بأنَّ المعاني بما أنَّها صور ذهنيَّة غير متناهية، والألفاظ بما أنَّها حروف وأصوات فهي متناهية، فالألفاظ المفروض تناهيها لا يمكن أن تقطع وتؤدِّي إلى تفهيم المعاني غير المتناهية، فإذا جعلنا الألفاظ المتناهية في قبال المعاني غير المتناهية بقي عندنا من المعاني ما لا يمكن تفهيمه بالألفاظ فوجب أن يقع عندنا الاشتراك في الألفاظ، لأنَّه حينئذ قد يكون عندنا لفظ واحد يؤدِّي إلى معاني متعدِّدة فمن هنا يظهر وجوب القول بالاشتراك، لاحتواء أكبر كمٍّ من تلك المعاني، إضافة إلى الحاجة إلى الاختصار أو للتَّقيَّة في مواقعها اللازمة.

وقد استغلَّ بعض العامَّة هذا القول باستدلالهم على حجيَّة القياس في الأحكام الشَّرعيَّة وبنظير هذا البرهان، وهو أنَّ الفروع غير متناهية والكتاب والسنَّة متناهيان وغير وافيِّين بالفروع فلابدَّ أن يكون القياس في نظرهم حجَّة لوفائه بالفروع.

ولكن في هذا اللُّزوم واستغلال العامَّة مجال للإيراد الثَّابت على ذلك.

أوَّلاً: بمنع عدم تناهي المعاني، لأنَّها في كلِّ من جواهرها وأعراضها لابدَّ أن تكون متناهية ولو بما يتناسب مع الألفاظ القرآنيَّة المحفوظة مع لسان ومعاني العترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ إلى يوم الورود على الحوض كما مرَّ من الآيات وغيرها، لأنَّ المراد بالمعاني هي الطَّبائع الكليَّة دون مصاديقها وجزئيَّاتها ولا داعي للشَّك في تناهي الكليَّات من المعاني.

ثانياً: بعد تسليم عدم تناهي المعاني في الغرض الجدلي أنَّ المعاني المحتاج إليها لنظم المعاش والمعاد متناهية في الحالة المتعارفة اعتياديَّاً بين النَّاس والغرض الدَّاعي إلى الوضع وهو التَّفهيم والتَّفهُّم مختص بتلك المعاني المبتلى بها لفقدان ذلك الغرض في غير المعاني المحتاج إليها.

ثالثاً: إنَّ وفاء ما في الكتاب والسنَّة من المعاني وجميع متصوَّراتها التَّصديقيَّة

ص: 298

المرجِّحة للأخذ بحالة الاختصاص أو بما لا يزيد على القول بخصوص جواز الاشتراك من القول الثَّاني بما يتناسب معه لا وجوبه ولزومه ممَّا مرَّ ذكره من شواهد ما يُغني عن الالتزام بالقياسالممنوع وهو القياس مع الفارق حتَّى على ما بنينا عليه من الانسداد الإجمالي علماً وعلميَّاً، بل حتَّى مع عدم الفارق إلاَّ بما حُدِّد أصوليَّاً فقهيَّاً في باب الأصول العمليَّة المرتبطة بالمستقلاَّت العقليَّة والتَّابعة للأدلَّة الإرشاديَّة.

إضافة إلى التَّصريحات الشَّريفة المانعة من عموم العمل بالقياس كقول الإمام السجَّاد عَلَيْهِ السَّلاَمُ (أنَّ دين الله لا يصاب بالعقول)(1) وقول الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (السنَّة إذا قيست محق الدِّين)(2) وقوله أيضاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ (إياك والقياس، فإنّ أبي حدّثني عن آبائه أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: مَن قاس شيئاً من الدِّين برأيه، قرنه الله تبارك وتعالى مع إبليس في النَّار، فإنَّه أوَّل من قاس حيث قال [خلقتني من نار وخلقته من طين]، فدعوا الرَّأي والقياس فإنّ دين الله لم يوضع على القياس)(3)، وسوف يتَّضح هذا الأمر أكثر في باب الحديث عن القياس إن شاء الله تعالى.

رابعاً: في حال الإصرار على عدم تناهي المعاني ولو بالإكبار التَّام لكلام الله وسنَّة نبيِّه صلی الله علیه و آله و سلم في معانيهما لقوله تعالى [وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً](4) وهو معنى أن كلامه تعالى وتتبعه السنَّة المؤكَّدة لم يدركه بكل معانيهما إلاَّ النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم أو الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ .

ولو قيل: بمحدوديَّة الحروف الثَّمانية والعشرين حرفاً فلم تتناسب مع تلك المعاني الواسعة فلابدَّ من أن تضيق تلك الحروف إلاَّ بالاشتراك؟

لأمكن القول بأنَّ التَّوسع الحرفي للحروف ممكن مع تلك المعاني بل واقع في

ص: 299


1- بحار الأنوار للمجلسي: 2/ 303، لحديث 41.
2- الكافي (ج1 ص 58) وسائل الشيعة: 29/ 352.
3- ) الاحتجاج ص 286.
4- سورة الإسراء / آية 85.

التَّصريفات الصَّرفيَّة والتَّكيُّفات النَّحويَّة إعراباً وبناءاً وفي الحركات الجامدة والمتنوِّعة بحسب العوامل، وكذا البيانيَّة المتنوِّعة لصالح المعاني في علم المعاني والبيان مهما اتَّسعت بما تفي له تلك الحروف حتَّى على ما حُدِّدت أساسيَّاتها الهجائيَّة بتلك التَّصرُّفات، بل وصلت إلى ما لا يحصى، ولذا وصلت جميع الرِّسالات السَّماويَّة وبما لا داعي إلى هذه المبالغة من الاشتراك إلاَّ بما مرَّ ذكره أو خضوع الاشتراك إلى حلِّ مشكلها بالقرائن المعيِّنة.

والحاصل أنَّ المعاني المحتاج إليها لمَّا كانت متناهية أو كانت سعتها البالغة مقدوراً عليها ولو على تقدير ضياع كثير منها بالكوارث الطَّبيعيَّة والعدائيَّة بمثل استفراغ الوسع فلا حاجة إلى وجوب الالتزام دوماً بالاشتراك، وإن قلنا بجوازه في القول الثَّاني بمعانيه.

ويلحق بالاختصاص والاشتراك

القول باستعمال اللَّفظ في أكثر من معنى

بعد أن مرَّ الكلام في إمكان حمل اللَّفظ وجوازه لأكثر من معنى في مقابل القول بمنعه أووجوبه ولزومه في الاشتراك اللَّفظي.

حلَّ دور الكلام عن القول باستعمال هذا اللَّفظ في أحد معانيه وفي أكثر من معنى في صحَّته أو عدم صحَّته مجرَّداً عن القرينة بنحو الحقيقة أو غيرها أو مع القرينة بلفظ المفرد أو التَّثنية أو الجمع ونحو ذلك.

فلا شكَّ في البداية في جواز استعمال لفظ المشترك، كما أمكن وجاز حمله كما مرَّ ذكره من الآيات وغيرها، لكن في أحد معانيه ومع القرينة المعيِّنة للمراد، وعلى تقدير عدم الحاجة إلى القرينة يكون اللَّفظ مجملاً لا قابليَّة له مع اشتراكه لتشخيص أحد معانيه دون غيرها في الدِّلالة، كما لا شبهة مع إجماله المذكور في جواز استعماله في مجموع

ص: 300

معانيه بما هو مجموع المعاني.

غاية الأمر يكون هذا الاستعمال استعمالاً في غير ما وضع له اللَّفظ في أساس كل معنى من معانيه حينما وضع للتَّشخيص له، وهو ما يصل إلى معنى المجازيَّة عند وصوله إلى حد الاشتراك اللَّفظي في احتياجه، لاتِّضاح أمره إلى القرينة الصَّارفة للمعنى الحقيقي عن هذا المجازي.

وهذا واضح في قوانين أرباب الأدب العربي في باب المعاني والبيان ومباحث ألفاظ علم المنطق، وعند ذلك تمَّ إيراده في مقدِّمات مباحث الأصول هذه لمعرفة مدى ما يصل الأمر إليه فيها ممَّا أشرنا إليه سابقاً من أمثلة الإجمال للحكمة في الكتاب والسنَّة والتَّعمية للتَّقيَّة وكذلك التَّورية بها للخلاص من الكذب للمعاني الأخر غير التَّقيَّة وكذا للاختبار أو للأحجيَّات في مصدري الكتاب والسنَّة وغيرهما.

ولكن الموجب للكلام بما يزيد على هذا المستوى هو ما وقع الخلاف فيه وهو جواز إرادة أكثر من معنى واحد من المشترك في استعمال واحد، على أن يكون كل من المعاني مراداً من اللَّفظ على حِدة وكان اللَّفظ قد جعل للدِّلالة عليه وحده.

ففصَّل العلماء في هذا الأمر تفصيلات عديدة بين مجوِّز مطلقاً ونافٍ مطلقاً ومفصِّلٍ مع ذكر قيد التَّفصيل للجواز أو عدمه، لكون الحالات عديدة، كما أسهب فيها صاحب المعالم قدس سره.

لكن أجدها بأجمعها لو ذكرت تكون مشوَّشة للذِّهن، وقد تخلو كثير منها عن الثَّمرة العمليَّة.

فلابدَّ من الاقتصار على ما سُلِّم به عربيَّاً في القواعد الأدبيَّة مع وجود ما نصَّ عليه في مجال ما ينفعنا في المجال الأصولي الآتي كذلك.

أمَّا استعمال اللَّفظ المشترك وهو مفرد لأكثر من معنى فقد أجازه صاحب المعالم قدس سره مطلقاً، لكنَّه في المفرد مجاز وفي غيره حقيقة، ومنعه نوع المتأخِّرين مع بعض من

ص: 301

عاصره.

وقد استدلَّ في المعالم على تجويزه بما مضمونه بانتفاء المانع من استعمال المشترك في أكثر من معنى وهو ما يأتي الآن من بطلان ما يتمسَّك به المانعون من الاستعمال.

حيث احتجَّ المانعون مطلقاً: بأنَّه لو جاز استعماله فيهما ك- (الجون) و (القرء) معاً لكان ذلك بطريق الحقيقة، إذ المفروض أنَّه موضوع لكلِّ واحد من المعنيين وأنَّ الاستعمال في كل واحد منهما وإذا كان بطريق الحقيقة يلزم كونه مريداً لأحدهما خاصَّة غير مريد له خاصَّة وهو محال في إرادتهما معاً للزوم اجتماع النَّقيضين كما لا يخفى.

وأجابهم بما مضمونه أيضاً: بأنَّ هذا من المانعين مطلقاً مناقشة لفظيَّة، لكون المجوِّزين لا ينكرون ما ذكره المانعون من امتناع استعماله في مفهوميه حقيقة، لكون المراد نفس المدلولين معاً لا بقاؤه لكل واحد منفرداً فيصح قولنا (القرء) بكلا معنييه وهما الطُّهر والحيض من صفات النِّساء و (الجون) بكلا معنييه وهما الأبيض والأسود من صفات الجسم، وبهذا يكون المحصَّل أنَّ ببطلان دليل المانعين مطلقاً يثبت الجواز بلا إشكال.

لكن يمكن أن يورد على المعالم حيث أطلق في جوازه لوجود حالة منع في بعض الألفاظ المشتركة كالأمر المشترك وهو أفعل بين الوجوب والتَّهديد، إذ أنَّهما لم يجتمعا إلاَّ مع أفرادأحدهما عن الآخر فلا اطلاق كما يقول قدس سره، بل مع التَّقييد بإمكان الجمع، وهنا لا إمكان بل إنَّ الاجتماع ممنوع.

وبهذا يكون من حق المانعين أن يجروا منعهم فيما لا يمكن الجمع فيه إلاَّ فيما ذكرناه سابقاً من حالات الاختبار والتَّعمية والإبهام أو إمكان الجمع بين الوجوب والتَّهديد في صيغة افعل لإشعار الابن مثلاً بوجوب الصَّلاة وتهديده في آن واحد قرب انتهاء الوقت إن اقتضى الأمر لهذا الجمع فهو ثابت وإن ندر.

وقد استدلَّ على المنع من المتأخِّرين المحقِّق الأصبهاني قدس سره بما نصُّه:

(أنَّ حقيقة الاستعمال إيجاد المعنى في الخارج باللَّفظ حيث أنَّ وجود اللَّفظ في

ص: 302

الخارج وجود لطبيعي اللَّفظ بالذَّات ووجود لطبيعي المعنى بالجعل والمواضعة والتَّنزيل لا بالذَّات، إذ لا يعقل أن يكون وجود واحد هو وجود الماهيَّتين بالذَّات، وحيث أنَّ الموجود الخارجي بالذَّات واحد فلا مجال بأن يقال وجود اللَّفظ وجود لهذا المعنى خارجاً ووجود آخر لمعنى آخر كي ينسب إلى الآخر بالتَّنزيل ...إلخ)(1).

وقال ناقل قوله قدس سره أنَّ ما ذكره يرجع إلى أمور:

الأوَّل: أنَّ الوجود الحقيقي واحد وهو وجود لطبيعي اللَّفظ بالذَّات ولا يمكن أن يكون ذلك الوجود الواحد وجود الماهيَّتين متباينتين بالذَّات.

الثَّاني: أنَّ الوجود الواحد لا يمكن أن يكون وجوداً تنزيليَّاً لهذا المعنى ووجوداً تنزيليَّاً لمعنى آخر.

الثَّالث: أن الاستعمال عين إيجاد المعنى بالوجود اللَّفظي مستقلاًّ، والاستغلال في الإيجاد التَّنزيلي يقتضي الاستغلال في الوجود التَّنزيلي، لأنَّ الإيجاد عين الوجود.

وأورد على هذه الأمور أحد الأعلام المعاصرين(2) ما حاصله:

أمَّا الأمر الأوَّل فهو واضح بداهة أنَّ الوجود الواحد لا يمكن أن يكون وجوداً بالذَّات لاثنين.

وأمَّا الثَّاني: فيرد عليه أنَّ تعدُّد الوجود التَّنزيلي للفظ لا يستلزم تعدُّد وجوده الحقيقي، لأنَّ الوجود التَّنزيلي وجود اعتباري فيكون موطنه الذِّهن، وأمَّا الوجود الحقيقي فهو وجود واقعي فيكون موطنه عالم العين والخارج.

وعلى هذا الأساس أنَّه لا مانع من وجودات اعتباريَّة تنزيليَّة متعدِّدة لوجود واحد لفظي حقيقي، ولا يلزم من تعدُّد الوجود الاعتباري تعدُّد الوجود الحقيقي، فما ذكره من أنَّ الوجود التَّنزيلي عين الوجود الحقيقي وتعدده يستلزم تعدُّده لا يرجع إلى معنى

ص: 303


1- نهاية الدراية:1/64.
2- المباحث الأصوليَّة ج1 ص 314 - 315.

محصَّل.

وأمَّا الأمر الثَّالث فيرد عليه أنَّه إن أريد بكون حقيقة الاستعمال إيجاد المعنى باللَّفظ جعل وجود اللَّفظ وجوداً تنزيليَّاً للمعنى فقد تقدَّم أنَّ لا مانع من جعل وجود اللَّفظ وجوداً تنزيليَّاً لأكثر من معنى واحد.

وإن أريد بذلك كون اللَّفظ مرآة للمعنى وأداة لإحضاره فقد تقدَّم أن لحاظ اللَّفظ آليَّاًومرآتيَّاً ليس من مقوِّمات الاستعمال.

وإن أريد بذلك فناء وجود اللَّفظ في وجود المعنى فقد تقدَّم أنَّه لا يرجع إلى معنى محصَّل.

فالنَّتيجة أنَّ ما أفاده المحقِّق الأصفهاني قدس سره في وجه استحالة استعمال اللَّفظ في أكثر من معنى واحد غير تام.

أقول: وهذا ممَّا يزيد في الطمئنة أكثر بما ذكرناه في الجواز، ولكن مع قيد الإمكان بما ذكرناه في اللَّفظ المفرد، ليكون التَّصحيح لما ذكره الأصفهاني قدس سره من الاستحالة مقبولاً في الجملة لا كالإطلاق الَّذي ذكره صاحب المعالم قدس سره أيضاً.

ولعلَّ بعض المانعين الآخرين من المتأخِّرين يمكن علاج أمرهم بما ذكرنا كما أشرنا سابقاً.

وأمَّا ذلك في التَّثنية والجمع، فدليل جوازه في المعالم فيهما كونه حقيقة فيهما، لأنَّهما في قوَّة تكرير المفرد بالعطف، فإنَّ قول القائل (جاءني الرَّجلان) في قوَّة (جاءني رجل ورجل) وهكذا فيما نحن فيه كقولك (رأيت عينين أو أعيناً) أي (رأيت عيناً وعيناً وعيناً).

أقول: والظاهر عنده اعتبار الاتِّفاق عنده في اللَّفظ دون المعنى في المفردات، أي بلا تواطٍ مسبق وهو صحَّة أن تكون التَّثنية والجمع في مثل العينين أو الأعين حتَّى لو اختلفت عين عن عين في المصداق لا خصوص العينين أو العيون الباصرة مثلاً للجميع

ص: 304

وهو ما قد نستفيده أيضاً من إطلاقه في الجواز وإن ناقشناه فيه.

ولو احتجَّ بدليل المنع المطلق ليشمل التَّثنية والجمع كذلك فقد بيَّنا جواب صاحب المعالم قدس سره بالمناقشة اللَّفظيَّة الَّتي لا تنفيهما كذلك وإن حدَّدنا نحن مجال الجواز في خصوص ما يمكن وأعطينا الحق للقائل بالمنع في جملة ما لا يمكن.

الرَّابع: مبحث المشترك المعنوي أو ما يسمَّى بالمتَّرادف

اعلم أنَّ أهل العلم قسَّموا المشترك إلى قسمين إلى المشترك اللَّفظي، وقد أنهينا ما يلزم ذكره عنه.

وجاء دور الحديث عن الثَّاني وهو المشترك المعنوي.

وهو أن يكون اللَّفظ موضوعاً لمعنى وحداني، وهو الكلِّي الَّذي تندرج تحته أفراد ومصاديق وذلك كما في لفظ الإنسان مثلاً، فإنَّه موضوع للمعنى الكلِّي العام وهو كلِّي الحيوان النَّاطق الَّذي له أفراد متعدِّدة ومصاديق متكثِّرة.

ومن ذلك يمكن أن يترادف الإنسان أيضاً مع البشر تحت كلِّي الحيوان النَّاطق، كما ينضوي تحت كلِّي الإنسان بتساوي مثل (محمَّد وعلي وحسن وحسين) وهكذا.

وهذا القسم لم يكن مثل القسم الأوَّل الَّذي اختلفت فيه الأقوال، إذ لا خلاف في إمكانه ووقوعه حتَّى قال المدقِّقون أنَّه لا يصغي إلى مقالة من أنكره وبالخصوص في اللُّغة العربيَّة.

ولا فرق في هذا المعنى بين أن يوضع له ما ذكرناه من اسم النَّوع وهو الإنسان المنضويَّة تحته المصاديق المتعدِّدة أو الجنس والفصل المذكورين في مثال الحيوان النَّاطق المنضوي تحتهما كل من الإنسان والبشر ما دامت المصاديق مرتبطة بالقرينة المفهمة لا المعيِّنة للمراد.

نعم قد يشترك القسمان في حالة ما حقَّقناه في القسم الأوَّل من كون المشترك اللَّفظي

ص: 305

ممكن وواقع وبنحو الجواز لا الوجوب واللُّزوم وحالة ما اشتهر أمره بين العلماء في هذا الثَّاني أيضاً بلا معارض، فيكون في النَّتيجة كالأوَّل في أهميَّتهما في العلوم الأدبيَّة وفي اللَّغة العربيَّة وفي ذكرهما في مقدِّمات مباحث الألفاظ لعلم الأصول ووجودهما في نصوص المصدرين الشَّريفين وإن كان المجاز مقدَّماً على الاشتراك على ما سوف يتَّضح في الكلام عن الحقيقة والمجاز وبلا فرق في جوازه بين أن يكون الواضع حين الكلام عن نشأتهما واحداً بأن يضع شخص واحد لفظين لمعنى واحد أو لفظاً لمعنيين أو أن يكونا من وضع واضَعين متعدِّدين.

فعند تعدُّد الألفاظ للمعنى الوحداني وتعدُّد المعاني للفظ الواحد من الواضع الواحد أو المتعدِّد ولو بتكثُّر في طول الزَّمان يبرز القسمان كما حصل ذلك في لغتنا العربيَّة.

ولا ضير يخشى منه ما دامت القرائن المقاليَّة والمقاميَّة هي الَّتي تحل المشكل ويؤكِّدها حصول ما يخص المشترك المعنوي عند تفاوت المصاديق عند عدم التَّشخيص حتَّى لو يكون المترادفان تحت الكلِّي الواحد شيئاً واحداً لا ثاني له في الخارج ولو لاختلاف في منشأ التَّسمية للتَّفاوت الاعتباري.كما بين الإنسان والبشر إذا كان في الدقَّة موضوعيَّة ككون الإنسان مأخوذاً من النِّسيان وصدفة كان ذلك المصداق كثير النسيان، وكون البشر مأخوذاً من البُشر (بضم الباء وتسكين الشَّين) ضدَّ العبوس وكان للشَّرع وأصوله رأي خاص في المتعدِّد لو تفاوتا في أحد الوضعين.

لأنَّ حالة التَّفاوت لابدَّ أن تختلف بعضها في أحكام الفقه والقواعد الأصوليَّة، وكذا المشترك اللَّفظي لبروز حالة الاختلاف المصداقي أكثر كتفاوت عين الذَّهب عن عين الفضَّة.

ص: 306

الخامس: مبحث الحقيقة والمجاز

اعلم أنَّ من مقدِّمات المباحث المهمَّة الآتية هو الكلام عن الحقيقة والمجاز في باب الوضع والاستعمال فإنَّه ما خلت العلوم الأدبيَّة وبالأخص البيانيَّة البلاغيَّة والمنطقيَّة من مباحث ألفاظهما وكذا الأصول منها، لأنَّ من مهمَّات أنواع الدِّلالات هو دلالة اللَّفظ على معناه على نحو الحقيقة ودلالته عليه على نحو المجاز.

والحقيقة تعرف بأنَّها استعمال اللَّفظ فيما وضع له، لأنَّ المقوِّم لها هو الوضع والاستعمال كما سبق التَّركيز عليه في بابي الوضع والاستعمال.

والمجاز يعرف عند المشهور أنَّه استعمال اللَّفظ في غير ما وضع له بعلاقة ما وضع له مع وجود قرينة صارفة عن المعنى الموضوع له في الأساس الحقيقي والمقوِّم لاستعماله بهذا المعنى الثَّانوي أيضاً أمران:

العلاقة: وهي المناسبة القائمة بين ذلك المعنى الأصولي الحقيقي وهذا المعنى الثَّانوي المجازي.

والقرينة: وهي حال أو مقال يمنع بأحدهما من حمل اللَّفظ على معناه الأوَّلي.

فمثلاً لفظة الأسد موضوعة بالوضع الأوَّلي للحيوان الخاص المفترس، فإذا استعمل لفظة في نفس ما وضع له كان حقيقيَّاً فيه، وإذا استعمل في الرَّجل الشُّجاع فلا يصح استعماله فيه إلاَّ مجازاً بوجود الأمرين المذكورين وهما المناسبة الدَّائرة بين المعنى الأوَّلي والمعنى الثَّانوي وهي المسمَّاة بالعلاقة وبوجود القرينة المانعة من حمل اللَّفظ على معناه الأصولي كأن تقول عن المثال الماضي (رأيت أسداً يرمي) فتكون كلمة يرمي قرينة مانعة من حمل اللَّفظ على المعنى الأصولي وهو الحيوان المفترس وهذا هو ما يراه المشهور كما مرَّ ذكره.

وعليه يمكن تطبيق الأمر في المثال الخاص المناسب لبحوثنا الأصوليَّة الآتية كما في الصَّلاة الَّتي كانت في اللُّغة لمطلق الدُّعاء وبعد استعمالها موضوعة في إسلامنا العزيز

ص: 307

لذات الأركان الخاصَّة بنحو الحقيقة حين هجر المعنى الأوَّل وأريد نفس ذلك المعنى الأوَّل، فلابدَّ أنَّه إذا أريد دون الحقيقي من نصب القرينة الصَّارفة له دونه ولو مقاميَّة ككون الدَّاعي ولو إلى غير القبلة إذا سميَّته مصليَّاً، فإنَّ قرينة المقام لا تدل على أنَّ صلاته من ذات الإركان.

أمَّا في نظر من خالف المشهور ومنهم الشَّيخ الآخوند قدس سره فإنَّه لا يرى أنَّ صحَّة استعمال اللَّفظ المجازي موقوفة على العلاقة، بل يكفي في صحَّة الاستعمالات المجازيَّة وجود استحسان الطَّبع، فإذا استحسن الطَّبع استعمال اللَّفظ في معنى من المعاني المجازيَّة صحَّ ذلك الاستعمال من دون حاجة إلى تلك العلاقات المنصوص عليها عند علماء البيان المأخوذة من موارد استعمالات العرب.

وهذه تعد من الشَّيخ قدس سره مخالفة تاسعة للمشهور، وهي وإن كنَّا على أي حال نقولها من باب الإكبار لمقامه لنوع خدماته الجلَّى في الأصول، مع تمام الإكبار لمقام أهل المشهور أيضاً لسابقتهم في المعلومات المهمَّة وبإصرار.

لكن لا يعني من هذا أن لا مجال للإيراد على هذا الرَّأي مع تمام التَّوقير لأهل المقاماتالعلميَّة حينما يأتي مجاله.

ولذا نحن مع أهل الذَّوق التَّتبعي نرى أنَّ الاستعمالات المجازيَّة قد تكون مستهجنة عند الطَّبع أيضاً في مقابل ما يقوله أو يعتبره الشَّيخ قدس سره من الاستحسان الطَّبعي مع وجود أحد العلاقات المقرَرة الدَّاعية للاستهجان.

فإنَّنا لا نرى أنَّ الطَّبع يستحسن استعمال لفظ (النَّخلة) في الرَّجل الطَّويل بعلاقة الطول فيقول القائل (رأيت نخلة) أي رجلاً طويلاً وهذا أمر يشهد به الوجدان.

وكذلك يستهجن استعمال لفظة (الأسد) في رجل أبخر الفم بعلاقة هذه المشابهة في بخر الفم، فإنَّه لا شكَّ أنَّ الوجدان يرى قبح هذا الاستعمال إلاَّ أن يكون هذا الاستهجان الواضح في خصوص التَّحقير للمشار إليهما في المثالين تحقيراً من دافع

ص: 308

الاستحسان الطَّبعي من المعبِّر بذلك، مع أنَّ التَّحقير لم يستحسن ضدَّ كل أحد، ومن ذلك الأمثلة العامَّة الَّتي لم يحرز منها حصول الاستحسان إلاَّ بالتَّهجُّم على كل أحد مستحقَّاً أو غير مستحق.

ويمكن القول إضافة إلى ما ذكرناه عن الحقيقة والمجاز بأنَّ الكلام عنهما كان كالكلام عن الاشتراك اللَّفظي في أمر جواز أن تراد الحقيقة والمجاز معاً في مثال واحد وعدمه أم لا؟

وإن فضِّل المجاز على الاشتراك في بعض الأحوال، وهو ما يسمَّى بعموم المجاز كما كان الاشتراك يسمَّى بعموم الاشتراك إن قبل أن تراد الحقيقة والمجاز كما كان قبل ذلك الاشتراك فيما لو لم يرد قيد الوحدة، كما في مثال أن تريد بوضع قدمك في قولك (لا أضع قدمي في دار فلان) الدخول فيتناول دخولهما حافيين وهو الحقيقة وناعلاً أو راكباً وهو المجاز.

وبذلك تمَّ الجمع بين الحالتين كما مرَّ في باب الاشتراك، ومن الأمثلة مع ترك قيد الوحدة أيضاً قول (رأيت أسداً) ويراد به الحيوان المفترس مع الرَّجل الشُّجاع في آن واحد مع إلغاء قيد الوحدة.

ويمكن الجمع بين قول المانعين إذا أرادوا من منعهم كونه مع الوحدة، وقول المجوِّزين مع إلغائها بكون النِّزاع بينهما لفظيَّاً كما في الاشتراك.

حيث أنَّ المانعين لا ينكرون ما جوَّزه المجوِّزون، إذ المراد من الاشتراك عندهم نفس المدلولين معاً لا بقاءه لكل واحد منهما منفرداً أي حال كونه مأخوذاً مع الانفراد والوحدة.

وأنَّ المجوِّزين لا ينكرون ما يريده المانعون من امتناع استعماله في مفهوميَّة حقيقة.

والحاصل أنَّهم يجوِّزون استعماله في كل واحد منهما مسلوباً عنه الوحدة تجوزَّاً والمعارضون لم ينكروا ذلك فلا تعارض بين الجانبين في الحقيقة.

ص: 309

وعلى فرض عدم التَّساوي بين الاشتراك والمجاز لكون المجاز لا يحمل إلاَّ معنى واحداً والاشتراك ربَّما يحمل أكثر من معنى في آن واحد؟

فهنا يجيء المجال للقول عند اجتماع الاشتراك والمجاز في مثال واحد، بأنَّه ينبغي الحمل على خصوص المجاز الَّذي يحمل معنى واحداً وهو المجاز فهو المقدَّم على الاشتراك، لأنَّه خير منه كما قيل عند أهل الأدب البياني، لأنَّ فهم المعنى الواحد أيسر للفكر من فهم المعنى من اللَّفظ المشترك.توضيح ذلك: أنَّ الأوَّل وهو المجاز مع القرينة الصَّارفة عن المعنى الحقيقي لا يحمل غير ذلك المعنى المجازي المصاحب لها، لوحدانيَّة المعنى المنصرف عن الحقيقة وجداناً ولو بالمصداق المجازي الواحد حتَّى في عموم المجاز، لعدم الحاجة إلى الاهتمام بالحاجة إلى التَّفكير بالأكثر وإن احتمل تعدُّده للاكتفاء بالواحد.

بينما الاشتراك اللَّفظي في مثل الجون والقرء والعين ونحو ذلك وإن لزم أن تصاحبه القرينة المعيِّنة للمراد لتمييز الأسود عن الأبيض في المثال الأوَّل، وتمييز الطَّهارة من الدَّم أو الحدث عن حالة الحيض في الثَّاني وتمييز عين البصر عن عين الماء في الثَّالث وهو فيه معنى الوحدة المشابهة للمجاز، وإلاَّ لا داعي للقرينة المعيِّنة للمراد.

لكن مرَّ في باب الكلام الخاص عن الاشتراك أنَّ أهل المعاني لم يستبعدوا توفُّر حصول مصداقين أو أكثر من لفظ واحد مختلف في المصداق في الأفراد والتَّثنية والجمع كعين وعينين وعيون مع الحاجة إلى تلك القرينة لإفراز معنى عن الآخر المغاير، وهو ممَّا قد يُعرقل بعض الفهم في لغة التَّخاطب السَّهلة في مثل المجاز.

لأنَّ قولنا (زيد أسدان) أو (أُسود) مع القرينة لا يُراد منه إلاَّ مضاعفة الشَّجاعة وهو معنى واحد أو (عين زيد عينان) أو (ثلاثة) بمعنى قوَّة النَّظر أو كالغدران من الدُّموع عند البكاء أو الحسَّاسيَّة المدمعة وفي القضايا الشَّرعيَّة الَّتي لا تبتعد عن أدلَّتها الملازمة لها كقول الفقيه (إقراء المرأة لها أحكامها)، سواء قصد من ذلك خصوص

ص: 310

معنى الحيض في كل شهر لو تفاوتت العدديَّة عن الوقتيَّة، أم اجتمع الطهر مع الحيض في الأشهر فلا وجه لمنع بعضهم.

وأمَّا إذا أريد عدم تشخيص أفراد المشترك بنيَّة أن يراد من هذا اللَّفظ هو المسمَّى فلا مانع من أن يراد منه المعنى المجازي، لما مرَّ من ترجيح المجاز على الاشتراك لو اجتمعا باصطلاح أهل المعاني والبيان بأنَّ المجاز خير من الاشتراك.

يُلحق بذلك علامات الحقيقة

ونظراً إلى أنَّه لم تكن الحقيقة بمعزل عن الحاجة إلى بعض العلامات الخاصَّة لتسهيل أمر وضوحها ولو كعوامل ذهنيَّة مساعدة محلاَّة بسرعة الالتفات، لإبراز النُّصوص والظواهر في حقائقها الَّتي وضعت لها عند العجز عن تشخيصها مميَّزة عن مجازاتها تلك النُّصوص والظواهر وإن كانت المشتركات اللَّفظيَّة والمعنويَّة والمجاز تحتاج إلى القرائن بصورة أكثر، فلابدَّ من الاهتمام بها والحديث حولها واحداً واحداً كما اهتمَّ السَّلف المحترم بها.

وهذه العلامات هي:

1 - التَّبادر. 2 - عدم صحَّة السَّلب أو صحَّة الحمل. 3 - الاطِّراد.

4 - تنصيص الواضع. 5 - تنصيص أهل اللُّغة.

وإن أمكن أن يقال بعدم الحاجة إلى بعض هذه العلائم إنَّه لا ثمرة عمليَّة في البحث عن جميعها بعد أن كان الكتاب والسنَّة يحملان في ألفاظهما ومضامينهما ما فيه القدر المتيقِّن من العلم بها من بحوثهما العلميَّة.

فإنَّه يقال وإن كان هذا صحيحاً - في بعض المعلومات القرآنيَّة وما يتعلَّق بها من

ص: 311

السنَّة الشَّريفة لو أكتفي بذلك عن الحاجة إلى المزيد إلى أن يظهر الإمام المنتظر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ فيعرِّفنا بالكامل إن كان أو في الجملة كذلك في مثل خصوص الشَّرعيَّات الفقهيَّة ومبانيها بناءاً على الانسداد الصَّغير الَّذي منيت به الأمَّة على ما سوف يتَّضح -

إلاَّ أنَّه - وإن كنَّا لم نبن على صحَّة العمل بجميع هذه العلائم إلاَّ ما أتقن أمره منها ممَّا حوته قواميس اللُّغة عند بعض الانسداد - لابدَّ أن يحتاج ولو إجمالاً إلى تشخيص ما قد يزيد على ذلك القدر المتيقَّن من محتملات ما يمكن العثور عليه إن ساعدت المواهب الأدبيَّة حسبما تساعد عليه الأصول المتَّفق على صحَّتها وإن كانت صناعيَّة لانعقاد الأمل الوطيد إلى ما يزيد باستفراغ الوسع حسب الوظيفة الشَّريفة الَّتي خُوِّل بها الفقهاء الأصوليُّون من قبل الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ في هذه الغيبة الكبرى، إذ ما خفي على فقيه طريق.

إذن فالثَّمرة غير مستحيلة ولو في الجملة.

العلامة الأولى: التَّبادر

إنَّ من جملة ما ذكروه عوضاً عن القرينة - ولو كعامل ذهني نابع من العلم بحاق اللَّفظ تقل رتبته كثيراً عن الحاجة إلى القرينة الَّتي لا وجه لها في عموم الأوضاع والاستعمالات اللُّغويَّة الحقيقيَّة والَّتي لم يُتصدَّ لاستعمالها إلاَّ في غير ما وضعت له الألفاظ أو ما استعملت الحقائق في خصوص ما وضعت له كما في حالتي التَّعيين الأوَّل الَّذي لم يأت بعده تعيين آخر ينسخه أو يقل استعماله فيه أو يكون في مقابله بمستوى واحد أو التَّعيُّن الأوَّل المرتبط بكثرة الاستعمال لو لم يكن بعده ما سبق ذكره في حال التَّعيين ما يزعزع حقيقته ومنه ينجر الكلام إلى ما به الابتلاء الأكثر المرتبط بالنَّصوص الشَّريفة كتاباً وسنَّة عند الحاجة إلى الفهم -

هو المسمَّى ب- (التَّبادر)، أو ما يصح أن يُعبَّر عنه مكانه من سبق المعنى من اللَّفظ إلى

ص: 312

ذهن السَّامع، لأنَّهم ساووا بين الحالتين على ما هو الصَّحيح أو حتَّى المتكلِّم نفسه الَّذي لم تأثِّر على ذهنه غير الحقيقة الموضوع لها اللَّفظ أيضاً، إمَّا من قِبل وضعه لذلك اللَّفظ أو وضع مجتمعه، وسواء كان ذلك من الوضع القديم أو الحديث وإن تفاوت ما في ذهنه عمَّا في ذهن السَّامع ولو في الجملة على ما سيتَّضح أمره في الكلام التَّابع لعلامات الحقيقة وهو (تعارض الأحوال) كتنصيص أهل اللُّغة وغيره.

إذ ربَّما يحتاج إلى الاستعانة بمثل هذا المساعد على التَّركيز التَّشخيصي لأجل الخوف من احتمال انحشار شيء حقيقي غير المتبادر إليه لو لم يتساو معه بمثل التَّرادف، فإن لم يظهر ذلك من التَّبادر - لقوَّة العلاقة بين اللَّفظ والمعنى ولو من التَّعوُّد بتكرار اللَّفظ واستحضار المعنى المنسي لغير المعنى الحقيقي الَّذي لم يغفل عنه وإن لم يكن النَّاطق به هو الواضع - فمن السَّبق إلى الذِّهن عند إرادته لأنَّهما شيء واحد حسب المتعارف.

فلا شكَّ عندهم حينئذ - بين حالة المستعلم بعد إن كان جاهلاً إذا كان في فطنته وذكاءه الطَّبيعيِّين وبالأخص عند أهل المحاورة المتعارف بينهم عند تداول الأحاديث أن لا يتلكؤوا في الألفاظ وفهم معانيها الحقيقيَّة حين التَّداول كغير الفطنين وغير الأذكياء --

أنَّ هذا التَّبادر وما هو مثله أنَّه من علائم الحقيقة، لأنَّ إنسباق المعنى إلى الذِّهن من اللَّفظ ينحصر في أمرين إمَّا الوضع له حقيقة بلا قرينة أو لاستعمال اللَّفظ فيه مجازاً بالقرينة وهو ما يخالف الحقيقة.

وحيث فرض أنَّه لا قرينة فلابدَّ وأن يكون للعلم بالوضع الأساسي، سواء كان اللافظ هو الواضع أو العالم بوضعه كالنُّصوص القديمة الَّتي جاءت بواسطة الوحي.

وقد تواتر بين أهل العلوم الأدبيَّة ومحقِّقي اللُّغويِّين المعتمدين بين كافَّة علماء المسلمين بل وحتَّى غيرهم توفُّر الحقائق المميَّزة عن المجازات ونحوها ولو في الجملة النَّفيسة الَّتي لا تخفى على أهل الحل والعقد من الفقهاء والأصوليِّين وعلى الأخص

ص: 313

كثيراً الَّذين قد أتعبوا أنفسهم فيه من نصوص الكتاب والسنَّة طول التَّأريخ العلمي الحوزوي وعرضه، ودلَّت على ذلك موسوعاتهم المهمَّة.

ولكن قد يُثار الإشكال حول هذا وهو العلم بالوضع، فيمكن أن يقال فيه كيف يكون علامة مع توقُّفه على هذا العلم بأنَّه موضوع له كما لا يخفى، فلو كان العلم به موقوفاً عليه وهو نفسه لدار؟ والدَّور مسلَّم الاستحالة.

ولكن يمكن أن يجاب على هذا الإشكال:

بعدم التَّساوي بين العلمين ومع عدم هذا التَّساوي لا دور، فإنَّ العلم التَّفصيلي بكونه موضوعاً له موقوف على التَّبادر، وإلاَّ لحصل لعامَّة النَّاس مع تفاوتهم في الذِّهنيَّة والإحاطة اللُّغويَّة، ولا شبهة في أنَّ لا يحصل هذا التَّبادر في لغة العرب لغير العربي ومن عايشهم وتعلَّم مثلهم كاملاً من غيرهم أو أزاد كما لا يحصل للعربي في اللُّغات الأخرى حيث لم يكن من أهل تلك اللُّغات أيضاً ولم يتعلَّم مثلهم.

وهذا التَّبادر موقوف على العلم الإجمالي الارتكازي به لا التَّفصيلي فلا دور، وهو في وضوحه بين العلم التَّفصيلي والإجمالي إذا أريد به التَّبادر عند المستعلم غير بعيد في تعارفه،لكونه أصبح من أهل اللُّغة المقصودة فكيف بالواضع أو العالم.

وأمَّا إذا أريد به التَّبادر عند أهل المحاورة كما أشرنا فالتَّغاير أوضح من أن يخفى، لأنَّ ما يتوقَّف على التَّبادر هو علم المستعلم بالوضع ويكفيه علمه الإجمالي وما يتوقَّف عليه التَّبادر هو علم أهل المحاورة وبتوجيه آخر أدق وهو أنَّ العلم الإجمالي يطلق على معان:

منها: كون العلم بالعلم علماً إجماليَّاً بالمعنى الخاص وإن لم يغفل صاحبه عن تفصيله الكامل لو أراد ولكنَّه غير محتاج إليه.

ومنها: كون المعلوم بالتَّفصيل مردَّداً بين فردين أحدهما وهو العلم المخلوط بشيء من الجهل وهو العلم الإجمالي عند علماء الأصول كما مرَّت الإشارة إليه.

ص: 314

ومنها وهو الفرد الآخر: العلم الارتكازي وهو العلم الحاصل للنَّفس الَّتي غفلت عنه تلك النَّفس تفصيليَّاً أو تعمَّدت تركه لعدم الحاجة إليه اعتماداً على المرتكز، فإنَّ كثيراً ما يحصل للفرد علم ولكنَّه ليس له علم بعلمه يحتاجه تفصيلاً، وهذا هو المراد بالعلم الإجمالي المعروف في المقام وقد مرَّت الإشارة إليه كذلك.

وحينئذ يكون الأوضح من أن يخفى على الجميع أنَّ هذا التَّبادر يتوقَّف على هذا العلم الإجمالي وهو ما كان عند المستعلم وهو غير التَّفصيلي الَّذي عند أهل المحاورة، سواء علموا به وتركوه في محاوراتهم للاختصار أو تداولوا فيها على نحو التَّفصيل إن اقتضى الأمر ذلك.

ولذا إنَّ من ليس له هذا العلم لا يتبادر له شيء منه، فلا داعي لإثارة شبهة الدَّور في أمرهم.

وممَّن يرى هذا الرَّأي المحقِّق الآخوند قدس سره ، ولم يغفل عن مسايرته الفطاحل من الآخرين بلا داع للإطالة في هذا الأمر، وعلى هذا النَّهج سار اللامعون من الفقهاء والأصوليِّين في أدبيَّاتهم تجاه مصدري الكتاب والسنَّة والقواعد اللُّغويَّة.

وملخَّص ما مضى أنَّ التَّبادر إنَّما يكون علامة للحقيقة لو أحرزت الحقيقة وحدها من حاق اللَّفظ، أمَّا لو لم تحرز واحتمل إرادة غير المعنى الموضوع له اللَّفظ فلابدَّ لإرادة المعنى المجازي من وضع القرينة الصَّارفة له عن الحقيقة، وإلاَّ لتساوي المجاز والحقيقة في صدق التَّبادر دالاًّ عليهما معاً، وهو مخالف للقواعد الأدبيَّة الموضوعة للتَّفريق بين الحالتين لاختلافهما الواضح، وعند الشَّك مع احتمال إرادته لا تجدي أصالة عدم القرينة، لأنَّ انحصار ما يمكن أن يكون مستنداً لأمرين في أحدهما وهما القرينة وعدمها في خصوصه إنَّما يكون بعدم الآخر.

نعم لو كان الشَّك موجوداً أيضاً بلا وجود لهذا الاحتمال ولم تكن القرينة على خلاف الحقيقة موجودة لوصول الأمر إلى الرُّجوع إلى أصالة الحقيقة الآتي ذكرها قريباً.

ص: 315

ولو قيل بعدم إمكان الاستثمار من هذا البحث لكونه نظريَّاً وغير عملي؟

لقلنا بأنَّ مثل التَّبادر يمكن تصوًّر إفادته، بل التَّصديق بها في علاج أمر الحقيقة واستكشافها عن طريقه، لكثرة ما يمر على الفقيه والأصولي عند انسداد باب العلم الإجمالي من واضحات النَّصوص الشَّريفة ممَّا يميز فيه أمر التَّبادر عن غيره من الفقهيَّات بيسروسهولة كما عرض للسيِّد الخوئي قدس سره من التَّجربة العمليَّة بمضمون ما ذكر عنه(1) بكون التَّبادر من لفظ البيع عرفاً عند الإطلاق هو اختصاص المعوَّض بالأعيان دون المنافع.

أقول: لكون الأخير مخالفاً لما يتبادر الذِّهن إليه، إضافة إلى عدم تصحيح بعض الفقهاء بيع المنافع كما هو الحق، لكون الأعيان حين هذا البيع تكون مسلوبة المنفعة ببيع منافعها دون أعيانها وإلى ما لا نهاية كبيع الأعيان وعليه لو أريد من هذا بيع المنافع فقط لكان ممَّا يحتاج في صدقه إلى القرينة الصَّارفة عن الحقيقة.

وقال بهذا المضمون جملة أخرى من العلماء، وإنَّ المنافع حقَّها أن تستأجر دون أن تباع، ولذا تكون القرينة عند عدم الوضوح صعبة المنال بل لم تساعد عليه الأدلَّة الشَّريفة حتَّى عند استفراغ الوسع.

الثَّانية: صحَّة الحمل أو عدم صحَّة السَّلب

وهي المعروضة في الكفاية - ومن سار على نهج صاحبها قدس سره ومن أيَّده في الذِّكر كما ذكرت في علم المنطق وعلم المعاني والبيان والأصول - بأنَّها من علائم الحقيقية كالتَّبادر ما دامت تصدق اية على الحقيقة، كما وضعت ألفاظ هذا الأمر عربيَّا في القديم أو في لساني الكتاب والسنَّة أو الألفاظ الموضوعة من هذا أو ذاك من دون قرينة مخالفة

ص: 316


1- مصباح الفقاهة ج2 ص14 تحقيق جواد القيومي الأصفهاني.

للحقيقة، فإنَّ صحَّة الحمل في المقام على نحوين:

الأوَّل منهما: سمَّوه بالحمل الأوَّلي الذَّاتي، ومثاله ما يتَّحد فيه الذَّات والمفهوم معنى عند الحمل فضلاً عن المصداق، ويختلف أحدهما عن الآخر في الاعتبار اختلاف الإجمال عن التَّفصيل، كما في قولنا في تعريف (الإنسان) لتعريفيه الحقيقي بأنَّه (حيوان ناطق) باعتبار كون الإنسان مجملاً وحيوان ناطق مفضَّلاً، وعليه يكون الإنسان مستعملاً في نفس ما وضع له من المعنى وهو الحيوان النَّاطق المسمَّى بالحمل الأوَّلي.

والثَّاني منهما: سمَّوه بالحمل الشَّايع الصِّناعي، وملاكه الاتِّحاد الوجودي الخارجي، والتَّغاير المفهومي كما في قولنا (زيد إنسان)، فإنَّ الموضوع في هذا المثال وهو (زيد) متَّحد مع المحمول مصداقاً وخارجاً وهو الإنسان وإن كان بينهما مغايرة مفهوميَّة، لأنَّه لا يزيد عن إنسانيَّة غيره من الأفراد ولا ينقص عنها، لأنَّ كل أفراد بني الإنسان متساوون في الإنسانيَّة كما كان الإنسان بكلِّه وكليَّته مساوياً لتعريفه الماضي في التَّبادر وهو (الحيوان النَّاطق).

كما أنَّ معنى صحَّة الحمل في الحملين - الأوَّلي والصِّناعي - لا يختلفان في المعنى عن عدم صحَّة السَّلب، فإذا ما صحَّ تعريف الإنسان بأنَّه حيوان ناطق ارتباطاً بالوضع الحقيقي لمَّا كان مرتكزاً في الذِّهن فإنَّ الأمر نفسه لابدَّ وأن يعني عدم صحَّة سلبه عنه، وهكذا لو صحَّ تعريف زيد بأنَّه إنسان فإنَّه يصح فيه معنى عدم إمكان السَّلب عنه.

كما أنَّ صحَّة سلبه عنه علامة كونه مجازاً في الجملة، لعدم انسجامه مع الحقيقة إلاَّ مع القرينة أي لا دائماً، يعني إذا لم يتصادق المحمول والموضوع أصلاً وصحَّ سلب أحدهما عن الآخر حقيقة فلابدَّ أن يكونا من المتباينين، لعدم الشَّك في أنَّ استعمال أحد المتباينين في الآخر من المجاز إذا لم يكن غلطاً، كما في صحَّة السَّلب بنحو الجامع بين الحمل الأوَّلي والكلِّي وفرده، كما في مثال الشَّائع الماضي ذكره علامة إنَّ كلاًّ منهما غير متَّحد مع الآخر ماهيَّة ولا أحدهما متَّحد مع الآخر بحصَّة منه، فلابدَّ وأنَّ مبدأ كل

ص: 317

منهما مباين مع مبدأ الآخر.

فإنَّ حمل أحدهما على الآخر باعتبار أنَّه عينه أو متِّحد معه بحصَّة منه كان استعمالاً مجازيَّاً، فإنَّ استعمال (الضَّاحك) في مفهوم الكاتب لا شكَّ أنَّه مجاز.

وكذا الأمر في حمل الإنسان على زيد إذا أريد انطباق الإنسانيَّة كلُّها على خصوص زيد دون الغير كالمبالغة.

وقد أورد على هذا الثَّاني من علامات الحقيقة ما توهَّموه من الدَّور كما توهَّموه في الأوَّل وهو التَّبادر فقالوا بما مضمونه:

كيف يكون صحَّة الحمل أو عدم صحَّة السَّلب علامة للعلم بالحقيقة بعد أن كان هذا العلم موقوفاً على العلم بكونه حقيقة فيه؟.

وكان الجواب هو نفس ما تقدَّم في أمر التَّبادر وهو:

أنَّ صحَّة الحمل تتوقَّف على العلم الإجمالي الارتكازي، وما يتوقَّف على صحَّة الحمل هو العلم التَّفصيلي بأنَّه حقيقية فيه، وهذا بالنِّسبة إلى صحَّة الحمل عند العالم نفسه باللُّغة، وأمَّا كون صحَّته عند الجاهل بها فتدل على الحقيقة عند المستعلم بأمورها بعد جهله ثمَّ علم فارتفاع الدَّور فيه أجلى وضوحاً.وهكذا في أمر عدم صحَّة السَّلب وعدمهما، لأنَّه المؤكَّد لصحَّة الحمل كما عليه الشَّيخ الآخوند قدس سره ومن سار على منواله.

دفع لوهمين حول كلا العلامتين

بعد منع الدَّور الماضي عن العلامتين وهما التَّبادر وصحَّة الحمل ذكر أحد الأعلام المهمِّين ما مضمونه بأنَّه يمكن قبول كل من العلامتين علامة على الحقيقة لكن في مستوى الثُّبوت دون الإثبات وهو خلاف الغرض المنشود من أصل تدوين الأصول النَّافعة، فقد أفاد الشَّيخ العراقي قدس سره:

ص: 318

(أنَّه لا فائدة عمليَّة لعلامات الحقيقة لأنَّ البحث فيها إنَّما ينتج بناءاً على كون مدار حجيَّة اللَّفظ على أصالة الحقيقة تعبُّداً وهي الجارية حتَّى مع عدم انعقاد الظهور الفعلي ولو لاتِّصال الكلام بما يصلح للقرينة المانعة عن انعقاد الظهور والدِّلالة الفعليَّة ولو التَّصوريَّة فضلاً عن التَّصديقيَّة).

ثمَّ قال (إذ الظهور في مورد لا يجدي بالنِّسبة إلى مورد لا ظهور فيه ولو لاتِّصاله بما يصلح للقرينة، وحينئذ لا يرى لمثل هذا البحث نتيجة عمليَّة كما لا يخفى)(1).

أقول: وقال بمقالته بعض أعلام آخرين، ولكن يمكن الاكتفاء بالقول جواباً أنَّه:

لا شكَّ في أنَّ مرجع انعقاد الظهور للفظ في معناه الموضوع له - من أهل العرف إلى معرفة الوضع - يفتقر إلى علامات الوضع فالتَّبادر وصحَّة الحمل يكونان مقتضيين لمعرفة الوضع ومعرفة الوضع تستدعي انعقاد الظهور العرفي، ومن هنا يتَّضح انكشاف أنَّ لهذا البحث فائدة عمليَّة.

ولعلَّ عدم اعتبار رضا الشَّيخ قدس سره أن يكون لعلامات الحقيقة ثمرة عمليَّة هو من جهة البعض المناقش فيه منها لا جميعها كما سيتَّضح والله العالم.

الثَّالثة: الاطِّراد وعدمه

فقد ذكروا من علامات الحقيقة والمجاز الاطِّراد وعدمه، فالأوَّل للحقيقة والثَّاني لعدمها وهو المجاز.

وقد اكتفى البعض بالاقتصار على الاثنين الماضيين، لمألوفَّيتهما في الذِّكر بحثاً أو بحثاً واستثماراً منهما في أخذ معلومات النُّصوص الشَّريفة أكثر من الأخريات وإن نوقش فيهما كما مرَّ وترك الباقي كهذا الثَّالث أو الرَّابع وهو تنصيص الواضع أو

ص: 319


1- ملخَّص ما أفاده من مقالات الأصول ج1 ص 114 ط 3 مطبعة باقري.

الخامس وهو تنصيص أهل اللُّغة الآتي بيانهما، ليكون عند انغلاق باب النُّصوص الرُّجوع إلى قواميس اللُّغة.

ولأجل البت بما يناسب هذا الموضوع في أنَّه يناسب كونه من علامات الحقيقة أم لا؟

وعلى فرض قبوله أن يكون منها فإنَّ عدمه وهو عدم الاطِّراد لابدَّ أن يكون معاكساً لهذه العلامة لأنَّه يتناسب مع المجاز وبما أنَّ ترك البعض لهذا الثَّالث في الذِّكر، ولعلَّه لعدم الاعتناء به أو لوجود الاختلاف فيه حيث وجَّه أمره إلى أربع معانٍ يختلف بعضها عن البعض الآخر بما لا ينسجم حتماً ليكون مناسباً لقبوله علامة دالَّة على الحقيقة أو كان أحدها الخاص مثلاً مناسباً ليكون علامة دالَّة عليها ليرفض الباقي مع إمكان الاجتماع بين هذه الخمسة لا من حيث الاختلاف وإنَّما من جهة الشُّيوع الأكبر.

وأمر قبول ذلك وعدمه - من الجميع أم من البعض - مرهون بذكر هذه المعاني واحداً بعد الآخر ليتبيَّن الحق من غيره أو أن يرفض الجميع ليمحى الاطِّراد من علامات الحقيقة الأربعة المذكورة في طليعة بحث العلامات، وهي:

الأوَّل من المعاني: قول البعض بأنَّ المراد من الاطِّراد تكرار الاستعمال في معنى منالمعاني.

ولكن يمكن ردُّه إذا لوحظ منه الإطلاق في العبارة بأنَّه إن أريد به تكرار صحَّة استعمال لفظ في ذلك المعنى، فإنَّ من بداهة صحَّة هذا الاستعمال فيه مرَّة يتسبَّب تصحيحه مرَّات عديدة من دون فرق في ذلك بين الاستعمال الحقيقي والمجازي.

وبهذا يتبيَّن أنَّ هذه العلامة وهي الاطِّراد المفترض كونها علامة على الحقيقة صارت مساوية لما يعاكسها وهو عدم الاطِّراد وهو مرفوض في أن يكون الاطِّراد وعدمه.

وإن أريد به كثرة الاستعمال في معنى في موارد مختلفة بحيث يحصل استعماله فيه من

ص: 320

الكثرة بدرجة الشُّيوع عند العموم كما ذكرنا، ففي ذلك لا يبعد أن يكون ذلك علامة على الحقيقة، لأنَّ كثرة الاستعمال إذا كانت مطَّردة في مختلف الموارد فلابدَّ أن تكشف عن الوضع.

إذ لا يحتمل أن تكون جميع هذه الاستعمالات الكثيرة مجازاً مع القرينة وإلاَّ لم تطَّرد، ولو وقع التَّخلُّف فلا محالة إذن أن يدور الأمر بين أن تكون جميع هذه الاستعمالات مجازاً أو حقيقة، والأوَّل غير محتمل عادة فيتعيَّن الثَّاني.

أقول: وهو نفس ما يطابق القواعد الأدبيَّة.

الثَّاني: ما سمَّوه باطِّراد التَّبادر، بأن يطلق المستعمل اللَّفظ الخاص مراراً عديدة وفي حالات وأوضاع مختلفة، كما لو تبادر من لفظ (الأسد) أنَّه الحيوان المفترس في كل موارد استعماله بدون أيَّة قرينة، فإذا كان التَّبادر بهذا النَّحو مطَّرداً كشف استناده إلى حاق اللَّفظ وصار مرتبطاً بكل ما يرتبط به التَّبادر في التَّمثيل.

وعليه لا يصلح الاطِّراد أن يكون علامة مستقلَّة على الحقيقة في مقابل التَّبادر.

الثَّالث: ما سمَّوه باطِّراد الاستعمال، ويراد به صحَّة استعمال اللَّفظ في معنى معيَّن في موارد مختلفة مع إلغاء جميع ما يحتمل كونه قرينة على إرادة المجاز.

وقد ذكر السيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره أنَّ هذا الأسلوب هو الطَّريقة الصَّحيحة المتَّبعة غالباً لمعرفة الحقيقة والوضع(1) فإنَّ الأطفال يتعلَّمون اللُّغات من الاطِّراد.

أقول: وهو الحق لأنَّ الانعكاس يربك أذهانهم والتَّجربة خير برهان.

الرَّابع: ما سمَّوه بالاطِّراد في التَّطبيق بلحاظ الحيثيَّة الَّتي أطلق من أجلها اللَّفظ كما إذا أطلق (الأسد) على حيوان باعتباره مفترساً وكان مطَّرداً في تمام موارد وجود حيثيَّة الافتراس فيكون علامة كونه حقيقة في تلك الحيثيَّة، علماً بأنَّ الأسد ينطبق دائماً على الحيوان المفترس ولم ينطبق دائماً على الإنسان إلاَّ على الشُّجعان من بنيه، فالأسد

ص: 321


1- محاضرات في أصول الفقه ج1 ص132.

حقيقة فيما اطَّرد فيه فهو الموضوع دون غيره، فالجبناء من بني الإنسان لم تطرد حيثيَّة الافتراس فيهم وهي حالة العدم المرتبطة بمعنى الحمل على المجاز مع القرينة.

وقد اعترض الشَّيخ الآخوند قدس سره على هذا الرَّابع مضموناً:

بأنَّ معناه في الاطِّراد يقتضي أن يكون ثابتاً في المعاني المجازيَّة كذلك إذا كان فيه يحفظ مصحِّح المجاز وإنَّما كان لم يطَّرد تطبيق استعمال الأسد في جميع الموارد المشابهة مع معناه الحقيقي لعدم كفاية مطلق الشَّبه في تصحيح المجاز، بل لابدَّ من المشابهة في إفراز الصِّفات ومع حفظ ذلك يكون الاستعمال مطَّرداً(1).

أقول: والاطِّراد هنا في الوضع الحقيقي والمجازي مع القرينة لن يتناسب مع الاطِّراد وعدمه، لعدم تساويهما كما مرَّ ذكره، لعدم انطباق الشَّجاعة دوماً على الإنسان إلاَّ على بعض أفراده دون الافتراس في الأسد وإن حفظ مصحَّح المجاز في أفراده الأخرى من غير الشُّجعان، لفارق الكثرة والقلَّة مع القرينة، فضلاً عمَّا لو استغنى عن القرينة في اطرِّادالشُّجعان.

فإنَّ المحذور يزداد بسبب الهجران للسَّابق إذا حصل أو تساوى الأوَّل والثَّاني في وضعهما واستعمالهما ليكونا كالمشترك المعنوي الَّذي لابدَّ وأن يحتاج إلى القرينة المفهمة لإفراز أحد الوضعين عن الآخر.

وخلاصة الموضوع: عدم اعتبار الاطِّراد علامة، ولا عدمه على الخلاف في كل المعاني المدرجة آنفاً، وعدا الصُّورة الثَّانية من المعنى الأوَّل وكامل ما أيَّده السيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره من الثَّالث.

الرَّابعة والخامسة:

تنصيص الواضع وتنصيص أهل اللُّغة

فقد مرَّ الكلام حول العلامة الرَّابعة عند الكلام عن المبحث الحادي عشر بما قد

ص: 322


1- كفاية الأصول ج1 ص 29.

يستحقُّه الإدراج الموضوعي المتعارف ذكره في الأصول ولو في الجملة الَّتي قد يُزيد عليها بعض المدوِّنين -

في أنَّ الواضع هل هو الله تعالى أو غيره؟

وعن هذا البحث تعرف الحقائق من غيرها، وحول العلامة الخامسة أيضاً وبما يستحقُّه أيضاً ولو استطراداً في أكثر من موضع حول الحاجة إلى ذكر مرجعيَّة القواميس اللُّغويَّة عند انسداد باب العلم الشَّرعي أو العلمي للتَّركيز على مصير الحقيقة أين تكون عند الانسداد في مراحله.

ولذا لم نحتج هنا لإكمال مبحث علامات الحقيقة الخمسة لأكثر ممَّا مضى إلاَّ بالموجز الكافي وهو أنَّ كلاًّ من الاثنين (تنصيص الواضع وتنصيص أهل اللُّغة) للتَّدليل على أنَّ كلاًّ منهما من علامات الحقيقة لإفرازها عن المعنى المجازي فلابدَّ من أن يعتمد عليه في إحدى صورتين:

أحدهما: توفُّر شروط الشَّهادة من العدد والعدالة وحسيَّة الخبر أو قربه إلى الحس.

ثانيهما: حصول الوثوق والاطمئنان من كلامهم كما يتَّفق كثيراً حين ممارسة الفقيه لعمليَّة الاستنباط، وعلى الأخص مع إجماع اللُّغويِّين.

وبالاختصار التَّوضيحي نقول:

أمَّا عن تنصيص الواضع، فإن أريد به صاحب النُّصوص الشَّرعيَّة كالكتاب والسنَّة - وهي أهم ما يعنينا في البداية - فمع ضبط أمورهما في السنَّد - كالتَّواتر في الأوَّل وهو ما يعادل قطعيَّة الصُّدور واعتبار السَّند أيضاً في الثَّاني وهو السنَّة وإن كان من الظَّن المعتبر لما سيأتي بيانه في بحوث السنَّة والحجَّة من الأزمات المقتضية لذلك حتَّى لو كانت الدِّلالة ظنيَّة بالنَّحو المتاخم للعلم في الأوَّل وهو الكتاب الكريم وقطعيَّة في الثَّاني وهي السنَّة الشَّريفة -

فلابد من البناء على ما تعطيه هذه النُّصوص من الحقائق الشَّرعيَّة أو المتشرعيَّة الَّتي

ص: 323

سيأتي اتِّضاح أمر تشخيص أحدهما قريباً دون ما هو غير ذلك ولو بالرُّجوع إلى تفسير القران بمثله أو القران بالسنَّة أو نحو ذلك إن أشكل الأمر وإلاَّ فبالرُّجوع إلى اللُّغة المتَّفق عليها على ما مرَّ ذكره.

وإن أريد به واضع الأسماء كالَّذي ولد له مولود وسمَّاه باسم وبقي واضعه على هذا المنوال باستعماله له ولم يكن هذا الوضع منه مساوياً لمن كان وضع له اسم آخر ممَّا لم يكن من نوع الحقيقة من قلَّة استعماله واحتياجه إلى القرينة في التَّدليل على المراد منه، إلاَّ إذا صار حقيقة أخرى بهجر السَّابق له، وهكذا وضع الألفاظ للمعاني الأخرى الَّتي منها تتشكَّل اللُّغة وقواميسها.

وأمَّا عن تنصيص أهل اللُّغة كأصحاب القواميس وأهل التَّداول الفصيح الموافق للأسس العربيَّة المتسالم عليها حتَّى بعض المنقولة شفاهية وبما لا يتفاوت فيها أحد عن أحد في الإفصاح عن الحقائق البعيدة عن غيرها مع مطابقة العرف عليها إذا حصل تشكيك في أمر شرعي يراد ادراك خصوص حقيقته، لوجود بعض من الانسدادات العلميَّة من مصادر الشَّرع.

فبالإمكان الرُّجوع إلى تلك القواميس واللُّغويَّات المتداولة في ثوابتها، لأنَّها الأقرب إلى ما يستهدف مع الأعراف المطابقة عند البعض، ليكون تفسيرها الأقرب إلى ما يراد شرعاً ولو بمستوى الظاهر بعد النَّص ويفضل أيضاً عند الحيرة الأكثر في تشابك القواميس وعدم صفاء بعضها في الرُّجوع إلى الكتب اللُّغويَّة القريبة إلى ثوابتنا وبما هو الأفضل كمجمع البحرين أو ما به إلزام الآخرين بما ألزموا به أنفسهم كالقاموس أو الرُّجوع إلى القواعد الأدبيَّة، كالفرق بين الحقيقة والمجاز في أنَّ الأوَّل مصداقه تبادري مثلاً والثَّاني لابدَّ وأن يكون مع القرينة كما مرَّ بيانه.

ص: 324

المبحث السَّابع والعشرون

تعارض الأحوال

لم يغفل الأصوليون عن أهميَّة ذكر ما يحتاجون إليه أو ما يمهِّدونه إلى من يأتي بعدهم من أجيال المحصِّلين بعد ذكر علامات الحقيقة وما استقرُّوا عليه من الصَّحيح منها عن غيره، سواء النَّصوص من تلك الحقائق أو الظواهر المستفادة من المدارك الشَّرعيَّة أو ما قد يعوِّض عنها حال اختفاءها أو بعضها من اللُّغويَّات المتَّفق عليها سواء كانوا من كل المذاهب الإسلاميَّة لو اتَّفقوا على المنهجيَّة الأصوليَّة الموحَّدة على جملتها المعلومة أو البعض الخاص من المسلك الأصولي عند أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ ومن سار على منوالهم من أتباعهم ومن المذاهب الأخرى أو خالفهم ذلك المخالف ولكنَّه كان قد ألزمه المذهب الحق بما ألزم به نفسه أو اختلف ذلك المسلك الأصولي عنَّا ولكن النَّتيجة كانت هي الوفاق الفقهي بين الجميع من حيث النَّتيجة للتَّقريب المذهبي.

كل ذلك حينما تكون تلك العوارض المتعارفة في مقابل الحقيقة وهي الَّتي ذكرها الشَّيخ الآخوند قدس سره في كفايته وهي خمسة وهي (التَّجوُّز والاشتراك والتَّخصيص والنَّقل والإضمار)، وأضاف إليها آخرون خمسة أخرى وهي (النَّسخ والتَّقييد والكناية والاستخدام والتَّضمين).

وبذلك تكون تلك العوارض بمجموعها عشرة أحوال في مقابل الحقيقة النَّاصعة، وبذلك أيضاً تكون الحقيقة أو المعنى المصطلح عليه في الوضع الأساسي في المدارك اللَّفظيَّة الشَّرعيَّة أو اللُّغويَّات المتَّفق عليها في التَّعويض هي الموضوعة والمعوَّل عليها في النُّصوص والظواهر من بين الأحوال كلُّها غير ما وضعت له تلك الألفاظ، وعليه فالمجاز العام طارئ عليها وإن كان المجاز بالمعنى الخاص معدَّاً في أوَّلها.

وقد أوضح المنطقيُّون معاني هذه الأحوال العارضة أو بعضها، وأسهب أهل المعاني

ص: 325

والبيان كالمطوَّل وغيره فيها، وذكر الأصوليُّون كصاحب القوانين قدس سره المهم ممَّا يلزم ذكره في نظره وإن استصعب بعض ما ذكره.

وبدورنا للخلاص من بعض المشاكل - العالقة في هذا الموضوع قبل موعدها لضعف موارد الاستفادة منه - ناسب أن يكون عند التَّفاوت الاصطلاحي بين العلوم اللِّسانيَّة ومبادئها للقرب من الشَّرعيَّات المرتبطة بالقواعد اللِّسانيَّة الَّتي أعددناها من مقدِّمات مباحث الألفاظ كمن أعدَّها من بعض الأفاضل، لكونها قبل الاستقرار عليها عند تعارضها متكاملة فيما بينها في ضمن الأدلَّة أصوليَّاً ولو ظاهراً كالفرق الواضح بين الحقيقة والمجاز ونحوهما ولو بالنَّحو الأدنى من التَّعارض الاستدلالي.

وأمَّا بعد الاستقرار بين الأصوليِّين على كونها أدلَّة متكاملة عند التَّعارض في الأحوال - الَّتي تحوم حول الشَّرعيَّات ولو من بعض الاصطلاحات الإضافيَّة الأصوليَّة من القرائن كالأدلَّة المتداولة عندهم في مبحث التَّعادل والتَّراجيح أو فقل (تعارض الأدلَّة) وإن قلَّت موارد الانتفاع منها لخصوصها - فهذا ليس موقعها بالدقَّة بعد التَّكامل، وإنَّما يناسبها إمَّا مباحث الألفاظ كما في أصول المظفَّر، أو غيره، أو ربط الموضوع ببحث الحجَّة على ما سوفنرجِّحه هناك فيه، أو في الأخير كما في المعالم.

فلنبدأ بمحاولة إيضاح ما نحتاج إلى إيضاحه في مقام هذا التَّعارض عمَّا ابتدأنا به.

فغير خفي على المنتبه أنَّه تارة يدور الأمر بين المعنى الحقيقي أو ما يُسمَّى بالمصطلح في نظر أهل الصِّناعة إذا كان هو الموضوع وبين أحد هذه الأمور الخمسة أو العشرة وتارة أخرى يدور بين كل أو بعض هذه الأمور إذا لم يُرد المعنى الحقيقي.

أمَّا الدَّوران الأوَّل وهو ما بين المعنى الحقيقي وبين أحد هذه الأمور فهو واضح كل الوضوح حين إرادة المعنى الحقيقي الَّذي وضع له اللَّفظ خصِّيصاً له دون أن يُراد من لفظه معنى آخر غيره وإذا يرتبط به التَّبادر ونحوه من صحيح العلامات دون أن تكون صالحة للإفادة في غيره من الأمور الأخرى.

ص: 326

فلأنَّها إن أريد شيء منها في مقابل المعنى الحقيقي فلابدَّ أن تنضم إلى كل منها علامة تصرفها عن ذلك المعنى الحقيقي حسبما ذكره الأدبيُّون في قواعدهم عن كل منها، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه بالحالة المجازيَّة العامَّة وإن تفاوتت قرائن بعضها عن بعضها الآخر في الاصطلاح تجاه الحقيقة ممَّا مرَّت الإشارة إليه.

إلاَّ أنَّ الأقرب في المقابلة بين المعنى الحقيقي وبين مصاديق هذه المجازات هو الأوَّل منها وهو المجاز الخاص الَّذي لابدَّ أن يصح معه التَّمثيل الآتي مع كثرته كلفظ (أسد) الصَّادق في حقيقة وضعه الأساسي على خصوص الحيوان المفترس من دون حاجة إلى قرينة والَّذي لا يصدق على معنى آخر غيره إلاَّ مع القرينة الصَّارفة عن ذلك الحقيقي وهو الرَّجل الشُّجاع ولفظ (قمر) الصَّادق في حقيقة وضعه الأساسي على ذلك الجرم السَّماوي اللَّيلي في ليلة الكمال من غير حاجة إلى قرينة عليه والَّذي لا يصدق على معنى آخر غيره إلاَّ مع القرينة الصَّارفة ومنه قمر بني هاشم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وقد مرَّ ذلك.

وكذلك دوران الأمر بين الحقيقة ذات المعنى الواحد الَّذي يحمله اللَّفظ الواحد الواضح في إفادة معناه بدون أيَّة قرينة عليه كعلي عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وبين المشترك ذي اللَّفظ الواحد أيضاً الحامل لمعنيين أو أكثر ك (القرء والجون والعين) المحتاج كل مصداق منها له إلى القرينة المعيَّنة المراد وذي اللَّفظين المختلفين إذا دلاًّ على معنى واحد كالإنسان والبشر في حاجته إلى ما يُسمَّى بالقرينة المفهمة ممَّا يُسمَّى بالمشترك المعنوي وقد مرَّ ذلك.

وكذلك دوران الأمر بين الحقيقة والتَّخصيص فإنَّ مثاله (كل) ونحوها من ألفاظ العموم إذا أريد منها الجميع حسب ما وضعت له في الحقيقة الَّتي لا تحتاج إلى قرينة، وهي الَّتي لابدَّ أن تكون غير ما يُراد منه البعض الَّذي يطلق عليه بالعام المخصِّص إذا أريد منه بعض أفراده، كما لو كان معنى الكل عشرة وأطلق على ثلاثة أو كالشُّجاع الواحد الَّذي يعدل ألفاً من الشُّجعان، وأمثلته كثيرة يأتي تفصيلها وتفصيل مقولة ما من عام إلاَّ وقد خص من بحث العموم والخصوص فيها في الجزء الثَّاني والنَّظر في ذلك.

ص: 327

وكذلك في دورانها بين الحقيقة والنَّقل فإنَّ الحقيقة حين دلَّت على ما وضعت له فهي الحقيقة الَّتي لا غبار عليها في تبادر معناها ونحوه كالصَّلاة بمعناها اللُّغوي وهو كونها للدُّعاء وفي نقلها إلى معنى آخر كما حينما صارت تحت ظل الإسلام بمعنى أنَّها ذات الأركانالخاصَّة مع وجود المناسبة بين الوضع القديم والحديث ولو في الجملة، كالجامع بين مطلق الدُّعاء في اللُّغوي وبين ذات القنوت من ذوات الأركان الخاصَّة الشَّرعيَّة أو المتشرِّعيَّة الآتي معناها قريباً أو ممَّا كان بلا مناسبة فيُسمَّى بالمرتجل كإطلاق لفظ الأسد على من كان جباناً أو شُكَّ في أمره.

وهذا المنقول العام بكلا طرفيه قد يشبه المشترك اللَّفظي بصورة أوضح ولا قرينة يحتاجها إلاَّ معيَّنة المراد بين معنييه أو معانيه دون الأكثر إذا يهجر المعنى اللُّغوي السَّابق ومع عدم هجرانه يبقى محتاجاً إلى القرينة الصَّارفة كما في بدايات النَّقل الجديد.

وفي دوران الأمر بين الحقيقة والإضمار أنَّ الحقيقة تراد بمجرَّد اطلاق لفظها والإضمار لو احتيج إليه هو تجويز في هيئة الإسناد كما لو استشكل في بعض أدلَّة نجاسة الكافر والمشرك ذاتاً؟ حينما يقال كيف يُستنجس الكافر المشرك بكلمة المصدر وهي لفظة (نَجس) من قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ](1) والمصدر لا يطلق على الذَّات؟

فإنَّه يمكن الإجابة عنه: بأنَّه مع الإضمار يمكن أن يرتفع الإشكال ففي قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ] حينما قالوا أنَّ المصدر وهو (نجس) لا دليل فيه على عدم نجاسة ذات المشركين بصحَّة تقدير (ذو نجس) وبه يرتفع الإشكال فتكون الغلبة للحقيقة والإضمار فيه معنى المجاز المحتاج إلى القرينة، ولا داعي له مع صحَّة هذا التَّقدير.

وإن قيل بأنَّ الأصل عدم التَّقدير؟

فإنَّه يُجاب عنه: بإمكان أن يصح أيضاً اطلاق كلمة المشرك نجس بنحو الوصف

ص: 328


1- سورة التوبة / آية 28.

كقولنا (زيد حسن).

وفي دوران الأمر بين الحقيقة والنَّسخ وإن كان النَّسخ يتعلَّق بالأحكام دون أحوال الألفاظ لكونه كالهجران، فإنَّ الحقيقة هي المقدِّمة حتَّى لو فُسِّرت ببعض المراد منها حينما كان النَّسخ على الرَّأي المخالف يُراد منه نسخ التِّلاوة دون خصوص نسخ المعنى الَّذي يُبقي من الآية كل ما زاد على المعنى المنسوخ وهو ما أردناه من المعنى الحقيقي وهو نفس المعنى الدَّائر بين التَّخصيص والنَّسخ.

وقد أثبتت مصادر العامَّة ما قاله عمر ابن الخطَّاب عن آية رجم الشَّيخ والشَّيخة (إيّاكم أن تهلكوا عن آية الرَّجم أن يقول قائل: لا نجد حدّين في كتاب الله، فقد رجم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ورجمنا، والَّذي نفسي بيده: لولا أن يقول النَّاس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها ((الشَّيخ والشَّيخة فارجموهما ألبتّة)) فإنّا قد قرأناها"(1)، وما قالته عائشة بنت أبي بكر (أنّها قالت: " كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مائتي آية، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلاّ على ما هو الآن)(2)، وما قاله غيرهما كأبي ابن كعب مَّا يبرهن على أنَّ العامَّة قالوا بنقص القرآن وتحريفه ولم يقله الإماميَّة.وفي دوران الأمر بين الحقيقة والتَّقييد فإنَّ المطلقات من الألفاظ إذا لم تؤثَّر فيها التَّقييدات أثرها كاقتضاء الحكمة بقاء المطلق على إطلاقه قبل مجيء القيد عليه وتأثيره فيه لغويَّاً وضعاً واستعمالاً.

وهكذا أمره في الشَّرع وإن قال عنه رهط من أعاظم الأصوليِّين كالشَّيخ الآخوند قدس سره والسيِّد الشَّاهرودي قدس سره والسيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره وغيرهم بأنَّ الواجب المطلق أمره نسبي.

ص: 329


1- الموطأ 2: 824/10.
2- الإتقان في علوم القرآن 3: 82، الدر المنثور 5: 180 عن أبي عبيدة في الفضائل وابن الأنباري وابن مردويه.

فإنَّا مع فرض كونه كذلك فلابدَّ من كون الإطلاق له وجوده الكامل في هذه النِّسبيَّة من الإطلاق، وهو صاحب المعنى الحقيقي.

وإنَّ في مقابله إن كان شيء من التَّقييد فلابدَّ من كونه في نفسه على خلاف الحقيقة وإرادة المطلق مقيَّداً قبل مرحلة التَّعوُّد عليه لابدَّ من حاجته بالتَّقييد إلى نصب القرينة إمَّا من الشَّرع أو اللُّغة المعتمدة من حالاتها كما في إطلاق لفظ الصَّلاة في إطلاقها اللُّغوي، كما إذا كانت بمعنى الدُّعاء لو قيِّدت بذات الأركان قبل التَّعارف عليها في هذا الأمر فإنَّها لغويَّاً غير محتاجة إلى القرينة حينئذ.

وكذلك إذا أطلقت ابتداءاً عند المتشرِّعة وأريد منها مطلق ذات الأركان أيضاً وبلا قيد ولا شرط، لكونها لا تسقط بحال في مطلق كيفيَّاتها المختلفة مع الأعذار المقبولة في الكيفيَّات الدَّانية غير العاديَّة فهي صاحبة المعنى الحقيقي وفي حالة وجود القيد الغير المؤثَّر لابدَّ من وجود القرينة الصَّارفة كزوال الشَّمس المقارن لقولهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ (لا صلاة إلا بطهور)(1).

لأنَّه لولا جعل الآية الشَّريفة كقرينة عند حصول زوال الشَّمس مثلاً لدخول وقت الظهر والعصر وهو قوله تعالى [أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ](2) لم يكن الوضوء واجباً لعدم مجيء وقتهما وهو زوال الشَّمس وسيأتي توضيح ذلك في المطلق والمقيَّد من الجزء الثَّاني إن شاء الله تعالى.

وفي دوران الأمر بين الحقيقة والكناية فإنَّ الحقيقة لابدَّ أن تتقدَّم عليها لسبق الوضع لها ما لم يكن داع للعدم، بل لأنَّ الوضع ظاهر في المعنى الحقيقي دون غيره، ومن الغير الكناية وإن كانت مشابهة للحقيقة في عدم الحاجة إلى القرينة وإنَّ المجاز قرينته معاندة للمعنى الحقيقي إلاَّ أنَّ الكناية لا تعانده وإن كانت أخفى منه لكنَّها محسسة للذَّهن إلى

ص: 330


1- الوسائل 1: 365 / أبواب الوضوء ب 1 ح1.
2- سورة الإسراء / آية 78.

حدِّ أن قيل بأنَّها أبلغ من التَّصريح ولا يتبادر إليها مثل الحقيقي لكون وضع الكناية ثانويَّاً وإشاريَّاً بدون تصريح، وعلى ذلك تباني العقلاء على الأخذ بالحقيقة حتَّى يثبت غيرها كابن أبي طالب بالنِّسبة إلى علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأبي عبد الله بالنِّسبة إلى الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ وغيرهما، وقد يتجلَّى التَّعريف أكثر في الجمع بين الاسم وكنايته مثل الإمامين عَلَيْهِما السَّلاَمُ .

نعم قد يمتنع المعنى الحقيقي لخصوص المورد كقوله تعالى [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى](1) فإنَّه كناية لله تعالى عن القدرة والاستيلاء ويمتنع المعنى الحقيقي عنه للجسمانيَّة.وفي دوران الأمر بين الحقيقة والاستخدام بكون الحقيقة هي الَّتي وضعت في الأساس وصارت حقيقة حين استعمالها بالتَّعيين أو بكثرة الاستعمال حتَّى تعيَّنت كذلك وبجعل لفظة الاستخدام في وضعها الأساسي ليست كالحقيقة بل فيه معنى التَّجوز في هيئة إرجاع الضمير إلى مراجعه كما في قوله تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ](2)، فإنَّ أحقيَّة الرَّد مختَّصة في المطلَّقة الرَّجعيَّة لا مطلق المطلَّقات، إذ لابدَّ من إرجاع ضمير بعولتِّهنَّ إلى بعض مراجعه وهو خصوص المطلَّقات الرِّجعيَّة دون الجميع فهو استخدام بهذا المقدار.

وفي دوران الأمر بين الحقيقة والتَّضمين بكون الحقيقة هي الحرة بيد الواضع لها ومصطلحها وكون التَّضمين من التَّجوُّز في مادَّة اللَّفظ بأن يضمَّن معنى لغظ آخر كما في قوله تعالى [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ](3) فإنَّ مادَّة المخالفة تتعدَّى بنفسها لا بكلمة (عن) لكنَّها ضمِّنت معنى الإعراض المتعدِّي بكلمة (عن).

وأمَّا ملاحظة المقارنة بالدَّوران بما كان بين هذه الأمور العشرة ممَّا يصح عمَّا لا

ص: 331


1- ) سورة طه / آية 5.
2- سورة البقرة / آية 228.
3- سورة النور / آية 63.

يصح أو بعضها نفسها مع غض النَّظر عن الموضوع بالمعنى الحقيقي فقد مرَّ عن النَّقل من لفظ إلى لفظ آخر بعد هجران اللَّفظ الأوَّل.

لأنَّه بعد ذلك إذا أريد هذا الأوَّل فلابدَّ أن يكون مستعملاً في غير ما وضع له وتشخيصه في الإرادة محتاج إلى القرينة الصَّارفة كالمجاز بالمعنى الخاص، ومع تساوي اللَّفظين في الاعتبار الاستعمالي فإنَّه يكون مشتركاً لفظيَّاً ومع اختلافهما اللَّفظي واتِّفاقهما المعنوي يكون مشتركاً معنويَّاً، وقد أوضحناه.

وأما ما بين النَّسخ والتَّخصيص فقد مرَّ من التَّمثيل ما يُغنينا عن إعادته، وأشبه شيء بذلك ما بين النَّسخ والتَّقييد، لإمكان دخول النَّسخ في الاثنين، وسيتَّضح أكثر في الجزء الثَّاني، وقد يتفاوت التَّخصيص عن التَّقييد كالتَّفاوت بين العموم والإطلاق ممَّا يأتي ذكره هناك أيضاً.

وأمَّا ما بين الكناية والمجاز فإنَّ المجاز يعتبر فيه عدم قصد المعنى الحقيقي، بل قرينته معاندة للحقيقي كما سبق ذكره بخلاف الكناية إلاَّ أنَّ الكناية هي الثَّانويَّة بعد الحقيقة في وضعها وإنَّما نسبت إليها معوضِّة عنها، لتدل عليها بدلاً عنها دون أن تكون نافية عن الحقيقة أصالة وضعها.

وأمَّا ما بين المجاز والاشتراك فقد ذكروا بعض وجوه استحسانيَّة لما بينهما أشير إليها في متن الكفاية لا يخلو ذكرها من فائدة من بعض المصادر الأخرى.

منها ما ذكروه في ترجيح المجاز على الاشتراك، وهي أمور نختار منها:

أحدها: الأكثريَّة في مقام الاستعمال، فإنَّ المجاز شائع رائج أكثر من الاشتراك.

ثانيها: الأوسعيَّة، إذ التَّجوُّز قابل للإعمال بإرادة المتكلِّم كلَّما أراد، بخلاف المشترك فإنَّه محتاج إلى إحراز الوضع.

ثالثها: الأقيديَّة فإن المجاز لا توقف فيه أبداً لتعيُّن المعنى بالقرينة، بخلاف الاشتراكفإنَّه يؤدِّي إلى الإجمال والتَّوقُّف.

ص: 332

لكن رد هذا التَّرجيح من قبل السَّيدين المرتضى قدس سره وابن زهرة قدس سره من جهة أبعديَّة الاشتراك عن الخطأ، إذ مع خفاء القرينة يتوقَّف مع الاشتراك ويحمل على الحقيقة مع احتمال المجاز مع إمكان كونه غير مراد واقعاً.

لكن يمكن القول مع الالتزام ببقاء الاشتراك بالرَّد له، لأنَّه على تعدُّد معانيه بحيث أنَّ كل معنى منها هو المراد دون غيره وباحتياجه إلى إفراز كل معنى منها عن الأخر بقرينة تعيين المراد عمَّا يراد من المعاني الأخر، فهو الَّذي يدعو إلى التَّحيُّر بينما المجاز وإن خالف الحقيقة بقرينته الصَّارفة عنها، فإنَّه لا يحمل معها إلاَّ معنى واحداً.

وقد مرَّت الإشارة إلى مثل هذا الجواب منَّا عند ذكر ما بين المجاز والاشتراك سابقاً فهو مع كون هذه الأمور استحسانيَّة لا داعي إلى الإطالة فيها.

ومن الأمثلة الَّتي ذكروها للاستثمار من البحث في مقام هذه المقارنة هو قوله تعالى [وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً](1)، حيث لو احتمل كون النِّكاح حقيقة في الوطيء مجازاً في مجرَّد العقد وصار النِّكاح مشتركاً بين الاثنين.

فإنَّ التَّخريجة الفقهيَّة - الَّتي لابدَّ أن تكون متقنة على المبنى الأصولي المحقَّق الَّذي لابدَّ أن يجلب من وراءه رضا الشَّارع والابتعاد عن إفساد المجتمع مع التَّوصيات الكثيرة بالاحتياط في الفروج والدِّماء واللُّحوم والأموال -

لابدَّ أن يكون مجرَّد العقد فيها هو النِّكاح المنهي عنه من قبل الابن تجاه أبيه العاقد على الزَّوجة، حتَّى لو كان هو المجاز دون الحقيقة، لتقدُّم المجاز على الاشتراك على ما ذكرناه مؤكَّداً لما مرَّ ذكره سابقاً عمَّا بين المجاز والاشتراك.

وبذلك أفتى المفتون صيانة للأنساب ولو بمستوى كون العلاقة مجرَّد العقد فضلاً عمَّا لو كانت المرأة موطوءة من قبل الأب.

ص: 333


1- سورة النساء / آية 22.

المبحث الثَّامن والعشرون

الأصول اللَّفظيَّة

ممَّا يُلحق بمحث تعارض الأحوال في التَّسلسل الموضوعي هو الكلام عن الأصول اللَّفظيَّة، وهو وإن كان يشبه المبحث السَّابق إلاَّ أنَّه ممَّا لم ينتف نفعه بنحو آخر، لكون نفع المبحث الأوَّل عن طريق اللَّم وهو كونه من العِلَّة إلى المعلول وهذا المبحث عن طريق الإن أي من المعلول إلى العلَّة، ولذا فنقول:

إنَّ من محامد ما سعى له المهمُّون من العقلاء من علماء المعقول المنطقي العام خدمة لجميع العلوم لتصحيح أفكارهم بواسطة أهم وسائل الإيضاح وهي الألفاظ ومن كافَّة اللُّغات وأهمِّها فيما نبتغيه هنا لغتنا العربيَّة العريقة للتَّعريف بواسطتها بقواعدها العامَّة ومن بعدهمبالتَّركيز على المنطق الخاص الَّذي سمَّاه الأصوليُّون كمن سبقنا - وفي خصوص لغتنا العربيَّة المعهودة لبث قواعدها الأصوليَّة الَّتي تناولتها أيدي اجتهاداتهم الكريمة لخدمة الفقه الشَّريف لتسهيل أمور الاجتهاد الفقهي -

هو الوصول إلى ما سمَّوه بالأصول وهي في علم الأصول منقسمة إلى قسمين:

ثانيهما: ما يُسمَّى بالأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل وهو ما لا علاقة لنا به الآن لأنَّ موقعه في آخر المباحث الأصوليَّة الآتية إن شاء الله تعالى.

والأوَّل منهما: وهو ما يناسب مقامنا الآن، حيث الحاجة الأصوليَّة إلى استيضاح ما استنتجه الأصوليُّون ومن قبلهم المنطقيُّون الَّذين أتقنوا أدبيَّاتهم العربيَّة العامَّة حتَّى أوصل الأصوليُّون بذل جهودهم العقلائيَّة إلى نجاحهم في محاولة استخلاص قواعد لفظيَّة سميِّت بالأصول اللَّفظيَّة ليرجع إليها عند ورود الشُّكوك والشُّبهات في بعض ما ورد من ألفاظ آيات الأحكام ورواياتها الَّتي لا تنفك يوماً عن علاقتها باللُّغة العربيَّة وأدبيَّاتها ممَّا تسالموا عليه منها بعد ثبوت الوضع وتشخيصه من قبل الواضع، وهي الَّتي

ص: 334

أطلق عليها أيضاً بالأصالات، وقد مرَّت مضامينها في بحث أحوال التَّعارض.

وللدخول في صميم موضوعنا الآن نحتاج إلى تمهيد شيء وهو أنَّه:

بعد التَّنويه عن هذه الأصالات في إنَّ مورد الاستفادة منها عند حصول الشَّك لابدَّ قبل ذلك من بيان أنَّ الشَّك في المقام على نحوين كذلك:

أولهما: الشَّك في وضع اللَّفظ لمعنى من المعاني فقد كان البحث ممَّا قبل السَّابق معقوداً لأجله وهو علامات الحقيقة، لأنَّه عن طريق بيانه كان حصول ما يفيد ولو على نحو الإجمال وهو امتياز الحقيقة عن المجاز.

وبذلك كانت الحقيقة هي ذات اللَّفظ الموضوع وكان المجاز هو من غير الموضوع مع بقيَّة الخمسة بل العشرة المذكورة في البحث السَّابق إلاَّ إذا انقلب بعض ما يصلح للانقلاب إلى الحقيقة، وقد أعان على هذا الكلام ما كان عن (تعارض الأحوال) الماضي.

وثانيهما: الشَّك في المراد منه بعد فرض العلم بوضعه كالَّذي يسمع كلمة (رأيت أسداً) من متكلِّم ولم يُعلم بالمراد منه أنَّه المعنى الحقيقي الموضوع أو المجازي مع تسليم وضع لفظ الأسد أنَّه موضوع حقَّاً للحيوان المفترس وغير موضوع في أساسه للرَّجل الشُّجاع، وقد أعان على فهم هذا الثَّاني أيضاً ما مرَّ من بحث (تعارض الأحوال).

وبعد هذا التَّمهيد لبيان مورد حاجة البحث نقول أنَّ الأصالات هي كما يلي:

أصالة الحقيقة.

وموردها عند الرُّجوع إليها هو لإثبات مراد المتكِّلم حين الشَّك في هذا المراد بعد فرض العلم بوضعه احتجاجاً بهذه الأصالة حين الاستعمال بأنَّه كان على نحو الحقيقة أم على نحو المجاز.

وربَّما كان سبب نشوء الحاجة إلى اللُّجوء إلى أصالة هذه الأصالة والاستفادة منها

ص: 335

هو الاشتهار بين السنَّة أهل التَّحقيق من العلماء حتَّى عُدَّ عندهم ما قالوه بأنَّ الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز كقاعدة. وبعد تأكُّد الفرق هنا بين الاستعمال وإرادة خصوصه وتبيُّن إرادة الحقيقة دون المجاز عند الحيرة في أمر المراد بين الاستعمالين لا بعد تسليم كون اللَّفظ موضوعاً وهو العائد إلى بحث علامات الحقيقة الماضي يتبيَّن إمكان رد العلماء السَّابقين في طريقتهم لإثبات وضع اللَّفظ بمجرَّد وجدان استعماله في ألسنة العرب كما عرف ذلك عن علم الهدى قدس سره وابن زهرة أيضاً قدس سره، بينما إنَّ الاستعمال أعم من الوضع وعدمه.

ولذا كان الحق في الرُّجوع إلى هذه الأصالة وغيرها ممَّا يصح الرُّجوع إليه هو حال الحيرة في المراد كما مرَّ التَّنويه عليه دون الحيرة في الوضع.

وبهذا تتم الحجَّة فيه من المتكلِّم على السَّامع، وتتم كذلك للسَّامع على المتكلِّم إذا استشعر الخطأ وأراد تعديل كلامه، بل لا يصح من السَّامع الاعتذار في مخالفة الحقيقة بأن يعتذر للمتكلِّم بقوله (لعلَّك أردَّت المعنى المجازي) كما لا يصح الاعتذار من المتكلِّم بأن يقول للسَّامع (إنِّي أردَّت المعنى المجازي) حينما تمَّت الحيرة حين الاستعمال بعد تأكُّد الوضع اعتماداً على أصالة الحقيقة.وبهذا يتم أيضاً اتِّضاح الفرق بين علامات الحقيقة الَّتي مرَّت وبين بحث الأصالات.

أصالة عدم النَّقل

إذا علم لغة بوضع لفظ أو ألفاظ لمعنى أو أكثر ثمَّ شُكَّ في نقل أحد هذه الألفاظ أو الأكثر إلى معنى آخر من غير ما وضع له حكم سابقاً بعدم النَّقل اعتماداً على الأصل السَّابق وفراراً من تأسيس التَّزاحم للحقيقة المشتركة في لفظ واحد لأكثر من معنى على أساس من الاحتمال لما مرَّ ذكره من أنَّ النَّقل لا يخضع للقرينة كالمجاز.

ولذا مرَّ منَّا في البحث السَّابق ما يتعلَّق به وبالاشتراك وإن كان للشَّارع المقدَّس

ص: 336

غرض شرعي من هذه الألفاظ فهو الأبعد بما يكون عن إيجاد ما يدعوا إلى التَّزاحم أو تشتيت المعنى كما سيأتي في البحث عن الحقيقة الشَّرعيَّة أم المتشرِّعيَّة الأتي بيانه قريباً جدَّاً.

وبالخلاصة نقول إنَّ مقتضى أصالة عدم وضع جديد وأصالة عدم هجر المعنى الأوَّل الموضوع له اللَّفظ هو عدم النَّقل.

أصالة عدم الاشتراك

وهي أصالة ترعى شؤون المعنى الموضوع الواحد على ما عهد أمره بين العقلاء اللُّغويِّين وأرباب علم البلاغة والمنطق والأصول، وقد مرَّ شيء من الكلام عن عدم قبول أن يحمل اللَّفظ في آن واحد أكثر من معنى وفي أمر تحقيق المراد من الاثنين أو الأكثر ما يُسبِّب ضرراً أو أضراراً إلاَّ ما ندر في باب الامتحان أو التَّعمية لبعض الأغراض العقلائيَّة أو التَّقيَّة إلاَّ أنَّ هذه الأمور لا تخل من حيث المبدأ بالأصالة هذه حينما يتميَّز الوضع علماً به ثمَّ يشك في حدوث معنى آخر - كما مرَّ في أصالة عدم النَّقل - موضوع له اللَّفظ منضمَّاً إلى المعنى الأوَّل فلابدَّ أن يحكم له بعدم الاشتراك للخلاص من مشاكله.

أصالة العموم

وموردها ما إذا ورد لفظ عام وشكَّ في إرادة العموم منه أو الخصوص فيقال حينئذ بأَّنَّ الأصل هو العموم فيكون حجَّة في العموم على المتكلِّم أو السَّامع، وقد مرَّ التَّمثيل لهذا الأمر في بحث التَّعارض ولابدَّ من رفض احتمال وجود المخصِّص وإن شاع ما قيل (ما من عام إلاَّ وقد خصِّص) لقلَّة الثَّابت من هذه الأمور ولم تكن قرينة الثَّابتات احتماليَّة الشَّك لأنَّ الأصالة تأبى ذلك، وسيجيء بيان ذلك في الجزء الثَّاني إن شاء الله.

ص: 337

أصالة الإطلاق

وموردها ما إذا ورد لفظ مطلق له حالات وقيود يمكن إرادة بعضها منه وشكَّ في إرادة هذا البعض لاحتمال وجود القيد فيُقال أنَّ الأصل هو الإطلاق فيكون هذا المرجع وهو أصل الإطلاق حجَّة على السَّامع والمتكلِّم وقد مرَّ التَّمثيل له في بحث التَّعارض، ونضيف إليه قوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا](1).

فلو شكَّ مثلاً في البيع أنَّه هل يُشترط في صحَّته أن يُنشأ له بألفاظ عربيَّة فصيحة في الإيجاب والقبول؟

فإنَّ علينا أن نتمسَّك بأصالة إطلاق البيع في الآية لنفي اعتبار هذا الشَّرط ولو على النَّحو الاحتمالي إذا لم يتأكَّد النَّص المقيِّد الآخر من الكتاب أو السنَّة.

نعم قد يختلف هذا الأمر عن عقد النِّكاح المحتاج إلى المبرز العربي لوجود ما يدعو له من المبنى، وعلى هذا مبنى العقلاء عند طرو الشَّك، وقال بهذا الشَّيخ الآخوند قدس سره ومن تبعهمن الأعلام.

ولولا التَّمسُّك بأصالة الإطلاق هذه لسقط التَّمسُّك به أصلاً لمن لم يُشافههم المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وما أكثرهم وإلى هذا الحين، بل حتَّى لبعض من شافههم عَلَيْهِم السَّلاَمُأيضاً إلاَّ نادراً.

أقول: والنَّادر ما أشرت إليه حول صيغة النِّكاح المحتاج إليها حسبما عرف من النُّصوص.

أصالة عدم التَّقدير

وهي مثل ما مرَّ من أصالة عدم النَّقل وأصالة عدم الاشتراك وموردها ما إذا

ص: 338


1- سورة البقرة / آية 275.

احتمل معنى ثان موضوع له اللَّفظ فإن كان هذا الاحتمال مع فرض هجر المعنى الأوَّل وهو المسمَّى بالمنقول فالأصل (عدم النَّقل) وإن كان مع عدم هذا الغرض وهو المسمَّى بالمشترك فالأصل عدم الاشتراك وهكذا الأمر نفسه في أصالة عدم التَّقدير، وقد مرَّ التَّمثيل له إلاَّ ما خرج بالدَّليل لكن لا أصالة فيه كهذه الأصالة.

أصالة الظهور

وموردها ما إذا كان اللَّفظ ظاهراً في معنى خاص وإن كان عامَّاً من حيثيَّة آتية لا على وجه النَّص فيه الَّذي لا يحتمل معه الخلاف، بل كان يحتمل فيه إرادة خلاف الظاهر أيضاً وهو ما يتبيَّن منه كون الظهور في الأصالة أعم من هذا الثَّاني المقابل للنَّص الخاص، فإنَّ هذه الأصالة كأصالة الحقيقة حين طرو الشَّك مع احتمال إرادة خلاف الظاهر فإنَّ الأصل أن يحمل حينه على الظاهر الَّذي لا يعانده النَّص إلاَّ ما صرِّح به.

وعلى فرض وجود مثل هذا النَّوع من الظهور العام فلا مانع من أن يشمل جميع الأصالات الماضية، وعليه لو كان ظاهراً ولو جدلاً في المجاز واحتمل إرادة الحقيقة لصحَّ العكس وهو كون الأصل من اللَّفظ المجاز دون أن تجري أصالة الحقيقة، وكذا البواقي في صحَّة افتراض الحالة العكسيَّة.

بقي الكلام عن مثابة حجيَّة الأصول اللَّفظيَّة للبناء عليها في مرحلة التَّحيُّر المذكور فلا يمكن في المقام توسعة التَّفصيل في أمرها ما دام بحث الحجَّة الآتي أمامنا لمعالجة هذا الأمر وغيره من الحجج في سوانح الكلام الخاصَّة.

فيكفينا الآن تلخيصها في مورد الحاجة المستعجلة بأنَّ المدرك لها هو بناء العقلاء الممضى له من قبل الشَّارع المقدَّس لعنايته بما يرفع به كل إشكال أمام ما هو الأقوى ومن بين العقلاء أهل الحل والعقد الأدبي المفتخر بأربابه في تسالمهم على القواعد المهمَّة وعنايته بعدم الرِّضا منه باحتمال الغفلة منهم أو الخطأ أو الهزل أو إرادة الإهمال والإجمال، والتَّفصيل في ذلك آت في مواقع الحجَّة بإذن الله تعالى.

ص: 339

المبحث التَّاسع والعشرون

الحقيقة الشَّرعيَّة أم المتشرعيَّة في نظرتهما الأولى

بعد أن استقرَّ الكلام فيما بينهم على أنَّ الحقيقة في الكلام العربي هي اللَّفظ الموضوع دون غيره من المعاني اللَّفظيَّة الخمسة الَّتي ذكرت في الكفاية وغيرها وهي:

التَّجوُّز والاشتراك والتَّخصيص والنَّقل والإضمار

لخضوع هذه الخمسة في أمر اتِّضاحها إلى مزيد من العناية بواسطة القرينة ونحوها مقاليَّة وغيرها، وعلى الأخص لو كانت الحقيقة مستعملة في لفظها الموضوع دون أن تهمل بل حتَّى الخمسة الأخرى الَّتي أضيفت وهي النَّسخ والتَّقييد والكناية والاستخدام والتَّضمين.

فإنَّ هذه الحقيقة لموضوعيَّتها واستعمالها مقدَّمة على الجميع لبناء العقلاء على الأخذ بها بيسر حتَّى يثبت غيرها وإن كان هذا التَّقدم أو فقل التَّرجح من جهة الظهور حيث يكوناللَّفظ ظاهراً في المعنى الحقيقي كما هو الغالب في زماننا ومحيطنا دونما هو الأعمق في غيرها ولا ما يختلف عن حالة الظهور هذه ممَّا في عدم أو قلَّة استعمال الحقيقة بسبب هجرانها أو بدايته بسبب النَّقل أو ما مرَّ ذكره من حالة ما يتحقَّق به الاشتراك اللَّفظي بين المعنى الحقيقي وبين معنى آخر معادل له مخل بظهور الأوَّل عليه في الاستعمال أو غير ذلك من مثل الكناية.

فإنَّ المشهور وإن قالوا بأنَّ الكناية والتَّضمين والتَّخصيص من المجاز لما مرَّ ذكره من تبرير تقدُّم أو ترجيح الحقيقة عليها وإن لم يصل أمر هذه الثَّلاثة في ظهور كل منها بدقَّة مثل المجاز الخاص في حاجته إلى القرينة الصَّارفة لإفهام معناه، لأنَّ هذه الثَّلاثة صارت في مقابل هذا المجاز لشيوعها حتَّى في مقابل مطلق المجاز الشَّامل لكل ما هو غير حقيقي لإمكان القول باستثناء هذه الثَّلاثة من بين جميع العشرة عند ثبوت الشيوع لخصوصها

ص: 340

دون الباقي.

وعليه فالحقيقة الَّتي صفا أمرها - سواء الأساسيَّة الموضوعة والمستعملة نعييناً أو تعيُّناً وما تعيَّنت بعد التَّردد في المراد منها عند الرجوع إلى أصالة الحقيقة والتَّي انتقلت إليه من المعنى الجديد بعد هجران المعنى الأوَّل وحالة التَّخصيص بعد النَّسخ لكون الآية أو الرِّواية النَّاسخة لم تحمل إلاَّ المعنى الواحد ظاهراً بما لم يكن فيه نسخ تمام مضامين المنسوخ وبالخصوص الأكثر الآيات القرآنيَّة المنسوخة تجنُّباً عن نسخ التِّلاوة، وغير ذلك ممَّا يمكن أن تتبلور منه أمور الحقيقة بمعنى من المعاني الأخرى الممكنة أدبيَّاً -

هي الَّتي أتى الآن دور الكلام فيها في أنَّها حينما جاءت نصوصها وظواهر ألفاظها من كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله صلی الله علیه و آله و سلم بواسطة العترة المطهَّرة وما ألحق بها من النُّصوص والظواهر الأخرى التَّابعة وهي ذات المعارف المختلفة والَّتي أهمُّها بعد العقائد الحقَّة أحكام الشَّريعة من الطَّهارة إلى الدِّيات تسمَّى بآيات الأحكام ورواياتها.

فبعد تحقُّق كون هذه الحقائق جاءت موضوعة ومستعملة وعلى طبق الكلام العربي القديم وهو ما قبل الإسلام العزيز فإنَّ الكلام حولها يتم بما يلي وهو أنَّ الأقوال المطروحة في البحث عنها ثلاثة:

الأوَّل: ثبوت الحقيقة الشَّرعيَّة.

الثَّاني عدم ثبوتها وإنَّ الاستعمال كان مجازاً.

الثَّالث: إنَّ هذه الماهيَّات المخترعة لم يستعمل الشَّارع المقدَّس اللَّفظ فيها بما هي هي، وإنَّما كان استعماله فيها بعنوان أنَّها أحد المصاديق للمعنى الَّذي وضع له اللَّفظ في اللُّغة وهو ما يدَّعيه القاضي الباقلاني، حيث جعل الصَّلاة موضوعة للعطف أو الدُّعاء واستعملت في هذه الماهيَّة المخترعة لأنَّها مصداق للدُّعاء أو للعطف.

ولغرض التَّصفيَّة وتوحيد الهدف نقول:

لابدَّ من أن نفترض لها أنَّها إمَّا أن يكون أمرها ناتجاً عن خصوص الماهيَّات

ص: 341

المخترعة أو الأعم منها فهذا ما لا يمكن ضبطه في الألفاظ المستعملة في لسان الشَّارع المقدَّس ممَّا رتِّب عليه أحكامه إلاَّ ببيان أقسام ضبطها المحقِّقون والمتتبِّعون في التَّأريخ اللُّغوي والأدبي العام والأصولي والفقهي، وهي ثلاثة:

أوَّلها: ما يسمَّى بالموضوعات الخارجيَّة كتكوينَّاتها من الجواهر والأعراض ومنها الدَّم والميتة والعذرة وأمثال هذه الألفاظ فإنَّه حسب المتابعة لا إشكال في أنَّها مستعملة في خصوص معانيها اللُّغويَّة وليس للشَّارع المقدَّس حقيقة شرعيَّة فيها قطعاً.

ثانيها: ما يُسمَّى بالاعتباريَّات العقلائيَّة وهي الَّتي وقع الإمضاء لها من لسان الشَّارع كألفاظ المعاملات مثل البيع والصُّلح والإجارة وأمثالها، والظاهر أنَّ هذه لا حقيقة شرعيَّة لها أيضاً ما لم يكن لإمضاء الشَّارع لهذه الألفاظ بعض العنايات الملحقة لها به، فإنَّ الشَّارع وإن استعملها بما لها من المعنى في لسان اللُّغة والعرف لكن إن اعتبر فيها شروطاً وموانع ولم يخترع لها معاني استعمل اللَّفظ فيها فهي خارجة عن محل النِّزاع أيضاً، إلاَّ أنَّ صاحب القوانين قدس سره أدخلها فيه، ولعلَّه لأمر يتَّضح سببه الآن.وهو على فرض أنَّ الشَّارع مع اعتباره شروطاً فيها أو موانع - وادَّعى عنه أنَّه اخترع لها معاني ولم يثبت لذلك مصداق خارجي بسبب انسداد باب العلم ولو في مثل هذه القضايا فقط أو بعد استفراغ الوسع في التَّحقيق والتَّنقيب إلى حين كسب العذر عن ذلك -

فلابدَّ من إحالة ذلك إلى ثوابت اللُّغة والأعراف المعقولة دون الأخذ بما تفضَّل به صاحب القوانين قدس سره ، لأنَّه ليس بمقدوره أن يجعل هذه النَّاحية من موارد النِّزاع قبل أن تثبت علاقة الشَّرع بتلك المعاني، وهي ممَّا انتفى النِّزاع في أمرها لكن يمكن الأخذ بما قال نظريَّاً إلى حين ثبوت المصداق الخارجي.

ثالثها: ما يُسمَّى بالماهيَّات المخترعة كالصَّلاة والصَّوم والحج والزَّكاة ونحو ذلك فإنَّها لم تكن في السَّابق مألوفة ولو في خصوص كيفيَّاتها الجديدة بما زاد كثيراً على

ص: 342

المشتركات مع قلَّتها قبل الإسلام ونقلت ألفاظها بجزم من معانيها اللُّغويَّة إلى هذه المعاني الشَّرعيَّة.

وقد زاد الشَّارع في بعض الأمور الاعتباريَّة الممضى لها منه قيوداً أو حدوداً كما أشرنا عمَّا في القسم الثَّاني آنف الذِّكر.

كالكر في ضبط مقاديره وزناً وأشباراً ممَّا لا يمكن معرفته إلاَّ عن طريق الشَّرع وإن اشترك الشَّرع مع قديم اللُّغة من بعض الجهات.

والسَّفر في تعيين مسافة القصر والتَّمام في الصَّلاة ومجال وجوب الصِّيام أو صحَّته من عدمهما وما يتعلَّق بمحل التَّرخُّص ونحو ذلك ممَّا لا يمكن معرفته إلاَّ عن طريقه وإن حصل اشتراك أيضاً في الجملة.

والبيع في اشتراط الشَّرع استعمال الصِّيغة الفصحى من عدمها وقيود الخيارات وقبول اللُّغات الأخرى من عدمه في العقد ممَّا لم يعرف إلاَّ منه ونحو ذلك وإن اشتركت اللُّغة القديمة معه في بعض المصاديق.

والإجارة في تفصيل الشَّرع ما يصح منها عمَّا لا يصح ممَّا لم يعرف إلاَّ منه وإن اشتركت اللُّغة القديمة معه في بعض المصاديق.

إلى غير ذلك من الاعتباريَّات الأخرى إذا أمضيت وأضيف إلى ذلك قيود وموانع واخترع الشَّرع لها معاني لم تألفها اللُّغة والعُرف مهما توسَّعت طاقاتها.

فإنَّ هذه المخترعة وتوابعها هي محل النِّزاع دون القسم الأوَّل، فإنَّ المرجع فيه اللُّغة والعرف، ودون القسم الثَّاني إذا لم تتأكَّد المصاديق الخارجيَّة ممَّا للشَّرع علاقة تامَّة فيه، وبذلك يمكن الانصياع لكلام ومقام المحقِّق القمِّي قدس سره هناك على تقدير تحقُّق المصاديق دون ثبوت عدمه.

فهي هنا وإن كانت بدون شك مخترعة من قبل الشَّارع واستعملت ألفاظها من قبله من الكتاب والسنَّة إلاَّ أنَّها مع علاقتها باللُّغة القديمة في الجملة لا يدرى في استعماله لها

ص: 343

أنَّه كان بنحو الحقيقة أم المجاز أم ما توسَّط بينهما.

وفائدة ذلك تبرز أكثر لو تجرَّدت ألفاظها من القرائن لتصح مصداقيَّة الحيرة الدَّاعية إلى حسم النِّزاع في المقام بما يأتي.

وبعبارة أخرى أنَّهم اختلفوا في المقام من جهتين:الأولى: وهي هل أنَّ هذه الألفاظ من ذوات المعاني المستحدثة بحيث تُعد عائدة إلى خصوص الشَّريعة المقدَّسة الحاليَّة، وعلى الأخص لو حرَّك الأذهان إلى هذا المعنى أمثال قول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم (صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي)(1) وقوله (خذوا عنِّي مناسككم)(2)، بحيث لم يكن أي علاقة مع قديم اللُّغة أو أنَّها كانت في جميع الشَّرائع الإلهيَّة السَّابقة لها مع بعض أو كثير من خصوصيَّاتها في الجملة.

فإنَّ المتتبِّع الحاذق لابدَّ أن يظهر له من خلال جملة من الآيات والرِّوايات حول الصَّلاة كقوله تعالى [إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا](3) وغيره، وحول الصَّوم كقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ](4)4) وغيره، وحول الحج كقوله تعالى مخاطباً إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ [وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً](5)5)، وحول الزَّكاة كقوله تعالى على لسان نبي الله يحيى عَلَيْهِ السَّلاَمُ [وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا](6) وغير ذلك من الواردات الكثيرة عن

ص: 344


1- عوالي اللئالي: ج1، ص197، ذيل حديث 8، صحيح البخاري1: 162 كتاب الصلاة باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، تفسير الرازي 2/164.
2- السنن الكبرى للبيهقي 5: 125 باب الايضاع في وادي محسر.
3- سورة النساء / آية 103.
4- 4) سورة البقرة / آية 183.
5- سورة الحج / آية 27.
6- سورة مريم / آية 31.

حالات السَّابقين من الرُّسل عن شرائعهم لهم ولشعوبهم هو المعني من طرفي السؤال، وأنَّ شريعتنا الخاتمة إنَّما أكملتها لا أنَّها أوجدت معاني لم يكن الأنبياء والرُّسل الماضون يعرفونها كما أكملت جميع المعارف السَّماويَّة السَّابقة الأخرى كقوله تعالى في بيعة الغدير لأمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا](1) وقول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم (إنَّما بعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق)(2) وغير ذلك.

وأمَّا أقوال النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم الَّتي مرَّت حول طرف السُّؤال الأوَّل فلم تعدم إفادتها عن هذا الطَّرف الثَّاني المختار، لوجود معانيه كاملة أيضاً ولو بمعنى الحقيقة الثَّانويَّة الَّتي لم تعدم العلاقة فيما استحدث القديم بالنَّحو الإجمالي على ما سيجيء قريباً، وأنَّ الحقيقة الشَّرعيَّة في التَّعيين دون التَّعيُّن بالمعنى الَّذي يخالف معنى هذا الطرف الثَّاني فهو مستبعد وإلا لأشتهر وذاع وبالأخص أنَّ أمور الشَّريعة المناطة به عامَّة البلوى.

الجهة الثَّانية: وهي الاستفهام عن أنَّ هذه الألفاظ في معانيها مسبوقة بالعدم قبل شرعنا وإنَّما أوجدها شرعنا بحيث لا علاقة للغة العامَّة به بأي معنى أو أنَّها كانت مستعملة في معان لغويَّة واستعمال الشَّرع لها فيما يريد كان على نحو استعمال الكلِّي في الفرد بمعنى كون الصَّلاة أنَّها من الدُّعاء أو العطف والصوم من الإمساك ونحوه في اللُّغة والحج من القصدوالزَّكاة من التَّطهير.

وحيث أنَّ هذه الألفاظ ومعانيها استعملها الشَّارع فيها لا على أن يكون نحو وضع حادث في الإسلام تخصيصاً أو تخصُّصاً أنَّ فيها قولين الحق فيهما هو الثَّاني للأصالة عند كلِّ شك وإن صدر من النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم بعض ما يتصوَّر منه الخلاف لإجابتنا عنه بما يكفي سابقاً، ولأنَّه لو كان شيء غيره لظهر وبان شائعاً لاسيَّما في مثل الأمور عامَّة البلوى.

ثمَّ نبقى مع هذا الثَّاني المرتبط في الجملة باللُّغويَّات، ومن اللُّغويَّات

ص: 345


1- سورة المائدة / آية 3.
2- مجمع البيان، ج1، ص 333.

ما حمل بعض

المعاني الشَّرعيَّة القديمة وإن لم تف بتمام الغرض الكامل لشريعتنا فالمرجع هي الحقائق المتشرعيَّة، لعدم ثبوت تمام الحقيقة في زمن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم ورسوخ معانيها بدأ من زمن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ والأئمَّة من بعده عَلَيْهِم السَّلاَمُ وهم أعاظم المتشرِّعة ثمَّ الأقرب فالأقرب تقوى وإيماناً وحرصاً على ضبط الشَّريعة من بقيَّة الطَّبقات.

وبعد ثبوت ما استوفيناه فلم يلزم أن تراجع اللُّغة في عمومها لو طرأت بعض الشكوك وإنَّما يجب الفحص عن ما يرفع الشَّك مع استفراغ الوسع من آثار المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ والأدلَّة الصَّحيحة المعروفة عنهم إلاَّ مع انسداد باب العلم المقتضي لمراجعتها.

المبحث الثلاثون

الصَّحيح والأعم من الصَّحيح والفاسد

تبعيَّة هذا البحث

من البحوث التَّابعة للبحث السَّابق وهو - (الحقيقة الشَّرعيَّة أم المتشرِّعيَّة) - بحث الصَّحيح والأعم من الصَّحيح والفاسد.

ويمكن أن يكون سبب هذه التَّبعيَّة هو أنَّ البحث تبرز منه ناحية الأحكام الشَّرعيَّة التَّكليفيَّة، وأنَّ هذا الصَّحيح والأعم تبرز فيه ناحية الأحكام الوضعيَّة، وغير خفي على الفطن ناحية الارتباط بين قسمي الأحكام هذا ممَّا مرَّ ذكره أو بعضه في فهرست هذه البحوث وما بعدها.

وإن قيل بعدم ثبوت الحقيقة الشَّرعيَّة في نتيجة البحث الماضي في بداية التَّشريع الأوَّل من أيّام النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم الأولى للدَّعوة وإن صرَّح عن طريق الوحي ومن السنَّة الشَّريفة بأمور العبادات وما يتبعها وبالمعاملات الَّتي جعل لها شروطاً وموانع ومعاني تحجيميَّة لأسماءها على النَّاحية المجازيَّة مع القرينة الصَّارفة عن المعاني اللُّغويَّة القديمة،

ص: 346

لئلاَّ يلبتس الأمر مع هذه التَّشريعات الجديدة بدون القرينة عنها وإن حملت بعضاً من المعاني الجزئيَّة العامَّة المشاركة لهذه الشَّرعيَّات فلا فائدة في هذه التَّبعيَّة إذن.

فإنَّا نقول: بأنَّ عدم ثبوت الحقيقة الشَّرعيَّة وإن كان صحيحاً - بمعنى ما اخترناه ممَّا مرَّ ذكره في المبحث الماضي - ولكن البقاء على وزن المجازيَّة العامَّة المذكورة كان محدوداً في تلك البدايات، وهي أيَّام عدم التَّعوُّد على المعاني الجديدة المحوج - إلى صحَّة صدقها كحقائق في أداء ما هو المكلَّف به النَّاس - وجود القرينة الصَّارفة عن المعنى اللُّغوي المختصر.

لأنَّ هذا اللُّغوي كان هو الحقيقة في بابه بالتَّبادر وعدم صحَّة السَّلب ونحوهما، ولكن متى ما حصل التَّعود على هذا الجديد بكثرة الاستعمال والممارسة وغلب المعنى المجازي الجديد على جانب الحقيقة الماضية إلى حدِّ أن هجرت واستغنى الوضع الجديد بالعرف الخاص عن القرينة حتَّى جاءت الحقيقة الجديدة بعد عهد تلك البدايات وإن سميِّت بالحقيقة المتشرعيَّة في مثل عهد أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ وما بعده من أزمنة التَّعوُّد.

فلا ضرر في هذه المتابعة ما دام المعوِّض حقيقة أيضاً وإن كان من وضع جامع للحقيقة وشيء من المجاز وأمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ هو نفس رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وخليفته والمكمِّل لنهضته.

هذا ويمكن اعتبار ما هو الأوجه في التَّبعيَّة للبحث السَّابق هو كون السَّابق توصلنا فيه إلى الأعم من الحقيقة الشَّرعيَّة لوحدها والمجاز لوحده وهي الحقيقة المتشرعيَّة كما ذكرنا، حيث جاءت بالمعاني الجديدة مع ارتباطها إجمالاً بشيء من العلاقة اللُّغويَّة كرابطة الصَّلاة ذات الأركان المعروفة الَّتي لا تشبه ما في القديم إلاَّ بالقنوت الَّذي فيها لأنَّها في اللُّغة كانت بمعنى صرف الدُّعاء ونحوه من الأدعيَّة في الرُّكوع والسُّجود والتَّشهُّد وهكذا من الرَّوابط الأخرى الموجودة في بقيَّة العبادات وغيرها ممَّا مرَّ ذكره.

وهذا البحث الحالي مرتبط في بعض جوانب بحثه على ما سيجيء الآن وبما هو

ص: 347

الأعم من الصَّحيح والفاسد، لكنَّه موقوف على ما سيؤول إليه قرارنا وهو الرِّضا بهذا الأعم لا خصوص الحقيقة ولا خصوص المجاز وعند ذاك سيتم التَّطابق في التَّبعيَّة.

إلاَّ على أساس ما قاله البعض من أهل العلم من أنَّ البحث السَّابق لا ثمرة فيه حينما تكون النَّتيجة هي عدم ثبوت الحقيقة الشَّرعيَّة.

بينما بحثنا الآن له علاقة بالثَّمرة العمليَّة على ما سيجيء بيانه قريباً فلا فائدة في هذه التَّبعيَّة.

ولكن يمكن الرَّد بأنَّ الفائدة ليست بمنعدمة تماماً ولو بالاستقرار في النَّتيجة على الاقتصار على الحقيقة المتشرعيَّة، وهي الحقيقة المعوَّضة أو المصطلحة حينما تراد ولو من كثرة الاستعمال الكاشفة عن الوضع لها، ولو لم تكن هي الأصيلة في الوضع على ما قد يُقال.

فإنَّه يُجاب عنه بأنَّ الأصيلة لم يبرز لها وجود أصلاً على ما أسلفناه، إضافة إلى أنَّ النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم لم ينف الاستقرار على الثَّانية وتقرير النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم حجَّة على ما سوف يتَّضح بيانه في الكلام عن بحث الحجَّة.

وبهذا تصح تبعيَّة هذا الموضوع للموضوع السَّابق ولو في الجملة، لوجود الاستقرارعلى الحقيقة الثَّانية بل وهجر المعنى اللُّغوي وإن كانت المتشرعيَّة قبل استقرارها بكثرة الاستعمال ونحوه متكوِّنة من بعض المعنى اللُّغوي والشَّرعي الجديد بتردُّد ثمَّ صارت حقيقة.

ص: 348

محل النِّزاع في المقام

وأمَّا الثَّمرة العمليَّة الَّتي جاء ذكرها فستمر علينا بعد ذكر موقع النِّزاع حول بحثنا (بحث الصَّحيح والأعم)، فإنَّ موقع النِّزاع بين الأصوليِّين هو أنَّ ألفاظ العبادات أو المعاملات هل هي أسم موضوع للمعاني الصَّحيحة أو للأعم منها ومن الفاسدة؟

بيان ذلك أنَّ هذه الألفاظ مثلاً لمَّا كانت في عرف المتشرِّعة حقيقة في خصوص الصَّحيح يستكشف منه أنَّ المستعمل فيه في لسان أهل الشَّرع هو الصَّحيح أيضاً مهما كان استعماله عنده أحقيقة كان أم مجازاً؟ كما أنَّه لو علم أنَّها كانت حقيقة في الأعم عندهم كان ذلك إمارة على كون المستعمل فيه في لسانه الشَّرعي هو الأعم كذلك وإن كان استعماله على نحو المجاز هذه من جهة.

وهناك جهة أخرى وهي أنَّ المراد من العبادة الصَّحيحة أو المعاملة الصَّحيحة كذلك هي الَّتي كملَّت أجزاءها وتمَّت شروطها في المقام، فالصَّحيح إذن معناه هو تام الأجزاء والشَّرائط.

فالنِّزاع يرجع هنا إلى أنَّ الموضوع له هو خصوص تام الأجزاء والشَّرائط من العبادة أو المعاملة أو الأعم منه ومن النَّاقص.

ثمرة البحث

وبعد بيان الوجيز من محل النِّزاع ينبغي لنا ذكر ثمرة النِّزاع لئلاَّ يكون البحث لا داعي له كما وعدنا بها.

فهي صحَّة رجوع القائل بالوضع للأعم المسمَّى بالأعمِّي إلى أصالة الإطلاق عند ورود الشَّك دون القائل بالوضع للصَّحيح المسمَّى بالصَّحيحي فإنَّه لا يصح له الرُّجوع

ص: 349

إلى أصالة إطلاق اللَّفظ.

ويتجلَّى ما يعود للأعمِّي فيما لو أمر المولى بعتق رقبة ولكن لا يدري أَّنها المؤمنة أم الكافرة، فإذا حصل الشَّك في دخل وصف الإيمان في غرضه من أمره، فيحتمل أن يكون قيداً للمأمور به.

فالقاعدة الحاكمة في المقام هي الرُّجوع إلى أصالة الإطلاق في نفي اعتبار القيد المحتمل اعتباره لزيادته، لكون الأمر جاء بدون قيد لكون الشَّك في أصل التَّكليف فلا يجب تحصيله فتكفي الكافرة، ولو لخلو بعض الآيات من قيد المؤمنة.

ويتجلَّى للصَّحيحي بناءاً عليه ما أذا أمر المولى بالتَّيمُّم بالصَّعيد من غير أن يدري أنَّ ما عدا التُّراب هل يسمَّى صعيداً أم لا؟ فإذا حصل في صدق الصَّعيد على غير التُّراب كالرَّمل شك فلا يصح الرُّجوع إلى أصالة الإطلاق، لإدخال المصداق المشكوك في عنوان المأمور به بخلاف المثال الأوَّل، لكون المرجع في المقام هي الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل بمثل الاحتياط تورُّعاً من المحتمل زيادته أو البراءة من حالة ما شكَّ في أساس التَّكليفبه، وهو ممَّا أختلف في أمره العلماء وبعده يكون المبنى هو استقرار الدَّليل على إلحاق الزَّائد بالصَّحيح من عدمه.

وهناك مثال أخر صار سبباً لاختلاف العلماء فيه أيضاً بين من يرى الأعمِّي وبين من يرى الصَّحيحي، وهو أنَّ الصَّلاة الَّتي أمرنا بها إذا كانت فاقدة للسُّورة.

فعلى الأعمِّي يمكن أن يرى المجتهد الشَّاك قبول الفاقدة للسُّورة وبالأخص أكثر في ضيق الوقت لو صدقت الصَّلاة على الفاقدة.

وعلى الصَّحيحي إذا شكَ بعدم الاكتفاء بالفاقدة لها إلاَّ بمراجعة الأصول العمليَّة من الاحتياط والبراءة إلاَّ في ضيق الوقت وعدمها حتَّى مع سعته إن عثر على الدَّليل وإن لم تكن السُّورة في الأهميَّة حسب الأدلَّة كالفاتحة.

ويمكن تصوُّر الثَّمرة فيما لو نذر النَّاذر دفع درهم لمن يُصلِّي ولو صلاة فاسدة أو

ص: 350

ناقصة للتَّشجيع وصلَّى أحد السَّامعين صلاته صحيحة أو فاسدة، فذمَّة النَّاذر مشغولة حتَّى يبرؤها بدفع درهمه، وكذا لو نذر الشَّخص نذره له أي لمن صلَّى لخصوص الصَّحيح بشرط الصحَّة فكانت الصحَّة فيجب البر وإلاَّ لا يجب.

معنى الصَّحيح والفاسد من حيث العموم

وبعد اليأس من وجود ما به الثَّمرة العمليَّة المقتضية لكون البحث الَّذي تطرَّقنا له ناجحاً من الأمثلة الماضية على رأي من يرى العدم وغيرها دون حالة عدمه الَّتي قال بها صاحب الرأي المخالف وتبيَّن قوَّة تبعيَّته للبحث الماضي ولو في الجملة، للتَّشابه بين الحقيقتين في مقابل المجاز على رأي من يرجِّح الأولى وهي الحقيقة الشَّرعيَّة الَّتي لا علاقة لها بالمعاني اللُّغويَّة ولو في الجملة والحقيقة المتشرِّعيَّة الَّتي لها علاقة بالمعاني اللُّغويَّة في الجملة وإن قلنا إشارة فيما مضى عن السَّابق بميلنا إلى المتشرعيَّة، ممَّا قد يقتضي من هذا التَّشابه أن يكون ميلنا في هذا البحث الثَّاني إلى ما هو الأعم لا خصوص الصَّحيح من حقيقة الأعم وحقيقة خصوص - الصَّحيح - المتشرعيَّة.

إلاَّ أنَّنا نرجِّح الآن تأجيل التَّصريح بما نختاره إلى ما بعد بيان ما هو الصَّحيح وما هو الفاسد لإدراك ما هو الأعم في المراد من بعده كيف يكون هل هو خصوص ما يمكن تداركه بتصحيحه - كعلاجيَّات ما بعد الشَّك الصَّحيح من الشُّكوك الصَّحيحة التِّسعة في الصَّلاة أو تدارك الأجزاء المنسيَّة مثل السَّجدة الواحدة أو التَّشهُّد المنسي أو الفاتحة المنسيَّة ونحو ذلك من باب العبادات أو عقد الفضولي الملحوق بإجازة المالك مثلاً من باب المعاملات؟ -

أم حتَّى ما لا يمكن تداركه كنسيان السُّورة بعد الفاتحة من العبادات الَّتي اختلف في دليلها ولو في ضيق الوقت، وهكذا ما يرتبط بالمعاملات المشابهة ممَّا اختلف فيه؟.

أم أنَّ الفاسد هو ما لم يمكن قبوله متروكاً عن عمد مع وجوبه دون أن تبرء الذمَّة

ص: 351

بتركه إلاَّ بالإعادة في العبادة في الوقت دون خارجه أو في الإعادة في الوقت، فإن لم يكن ففي القضاء في الخارج، وهكذا ما يتعلَّق بالمعاملات كأداء الدُّيون وإبراء الذِّمم ممَّا به التَّدارك ولو بعد حين؟.

وأنَّ المراد من الصَّحيح هو الحقيقة الشَّرعيَّة الَّتي لا علاقة لها باللُّغة أو الأعم منها ومن الفاسد أو المتشرعيَّة الَّتي لها بعض علاقات في القواميس اللُّغويَّة أو الأعم منها ومن المتشرعيَّة ولو احتراماً لرأي خصوص من يدِّعي الأولى لرعاية ما ينبغي أو يجب مطابقته لشرع الله العادل المليء باللُّطف والمطابق لقاعدة اليسر ونفي الحرج وسهولة التَّكليف حتَّى بأوسع ما يمكن فيه إبراء الذمَّة ولو بعد حين ما عدا التَّعمُّد المستمر من المكلَّف نفسه أو نائبه أو وصيه أم لا؟.

إجمال ما يتعلَّق بالعبادات

فنقول ولو مجملاً عمَّا يتعلَّق بالعبادات:إنَّ ما يخص أمر الصَّحيح والفاسد في تصوير الجامع على القول بالوضع للأعم الَّذي عن طريقه يمكن استكشاف ما هو الصَّحيح وما هو الفاسد وبهما يتصوَّر المعنى الأعم يمكن أخذه ممَّا ذكره صاحب القوانين القمِّي قدس سره بما حاصله:

(إنَّ المسمَّى لأسامي العبادات هو خصوص الأركان وأمَّا سائر الأجزاء والشَّرائط فهي معتبرة في المأمور به لا في المسمَّى أي لا الموضوع له فلفظ الصَّلاة مثلاً موضوع للأركان خاصَّة وهي الَّتي تكون من الأمور المقوِّمة لمعنى الصَّلاة، وأمَّا سائر الأجزاء والشَّرائط فهي معتبرة في المأمور به لا في المسمَّى)(1) انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول: إنَّ مجال الأخذ بهذا البيان مرتبط بسبق علم المحقِّق قدس سره بأنَّ حالات المكلَّف

ص: 352


1- قوانين الأُصول ص 44.

في صلاته متفاوتة بين المتم في صلاته وبين المسافر المقصِّر حينها وبين الصَّحيح في جسمه والمريض والخائف والمطمئن والمتراخي في سعة وقته والمستعجل في ضيقه وحتَّى الغريق الَّذي لابدَّ أن تختلف صلاته في كيفيَّتها وكمَّيتها على أساس تسمية الشَّرع صلاة الغرقى بهذا الاسم لا من خصوص لسان الفقهاء كما قيل وبين القيام والقعود الاعتياديَّين وبين خصوص الجلوس أو النَّائم المضطجع يميناً أو يساراً أو المسجَّى المومئ وأمثاله لأنَّ الله لا يكلِّف [نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا](1) حتَّى أنَّ بعض الشُّروط والقيود مسقط بل حتَّى فاقد الطَّهورين على أحد الأقوال على أساس أن لا تسقط الصَّلاة بحال.

بينما كلامه مجمل، والمأمور به والمسمَّى كلاهما يختلفان بحسب مراتب التَّكليف، وفي أضعف حالات أصله قد تزيد بعض الشُّروط والقيود عن الحاجة إليها وحتَّى بعض الأركان كما في الغرقى، لأنَّه قد يكفيهم ما قاموا به حسب استطاعتهم، لإدراك البراءة الَّتي يتعقَّبها الموت للغريق حيث لم يهمل واجبه.

فإنَّ كان كذلك كما هو المعهود من مقامه قدس سره فالأمر سهل، ولكنَّه ينبغي منه أن يوضِّح هذا المقصود لإجمال كلامه وإن لم يكن من قصده ما ذكرنا ناسبه إيراد الشَّيخ النَّائيني قدس سره عليه حيث حاصل ما قال حول هذا:

(إنَّ الأركان تختلف بحسب اختلاف حالات المكلَّف من حيث كونه قادراً أو عاجزاً وغريقاً ونحو ذلك، فإنَّ الرُّكوع مثلاً ركن للصَّلاة له مراتب مختلفة وحالات متعدِّدة حيث أنَّ الواجب من الرُّكوع في مبدأ الأمر هو الانحناء إلى حدِّ يتمكَّن فيه المكلَّف القادر أن يضع كفيَّه على ركبتيه بقصد الرُّكوع، فإنَّ لم يمكنه ذلك يجب عليه أن ينحني بمقدار ما يتمكَّن إلى أن يبلغ أن يومئ للرُّكوع برأسه.

فحينئذٍ لابدَّ من تصوير جامع أخر بين تلك المراتب ليصير هو الموضوع له فيقع

ص: 353


1- سورة الأنعام / آية 152.

الكلام عن ذلك الجامع وأنَّه ما هو ومن أي أقسام الجامع فيعود الإشكال المتقدِّم)(1).

أقول: وقد قال بمثل مقالته أو ما يشبهها أخرون من أعلام الصِّناعة وبما يمكن أن يدل على عدم الحاجة إلى تشخيص الجامع على النَّهج الموحَّد كما عرف عن ظاهر صاحبالقوانين قدس سره أو غيره، لاختلاف المصاديق باختلاف حالات المكلَّف ممَّا مرَّ ذكره.

فلابدَّ من أن يكون الجامع متناسقاً مع اختلاف حالات المكلَّف المتفاوتة.

وغير مستبعد أن يكون إجمال كلام القمِّي قدس سره مقدَّراً بما يناسب كلام المعترضين في تفاوت الحالات إلى حدِّ الغرق أو حتَّى ما بعد الموت ممَّا يستدعي قضاء الولد الأكبر عمَّا فقد أو فسد من واجبات أبيه في حياته أو أوصى الوالد في القضاء عنه لا الجامع المشكل الَّذي ذكره الشَّيخ النَّأئيني قدس سره .

وعليه فتكون الصحَّة مع الحقيقة الشَّرعيَّة المخترعة بناءاً عليها أو المتشرعيَّة وإن دلَّت عليها نصوص ونصوص كقوله تعالى [وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ](2) وغيره ممَّا قد يتصوَّر من وراءه تمام الكمال.

والفساد ما كان في مقابله وهو تمام النَّقص وحتَّى عند القول بما كان الأعم من الصَّحيح والفاسد، لا مثل ما عبَّر به الشَّيخ النَّائيني قدس سره أيضاً من الإشكال في الجامع، حيث أنَّ الجامع يمكن تحقُّقه بالرِّضا والقبول مع النَّقص أو الفساد أو بعدمهما ولو مع تمام الكمال بسبب مثل سوء النيَّة عن الجهل القصوري.

فإنَّ الصَّحيح وإن طبقِّنا ما عرف عن ما في الكفاية قدِّس سرِّ مدونها وما أفاده الشَّيخ العراقي قدس سره من أنَّ هذين العلَمين(3) أفادا أنَّ الظاهر أنَّه لا خلاف بينهم في أنَّ حقيقة الصحَّة عبارة عن التَّماميَّة المسقطة للقضاء على مسلك الفقهاء أو ما وافق

ص: 354


1- أجود التقريرات ج1/41 - 42.
2- سورة العنكبوت / آية 45.
3- الشَّيخ القمي قدس سره صاحب القوانين، والشَّيخ النَّائيني قدس سره في أجود التَّقريرات.

الشَّريعة على مسلك المتكلِّمين، وعلى هذا كانت قناعة الأصوليِّين.

وحقيقة الفساد ما ساوق النُّقصان ممَّا يقابلها ممَّا قد يتوهَّم الوحدة الحديَّة من الحكمين الوضعيَّين.

فإنَّ الإطلاق في عبارتي العلَّمين لا يوحي إلى ما قد يتوَّهم، بل إنَّ اختلاف حالات المكلَّفين وتفاوتها ممَّا مرَّ ذكره هو الصَّحيح.

فلابدَّ من تعدُّد مراتب الصحَّة وعدم الحاجة إلى القضاء دائماً وكل المراتب وحالاتها الموافقة للشَّريعة على ما يطابق الأدلَّة الَّتي أفادها الفقهاء طول هذه الغيبة الكبرى حسبما يتناسب مع أهل الكمال الصحِّي ومن كان أدنى من أهل الأعذار وكذا ما في مقابل هؤلاء.

الرَّأي المختار

قد لوَّحنا في السَّابق ما آل إليه اختيارنا المتواضع من أنَّ الحقيقة الَّتي قد ترتضى هي المتشرعيَّة.

لما مرَّ ذكر بعضه من المستمسكات وهي كذلك، وتتبعها في المقام الآن الصحيحة وإن أريد منها التَّامة حدِّياً، لعدم المانع من إمكان أداءها على أحسن ما يرام على أساس إدراك تمام مصادرها الكاملة النَّافية لما عداها في آوان النِّزاع الدَّائر.

لكن لا على أن تكون الصَّحيحة العباديَّة هي خصوص المطابقة للحقيقة الجديدة والمخترعة الَّتي معها قرينة مجازيَّة صارفة، لعدم وجود ما يربطها ولو بيسير من المعنى اللُّغوي.

بل إنَّ التَّبادر وعدم صحَّة السَّلب إلى ذلك اللُّغوي لا يسمن ولا يُغني من جوع عمَّا يدَّعى من المعنى الشَّرعي المخترع والجديد، فالصَّحيحة هي المرتبطة بتصرُّف المتشرِّعة فقط والتَّبادر وعدم صحَّة السَّلب مصاحبان لها، بل والأقوى محتاج إلى نصب

ص: 355

القرينة الصَّارفة لو كانت هي الصَّحيحة.

وهذا الاختيار منَّا لا يعني نفي تصوُّر اعتبارنا للأعم من الصَّحيح والفاسد أو الصَّحيح والنَّاقص.

بل هذا الأمر ممَّا نختاره كذلك لإمكان تعقُّل الجامع المرتبط بالأدلَّة الكثيرة معه على كلِّ قضيَّة صغيرة وكبيرة من الأدلَّة الشَّرعيَّة الرَّاعية لذمار الحالات المختلفة والمتفاوتة من طبقات المكلَّفين في عباداتهم رأفة ولطفاً بهم ممَّا مرَّ بيانه.

ويسهل أمر اعتبارنا أكثر لهذا الأعم هو إمكان الانصراف إليه بالتَّبادر وعدم صحَّة السَّلب الَّذي مرَّ ذكره.

والإشكال الَّذي أورده الشَّيخ النَّائيني قدس سرهعلى الشَّيخ القمِّي قدس سره - بوجود المانع من تصوِّر الجامع الموحَّد لشتات موارد اختلاف المكلِّفين وتفاوتها -

غير مانع عن تصوُّر الجامع(1) لجميع حالات المكلَّف الَّتي بين الصَّحيح والفاسد، نظير(الكلمة) الموضوعة لما تركَّب من حرفين فصاعداً، ليكون الجامع بين الأفراد هو ما تركَّب من حرفين فصاعداً مع أنَّ الحروف ثمانية وعشرون حرفاً ومعها ما يلحق بها ممَّا يوسِّع دائرة احتواء الكلمات إلى أكثر المعاني لحالات المكلَّف في عباداته الَّتي أوَّلها الصَّلاة من ذات الأركان الأربعة أو الخمسة مع النيَّة المعدَّة روح العبادة.

فالكلمة وإن كانت هي الجامع المشترك مع كونه يصدق على (أب) المكوَّن من حرفين أو (ابن) المكوَّن من ثلاثة أحرف من حالات المكلَّف وإلى حدِّ الفرق في صلاته أو بعد مماته.

وكذا بقيَّة العبادات والأوسع ممَّا يسقط القضاء في الحياة أو يوافق الشَّريعة وقد حوت الكتب الفقهيَّة علميَّة وفتوائيَّة أغلب المسائل الإبتلائيَّة الَّتي تصل بعض كلماتها إلى سبعة، وقد قال بهذا الرَّأي صفوة من العلماء كالمحقِّق الكمبَّاني قدس سره.

ص: 356


1- راجع أجود التقريرات ج1/ 41 - 42.

مختصر ما يتعلَّق بأمر المعاملات

لا يخفى بعد أن عرفت ما ذكرناه عن معنى الصَّحيح ومعنى الفاسد ومعنى الأعم من الصَّحيح والفاسد وما مرَّ ذكره ولو بشيء من الإيجاز عن هذه الأمور عن العبادات ذكر الشَّيخ الآخوند قدس سره ما يخص أمور المعاملات أوَّلها بقوله:

(إنَّ أسامي المعاملات إن كانت موضوعة للمسبَّبات فلا مجال للنِّزاع في كونها موضوعة للصَّحيح أو الأعم لعدم اتِّصافها بهما كما لا يخفى بل بالوجود تارة وبالعدم أخرى)(1)، انتهى ما أردناه من كلامه الشَّريف.

أقول: إنَّ التَّركيب المتصوَّر من بيانه قدس سره عندما قال (للصَّحيح أو الأعم) حينما كان بين أجزاءه تلازم في التَّحقُّق لا يوصف بالصحَّة والفساد اعتماداً على معنى مسبِّبات المعاملات وملحقاتها كالملكيَّة والزَّوجيَّة من ذوات الإيجاب والقبول والفراق والحريَّة من ذوات الإيقاعات كالطَّلاق والإعتاق مع غض النَّظر عن الأسباب.

فإنَّه لبساطته كالمركَّب من الجنس والفصل كالحيوان والنَّاطق لنوع الإنسان فتركب ماهيَّة الإنسان لا يعني تركُّب وجوده الواحد، فهو إمَّا أن يكون موجوداً، وإمَّا أن لا يكون مثل أسامي هذه المعاملات الَّتي يُطلق عليها لفظ المسبِّبات دون إرادة أسبابها مثل الملكيَّة والزَّوجيَّة والفراق والحريَّة وغيرها ممَّا قد يُطلق عليه بالأحكام الوضعيَّة ممَّا أطلقنا عليه سابقاً بموضوع فهرست المباحث الأصوليَّة وما سيأتي بيانه من بقيَّة مضامينه في مناسبات أخرى آتية فهي الَّتي لا تتَّصف بالصحَّة والفساد لعدم إمكان التُّركُّب بين هذين الحكمين الوضعيَّين في نظره ولذا قال:

(لا مجال للنِّزاع في كونها موضوعة للصَّحيح أو الأعم إلخ).

لأنَّها قد تكون الملكيَّة عن طريق البيع أو الشِّراء والزَّوجيَّة عن طريق عقد النِّكاح أو

ص: 357


1- كفاية الأصول ج1 ص 32.

الفراق بالطَّلاق أو الحريَّة بالإعتاق أو لم يسبقها ذلك من الأسباب فتبقى بلا موضوع، وعلى هذا رأي المشهور.

لعدم إمكان تصوُّر ملكيَّة صحيحة وفي نفس الوقت هي فاسدة لعدم الجامع بينهما، وهكذا بقيَّة الأمثلة، على خلاف أمر ما مضى من العبادات المركَّبة من ذوات الثِّمار المشجِّعة على البحث في أمرها المتنازع فيه.

وفي مقابل ما ذكره الشَّيخ قدس سره في المقام قال بعد ذلك (وأمَّا إن كانت موضوعة للأسباب فللنِّزاع فيه مجال).

أقول: وهو ما يُعطي تمام المجال في مختصر عبارته المعروفة ولو في الجملة من تصوُّر النِّزاع في سبب الملكيَّة كالبيع والشِّراء وصيغة النِّكاح وصيغة الطَّلاق وصيغة الإعتاق من حيث الصحَّة أو الفساد أو الأعم منهما إذا تصرَّف بالسَّبب أجنبي فضوله إذا تعقَّب ذلك العقد الإمضاء في الصِّيغ الأربعة بناءاً على ذلك من توفُّر أجزاءها وشرائطها وعدمها.ولكن لم يظهر منه تصريح أو إشارة إلى كون النِّزاع من وجهة شرعيَّة أو عقلائيَّة ممضاة ولم يبدأ منه بجزم أنَّها في هذه المعاملات تعود للصَّحيحة، لكن كونه في عبارته لم يستبعد أنَّها اسم للصَّحيحة، فهي في نظره لو كانت تُعد أقرب إلى الأعم إلاَّ أنَّه من دون أن يظهر منه القول بأنَّ الأعم ممتنع.

وقد ظهر من السيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره الميلان إلى كون المحرِّك في النِّزاع هو الحالة العقلائيَّة الممضاة لا خصوص الشَّرعيَّة.

لأنَّ المعاملات في أساسها كانت عرفيَّة وعند تعارف أهل اللُّغة والشَّرع كان التَّعارف معهم دون أن تظهر منه حالة زائدة على المتَّعارف إلاَّ ما أضافه ممَّا كان في نظر أهل العرف الخاص كالمتشرعيَّة وإن حملت بعض الصيِّغ الممضاة بعض التَّسامحات في القديم ممَّا لم يقبله البعض كالمعاطاة في البيع أو النِّكاح بما هو أشد على ما سيتَّضح قريباً

ص: 358

من الأدلَّة.

ومن هذا وأمثاله يتبيَّن ما معناه الإمضاء منه لهم، بدليل أنَّ الصحَّة المأخوذة في مسمَّى المعاملات بناءاً على القول بالصَّحيح هي الصحَّة العقلائيَّة لا الصحَّة الشَّرعيَّة.

إذ لو كانت الصحَّة المأخوذة في مسمَّاها هي الصحَّة الشَّرعيَّة لاستلزم ذلك أن تكون الخطابات الإمضائيَّة كما في قوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ](1) لغواً واضحاً وتحصيلاً للحاصل.

وأضيف قائلاً: إنَّ هذا ما يعني إمضاء الشَّرع لما كان يجري في العرف اللُّغوي القديم لمطابقته لتعاليمه وعدم مطابقة الرِّبا لها، ولذا حرَّمه وصحِّحت البيوع القديمة بالإمضاء بل أطلق تعالى على البيع حتَّى على الفاسد منه كما في بيع يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ من قِبل أخوته عند قوله [وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ](2).

وكذا الأنكحة بل وكما ورد (لكل قوم نكاح)(3) ولو لتبقى سلالات البشر القديمة محفوظة بما تعارف عند القدامى من المبرزات القديمة على تعاليم السَّماء السَّابقة وإن تفاوتت عنَّا بعض الشَّيء في الظاهر إلاَّ ما عرَّفه النِّسابون منَّا كعقيل ابن أبي طالب (رضوان الله عليه) الخاطب لأم البنين سلام الله علیها لأمير المؤمنين "سلام الله عليه"، لمعرفة استقامة أهلها القدامى عن أهل الانحراف الجاهلي الَّذي لا يمكن التَّستُّر عليهم.

بل ورد أيضاً (الإسلام يجب ما قبله)(4) لو خضع أهل الكفر للإسلام وتعاليمه، لا بقبول الانحراف بعد ذلك، وبذلك يتم القول بما هو الأعم من الصَّحيح والفاسد.

ص: 359


1- سورة البقرة / آية 275.
2- سورة يوسف / آية 20.
3- تهذيب الأحكام: ج7 ص 472 ب 41 ح 99.
4- عوالي اللئالي) ج 2 ص 54 ج 145 وص 224 ح 38 (مسند احمد بن حنبل) ج 4، ص 199 و 204 و 208، جامع الصغير للسيوطي ج1 ص 123.

ثمرة النِّزاع في المقام

ممَّا مرَّ ذكره عن حال ما تأثِّره الأسباب المتحرِّكة من الحالة العقلائيَّة الممضاة وهي الَّتي لا تخلو إمَّا أن تكون مطابقة للشَّرع مع إمضاءه أو إمضاءه مع زيادة، فإذا شككنا في اعتبار شيء - عند الشَّارع - في صحَّة البيع مثلاً ولم ينصب قرينة على ذلك في كلامه فإنَّه يصح التَّمسُّك بإطلاقه لدفع هذا الاحتمال حتَّى لو قلنا بأنَّ ألفاظ المعاملات موضوعة للصَّحيح، لأنَّ المراد من الصَّحيح هو الصَّحيح عند العرف العام العقلائي ربطاً بالقديم المفروض علينا نحن المسلمين عندما جاء الإسلام العزيز وألزم نفسه بالتِّرحاب بالجاهليِّين حينما دخلوا الإسلام بعاداتهم وتقاليدهم الَّتي منها بعض العادات والتَّقاليد وعُدِّل بعضها لهم حتَّى قال النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم (إنَّما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق)(1).

لا أن يكون الصَّحيح عند خصوص الشَّارع المقدَّس إلاَّ إذا أضاف قيداً أو شرطاً وعند ذلك يكون الأمر كما في العبادات العائدة إلى الحقيقة المتشرعيَّة الَّتي لا تكون دخيلة في صدق عنوان المعاملة الموضوعة - افتراضاً - للصَّحيح على المصداق المجرَّد عن القيد وحالها في ذلك حال ألفاظ العبادات لو كانت موضوعة للأعم.

نعم لابدَّ للحقِّ أن يقال فيما لو كان هذا القيد دخيلاً في صحَّة المعاملة عند أهل العرف القدامى مثلاً أنفسهم أيضاً، فلا يصح التَّمسُّك بالإطلاق لدفع هذا الاحتمال بناءاً على القول بالصَّحيح (كما هو شأن ألفاظ العبادات)، لأنَّ الشَّك يرجع إلى الشَّك في صدق عنوان المعاملة كما عُرف عن سيرة ذي الجناحين جعفر الطيَّار عَلَيْهِ السَّلاَمُ الحميدة في أيَّام الجاهليَّة على ما ورد عنه قوله (ما زنيت قط منذ أن علمت أنِّي إذا أتيت أءتى)(2).

ص: 360


1- بحار الأنوار ج16 ص 210.
2- الدرجات الرفيعة ص 70 نقلاً عن الأمالي لابن بابويه، بحار الأنوار: 22/273، ح16.

وهكذا أهل هذا الزَّمان من الملل والنِّحل غير الإسلاميَّة لو جعلوا عندهم قيد أن لا يكون نكاحهم من مصاديق الزِّنا قيداً ثابتاً لا يصح التَّمسُّك بالإطلاق عند الشَّك إذا كان الزِّنا عندهم داخلاً ولو لقاعدة الإلزام.

وأمَّا على القول بالأعم السَّالم من التَّسالم على حرمته عندهم وإنَّما هي ربَّما تكون لو كان شيء مثل الشُّبهات الَّتي تدرأ عندها الحدود إسلاميَّاً فضلاً عن بقيَّة الملل، وإنَّما يصح التَّمسُّك بالإطلاق لدفع الاحتمال فتظهر الثَّمرة في المقام وإن كانت نادرة.

مختارنا في المقام

نختار في المقام عن المعاملات في باب الأسباب ما هو الأعم من الصَّحيح والفاسد دون الصَّحيح لناحية التركُّب كما مرَّ في باب العبادات إلاَّ أنَّه في المقام قليل لإمكان أن نختار حسبما مرَّ من الأدلَّة، وأمَّا في باب المسبِّبات فأمرها مرتبط بأسبابها لو وجدت دون ما لو لم تكن موجودة لبساطتها.

ص: 361

نهاية المطاف

وإلى هنا ينبغي لنا أن نكتفي بهذا القدر من الكلام عمَّا سمَّيناه في هذا الجزء في الباب الأوَّل بالمدخل وفي الباب الثَّاني بمقدِّمات مباحث الألفاظ لتكون بداية الجزء الثَّاني الآتي من الباب الثَّالث بحث المشتق وما بعده من بحوث مباحث الألفاظ، أرجو على ضعفه وقلَّة دقَّته ممَّا تيسَّر لي مع تشتُّت البال وكثر الأشغال مع قصد وجه الله تعالى السَّابق تقرُّباً إليه ولو لأداء أن لا أكون مقصِّراً تجاه واجب الانتماء إلى الحوزة النِّجفيَّة المطهَّرة منذ نعومة الأظفار أن يكون مقبولاً عنده وبدعوات المولى المعظَّم صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ للتَّأييد والتَّسديد إلى إكمال بقيَّة الأجزاء ولو كمقدِّمات يؤمل أن تطرح فيها أو بعدها لطلاَّبها بمقدارها البركات، والله ولِّي التَّوفيق.

ليلة الأربعاء الخامس من شهر رجب المرجَّب علاء الدِّين الموسوي

لسنة 1437ه- الغريفي

ص: 362

المصادر

ت

اسم الكتاب

1. القران الكريم

2. الاحتجاج / الطَّبرسي

3. الأسفار الأربعة / صدر المتألِّهين

4. الاستبصار / الطُّوسي

5. الإعجاز في القرآن العظيم / الباقلاني

6. الأصول الأصيلة / السيد عبد الله شبر

7. الأربعين / المجلسي

8. الإتقان / السيوطي

9. أجود التقريرات / تقريرات الشَّيخ النَّائيني للسيِّد الخوئي

10. البيان في تفسير القرآن / السيد الخوئي

11. البرهان / البحراني

12. الدر المنثور / السيوطي

13. الدرجات الرفيعة / للسيد على خان المدني

14. الكافي / الكليني

15. الكافي في أصول الفقه / السيد الحكيم

16. الكشكول / البحراني

17. اللآلئ المصنوعة /السيوطي

18. المباحث الأصوليَّة /الفياض

19. المبسوط / السرخسي الحنفي

20. المدارك / العاملي

ص: 363

ت

اسم الكتاب

21. الموطأ / مالك ابن أنس

22. المزهر / السيوطي

23. الملل والنحل / أبو الفتح الشهرستاني

24. المناقب / ابن شهر آشوب

25. المستدرك / للحاكم النيسابوري

26. المصباح المنير / المقري الفيومي

27. المقنع / الصدوق

28. المتوكِّلي / السيوطي

29. النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر / العلاَّمة الحلِّي.

30. السنَّة / ابن أبي عاصم

31. السنن الكبرى / البيهقي

32. الفصول المختارة / الشريف المرتضى

33. الفصول الغروية في الأصول الفقهية / الشيخ محمد حسين الأصفهاني

34 . القاموس المحيط / مجد الدين الفيروزآبادي

35. القواعد الفقهيَّة /البجنوردي

36. الشفاء / ابن سينا

37. التهذيب / الطوسي

38. التنقيح في شرح العروة الوثقى/ تقريرات بحث السيد الخوئي للشيخ الغروي

39. التقية / الشيخ الأنصاري

40. الذخيرة / المرتضى

41. الغيبة / الطوسي

42. أمالي / الشيخ الطوسي

43. أعيان الشيعة / السيد محسن الأمين

ص: 364

ت

اسم الكتاب

44. أصول الكافي / الكليني

45. أصول الفقه / الشَّيخ المظفَّر

46. إرشاد العقول إلى مباحث الأصول / السبحاني.

47. بدائع الأصول / الرَّشتي

48. بداية الوصول / الشيخ محمد طاهر آل راضي

49. بحار الأنوار / المجلسي

50. بحوث في علم الأصول / السيد الصَّدر

51. بصائر الدرجات / لمحمّد بن الحسن الصفار

52. جامع أسانيد أبي حنيفة

53. دعائم الإسلام

54. درر الفوائد / الشيخ عبد الكريم الحائري

55. وسائل الشيعة / الحر العاملي

56. وقاية الأذهان / الشيخ محمّد رضا النجفي الأصفهاني

57. حاشية المكاسب

58. حلية الأولياء

59. ينابيع المودة / القندوزي الحنفي

60. كشف الغمة

61. كنز العمال

62. لسان العرب

63. مجموعة ورَّام

64. مجمع البيان

65. مجمع البحرين

66. مودة القربي / المير سيد علي الهمداني الشافعيت

ص: 365

اسم الكتاب

67. محاضرات في أصول الفقه

68. ميزان الحكمة / الرَّيشهري

69. ميزان الذهب / الهاشمي

70. مناقب آل أبي طالب / الخوارزمي

71. مناقب أبي حنيفة / الخوارزمي

72. من لا يحضره الفقيه

73. منتهى الأصول / البنجوردي

74. منتهى الدراية

75. منتهى المطلب / العلامة الحلي

76 معالم الدين وملاذ المجتهدين / لابن الشَّهيد الثَّاني

77. مفاتيح الجنان / الشيخ عباس القمي

78. مصباح الأصول / الخوئي

79. مصباح الفقاهة

80. مقالات الأصول

81. مقدمة صحيح مسلم

82. مشكاة المصابيح

83. مشكل الآثار

84. مغني اللبيب لابن هشام

85. نهاية الأفكار

86. نهاية الدراية في شرح الكفاية / الغروي الأصفهاني.

87. نهج البلاغة: الكتاب 47.

88. نتائج الأفكار / للمروِّج الجزائري تقريراً لأبحاث السيِّد الشَّاهرودي قدس سره

89. سير أعلام النبلا

ص: 366

اسم الكتاب

90. سنن أبي داود

91. سنن الترمذي

92. سنن الإمام أحمد

93. سنن أبي يعلى

94. سنن / الحافظ أبو بكر البيهقي الشافعي

95. عوالي اللئالي

96. عيون أخبار الرِّضا

97. عناية الأصول / للفيروز آبادي

98. فوائد الأصول / الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

99. فرائد الأصول / الشَّيخ الأنصاري

100. فرائد السمطين

101. فتح الباري بشرح صحيح البخاري / ابن حجر العسقلاني

102. صب العذاب على من سب الأصحاب / الآلوسي

103. صحيح الجامع الصغير للسيوطي

104. صحيح البخاري

105. صحيح مسلم

106. صفات الشيعة / الشيخ الصدوق

107. قوانين الأصول / القمِّي

108. قواعد الأحكام في مصالح الأنام / عز الدِّين ابن عبد العزيز ابن عبد السَّلام السَّلمي

109. روح المعاني / الآلوسي

110. رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عَلَيْهِ السَّلاَمُ / السيد علي خان المدني

111. شرح منظومة الشَّيخ هادي السَّبزواري قدس سره

112. شرح الكافية / الشَّريف الرَّضي.

ص: 367

اسم الكتاب

113. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 17 / 6 نحوه

114. تأويل الآيات الظاهرة

115. تأريخ بغداد

116. تهذيب الأحكام / الطوسي

117. تهذيب الأصول / السَّبزواري

118. تنقيح الأصول / الخميني

119. تسديد الأصول / الشيخ محمد المؤمن القمي

120. تفسير الإمام العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ

121. تفسير الطبري

122. تفسير المنار / محمَّد رشيد رضا

123. تفسير المراغي

124. تفسير الرازي

125. تفسير عبد الرزاق

126. تصحيح الاعتقاد / الشيخ المفيد

127. تشريح الأصول

128. ثواب الأعمال

129. غاية المأمول / للجواهري قدس سره تقريراً لبحث السيد الخوئي قدس سرهn

ص: 368

فهرس

1 - كلمة النَّاشر... 3

2 -المقدِّمة... 6

3 -الباب الأوَّل في التَّمهيد في مداخل ... 8

4 -المدخل الأوَّل: تأريخ علم أصول الفقه ومدى الحاجة إليه في خلاصة أدواره... 8

5 - المدخل الثَّاني: لماذا العناوين الأصوليَّة بين كونها نظريَّات وكونها قواعد ... 14

6 -المدخل الثَّالث: معايب عدم العناية بالمصطلحات العلميَّة وأسبابها ... 22

7 -المدخل الرَّابع: السَّعي في رفع مشاكل الكمال الحوزوي بتأخُّره عمَّا كان في أدوار الخير من الانتعاش ...30

8 -المدخل الخامس: ظاهرة فقاهة العرب وأصوليَّة غيرهم ... 37

9 - التَّنبيه على إمكان تلاقي الفقاهة والأصول للخلاص من مخاطر بعض الفتن المقدور عليها... 46

10 -المدخل السَّادس: هل يمكن تساوي اجتهاد الفقيه مع اجتهاد الأصولي ومعه أيُّهما المقدَّم؟ وفيه محاولة المقارنة الزَّمنيَّة بين الفقاهة الأولى والأصول ...49

11 -المدخل السَّابع: كيفيَّة علاج ما قيل عن الجمود الإخباري والتَّوسُّع الأصولي المخيف... 57

12 -المدخل الثَّامن: بدعة الحداثة أو التَّجديد في الشَّرع بما ليس منه ... 63

13 -خاتمة في ابتداع عمليَّة تقليص روايات الجوامع والمجامع ... 67

14 -المدخل التَّاسع: التَّنويه عن مواقع ذكر ما يخص آيات الأحكام من العناوين وتوابعها أصولاً وقواعد... 72

ص: 369

15 -المدخل العاشر:التقية وكون استنباط الحكم الشَّرعي الواقعي أو حتَّى الظَّاهري أصوليَّاً مانعاً أم لا؟ ...76

16 -المدخل الحادي عشر: أصالة عروبة الدَّليلين اللَّفظيَّين ولوازمهما بين المولوي الاجتهادي والإرشادي الفقاهتي

دون غيرها ... 84

17 -المدخل الثَّاني عشر: من أصول الاستنباط الشَّرعي نثريَّة النُّصوص في الكتاب والسنَّة لا شعريَّتها...103

18 - الباب الثَّاني: فهرست الدِّراسات الأصوليَّة الآتية ... 124

19 - بداية ما يُسمَّى بمبادئ علم الأصول أو مقدِّمات مباحث الألفاظ ... 133

20 - المبحث الأوَّل: موضوع كل علم وبالأخص علم الأصول ... 133

21 -المبحث الثَّاني: عدم الفرق بين الذَّاتيَّات والعوارض الغريبة في الشَّرعيَّات ...138

22 -المبحث الثَّالث: كيف تُرد شبهة أنَّ الواحد يمكن أن يصدر من متكثِّر لموضوع كل علم؟...144

23 - المبحث الرَّابع: بأي شيء تمايز العلوم هل هو بالموضوع أم بالغاية؟ ... 147

24 -المبحث الخامس: ما هو موضوع علم الأصول الخاص به إن كان؟ ... 152

25 - المبحث السَّادس: التَّحديد أم التَّعريف والرَّسم أم شرح الاسم لعلم الأصول... 156

26 - المبحث السَّابع: لماذا بدأ صاحب المعالم بتعريف الفقه دون الأصول ... 158

27 -المبحث الثَّامن: بعض الكلام عن الفرق بين القاعدة الأصوليَّة والقاعدة الفقهيَّة...161

28 - المبحث التَّاسع: الكلام عن بقيَّة ما يلزم من الرُّؤوس عن الأصول ... 164

29 -الثَّالث: منها غاية علم الأصول ... 164

30 -الرَّابع منها: فوائد علم الأصول ... 165

ص: 370

31 - ملحق بفوائده ومضار تركه ... 169

32 - الخامس منها: حول مرتبته العلميَّة بين العلوم ... 171

33 - المبحث العاشر: من مبادئ مباحث الألفاظ ذو المقدِّمة (الوضع) للمسائل ... 172

34 - (أقسام الوضع من حيث المناشئ)... 173

35 - (الوضع التَّعييني والتَّعيُّني والاستعمال في كل منهما) ... 173

36 - (تجلِّي معنى الوضع بين ما قيل وما يُقال) ... 174

37 - المبحث الحادي عشر: من هو الواضع للألفاظ ... 177

38 -المبحث الثَّاني عشر: توجيه معنى الوضع الذَّاتي وغيره ... 181

39 - المبحث الثَّالث عشر: القِدَم والحدوث القرآني وألفاظ آيات الأحكام ... 187

40 - سبب النِّزاع في القِدَم والحدوث بين المسلمين هو الفلسفة اليونانيَّة وأسباب أخرى...189

41 -توضيح: حول انقسام المسلمين من الأشاعرة والعدليَّة من المعتزلة والإماميَّة ... 191

42 - انقسام الصِّفات الإلهيَّة كلاميَّاً إلى ذاتيَّة وفعليَّة والفرق بينهما ... 192

43 - الحديث النَّفسي وعدم تعقُّله ... 194

44 - بعض ما قد يستدل به المتطرِّفون في القِدَم والحدوث لكلام الله والإجابة عليه... 195

45 - نتيجة البحث النِّهائيَّة ... 203

46 - المبحث الرَّابع عشر: أقسام الوضع الأربعة ... 205

47 - المبحث الخامس عشر: وقوع الحروف وتوابعها وعودها للقسم الثَّالث أقرب من الرُّجوع للأوَّل...208

48 - المبحث السَّادس عشر: لماذا النِّزاع في إمكان الرَّابع والامتناع في وقوعه ... 212

ص: 371

49 - المبحث السَّابع عشر: تبعيَّة الدِّلالة للإرادة أم لا؟ والثَّمرة العمليَّة المترتِّبة على ذلك...217

50 -المبحث الثَّامن عشر: دور الاستعمال بين الوضع والدِّلالة دون الإرادة ... 227

51 - المبحث التَّاسع عشر: خلاصة الأمثلة الَّتي مرَّت من بداية الأوضاع إلى آخر مواضعها ... 232

52 - تتمَّة تابعة لما مضى ... 234

53 - المبحث العشرون: معنى الحكم الشَّرعي وتوجيه مراتبه ... 237

54 - المبحث الحادي والعشرون: اشتراك التَّكاليف الشَّرعيَّة بين العالم والجاهل في ملحوظات الحكم

الواقعي ... 244

55 -المبحث الثَّاني والعشرون: هل بين الأحكام الشَّرعيَّة الخمسة تضاد أم لا؟ ... 250

56 - تتمَّة نافعة: حول التَّقسيم بين التَّكليفي والوضعي والفرق بينهما من النِّسب الأربع ... 257

57 - المبحث الثَّالث والعشرون: هل الأحكام الشَّرعيَّة والوضعيَّة من الأمور الخارجيَّة التَّكوينيَّة

أم الاعتباريَّة؟ ... 258

58 - المبحث الرَّابع والعشرون: عِلَّة الحكم وحكمة التَّشريع ... 263

59 - المبحث الخامس والعشرون: عدم خلو كل واقعة من الحكم الشَّرعي ... 271

60 - المبحث السَّادس والعشرون: الأوضاع اللُّغويَّة المتعارفة واستعمالاتها وما دار فيها من التَّفاوت

النَّظري والعملي في الأصول ... 275

61 -الأوَّل: مبحث الإفراد والتَّركيب ... 277

62 -ويلحق بالإفراد والتَّركيب أوَّلاً: انقسام الوضع المستعمل إلى شخصي ونوعي ... 279

63 - ثانياً: هل الأسبقيَّة للوضع أم للاستعمال ... 282

64 - الخلاصة ... 284

ص: 372

65 - الثَّاني: مبحث الخبر والإنشاء ... 285

66 - تتمَّة مجملة عن التحاق الجملة الشَّرطيَّة بالحمليَّة من الخبر والإنشاء ... 289

67 - الثَّالث: مبحث الاختصاص والاشتراك ... 290

68 - ويلحق بالاختصاص والاشتراك: القول باستعمال اللَّفظ في أكثر من معنى ... 300

69 - الرَّابع: مبحث المشترك المعنوي أو ما يسمَّى بالمتَّرادف ... 305

70 - الخامس: مبحث الحقيقة والمجاز ... 307

71 - يُلحق بذلك علامات الحقيقة ... 311

72 -الأولى: التَّبادر ... 312

73 - الثَّانية: صحَّة الحمل أو عدم صحَّة السَّلب ... 316

74 - دفع لوهمين حول كلا العلامتين... 318

75 -الثَّالثة: الاطِّراد وعدمه ... 319

76 -الرَّابعة والخامسة: تنصيص الواضع وتنصيص أهل اللُّغة ... 322

77 - المبحث السَّابع والعشرون: تعارض الأحوال ... 325

78 -المبحث الثَّامن والعشرون: الأصول اللَّفظيَّة ... 334

79 -أصالة الحقيقة ... 335

80 - أصالة عدم النَّقل ... 336

81 -أصالة عدم الاشتراك ... 337

82 -أصالة العموم ... 337

83 - أصالة الإطلاق ... 338

84 - أصالة عدم التَّقدير ... 338

85 -أصالة الظهور ... 339

86 -المبحث التَّاسع والعشرون: الحقيقة الشَّرعيَّة أم المتشرعيَّة في نظرتهما الأولى... 340

ص: 373

87 - المبحث الثَّلاثون: الصَّحيح والأعم من الصَّحيح والفاسد ... 346

88 - محل النِّزاع في المقام ... 349

89 - ثمرة البحث ... 349

90 - معنى الصَّحيح والفاسد من حيث العموم ... 351

91 - إجمال ما يتعلَّق بالعبادات ... 352

92 -الرأي المختار ... 355

93 - مختصر ما يتعلَّق بأمر المعاملات... 357

94 -ثمرة النِّزاع في المقام ... 360

95 -مختارنا في المقام ... 361

96 - نهاية المطاف ... 362

97 - المصادر ... 363

98 -فهرس ... 369

ص: 374

ص: 375

جوال: 07801010517 ، 07827760880 ، 07813015930

ص: 376

المجلد 2

هوية الکتاب

تَأليف سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الحاج السيد علاء الدّينَ المُوسَوی الغریفی دامت برکاته

الطبعة الأولى 1442 ه- / 2021م

ص: 1

اشارة

ص: 2

كلمة النَّاشر

اشارة

وبه نستعين

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله محمَّد المصطفى، وعلى آله الطَّاهرين ذوي العُلا، واللَّعن الدَّائم على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدِّين، وبعد:

فهذا هو الجزء الثَّاني من الكتاب المسمَّى ب- (مساعي الوصول إلى المثمرات من الأصول) لسماحة سيِّدنا المفدَّى المرجع الدِّيني الكبير والفقيه النِّحرير آية الله العظمى السِّيد علاء الدِّين الموسوي البحراني الغريفي "دام ظلُّه الوارف" البادئ من الباب الثَّالث والمختص بجملة من مباحث الألفاظ بعد الانتهاء من الجزء الأوَّل الماضي والخاص بمقدِّمات مباحث الألفاظ.

نقدِّمه بين يدي المطالع الكريم بعد استحصال الموافقة من سماحته "دامت تأييداته" وتفضُّله علينا بها لطباعته ونشره، راجين منه ومن الجميع التَّفضُّل بالدُّعاء لنا بالتَّسديد والتَّأييد في إكمال نشر جميع أجزاء هذا الكتاب القيِّم، وجميع ما ينتجه يراعه الشَّريف وقلمه المنيف.

كما نسأل الله تعالى أن يمتِّعنا بطول بقائه وفي أتم صحَّة وعافية، إنَّ الله سميع مجيب.

النَّاشر

ص: 3

ص: 4

المحتوى الإجمالي لمضامين الجزء الثَّاني

الباب الثَّالث / مباحث الألفاظ

(الاشتقاق)

1 - التَّمهيد الأوَّل (تلخيص المبادئ اللُّغويَّة والمبادئ الأحكاميَّة للرَّبط بين الجزء الأوَّل والجزء الثَّاني).

2 - التَّمهيد الثَّاني (ضرورة البدء في الأصول بمباحث الألفاظ).

3 - (ذو التَّمهيدين - المشتق وما بعده من مباحث الألفاظ).

4 - الأوامر والنَّواهي الإلهيَّة من آيات الأحكام وما يلحقها من السنَّة، وهي في أمور:

الأمر الأوَّل: (المدخل لها - وهو لا بديَّة الحكم المسبق ولو إجمالاً بكون الحالة بين هذه الأوامر والنَّواهي على أنحاء من الأمور هذا أوَّلها - ويلحق بهذا الأمر «تفاصيله في طيَّات المباحث المناسبة الآتية ممَّا لا يخفى على المتتبِّع الحاذق، نمر عليها فيما يأتي»).

الأمر الثَّاني: العقائديَّة النَّظريَّة، ومنها الفرعيَّة أو غير الضَّروريَّة وترجُّح إلحاقها بالفقه العام.

الأمر الثَّالث: ما يناط بالمقام الخاص من بحثي الأوامر والنَّواهي.

الأمر الرَّابع: مع الأوامر والنَّواهي، أو هل يمكن أن يقال عنهما ذلك معاً، وهو أنَّ الأمر نهي والنَّهي أمر.

الأمر الخامس: الفرق بين الطَّلب المولوي والإرشادي أمراً ونهياً.

ص: 5

الأمر السَّادس: كيفيَّة التَّصوير التَّوضيحي لما يقال عن الأمر والنَّهي معاً مع إمكانه أو حالة عدمه.

الأمر السَّابع: كيف تكون الأوامر والنَّواهي محدودة بأربعة؟، والأحكام التَّكليفيَّة المشهورة خمسة.

الأمر الثَّامن: ألفاظ أخر يمكن أن تؤدِّي مؤدَّى الأوامر والنَّواهي إعراباً عن الأحكام الخمسة.

الأمر التَّاسع: الأحكام الوضعيَّة التَّابعة للأحكام الخمسة صحَّة أو فساداً أو قبولاً أو عدماً

الأمر العاشر: انقسام الطَّلب إلى شيئين من حيث النَّوع، طلب فعل وهو الأمر، وطلب ترك وهو النَّهي.

الأمر الحادي عشر: دلالة الأمر في أساسه على الوجوب دون بقيَّة الأحكام، وإن دلَّ على ما يفيد الحرمة مع القرينة تهديداً.

الأمر الثَّاني عشر: الوضع والاستعمال في اللُّغة والشَّرع، وإن دخل ما يدل على أكثر من معنى اعتماداً على القرينة.

الأمر الثَّالث عشر: دلالة الأمر على الاستحباب بالعنوان الأوَّلي مع القرينة، وبالعنوان الثَّانوي عند الحاجة وإن كره أوَّليَّاً.

الأمر الرَّابع عشر: دلالة الأمر على القدر المشترك.

الأمر الخامس عش: دلالة الأمر على الاشتراك لغة.

الأمر السَّادس عشر: التَّوقُّف في دلالة الأمر على الشَّيء بعينه، والانتهاء إلى القول بالوجوب الشَّرعي.

الأمر السَّابع عشر: التَّنبيه على ما عدا الوجوب والاستحباب لغة واصطلاحاً شرعيَّاً في مدى إرادته من الأوامر.

ص: 6

الأمر الثَّامن عشر: توابع الأوامر والنَّواهي، وهي:-

التَّابع الأوَّل: المرَّة والتِّكرار.

التَّابع الثَّاني: الفور والتَّراخي.

التَّابع الثَّالث: الواجب الموسَّع والمضيَّق.

التَّابع الرَّابع: هل يدل منع الوجوب على الجواز.

التَّابع الخامس: الحقيقة الشَّرعيَّة والمتشرعيَّة.

التَّابع السَّادس:

بحث الأوامر المكرَّرة.

التَّابع السَّابع: الأمر بالأمر.

التَّابع الثَّامن: أداء المأمور به هل يتبعه قضاؤه بدليله وعكسه؟

التَّابع التَّاسع: هل يجزي الأمر مع انتفاء الشَّرط.

التَّابع العاشر: المفاهيم وهي في ستَّة أمور:-

1 - سعة لغة القران وإلى الأخذ بالمفاهيم ولو في الجملة.

2 - عناية الأصوليِّين بها واختلافهم في موقعيَّة بحثها والسِّر فيه.

3 - معنى المفهوم.

4 - هل إنَّ المفاهيم تابعة لمباحث الألفاظ أم للعقل غير المستقل.

5 - هل المفهوم في بابه حجَّة أم لا؟

6 - أقسام المفاهيم وتعدادها، وهي في خمسة وسادسها تتميم مهم.

أ - مفهوم الشَّرط.

ب - مفهوم الوصف.

ج - مفهوم الغاية.

د - مفهوم الحصر والاستثناء.

ه- - مفهوم العدد واللَّقب.

ص: 7

و - تتميم مهم مغفول عنه عن دلالة الاقتضاء والتَّنبيه والإشارة.

التَّابع الحادي عشر: مقدِّمة الواجب.

التَّابع الثَّاني عشر: ما يلحق بمقدِّمة الواجب (الواجب النَّفسي والغيري).

التَّابع الثَّالث عشر: الضِّد ومعقوليَّاته ومقبوليَّاته.

التَّابع الرَّابع

عشر: هل إنَّ الأهم في بحث الضِّد أنَّه العلمي فقط؟ أم ليجني ثماراً ولو بشرط؟

التَّابع الخامس عشر: بحث التَّرتُّب.

التَّابع السَّادس عشر: هل يدل النَّهي على الفساد في العبادة أو المعاملة أم لا؟

الخاتمة للجزء الثَّاني عن مباحث الألفاظ، وهي الباب الرَّابع على اختصارها حول النَّواهي المستقلَّة.

ص: 8

التَّمهيد الأول

تلخيص المبادئ اللَّغويَّة والمبادئ الأحكاميَّة

المدخل:-

لمَّا اعتبر المهمُّون من الأصوليِّين أنَّ أساس البحث والحديث المناسب عن طرفي مبادئ العنوان أعلاه للغويَّة والأحكاميَّة معاً -- في أصولهم الصِّناعيَّة والأوسع منها لأهل التَّبحُّر الاستنباطي الفقهي العظيم له وفيه محوريَّة مهمَّة جدَّاً -- يتكفَّل التَّفصيل عنها بما ينتفع به أصوليَّاً من المبدأ إلى المنتهى وبالطَّاقات الإضافيَّة الإلهيَّة الأخرى للفقه الإسلامي الأزكى في منابع، ولكافَّة أجزاء كتابنا الثَّلاثة الخاصَّة بمباحث الألفاظ ومقدِّماتها، وهي الجزء الَّذي مضى إنجازه وطباعته حول المقدِّمات، وهذا الجزء الَّذي بين يدي الطَّالب والباحث والمطالع الكريم، والَّذي يليه بإذن الله تعالى وتوفيقه الجزء الثَّالث المهيَّأ للتَّدقيق والطِّباعة.

ومن بعد ذلك البحوث اللُّبيَّة وغيرها لإتمامها كأجزاء خمسة بإذن الله الميِّسر تبارك وتعالى أو ما يزيد.

ناسب اهتمامنا على ضوء اعتبارهم الهام بتلخيصنا للكلام عن اللغويَّة من تلك المبادئ وعن الأحكاميَّة.

ليكون القارئ الكريم على ذُكر في ذهنه المحترم حينما مرَّ على معارف الجزء الأوَّل الَّتي تكثر فيه عادة أمور المبادئ اللُّغويَّة العامَّة منها والخاصَّة وما يخصُّه منها، والَّتي قد تكون منها بعض ما في الجزأين الأخيرين.

وحينما يمر على ما يتعارف ذكره على الأكثر من أمور المبادئ الأحكاميَّة - قبل البدء ببحث المشتق ليتم الرَّبط الموضوعي في ذهنه عن هذا الملَّخص بين التَّفاصيل

ص: 9

الماضية والآتية، لأنَّ الماضية وإن كانت مثلها تُعد من المبادئ إلاَّ أنَّها كمبادئ للآتية الأحكاميَّة.

ولذا فرَّقنا بين موضوعي تعارض الأحوال الماضي ذكره في آخر الجزء الأوَّل وتعارض الأدلَّة الآتي ذكره حسبما أوضحناه من السَّبب في محلِّه المناسب.

وبما أنَّ كلاًّ من جزئي هذا العنوان يحتاج إلى بيان خاص به، فقد رتَّبناهما على مطلبين:

المطلب الأوَّل / تلخيص المبادئ اللَّغويَّة

وهو بحسب التَّناسب العلمي التَّسلسلي بين المقدَّم والتَّالي يكون مقدَّماً في البيان بالاختصار الَّذي صمَّمنا عليه على تاليه لحكمة ما لا يمكن الإحاطة به إلاَّ في أمور:-

أوَّلها - أنَّه ممَّا ثبت تحقُّقه وجداناً وفطرَّيَّاً لبني البشر وبما لا يقبل الإنكار من الوجهة اللَّفظيَّة اللِّسانيَّة ومن كل أحد إلاَّ عند التَّعوُّق ضرورة الإقرار بنعمة البيان عند كل إنسان والحاجة إلى التَّفاهم عن طريق اللِّسان على خلاف البهائم المسخَّرة إلهيَّاً للبشر والببغائيَّات المحدودة بحدود التَّبعيَّة لهم لا غير.

فلابدَّ إذن لهذه النَّاحية اللُّغويَّة في مباديها من ذكر ما يحوجنا إلى استعراض ما يتيسَّر لنا مع الاختصار إلى ضرورة الإفصاح لمن يحتاج إلى التَّعلُّم والتَّهجِّي بالحروف الهجائيَّة ومن بعدها الأبجديَّات من ألفاظها اللُّغويَّة، الَّتي عن طريق الهجائيَّة والأبجديَّة يمكن تحقُّق التَّعرُّف على كيفيَّة تكوين الكلمات المفردة والمركَّبة ومن كافَّة اللُّغات الأصيلة.

وأهمِّها العربيَّة، وهي المفضَّلة على جميع أساليبها لو كانت قرشيَّة وبفصاحتها المعروفة.

ولكونها لغة القرآن والسنَّة ومن مداركها بعدهما كانت القواميس اللُّغويَّة

ص: 10

المعتمدة، أو عموم اللُّغة العربيَّة بالدَّرجة المقاربة لو تنضبط في قواعدها الأدبيَّة المنتجة للألفاظ الصَّالحة للتَّفاهم النَّاجح دلالةً واستعمالاً مفردات ومركَّبات مترابطة لو كانت راسخة في الأذهان بحيث يصح السُّكوت عليها من المتكلِّم والسَّامع إن لم تصطدم مع أساسيَّات الثَّوابت الشَّرعيَّة بالنَّتيجة، حيث صارت بمعونة تلك القواعد الأدبيَّة عن تلك العلوم من النَّحو والصَّرف والتَّجويد والقراءات والمعاني والبيان والبديع من مباحث ألفاظها.

وعلى الأخص لو كانت تلك المعارف وقواعدها ممَّا ورد صحيحاً عند بزوغ شمس الإسلام والرِّسالة المحمديَّة على صاحبها وآله "صلوات الله وسلامه عليه" وبما قد تفوق عموم اللًّغة القرشيَّة في المصطلحات العلميَّة في لسان الكتاب والسنَّة.

كما ورد مؤكَّداً من توجيهات المعلِّم الأوَّل بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهو مولانا ومولى الثَّقلين أمير المؤمنين ربيب الوحي علي u لتلميذه أبي الأسود الدُّئلي والَّذي أخذ منه الخليل الفراهيدي ومن الخليل.

تمَّ أخذ سيبويه الَّذي كان مبناه التَّوسُّعي الأدبي بعد التتَّبُّع والاستقراء مع مشافهة كلام العرب الأصلاء والأقحاح، وعلى قاعدة ما كان يعتمد سيبويه عليه في استدلالاته لو نطلب منه مصادرها من أحد يجيبه بقوله (العرب ببابك).

رغم محاربة علماء السُّوء والتَّزلُّف لسلاطين الجور العبَّاسي له، والَّتي ما آتت أكلها بالنُّضوج والأريحيَّة الأدبيَّة والإعجازيَّة الإسلاميَّة وما رسَّخت تلك القواعد لها بعده حتَّى جاءت تطابقها تلك القواميس المعتمدة إلى اليوم، إلاَّ ما قلَّ وندر ممَّا خلَّفه الأعداء وشطحات بعض الجهلة المتأخِّرين وبما جمع كل ما مرَّ ذكره من الأمر الأوَّل - مورد حديثنا - وكذلك الثَّاني الآتي.

إلاَّ على نهج ما أتحفنا به أوَّلاً وآخراً أمام الفصاحة والبلاغة، بل شريك القرآن وعدله والقرآن النَّاطق الإمام علي u، بل والَّذي عنه وعن الزَّهراء سلام الله علیها وعن

ص: 11

أبناءهما الأئمَّة الطَّاهرين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ أهل لسان الثِّقل الثَّاني بعد كتاب الله في حديث الثَّقلين المتواتر بين الفريقين.

ولذلك أصبحت تلك الألفاظ الواردة عنهم وعن تلامذة الإمام العظيم وقواعدهم جامعة مانعة ابتداءاً من مباديها اللَّفظيَّة وانتهاءاً في تلك التَّعاليم إلى المبادئ الأحكاميَّة المقبلة.

وعلى فرض ورود ما سار عليه النَّحوي ابن النَّاظم صحيحاً في شرحه لألفيَّة والده ابن مالك النَّحويَّة، لأنَّ منهجه النَّحوي كان عقليَّاً وهو على نحو التَّثليث المحصور عقلاً لأجزاء الكلمة وإن كان كتثليث الاستقرائيِّين في كونها من الأسماء والأفعال والحروف، إلاَّ أنَّها كانت في نظره على نحو الحصر العقلي، لا ما كان أكثر وهو عند بعض من قد يتصوَّر سذاجة أو على نحو الإمكان بلا مصداقيَّة.

ولكن ذلك في حالة التَّوجُّه الإسمي في عالم المصاديق لا خلاف فيه بين الحالتين من حيث النَّتيجة، حيث اتَّفق العقل والنَّقل على الثَّلاثة، وعلى أن لا يعدو عن كلام أمير المؤمنين u وكما ورد عنه مشهوراً بين الفريقين من تحديداته لنفس الثَّلاثة.

بل قال النُّحاة الآخرون مشهوراً كذلك وممَّا يمكن فيه جمع الحالتين لنفس الثَّلاثة عبارة (لو كان ثمَّة هناك نوع رابع لعثرنا عليه) حسب تعبير ابن هشام الأنصاري.

وعلى فرض تقديم الحصر العقلي ولو جدلاً على التتبُّعي الاستقرائي - فإنَّا نقول بأنَّ جميع ما ورد مع آثار ما لا يخفى على أرباب اللُّغة العامَّة من آيات وروايات ومنها ما صحَّ وروده مشهوراً من طرقنا وغيرها أصوليَّاً عن أمور المبادئ الأحكاميَّة الآتية قريباً تكون إرشاديَّة للعقول الَّتي وصلت إلى هذه القواعد.

كيف وأمير المؤمنين u كان واضع حدودها وقواعدها بما لا خصومة فيه بين الاثنين ولو كان شيء يغايرها لبانت بعض آثار ذلك.

ص: 12

ثانيها - أنَّه ثبت بالتَّحقيق الفطري والوجداني ومن أمر التَّجربيَّات الكاملة وغيرها، أو فقل النَّاقصة تنزُّلاً لصالح أعداء سيبويه كالكسائي والفرَّاء الطَّائفيَّين ضدَّ الشَّاب الفطحل المنتسب في علمه إلى مدرسة أمير المؤمنين "سلام الله عليه"(1).

ص: 13


1- إشارة إلى المسألة الزَّنبوريَّة المشهورة الَّتي نقلها الكثيرون في كتبهم كالدميري في كتابه حياة الحيوان الكبرى وابن هشام الأنصاري في كتابه مغني اللَّبيب:- حيث أنَّ سيبويه قصد بغداد قادماً من البصرة، لقضاء حاجة خاصة به لعلَّها ضائقة ماليَّة، وحدث أن قصد وزير هارون الرشيد يحيى البرمكي، فأكرمه وأوسع له، واستقبله بحفاوة، وبعد أن طاب المستقر لسيبويه عُرض عليه أن يناظر زعيم مدرسة النحو في الكوفة الكسائي، فوافق على ذلك مسروراً للخروج من هذه المناظرة بالعلم والفائدة، وكانت أبرز مسألة ناقشوها وسُميِّت المناظرة باسمها هي (المسألة الزُّنبوريَّة). وغير خفي أن أشهر مدرستين اختصَّتا بدراسة وتدريس علم (النحو)، مدرسة الكوفة بزعامة الكسائي، ومدرسة البصرة بزعامة سيبويه الَّذي كان شابَّا يافعاً وأثبت نفسه في غزارة علمه، وقد تلمَّذ على العالم الكبير واضع علم العروض ومفصّل أسماء البحور الشعرية (الخليل بن أحمد الفراهيدي). فلما حضر سيبويه تقدَّم إليه الفرَّاء وخلف، فسأله خلف عن مسألة فأجاب فيها، فقال له: أخطأت، ثمَّ سأله ثانية وثالثة، وهو يجيبه، ويقول له: أخطأت، فقال له (سيبويه) هذا سوء أدب، فأقبل عليه الفرَّاء فقال له: إنَّ في هذا الرَّجل حِدّة وعَجَلةٌ، ولكن ما تقول فيمن قال: ((هؤلاء أبون ومررت بأبين)). كيف تقول على مثال ذلك من: ((وأيتُ أو أويتُ))، فأجابه، فقال له: أعد النظر، فقال: لست أكلِّمكما حتَّى يحضر صاحبكما، فحضر الكسائي فقال له (الكسائي):- تسألني أو أسألك؟ فقال له سيبويه: سَل أنت. فسأله كيف تقول : كنتُ أظن أن العقربَ أشد لسعة من الزنبور (فإذا هو هي)، أم (فإذا هو إياها)؟. فقال سيبويه: ((فإذا هو هي)) ولا يجوز النَّصب. وسأله عن أمثال ذلك نحو: ((خرجت فإذا عبدُالله القائمُ، أو القائمَ)). فقال له: كل ذلك بالرَّفع. فقال الكسائي: العربُ ترفع كل ذلك وتنصبه. فقال يحيى : قد اختلفتما، وأنتما رئيسا بلديكما ، فمَن يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي: هذه العربُ ببابك، قد سمع منهم أهلُ البلدين ، فيُحضَرون ويُسأَلون، فقال يحيى وجعفر: أنصفت، فأُحضروا، فوافقوا الكسائي، فاستكان سيبويهِ، فأمر له يحيى بعشرة آلاف درهم، فخرج إلى فارس، فأقام بها حتَّى مات وهو ابن اثنين وثلاثين سنة، فيقال:- ((إنّ العربَ قد أُرشوا على ذلك، أو إنهم عَلموا منزلة الكسائي عند الرَّشيد، ويقال: إنَّهم قالوا: القول قول الكسائي، ولم ينطقوا بالنَّصب، وإنَّ سيبويهِ قال ليحيى: مُرٔهمٔ أن ينطقوا بذلك، فإنَّ ألسنتَهم لا تطوعُ به)). ولقد أحسن الإمام الأديب أبو الحسن حازم بن محمد الأنصاري القرطاجني، إذ قال في منظومته في النَّحو حاكياً هذه الواقعة والمسألة:- والعُرب قد تحذف الأخبار بعد إذا *** إذا عنت فجأة الأمر الَّذي دهما وربما نصبوا للحال بعد إذا *** وربّما رفعوا من بعدها ربما فإن توالى ضميران اكتسى بهما *** وجهُ الحقيقة من إشكاله غمما لذاك أعيت على الأفهام مسألة *** أهدت إلى سيبويه الحتف والغُمما قد كانت العقرب العوجاء أحسبها *** قدما أشدّ من الزنبور وقعَ حُما وفي الجواب عليها هل “إذا هو هي” *** أو هل “إذا هو إياها” قد اختصما وخطّأ ابن زياد وابن حمزة في *** ما قال فيها أبا بشر وقد ظلما وغاظ عمراً عليٌّ في حكومته *** يا ليته لم يكن في أمره حكما كغيظ عمرو عليَّاً في حكومته *** يا ليته لم يكن في أمره حكما وفجّع ابن زياد كل منتخب *** من أهله إذ غدا منه يفيض دما كفجعة ابن زياد كل منتخب *** من أهله إذ غدا منه يفيض دما وأصبحت بعده الأنفاس باكية *** في كل طرس كدمع سَحَّ وانسجما وليس يخلو امرئ من حاسد أضِم *** لولا التَّنافس في الدنيا لما أُضما والغبن في العلم أشجى محنة علمت *** وأبرحُ الناس شجوا عالم هُضما وقد أشار هذا الأديب الألمعي في منظومته هذه إلى إلفاتات تستدعي منَّا الإشادة بها. وهي: أنَّ ابن زياد في البيت السَّابع والعاشر هو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور بن مروان الأسلمي الديلمي الكوفي، مولى بني أسد، المعروف بالفَرَّاء الَّذي ابتدأ بمعيَّة خلف وهما من تلامذة الكسائي، وابن حمزة هو أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز الكسائي، وأبا بشر هو عمرو بن عثمان بن قنبر مولى بني الحارث بن كعب، وقد عرف بالولاء، يُكنى أبو بشر، الملقب سيبويه. فعمرو في البيت الثَّامن هو سيبويه وعلي هو الكسائي. أمَّا عمرو في البيت التَّاسع فهو عمرو ابن العاص "لعنه الله" وعلي هو أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب "سلام الله عليه". أمَّا ابن زياد في البيت السَّابع والعاشر كما مرَّ هو الفرَّاء، وأشار بإلفاتاته إلى فجيعته لسيبويه. وابن زياد في البيت الحادي عشر هو عبيد الله ابن زياد ابن أبيه "لعنهم الله"، وأشار إلى فجيعته وقتله لسيِّد الشُّهداء أبي عبد الله الحسين "سلام الله عليه". وكأنَّ الشَّاعر يريد بثَّ ألمه بذلك بمعنى قلب الموازين العادلة بمثل جعل عمرو (سيبويه) هو الظالم كابن العاص، وجعل علي (الكسائي) هو المظلوم كعلي ابن أبي طالب u، تلبية لقرار أنصار الرَّشيد الظالم وإن كان الحق والحقيقة غير ذلك.

ص: 14

وبمعونة المعقول العام غير المصطلح ظهرت قديماً وحديثاً قواعد وقضايا نظريَّة

ص: 15

تنتظر انطباق القواعد عليها أو عدمه مصطلحات خاصَّة ادُّعيت بلا حجَّة ظاهرة أنجحها علماؤها حسب نظرهم التَّجريبي وإن تفاوتاهم أيضاً في نظريَّاتهم بين سلب وإيجاب.

إلاَّ أنَّه وللخلاص من محاولات إنِّجاح بعض ادِّعاءات المتزلِّفين لأصحاب السَّلاطين وإن خالفت القواعد وغير ذلك صحَّ عنهم من وحي العقل المتساوي في نعمته الأساسيَّة لدى الجميع إن ضبطت لهم وفيما بينهم قواعد خاصَّة لا تفاوت فيما بينهم فيها سميَّت بالمنطق ووضعت له آليَّات وطرق كمباحث الألفاظ لكونها قنطرة لإيصال المعاني إلى الأذهان وبأي لغة كانت، لكون هذا العلم عند علماءه يُعد خادم كل العلوم كما مرَّ.

وإن كنَّا نفضِّل الألفاظ العربيَّة في مقام بحوثنا هذه، ولإمكان التقاء كثير من المعاني جدَّاً في الأذهان الَّتي تحملها كافَّة اللُّغات المتعارفة والمتعايشة على اختلافها.

ومن ذلك بعض الطُّرق الرِّياضيَّة لتسهيل الاستنتاج في كل مقام مشكل من أمور الكميَّات والكيفيَّات والأشكال الأربعة والنِّسب الأربعة والكلِّيَّات الخمسة وغير ذلك، ممَّا قد يُستفاد منه في علم الأصول والفقه أيضاً.

وإن كانت بعض الاصطلاحات قد تتفاوت ما بين علم المنطق عمَّا عند علم الأصول عمَّا عند الفقه، إلاَّ مع اتِّفاق المنطق والأصول على بعض المتشابهات، بما لا تنافر فيه من حيث النَّتيجة العمليَّة لدى الجميع ويشترك معهما الفقه كذلك.

كأمر الاستفادة من الشَّكل الأوَّل المنطقي بديهي الإنتاج مع إيجاب الصُّغرى وكليَّة الكبرى وتسليم إحدى المقدِّمتين.

ولأجل بعض الشَّبه أو كثيره بينهما كالمسلَّمات بين عقلي العلمين إذا تصادفا يوماً جُعلت الأصول منطقاً للفقه.

إضافة إلى ما اختصَّ به علم الأصول من مصطلحاته المغايرة للمنطق، ومن

ص: 16

حيث الاختلاف لابدَّ أنَّ يكون عقل المنطقي خارجاً في بعض الحالات عن التَّقيُّدات الدِّينيَّة بمثل بعض الاستحسانات والقياسات المرفوضة شرعاً وأصولاً وهي قياسات التَّمثيل.

وإنَّ عقل الأصولي المتقيِّد بدينه لابدَّ أن لا يحيد عن الشَّرع إمَّا تعبُّداً وإمَّا بنسبة خاصَّة له من التَّحرُّر عن العقل المستقل بخضوعه للشَّرع ولو باكتفاء صاحبه بما يظهر له من حكمة التَّشريع لو لم يتبيَّن له العلَّة، وإن قبل شرعاً منه في بعض الأحوال من باب التَّسهيل الشَّرعي في الاضطراريَّات وإن استقلَّ عن الشَّرع.

كما في قول الطَّبيب الحاذق إذا تطابق مع نظره بنحو الإمضاء من مثل مساعدة الآيات الإرشاديَّة كالتَّحسين والتَّقبيح العقليَّين بسبب أمثال قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ](1)، أي بجميع مقامات العدالة الَّتي لن تذهب عن ذهن كل منصف بين نفسه وغيره.

وختم بعض آيات أخرى بقوله تعالى [وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا](2) أي بما يقر به وجدان كل منصف عاقل بسمعه وبصره.

وقوله [فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ](3) أي بقسط العدالة المتساوية بين جميع العقلاء.

ثالثها - أنَّه بعد ثبوت الحاجة إلى الفقه الشَّريف والاجتهاد فيه لاستنباط أحكامه وبالأخص عند البعد عن زمن فهم آيات الرُّكن الأوَّل كما يُرام وبالأخص أكثر عند

ص: 17


1- سورة النحل / آية 90.
2- سورة النساء / آية 58.
3- سورة الحجرات / آية 9.

ضعف الحالة الثَّقافيَّة في قوانين الأدب العربي، بل وانهيارها كما في مثل ما كان لفظ الآيات معلوماً بوضوح فطريَّاً وببركة معاشرة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وحواريهم وقبل تأثير الأعاجم بلغاتهم المختلفة من الأزمنة السَّابقة وتوفُّر التُّراثيَّات الحاوية للثَّقافات الأصيلة من المصادر الشَّارحة لها أكثر في الأزمنة المتأخِّرة -

أصبح من ألزم اللَّوازم وبما هو أشد أهميَّة من خادم العلوم - وهو المنطق وطرقه وإن أفاد في الجملة لتسهيل أمر إنجاح عمليَّة التَّعرُّف على أحكام الله ممَّا مرَّ ذكره إشارة - التُّعرُّف على المنطق الخاص للفقه.

إضافة إلى بعض ما قد يلتقي به المنطق العام في بعض الحالات المحدودة وهو الأصول، لاحتوائه على المدارك الأصوليَّة المبيِّنة للخطوط العريضة صناعيَّاً بقواعدها الموروثة علميَّاً في أسسها، وإن كانت قليلة في الصَّدر الأوَّل وتوسَّعت مع مباحث ألفاظها الأخص من مباحث ألفاظ المنطق حسب حاجة الأزمنة المتأخِّرة.

إلى أن توسَّع نطاق تلك الأصول الفقهيَّة، لتذليل الصِّعاب في الطُّرق الشَّائكة وعلى وزن المعقول المسموح به شرعاً في ذلك من نفس إرشاديَّات الكتاب الكريم الحاوي للأصول والقواعد الأصوليَّة والفقهيَّة المحضة، ممَّا اجتمعت قواعد الاثنين عليه في آيات الأحكام الَّتي لم تستعمل إلاَّ باللُّغة العربيَّة الخاصَّة وهي في نفس الوقت لم تخرج عن الصَّدد التَّصوُّري والتَّصديقي المبيِّت للأشياء وللضَّروريَّات والنَّظريَّات المراد تحقيقها عند المتابعة من تلك المظان.

لا كالعقل المتحرِّر في المنطق حتَّى إذا خلط بين التَّقيُّد الشَّرعي وغيره لو سُعي إلى محاولة جمع الشَّمل بينهما مع إمكانه ووجود بعض المصاديق المقبولة شرعاً.

بل لسعي بعض الصِّناعيِّين الأتقياء إلى وضع خطوط أضيق وأقرب إلى هدف المشرِّع ومبلِّغ رسالته وحفَّاظ معالمه من الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

رابعها - إنَّ المبادئ اللُّغويَّة العربيَّة الَّتي ذكرنا مصاديقها أو شيئاً منها كنماذج في

ص: 18

الجزء الأوَّل المعد كموطن للمبادئ المرتبطة بعموم هذه اللُّغة.

ونتعرَّض الآن للإلماح لها هنا أيضاً ولو بشيء يسير، ليبقى ذهن الطَّالب والباحث والمطالع الكريم مشغولاً بها كذلك عن قرب من هذه العامَّة ومن بعض المبادئ المشابهة لها ممَّا يحمله عموم ما يجمله القرآن الكريم ومعالم السنَّة العامَّة الشَّريفة من غير الأمور الفقهيَّة الخاصَّة.

ليلتقي ذهن الجميع بما حصل وما نعرضه الآن من خواص بحوثنا التَّمهيديَّة بحكم قرب التَّلاقي بين ألفاظ النَّصَّين الشَّريفين العامَّين وبين ألفاظهما الخاصَّة الأحكاميَّة الآتية، ولو من جهة علاقة عموم الأولى للنَّصَّين وخصوص الثَّانية لهما كالانسجام بين العامَّة والخاصَّة فيما يُسمَّى بالفقه العام الشَّامل للأمور الاعتقاديَّة وللفقه الخاص المقصود في علم الأصول لبعض الأمور الَّتي يدركها المختصُّون من المنافع المترتِّبة على إمكان اجتماع الحالتين كالعقائد الفرعيَّة الَّتي لا يعرف العوام وجوبها من عدمه، فجوَّز الفقهاء أو بعضهم تقليد العامي لمن يُفتي من المجتهدين بأحد الحكمين وغير ذلك.

ولأجل ما سيأتي إيضاحه أكثر حين التَّمثيل لبعض ما يتناسب مع محاولة الاختصار للمبادئ العامَّة - ينبغي القول أنَّه لا يمكن الرُّجوع فيها فوراً إلى قواميسها اللُّغويَّة قبل التَّدقيق في أمر ما كان الأصلح في الأخذ منه من تلك القواميس ما دام عموم القرآن وعموم السنَّة في باب الاعتماد عليهما في الاستدلال كباب أولى أكثر من أي مصدر آخر مفتوحي الباب على مصراعيهما قبل الدُّخول في عالم آيات الأحكام ورواياتها في السنَّة الخاصَّة الآتية للجامع العربي الفصيح البليغ المحفوظ للاثنين وبما يطمئن به أكثر، وإنَّ اللُّغة العامَّة في تلك القواميس وإن حفظ الكثير منها سالماً على نحو الأصالة، إلاَّ أنَّ بعضاَ لا على التَّعيين ممَّا بينها لم يسلم من التَّحريف حتَّى غير العمدي بسبب احتكاك الأعاجم في القديم فغيَّر أصالتها.

ص: 19

ولذلك كان عموم ألفاظ القرآن وعموم ما صحَّ سنده أدبيَّاً من السنَّة لابدَّ أن يشملهما قول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم المشهور بين الفريقين من حديث الثَّقلين، ولذا اهتمَّ رهط مهمٌّ من العلماء الغيارى حتَّى من غير أهل المسلك الإمامي لنفس القضايا العامَّة للخلاص ممَّا كان هجيناً جهد الإمكان حرصاً على الفوائد العامَّة لجميع المسلمين فكتبوا قواميس عامَّة مفيدة جدَّاً وممَّّا يحوي كافَّة مدارك مباني هذه المعاني بما لا يتنافر نوعاً عن لغتي الكتاب والسنَّة العامَّتين.

ومن كتب الإماميَّة المفيدة في هذه الأزمنة ما كتبه الشَّيخ الطَّريحي قدس سره في موسوعته اللُّغويَّة المسمَّاة ب- (مجمع البحرين "الكتاب والسنَّة") واقترب منه في الزَّمن الأقدم في العطاء نوعاً من غير الإماميَّة صاحب كتاب القاموس وما أشبهه حتَّى استؤنس من هذين الكتابين وما شابههما بما ينتفع به منهما ممَّا يزيد على اللُّغة العامَّة المخيفة ممَّا يتعلَّق

بأمور الألفاظ الأحكاميَّة الآتية.

ومن ذلك كمثال مفيد واحد للجميع أيضاً في مجال التَّقريب بين المذاهب رضي المتعصِّبون؟ أم لم يرضوا؟، وهو اتِّفاقهم بما نتيجته على أنَّ الخمس الواجب ليس هو في خصوص الغنائم الحربيَّة، وإنَّما كان في مطلق ما يغنمه الإنسان في المتاجر حتَّى في غير الحرب.

فلابدَّ لهذا الباب المفتوح من السَّعي الجاد للعثور على حلِّ أي مشكل لغوي، إذ لا عذر بعد أي تعذير، لأنَّ العرب بالباب كما قيل فإن حصلت حيرة فهي من التَّقاعس عن هذا السَّعي الملزم بالاهتمام باستفراغ الوسع إلاَّ في باب ادِّعاء انسداد باب العلم الكامل والعياذ بالله من دون تقصير ولكنَّه ادِّعاء لا دليل عليه لوفرة المؤهِّلات المدركيَّة الَّتي عن طريقها انكشفت أيَّة غبرة مزعومة، لكن لا بمعنى الانفتاح الكامل على ما سيجيء إيضاحه في بحوث الكلام عن الحجَّة وغيرها كما أشير إلى هذا في الجزء الأوَّل.

ص: 20

وعلى فرض كون الانفتاح اللُّغوي غير كامل وبما لا مفرَّ منه ولذلك حصلت بعض التَّفاوتات النَّظريَّة الاجتهاديَّة البريئة بين مجتهد وآخر - ففي الجملة المذكورة قد تكون الجهالة جهالة قصوريَّة أو تقصيريَّة تقاعسيَّة وكل منهما له حكمه وقد تكون من هذه الجملة أيضاً حالة عدم العثور على الضَّالَّة اللُّغويَّة المرجوَّة بعد السَّعي الكامل من غير جهالة فإنَّ المرجع يكون تشخيص المعنى حينئذ هو العرف العام وإلاَّ فلابدَّ من اللُّجوء إلى الأعراف الخاصَّة وأهمُّها صلاحاً وفلاحاً هو تعاليم شرع الله تعالى على ما سيجيء توضيح أسياسيَّات طرقه الأخرى.

وبعد تقديم هذه المقدّمة لهذا الجانب اللُّغوي العام من المبادئ تأتي الحاجة إلى ذكر بعض نماذج من العناوين المتعارفة بين أهل الاصطلاح والأدباء لها علاقتها التَّامَّة بعلم الأصول من مطلب المبادئ اللُّغويَّة، وكذا له علاقته التَّامَّة أيضاً بقسم المبادئ الأحكاميَّة الآتية كما مرَّ ذكره وكما سيتَّضح أكثر من التَّمثيل الآتي للمطلبين معاً، فنقول:-

الأوَّل: باب الحقيقة والمجاز، فإنَّ المصداق للحقيقة في اللُّغة العربيَّة العامَّة هو ما قصدت إرادته من ألفاظها الحاملة للمعاني الطَّبيعيَّة بلا أي مغايرة لما وضعت هي له، ولذلك يكون تمام فهم حقيقة تلك المعاني من الألفاظ حاصلاً عن طريق التَّبادر وبدون حاجة إلى جعل أي قرينة صارفة عنها إلى غيرها، بل المعنى المغاير لها محتاج إلى القرينة الصَّارفة عنها.

والمجاز على خلاف ذلك، لأنَّ فيه ما يزيد على ذلك كالتَّغيير واستعمال اللَّفظ في غير معتاد الموضوع له، إذ هو الَّذي يحتاج فهمه إلى القرينة الصَّارفة له عن المعنى الحقيقي، وتُعد لغته عربيَّة خاصَّة.

وهذه الخاصَّة قد تدخل في قسم المبادئ الأحكاميَّة الآتية إذا قصدنا منها عموم ما يتعلَّق بالفقه العام الشَّامل للعقائد والفقهيَّات الخاصَّة في النَّتيجة كما في قوله تعالى

ص: 21

[إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ](1)، لكون حقيقة المبايعة المتبَّعة لغة إنَّما تكون بالأيدي البشريَّة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وليَده الشَّريفة وهو سيِّد البشر، ودلَّ ذلك على هذه الطَّبيعة بنحو التَّبادر.

ولكن حصر هذه المبايعة ب- (إنَّما) إنَّما كان المبايعة لله تعالى دون شيء آخر، لكون نتيجة ذلك بالتَّالي كانت مبايعة له في التَّعبُّد بدينه عقائديَّاً وشرعيَّاً لا غير، ويد الرَّسول كانت واسطة شرف رسالي أكمل لهذا المعنى الحقيقي.

إلاَّ أنَّ [يَدُ اللَّهِ] في الآية بعد الحقيقة الماضي بيانها لابدَّ أن تكون بالمعنى المجازي المحتاج للقرينة الصَّارفة عن تلك الحقيقة لحرمة اعتقاد أنَّ يد الله مجسَّمة كالبشر.

ولذا صحَّ تأويلها من ألسنة قادة البشر وهم الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بأنَّ يده تعالى كانت ولا تزال ولن تزال إلاَّ بمعنى القدرة دون المعنى الجسمي له.

الثَّاني: باب تقديم الحقيقة العرفيَّة على اللُّغويَّة عند التَّعارض، ومن مصاديق ذلك ما عن محمَّد ابن يحيى عن أحمد ابن محمَّد عن علي ابن الحكم عن علي ابن أبي حمزة قال سألت أبا إبراهيم u عن رجل زوج ابنه ابنة أخيه وأمهرها بيتاً وخادماً ثمَّ مات الرَّجل، قال: يؤخذ المهر من وسط المال قال: قلت: فالبيت والخادم؟ قال: وسط من البيوت، والخادم وسط من الخدم، قلت: ثلاثين أربعين دينارا والبيت نحو من ذلك، فقال: هذا سبعين ثمانين ديناراً مائة نحو من ذلك)(2).

أقول: جاءت إجابة الإمام u بالنَّحو الوسطي المذكور للمهر وللبيت وللخادم وهو تقدير عرفي يحسم النِّزاع في المعارضة لا بالقليل المخل ولا بالكثير المرهق لكونه حكماً يوافق العدالة فأي مقدار يرضون به ولو سكوتاً يكون مقبولاً، وبذلك يقدم

ص: 22


1- سورة الفتح / آية 10.
2- وسائل الشيعة ج15 ص 35 - 36.

على المعنوي اللُّغوي الَّذي منه المسمَّى، وقد يكون مخلاًّ ومنه المرهق في غلائه وهو خلاف المأمول في باب المعارضة كما مضى شيء من معانيه في تعارض الأحوال من الجزء الأوَّل.

الثَّالث: باب البناء على العلم الواقعي عند توفُّر العلم به، وكذا البناء على العلم الظاهري عند عدم الواقعي حين توفُّر الظاهري من تلك المبادئ اللُّغوية، ومن أمثلتها في المقام ما عن محمَّد ابن إسماعيل ابن بزيع أنَّه سأل الرِّضا u عن امرأة أحلَّت لزوجها جاريتها فقال ذلك له قال فإن خاف أن تكون تمزح قال فإن علم أنَّها تمزح فلا)(1).

أقول: إنَّ ما يطابق العلم الواقعي هو الحالة الأولى من الرِّواية وما يطابق الظاهر بلا استثمار شيء هو الأخير من الرِّواية.

الرَّابع: باب استعمال اللَّفظ في أكثر من معنى من معانيه إن تعدَّدت، ومن أمثلته ما عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن موسى بن القاسم، وأبي قتادة القمي، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر u قال: سألته عن صلاة الجنائز إذا أحمرت الشَّمس أتصلح أو لا؟ قال: (لا صلاة في وقت صلاة)، وقال: (إذا وجبت الشَّمس فصل المغرب ثمَّ صل على الجنائز)(2).

أقول: في إجابة الإمام u الأولى أنَّه استعمل لفظ الصَّلاة في معنيين الأوَّل كان للجنائز والثَّاني لفريضة المغرب، وبذلك حصل الاشتراك للتَّشابه اللَّفظي بين الاثنين.

وفي إجابته الثَّانية تمَّ بها إفراز القرينة المعيِّنة لمراد كل من الحالتين، ففي التَّعبير الأوَّل منها تمَّ العود إلى ثاني الإجابة الأولى، وفي التَّعبير للإجابة الثَّانية تمَّ العود إلى أولى الإجابة الأولى للإمام u.

ص: 23


1- وسائل الشيعة ج 21 ص128.
2- وسائل الشيعة ج 3 ص124.

الخامس: باب استعمال المشترك في كلا معنييه، ومن ذلك قول الله تعالى [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ](1)

أقول: قد جعل الله تعالى في تعبيره القرآني بالسُّجود بجميع أنواعه الَّتي لابدَّ أن تتفاوت مصاديقه بين هذا وذاك وذلك من مخلوقاته في الحالة وجمعها كلِّها في معنى واحد وهو الخضوع والانقياد إلى تمام إرادته، وهو المحقِّق لما في الباب إلى غير ذلك من الأمثلة، وبهذا لم يتم إفراز معنى عن معنى من هذه المخلوقات والسُّجود واحد إلاَّ بقرينة كل منها.

السَّادس: باب حجيَّة مفهوم الأولويَّة العرفيَّة المستفادة من اللَّفظ أو القطعيَّة، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى [فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا](2)، وغير ذلك من الأدلَّة.

أقول: فإنَّ أهل العرف لابدَّ أن تقضي أفكارهم الفطريَّة الطَّبيعيَّة حتميَّاً باستقباح عمليَّة ضرب الأبوين من قبل أبناءهم إذا حصل مثل قول [أُفٍّ] لهما الأهون لفظاً ومقبوحاً ضدَّهما من باب أولى بصفة أشد.

السَّابع: باب عدم حجيَّة مفهوم الأولويَّة إذا كانت اعتباريَّة بمثل تشخيص الأحكام اجتهاداً قياسيَّاً تمثيليَّاً، بمعنى أنَّها تزول متى زال الاعتبار، ومنه تبعيَّة ذلك لحكم الله تعالى في شرعه، إذ هو صاحب كل اعتبار لقوله تعالى [وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ](3) وقوله [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ](4) وغيرهما،

ص: 24


1- سورة الحج / آية 18.
2- سورة الإسراء / آية 23.
3- سورة الإنسان / آية 30.
4- سورة الرعد / آية 39.

وإن اختلف ذلك أو بعضه للحكمة البالغة عن المألوف العرفي في هذه الاعتبارات، لخطورة قياس ما يغاير ثوابت أحكام الله وشرعه من الأمور عليه مع الفارق.

ومن أمثلة ذلك قياسات أبي حنيفة وغيره من القيَّاسين والوضَّاعين المخالفين صراحة للحكم الإلهي حتَّى لو خالف العقل المتحرِّر المستقل إذا لم يكن قراره ممَّا تمضيه الثَّوابت الشَّرعيَّة عند الشَّارع كقرارات الأطبَّاء الحاذقين لقوله تعالى [وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ](1)، وفي آية أخرى بعدها [فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ]، وفي آية أخرى بعدها [فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ].

ومن أسباب عدم قبول هذه المفاهيم هو كونها ظنيَّة تخرُّصيَّة غير مستفادة من اللَّفظ، فعن عيسى بن عبد الله القرشي قال:-

(دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله u فقال: يا أبا حنيفة قد بلغني أنك تقيس!

فقال: نعم.

فقال: لا تقس فإنَّ أوَّل من قاس إبليس "لعنه الله" حين قال: [خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ](2)، فقاس بين النَّار والطِّين، ولو قاس نوريَّة آدم بنوريَّة النَّار وعرف ما بين النورين، وصفاء أحدهما على الآخر)(3).

أقول: وهو القياس مع الفارق البيِّن.

إلى غير ذلك من الأبواب، وهي متوِّفرة في أجزاء كتابنا عند التَّوسُّع المحدود فيها وفي غيره ما يجدها المتتبِّع كثيراً إن أراد التَّوسُّع أكثر.

ونكتفي هنا بهذا التَّلخيص وأنهينا منه ما يرتبط بالمبادئ اللُّغويَّة.

ص: 25


1- سورة المائدة / آية 44، 45، 46.
2- سورة الأعراف / آية 12.
3- الاحتجاج ج 2 ص117.

المطلب الثَّاني / تلخيص المبادئ الأحكاميَّة

وهي المعدَّة في الصَّورة الأنسب وإن كانت من رعيل المبادئ أيضاً بالصِّفة العامَّة لمطالب ما يستدعي بيانه في هذا الجزء الثَّاني والَّذي بعده من مباحث الألفاظ المرتبطة بآيات وروايات مدارك الأحكام الشَّرعيَّة اللَّفظيَّة الخاصَّة، ومن أقرب ما يتَّصل بذلك موضوع تعارض الأدلَّة الآتي في موقعه المناسب كثيراً، للسان الأدلَّة الأحكامي في الفقه العام والفقه الخاص، وأخفيَّة ذلك عن اللِّسان الماضي من بحث تعارض الأحوال السَّابق.

وممَّا أعدَّه الأصوليُّون من المصاديق لهذا المطلب تحديداً أو تقريباً منها للأذهان في هذا التَّلخيص زاد في الواقع أو نقص هو أربعة عشر باباً جعلناها أمثلة للاستثمار من ذكر هذه الأمور بهذا النَّحو الموجز كمقدِّمة قبل الَّتفصيل للبحوث الآتية بإذن الله تعالى، فنقول:-

الأوَّل: باب الأمر صيغة ومفهوماً للوجوب والنَّهي صيغة ومفهوماً للتَّحريم في لساني الكتاب والسنَّة.

ومن أمثلة ذلك القرآنيَّة قوله تعالى [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ](1)، وكذا قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا](2)، وعن محمَّد بن سنان، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي عبد الله الابزاري قال: سألت أبا عبد الله u عن (رجل نسي فصلَّى ركعتي طواف الفريضة في الحجر، قال: يعيدهما خلف المقام، لأنَّ الله تعالى يقول:

ص: 26


1- سورة النور / آية 63.
2- سورة الحشر / آية 7.

[وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى] عنى بذلك ركعتي طواف الفريضة)(1).

أقول: وهذا من الأمر الَّذي يفيده المنطوق، وأمَّا النَّهي عن الصَّلاة في الحجر فهو المستفاد من المفهوم.

الثَّاني: باب استعمال الأمر في النَّدب والنَّهي في الكراهة في الكتاب والسنَّة، كما لو جاء أمر منهما وإن ظهرت منه بعض ملامح للوجوب إلاَّ أنَّه جاء أيضاً ما ظاهره جواز التَّرك مع كفاءة النَّصين في الاعتبار بهما وكما لوجاء نهي من أحدهما قد يلوح من ظاهره بعض ملامح الحرمة ثمَّ جاء دليل يعارضه في المعنى والاعتبار بلسان لا بأس بارتكابه.

وأمثال ذلك وممَّا ورد من السنَّة حول الأمر ما رواه الحسين بن سعيد عن محمد بن إسماعيل عن أبي الحسن u قال: (سألته عن المذي فأمرني بالوضوء منه، ثم أعدت عليه سنة أخرى فأمرني بالوضوء منه، وقال: إنَّ عليَّاً u أمر المقداد أن يسأل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم واستحيا أن يسأله فقال: فيه الوضوء، قلت فإن لم أتوضأ، قال: لا بأس به)(2).

أقول: وهذا ما نتيجته كراهيَّة البقاء على ظهور المذي مفهوماً بدون وضوء، والاستحباب المؤكَّد منطوقاً على استعمال الوضوء، لتكرار ترجيح القول بالوضوء منه مع كون تركه ممَّا لا بأس به.

الثَّالث: باب أنَّ النَّهي يدل على فساد المنهي عنه في العبادات وغيرها كما عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن حماد عن ابن أبي شعبة (يعني عبيد الله ابن علي الحلبي) قال: قلت لأبي عبد الله u رجل صام في السَّفر فقال: إن كان بلغه أنَّ

ص: 27


1- وسائل الشيعة ج 13 ص425.
2- تهذيب الأحكام ج 1 ص18.

رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نهى عن ذلك فعليه القضاء، وإن لم يكن بلغه فلا شيء عليه)(1).

أقول: هذا نموذج عن العبادات، وأمَّا ما عن المعاملات فعن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعاً، عن أحمد بن محمَّد بن أبي نصر، عن أبان، عن أبي بصير، عن عمرو بن رياح، عن أبي جعفر u قال:

قلت له: (بلغني أنَّك تقول: من طلَّق لغير السنَّة أنَّك لا ترى طلاقه شيئاً؟ فقال أبو جعفر u: ما أقوله بل الله عزَّ وجل يقوله، أما والله لو كنَّا نفتيكم بالجور لكنَّا شرَّاً منكم لأنَّ الله عزَّ وجل يقول: [لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ] إلى آخر الآية)(2).

أقول: إنَّ التَّفصيل لذلك في العبادات وفي المعاملات قد يكثر عند أهل العلم بصحَّة القول بالفساد في الأولى على النَّحو الأكثر، وفي الثَّانية أيضاً على النَّحو الأقل لإمكان عدم الدَّاعي لذلك الفساد في الثَّانية في أمور كصحَّة بعض عقود أهل الفضول بالإمضاء من المالك ولو بعد ذلك العقد، وستأتي بعض التَّفاصيل الموضِّحة في بحوث المستقبل.

الرَّابع: باب أنَّ الأمر بالشَّيء يقتضي الأمر بما لا يتم إلاَّ به إيجاباً أو ندباً، وقد أثبتت مصاديق هذا روايات عديدة فحواها واحد، ومن ذلك ما عن أحمد بن محمد عن عثمان بن عيسى عن سماعة قال سألت أبا عبد الله u عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيُّهما هو وليس يقدر على ماء غيره؟ قال: يهريقهما ويتيمَّم)(3).

أقول: إنَّ المراد ممَّا لا يتم الواجب إلاَّ به هو طهارة ماء الإناء المأمور أن يتوضأ

ص: 28


1- تهذيب الأحكام ج 4 ص221.
2- الكافي ج 6 ص57 - 58.
3- تهذيب الأحكام ج 1 ص24.

به إذا كان مشخَّصاً، وفي الرَّواية المذكور عدم التَّشخيص لذلك الماء والإناء الَّذي حواه يسبِّب الشُّبهة المحصورة بين الإناءين الَّذين أحدهما طاهر لا على التَّعيين والآخر نجس، ولهذا جاء أمر الإمام u بالتَّجنُّب عن كلا المائين والتَّيمُّم.

الخامس: باب أنَّ الأمر بالشَّيء يقتضي النَّهي عن ضدِّه إذا كان رافعاً للقدرة عليه، وحكم اجتماع الأمر والنَّهي والصَّلاة في المكان المغصوب واللِّباس المغصوب.

ومن ذلك ما عن موسى بن القاسم، عن أبي جميلة، عن ضريس الكناسي، عن أبي عبد الله u قال: (إنَّ امرأة أتت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لبعض الحاجة فقال لها: لعلَّك من المسوِّفات، قالت: وما المسوِّفات يا رسول الله؟ قال: المرأة الَّتي يدعوها زوجها لبعض الحاجة فلا تزال تسوِّفه حتَّى ينعس زوجها وينام فتلك لا تزال الملائكة تلعنها حتَّى يستيقظ زوجها)(1).

أقول: وهذا ما اقتضى في الأمر به وهو قضاء حاجة الزَّوج من زوجته القادرة على تلبيتها إذا أمرها به عن ضدِّ ذلك كالتَّسويف له من قبلها حتَّى زالت قدرة زوجها على قضاء تلك الحاجة بسبب النُّعاس الَّذي اعتراه وسوء عاقبة الزَّوجة المسوِّفة لزوجها.

وأمَّا فيما يتعلَّق بعدم اجتماع الأمر والنَّهي كالأمر بالصَّلاة والنَّهي عن الكون في المكان المغصوب كما في حالة الاختيار وعدم الاضطرار وسعة الوقت فقد ورد في تحف العقول عن أمير المؤمنين "سلام الله عليه" في وصاياه لكميل ابن زياد "رضوان الله عليه" (يا كميل ليس الشأن أن تصلي وتصوم وتتصدق، الشأن أن تكون الصلاة بقلب نقي وعمل عند الله مرضي وخشوع سوي وانظر فيما تصلي وعلى ما تصلي إن لم يكن من وجهه وحله فلا قبول)(2).

ص: 29


1- الكافي ج 5 ص509.
2- تحف العقول ص174.

أقول: وجاء هذا بأكثر من طريق وإلى غير ذلك من الرِّوايات.

السَّادس: باب الوجوب الموسَّع والمضيَّق، ومن أمثلته ما عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن زرارة قال:

سمعت أبا جعفر u يقول: إنَّ من الأمور أموراً مضيَّقة وأموراً موسَّعة، وإنَّ الوقت وقتان، الصَّلاة ممَّا فيه السِّعة فربَّما عجَّل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وربَّما أخَّر إلاَّ صلاة الجمعة، فإنَّ صلاة الجمعة من الأمر المضيَّق إنَّما لها وقت واحد حين تزول، ووقت العصر يوم الجمعة وقت الظهر في سائر الأيام)(1).

أقول: أي عند الجمع بين الظهر والعصر، إلى غير ذلك من أدلَّة مواقيت بقيَّة الصَّلوات موسِّعها ومضيِّقها.

السَّابع: باب الوجوب والاستحباب الكفائي، ومن أمثلته ما عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن يحيى، عن غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله u قال: (إذا سلم من القوم واحد أجزأ عنهم وإذا ردَّ واحد أجزأ عنهم)(2).

أقول: إنَّ الابتداء بالسَّلام من المستحبَّات الأخلاقيَّة المهمَّة بين المسلمين، وقد يتحقَّق ذلك الاستحباب ولو من واحد عن الجميع، وإنَّ الرَّد واجب، وقد يكفي ذلك من واحد عن الجميع وإن بقي الاستحباب من الأكثر، ونظير هذه الرِّواية روايات عديدة للواجب والمستحب.

الثَّامن: باب الوجوب التَّخييري، ومثاله ما عن أحمد بن محمَّد عن علي بن الحكم عن حمزة عن أبي جعفر u قال: سمعته يقول: إنَّ الله فوَّض إلى النَّاس في كفَّارة اليمين كما فوَّض إلى الإمام في المحارب أن يصنع ما شاء، وقال: كل شيء في

ص: 30


1- تهذيب الأحكام ج 3 ص13.
2- الكافي ج 2 ص647.

القرآن "أو" فصاحبه فيه بالخيار)(1).

أقول: وهناك روايات أخرى مشابهة.

التَّاسع: باب العموم والخصوص، ومن أمثلته ما عن ابن سنان، عن رجل، عن أبي عبد الله u قال: (سئل وأنا حاضر عن امرأة أرضعت غلاماً مملوكاً لها من لبنها حتَّى فطمته هل لها أن تبيعه؟ قال: فقال: لا هو ابنها من الرَّضاعة، حرم عليها بيعه وأكل ثمنه، قال: ثمَّ قال: أليس رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: يحرم الرَّضاع ما يحرم من النَّسب؟)(2).

أقول: ومعه ما يشبهه في العموم ب- (ما) الموصولة والشَّرطيَّة، وهكذا (كل والجمع المضاف) ولم يستثن منذ ذلك حتَّى مجرَّد الرَّضاع الكامل بأقل مدَّة، حيث دخل في العموم بسبب دليله الخاص، وممَّا يساعد عليه في بعض الحالات شهرة قولهم (ما من عام إلاَّ وقد خص)، وهناك أمثلة أخرى تأتي عند تفاصيل البحوث المناسبة.

العاشر: باب إفادة الجمع المحلَّى باللام الَّذي للعموم زيادة على ما في الباب السَّابق، ومن أمثلته ما عن عبد العزيز بن مسلم عن الإمام الرِّضا u في حديث طويل في صفات الإمام قال فيه (إنَّ الإمامة خصَّ الله عزَّ وجل بها إبراهيم الخليل بعد النبوَّة والخلَّة، مرتبة ثالثة وفضيلة شرَّفه الله بها، فأشاد بها ذكره فقال عز وجل: [إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا] فقال الخليل سروراً بها [وَمِن ذُرِّيَّتِي] قال الله عز وجل: [لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ](3))(4) فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم

ص: 31


1- تهذيب الأحكام ج 8 ص299.
2- الكافي ج 5 ص446.
3- سورة البقرة / آية 124.
4- الاحتجاج ج 2 ص226.

القيامة، وصارت في الصَّفوة.

أقول: والصَّفوة عند الإماميَّة هم أهل العصمة بعد النَّبي والرَّسول الخاتم صلی الله علیه و آله و سلم والزَّهراء سلام الله علیها والَّذين أوَّلهم وزعيمهم صاحب بيعة يوم الغدير وغيرها من الدَّلائل المهمَّة، وهناك روايات أخر، ومع هذه القاعدة الأصوليَّة اللَّفظيَّة جاءت تعاليم القواعد الأدبيَّة في تطابق معزِّز لهذه الأدبيَّة.

الحادي عشر: باب النَّكرة الواقعة في سياق النَّفي تفيد العموم، ومن أمثلة ذلك ما عن علي الميثمي، عن ابن فضال، عن مفضل بن صالح، عن ليث المرادي قال: سألت أبا عبد الله u عن (العبد هل يجوز طلاقه؟ فقال: إن كانت أمتك فلا، إن الله عزَّ و جل يقول [عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْءٍ](1) وإن كانت أمة قوم آخرين أو حرَّة جاز طلاقه)(2).

أقول: ومثل هذه الرِّواية روايات أخرى مشابهة، وبهذا جاءت تعاليم القواعد الأدبيَّة.

الثَّاني عشر: باب تخصيص العام بالمتَّصل والمنفصل، ومن أمثلة ذلك ما عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم بن يزيد (القاسم بن بريد)، عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبدالله u - في حديث طويل - (وفرض على السمع أن يتنزه عن الاستماع إلى ما حرم الله، وأن يعرض عماَّ لا يحل له ممَّا نهى الله عزّ وجلّ عنه، والإصغاء إلى ما أسخط الله عزَّ وجل، فقال: عزَّ وجل في ذلك: [وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ](3))(4).

ص: 32


1- سورة النحل / آية 75.
2- تهذيب الأحكام ج7: 348 رقم 1423.
3- (4) سورة النساء / آية 140، الكافي ج 2 ص35..

أقول: وهذا من آيات تخصيص العام بالمتَّصل - ثمَّ استثنى الله تعالى موضع النِّسيان فقال - بعد العام الماضي [وَإِمّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ](1).

الثَّالث عشر: باب أنَّ أقل الجمع اثنان، وهو المسمَّى في اللُّغة العامَّة بالجمع المنطقي، وقي لغة القرآن كذلك كما نصَّت على ذلك آيات كثيرة، ومن ذلك قول الله تعالى في قضيَّة داوود وسليمان [وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ](2)، وقال تعالى في قضيَّة الخصمين [إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ](3) وقال أيضاً [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ](4) وقال كذلك في قضيَّة موسى وهارون [إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ](5).

أقول: وكون أقل الجمع في بعض نصوص أخرى يُراد منها الثَّلاثة، وهي نصوص خاصَّة للفقه دون عموم المعلومات القرآنيَّة كما في أقل الطهر وأقل الحيض والاستنجاء بالأحجار أو الخرق الثَّلاثة من الغائط وغير ذلك، وهذا في نفس الوقت لا يتنافى مع أهل العرف الخاص وهم المتشرِّعة في الثَّلاثة مع أهل العرف العام إن جعلوا الاثنين هما الأقل لو أضيف واحد أو أكثر في الاستعمال.

الرَّابع عشر: باب وجوب العمل بالمطلق حتَّى يرد المقيَّد كما عن الصَّادق u (كل شيء مطلق حتَّى يرد فيه نهي)(6).

أقول: هذه بعض نماذج للأبواب المذكورة نكتفي بما أوردناه منها مع كثرة ما

ص: 33


1- سورة الأنعام / آية 68.
2- سورة الأنبياء / آية 78.
3- سورة ص آية 21.
4- سورة الحج / آية 19.
5- سورة الشعراء / آية 15.
6- الوسائل 27: 173 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 67 (الطبعة القديمة ح 60).

ورد في هذا الأمر من الأحكاميَّة للتَّلخيص الَّذي صمَّمنا عليه اعتماداً على التَّوسعة والتَّفصيل في البحوث الآتية، وكذلك في الأمر الَّذي سبقه، والله تعالى المستعان في كلِّ ما نبديه.

ص: 34

التَّمهيد الثَّاني

ضرورة البدء في الأصول بمباحث الألفاظ

بعد الانتهاء من مقدِّمات مباحث الألفاظ - أو ما أطلق عليه بالمبادي من الباب الثَّاني ممَّا بين المقدِّمات وذيها - لابدَّ من التَّنبيه عند مواصلة البحث حين إرادة الدخول في الباب الثَّالث المتعلِّق بذكر مباحث الألفاظ نفسها وهو هذا الباب على ضرورة البدء بعد الَّذي مضى ذكره من هذه المباحث قبل تفصيلها بما يلخِّصها أوَّلاً وفاءاً بما وعدنا به سابقاً في الفهرست الماضي، ليكون التَّفصيل عنها وهو الثَّاني مسبوقاً بهذا الأوَّل، لأهميَّته في إعطاء الفكرة الموجزة عمَّا يليها من التَّفاصيل، لئلاَّ يكون الطالب ومدرِّبوه في مفاجئة مربكة في تسلسل الأمور العلميَّة، لأنَّ الإرباك ممَّا قد يضر بالإنسان نفسيَّاً ثمَّ ذهنيَّاً عمَّا ينبغي تدبيره له أ و تدبُّره من جمع الذِّهن للانتباه اللاَّزم والمنجح لرسوخ المعلومات في الأذهان على ما يقوله علماء التَّدوين المنطقي والبياني إلاَّ ما قلَّ وندر من طبقات أولئك الأذكياء غير المحتاجين إلى ذلك.

وكما أنَّ في بيان هذه المباحث الآتية من الضَّرورة القاضية به لتفصيله لابدَّ إذن من أن يترشَّح من الإيجاز الَّذي يسبقه شيء من الأهميَّة أيضاً كما أشرنا آنفاً فلابدَّ أن نقول:-

بعد ما خلق الله تعالى الكائنات من كتم العدم إلى حيِّز هذا الوجود على اختلاف أجناسها وأنواعها مرئيَّة كالبشر والعجماوات والبهائم وغير مرئيَّة من الملائكة والجان والجن، وجعل لكلِّ نفس هداها، وجعل لأولئك البشر من بين تلك البهائم والعجماوات هداياته مع تكريمه وإتحافه لهم هم والملائكة والجان والجن بالعقل والدِّين، تمييزاً لهم عن تلك البهائم والعجماوات، وفضَّل البشر على باقي

ص: 35

المخلوقات ومنها غير المرئيَّة في قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ](1) بما ميَّزهم عن الباقين.

وانتهى بأمره تعالى للسُّجود لآدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ أبي البشر اعتماداً على أنواع التَّكريمات والهدايات الإلهيَّة له لأداء واجباته الثِّقال تجاه أبناءه ولتحمُّله أعباء قضايا المسؤوليَّة تجاههم ومعهم من ساوى أبا البشر عَلَيْهِ السَّلاَمُ، بل وشاركه في ذلك من الأنبياء أو زادوا عليه كالرُّسل وأولي العزم والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وغير هؤلاء من الصُّلحاء والأولياء من الصَّلاحيَّات والوظائف الَّتي باتحافهم بها.

لابدَّ وأن توصل السَّالكين مسالكهم إلى ما يخرق الحجب بالتَّفوُّق حتَّى على الملائكة فضلاً عن الجان والجن لتحمُّل البشر ما لم يتحمُّله الغير، لأنَّ الله يعلم ما لم يعلمه الباقون وإن كان خلق البشر جاء من أديم الأرض الثَّقيل في كينونيَّته لا كالملائكة العاقلة العابدة باطاعاتها المعروفة فخضع الملائكة طاعة لله بموازين المعقول المخضعة، لأنَّه تعالى هو العالم بما لم يعلم به الباقون.

ولكن تكبُّر إبليس شيطان الجن "لعنه الله" العاقل الحاسد بنفسيَّته الأمَّارة بلا اعتماد على شيء مبِّرر بل للقياس وإن كان مع الفارق لقول إبليس [أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ](2) حتَّى جاءت الإغراءات الحاسدة العِدائيَّة وتوالت الإغواءات الحاقدة الإبليسيَّة حتَّى في نفس الجنَّة الَّتي لا تكليف بها لآدم للأكل من الشَّجرة ولو بمعنى ترك الأولى حتَّى أكل آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ منها وزوجه وازدادت مشاكل ذلك بعد إنزاله إلى الأرض لإيقاع آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ في خِضم الابتلاء عند أداء واجباته تجاه أبناءه وبقيَّة المخلوقات المكلَّفة العاقلة من غير البشر وغيرها، إلاَّ أنَّ آدم u بقي صامداً صمود الأنبياء.

ص: 36


1- سورة الإسراء / آية 70.
2- سورة ص / آية 76.

وازدادت هذه المشاكل كثيراً من إبليس وشياطينه حسداً وعلى البشر أجمعهم إلاَّ العباد المخلَّصين كما صرَّح هو بذلك، وهذا ما أحوج إلى نزول المبادئ السَّماويَّة الرَّافعة لدرجات المطيعين، إنقاذاً لوحدة العقل بين المغريات الأربع لبني آدم في دنيا التَّكليف الشَّرعي كما قال الشَّاعر النَّاصح الأخلاقي(1):

إنِّي ابتليت بأربع ما سُلِّطوا *** إلاَّ بشدَّة شقوتي وعنائي

إبليس والدُّنيا ونفسي والهوى *** كيف الخلاص وكلُّهم أعدائي

ومن تلك المبادئ وآخرها إسلامنا العزيز الَّذي كُلِّف به نبيُّنا الرَّسول الخاتم 2 المحتاج إلى نشره ونشر معالم كتابه الكريم وسنَّته الشَّريفة بحالات وكيفيَّات نقل المقاصد الفكريَّة المختلفة بواسطة مثل اللِّسان كما في قوله تعالى [الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ](2) وبواسطة القلم كما في قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ](3) للتَّفكُّر والتَّذكُّر والتَّذكير والمذاكرة والمراسلات الإعلاميَّة والاستعلاميَّة بكافَّة أنواعها، ولتدوم المعلومة عند الإنسان حتَّى بأكثر ممَّا لو أنساه الشَّيطان لواجب تنبيه النَّاسين من المربيِّن المذكِّرين لقوله تعالى [وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ](4).

بل بالتَّذكير حتَّى مع عدم تأكُّد النَّفع الفوري لأهميَّته حتَّى الَّذي لو احتمل فيه ذلك النَّفع لموضوعيَّته ولو رجاءاً عند المواجهة لرجح ذلك التَّذكير.

ص: 37


1- قيل هذه الأبيات لحمد بن هادي بن حمد بن علي آل جابر المري الغيهبان، وقد ولد في أواخر القرن الثَّامن عشر.
2- سورة الرحمن / آية 1 - 4.
3- سورة العلق / آية 1 - 4.
4- سورة الذاريات / آية 55.

بل قد يزداد في أهميَّته وبما لا يمنع من الوجوب فيه لو توقَّف الأمر عليه لقوله تعالى [فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى](1).

وباللِّسان والقلم لابدَّ وأن تكون واسطة التَّداول - الأهم بالمعلومات المحتاج إليها في هذه الحياة من الَّتي ترضي الله وتدفع سخطه على الأقل - هي اللُّغات من حيث المبدأ، بلا فرق بين كل منها إذا تحقَّق الغرض التَّام منها ولو في الجملة الوافية بمثل الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر وإن قلَّ المهتدون حبَّاً للبركة لقوله تعالى [كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ](2)، أي من واقع ما بدت منه المسؤوليَّة تجاه هذين الموردين من الأدلَّة، ومنها تتفرَّع المشتقَّات.

وإن كانت العربيَّة هي المفضَّلة كما سبق ما لم يكن غيرها متعيِّناً تجاه غير العرب ممَّن عليه مسؤوليَّتهم وكما سيتَّضح، وقد اقتصر فيها على تلك الموهبة الَّتي وهبها الله تعالى للبشر كما في قوله تعالى [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا](3) لو أريد منها اللُّغات على بعض الوجوه المحتملة، إذ لا منع منه لو اقتضى مقتضيه وانتفى مانعه.

وممَّا يمكن أن يُستدل على شيء من ذلك لتطبيق الأوامر الإلهيَّة وامتثال الحكمة البالغة من وراءها منه تعالى دون غيره قوله تعالى [لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ](4) للبقاء دوماً على خصوص النُّصوص الواردة معانيها مباشرة من السَّماء بلا أي تصرُّف إضافي ولو تعبُّداً، إن توفَّرت مع خطورة ما يحتمله بعض الأعداء من الاتِّهامات للنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وهو المعصوم.

ومن ذلك قوله تعالى [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ

ص: 38


1- سورة الأعلى / آية 9.
2- سورة البقرة / آية 249.
3- سورة البقرة / آية 31.
4- سورة القيامة / آية 16.

لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ](1) امتثالاً للكلفة الَّتي لا يجب الأكثر منها وقد لا يصح الأقل، لئلاَّ يصل الأمر إلى ما يعكس فيه الغرض في بعض أو حتَّى كثير الحالات وبما يجلب منه الضرر ولتجنُّب أساليب الخطر، ولذا قال تعالى [كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ](2) أي حتَّى هذا العقل المحاط بالمغريات الأربع لو صارع أصحابه في عقولهم هذه المغريات إلاَّ مع تطابق أولئك الرُّسل مع ما يأمر به الله تعالى من تلك الغلبة لحصلت إلهيَّاً بنجاح.

ومن المعلومات الأهم بعد علم الكلام والعقائد في آخر الزَّمان كما في أوَّله بعد مجاميع إرسال الرُّسل وبعثة الأنبياء وأساليب الوحي السَّابقة هو الفقه المحتاج في مداركه إلى أفضل اللُّغات وهي النُّصوص العربيَّة الَّتي للكتاب الكريم والسنَّة الكريمة بواسطة العترة المطهَّرة بعد النَّبي 2 ممَّا يُطلق عليه بالأدلَّة الاجتهاديَّة بل حتَّى ما يعود إلى الأدلَّة الفقاهتيَّة المستفادة في أمورها من الأدلَّة الإرشاديَّة الَّتي لا تخلو من اللُّغة العربيَّة في إرشاديَّتها كذلك وإن كان بالإمكان جواز الاستعانة بلغات الأقوام الَّذين لا يعرفون غير لغتهم لإفهامهم مقاصد شرع الله تعالى إلى حين إتقانهم اللُّغة العربيَّة لتتم النِّعمة بما هو أفضل وأيسر لهم.

ولأنَّ الألفاظ العربيَّة وصرفيَّاتها ونحويَّاتها وغيرهما من العلوم الأدبيَّة الأخرى الَّتي تضم مباحث الألفاظ كعلم المعاني والبيان وغيرهما كما في خادم العلوم وهو المنطق قسم مباحث الألفاظ الخاصَّة بالعربيَّة وكعلم الأصول المرتبط بمباحث الألفاظ العربيَّة للكتاب والسنَّة كذلك وما يتعلَّق بهما من علوم الدِّراية والحديث وغيرهما من العلوم اللاَّزمة قبل التَّفقُّه الاجتهادي الكامل وإن كان في أثناء التَّعبُّؤ التَّحصيلي العلمي للمقدِّمات والسُّطوح للحاجة إلى ذلك غالباً لا يمكن الوصول فيها إلى ما

ص: 39


1- سورة الحاقة / آية 44 - 46.
2- سورة المجادلة / آية 21.

يُرضي المجتهد الكامل لله في الله وبما يطابق الأدلَّة والقواعد الأصوليَّة المبرئة للذمَّة إلاَّ بإتقان مباحث تلك الألفاظ الأصوليَّة.

وهنا تتَّضح ضرورة البدء بمباحث الألفاظ وبلا فرق بين الأصول الأصيلة المصاحبة للفقاهة القديمة والأصول المستقلَّة الَّتي أعدوها صناعيَّة في بابها تحت ظل الأوامر والنَّواهي الإلهيَّة وتوابعها وغيرها من بقايا مباحث الألفاظ الآتية والتَّي بعد انتهاءها ينتهي الكلام عن الحديث الأول المهم الحاوي لتمام المضامين المهمَّة للدّليلين اللَّفظين من شرعيَّات الكتاب والسنَّة وتوابعهما والَّذي به ينتهي هذا الجزء الثَّاني ل- (المساعي)، والَّذي قسَّمنا بحوثه مع بقاياه لطولها ممَّا مرَّ في المحتوى الإجمالي عمَّا يأتي في الجزء المختوم بالبَّاب الرَّابع وعن النَّواهي المستقلَّة.

ليكون بعده باقيها للجزء الثَّالث بادئاً من الباب الخامس من بحوث العموم والخصوص من محتواهاً الإجمالي الآتي ذكره في بدايته بإذن اله تعالى إلى آخر مباحث الألفاظ للمدركين الأهمَّين.

لينتقل الكلام بعد التَّقسيم للألفاظ للجزأين بعد الأوَّل إلى ما يخص الكلام عن الجزء الرَّابع للمساعي والخاص بما يلزم ذكره وممَّا يتم به الكلام عن المصدرين الآخرين اللُّبيَّين من مجموع المصادر التَّشريعيَّة الأربع وهما الإجماع والعقل وتوابعهما، ليكون الحديث عنهما عائداً للباب السَّادس على أن يختم الحديث في هذا الجزء بالبحث عن تعارض الأدلَّة وإلى بحوث الجزء الخامس أو ما يزيد.

نسأل الله تعالى تحقيق أمنياتنا لما يرضيه وبدعوات صاحب الأمر "عجَّل الله فرجه الشَّريف" بإتمام ما نبتغيه، والحمد لله أوَّلاً وآخراً.

ص: 40

بحث المشتق

وهو الَّذي يتَّضح ببيان أمور:-

الأمر الأوَّل / أين يكون موقعه المناسب أو الأنسب

هل في المقدِّمات والمبادئ أو في مباحث الألفاظ؟

بما أنَّ بحث المشتق لدى الأصوليُّين جمع مكوَّراً في مضامينه بين المبادئ ومقدِّمات المباحث اللَّفظيَّة وبين خصوص ما يتعلَّق بنفس مباحث الألفاظ في بعض الحالات أو كثيرها بان التَّحيُّر الإلتزامي بعد ذلك.

فتعارف لدى بعضهم ذكر هذا الأمر آخر الكلام عن مقدِّمات مباحث الألفاظ أو ما يسمَّى عندهم بالمبادئ لناحية تناسبه مع المبادئ في سطحيَّة البحث عنها عند المرور عليها مرَّ الكرام، أي لو لم يلتفت إلى الغاية الأصوليَّة بعدُ معها، لقلَّة الفوائد الأصوليَّة من المشتق الأصولي في موقع ذكر المبادئ، كذكر الأفعال لدخولها في الاشتقاق النَّحوي الَّذي سيأتي إفرازه عن الأصولي قريباً، كالماضي الدَّال على الفعل الَّذي انقضى زمن فعله، والمضارع الدَّال على الفعل الصَّادق على زمن الحال والاستقبال، والأمر الدَّال على الفعل الَّذي زمانه في المستقبل وهو المعروف عند النُّحاة بكونه المشتق أو المتصرِّف في مقابل الجوامد، وكذكر المصادر بناءاً على دخولها عند النَّحويِّين كذلك، حيث عرف عنها عندهم أنَّها الثَّالثة في تصريف الكلام وإن لم تكن داخلة في النِّزاع عند الأصوليِّين في بعض الحالات على ما سيجيء أيضاً، وكما عرف عند الصِّرفيِّين أنَّها مبدأ الاشتقاق.

لكون هذه الأمور لا تجري أصوليَّاً على الذَّات في الجملة كما تجري الاشتقاقات الأصوليَّة على الذَّات كما سيجيء تفصيله.

ص: 41

كما وأنَّه تعارف لدى البعض الآخر ذكر هذا الأمر في بداية مباحث الألفاظ حين ربط هذه الأمور المعروفة لدى الأدباء بأمور المشتقَّات الدَّاخلة في مورد النِّزاع عند أهل الأصول ممَّا يجري منها على الذَّات لاتِّصاف الذَّات بمبدأ ذلك المشتق ولو كانت جوامد عند النَّحويِّين والصَّرفيِّين.

وإلى هنا لابدَّ أن يتجلَّى الوجه الأنسب لذكرنا هذا البحث في أوَّل مباحث الألفاظ إذا ضمَّ إليه موضع النِّزاع ما دام النَّفع يتحقَّق ولو كان في الجملة.

ولذا تعارف عند البعض المهم من الأصوليِّين كفطحل الصِّناعة الشَّيخ الكمبَّاني u وتبعه الشَّيخ المظفَّر u وغيره في أصوله حيث ذكره في بداية مباحث الألفاظ، ولعلَّه لما به تمام العلاقة بهذه المباحث ولو على جملتها كما أشار إليه الأستاذ السيِّد السَّبزواري u.

الأمر الثَّاني: معنى الاشتقاق عند النُّحاة ومعناه عند الأصوليِّين

والفرق بينهما من النِّسب المنطقيَّة الأربعة في بدايات أصوله.

بعد تبيُّن معنى المشتق النَّحوي ليس علينا إلاَّ ذكره عند الأصوليِّين أنَّه ما هو؟

فبعد ما عرف أنَّ النَّحوي خارج عن المتنازع فيه، فإنَّ المشتق الَّذي هو مورد النِّزاع هو الأصولي لا أكثر، وهو كل ما يجري على الذَّات لاتِّصاف الذَّات بمبدأ ذلك المشتق، وألحق بذلك الجوامد في عرف النَّحويِّين، إمَّا لحلول ذلك المبدأ فيه كالبياض إذا حلَّ في الجسم، وهو ما يوجب حمل الأبيض على الذَّات واتِّحاده معها، فيقال الشَّيء الفلاني أبيض، أو لصدوره من المبدأ كالضرب كقولك فلان ضارب لصدوره عن الذَّات وهو موجب لصحَّة حمل الضَّارب عليها ليتَّحد معها، أو لأنَّ الذَّات منشأ لانتزاع ذلك الوصف كالمالك، فإنَّ الذَّات الَّتي اعتبرت لها الملكيَّة ينتزع عنها عنوان المالك حسبما يناسبها، ولكن لكونها من الاعتبارات الَّتي

ص: 42

لابدَّ أن تنتهي بانتهاء الاعتبار، فهي ليست حالة فيه كالبياض لتفاوت المالك الحقيقي تعالى عن المالك المحدود وهو العبد ولا صادرة منه كالضَّرب وللفارق بين المادَّة والهيئة.

وبناءاً على كون المشتق هو الَّذي يجري على الذَّات فيشمل اسم الفاعل واسم المفعول كما سيجيء، وإن نوقش في اسم المفعول والصِّفة المشبَّهة وصيغة المبالغة واسم الزَّمان - ولنا فيه كلام آت أيضاً - واسم المكان واسم الآلة.

ومثَّل بعض المحقِّقين لهذه الأمور بأمثلة على تسلسلها وهي المحب والمحبوب والكريم والهيَّاب والمقتل والمذبح والمحترم، وبعض هذه الأمور والأمثلة الَّتي لها لصاحب الفصول u رأي فيها يأتي بمناسبته.

فعليه فالفرق بين المشتق النَّحوي والمشتق الأصولي من النِّسب الأربعة المنطقيَّة هو العموم والخصوص من وجه.

وبهذا الفرق يمتاز موضع النِّزاع عن غيره، وتتضِّح الأمثلة الصَّحيحة عن غيرها - إن كانت - لصحَّة أن يجتمع الطرفان من النَّحوي والأصولي كالجامد النَّحوي والمتصرِّف الأصولي وهو ما يعني به المشتق في عنوان البحث وأنَّه هو من باب الغالب لا التَّخصُّص في خصوص المشتقات الأصوليَّة لدخول الجوامد النِّحويَّة.

فإنَّ جميع الجوامد النَّحويَّة المحمولة داخلة في مورد البحث كقولنا (هند زوجة زيد) أو (زينب امرأة عمرو) أو (بكر غلام خالد) أو (زيد أخ لعمرو) إلى غير ذلك من الجوامد وهي المشتقَّة أصوليَّاً كالزَّوج والزَّوجة والرَّجل والمرأة والغلام والسيِّد أو المالك والمملوك والأخ لأخيه بسبب تعدُّد الأمثلة باشتقاقها إلى عِدَّة حالات، لإمكان أن تزول علاقة الزَّوجيَّة بالطَّلاق وأن لا تزول مع عدمه.

وهكذا المثال الثَّاني لو افتقد أحد المتعاقدين أو بقي معه، ولإمكان اطلاق سراح الغلام فتزول العبوديَّة وإن تبقى مع عدمه، ولإمكان زوال الأخوَّة إذا مات

ص: 43

أحد الأخوين وبقاءها إذا بقي على قيد الحياة، وصحَّة أن ينفصل المشتق النَّحوي من الأفعال الثَّلاثة ماضياً ومضارعاً وأمراً، وإن كانت ممَّا يسند إليها، والمصدر على قول في المصدر على ما سيجيء لخروجها عن موضع النِّزاع لعدم حملها على الذَّات.

إذ لا يصح حمل زيد على (ضَرْبْ) بفتح الضَّاد وتسكين الرَّاء وتنوين الباء بنحو أن يكون هو هو حقيقة وغير ذلك ما عدا الأسماء المشتقَّة عن هذه الأفعال فهي داخلة لارتباطها بالذَّات وصحَّة الحمل عليها من أسماء الأفعال ونحوها لاشتقاقها عن الأفعال نحويَّاً كما مرَّ كالمشتقَّات الأصوليَّة كقولنا زيد ضارب وهكذا الباقي، وصحَّة أن تنفصل العناوين الذَّاتيَّة غير الاشتقاقيَّة المنتزعة عن الذَّوات بذاتها وإن كانت أسماء كعنوان الإنسان والحيوان والحجر والشَّجر لكونها من الجوامد عن المنشق الأصولي لعدم بقاء الذَّات معها حال زوال المبدأ عنها لأنَّ المبدأ مقوِّم للذَّات، ولذلك يمتنع بقاء الذَّات مع انعدام المبدأ عنها، فإنَّ إنسانيَّة الإنسان في المثال الماضي مقوِّمة لذات الإنسان، وعليه فلابدَّ أن يستحيل بقاء ذات الإنسان مع انعدام الصُّورة النَّوعيَّة الإنسانيَّة الَّتي يُعبَّر عنها بالمبدأ، لعدم معقوليَّة شمول محل النِّزاع لمثل المقام، ولذا لا يصح حمل الإنسان على فاقد الإنسان كالحجر والبقر ونحوهما وبالعكس، وبهذا يتم الفرق المنطقي بين الجانبين النَّحوي والأصولي مع عدمه بينهما.

الأمر الثَّالث: لزوم التَّعرُّف على شرطين مهمَّين جدَّاً في المقام

بعد إمكان الجمع فيما مرَّ ذكره بين الجوامد عند النَّحويِّين والمشتقَّات عند الأصوليِّين في نسبة ما مرَّ كذلك من ترتُّب نسبة العموم والخصوص من وجه الماضية وبما مثَّلنا له من الزَّوج والأخ والرِّق وإمكان دخول الضَّارب والمضروب ونحو ذلك وإشارة توقُّف حصوله مؤدِّياً أداءه الكامل على ما اشترطوه في البين من الشَّرطين المهمَّين لابدَّ من التَّعرُّض لهما كما اشترطوا وهو:

ص: 44

أ / أن يكون المشتق الأصولي جارياً على الذَّات كالأمثلة الَّتي مرَّ ذكرها لإمكان بل وصحَّة حمله عليها ك- (هند زوج عمرو) و (زيد ضارب) ونحو ذلك ممَّا سيأتي التَّمثيل له استدلالاً عليه لموردي الاجتماع.

ب / أن لا تزول الذَّات بزوال تلبُّسها بالصِّفة، لعدم صحَّة الإنسان إنسان بنفي النَّوعيَّة، وكذا (زيد ضرب) إذا أريد من زيد أنَّه مع الضَّرب هو هو إلاَّ بما سيأتي من التَّوجيه، وفي حالة عدم إمكان الإصلاح يظهر مورد الافتراق.

الأمر الرَّابع: محل البحث الأصولي ومورد الاستثمار

أ - ممَّا ضرب من الأمثلة في المقام كأدلَّة فقهيَّة نافعة يراد منها الدُّخول في عالم إمكان الاستثمار من عدمه وهي ما صرَّح به فخر المحقِّقين كما في إيضاح الفوائد وعاضده الشَّهيد الثَّاني u كما في مسالك الأفهام حول مسألة زوجتين كبيرتين أرضعتا زوجه صغيرة حيث قال:

(قال "قدَّس الله سره": ولو أرضعت الصغيرة زوجتاه (إلى قوله) الكبيرتين، أقول: تحرم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين بالإجماع وأما المرضعة الأخيرة ففي تحريمها خلاف، واختار والدي المصنف، وابن إدريس تحريمها لأن هذه يصدق عليها أنها أم زوجته لأنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المعنى المشتق منه فكذا هنا)(1).

أقول: إذن يكون هذا الَّذي ذكر في الكفاية عن الإيضاح وغيره مثالاً للبحث فيه ومحل السُّؤال الَّذي يتضمَّنه، وهو هل أنَّ المشتق المنقضي عنه المبدأ مشتق حقيقة أم لا؟ ليكون البحث علميَّاً غير عقيم، ولذا كان قد أنتج تحريم المرضعة الثَّانية على رأي

ص: 45


1- إيضاح الفوائد في شرح مشكلات القواعد / فخر المحقِّقين ج3 ص 52.

بعض الفطاحل السَّابقين كما مرَّ اعتماداً على الإجماع إذا كان الإرضاع على نحو التَّعاقب ولو لم يكن داخلاً في تلك الكبيرة الثَّانية في البداية اعتماداً على مجرَّد العقد السَّابق عليها في الظاهر ثمَّ صار الإرضاع، وبناءاً على شمول قوله تعالى [وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ](1) حينما حرمت المرضعة والرَّضيعة مع قوله الأخر [وَأُمَّهَاتُكُمُ الَّلاتِي أَرْضَعْنَكُمْ](2) وقول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم الَّذي رواه الفريقان: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)(3)، وأسُّست على ذلك قاعدة (لحمة الرِّضاع كلحمة النَّسب)(4) على أساس صحَّة نقله فضلاً عمَّا لو أرضعت الاثنان تلك الصَّغيرة على هذا التَّعاقب.

ب - وممَّا يمكن أن يستثمر منه في المقام فقهيَّاً على هذا الأساس الأصولي هو كراهة التَّخلِّي تحت الشَّجرة الَّتي أثمرت سابقاً وانقضى عنها المبدأ، فقد يطلق هذا السُّؤال ويطلب الجواب عنه كما في بعض الرِّوايات لو صدقت فإنَّه يكون صدقها إمَّا بالمعنى الحقيقي أو المجازي مع أنَّ القضية المثمرة بالفعل هي مورد الكراهة قطعاً، بل حتَّى الَّتي هي في معرض الأثمار إن أتى وقتها وإن لم تثمر قعلاً على رأي آخرين.

ج - وممَّا يمكن أن يظهر منه ثمرة النِّزاع سلباً أو إيجاباً ورود كراهة الوضوء أو الغُسل بالماء المسخَّن أو السَّاخن بالشَّمس ممَّا لا يأبى الاستفادة من الخبر الوارد حتَّى

ص: 46


1- سورة النساء / آية 23.
2- نفس الآية.
3- وسائل الشيعة ج 14 ص 280 أبواب ما يحرم بالرَّضاع باب 1 ح 1، (صحيح البخاري) ج 3 ص 222 باب الشَّهادة على الأنساب والرِّضاع المستفيض.
4- هذه مقولة وردت عن لسان الفقهاء ولم تكن كنص رواية، والظَّاهر جرياً على المرويَّة في كتب الفريقين (الولاء لحمة كلحمة النَّسب). راجع التهذيب: ج 8 (1) باب العتق وأحكامه ص 255 ح 159 وتمامه (لا تباع ولا توهب)، كما وراجع القواعد الفقهية - السيد البجنوردي ج 4 ص323.

لو جاء عربيَّاً بلسان اسم المفعول أو اسم الفاعل ممَّا يحسب على الأسماء من جهة خارجيَّة إن لم يرد خصوص التَّعبير بقول الرِّواية في لسان النَّقل (سخَّنته الشَّمس) .

حيث اختلف القدامى من الأصوليِّين في هذا المشتق في أنَّه حقيقة في خصوص ما تلبَّس بالمبدأ في الحال مجاز فيما انقضى عنه التَّلبُّس؟ أو حتَّى مالو انقضى ذلك عنه لو لم يبرد تامَّاً.

د - استدلال المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالآية الكريمة [قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ](1) على عدم لياقة من كان مشركاً وأسلم لخلافة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم، ولا يتم الاستدلال على خلافة الثَّلاثة إلاَّ على البناء على الأعم وهو ما قد رفض وإن قبل في بعض الأمثلة الماضية، ولكنَّ الردَّ في خصوص المقام واضح كل الوضوح في قضيَّة بيعة الغدير وآيتيه، وإنَّ عليَّاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ يختلف عن المغتصبين، لكونه ما كفر حتَّى أسلم لأنَّه الوحيد الَّذي ولد على الفطرة وأنَّ إسلامه كان على الفطرة، ومساواة من عُرف بالنِّفاق أو ضعف الإسلام له أو جهة الرُّتب الإيمانيَّة المتفاوتة بين أولئك وأمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ قياس مع الفارق.

وأنَّ الماء الَّذي برد بعد أن كان ساخناً وانتهى زمانه إن صحَّ ما ذكر في الجملة الضئيلة أو المضمحلَّة جداً، وكذا الخشبة البالية من الشَّجرة لابدَّ وأن يختلف عن أصحاب الملكات كالعالم والطَّبيب ونحوهما إذا لم ينس كل منهما ما اختصَّ به في ماضي أيَّامه.

وقد أجمع المعتزلة وجماعة من متأخرِّي أصحابنا على هذا الأمر حينما كانت هذه السُّخونة محفوظة في مثالها في الحال.

وعلى هذا لابدَّ أن لا يكون الوضوء أو الغُسل مكروهاً بالماء الَّذي برد وانقضى عنه التَّلبُّس، لأنَّ من قال بالكراهة لا يصدق عنده حينئذ أنَّ الماء سخن بالشَّمس في الحال بل كان مسخَّناً تبعاً لناحية صدق الحقيقة في ذلك دون المجاز، وقالوا بأنَّه مجاز

ص: 47


1- سورة البقرة / آية 124.

فيما انقضى عنه التَّلبُّس، وقد أجمع على رأي الحقيقة حتَّى فيما انقضى عنه التَّلبُّس الأشاعرة منهم وجماعة من المتقدِّمين من أصحابنا أيضاً، إذ تبقى هذه الكراهيَّة ثابتة حتَّى بدون القرينة الصَّارفة لو خفَّت تلك السُُّخونة.

وكل هذا الأمر المختلف فيه بينهم بعد الاتِّفاق على أنَّه مجاز فيما يتلبَّس بالمبدأ في المستقبل، ومعلوم كون صدق هذا الاتِّفاق ثابتاً على المجازيَّة مع وجود القرينة.

ولا أظن خفاء الحق في البين بعد عرض هذه الأمثلة ومنها الأخير في بروز المعنى الحقيقي مميَّزاً عن غيره أو أنَّه حقيقة في كليهما بمعنى أنَّه موضوع للأعم منها ما دامت أثار الصِّدق الحقيقي باقية وإن خفت كخفة السُّخونة عن الأوَّل أو كون ظل الشَّجرة باق قابل للأثمار في حينه دون خصوص عودٍ بالٍ باق منها بدون أي نفع فيه إلاَّ أن يكون حطباً ونحوه أو أنتج الاجتهاد حرمة الكبيرة الثَّانية على أنَّها أم الزَّوجة الصَّغيرة ولو من جهة ورود الاحتياط في الفروج.

إذ أنَّ المختار هو القول الأوَّل مع الحاجة إلى القرينة فيما انقضى عنه التَّلبُّس ما دام التَّبادر وعدم صحَّة السَّلب واردين في خصوص ما تلبَّس بالمبدأ دون غيره دون الحالة الثَّانية، إضافة إلى أنَّ هذا القول فيه تأسيس قاعدة مشتركة بين الخاصَّة والعامَّة تساعد على حالة من التَّقريب بين أهل المشاكل المذهبيَّة وإن كان الرَّأي الثَّاني فيه هذه النَّاحية المرغوبة ولكن بعد أن استدلَّ أصحاب هذا الرَّأي على مدَّعاهم وهو:-

1- إمكان صحَّة التَّبادر على صدق الحقيقة على الأعم من الحقيقة في الحال وما انقضى عنه التَّلبُّس.

2 - عدم صحَّة السَّلب، في هذا المدَّعى أيضاً.

جاء ما يتَّعلَّق بالادِّعاء المخالف أيضاً وهو عدم إمكان صحَّة هذا التَّبادر مع صحَّة السَّلب عند الرَّهط العلمي الآخر لصالح القول الآخر لو لم يحتج إلى القرينة فيختار القول الثَّاني لعموم الصِّدق الحقيقي في الحالتين.

ص: 48

الأمر الخامس: نظرة فيما اختلف فيه من الأمثلة المفردة

أنَّها داخلة فيما تنازعوا فيه أم لا؟

فقد عرف عن صاحب الفصول u مخالفته للرَّأي الأصولي السَّائد، حيث برَّر جعل المصدر الَّذي لم يكن متعارفاً أنَّه ممَّا يتنازع فيه أصوليَّاً أنَّه لم يمكن عدم دخوله في المتنازع فيه لو قدِّر ل- (ضرب) المصدر كلمة (ذو).

ومثَّل له كلمة (رجل عدل) المراد منه اسم الفاعل، وهو الَّذي معناه العادل إلحاقاً منه بالمشتق النَّحوي المشترك مع المشتق الأصولي في صدق عنوان الاشتقاق الأصولي الَّذي يشمل الاثنين.

وهو الَّذي لا مانع منه إن لم يأبه الأدباء والأصوليُّون وانطبقت عليه بعض النُّصوص مع توفُّر شرطي ما تمَّ التَّركيز عليه، وهو كون المشتق الأصولي وما يلحق به جارياً على الذَّات وأن لا تزول الذَّات بزوال تلبُّسها بالصِّفة.

وخالف أيضاً في اسم المفعول، بحجَّة أنَّه انتفى مفاده لكونه لم يكن مرتكباً بخصوص حالة التَّلبُّس.

ولكن يمكن الإجابة عنه:

بعدم ثبوت الاختصاص بحالة التَّلبُّس وغيره باسم الفاعل، بل إنَّ الأعم أيضاً وارد في الاثنين اسم الفاعل واسم المفعول، والتَّمثيل لشيء دون شيء لا يثبت الاختصاص، وكذلك صفة المبالغة كالهيَّاب ونحوه في إمكان صدق الأعم في الأمثلة عليه.

ص: 49

الأمر السَّادس: نزاع البعض في اسم الزَّمان

بعد ورود عدم الشَّك في كون عموم الزَّمان ظروفاً وقتيَّة فانية وآنات غير مستقرَّة لا تعود إلاَّ في مصاحبتها للأحداث كبيرها وصغيرها وقديرها ووضيعها ممَّا قد لا يُعبأ بتلك الآنات بمثل ما يُعبأ بأحداثها حتَّى الصَّغير والوضيع منها كالتُّراثيات والآثار التَّأريخيَّة القديمة للتَّذكُّر والتَّذكير بها فضلاً عن بعض الأحداث الكبيرة والقديرة الَّتي مجَّدت بأهميَّتها وخلَّدت بخطورتها أو قُدسيَّتها حتَّى النَّاحية الزَّمنيَّة البالية في أهميَّة ذكرياتها.

بل ذاب الحدث الخاص بها في الزَّمان وذاب الزَّمان في الحدث إلى أن اندمج الزَّمان بمكان الحدث والمكان في حدثه الزَّماني غير المنفك عنه، وكأنَّ ذلك الزَّمن يعيش مع المعتقد به في كلِّ يوم وإن كانت بعض مصاديق هذه الأمور تختلف باختلاف أهل الدِّيانات السَّماويَّة عن غيرها حقيقة أو اعتباراً.

ولذا جاء في القران الكريم ما ينبِّه على التَّلازم الاعتباري بين الزَّمان والمكان بسبب الحدث فضلاً عن المهم من الأحداث في قوله تعالى [فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى](1) وقوله [وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ](2)، فلماذا لم يطلق في صدق الحدث على ما هو الأعم من المتلبِّس ما انقضى عنه التَّلبُّس؟

ولهذا ظنَّ الظَّانُّون عدم جريان النِّزاع في اسم الزَّمان بينما نحن كنَّا قد ذكرنا أنَّ اسم الزَّمان من تلك الأسماء المستعملة في باب المشتق الأصولي حتَّى بالَّذي يمكن أن يطلق عليه بالمصدر الميمي على وزن (مضرب) الدَّاخل فيه الزَّمان والمكان وما

ص: 50


1- سورة الأعلى / آية 9.
2- سورة الذاريات / آية 55.

جمع بينهما وبين الحدث.

فجاء في ظنِّهم على ما قدَّمناه من الوجهة العامَّة حول الموضوع المبحوث عنه وشروطه أنَّه يُعتبر في جريان اسم الزَّمان بقاء الذَّات مع زوال الوصف مع أنَّ زوال الوصف في اسم الزَّمان ملازم لزوال الذَّات لاعتبار استمراريَّة انصرام وجوده، لأنَّ كل جزء منه ينعدم بوجود الجزء اللاحق فلا تبقى ذات مستمرَّة ومن ذلك ساعات الأيَّام واللَّيالي وأسماء أيَّام الأسبوع وأسابيع الشَّهر والأشهر وفصول السَّنة.

فإذا كان مقتل زيد مثلاً يوم الجمعة فيوم السَّبت الَّذي بعده ذات أخرى من الزَّمان لا يمكن فيها تصوُّر القتل لزيد لتحديد يوم القتل له يوم الجمعة، لعدم جواز البناء على اعتباره في بعض الحالات كالدقَّة الَّتي في باب المرافعات.

ولكن في الجواب: وإن كان هذا الأمر بالدقَّة الفلسفيَّة في الجملة المتعدِّدة كثيراً أو حتَّى قليلاً قد لا يُعتنى به عن التَّوسُّع في الاعتبارات ذات بعض التَّلاقي حتَّى المعنوي الإنساني والعاطفي والقيم الدِّينيَّة الَّتي خضع حتَّى الفلاسفة من الموحِّدين لها وغيرهم من القائلين بالتَّوسُّع في بقعة الإمكان وما منعوا من تلاقي المقولات التِّسعة كالزَّمان والمكان والجِدة ونحوها كان يرسِّخ الحدث في ضخامته في زمان المكرَّر والمعاد ومكانه المراد وإذا كانت الفلسفة في بعض جوانب المنحرفين من مريديها

فإنَّه لا يعني ذلك عدم معرفة حكماءها المهمُّين للقيم الَّتي تفوق ظن الظانين معنويَّاً بالمرَّة بل إنَّ الأمر أكثر من هذا وكما قال تعالى [لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ](1) وغيره.

نعم يمكن أن تظهر صحَّة هذا الأمر كما أراده الظَّانوُّن لو كان لاسم الزَّمان لفظ مستقل مخصوص ولكن الحق في المقابل هنا أنَّ هيئة اسم الزَّمان موضوعة لما هو يعم

ص: 51


1- سورة التَّوبة / آية 33.

اسم الزَّمان والمكان لا خصوص الزَّمان المنفلت عن الأحداث العاديَّة وكأنَّ حدثه لم يكن له أيَّة أهميَّة ويشملهما معاً كما سلف التَّمثيل له بالمصدر الميمي وتعيُّنه زماناً دون المكان لاشتراكه المعنوي بنحو محتاج إلى القرينة المفهمة لإفراز أحدهما عن الآخر، ولعدم وجود القرينة يكون هذا الاسم مع ما ذكرناه من مرجِّحات الجامع بين الطَّرفين.

فإنَّه يكفي في صحَّة الوضع له وتعميمه لما تلبَّس بالمبدأ وما انقضى عنه أن يكون أحد فرديه يمكن أن يتصوَّر فيه انقضاء المبدأ وبقاء الذَّات ولو لشدَّة الحالة الاعتباريَّة بعلاقتها المتينة مع الذَّات كالشِّعارات المشهورة الَّتي قد تغلب حتَّى بعض أو كثير النَّواحي المجازية كما في قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ](1) كما في مقتل الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ مكاناً وزماناً وحدثاً عظيماً ما كتب التَّأريخ المنصف حتَّى على لسان أعداءه مثله أبداً، وإن سعى بعض أعداء آخرين إلى ما يشوِّش هذا الحدث العظيم، لأنَّ الأمر كما قال الشَّاعر الكربلائي علي محمد الحائري(2) ~:

كذب الموت فالحسين مخلَّد *** كلَّما أخلق الزَّمان تجدَّد

ومن هذا الَّذي ذكرناه عن إمكان صحَّة الأعم من الزَّمان والمكان والحدث تبدو صحَّة كون المشتق حقيقة في خصوص ما تلبَّس بالمبدأ في الحال وفيما انقضى عنه التَّلبُّس أيضاً، بل أشادت به آيات تعظيم الشَّعائر في عمومها وإطلاقها كقوله تعالى [ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ](3).

ص: 52


1- سورة آل عمران / آية 169.
2- هو علي ابن محمَّد ابن محمَّد علي شمس الواعظين ابن زين العابدين الحائري، أديب وشاعر وتربوي، ولد في كربلاء عام 1933م وتوفِّي فيها عام 1999م.
3- سورة الحج / آية 32.

بل قد نصر هذا القول المحقِّق الأصفهاني u وتلميذه الأستاذ السيِّد الخوئي u والشَّيخ المظفَّر u بقوله (أنَّ هذا صحيح لو كان لاسم الزَّمان لفظ مستقل مخصوص، ولكن الحق أنَّ هيئة اسم الزَّمان موضوعة لما هو يعم اسم الزَّمان والمكان ويشملهما معا، فمعنى "المضرب" مثلاً: "الذات المتَّصفة بكونها ظرفاً للضَّرب" والظَّرف أعم من أن يكون زماناَ أو مكاناَ، ويتعيَّن أحدهما بالقرينة، والهيئة إذا كانت موضوعة للجامع بين الظرفين فهذا الجامع يكفي في صحة الوضع له..إلخ)(1).

بل نحن نثنِّي ونقول أنَّ الأمر يمكن أن يكون جارياً حتَّى في التَّجاوز عن حدِّ حقيقة زمان يوم عاشوراء المقدَّس ومكانه من طفِّ كربلاء وحدثهما العظيم الَّذي ارتبط ارتباط عشرات الملايين سنويَّاً بمصير الأمَّة الإسلاميَّة المستضعفة بل وعموم الإنسانيَّة المضامة حتَّى خرج من صميم تلك القلوب الحُسينيَّة بالتَّعاطف اللِّساني المثالي بأنَّ (كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء).

فالعمدة أنَّ النِّزاع يكون في وضع أصل الهيئة الَّتي تصلح للزَّمان والمكان لا لخصوص اسم الزَّمان، ويكفي في صحَّة الوضع للأعم إمكان الفرد المنقضي عنه المبدأ في أحد أقسامه وإن امتنع الفرد الآخر من حالة الانقضاء كالباري جلَّ وعلا في اسمه لعدم خضوعه للمقولات التِّسعة ومنها ما انقضى زمانه.

الأمر السَّابع: دفع وهم

بمعنى أنَّ اختلاف المبادئ لا يخرج المشتقَّات عن محل النِّزاع

جرى التَّوهُّم كالعادة أيضاً في بعض الموارد النِّزاعيَّة، ففصَّل بعضهم بين ما إذا كان المبدأ على نحو الفعليَّة كالضَّرب والشُّرب والقيام ونحوها من المبادئ حال

ص: 53


1- أصول الفقه ج 1 ص99 - 100.

ممارسة هذه الأفعال.

وبين ما إذا كان المبدأ من قبيل الحرفة ك- (البقل) والملكة ك- (الاجتهاد) والمهنة ك- (القضاء والطِّبابة) والصَّنعة ك- (النِّجارة) ونحو ذلك.

وقالوا بأنَّ النِّزاع لا يجري في بعض المشتقَّات الجارية على الذَّات مثل البقَّال والمجتهد والقاضي والطَّبيب والنجَّار.

بينما الواقع أنَّه حصل الاتِّفاق بل الإجماع على أنَّ هذا موضوع للأعم كالمطلب السَّابق وهو الصَّحيح والأعم من آخر الجزء الأوَّل.

ومنشأ هذا التَّوهُّم ليس هو كما قد يتصوَّر منهم كما مثَّلوا بما كان المبدأ على نحو الفعليَّة مثل الضَّرب والشُّرب والقيام من الحالات غير الرَّاسخة في بعض حالاتها مثل رسوخ المهن والحِرف والملكات، فإنَّ مستوى الضَّرب والشُّرب والقيام الَّتي قد تأتي مصادفة فإنَّها قد تأتي وتنتهي بانتهاء تلك المصادفة حتَّى لا تُقاس تلك المهن والحِرف والملكات عليها وهي مختلفة عن تلك برسوخ معانيها فيها بعد الاستراحة من حالات التَّلبُّس بها.

بل هو فحوى قول بعضهم أنَّا نجد صدق هذه المشتقَّات حقيقة على نحو من انقضى عنه التَّلبُّس بالمبدأ - من غير شك - وذلك نحو صدقها على من كان نائماً - مثلاً - مع أنَّ النَّائم غير متلبِّس بالنِّجارة أو الخياطة أو البقالة أو الطِّبابة أو القضاء أو الاجتهاد فعلاً ولكنَّه كان متلبِّساً بها في زمان مضى وانقضى وسيتلبَّس بذلك بعد انتهاء النَّوم والاستراحة ما لم يترك تلك الأمور ناسياً ونحو ذلك.

وكذلك أسماء الآلات كالمنشار والمقود والمكنسة فإنَّها تصدق على ذواتها حقيقة مع عدم التَّلبُّس فعلاً بمبادئها حينما تترك الممارسة بمؤدِّياتها إلى وقت آخر حينما تأتي الحاجة إليها في أي وقت تكون لها.

والجواب عن توهُّمهم أنَّهم غفلوا عن معنى المبدأ المصحِّح لصدق المشتق فهو

ص: 54

مختلف، حيث تارة يكون من الفعليَّات وأخرى من الملكات وثالثة من الحِرف والصِّناعات.

فحل الإشكال مبتن على أمر الرُّسوخ الَّذي ذكرناه ممَّيزاً من عدمه إلاَّ إذا زالت تلك الصِّفة عن صاحبها بالمرَّة فإذا نام أو تعطَّل عمله بنحو التَّقاعد الكامل أو نسى معلوماته فإنَّه لا محالة يكون كالحالة الأولى وهي الفعليَّات الَّتي مع صدق القيام أو الضَّرب أو الشُّرب فيها تكون الحقيقة حقيقة حين التَّلبُّس بالذَّات أو حتَّى ما هو الأعم في بعض الأحوال إذا كان الضَّرب والشُّرب والقيام بلسان الأسماء المشتقَّة من الأفعال دون نفس الأفعال والمصدر معها حينما لم يكن يصحِّحه إضمار تقدير.

الأمر الثَّامن: مختارنا في المقام

مختارنا في المقام من حيث البداية أنَّ المشتق حقيقة في المتلبِّس بالمبدأ، مجاز في غيره من حيث الصِّناعة العلميَّة.

ودليلنا عليه التَّبادر وعدم صحَّة السَّلب، وعلى المجاز صحَّة السَّلب عمَّن زال عنه الوصف للفعل الَّذي لا تعدُّد فيه لو انتهى زمانه، إلاَّ إذا كان لعنوان الصِّفة مع المعنون ديمومة خاصَّة على ما مرَّ ذكره في الملكات والحِرف والصِّناعات ونحوها كما سنشير إليه، فلا يقال للقائم أنَّه قاعد ولا للجاهل أنَّه عالم فعلاً ونحو ذلك بما لا مجال فيه للتَّشكيك وفي المجاز سعة في غير ما هي الحقيقة.

نعم قد تتوسَّع الحقيقة في بعض المستثنيات إذا صدقت الحرفة والملكة والمهنة والصَّنعة وكذا الآلات الماضي ذكرها في كل زمان تقام فيه ما لم تنس وتهجر من دون حاجة في صدقها إلى قرينة.

وإنَّ الأمثلة الَّتي تكلَّم فيها الفقهاء والعقائديُّون وضربوا لها أو لبعضها نصوصاً من الآيات والرِّوايات وصارت مورد الاحتمال على ما هو الأعم من حالة التَّلبُّس

ص: 55

بالمبدأ، وهو شمول بعض ما انقضى عنه التَّلبُّس بالحقيقة على ما ساعدت تلك الأدلَّة عليه بينهم فهو الَّذي لم ينتف عدمه.

لكوننا فيما مضى لم يظهر عندنا ما يُثبت ركيزة أصوليَّة صناعيَّة عامَّة لجميع حالاتها تغلب كل طاقات المتضلِّعين الفقهاء أو تساويها في بعض الحالات كخصوص حالة ما تلبَّس بالمبدأ.

ولذا قال الإماميَّة القدامى مع دليلهم والمتأخِّرون كذلك ما يوافق الرَّأيين، مع كوننا نقول ذلك على مبنى التَّخطئة دون التَّصويب.

فالنَّتيجة لابدَّ وأن تكون بأنَّ الحق ما يوافق عليه الرَّأي الفقهي منَّا ومن غيرنا لو سار على وفق ما نهج منهجنا بعد استفراغ الوسع له، لكونه لابدَّ وأن يفوق هذا الرَّأي الأصولي الصِّناعي المحدود من بحث المشتق إذا كان أقل عمقاً من العمق الفقهي المتعارف عندنا.

ص: 56

الأوامر والنَّواهي الإلهيَّة في آيات الأحكام

وما يلحق بهما من السنَّة

مدخل البحث العام

قد تعارف بين الأصوليِّين قديماً وحديثاً في الظاهر المعمول به للتَّدوين أنَّه من بدايات بحوث مباحث الألفاظ، ونخص بالذِّكر وبالصِّفة الأقرب إلى واقع النُّصوص والظواهر الشَّريفة كتاباً وسنَّة، وهي المطلوب في النَّتيجة النِّهائيَّة للوصول إليها وإن تحرَّروا عنها عقلائيَّاً علميَّاً خدمة للصِّناعة - أنَّها لابدَّ أن تكون مطابقة للمنهجيَّة العربيَّة وإن أمكن الشَّرح أو لزم لمن لا يقوى عليها في بعض أدوار تحصيل الأصول أو احتيج إلى بيان المقصود في البحوث العلميَّة الأصوليَّة بغير لساني الكتاب والسنَّة من البيانات الأخرى ولو كمعين لفهم المقصود الكامل إن تعرَّف الآخرون على شيء من هذه العربيَّة أو حتَّى على اللَّهجات العربيَّة غير المألوفة لو توقَّف أمر فهم المقصود الكامل الأكمل على التزام الأستاذ العارف بالبيان به.

ومن ذلك ما يتعلَّق بما نحتاج إليه من المقارنة بين لغة القواميس العربيَّة وما فيها من الكلام عن الأوامر والنَّواهي في عموم اللُّغة وبين لغة الاصطلاح الأصولي العام الصِّناعي ثمَّ الدنو إلى ما يخص الكتاب الكريم وحول ما هو الأخص من عموم الأوامر والنَّواهي القرآني وهو آيات الأحكام وما يناط بها من السنَّة من القرب التَّام أو ما كان بالنَّحو الأبعد بعض الشَّيء بعد الكلام عن عمومهما الفقهي من تلك الآيات وروايات الأحكام الأوسع من خصوص تلك الآيات كما في نسخ السنَّة بالكتاب ونسخ الكتاب بالسنَّة على ما سوف يجيء.

ص: 57

علماً بأنَّ هذا البحث المهم القابل للتَّوسعة في أمره - وإلى بحوث فرعيَّة أخرى بحيث لا تقل أهميَّتها من حيث هي إن توسَّعنا فيها واكتفينا حتَّى بالإشارات المفهمة إلى ما يُراد من البحث الكبير والتَّوسعة فيه أو في الفروع -

لابدَّ أن تظهر بسببه أوسعيَّة البحث الكبير العام، وتمام الكلام لابدَّ أن يتم نوعاً بما يلي من الأمور:

أوَّلاً - لابديَّة العلم المسبق ولو إجمالاً

بكون الحالة بين هذه الأوامر على أنحاء هذا أوَّلها.

ولتأتي تفاصيل هذا الأوَّل في طيَّات المباحث المناسبة الآتية وبما لا يخفى على المتتبِّع الحاذق.

أ/ عن أهميَّة دور الأوامر والنَّواهي الإلهيَّة أصوليًّا لفظيَّاً في تثبيت الأحكام الشَّرعيَّة ومدى الحاجة إليها:

ولأجل هذه الأهميَّة نقول:-

إنَّ أهم مباحث الألفاظ الأصوليَّة للفقه الإسلامي - والَّتي لولاها لم تعرف الأحكام الشَّرعية التَّكليفيَّة الخمسة بالدَّرجة الأولى من صيغها المتعارفة وتوابعها من الأحكام الوضعيَّة الماضي ذكرها في الجزء الأوَّل حول مقدِّمات مباحث الألفاظ في كلامنا عن فهرست الدِّراسات الأصوليَّة ص124 وما أضيف إليه بعد ذلك من الجزء الماضي وكما سيتَّضح هنا في هذا الجزء من البحوث المشابهة والأهم ممَّا يناسب نفس مباحث الألفاظ بعد تلك المقدِّمات والأوسع - هي مباحث الأوامر والنَّواهي الواردة في القرآن الكريم والَّتي تشمل كل ما يجب وما يستحب وما يحرم وما يكره وما يباح من مداليل ألفاظها.

لأنَّ الأوامر والنَّواهي وما يلحق بها من توابعهما الآتية في بابها من الآيات هي

ص: 58

الوسيلة اللَّفظيَّة الأقرب لاستنهاض العبد للطَّاعة والانقياد إلى الحكم الإلهي ولو بالتَّجرُّد عن بعض القرائن إذا كانت الفطرة البشريَّة سليمة من التَّلوُّث من هنا أو هناك ولكن لم تكن تلك الفطرة السَّليمة وذات العقل السَّليم هي السبَّاقة بالاهتداء إلى الصَّواب عادة قبل ورود اللَّفظ الاصطلاحي المستنهض لها تبعاً للمعنى الحقيقي لكل معنى حقيقي تمَّت قرائنه المحتاج إليها، أو لم تتم حتَّى لو سَلمت تلك الفطرة وهو صراحة تلك الأوامر والنَّواهي أو توابعهما وهي الَّتي يتَّضح - عن طريقها حسب المتعارف عند انفتاح باب العلم - أغلب الفقه الخاص ممَّا يسمَّى بالمولويَّات.

بل وإلى حدِّ أن يتجاوز هذا عن حدود أحكام الشَّريعة الفقهيَّة إلى أحكام العقيدة الإسلامية المرادة في رسوخها قبل تطبيق الفقه، لوجوب معرفة المرسل تعالى والرَّسول 2 وحافظ الرسالة الموصل والهادي وهو الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ مع بقية العقائد قبل ذلك وإن لم يسقط التَّكليف عنه عقلاً وهو ما قد يسمَّى بالفقه العام.

فيكون اللِّسان الشَّرعي الإلهي في المقام الحالي هو الأوَّل من هذه الأصول، وهو تلك الأوامر والنَّواهي المصاحبة لآيات الأحكام - مورد بحثنا الخاص المستمر من هذا المدخل الماضي - ويتبعه الأحكام الوضعيَّة من الصحَّة والفساد والقبول والرَّد ونحوها من نفس تلك الأوامر والنَّواهي أو من تلك أيضاً ولو بمعونة أدلَّة أخرى كما سيتَّضح في بحث مستقل لها تمَّت باصطياد ومن سعي حثيث للفقهاء "رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين" ممَّا كان قد حقَّق لهم قواعد هم الَّتي انطلقوا منها بهذه الأحكام الوضعيَّة وإن جاء في بعض نصوص الآيات أو ظواهرها من بعض الموارد أو الرِّوايات الأخرى ما يُشيد أو يؤكِّد شيئاً مهمَّاً من هذه الأحكام كما سيجيء.

ويكون اللِّسان الثَّاني هنا هو المصاحب لآيات العقائد وهو فيها وإن كان في ظاهره يشبه اللِّسان الأوَّل في أداء وعطاء النَّتيجة وهو نفس الوجوب أو ما يؤكِّده

ص: 59

بالتَّعبير الأصح مع سبق أصول العقائد الأساسيَّة في الأصول رتبة للفقه كما لا يخفى كتوحيد الله كما في قوله تعالى [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ](1) والحرمة كالشَّرك بالله والعياذ به في قوله بصيغة النَّهي في قوله [لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ](2) ونحوهما من الأحكام بمستوى ما يثبت من آياتها ممَّا يناسبها في مقاماتها الخاصَّة كعدم جواز التَّخلُّف عقائديَّاً في مؤدَّى الوجوب والحرمة عن حدِّيهما العقليَّين المنكشفين بالنُّصوص القرآنيَّة وعدم رجحان التَّخلف في ذلك في مؤدَّى الاستحباب والكراهة من حدِّيهما والتَّساوي في مقام الإباحة ممَّا هو موضَّح في محلِّه وليس هذا محل تفصيله.

إلاَّ أنَّ الأوَّل وهو الفقهي هنا يعد دليلاً أساسيَّاً مثبتاً للحكم الشَّرعي في جميع الفقه من حيث المبدأ إن توفَّرت ألفاظه ولو بمعونة السنَّة من دون انسداد، أو كان الانسداد جزئيَّاً غير ضار في وجوب متابعة موارده وإلى حدِّ ما عدا ما يرتبط منه بالأصول العمليَّة من المستحدثات أو بعضها بسبب ذلك الانسداد إذا كثُر.

والدَّليل الأساسي للأوَّل من الآيات وتوابعها من الرِّوايات عند الانفتاح وما يلحق به من الانسداد الجزئي يطلق عليه بالمولوي على ما سيجيء ذكره، وعند الانسداد الأكثر في باب المستحدثات الخالية من الدَّليل المولوي يكون المستمسك للعقل الشَّرعي هو الأدلَّة الإرشاديَّة على ما سيجيء بيانه.

ومن هنا يأتي دور الاستدلال العقلي لصالح أصول العقائد لما سيأتي توضيحه قريباً جدَّاً.

ب/ أن تتَّصل الأوامر بالنَّواهي اتِّصال المطابقة من الدِّلالات الثَّلاث فيقسِّر الأوَّل بالثَّاني وبالعكس على ما سيتَّضح أمر ذلك وهو ما يجعل الأمر والنَّهي معاً بمستوى واحد في علاقتها بمبحث الألفاظ بدون تفاوت وهو ما يصحِّح حمل الأمر

ص: 60


1- سورة الإخلاص آية /1.
2- سورة لقمان / آية 13.

على النَّهي والنَّهي على الأمر إن كان.

ج/ أن تنفصل الأوامر بالكليَّة عن النَّواهي وبالعكس وهي حالة استقلال الأوَّل عن الثَّاني وبالعكس، وهو ما سيأتي الحديث عنه تحت عنوان النَّواهي المستقلَّة إلى آخر هذا الجزء، وهو الأكثر وضوحاً في ارتباطه التَّام بما يناسبه من مباحث الألفاظ كالصَّلاة في الدَّار المغصوبة من أول وقتها إلى آخره وجوباً وأداءاً وكذلك الصَّلاة في المسجد المتنجِّس.

د/ علاقة النَّواهي بالأوامر علاقة إجماليَّة بنحو الدِّلالة التَّضمُّنيَّة دون المطابقيَّة كالأمر بالصَّلاة والنَّهي عن فعل المنافيات مع القدرة على ترك المنافيات، ويلحق بذلك علاقة النَّواهي بالأوامر بنحو الدِّلالة الإلتزاميَّة، فإنَّ تبعيَّة الحالتين لما يُسبِّب بطلان الصَّلاة مثلاً أو حرمة ارتكاب المنهي عنه لم تدخل في صميم الكلام عن مباحث الألفاظ بالنَّحو الطَّبيعي كما في (ب) و (ج)، وإنَّما سوف يتَّضح أمرهما عند الحديث عن مسألة الضِّد المتعلِّقة بغير المستقلاَّت العقليَّة ومقدِّمة الواجب والإجزاء والمفاهيم وغيرها ممَّا يصح أن تكون غير المستقلاَّت العقليَّة طريقاً له من بين ما يأتي بيانه من توابع الأوامر غير المستقلَّة.

ثانياً - العقائديَّات النَّظريَّة أو غير الضروريَّة

وترجيح إلحاقها بالفقه العام

والثَّاني وهو العقائدي فإنَّه يُعد دليلاً إرشاديَّاً كاشفاً عن الدَّليل العقلي الأساسي المطلوب في جميع العقائد الضروريَّة البديهيَّة كما هو محقَّق في مواضعه من بحوث آيات العقائد وما يناط ببحوث علم الكلام المختص بأدلَّته ولم يستثن إلاَّ العقائد غير الضروريَّة التَّابعة

للأدلَّة الشَّبيهة بأدلَّة الفقه، إلاَّ أن نلحق هذا الثَّاني في الأوَّل ونقرِّبه منه في مواضع الارتباط والتَّلاقي ليكون كالدَّليل الأساسي والمثبت

ص: 61

المماثل له في حصول هذه الأحكام أو هو نفسه في خصوص هذه المواضع، ولكن في خصوص هذه العقائد غير الضروريَّة كما لا يخفى لا غير أو ما أمكن فيه اجتماع المدركين، لكونها من الَّتي تفاوتت بعض العقول الذكيَّة في نتائجها مع أدلَّتها منطقيَّاً وكلاميَّاً ومن فرعيَّات تلك العقائد كما في الأمور الفقهيَّة السَّابقة والَّتي لن يكون لها بعد اليأس الاستدلالي العقلي التَّام والمستقل عن ارتباطه إلاَّ بالأدلَّة الإرشاديَّة عن أن يكفيها منقذاً ومخلصاً بصحَّة الاعتقاد بها إلاَّ هذا اللسان القرآني الثَّاني، ولكنَّه في تخريجه الاستدلالي حينئذ لا يفارق اللِّسان الفقهي المولوي أيضاً في نوعيَّة تخريجاته ولو بالاستعانة بالمأوَّلات القرآنيَّة الصَّحيحة سواء من ربط القرآن بالقرآن أو القرآن بالسنَّة، وهو وارد في كثير من صغريات العقائد أو عموم غير البديهيَّات العقائديَّة الفطريَّة، وإن أعانت على ذلك كثيراً السنَّة الشَّريفة الواردة عن العترة الطاهرة والموثَّقات التَّامَّة أو حتَّى لو احتيج في بعض الأوقات إلى بعض روايات العامَّة للاستفادة عن طريقها من قاعدة الإلزام لهم كثيراً في ذلك لو لم يؤمن بعض العامَّة بمكثور وصحاح رواياتنا عند تشنُّجاتهم الكثيرة البادية من أيَّام الحروب الطَّائفيَّة وحتَّى الآن كما في زيارة قبور الأولياء والرَّجعة والبداء والشَّفاعة والتَّوسُّل ودقائق البرزخ وسؤال الملكين في القبر والعبور على الصِّراط والحساب والمعاد الجسماني والشُّرب من حوض الكوثر والخلود في الجنَّة أو النَّار لمستحقِّهما وعصمة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم قبل بعثته للرِّسالة وعلامات الظهور غير المجمع عليها من قبلهم لصاحب الأمر f بين أهل الاعتقاد بها وأدلَّة كونه المولود المغيَّب بعد الحسن العسكري u ونحو ذلك الكثير من فقهيَّات الفرعيَّات العقائديَّة والفرعيَّات الأصيلة المختلف فيها .

كما وأنَّه قد يلحق بعض الأدلَّة الأصوليَّة الإرشاديَّة للفقه الإسلامي نفسه من بعض مستحدثاته في هذه المشابهة بعد اليأس من الأدلَّة الطَّبيعيَّة الأوليَّة والأساسية من الكتاب والسنَّة والإجماع والسِّيرة العمليَّة المستمرَّة أو عمل الأصحاب بما يشبه

ص: 62

هذا اللِّسان الثَّاني المرتبط بالعقائد حينما كان إرشاديَّاً في ضروريَّاتها، فيقوم العقل بإجراء أحكامه العقليَّة بعد استنتاجه لها حينذاك، وهي الَّتي لم يكن متخلِّفاً فيها يوماً عن حكم الله تعالى لو خلِّي وطبعه بسبب تماميَّة معقوليَّة حسن الإحسان وقبح الظلم الَّتي أعدَّت عنده كقاعدة ومن غير المستقلاَّت العقليَّة من الَّتي أرشدت إليها هذه الأدلَّة الإرشاديَّة من مقامات المستحدثات الغريبة الَّتي لم يعثر لها على دليل لفظي اعتيادي مباشر من الكتاب أو السنَّة أو نحوهما ممَّا عدا هذه الأصول، وهو ما يسمَّى بالأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل، حتَّى أخذ من جرَّاء ما ذكرناه لسان الدَّليل العقائدي شيئاً أو بعض شيء من أسلوب تخريج لسان الدَّليل الشَّرعي بأتِّباعه له في مثل ما مرَّت الإشارة إليه من فرعيَّات العقائد غير الضَّروريَّة ممَّا لم يستغن عن الدَّليل اللَّفظي.

ويتبع هذا الأمر الأمور الأخلاقيَّة كذلك ، لكونها عقليَّة في أساسها مع الإرشاديَّات ولكنَّها تحتاج إلى الألفاظ في المقامات المشابهة لو توفَّرت.

وهكذا أخذ الشَّرع - في فقهه نتيجة لما عرَّفنا الفقهاء به أصوليَّاً عن الدَّليل الإرشادي وإن كان المتصرِّف الأساسي هو العقل في التَّخريج - شيئاً من أساليب الدَّليل العقائدي ليبرِّر ذلك التَّصرُّف بالأدلَّة الإرشاديَّة ويكون بهذا البيان الَّذي ذكرناه تقارب بين اللِّسانين في بعض الأمور وبين العقلين في البعض الآخر وإن كان لكل من اللِّسانين موقع بحثه الخاص كالعقل في المقامين بحسب الدقَّة الموضوعيَّة والحكميَّة.

وعلى هذا قد يصل بنا الكلام المناسب إلى شيء أو بعض شيء ممَّا يخص اللِّسان الأصولي المشابه إلى ناتج واحد وإن كان ناتج هذا الاستدلال هو ممَّا يخص العقائد الفرعية فيجتهد فيها المجتهد ويرجع العامي فيها لو لم يقدر على ممارسته الاستدلاليَّة بنفسه تقليداً إلى ذلك المجتهد كما في الفقه، وقد عرفنا عن السيد الأستاذ

ص: 63

السيد الخوئي u أنَّه ممَّن يرى هذا الرأي وغيره كذلك وهو الصَّحيح في محلِّه على ما أوضحناه في كتابنا الفقهي الأصولي العلمي الخاص على (الاجتهاد والتَّقليد والاحتياط) المرتبط بالعروة الوثقى.

وقد يصل بنا الكلام المناسب أيضاً إلى ما يخص اللِّسان الأصولي الشَّرعي الإرشادي والمتصرِّف هو العقل وبما يشبه دليل العقائد الإرشادي ولكن بالصُّورة الأقرب إلى الشَّرع كما بينَّا والنَّاتج أمر فقهي محض داخل في صميم أحكام الفقه الخاص والعام، ولذلك جعلنا الكلام هنا عن الأوامر والنواهي في واقعه عمَّا يمكن أن يلتقي به اللِّسانان أو يتقارب فيه المقصدان لاحتواء أكبر نسبة ممكنة من الفوائد.

ثالثاً - ما يُناط بالمقام الخاص من بحث الأوامر والنَّواهي من السنَّة

هذا وبعد معرفة هذه الأهميَّة الإجماليَّة من أوامر ونواهي القرآن الكريم والَّتي أهمها ما في آيات الأحكام، وإن جاوزناها إلى شيء مناسب آخر في القرآن من بعض الوجوه أو كثيرها، لإتمام الفائدة أو لفسح المجال للذِّهن المحتاج عند استقامته من هذا التَّجاوز إن كان يحتمل أن يستفيد المحصِّل ما يناسب بصورة أفضل.

فلنعرف لإتمام الفائدة وتقويتها وتوضيحها بصورة أحسن كون السنَّة الواردة عن النَّبي 2 والَّتي حملتها لنا العترة الشَّريفة بالمرتبة الثَّانية بعد الكتاب وآيات أحكامه هي نفسها المحتاج إليها كذلك لدعم آيات الأحكام في أوامرها ونواهيها وما يلحق بهما منها فيما بيَّناه لا لعجز لا حلَّ له في الكتاب وإنما للإجمال الَّذي فيه حسب الحكمة الوضعيَّة الإلهيَّة لما هو مثبت في موضعه من هذه الموسوعة وبحوثها وللحكمة الإلهيَّة في ذلك كلِّه، وقد أوضحنا بعض هذه المضامين في الكلام عن السنَّة ببيان خاص آخر عن أساسيَّات مدارك الأحكام وهو الثَّاني بعد كتاب الله تعالى فلا نفصِّل الآن إلاَّ في تلك المناسبات الآتية.

ص: 64

ويلحق بالسنَّة المذكورة عند التَّوسُّع فيها المرويَّات عن طريق العامَّة ممَّا أشرنا إليه ممَّا يمكن الانتفاع به لدفع الشُّبهات المعادية من بعض أهل التَّسنُّن المعارضين ولإلزامهم بما ألزموا به أنفسهم ومن كتبهم، وبنفس الحاجة الأصوليَّة إلى البحث عن الأوامر والنَّواهي المرتبطة بها وغير المنفكَّة عنها لكون مباحث الألفاظ الأصوليَّة العامَّة مرتبطة ومنحصرة على الأكثر في هذين المدركين المهمَّين بمستوى متوافق إلاَّ بفارق المهم والأهم والتحاق الثَّاني بالأوَّل وتبعيَّته له على ما سوف يتوضَّح في مجال خصوص الكلام عن السنَّة ما عدا حالة الحاجة الأهم للثَّاني كما في توقُّف فهم الأوَّل على الثَّاني وهو سر اهتمام النَّبي 2 بالوصيَّة بالثِّقلين وبما لا يقلِّل من شأنيَّة أهميَّة الأوامر والنَّواهي والكلام المسهب عنهما وعن خواصِّهما في المدرك الأساس ومن ثمَّ في تابعه كما مر، اهتماماً بغرضنا في هذا التَّدوين لهذه الموسوعة.

ولذا ينبغي التَّنبُّه إلى أنَّ بحثنا هذا وإن كان يخص آيات الأحكام في بعض أو كثير الوجوه أو عموم البحث في أوامرها ونواهيها أو عموم البحث عن الأوامر والنَّواهي المولويَّة والإرشاديَّة الآتي بيانها للاعتبارات الماضية الَّتي ذكرناها، إلاَّ أنَّه لا ينبغي أن تفوتنا فوائد السنة المعاضدة في أوامرها ونواهيها في كثير وجم غفير من المهمَّات الصَّعبة الَّتي عن طريقها فهمت ضوابط الأحكام الخمسة الَّتي في آيات الأحكام المولويَّة منها والإرشاديَّة وللجامع اللَّفظي في المدركين، بل يجب فهم ذلك في كل مواضع الوجوب لإفراز الأحكام الخمسة بعضها عن بعض لئلاَّ تختلط بسبب الجوامع اللَّفظيَّة المشتركة في جملتها، فالبحث إذن في واقعه شامل للاثنين معاً في مسألة اخراج القاعدة الأصوليَّة الموحَّدة للاستفادة منها وإن كان كل منهما مختلفاً عن الآخر بحسب رتبته ومورد الحاجة بالدِّقَّة إليه لما مرَّ ذكره من مورد الالتقاء المفيد وهو واضح ممَّا كرَّرناه في البيان.

إضافة إلى ما يمكن أن يستفاد منه هذا الحكم الشَّرعي أو ذاك - من أساليب

ص: 65

قرآنيَّة أخرى غير نفس الأوامر والنَّواهي وتوابعهما المتعارفة اصطلاحيَّاً - بالدَّرجة الثَّانية وكعوامل مساعدة مهمَّة على هذا الفهم للأحكام الخمسة المذكورة وإن كانت عند البعض قد تُعد أصرح من ذلك كألفاظ تحمل معها دلائل نفس الوجوب أو لفظه ومعناه ودلائل نفس التحريم أو لفظه ومعناه ودلائل الاستحباب ودلائل الكراهة ودلائل الإباحة كذلك حيث اصطلح عليها ذلك لهذه الأحكام أو ما يشبهه بما سنوِّضحه، وكذلك من أساليب السنَّة الملحقة الأخرى وبما قد يكون أصرح كثيراً من هذه العوامل المساعدة وبما قد يقل في أموره النِّزاع بين الأصوليِّين وكذلك من أساليبها الأخرى كقول المعصوم وفعله وتقريره عن هذه الأحكام، لأنَّ السنَّة قطعيَّة المعاني بعد ضبط أسانيدها ولو لإمكان العثور عليها عند دراسة مقدِّمات ذلك كما سيتَّضح أكثر عند التَّفريق بين الكتاب والسنَّة.

إلاَّ أنَّ الأهم الَّذي ينبغي أن نفتتح به الكلام عن هذا المقام أوَّلاً هو بحث الأوامر والنَّواهي المتعارفة في اللَّفظ من القرآن وتابعته السنَّة لتشخيص مدى تأثيرها الخطابي بين العلماء وإن كان المكلَّف الأخرس قد يستفيد أحكامه كذلك من معاني لسانهما بنحو الإشارة إليه ومن فعل المعصوم وتقريره إشارة عمليَّة على حدٍّ سواء ثمَّ الكلام عن البواقي من هذه الملحقات ثانياً، لأهميَّة هذا البحث الأوَّل على نحو التَّقيَّة من الأساليب، لأنَّ بأساليب غير الأوامر والنَّواهي الصَّريحة الَّتي استعملها الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ أمام جواسيس الطَّواغيت كانت تخلِّصهم من المشاكل كالكنايات أو الإشارات ونحوها ممَّا جاء في النُّصوص من ملحقات الأوامر والنُّصوص لعدم صراحتها ومن جهة تأثير ألفاظ الأوامر والنَّواهي البالغ في صراحتها بنحو عام لوحدها في استنهاض المكلَّف للإطاعة بسرعة وتنبيهه من غفلته بصورة أكثر للخلاص من خطورتها بالابتعاد عنها وإبدالها بما مرَّ وبالتَّمويه تقيَّة.

ومن الأساليب المماثلة عربيَّاً لما تؤدِّيه الأوامر والنَّواهي الصَّريحة هي ألفاظ أو

ص: 66

حروف أخرى لتفيد نفس فائدتهما على ما سيجيء ذكره والتَّمثيل له في الأمر الثَّامن.

ولذلك ظهر من بحوث الأصوليِّين أنَّه لو لم تكن هذه الأوامر والنَّواهي والأخريات الَّتي تأدِّي مؤدَّاها موجودة في لسان الشرع القرآني وما ألحق به من السنَّة لأمكن المتخلِّفين عن خطوط الشَّريعة المحدودة بحدود الخطورة المنهي عنها وهم كثيرون أن يحتجُّوا على الله تعالى حينما يريد أن يحاسبهم أو يعاقبهم يوم القيامة قائلين له بأنَّهم لم يرد أمامهم من المنبِّه الكلامي الشَّيء الكافي بمثل الأوامر والنَّواهي والبواعث والزَّواجر حتَّى يمتنعوا من هذا التَّخلُّف أو ذاك أو أنَّها كانت ولكن لم يستفد منها كون تلك الأوامر للوجوب والنَّواهي للحرمة حينما لم يحقِّق شيء علمي في أمرهما وغير ذلك.

هذا وإنَّ العلوم الأدبيَّة وكتبها الدِّراسيَّة في بحوثها الخاصَّة ابتدائيَّة ومتوِّسطة ونهائيَّة حول ألفاظ التَّخاطب المؤثِّرة كلُّها تفضِّل جانبهما حتَّى في مطلق التَّرجيح والمرجوحيَّة على الأساليب الأخرى من دلائل ثبوت التَّكاليف فلابدَّ إذن من البدء بالخوض أوَّلاً في هذين المطلبين المهمِّين بل والأهمَّين من نوع القضايا، وإن كانت بعض الأساليب الأخرى في بعض المقامات البلاغيَّة من هذه العلوم مؤثِّرة بصورة أكثر في أكثر الحالات، لكون جميعها بالدقَّة لا يمكن حسب التتبُّع أن تغلب دائماً جميع مصاديق حالتي الأمر والنَّهي المبحوث عنهما بالدَّرجة الأولى ولذلك جعلنا الكلام عن الأساليب الأخرى في المرحلة الثَّانية لا للاستهانة بهذه الأساليب بل لما بقي ممَّا يمكن أن يعتز به من بواقي الباب العلمي المفتوح على ما سيتَّضح.

ولأهميَّتهما أيضاً كانت بحوث المنطقيِّين روَّاد خادم العلوم في مباحث ألفاظهم العربيَّة لاعتبار الألفاظ عندهم قنطرة لإيصال المعاني إلى الأذهان تقرِّر هذا التَّقرير، وللغرض نفسه لكسب القوميَّات الأخرى إلى هذه المعاني الشَّريفة وعلى الأخص في

ص: 67

هذه الأهميَّة - كانت بحوث علمائنا الأصوليَّة اللَّفظيَّة المسمَّاة في بعض تعابيرالبعض بمنطق الفقه من مثل النُّصوص القرآنيَّة وتوابعها والظَّواهر والعموم والخصوص والإطلاق والتَّقييد والإجمال والتَّبيين والنَّسخ والبداء والمنطوق والمفهوم والورود والحكومة المتَّصلة بهما - مركَّزة عليهما بالأساس كما مرَّ ثمَّ على باقي الدَّلائل، ولهذه الأهميَّة كذلك يتفرَّع عنهما أوَّلاً بحث التَّعبدي والتَّوصلِّي والفور والتَّراخي والموسَّع والمضيَّق والمرَّة والتِّكرار ونحو ذلك من حالات التَّوسُّعات الأصوليَّة المحتملة بصفة التَّركيز عليهما أكثر من البواقي ثمَّ يكون الكلام عن البواقي إن اقتضى ثانياً، لمحاولة التَّعرُّف على مدى ما يمكن فهمه الأصولي عند التَّوسُّع من وجود قواعد أصوليَّة أو العثور عليها بالنَّحو الإضافي إلى ما ركَّزوا عليه في السَّابق لتذليل الصِّعاب الاجتهاديَّة بما هو أكثر من السَّابق من عدم ذلك.

رابعاً- معنى الأوامر والنواهي أو هل يمكن أن يقال عنهما

ذلك بنحو من الجمع وهو أنَّ الأمر نهي أو النَّهي أمر أم لا؟

قد يتطرَّق إلى الكلام عن الأوامر والنَّواهي في مألوف التَّوسُّع البحثي لمساعينا لصالح مباحث الألفاظ، سواء في مجال ما به كثرة النَّفع أو حتَّى قلَّته بلحاظات متعدِّدة ومختلفة، فمنها الحاجة إلى معرفة كلٍّ من الأوامر والنَّواهي على حِدة لغة ثمَّ اصطلاحاً للإحاطة بخواص كلٍّ منهما ذاتيَّاً لمتابعة كل ما يتعلَّق بكل من أمورهما من الأدلَّة المرتبطة بها مطابقة وتضمُّمناً وإلتزاماً.

منها ما يحق للباحث السَّعي له وإن قلَّ أو ضعف نفعه كما أشرنا في العنوان من حالتي الجمع الذَّاتي لكلٍّ من الأوامر والنَّواهي ليكونا كشيء واحد بنحو من المطابقة ليفسِّر أحدهما بالآخر وبما يقترب من ذلك ولو كحالة التَّضمُّن.

ومنها ما قد يصل من تعلُّق أحدهما بالآخر بنحو من الاقتضاء التَّلازمي العقلي

ص: 68

غير المستقل.

ومنها ما يُلحظ منه أمر المنافرة التَّامَّة أو ما يشبههما كما في مصداقي واجبي الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر المستقل أحدهما عن الآخر، لكون كل منهما التَّاسع والعاشر من فروع الدِّين العشرة، وقد أشرنا إلى شيء من هذه الأمور في المدخل الماضي، وسوف تكون خاتمة هذا الجزء الثَّاني من (المساعي) حالة الاستقلال التَّام أو ما يشبهه بين الأمر والنَّهي بإذن الله تعالى.

ولأهميَّة الحاجة إلى معرفة ما يخص كلاًّ من الأوامر والنَّواهي من المعاني على حِدة لابدَّ من نيَّة الشُّروع للخلاص من لازم ذكره قبل تفصيل القسمين المهمَّين ولو بنحو من اللَّف والاختصار

تلخيص الكلام عن اجتماع الأمر والنَّهي

لم يكن الكلام عن اجتماع الأمر والنَّهي وبما مرَّ التَّنويه عنه عند الأصوليُّين من البحوث الَّتي تكثر فوائدها كغيرها من مباحث الألفاظ وإن اعتني بها بين فقهاءهم بأن يُقرَّر هذا الاجتماع عندهم فيها على نحو من الصَّلاة في المحل المغصوب هل تصح أم لا؟

وبين الأصوليِّين منهم بأن يُقال إنَّ تعدُّد العنوان في الواحد هل ينفع في دفع محذور التَّضاد بين الأمر والنَّهي أو لا؟

وبين الباحثين عن أمور المبادئ الأحكاميَّة الَّتي مرَّ التَّعرُّض لها أيضاً - اختصاراً لصالح ما يتعلَّق بشيء من هذا الجزء كالَّذي قبله - في التَّمهيد الأوَّل من هذا الجزء الَّذي بين يدي المطالع إذا كان البحث في نفس الأمر والنَّهي من حيث حالاتها الفرديَّة والاجتماعيَّة بناءاً على أنَّ هذا الاعتناء منهم في البحث لا يخلو من غرض علمي مفيد إمَّا ثبوتاً أو ثبوتاً وإثباتاً ولو في الجملة، ولذا لا نحتاج إلاَّ إلى الاقتصار

ص: 69

على الملخَّص المفيد منه وإنَّ قلَّت مصاديقه، فنقول:-

أولاً: ذكر بعض الأصوليِّين إمكان الجمع بين الأمر والنَّهي لمعنى واحد على أساس أنَّ الأمر بالشَّيء هو النَّهي عن ضدِّه، وهو ما يعني إن أريد منه التَّّطابق العكسي كذلك في صيرورة النَّهي أمراً أيضاً وبالخصوص لو أريد من الضِّد الَّذي للأمر أنَّه الضِّد العام.

وهذا المعنى إن ارتضي به عندهم لن يكون إلاَّ بمعنى التَّرك لكي يكون ترك التَّرك مؤدِّياً معنى انقلاب نهي النَّهي إلى معنى الأمر نفسه، لكنَّه معدُّ من التَّكلفات الأدبيَّة الَّتي لم يتحمَّلها المصلحون منهم إلاَّ بتبديل التَّرك بلفظ الكف، لكونه أهون.

ومع ذلك لا فائدة كثيرة من هذا الاجتماع التَّوحيدي إلاَّ لتضخيم المعنى التَّأكيدي لمفاد الأمر إن أمكن استيعاب معناه.

ونحيل أمور التَّأكيد لهذا المعنى إلى مبحث الضِّد وما يتلوه من توابع الأوامر الآتية في أواخر هذا الجزء الثَّاني.

ثانياً: ذكروا أيضاً عن إمكان هذا الجمع بالمعنى الاقتضائي التَّلازمي عن طريقالعقل غير المستقل حينما يكون معنى الضِّد الَّذي في الأمر ضدَّاً خاصَّاً بمصداقيَّة إجماليَّة يأتي بعض أمثلتها في بحث التَّرتُّب من توابع الأوامر لهذا الجزء أيضاً.

ثالثاً: ذكروا أيضاً عن إمكان هذا الجمع حتَّى بمعنى ما يستقل من الأوامر عن النَّواهي استقلالاً كاملاً، وكذلك ما يستقل من النَّواهي عن الأوامر استقلالها الكامل من قسمي الأوامر والنَّواهي الآيتين قريباً بعد الانتهاء من تلخيص الجمع بينهما، لكن دون أن تكون حالته طبيعيَّة بنحو من المطابقة اعتماداً على قرار الكلاميِّين باستحالة أن يصدر من الحكيم العادل حكم واجب يزاحمه حكم محرَّم كقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى](1)، إلاَّ بنحو

ص: 70


1- سورة النساء / آية 43.

تضمُّني كحالتي العموم والخصوص من وجه كقوله (صلِّ ولا تغصب) أو العموم والخصوص المطلق ك- (صلِّ ولا تصلِّ في الحرير)، أو بنحو جمع في حالة استثنائيَّة كالصَّلاة في الدَّار المغصوبة في ضيق وقت الصَّلاة حالة الخروج جمعاً بين الحقَّين، وأكل الميتة مع حرمتها حالة الاضطرار وتجويز الالتحاق بصلاة الجماعة مشياً بعد التَّكبير اجتهاداً إذا كان بين المأموم وبين الجماعة الرَّاكعين لإدراكها مسافة تحوجه إلى المشي أو تقليداً لمن يجوِّز ذلك.

و لاستيضاح الأمر أكثر لهذا المطلب الثَّالث نحيل المطالع إلى خاتمة هذا الجزء الثَّاني.

العود إلى تفصيل ما يلزم بيانه

من معاني إمكان الاجتماع أو عدمه

وبعد الانتهاء ممَّا لزم من الكلام عن تلخيص اجتماع الأمر والنَّهي لنعود إلى تفصيل ما يلزم بيانه من معاني إمكان اجتماع الأوامر والنَّواهي الَّتي لو لم يصح أن يكون الأمر نهياً والنَّهي أمراً مطابقاً لجاز أن يكون تضمُّناً أو التزاماً اقتضائيَّاً على الأقل.

فإنَّ من بقاياه أنَّ معنى الأوامر مع ذكر بعض ما يلزم ذكره مختصراً من النَّواهي عند استلزام ذكره لصالح الاثنينيَّة المجتمعة ممَّا أمكن تصحيحه في تلخيص الاجتماع الماضي من بعض المصاديق وكما سوف يتَّضح أكثر إلى حين التَّفصيل المستقل عنها في محلِّه الآتي في الخاتمة بعد الفراغ من جميع شؤون اجتماع الأمر والنَّهي، هو:-

أنَّ معنى الأمر في مشهور تعاريف الأصوليِّين الَّذي هو مفرد الأوامر - غير الأمر مفرد الأمور الَّذي بمعنى الشَّيء - وأعني به الَّذي يصح منه الاشتقاق الصَّرفي على خلاف الأمر الَّذي بمعنى الشَّيء - إذا تجرَّد عن القرائن وأريد منه الوجوب على

ص: 71

القول السَّائد - يكون هو طلب فعل الشَّيء من العالي إلى الدَّاني مع المنع من التَّرك.

وهو مأخوذ ممَّا يتداول اجتماعيَّاً بين العقلاء كما يعرضه اللُّغويُّون في قواميسهم الَّتي لا تخلو من ذكر بعض مصطلحاتنا الخاصَّة أو ما يقرب منها.

إضافة إلى عموم ما يريدونه كقولهم للتَّشبيه (إذا قال السيِّد لعبده بعد الدِّفع له نقداً أو الوالد لولده كذلك اشتر لي من السُّوق خبزاً أو لحماً أو نحوهما)، وهو ما معناه بينهم إذا لم يمتثل العبد أمر سيِّده أو الولد أمر والده في ذلك لابدَّ أن يكون كل منهما في معرض المخالفة الموجبة للعقوبة أو الحرمان من رضا السيِّد أو الوالد أو لم يكن من الأخفض من مستوى الوجوب وهو الاستحباب ليصل الأمر بتركه إلى الكراهة (وهكذا إذا نهياهما عن فعل شيء لو تخلَّفا ففعلاه ممَّا يقتضي عكس قرار السيِّد أو الوالد تجاههما) وهو ما معناه بينهم استحقاقهما العقوبة من السيِّد أو الوالد حينما كان النَّهي عن فعل شيء لم يرض كلاًّ منهما على نحو من الغضب به أو ما هو حتَّى الأخفض الَّذي لم يسبِّب شدَّة في غضبه بالمرتبة الأدنى ليكون مكروهاً (وهكذا ما يتناسب مع تخيير السيِّد أو الوالد للغلام وللولدالفعل وعدمه من الأشياء) وهو ما يتناسب مع معنى الإباحة.

وعلى هذا الأساس بني الحكم الشَّرعي الوارد من الوحي الكريم، وعلى أساس أن يأتي كل نبي بلسان قومه كما قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ](1)، ومن أجله كان رضا الرَّب تعالى عند الإطاعة وغضبه عند عدمها من الأوامر الصَّارمة أو النَّواهي الصَّارمة، وعلى أساس تفاوتات درجات تلك الأوامر والنَّواهي كما في المستحبَّات والمكروهات أو الأقل عند التَّساوي.

ومن ذلك عرفت الأحكام التَّكليفيَّة الَّتي مرَّت في الجزء الأوَّل بمعونة أدلَّة التَّرهيب والتَّرغيب والوعد والوعيد من محكمات وظواهر الآيات ومن السنَّة

ص: 72


1- سورة إبراهيم / آية 4.

الشَّرعيَّة المتفوِّقة على العقل المستقل، وإن حاول بعضهم نفي الوجوب والحرمة ونحوهما بنحو من الدقَّة الَّتي عنده تمسُّكاً بشبهة الضرر المحتمل وعكسه الَّذي يتصوَّرونه تحرُّراً عقليَّاً بدل القول بالوجوب والحرمة ونحوهما في بقيَّة الدَّرجات العادلة من الوجهة الشَّرعيَّة على ما سيجيء قريباً حتَّى من التَّفريق بين الأدلَّة المولويَّة والإرشاديَّة الَّتي قد تكون ثانيتها مبيحة للعقل غير المستقل أو حتَّى المستقل أن يتصرَّف بما يوازن قوانين العدالة الإلهيَّة بدون نيَّة تشريعه من عند نفسه إلاَّ بإمضاء من الشَّرع.

على خلاف النَّهي الَّذي هو مفرد النَّواهي ومن العالي إلى الدَّاني كذلك إذا تجرَّد وأريدت منه الحرمة أو دلَّت قرائنها عليها لأنَّه - هو طلب ترك الشَّيء مع المنع من الفعل - على ما سوف يجيء بيانه أو على أساس ما لو أريد منه الأقل منها على ما دلَّت عليه قرائنه كالمكروه الَّذي خلافه الاستحباب أو الأقل كالمباح كذلك لو تساوى الأمران.

وهذا على خلاف ما إذا كان الطَّلب في المطلبين من المساوي إلى المساوي فإنَّه يسمَّى بالالتماس، وهو خارج عن موضوعنا أو كان من الدَّاني إلى العالي فإنَّه يسمَّى بالدُّعاء، وهو خارج عن موضوعنا كذلك إلى غير ذلك من المعاني الخارجة الأخرى كالتَّسخير مثل قوله تعالى: [فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ](1) والتَّعجيز في مثل قوله أيضاً [فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ](2) والتَّسوية في مثل قوله [فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا](3) والاحتقار في مثل [أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ](4) والتَّكوين في مثل [كُن

ص: 73


1- سورة البقرة / آية 65.
2- سورة البقرة / آية 23.
3- سورة الطور / آية 16.
4- سورة يونس / آية 80.

فَيَكُونُ](1) ونحو ذلك.

والأمر في مقام الاستحباب مع التَّجرُّد عن القرينة كذلك على قولٍ لا مطلقاً أو إذا دلَّت قرينته عليه هو طلب فعل الشَّيء من العالي إلى الدَّاني كذلك مع عدم المنع من التَّرك ولكن مع شيء من الرجحان المناسب بما يقل عن الوجوب.

والنَّهي في مقام الكراهة مع التَّجرُّد على قولٍ لا مطلقاً أو إذا دلَّت قرائنها هو طلب ترك الفعل من العالي إلى الدَّاني كذلك مع عدم المنع من الفعل بمثل صيغة الأمر كقول النَّص (اترك) أو النَّهي ك- (لا تفعل) مع مرجوحيَّته المناسبة له في قلَّة الثَّواب وعدمه على ما سوف يجيء بيانه في البحث عن النَّهي الخاص في القسم الثَّاني الآتي من الخاتمة.

وفي مقام الإباحة هو تساوي الطَّرفين في الطَّلب فعلاً أو تركاً من نفس العالي إلى الدَّاني وبصيغة الأمر المعروفة بنحو منح الرُّخصة بأي منهما أو إعطاءالإجازة في ذلك بعد الاستجازة.

وقد يتجاوز هذا الطَّلب في بعض مقاماته الأكثر من الخمسة أيضاً كالتَّهديد والإنذار ممَّا سوف يتَّضح أنَّه ممَّا يلتحقا به، أي إمَّا بالأوامر الواجبة كالأوَّل أو النَّواهي المحرَّمة.

فالمتيقَّن في التَّعريف المطلوب إذن هو خصوص ما كان من العالي إلى الدَّاني فيهما حسب، لكنَّ المراد من هذا العالي وإلى الدَّاني من ذلك - وهو ما إذا اكتفينا بهما وطبَّقناهما على الأمور الخمسة المعهودة - هو خصوص الأوامر والنَّواهي من الأدلَّة المولويَّة الإلهيَّة للعباد في الشَّرع الشَّريف والدِّين الحنيف بالمرتبة الأولى لا اللغويَّة العامَّة وإن دخلت فيها الشَّرعيَّة نوعاً كما سيتَّضح فيما بعد أو المتشرعيَّة في غير حالات ما لو تترجم بها إن برز ذلك وكما مضى من بعض بدائيَّات عنهما في

ص: 74


1- سورة البقرة / آية 117.

الجزء الأوَّل.

وهكذا الأوامر والنَّواهي الَّتي بلَّغ بهما النَّبي 2 تبشيراً أو إنذاراً سواء من الكتاب أو السنَّة الَّتي بالمرتبة الثَّانية التَّابعة للشَّرع لوجوب اطاعته في الأوامر والنَّواهي الموجبة أو المحرِّمة أو عدم جواز الاستهانة بمشروعيَّة كلامه في عموم القضايا لقوله تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا](1) وكذا ما بلَّغ به الوصي والإمام الحافظ لكلِّ ذلك عن النَّبي 2 عن الله تعالى بالمرتبة الثَّالثة كأمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ ثالث أرباب الولاية العظمى في دلائل بيعة الغدير وآية التَّصدُّق بالخاتم وآية المنزلة وغير ذلك ومن بعده أبناؤه الأطهار عَلَيْهِ السَّلاَمُ وكذا العلماء الأبرار والفقهاء الأخيار من سائر المؤمنين من حواري الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ في حياتهم إذا لم يتواجد الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ أو بعد موتهم إلى الإمام العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ في الغيبة الصغرى أو الغيبة الكبرى بالمرتبة الرَّابعة.

وهكذا سائر المؤمنين والمكلَّفين بتعلُّم وتعليم الأحكام من مسائل الحلال والحرام والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر علماً وعملاً بالمرتبة الخامسة، وهكذا فيبلغ العالم الجاهل ويأخذ الجاهل من العالم جميع الأحكام الإبتلائيَّة أو ما يتيسَّر منها من مختلف طبقات المكلَّفين ذكوراً وإناثاً وكما ورد في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ](2) وقوله ناقلاً قول لقمان الحكيم يعظ ولده [وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ](3) وغيرهما الكثير من الآيات ومعها كافَّة الرِّوايات الشَّريفة الَّتي ضمَّت في طيَّاتها مضامين التَّكاليف الشَّرعيَّة القرآنيَّة المجملة والمفصَّلة وبصورة أوضح وأصرح لجميع المكلَّفين كما لا يخفى، ولكن

ص: 75


1- سورة الحشر /آية 7.
2- سورة التحريم / آية 6.
3- سورة لقمان / آية 17.

كل بحسب مقامه ومستواه من القدرة، إلاَّ أنَّه لم يخرج كون الواعظ والآمر والنَّاهي والمعلِّم والمدرِّس مع الأمر المولوي عن وجوب حرصه في كونه على نهج أعلى مستوى في المعرفة والثَّقافة الدِّينيَّة بعد النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ومنيليهم من المجتهدين ممَّن كان لهم الإفادة وعليهم الاستفادة في الوعظ والتَّوجيه لحفظ ناموس النَّمط التَّعليمي الاجتماعي الَّذي ذكرناه سابقاً عند العقلاء علماً وعملاً كالسيِّد تجاه غلامه والوالد تجاه ولده إذا أريد أن يكونا مطيعين.

وقد ورد الحث على الأخذ بكلام هؤلاء من قبل المحتاجين إلى الوعظ والأمر والنَّهي ونحوهما حتَّى من الأدلَّة الإرشاديَّة لقوله تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ](1) وقوله [وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ](2)، وإن كان التزام هذا الواعظ أو الآمر والنَّاهي ضعيفاً في نفسه في بعض الأحوال كفسق المعلِّم، لأهميَّة كسب العلم في نفسه وكما ورد (خُذُوا الحِكمَةَ ولَو مِنَ المُشرِكينَ)(3) لأنَّ عدم تطبيق العلم من هذا العالم هو حجَّة عليه لا على المتعلِّم لأنَّه قد أفرغ ذمَّته بالتَّعلُّم منه وما بقي إلاَّ العمل بذلك العلم وهو سهل في حالة عدم القصد لترك التَّطبيق الصَّحيح وإن كان المعلِّم الفاسق قد نال توبيخه المهم من قوله تعالى [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ](4).

وكذا من هؤلاء الآباء تجاه أبناءهم في المسؤوليَّة، والأبناء تجاه آباءهم في لزوم الإطاعة لهم، أو عموم رجحانها عليهم إذا كان العلم والعمل الصَّالح مرغوباً عند الجميع كما لا يخفى، وقد ينعكس الأمر مع الأسف فيكون الابن واعظاً والأب

ص: 76


1- سورة الزمر / آية 9.
2- سورة يوسف / آية 76.
3- المحاسن لأبي جعفر البرقي: 1 / 359 / 771 عن عليّ بن سيف.
4- سورة البقرة / آية 44.

مأموراً بالطَّاعة له وإن لم يكن مألوفاً بين الطَّبقات لدعم الشَّرع على أساس من الأدب الرَّفيع تجاه والده لأداء الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ولقوله تعالى [وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا](1) وغيره.

وهكذا المعلِّمون أو المدرِّسون تجاه تلامذتهم وقد تنعكس المسؤوليَّة وإن كان التَّلميذ متعلِّماً أو دارساً من أستاذه ولكنَّه موفَّق في التَّطبيق بما هو أفضل من معلِّمه أو أستاذه.

أمَّا إذا كانت الأوامر والنَّواهي صادرة من الجهات غير الشَّرعيَّة كأوامر ونواهي الجهلة فضلاً عن الحمقى وأهل البدع أو الطَّواغيت والظلمة وسائر المتغطرسين على هذا وذاك وذلك من المستضعفين ممن لا مثابة لهم بأي مرتبة من العلو المناسب واقعاً على الَّذين تولَّوا أمورهم ظلماً وعدواناً أو مخادعة وزوراً وبهتاناً كحكَّام الجور ممَّن يكون دستورهم الوضعي على الأكثر أمراً بالمنكر ونهياً عن المعروف فلا مشروعيَّة فيها، لأنَّ اصطلاح الوظيفة والتَّوظيف المراد أصوليَّاً في ذلك هو في خصوص ما ذكرناه عمَّن ذكرناهم وإن ضمَّت بعض المنقولاتاللغويَّة العامَّة في قواميسها بعض هذه المعاني أو الكثير منها.

وإن ادَّعى سلاطين الجور أو بعضهم أو بعض من يروِّج لهم مشروعيَّة أوامرهم ونواهيهم بالحجَّة الواهية وهي أنَّ الله سلَّطهم على العباد جبراً وقهراً وبما لا قابليةَّ لأولئك على الانفكاك عن ذلك وإن كان تسلطهم عليهم حاصلاً بالحديد والنَّار ومنهم المجبِّرة ومن أوائلهم بنو أميَّة ومن أسَّس لهم أساس الظلم والجور، وإن كانوا قد تمسَّكوا باطلاً بقوله تعالى [أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ](2) حينما فسَّروه بما اشتهت أنفسهم حتَّى سلَّطوا أنفسهم على الرِّقاب وحاربوا السنَّة

ص: 77


1- سورة لقمان / آية 15.
2- سورة النساء / آية 59.

الشَّارحة له بالعترة والأئمة الأطهار عَلَيْهِم السَّلاَمُ من أولي الأمر الواقعيِّين بعد النَّبي 2 من الأحباب بل وقتلوهم وشرَّدوهم، ولكن ما قدروا على محو آثارهم بالنَّتيجة، بل ازدادت شأنيَّتهم علوَّاً وسمُّواً بدون ارتياب.

وهذا التَّفسير المخالف ممَّا لا يجوز قبوله من الوضَّاعين، بل يجب رفضه جملة وتفصيلاً، وهو مفصَّل في محلِّه بخروجه عن قوانين الإسلام عقائديَّاً وإن سار تحت ظلِّهم للتَّغطية كثير ممَّن عنون لهم بعنوان علماء إلاَّ أنَّهم في واقع الأمر من علماء السُّوء ووعَّاظ السَّلاطين خوفاً وطمعاً ونحوهما وبما لا يُعطي لهم أي مجال للمشروعيَّة ولمناقضته بأداء ذلك إلى محاربة حكم الله جهاراً في كثير أو أكثر المواضيع في النَّتيجة ولو ظهر من بعض مغالطاتهم ما ظاهره الحق ولكن واقعه هو الباطل لكثرة الشُّبهات المتعمَّدة.

نعم هناك بحث لأمر قابل لأن يرتبط بالوجوب وحرمة المخالفة وإن كان تحت سلطة السُّلطان الجائر وهو ما يتعلَّق بأمور حفظ النِّظام من الأوامر والنَّواهي الصَّادرة عنه لا غيرها ممَّا لا يخالف الشَّرع من الجهات الأخرى فهو وإن كان بعد لم تثبت المشروعيَّة كاملة له في أوامره ونواهيه هذه بالعنوان الأوَّلي شرعاً إلاَّ أنَّه يجب الإطاعة فيه لأمور أظهرتها بعض الأدلَّة والنُصوص وقال بها بعض العلماء، وقد يكون منها ما اشتهر عن قوله تعالى في بعض الأحاديث القدسيَّة (الظالم عدل الله على الأرض ينتقم به، ثم ينتقم منه)(1)، ولو كان بعض ذلك للابتلاء ولامتحان الأمَّة به، لا لأي نحو من المشروعيَّة الواقعيَّة كما سلف فيطاع أمر هذا الظَّالم لدفع شرِّه وجلب المنافع المحتملة للنَّفس والغير بذلك حتَّى مع إضمار عدم كون ذلك مرغوباً به تحت ظلِّ ذلك، إذ لا كرامة حقيقيَّة له في الواقع.

ولذلك حدَّثتنا الرِّوايات الشَّريفة عن سلوكيَّات أئمَّتنا الأطهار النِّظاميَّة التَّامَّة

ص: 78


1- كشف الخفاء / العجلوني ج 2 ص49 - 50.

ومعهم حواريهم ومن سار على نهجهم من مواليهم وقت حكم طواغيت عصورهم على أحسن حال مع فارغ صبرهم ومن دواعي ذلك التَّقيَّة.

وهو بحث مهم في نفسه وقد مرَّ ذكره لمناسبة، وقد تكون له مناسبة أنسب لتفصيله في محل آخر لا داعي له الآن.

ومن ذلك مطاوعته في القوانين النِّظاميَّة الَّتي لو التزم بها لاستفاد المواطن وكثيراً ما تكون هذه من صالحه كإشارات المرور ونحوها وهي ما يشترك به سلطان العدل والجور معاً إلى أن يأذن الله تعالى بالخلاص من سلطان الجور بالمرَّة بمثل الجهاديَّات الدِّفاعيَّة بأنواعها المهمَّة مع القدرات لو جاءت مقتضياتها وانتفت موانعها وبالأخص بتفريج الهم بظهور الإمام المنتظر لإنعاش الأمَّة بدولته.

خامساً - الفرق بين الطَّلب المولوي والإرشادي أمراً ونهياً

ومن بعد هذا المطلب الطَّلب المولوي الَّذي مرَّ في المطلب الأوَّل الإشارة إليه بعد المدخل العام وبقيَّة ما مضى من المطالب.

وهو المراد به الأوامر الإلهيَّة الَّتي أسَّست لنا الواجبات الإسلاميَّة بصراحة النُّصوص القرآنيَّة بما اصطلحوا عليه للواجبات بلفظ (البعث) والمحرَّمات بلفظ (الزَّجر) من آيات الأحكام وما يتبعها أيضاً من جزئيَّات العقائد ممَّا سلف بيانه، وبصراحة النُّصوص من السنَّة في كلا المطلبين ممَّا مضى ذكره أيضاً، وممَّا قد لا يتفاوت كثيراً عمَّا ذكرناه عن التَّعارفات المتوارثة عقلائيَّاً وما قد نصَّ عليه في القواميس اللُّغويَّة -

جاء الطَّلب الإرشادي للاستعانة به كوارد من القرآن والسنَّة عند انسداد باب العلم من صريح المولويَّات الخاصَّة أمام الفقهاء المتتبِّعين ليمضي الشَّرع للعقل السَّليم تصرُّفه الاجتهادي تحت ظلِّهما في المسائل المستحدثة ومن قبيل حسن الإحسان وقبح

ص: 79

الظلم في مقابل الاجتهادات في مقابل النُّصوص لئلاَّ يُقال أنَّ العقل في مثل هذه الأمور الخطيرة أفتى بغير دليل شرعي.

فجاء دور ذكر المولوي والإرشادي للتَّعرُّف على الفرق بين المعنيين لئلاَّ يختلط أمرهما في مورد التَّطبيق وعلى الأخص فيما جاء من الأمثلة ما يتناسب مع المعنيين لا يفرز أحدهما عن الآخر إلاَّ باللِّحاظ الخاص لكل منهما، وهذا له أمثلة عديدة من القرآن الكريم وهي [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ](1) وتطبيقهما عقلي يدركهما كل عاقل ومحل التَّطبيق الواسع للإرشادي آخر الأصول وهي الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل استصحاباً أو تخييراً أو اشتغالاً ونحو ذلك.

ومثل ذلك قوله تعالى [وَالَّلاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةًمِّنكُمْ](2) الَّذي أعدَّ إلهيَّاً للإرشاد ولإراءة الطَّريق إلى ما يتفطَّن له جميع العقلاء من معقوليَّاتهم العامَّة والمتَّفق على قبولها حتَّى في شرع الله تعالى، وإن كان ممَّا لم تظهره بعض النُّصوص صراحة أو لم يوفَّق لأنَّ يستفيد منها بعض أهل العلم الاصطلاحيِّين كاستفاداتهم في الفقهيَّات من المولويَّات الصَّريحة.

وإن كانت تلك المعقولات موجودة عند التَّأمُّل المناسب حتَّى من قبل بعض أهل العلم الآخرين في مواضيع قضاياهم الخطيرة الَّتي قد تحتاج لذلك إلى تثبيت وقائعها باستفراغ وسعهم للاحتجاج بها أو عليها إلى أمور من ذلك الاستشهاد ولو بأدنى إشارة، إلحاقاً ببقيَّة الأدلَّة الإرشاديَّة المثبِّتة لحق المعقول النَّوعي في التَّصرُّف حتَّى بما استقلَّت به تلك العقول من الموارد الخاصَّة بمبرِّر عدم الرَّدع من الشَّرع مثل [فَاسْتَشْهِدُواْ] آنف الذِّكر أو حسن الإحسان وقبح الظلم وكل ما ينضوي تحت هذا

ص: 80


1- سورة النحل / آية 90.
2- سورة النساء / آية 15.

العنوان من الَّتي تذهب عن هذه العقول استقلالها ممَّا خلت النُّصوص المولويَّة من ذكره في بعض الأدوار واستنتاج بعض الأحكام الشَّرعيَّة من تلك المواضيع في بعض أو كثير المستحدثات إذا انسدَّ باب العلم الفقهي الصَّريح.

بل يكفينا من الأسانيد الإضافيَّة للمقام بعض خواتيم الآيات القرآنيَّة معزَّزاً له كقوله تعالى [لعلَّكم تعقلون] وقوله [لعلَّهم يهتدون] وغيره الكثير.

وقد سبقت هذا العنوان - وهو عنوان الفرق بين المعنيين - بعض آيات كنَّا قد أوردناها لمقام ما قد يختلف بعض الشَّيء بالدقَّة عمَّا نحن بصدده الآن تصلح أن تكون من نوع الإرشاديَّة أيضاً كقوله تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ](1) وقوله للحث على المزيد من العلم [وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ](2) وقوله [وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا](3) لتشجيع الأمَّة على المزيد منه وإلى ما يناسب مثابة حاجة أبنائها إلى التَّوسُّع في العلم وإن توهَّم العلمانيُّون أنَّ لهم الحق في استقلالهم في اتِّباعهم علومهم بدون تقيُّد بالشَّرع للا بديَّة التَّعبُّد بالشَّريعة حتَّى عن طريق الإرشاديَّات،

وهكذا قوله [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ](4) لحث النَّفس أولويَّاً ببركة هذا الإرشاد التَّأنيبي الَّذي لولاه لما أمكن تشريع دليل الأولويَّة، بل وقوَّاه قوله تعالى الآخر [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ](5)،وهكذا قوله تعالى لوعظ لقمان الحكيم ابنه [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ

ص: 81


1- سورة الزمر / آية 9.
2- سورة يوسف / آية 76.
3- سورة طه / آية 114.
4- سورة البقرة / آية 44.
5- سورة التحريم / آية 6.

بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىمَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ](1).

أقول: وهو ما ينبِّه كل عقل ومنه عقل الصَّغير الَّذي لم يكلَّف بتعاليم الشَّرع بعد لأهميَّة الاقتداء بتجارب الأب الحكيم لو سبَّب ذلك هدايته لتطبيق ما في الآية من المضامين تجاه الآخرين والمحفِّز عقلاً لتوجُّه النَّفس أوَّلاً ثمَّ الآخرين ممَّا سبق ذكره من الأدلَّة الماضية أيضاً.

ومن تلك الآيات الإرشاديَّة قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ](2) الَّذي به تمام الدِّلالة الإرشاديَّة وإلى جميع الأحكام التَّكليفيَّة الخمسة وتوابعها الوضعيَّة وحتَّى السُّلوكيَّات التَّصاعديَّة القريبة العرفانيَّة الَّتي تتجلَّى في نفس المؤمن العابد بواسطتها معاني (حسنات الأبرار سيِّئات المقرَّبين)(3)، ومضامين دعاء أمير المؤمنين علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ الوارد عنه وهو (إلهي ما عبدتك طمعاً في جنَّتك ولا خوفاً من نارك ولكن رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتُّك)(4) إلى غير هذا من الأوامر ونحوها من الإرشاديَّات ومعها ما يتبعها من ألفاظ السنَّة الشَّريفة الَّتي لا داعي إلى الإطالة بأمثالها لوفرتها عند الحاجة إلى الاستشهاد بها.

فلننتقل إلى إيضاح الفرق بين المعنيين، بل قد يقبل التَّوضيح بضرب مثال من الإرشاديَّات الماضية نفسها، بحيث يصلح للمعنيين معاً مولويَّاً وإرشاديَّاً، إضافة إلى

ص: 82


1- سورة لقمان / آية 17.
2- سورة النساء / آية 59.
3- هذه المقولة مشهورة على ألسن الأخلاقيِّين، ولم ترد في حديث أو رواية إلاَّ ما نسبها بعض العامَّة إلى أبي سعيد الخراز، إلاَّ أنَّها لا تتنافى مع ما يلتزم به أهل العرفان الشَّرعي. راجع تذكرة الموضوعات - الفتني - ص188، كشف الخفاء - العجلوني - ج1 ص357.
4- ميزان الحكمة : ج 6 ص 18.

ما يخص كلاًّ من الاثنين من الأمثلة الخاصَّة.

ولنختر لذلك آخر الأمثلة الماضية وهو قوله تعالى [اَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ](1) فإنَّ الأمر فيه حينما كان من العالي إلى الدَّاني أمكن أن يكون مولويَّاً ومنشأً لاستحقاق الثَّواب بالإطاعة والعقاب بالمعصية زيادة على المفسدة المترتِّبة على ترك الفعل كما في أمر الشَّارع بالاجتناب عن تناول المضر المستفاد من نفس هذا القول في كونه إمضاءاً لما يقول به عقل الطَّبيب الماهر إذا نصح المريض بأن يصلح مزاجه المتعكِّر بشرب الدَّواء المر، لأنَّ بتركه يتضرَّر وهو بهذا القول الكريم صار في نفس الوقت إرشاديَّاً لا مولويَّاً فقط، بناءاُ على عموم وإطلاق هذا القول فيما يخص وجوب الإطاعة للواجبات الشَّرعيَّة، ومن ذلك وجوب دفع كل ضرر ومنه الصحِّي وهو معنى لا خلاف فيه، فاجتمع المعنيان عند الآخذ بالمعنى الإرشادي حين الانسداد العلمي الشَّرعي مولويَّاً عند افتراضه بما مرَّ ذكره من معناه.وهكذا الأقوال الشَّريفة الأخرى الَّتي تحمل المعنيين كلاًّ باعتباره.

ومن هذه الآية وما يشابهها يتبيَّن قرار نفي الشَّك عن قضيَّة قانون المولويَّة والعبوديَّة الَّتي لا زمتها الفطرة السَّليمة أيضاً بلزوم امتثال أوامر الآمر على من دونه.

فكل موظَّف في تكاليفه العامَّة والخاصَّة مأمور بمتابعة أوامر من هو عال عليه، ولزوم هذا التَّوظيف من المشهورات المسلَّمة منطقيَّاً بين الكل للمصلحة العامَّة النِّظاميَّة.

ومنه يظهر كذلك أنَّ أوامر الشَّارع واجبة الامتثال كما أنَّ مناهيه لازمة الاجتناب وإن كان مفاد الآية يمكن أن يتوسَّع إلى درجتي الاستحباب والكراهة حتَّى لو احتاج كل منهما إلى القرينة الحالية أو المقاليَّة أو ما هو الأوسع ليراد الخامس وهو الإباحة الَّتي لم يرد حولها إثبات ونهي من النَّصوص مع التَّنصُّل عن التَّدخُّل

ص: 83


1- سورة النساء / آية 59.

في شأنها تشريعاً بدون مدرك نفي النَّهي أو الإثبات على ما سيجيء اتِّضاحه في المطلب السَّابع.

وإن كان هذا قد يستند إلى الحكم الفطري، وهو دفع الضَّرر المحتمل الحاصر على رأي بعض الأفاضل لحالتي ما به النَّفع والضَّرر النَّفع الملزم لاقتنائه والضَّرر الملزم لدفعه من هذا الحكم الفطري الَّذي نوهَّنا عنه بمعنيي البعث والزجر وهو على علاَّته غير ممنوع صناعة حتَّى على رأي بعض الأصوليِّين الَّذين يجعلون التَّضلُّع الفقهي قد يفوق محدوديَّة الأصول الصِّناعيَّة، لأنَّه لا يمتنع عنه التَّوسُّع في باب التَّضلُّع الفقهي أن يراد كلَّ الأحكام الخمسة وهي الوجوب والتَّحريم والاستحباب والكراهة والإباحة وإن احتيج إلى القرائن المقاليَّة أو الحاليَّة للثَّلاثة الأخيرة.

وقرائن بقيَّة الأحكام الثَّلاثة غير خفيَّة على أدباء الفقهاء وأتباعهم من الأصوليِّين ومن التزم بخصوص حكم الفطرة، وهو معنى دفع الضَّرر المحتمل المحدَّد بين المعنيين المشار إليهما.

وإذا كان ذلك كذلك ما بال من لم تخف عليه المستحبَّات وممارسة الالتزام بها والمكروهات وممارسة الاجتناب عنها من أمثال الأبدال والعرفانيِّين من حواري الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُوالأبدال الَّذين ما بارحوا أتباع أئمَّتهم بسيرة (حسنات الأبرار سيِّئات المقرَّبين)(1) حتَّى نالوا درجة التَّجلِّي من غير حاجة منهم إلى جعل القرائن للثَّلاثة فضلاً عن أنَّ أبا الأئمَّة عَلَيْهِ السَّلاَمُ سلطان الأمَّة في خلافته وعظيم سيرته الواردة عند دعائه (إلهي ما عبدتك طمعاً في جنَّتك ولا خوفاً من نارك، ولكن رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتُّك)(2) أي وهو الَّذي لا تخفى عليه المستحبَّات بالتزامه بها كالواجبات والمكروهات بالتَّجنُّب عنها كالمحرَّمات وإذا التزم بشيء مباح فلم يفعله إلاَّ بما يثيبه

ص: 84


1- راجع هامش (3) في ص82 الماضية، ولا داع إلى الإعادة.
2- ميزان الحكمة : ج 6 ص 18.

منه وهو القائل لرعاية عوام الأمَّة بما ينسجم مع ما أتى به النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم ممَّا يناسب الأحكام التَّكليفيَّة الخمسة المتناسبة مع تسهيل الأحكام عليها وتيسيرها لها إلى ما ليس فيه ضغط وإجبار كما ورد عنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ في النَّهج قوله مخاطباً عثمان ابن حنيف ومن معه (ألا وإنِّي أعلم أنَّكم لا تقدرون على ذلك ولكنأعينوني بورع واجتهاد وعفَّة وسداد)(1).

وقد فُسِّر الأمر الإرشادي في مقابل المولوي بأنَّه بمنزلة الإخبار الَّذي لا يستفاد منه الوجوب ابتداءاً.

والأوَّل وهو المولوي يقصد منه البعث أو الزَّجر عن متعلَّقه ممَّا مرَّ.

فالإرشادي إن أفاد بعض ما يشبه المولوي يُقصد منه الحكاية عن شيء كالمصلحة أو المفسدة.

فالأوَّل وإن دلَّ على مصلحة أو مفسدة لكن الدِّلالة المذكورة غير مقصودة ذاتاً لحمله التَّعبُّديَّات في الأساس على المعاني الأوَّليَّة.

كما أنَّ الثَّاني وإن كان موجباً للبعث والزَّجر بالتَّالي لكنَّه غير مراد من الخطاب نفسه ابتداءاً كما أشرنا إلى أنَّ من أمثلته العرفيَّات الَّتي منها أمر الطَّبيب للمريض بشرب الدَّواء وإن كان مرَّاً وكان الدَّليل الإرشادي من مثل الآية وغيرها يؤيِّد العقل في قرار الطَّبيب المتصرِّف بما حدَّد له شرعاً.

وهذا المقدار يكفينا عن الفرق وإن كانت الإطالة فيها مجال نبغيه لمحل آخر.

ص: 85


1- بحار الأنوار ج 40 ص340، نهج البلاغة - خطب الإمام علي u ج3 ص 70.

سادساً - كيفيَّة التَّصوير التَّوضيحي لما يقال عن الأمر والنَّهي معاً

من الكلام مع إمكانه أو حالة عدمه؟

قد نوَّهنا عنها بما يشبه هذا العنوان تحت العنوان الرَّابع لغرض تقسيم البحث العام عن الأمر والنَّهي، وللبدء بمعنى الأوامر والنَّواهي وذكر ما قد يشترك أمره من الكلام عنهما فنقول إن كان في المقام سابقاً شيء من الغموض.

أنَّه قد يفسَّر الأمر بالنَّهي والنَّهي بالأمر مع حفظ ما يحمله كلا اللَّفظين من ذلك المعنى الواحد المرتبط بالإطاعة في كلِّ منهما بتساوي أو ما يقرب منه في الجملة الجامعة بينهما، فيقال إنَّ الأمر بالشيء هو النَّهي عن ضدِّه، وإنَّ النَّهي عن الشَّيء هو الأمر بضدِّه كالصَّلاة فإنَّها مأمور بها ومنهي عن تركها في الوقت الواحد بلا أن يشغله شاغل اضطراري في الوقت الواسع عنها، لعدم إمكان الجمع بين الصَّلاة ومنافياتها المحلَّلة أو المحرَّمة، ومن أمثلة هذا قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ](1) وقوله [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى](2) فضلاً عمَّا لو كان الوقت ضيِّقاً أو خاصَّاً بما لا يصح فيه غير هذه الصَّلاة.

ولأجل احتمال عدم التَّطابق الكامل بين الاثنين وبما لا يصحِّح حمل أحدهما على الآخر بتمام ولو لاختلاف لفظ كلِّ منهما عن الآخر مع إمكان التَّطابق الإجمالي، نقول:-

قد نوقش في ذلك بأنَّه إن أريد ذلك فلابدَّ من اشتراط أن يراد من الضدِّ حينئذ

ص: 86


1- سورة العنكبوت / آية 45.
2- سورة النساء / آية 43.

هو الضدِّ الخاص كالأكل والشُّرب بالنِّسبة إلى الصَّلاة مثلاً، لأنَّهما منهي عنهما حينها سواء في الوقت الموسَّع لو اختار المكلَّف صلاته في الوقت الخاص لها أو المضيَّق لها مطلقاً، لا الضدِّ العام لعدم التَّساوي على الأقل بين المعرِّف والمُعرَّف.

علماً بأنَّ المراد من المعرِّف المساوي هنا في أقل تقاديره هو الأجلى ليصح وليجمع الأفراد ويمنع الأغيار ولو بمستواه البسيط وإلاَّ يكون من قبيل تعريف الشَّيء بضدِّه أو ما يقرب منه أو يكون هو نفسه إن تساوى معه بلا إجلائيَّة والمستثنى الأوَّل مرفوض والمستثنى الآخر مرفوض أيضاً لمنع تعريف الشَّيء بنفسه، لأنَّه من قبيل تحصيل الحاصل.

إضافة إلى أنَّ الأمر لو كان كذلك في إمكان التَّعبير عنه بالنَّهي تامَّاً لما ثنِّي الأمر بالنَّهي في قوله تعالى [كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ](1) لأنَّ اختلاف التَّعبير يدل على اختلاف المعنى، ولأنَّ الحكمة القرآنيَّة الشَّرعيَّة هنا لا يراد منها سوى النَّهي عن الزَّائد الَّذي لو أكل أيضاً لآثر التَّخمة ولو أبقي بعد الاستفادة منهما في القمامة لكان من التَّبذير.

إلاَّ أنَّ يقال بإرادة النَّهي من ذلك الأمر بمعنى لا تتركوا الأكل الاعتيادي الَّذي لا يمنعكم عن الإتيان الطَّبيعي بواجباتكم الَّتي منها صلواتكم، وهو التفاتة معمَّقة من اللَّفظ قد لا تزاد اعتياديَّاً لو ركَّز على الظَّواهر.

وكذلك قوله [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ](2) بناءاً على أنَّ الواو عاطفة على الآية السَّابقة لها ليكون الأمر والنَّهي متطابقين على الأحكام الخمسة كلِّها لا خصوص البر والتَّقوى المستحبَّين أو حتَّى الاستئناف فيه لو أريد منها

ص: 87


1- سورة الأعراف / آية 31.
2- سورة المائدة / آية 2.

كل الأحكام إلاَّ إذا أريد من التَّثنية بالنَّهي الإضافة التَّصحيحيَّة لمعنى الأمر لا بمعنى أن يتساويا في السِّياق.

وكذا قوله [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ](1)، أي إذا كان المراد من الاعتقاد هو نفس عدم التَّفرُّق لا أكثر ولا أقل بينما الواقع من عدم التَّفرُّق المراد أنَّ التَّفرُّق وهو عدمه هو أقل الخطرين لو لم يلتزم بالاعتصام، بينما الاعتصام لو التزم به وفي مواقع الشِّدَّة والأزمات لاحتاج إلى التَّماسك الأشد اعتصاماً.

وغير ذلك لحقيقة عدم هذا التَّساوي المزعوم، إلاَّ في بعض القضايا النَّادرة غير المخلَّة بالمألوف السَّائد كالأمر بالصَّلاة في هذا الوقت والنَّهي عن تركها الآن أو للتَّأكيد في الآيات بين الأوامر والنَّواهي لوجود الجامع بينهما ولو إجمالاً، وبهذا يتبيَّن ما نبني عليه ردَّاً لغير المقبول من المناقشة دون المطلق منها.

وهكذا الأمر نفسه حينما يجيء ما يشبه العكس مثلاً في ذكر النُّصوص بأن يتقدَّمالنَّفي ثمَّ يأتي بعده الأمر كما في قوله تعالى مخاطباً الأعراب [قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ](2) للفرق الأوضح ممَّا سبق من الآيات إلاّ أن يدَّعى إرادة التَّأكيد أيضاً من تعبير النَّهي عن الأمر ولو من الجامع الجزئي بين المطلبين لا الَّذي بمعنى التَّساوي الكامل وهو غير كاف عن دليل قطعي دال عليه في مثل ما نحن فيه وإن تمَّ التَّأكيد بالجامع الجزئي من مصاديق الآيات الماضية.

لأنَّنا نريد التَّعبير بالأمر عن النَّهي والنَّهي عن الأمر لا بنحو التَّأكيد أو للجامع الجزئي بل بنحو أن يكون الضدُّ خاصَّاً وهو المهم إن تحقَّق وإن لم يظهر من بعض النُّصوص واضحاً، لاحتمال أن يكون هذا الخاص من النُّصوص الخاصَّة لا من

ص: 88


1- سورة آل عمران / آية 103.
2- سورة الحجرات / آية 14.

تعبير الأمر بالنَّهي وبالعكس بنحو التَّساوي الكامل كما سوف يتَّضح.

وعليه لو لم يظهر شيء من ذلك فلابدَّ من البقاء فقهيَّاً على الاصطلاحات الخاصَّة للعناوين الموافقة للنُّصوص الشَّريفة الأخرى من مثل بعض الآيات أو روايات السنَّة الصَّحيحة.

بل وقع الإشكال حتَّى في الضدِّ العام الملحق بالخاص كما سوف يتَّضح فيما بعد.

ونوجزه بأنَّه لو أمر المكلَّف بصلاته مثلاً ونهي في نفس المعنى والوقت عن فعل الأمور العامَّة المانعة وهو الضدُّ العامَّ لأمكن عدم التَّساوي كذلك لنفس الاحتمال ممَّا مرَّ، كما لو كان ذلك المكلَّف إمرأة وكانت على حيض أو نفاس وهما لا محالة رافعان عنها التَّكليف الفعلي الخاص في الأداء والقضاء كما لا يخفى، وإن كان بالنَّحو العام باقياً من جهة البلوغ والعقل لما بعد أيَّام الدَّم.

وهكذا الرَّجل قبل دخول وقت الفريضة أو حتَّى بعد دخوله هو والمرأة الطَّاهرة أيضاً ولكنَّ ذلك التَّكليف كان في بدايات سعة الوقت المعهودة للصَّلوات المفروضة، وهكذا بقيَّة الواجبات الأخرى غير الصَّلاة في أوقاتها الموسَّعة، وهكذا النَّهي لو حصل شرعاً عن شيء إذا عرَّفناه بالأمر لعدم التَّساوي الكامل.

ولذا قال الآخرون فراراً من هذه الإشكالات بأنَّ الأمر بالشَّيء هو الَّذي يقتضي النَّهي عن ضدِّه لا أنَّ الأمر هو النَّهي، وأنَّ النَّهي عن الشيء هو الَّذي يقتضى الأمر بضدِّه لا أنَّ النَّهي هو الأمر، لعدم التَّساوي المذكور، ولكون الاقتضاء أقرب إلى حالة عدم القدرة على التَّعريف الحقيقي المشروط فيه كونه مؤلَّفاً من الجنس القريب والفصل القريب وهو غير متوفِّر إلاَّ المعرب عن المعرف الاقتضائي المذكور كالتَّعريف التَّسامحي الَّذي ذكرناه في مطلع البحث الرَّابع اعتماداً على وفرة النُّصوص المبيِّنة للأضداد كالأكل والشُّرب والنَّوم ولكنَّه بمعنى التَّرك لا غير كما

ص: 89

سوف يتَّضح أكثر عند إفراز كل من الأمر والنَّهي للكلام عن كل منهما بما يخصُه على حدة بعد ثبوت عدم التَّساوي الحقيقي كما يعرف أحدهما بالآخروإن تقاربا في الجملة أو توقَّف التَّساوي على شرط الضدِّ العام بمعنى التَّرك بعد الفراغ من ذلك وتحت عنوان (هل يمكن الجمع بين الأمر والنَّهي حتَّى لو ابتعد كل منهما عن الآخر بتنافر كثير أم لا).

ومع كلِّ ذلك نحن نبقى فنقول:

بأنَّ المناقشة إن صحَّت بمنع التَّساوي الكامل فلم تصح إن بقي شيء من التَّقارب الجزئي.

وإنَّ التَّعريف الاقتضائي - وإن صحَّ لعدم إمكان التَّسليم للحد التَّام ولاعتياديَّة النُّصوص الذَّاكرة للموانع المخلَّة بالصَّلاة في مثال البحث غالباً إلاَّ أنَّ الضدِّ المنهي عنه في الصَّلاة وهو التَّرك أو المنهي عنه في تركها وهو الأمر بفعلها لا بنحو الاقتضاء بل بنحو التَّحديد المنطقي - لو تحقَّق له موضوع في المقام مع احتماله لكان أدق لكونه داخلاً في حيِّز الإمكان إن جعلنا مثالي الحائض والنَّفساء وعموم المكلَّفين في صلواتهم وغيرها في الأوقات الموسَّّعة ممَّا يسمَّى بالأمور الخارجة بالنَّص غير المخلَّة بقاعدة التَّعريف والكلام عن هذه الأمور وعن إمكان الجمع بين المتضادَّين فيه وعدمه آت بإذن الله في واحد من توابع الأوامر الآتية وفيما بعد الفراغ من الكلام عن خصوص الأوامر وإن اشتركت في الجملة مع غيرها كهذه الموارد وعن خصوص النَّواهي الَّتي لا تشترك مع الأوامر للفرق بين الصَّلاة وبين السكر وكما سيتَّضح أكثر من التَّمثيل بالصَّلاة حتَّى في الدَّار المغصوبة بنحو من التَّجاوز المشروع في محلِّه وكما مرَّت الإشارة إلى ذلك فيما سبق، وهو ما لا يضر في جعل هذا المورد السَّادس على جزئيَّة العلاقة المذكورة مناسباً.

ص: 90

سابعاً. كيف تكون الأوامر والنَّواهي محدودة بأربعة

والأحكام التَّكليفيَّة المشهورة خمسة

قد يتراءى للسَّطحي في أوَّل وهلة من دراسته بأنَّ الأمر والنَّهي لا يحمل كل منهما سوى شيئين لا أكثر.

ففي الأمر لو كان معناه شديداً في آمريَّته سواء من حيث دلالته الطَّبيعيَّة أو ما أظهرته القرينة في بعض المقامات يكون الواجب.

وفيه لو كان الشَّيء خفيفاً في آمريَّته مع القرينة الاعتياديَّة على ذلك أو بلا قرينة في بعض المقامات الاستثنائيَّة إن سكتنا عنها يكون المستحب.

وفي النَّهي لو كان الشَّيء شديداً في مبغوضيَّته سواء من حيث دلالته الطَّبيعيَّة على ذلك أو ما أظهرته القرينة من مقاماتها يكون المحرم.

وفيه أيضاً لو كان الشَّيء خفيفاً في مبغوضيَّته مع القرينة الاعتياديَّة على ذلك أو بلا قرينة عليه في بعض المقامات الاستثنائيَّة يكون المكروه، وبذلك تتم الأحكام من مصطلحات الحلال والحرام في هذه الوهلة واصلة إلى هذه الأربعة لو لم يتوجَّه أو لم يوجِّهه مدرِّسه إلى ما هو الصَّحيح مع العلم مشهوراً ومعتبراً بأنَّها خمسة لا أقل وخامسها المباح وهو ما يتساوى فيه جانب الرُّجحان والمرجوحيَّة من صيغتي الأمر والنَّهي عند الشَّرع وإن اختصَّ ذلك المباح بصيغة الأمر الَّتي تقبل أن تحمل كل ما لا حرمة فيه وإن كان مع القرينة ومنه ما يتساوى فيه ذلك وهو الجواز بالمعنى الأوَّل أو ما يحمل حكماً من أيٍ من أحكام الرُّجحان والمرجوحيَّة من الأمر والنَّهي الماضي ذكرهما أو ما حمله الأمر من النَّهي عن ضدِّه الخاص أو ما حمله النَّهي من الأمر بضدِّه الخاص وما آل إليه الكلام الماضي وهذا الكلام حقيقة لا يمكن نكرانها فكيف يتم الإلحاق أو متى يكشف النقاب عن كل الخمسة؟

ص: 91

فنقول: إنَّ الأوامر والنَّواهي في أساسهما الشَّديد كما مر هو دلالتهما على الوجوب من الأوامر وعلى الحرمة من النَّواهي بالصِّفة الاعتياديَّة من التَّعبير وإن أمكن التَّجاوز عن هذين بما مرَّ ذكره وإذا خفَّا يكون المستحب من الأوَّل والمكروه من الثَّاني ومحل الكلام عن هذا الأساس وما يتفرَّع عن كل من الصِّيغتين فيما يأتي.

ولكن لا يمكن أن ينسى أمر ما يختلط فيه أمر حالتيهما من الرُّجحان والمرجوحيَّة إذا انحصر الأمر فيهما دون الأساسيَين وحصل التَّساوي في لفظ واحد قد يجمعهما من عدم العلم بأحدهما دون الآخر أو تأكَّد التَّساوي بينهما في أمر من الأوامر ولو بما ظاهره عدم حمله حكماً من الأحكام وبالخصوص أحد الخفيفين المذكورين بمثل قرينة الترخيص بين الفعل والعدم أو الإجازة بعد الاستجازة من الآمر ممَّا مرَّ ذكره، وإن جعل إشكالاً لدى البعض لحصر الأمر في الأربعة.

وبذلك وصل الأمر في العدد من الأحكام إلى الخمسة بناءاً على كماليَّة الشَّريعةالمقدَّسة الَّتي لا يمكن نكرانها وأنَّها قد استوعبت كل أفعال المكلَّفين وتصرُّفاتهم وما تركت شيئاً إلاَّ وبيَّنت حكمه.

ولذا أمكن توزيع المعاني الخمسة بين الأربعة بما يصح أو لا يمنع، ولا شكَّ أنَّ المباحات منها بمعونة النصوص من الكتاب وآيات أحكامه وأضيفت إليه السنَّة الشَّارحة بعد ذلك على أنَّ الأوامر والنَّواهي منطبقة على جميع هذه الأحكام الخمسة ولو بانحصار بعضها في صيغ خاصَّة أو بحسب القرائن الدالَّة عليها كما سيتَّضح في الآتي أكثر إنشاء الله تعالى.

فمن آيات ما يدل على الوجوب حقيقة قوله تعالى [أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا](1) وذلك لغرض الحث على وجوب بعض الصَّلوات اليوميَّة كالظُّهر مثلاً لتجرُّد لفظ الأمر كما سيأتي عمَّا

ص: 92


1- سورة الإسراء / آية 78.

يدل على ما هو أخفض من الوجوب وإضافة قرينة الدلوك للتَّشخيص وهو الزَّوال إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الأخرى حتَّى لو كان من فصيلة غير افعل من التَّوابع ويتبعها الأوامر من السنَّة وكذا ما يتأكَّد منه الوجوب من المصدرين ولو بتفسير أحدهما من الآخر.

ومن آيات ما يدل على الحرمة حقيقة قوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ](1) وقوله [وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ](2) لتجرُّد النَّهي الدَّال على الحرمة عمَّا هو أخفض منها أو مع بعض القرائن المؤكِّدة من القرآن وغيره من السنَّة في التدليل على حرمة الأكل وغير ذلك من الآيات والأدلَّة الأخرى الكثيرة.

ومن آيات ما يدل على الاستحباب قوله تعالى [وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ](3) لاستحباب أصل الزَّواج بما دلَّت عليه قرائنه وإن وجب بالعارض بما سيتَّضح في المقامات المناسبة الآتية بإذن الله، وقوله أيضاً [فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا](4) لكون الكتابة أضمن لصالح السيد وكذا مملوكه، وقوله كذلك [وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ](5) حيث كانت صلاة اللَّيل زائدة على أصل الصَّلوات اليوميَّة الواجبة وغير ذلك من الآيات والأدلَّة الأخرى.

ومن آيات ما يدل على الكراهة قوله تعالى [وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ](6) لكراهة ما قبل الاستثناء الواضحة من النَّهي المثبت استحباب ما بعده

ص: 93


1- سورة الأنعام / آية 152.
2- سورة البقرة / آية 188.
3- سورة النور / آية 32.
4- سورة النور / آية 33.
5- سورة الإسراء / آية 79.
6- سورة العنكبوت / آية 46.

وغير ذلك من الآيات والأدلَّة الكثيرة الأخرى.ومن آيات ما يدل على الإباحة وبمحاولة تركيز أكثر عليها من الأدلَّة والشَّواهد مثل قوله تعالى [فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ](1) فبعد كون الاستحباب في زوجة واحدة ثابتاً ممَّا مرَّ ذكره كان النِّكاح في الأكثر داخلاً في أصل الإباحة وعليه تكون الزِّيادة عليها بشيء من الرُّجحان مشروطة بالعدالة وإلاَّ فقد يصير الأمر إلى مستوى المشروعيَّة المكروهة أو الأشد وهذا بحث خاص في مورده الآخر.

ومثل قوله تعالى [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ](2) الدَّال على إباحة أصل العمل في مقابل الحرمة الَّتي في أثناء نهار الشَّهر المبارك بسبب الصَّوم الواجب، وكذا في مقابل الحرمة المتوهَّمة عند بعض الصَّحابة أيَّام بداية التَّشريع حتَّى في اللَّيل وإن استحبَّ ليلة الصِّيام الأولى بأكثر من أصل الإباحة لبعض الاعتبارات الأخرى في بقيَّة اللَّيالي.

ومثل قوله تعالى [وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ](3) للإباحة الظاهرة بعد نهاية الإحرام الَّتي لا يعقل أكثر منها ابتداءاً.

ومثل قوله تعالى [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ](4)، ومثل قوله كذلك [وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ](5).

ص: 94


1- سورة النساء / آية 3.
2- سورة البقرة / آية 187.
3- سورة المائدة / آية 2.
4- سورة الأعراف / آية 32.
5- سورة الأعراف / آية 157.

ومثل قوله أيضاً ممَّا مرَّ [وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ](1) الواضح في التَرخيص بكل ما عدا الحرام من الإسراف إلى أن يزيد على أصل الإباحة بما يستحب أو يجب أو يكره بما دلَّت على ذلك أدلَّة كل منها وهو خارج عن المقام المبحوث عنه.

بل هكذا قال الأصوليُّون بثبوت الوصول إلى القول بالإباحة أو عموم الجواز الَّذي منه الإباحة في كلِّ ما خرج عن تمام تعريف الوجوب وهو (الأمر بالفعل مع المنع من التَّرك) وصار هذا الأمر لم يمنع من التَّرك الَّذي كان جزء التَّعريف فبقي الجواز على حاله من مجرَّد الأمر عندهم.

إلاَّ أنَّنا نقول بأنَّ هذا صحيح ولكن مع بقاء كل ما عدا الواجب ممَّا لم يحرم أو ما عدا ما يحرم وما يجب ممَّا يجوز فعله لو قبلنا في الجملة تفسير الواجب بالحرام بما يصح دون غيره ممَّا مرَّ ذكره لا خصوص المباح أو الجائز وهو الجائز بالمعنى العام، لأنَّ القول بكلامهم لو كان على علاَّته من دون استدراكنا لا يمكن الأخذ به في خصوص المباح إلاَّ بالقرينة المفرزة له دون الباقي.

ولأنَّنا لم يثبت عندنا الانسداد الكبير في الأدلَّة القرآنيَّة اللَّفظيَّة حتَّى السنَّة التَّابعةلوفرتها فلم يكن إلاَّ الصَّغير، وهو ما قد يحوجنا إلى شيء من الإكثار من استفراغ الوسع مع احتمال الاستفادة منه لا البقاء على خصوص قواعدهم الَّتي قد يكون منها (كل ما عدا المنع من التَّرك هو المباح أو الجائز)، لاحتمال أن يكون المراد هو ما فوق المباح كالمستحب أو دونه كالكراهة.

وبذلك تتم الأحكام الخمسة بحصول المباح إن دلَّت قرينته باستفراغ الوسع وهو غاية المراد، وقد أوضحنا أمر هذا الخامس في الجزء الأوَّل عن تعليقاتنا على العروة الوثقى (قسم الاجتهاد والتَّقليد).

ص: 95


1- سورة الأعراف / آية 31.

ثامناً - ألفاظ أخرى تؤدِّي مؤدَّى الأوامر والنَّواهي

للإعراب عن الأحكام الخمسة

ولم يقتصر في الأمر والنَّهي المذكورين في دلالتيهما ذاتيَّاً ولو من حيث النَّتيجة على ما دلاَّ عليه من صيغتيهما الحاليَّة الاعتياديَّة وبما مثَّلنا لهما على الأحكام الخمسة، بل تجاوز ذلك إلى اصطلاح صيغ - أخرى نتيجة لمتابعات الفقهاء في أصولهم للسان الشَّارع - دالَّة عليها كذلك بدل صيغتي الأمر والنَّهي المذكورين لو لم يتوفَّرا أو لم يعثر على شيء منهما لتفيد نفس الفائدة في إيضاح هذه الأحكام الخمسة وبما قد يكون أصرح.

وقد أيَّدت ذلك القواميس اللُّغويَّة ولتوسعة رقعة الاستدلال بما هو أوسع من الصِّيغتين في فقهنا الحنيف الواسع ولئلاَّ تبقى للنَّاس على الله أيَّة حجَّة بصورة أفضل من خصوص الصِّّيغتين ولئلا ينحصر اللسان في اصطلاح ضيِّق لا يعين على التَّوسعة واللِّسان الشَّرعي من الكتاب والسنَّة في صيغهما ممَّا يعين عليها وإن كانت هذه الصِّيغ الأخرى تعد ملحقة كما مرَّ من نواحي الإلحاق الخاصَّة بها مع ما ذكرناه من أهميَّتها في مقاماتها البلاغيَّة الخاصَّة.

ولكن من ذلك ما قد يحتاج إلى القرينة على حصول ما يراد منه على أحدها، ومنه مالا يحتاج إليها، أو كالذي لا يحتاج إليها لخفة أمرها في عالمها أو وضوح دلالة المراد من تلك الصِّيغة ونحوهما عن أحد هذه الأحكام، وهو غير ضار أصوليَّاً إن أحكمنا وضع الشَّيء في ما يناسبه من ذلك.

فممَّا كان مناسباً للتَّدليل على الوجوب من الصِّيغ الأخرى هو المضارع المحفوف بلام الأمر بدون قرينة إضافية غير لام الأمر الدَّالَّة على الوجوب المرتبطة بهذا الفعل مع كونه وحده غير دال على شيء من ذلك لأنَّه يحتمل فيه الحال

ص: 96

والاستقبال وليس كالفعل الإنشائي المرتبط بالفعل الماضي الخاص في موارده من صيغ العقود الملزمة ونحوها، وهكذا الفعل المضارع الخالي من اللام إذا قصد به الإنشاء، وهو مثل قوله تعالى [لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ](1).

وكذلك ما ورد من مثل قوله تعالى: [وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ](2) إلحاقاً له بباب الأمر وإن كان هو نفسه قابلاً للتَّدليل على الاستحباب ولكنَّه مع القرينة الإضافيَّة ولو من السنَّة أو ما يدل على التَّهديد مثل قوله تعالى [اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ](3) أو الإنذار المراد من قوله تعالى [قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ](4) إلحاقاً للقولين الشَّريفين الأخيرين في النَّتيجة بالنَّهي عن التَّمادي فيما لا يرضي الله وشرعه.

وهكذا كلمة (فريضة) الواردة في القرآن من الدوال على الوجوب كقوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ](5) حيث جاء التَّكليف بصيغة الفرض المساوي للوجوب وبالفعل الماضي، أي فمن فرض على نفسه بالتزامه بما فرضه الله عليه، وهكذا قوله تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ](6)، وكذا قوله [قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ](7).

ص: 97


1- سورة الطلاق / آية 7.
2- سورة الإسراء / آية 106.
3- سورة فصلت / آية 40.
4- سورة إبراهيم / آية 30.
5- سورة البقرة / آية 197.
6- سورة القصص / آية 85.
7- سورة الأحزاب / آية 50.

ومن ذلك ما دلَّ عليه بكلمة (يأمر) وإن جاءت بالفعل المضارع المجرَّد من لام الأمر للموضوعيَّة الخاصَّة المرتبطة بمشتقَّات الأمر [إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا](1) وقوله [إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى](2) وقوله [إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً](3).

ومن ذلك صيغة عليك في مثل قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ](4) الَّتي بمعنى ألزموها وقوله [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً](5) وهي الَّتي بمعنى ولله حق على النَّاس أو كانت كلمة يجب عليهممقدرة.

ومن ذلك اسم الفعل من قبيل (صه) و (مه) أو (مكانك)، وهكذا المضارع المقصود به الإنشاء ممَّا مرَّ ذكره نحو (يعيد صلاته) أو (أطلب منك أن تكتب)، وكذا الجملة الاسميَّة المقصود بها الإنشاء نحو (الصَّلاة مطلوبة منك) و (زكاة الفطرة عليك)، وهكذا المصدر النَّائب عن فعل الأمر مثل (إعادة الفعل صياماً)، وغير ذلك من كل ما اتِّفق على كونه يؤدِّي مأدَّى الأمر الَّذي للوجوب حتَّى لو لم يرد بعضه في القرآن ما دام قد ورد في لسان الرِّوايات الشَّريفة المعتمدة التَّابعة.

وممَّا كان مناسباً للتَّدليل على الاستحباب هو كل ما كان دالاًّ في ظاهره مع تجرُّده عن القرائن الاستحبابيَّة ممَّا مضى من الشَّواهد والأمثلة القرآنيَّة وما ألحق بها إذا جاءته قرائنه أو غلب استعماله في المستحب وضعف استعماله في الواجب بسبب

ص: 98


1- سورة النساء / آية 58.
2- سورة النحل / آية 90.
3- سورة البقرة / آية 67.
4- سورة المائدة / آية 105.
5- سورة آل عمران / آية 97.

الشُّهرة العمليَّة والسِّيرة المستمرَّة كما في بعض القضايا الخاصَّة غير المخلَّة بقاعدة دلالة الأوامر على الوجوب لو تجرَّدت مثل صلاة اللَّيل الَّتي كانت واجبة على النَّبي 2 وصارت مستحبَّة على الآخرين.

وهكذا ما استدلَّ عليه بقوله تعالى [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ](1) حيث دلَّ على استحبابه بصراحة من هذا التَّعبير ولكن الوجوب لابدَّ له من القرينة وهي مثل كون مجرَّد الإسلام لابدَّ وأن يسبِّب انزلاقه نحو النِّفاق وأمثاله كالأعراب الموصوفين غالباً بكونهم [أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا](2) حتَّى لو أسلموا أو لم يكن كلُّهم كذلك.

وهكذا ما يفيده قوله تعالى [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ](3) إذا أريد من ذلك اللَّيلة الأولى حسب ما ظهر من القرائن ولو من السنَّة الشَّريفة لعدم الصَّراحة فيه كما سبق بيانه إلاَّ في خصوص الإباحة.

وممَّا كان مناسباً للتَّدليل على الحرمة قوله تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ](4) الدَّالَّة على التَّحريم بصراحة وبدون حاجة إلى القرينة، إلاَّ أنَّها إذا أريد منها الكراهة "لا سمح الله" أو لم تحمل على حقيقة التَّحريم كما هو محقَّق فقهيَّاً في محلِّه، فلابدَّ لها من القرينة للمجازيَّة المرتبطة باستعمال الشَّيء في غير ما وضع له من غير أمور الزَّواج الثَّابت، وهو الكراهة في النَّواهي وملحقاتها وقوله [إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ](5) وغيرهما من أمثالهما.

ص: 99


1- سورة الحجرات / آية 7.
2- سورة التوبة / آية 97.
3- سورة البقرة / آية 187.
4- سورة النساء / آية 23.
5- سورة البقرة / آية 173.

وكذلك قوله [إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ](1) وغيره من أمثاله حيثوردت بالفعل المضارع مع كونها للإنشاء لصراحتها بلسان النَّهي الَّذي مرَّ ذكره بمساواته للا تفعل، وكذلك أيضاً قوله [اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ](2) وكذا [فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ](3) وكذا [وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ](4) وأمثالها لكونها جاءت بصيغة الأمر أو ما يؤدِّي معناها، وبناءاً على ما ذكرناه من أنَّ النَّهي عن الشَّيء هو الأمر بضدِّه عكس ما مرَّ ذكره في المطلب الرَّابع والسَّادس لحصول التَّساوي بالنَّتيجة بين المتقابلين ممَّا أجمل منه وهما الأمر والنَّهي فيعود لكلِّ شيء من المعرفين بما يخصُّه ممَّا يحتمل دون الأكثر.

ومنه ما جمع النَّهي والحرمة في آن واحد في آية واحدة كما في قوله تعالى [وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ](5)، أي حرَّم قتلها فنهى عنه وذلك نوع من التَّأكيد.

ومثل ذلك الأمر بالمنع المعروف فيما ورد عن الإمام الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ يوم الطف مخاطباً أعداءه (امنعوا عتاتكم وجهَّالكم عن التعرُّض لحرمي)(6) حيث جمع عَلَيْهِ السَّلاَمُ بين الأمر الدَّال على الوجوب والمصاغ في نفس الوقت بصيغة الأمر بالمنع وهو الَّذي معناه وجوب الأمر بالإقلاع عن الاعتداء وهو صريح في كونه من أدلَّة التَّحريم.

وممَّا كان مناسباً للتَّدليل على الكراهة هو ما لو دلَّت قرينتها عليها مع آيات

ص: 100


1- سورة الممتحنة / آية 9.
2- سورة الحجرات / آية 12.
3- سورة الحج / آية 30.
4- سورة الأنعام / آية 151.
5- سورة الأنعام / آية 151.
6- رواه الخوارزمي في المقتل: 2 : 33، وابن طاووس في الملهوف: 171.

[يَنْهَاكُمُ اللَّهُ](1) المكرَّرة ونحوها ممَّا يساعد على ذلك لو غلب الاستعمال بمثل الشُّهرات العمليَّة على الكراهة ولو لأسباب خفيت علينا أو الإجماعات المتقنة.

وهكذا قوله تعالى [اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ](2) الماضي ذكره في خصوص ما زاد على ذلك البعض المحرَّم لشمول النَّهي بسعته بالنَّهي عنه زائداً بمعنى الحث على التَّورُّع عن ذلك الكثير.

وقد يكون هذا التَورُّع داخلاً في الواجب العقلي مقدِّمة للخلاص من المحرَّم إذا لم يحرز فهم ذلك البعض من الكثير احتياطاً.

وإذا أراد المكلَّف تحمُّل مبغوضيَّة المكروه بإساءة الظن لبعض الدَّواعي لعدم الحرمة فيه فلابدَّ له من إقامة قرينة عدم ذلك التَّحريم أوَّلاً عليه، ليبرِّر لنفسه ذلك.

لأنَّ الآية قد لا تساعد على ذلك إلاَّ بالمبرِّر كحالات آخر الزَّمان الَّتي لأجلها ورد عن الإمام علي الهاديu قوله (إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن يظن بأحد سوءاً حتَّى يعلم ذلك منه، وإذا كان زمان الجور أغلب فيه من العدل، فليس لأحد أنيظن بأحد خيراً ما لم يعلم ذلك منه)(3).

وإلاَّ قد تغلب بعض الأوامر المقابلة بالضد مثل قول الحديث (احمل أخاك المؤمن على سبعين محمل)(4) إلى غير ذلك ممَّا قد يختلف فيه أيَّام إمكان الحمل على الصحَّة من القديم الَّذي قد يكثر فيه المؤمنون أو لكثرة الالتزام بالتَّقيَّة لأجل الحفاظ عليهم عن أيَّام رجحان التَّحفُّظ عن الحمل عليها في قرب أيَّام غيبة الإمام المنتظر من أيَّام العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ لصريح لسان الرِّواية الثَّانية.

ص: 101


1- سورة الممتحنة / آية 9.
2- سورة الحجرات / آية 12.
3- ميزان الحكمة ج2 ص1787 وأعلام الدين: ص312.
4- الحدائق الناضرة / الشيخ يوسف البحراني، ج 18، ص312.

وهكذا قوله تعالى [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ](1) الماضي ذكره إذا لم تنتف الكراهيَّة عن التَّحليل لصدق التَّحليل بالمعنى العام على الأحكام الأربعة كلُّها ممَّا عدا التَّحريم في مثل ليلة القدر أو لياليها المحتملة أو العشر الأواخر الَّتي كان النَّبي 2 فيها يلبس المئزر ويعتزل النِّساء ويتفرَّع فيها للعبادة وهكذا أهل بيته عَلَيْهِم السَّلاَمُ.

لكنَّه لا يدل هذا التَّحليل من حيث هو على خصوص الكراهة إلاَّ مع القرينة كما أشرنا إلى ذلك بليالي القدر والعشر الأواخر بواسطة ما يخصُّها من الرِّوايات، لأنَّ اصطلاح التَّحليل في أساسه قد يدل على الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة كذلك، فيتزاحم مع الكراهة كما في اللَّيلة الأولى المستحب فيها ذلك من شهر رمضان المبارك إلاَّ بالتَّشخيص.

وممَّا كان مناسباً للتَّدليل على الإباحة وهي الحكم الخامس المراد تأكُّده هو كل ما جاء من النُّصوص الإلهيَّة وما يتبعها من السنَّة ممَّا دلَّ أو استعمل فيه ما يتساوى فيه الطَّرفان من جانب الرُّجحان وجانب المرجوحيَّة، أو ما لم يبدُ منه حكم من الأحكام الأربعة الماضية.

إمَّا من صراحة لفظه من دون حاجة إلى قرينة صارفة مثلاً لاختصاصه في ذلك المعنى، أو لكثرة الاستعمال فيه بحيث لا يناهضه شيء غيره من المعاني الأخرى فضلاً عن الأغلبيَّة فيه، أو غير ذلك من القرائن الدَّالَّة عليها حينما كان اللَّفظ في واقعه موضوعاً لشيء غير الإباحة أو للأعم منها ومن غيرها كما في قوله تعالى [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ](2) الماضي ذكره فيما عدا اللَّيلة الأولى من شهر رمضان الَّتي جاء استحباب الرَّفث فيها، لأدلَّة ذلك الخاصَّة منه فيها وممَّا عدا اللَّيالي

ص: 102


1- سورة البقرة / آية 187.
2- سورة البقرة آية 187.

من العشر الأواخر منه أو ليلة القدر وما بعدها منه، لكراهته المعروفة من أدلَّة ذلك عند المتشرِّعة كما أشرنا إليه فيما سبق، فيبقى الوسط من لياليه داخلاً في معنى الإباحة من كلمة التَّحليل في الآية.

إلاَّ أنَّ الرَّفث جاء في الآية مباحاً مع القرينة كما وصفنا لتراكم الاحتمالات الثَّلاثة على كلمة (أحلَّ) وهي الاستحباب في اللَّيلة الأولى والكراهة في اللَّيالي الأخيرة والإباحةفيما بين الاثنين لأنَّه ما تبيَّن ذلك إلاَّ بعد مراجعة الأدلَّة وهو غير ضار بعد تبيُّن الثُبوت الَّذي قد لا يمنع عن قرب الإثبات كذلك بعد استفراغ الوسع النَّاجح.

وهناك وجه آخر قد يساعد على إمكانيَّة تصوُّر أصل الإباحة بدون ما مضى وهو فيما لو لوحظت منه الإباحة في خصوص ما يقابل الحرمة من هذا النَّص، وهي الَّتي ترتبط بحالة الصَّوم في النَّهار لحرمة الرَّفث فيه، أو فيما كان يُتصوَّر وهماً من قبل بعض أصحاب النَّبي 2 من أنَّ الرَّفث كان محرَّماً عليهم حتَّى في اللَّيل إلى أن أحدث بعض منهم في أنفسهم ما كان محرَّماً عليهم، وأقلُّه تحريمهم على أنفسهم ما كان حلالاً لهم، إمَّا تشريعاً منهم لذلك، أو تكليفاً من أنفسهم عليها بما لا يطيقون بقرينة قوله تعالى من نفس آيات الصَّوم [عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ](1).

ولذلك كانوا يستعملون الوصال في صيامهم بترك ما أبيح لهم وهو محرَّم كذلك إلى أن هدى الله من هدى بعد نزول الوحي في ذلك.

وبهذا يظهر معنى الإباحة الصِّرفة والمجرَّدة من الزَّوائد في أوَّل وهلتها وإن أمكنت الزِّيادة فيها برجحان أو مرجوحيَّة في بعض الإضافيَّات بعد ذلك مع القرائن الَّتي أشرنا إليها ولكنَّه غير ضار في أن تكون مجرَّدة كما بيَّنا مع إضافة قوله تعالى في

ص: 103


1- سورة البقرة / آية 187.

آخر الآية [فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ](1) أو مع القرينة كذلك لكون الأهم هو أصل وجود الإباحة والحكم الخامس وقد ظهر ممَّا مضى.

ومن ذلك قوله تعالى [وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ](2) لكون كل ما عدا المحرَّم هو مباح في أساسه وإن زاد عنه إلى الأكثر فهو خاضع إلى القرينة، ومثل ذلك بوضوح أكثر قوله تعالى [وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ](3).

حيث ثبتت الإباحة بحليَّة الطِّيبات وإن كانت تلك الإباحة هي إحدى ما يراد من الآية كالواجبات والمستحبَّات وحتَّى المكروهات لعدم المنع من قبلها كما مرَّ.

وهذه الإباحة بالمقابلة بتحريم الخبائث في نفس الآية الكريمة، ومن ذلك قوله تعالى [أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ](4) وهو يشبه ما مضى وتتجلَّى فيه أصالة الإباحة.

ومن هذا وأمثاله أسِّست القاعدة الأصوليَّة المعروفة لأحقيَّة الرُّجوع إليها عند الشَّك في الشَّيء بأنَّه حلال أو حرام اعتماداً على ما ورد (كل شيء لك حلال حتَّى تعلم أنَّه حرامبعينه)(5)، وهكذا كل ما يعطيه معنى (يجوز) أو (يباح) أو (لا مانع) أو (يرخص) أو (لك ذلك) من عموم النُّصوص والظَّواهر ومنها نصوص السنَّة الشَّريفة وظواهرها.

ص: 104


1- سورة البقرة / آية 187.
2- سورة النساء / آية 24.
3- سورة الأعراف / آية 157.
4- سورة المائدة / آية 1.
5- وسائل الشيعة ج17، ص89، أبواب ما يكتسب به، ب4، ح4، ط آل البيت.

تاسعاً- الأحكام الوضعيَّة التَّابعة للأحكام الخمسة

ولو كانت بألفاظ خاصَّة لها في النُّصوص القرآنية وتوابعها

لم تكن من صرف الملازمة الذَّاتيَّة للأوامر والنَّواهي

ولم يقتصر الأمر والنَّهي الإلهيَّان وهكذا ما ألحق بهما ممَّا ذكرناه من ألفاظ النُّصوص الشَّريفة الأخرى التَّابعة في دلالات ذلك الذَّاتيَّة أو بالملازمة ولو من حيث النَّتيجة على صحَّة ما كان مرضيَّاً ممَّا قد أمر به إذا طبِّق وبطلان ما كان منهيَّاً عنه إذا ارتكب كذلك ونحوه من الأحكام المسمَّاة بالوضعيَّة دائماً من نفس تلك الأوامر بأنَّها تقتضي الصحَّة لو طبق تمام مقتضاها والنَّواهي كذلك بارتكاب المعصية كما في أكثر العبادات المعروفة فيها بأنَّها تقتضي الفساد إلاَّ ما صُحِّح منها كما في علاجيَّات الشُّكوك.

وفي المعاملات بأنَّها تقتضيه كذلك ولو في القليل منها حسبما ظهر لنا من تتبع السَّلف الصَّالح.

بل جاء ما يوضِّح ذلك أو بعضه في بعض نصوص خاصَّة أخرى تحمل هذه الأحكام الوضعيَّة وتصرِّح بها بلا حاجة دائمة أو ملحَّة إلى تلك الملازمة في الأمر والنَّهي وما ألحق بهما بالاقتصار عليها، لأهميَّة التَّوسعة البيانيَّة المفروضة الَّتي ذكرناها ارتباطاً بالنُّصوص والظَّواهر الشَّريفة المتوفِّرة ممَّا سوف يتبيَّن تفاصيل هذه الأمور وغيرها في تضاعيف ما يأتي من البحوث الأصوليَّة والفقهيَّة بعدها ممَّا يأتي أساسه أو يكمل ما بدأنا منه بشيء من الكلام.

ولعلَّ تلك الملازمات كملازمة الصحَّة وملازمة الفساد وهكذا القبول والرَّد ونحوها المعروفة بين الفقهاء ما جاءت أو بعضها إلاَّ من اصطيادها من بين تلك النُّصوص على ما مرَّ التَّنبيه عليه سابقاً ولذا تؤكِّد عليه الآيات الشَّريفة.

ص: 105

ومن ذلك قوله تعالى [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ](1) لكون المتَّقين بسبب تقواهم لابدَّ من كونهم يتقنون أعمالهم وكافَّة تصرُّفاتهم عند أدائهم لها بعد تعلُمهم المشروع منها وأحكامه ويؤدُونها أداءاً صحيحاً فتكون مقبولة.

وقوله أيضاً [وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ](2) أي في عمومها حذراً من السَّفه وتمزيق الأوقات والأفعال بما لا ينفع فيه أو ما فيه ضرر إذا كان الإبطال بمثل قطعها أو فعل قواطعها أو الإخلال بنيَّتها أو الخلط بينها وبين أضدادها اعتزازاً بالصَّحيح فيها مع سماح الأدلَّة الباقية بالإبقاء عليها حتَّى لو كان حكمها أقل من حكم الوجوب كالاستحباب وكان الصَّحيح من ذلك لا يتم إلاَّ بالإكمال على الوجه الصَّحيح، وإن أوضحت هذا الأمر نصوص قرآنيَّة أخرى أو من السنَّة الشَّريفة.وقوله أيضاً [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى](3) لكون الغفران من الأحكام الوضعيَّة المعروفة الَّتي جاءت منه تعالى رحمة ومنَّة إلهيَّة لكن بعد ما يسبقه من تطبيق الشُّروط المذكورة من التَّوبة والإيمان والعمل الصَّالح ثمَّ الاهتداء في الآية ليتم الاستحقاق له.

وقوله أيضاً [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ](4) لأنَّ عدم القبول وكذا الخسران من هذه الأحكام التَابعَين لارتكاب الحرام وهو البقاء على التَّديُّن بأديان ما قبل الإسلام دون التَّديُّن به وإن كانت سماويَّة ما لم يكن الإسلام أحدها وخاتمها الحاوي لها.

وقوله الَّذي جمع ما بين الحكم الوضعي والتَّكليفي أيضاً وهو [وَلاَ تَأْكُلُواْ

ص: 106


1- سورة المائدة / آية 27.
2- سورة محمد / آية 33.
3- سورة طه / آية 82.
4- سورة آل عمران / آية 85.

أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ](1) حيث جمع تعالى فيه بين النَّهي المحرَّم والباطل الوضعي المرتبط به بمثل الإسراف والتَّبذير والتَّرامي والتَّراشي والكسب المحرَّم بأنواعه ونحو ذلك ممَّا يلازم البطلان التَّعاملي وسحتيَّة الأرباح.

وقوله أيضاً [وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ](2) أي حينما كانوا يخالفون الإسلام عقيدة وعملاً عبادة وتجارة، إلى غير ذلك من الآيات والَّتي قد يوضَّح بعضها بعضاً أو توضِّحه السنَّة التَّابعة أو يبرز مستقَّلاً منها ممَّا لم يكن في ظاهر الكتاب لإيضاح هذه المعاني المهمَّة التَّابعة للأحكام الأصيلة خدمة منها للآيات المجملة عن الأحكام ولوازمها الوضعيَّة.

فالكافر والمنافق والفاسق المستمر والمصر على فسقه تجب عليه الصَّلاة مثلاً ونحوها من بقيَّة الواجبات وهكذا يخاطب بعموم الطَّاعات ولكنَّها لم تقبل منه لكفره أو للنِّفاق ولعدم إحراز النيَّة الصَّحيحة من الكافر والمنافق أو للإصرار على الفسق من الفاسق إلى نهاية الحياة على العكس من حالة الإسلام ببراءة.

وكذا الإيمان وصدق النيَّة أو التَّوبة والإنابة الصَّادقتين بعد التَّورُّط سابقاً بشيء ممَّا حرَّم الله فلابدَّ من القبول وأمثاله من هذه الأحكام أو تعليق رضا الباري لو خلط العبد بين الطَّاعة والمعصية إلى أن يتوحَّد السُّلوك المعتدل في الطَّاعة فيكون هذا العبد مشمولاً به.

إلاَّ أنَّ هذه الأحكام في هذه الألفاظ المضافة إلى الخمسة الأصيلة الماضية لم تتشكَّل - لواحد كل منها بهذه الألفاظ - تلك القاعدة المعروفة بين العلماء بالأحكام الوضعيَّة الَّتي يرجع إليها سلباً أو إيجاباً كميزان يبنى عليه فقهيَّاً كما في نفس الأمر والنهي - من عنواني الأمر والنَّهي العامَّين - ولكنَّها قد تكون مشكلة بمجموعها مع

ص: 107


1- سورة البقرة / آية 188.
2- سورة الأعراف / آية 139.

تلك الأوامر والنَّواهي وتوابعها لكون ألفاظ الأحكام الوضعيَّة الَّتي مرَّت في النُّصوص والَّتي اصطيدتمنها عناوينها ببركة سعي الفقهاء تابعة دوماً لتلك الأساسيَّات بنحو الإرشاد إليها منهما ومن توابعهما.

(تنبيه مهم)

يبقى شيء ينبغي التَّنبيه عليه لأهميَّته وهو أنَّ هذه الأحكام الوضعيَّة هل تختص إيجاباً وسلباً في الواجبات والمحرَّمات حسب؟ أم تشمل جميع الخمسة؟

فنقول: إنَّ جميع الأحكام التَّكليفيَّة الخمسة لابدَّ وإن تكون صحَّة نتائجها وعدمها مرهونة بالأداء الكامل لها أو عدمه لعدم اختلاف المستحب والمكروه والمباح عن الاثنين الأوَّليَّين وهما الواجب والمحرَّم لعدم تلازم الحكم الوضعي دوماً في الصحَّة والفساد المعروف بهما لخصوص الواجب والمحرَّم انسجاماً مع الفطرة السَّليمة والذَّوق السَّليم.

وبه أقرَّت العقول المتقيِّدة بالدِّين مع شواهد النُّصوص عليه في أمور تلك الثَّلاثة أيضاً من تتبُّعات الفقهاء الكثيرة وبنحو يبعث على الاطمئنان كذلك.

ومن تلك النُّصوص الَتي وردت في الأحكام التَّكليفيَّة الخمسة الأصيلة من الأوامر والنَّواهي، ومنها الَّتي وردت في ملحقات التَّكليفيَّة وبنفس عددها، ومنها ما جاء بلسان الوضعيَّة.

وقد يتَّضح الأمر أكثر لما يراد فهمه من مقامنا لو جمعت المجاميع الثَّلاثة في الذِّهن، وهي (الإيمان وصدق النيَّة أو عكسهما والأحكام التَّكليفيَّة والأحكام الوضعيَّة.

فإنَّ أدنى ملاحظة من قبل كلِّ لبيب وارد في تشخيص معاني الفقهيَّات ونحوها إذا عرف المقدِّمات الحوزويَّة لابدَّ وأن تظهر له هذه الأحكام الوضعيَّة على حقيقتها.

ص: 108

ومن ذلك حتماً ما في الأمور الثَّلاثة الباقية وهي المستحبَّة والمكروهة والمباحة، لأنَّ كل من أجرى أعماله العباديَّة والمعاملاتيَّة وبقيَّة أمور الحياة الأخرى الفقهيَّة بلا مخالفة لشرع الله في شيء منها ولا حقوق الآخرين وبلا إضرار بالنَّفس فهي صحيحة أو مقبولة أو لا ضير فيها، وهكذا كل ما أجري من ذلك مخالفاً بإفراط أو تفريط وابتداع وتشريع فهو باطل أو مرفوض ونحو ذلك.

فالمباح المميِّز في تشخيصه والمشخَّص بما مضى مثلاً من دلائله أو بالرُّجوع إلى أصل الإباحة لتشخيصه عند الشَّك فيه بأنَّه من أي حكم هو من الثَّلاثة لابدَّ من أن يكون ميزانه في القبول والرَّفض مبنيَّاً على هذا المقياس ولو بالعنوان الثَّانوي.

عاشراً- انقسام الطَّلب إلى شيئين

من حيث النَّوع طلب فعل وهو الأمر وطلب ترك وهو النَّهي

ومن الأمور المشتركة الَّتي يمكن أن تسمَّى بين الأمر والنَّهي وباسم الطَّلب الجامع هي انقسام الطَّلب من حيث النَّوع إلى شيئين وهما:-

طلب الفعل للأمر وطلب التَّرك للنَّهي وإن انفصل كل منهما باسم خاص له.

وعليه فهل كون الكلام بين البحثين يمكن أن يقال عنهما معاً؟ كما في السَّابق من العناوين أم لا؟ ليكون الأوَّل مرتبطاً بنفسه والثَّاني كذلك بدون اشتراك.

وللإجابة نقول كما مرَّ في الأمور المشتركة.

بعد انقسام الطَّلب من العالي إلى الدَّاني إلى شيئين نوعيَّين في الأساس - ممَّا تعدَّدت أشياءه في خارج ما نحن فيه في المصداقيَّة العلميَّة في لسان الأدب والمنطق العقلي ومع لسان الشَّرع إلى ما هو الأكثر وهي أحكام الشَّرع المعروفة - وهما طلب الفعل - وهو الأمر المراد منه على الأكثر أصوليَّاً كما سيتَّضح بأنَّه البعث - وطلب التَّرك، وهو النَّهي المراد منه على الأكثر بأنَّه الزَّجر.

ص: 109

ولعدم إمكان الخلط التَّام فيما بينهما في شيء واحد يراد منه كل منهما دوماً ولو بقيود إضافيَّة تخص كلاًّ منهما إلاَّ بما ذكرناه من معنى الاقتضاء عند محاولة التَّعريف لكل من الأمر والنَّهي.

لعدم هذا الإمكان لو أريدت الدقَّة في ذلك بصورة أفضل ولو في بعض الشَّيء وإن فسِّر أحدهما بالآخر على بعض الوجوه كما ذكرنا في السابق بإضافة (عن الضدِّ الخاص) حين تعريف الأمر وبإضافة (بالضدِّ الخاص) في تعريف النَّهي ربطاً بما سبق بيانه من التَّعريفين.

فلابدَّ إذن لهذه الدقَّة من إفراز أحدهما عن الآخر في البحث والبيان للكلام عن كل من الاثنين على حدة - وهما الأمر والنَّهي - للاطلاع أوَّلاً على ما يشخصه ويميِّزه عن الآخر.

ثمَّ إن ظهر ثانياً بعد ذلك شيء يوصل إلى ما به الاشتراك الَّذي في الجملة المعهودة كالاستلزام والاقتضاء فلا نمنع منه بل نبقي عليه لتظهر حالة الإفراز المهمَّة الآن بصفتهاالأجود بعد انتهاء الحاجة الفعليَّة إلى الجمع وينتهي إلى حقيقة الجمع الأدق فيما بينهما لما مرَّ بيانه من الأسباب.

فلنبدأ بالأوَّل وهو طلب الفعل المشار إليه آنفاً ومظهره اللَّفظي في القرآن الكريم من آيات أحكامه الخاصَّة أو بالمعنى الأوسع وإن قلَّ عن المعنى العام لما مرَّ التَّنويه به بأنَّه هو ذلك الأمر الطَّلبي الخاص من العالي إلى الدَّاني الَّذي اجتمعت حروفه ب- (أ - م - ر) مفتوح الهمزة مسكَّن الميم، وأقلُّه المجموع على أوامر ممَّا مرَّ التَّمثيل له والاستشهاد عليه بالآيات وبقيَّة النُّصوص وما قد سيجيء عند الحاجة وهو الثَّلاثة وبتصاعد.

لا الَّذي بمعنى الشَّيء والدَّاخل في عموم مادة (أ - م - ر) مفتوح الهمزة مسكَّن الميم، وما يجمع على أمور والَّذي من أمثلته القرآنيَّة قوله تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى

ص: 110

بَيْنَهُمْ](1)) وقوله [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ](2) ونحوهما.

ولا هو بالأمر الطَّلبي الَّذي يكون بمعنى الالتماس في موارد التَّساوي بين الطَّالب والمطلوب منه شأناً من الخطابات الخاصَّة بقيودها.

ولا بمعنى الدُّعاء الحاصل من الدَّاني إلى العالي شأناً.

ولا الطَّلبي بالمعاني الأخرى كالتَّمني والتَّرجي والاستفهام والعرض والتَّحضيض ونحوها، إلاَّ بما كان من تلك المطالب أقل صرامة أو ما به شدَّة في الصَّرامة كالتَّحضيض المستوضح أمره من آية النَّفر الَّتي أستفيد منها به وجوب التَّقليد للمجتهد الكفوء من كل مجتهد حي للعوام.

بسبب أنَّ التَّحضيض جاء وحيه بالصَّرامة المعهودة من قبل الله تعالى فهو الملحق بطبيعة الأوامر الطَّبيعيَّة الصَّادرة من الله تعالى للمكلَّفين ولكن بالنَّحو الكنائي الَّذي قد يكون أبلغ من التَّصريح في بعض الأحوال.

وأمَّا الأقل صرامة وبشيء من اللِّين المخل بكون الطَّلب من العالي إلى الدَّاني كالعرض الممثَّل أدبيَّاً له بقول الشَّاعر:-

يا بن الكرام ألا تدنو فتبصر ما *** قد حدَّثوك فما راءٍ كمن سمعا(3)

فهو مع بقيَّة أنواع الطَّلب الأخرى كأدوات التَّمنِّي ك- (ليت) المشار إلى معناها في قول الشَّاعر:

ألا ليت الزَّمان يعود يوماً *** فأخبره بما فعل المشيب(4)

والتَّرجِّي ك- (لعلَّ) الممثَّل لها في قوله تعالى [لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ

ص: 111


1- سورة الشورى / آية 38.
2- سورة آل عمران / آية 159.
3- راجع قطر النَّدى لابن هشام الأنصاري ص74.
4- راجع المصدر السَّابق ص148.

السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى](1).والاستفهام الممثَّل له قرآنيَّاً في قوله تعالى [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ](2) لو صيغت أو بعضها بما قد يُسمَّى في الظاهر بما يتَّصل بآيات الأحكام فإنَّها لا تدل على المعاني الحقيقيَّة، لأنَّ صياغة السؤال عادة لم يصح أن تكون من مثل المشرِّع تعالى وهو العالم بكلِّ شيء.

إذ لابدَّ أن تظهر توجيهاتها بما يتناسب عند المرور عليها، وإن كانت قد جاءت لاغتنام الفرص بأسلوب الأمر الأخلاقي لكسب المأمورين للمطاوعة لئلاَّ يكون فاقدها من الخاسرين ولو بمثابة من مثابات اللُّطف الإلهي ومع ذلك فلم يحسن حمل مثل هذا الخطاب إلاَّ من مثل النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم صاحب الأخلاق العظيمة.

ولذا كان يخاطب الأمَّة بالملامة والتَّأنيب بما مضى من الآية الماضية، ولذا قال تعالى عن تصرفات النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم المسؤول بالتَّبليغ بها بمثل قوله [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ](3)، ولذا استعملت بعض هذه الألفاظ للتَّشجيع على التَّحصيل العلمي وبلسان الأخلاق الرَّفيعة الخاصَّة إلهيَّاً ونبويَّاً ولكن حينما كانت بما يتناسب ولسان البشر لكون النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم ما جاء إلاَّ بلسان قومه لهدايتهم وكما قال تعالى [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى](4).

إضافة إلى أنَّ بعض آيات هذه الأنواع من الطَّلب ومنها آية السؤال الماضية ما جاءت باللِّسان المولوي، وإنَّما بالإرشادي لتحكيم العقل والمستفاد منه التَّوبيخ

ص: 112


1- سورة غافر / آية 36.
2- سورة البقرة / آية 44.
3- سورة الحشر / آية 7.
4- سورة النَّجم / آية 3.

والتَّأنيب كما مرَّ أمكن قبول المعنيين بالحمل المجازي في الله والحقيقي في النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وإن رخصت رقاب النَّاس بالنِّسبة إلى مقام النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم المرسل وهو العالم حتماً بما قال في خطابهم.

بل قد صيغت آية النَّفر الَّتي آخرها [لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ](1) نفسها ليأنِّبوا أنفسهم عقليَّاً قبل الشَّرع إذا قصَّروا تجاه العلوم الإلهيَّة، وهكذا بقيَّة أمثلة أنواع الطَّلب الأخرى، وبهذا الأسلوب القيِّم صحَّ قول الشَّاعر النَّاصح:-

أشر للحر من قرب وبُعد فإنَّ الحر تكفيه الإشارة(2)

الحادي عشر- دلالة الأمر في أساسه على الوجوب

دون بقيَّة الأحكام وإن قيل بتعدُّد معانيه لعدم المزاحمة

ومن خواص ما يتعلَّق بالأوامر من الأحكام الخمس دون النَّواهي هي دلالتها على الوجوب حسب:-

فنقول عن دلالة الأمر في أساسه بعد ما مضى وأنَّه على الوجوب دون بقيَّة الأحكام التَّكليفيَّة الأخرى حقيقة بعد الفراغ من بيان مقدِّمة وهي الكلام أوَّلاً عن استعمالات هذه اللَّفظة المتعدِّدة في الصِّيغ القرآنيَّة ثمَّ التَّصريح ثانياً عن ذي المقدِّمة لتخليص البحث عنه ممَّا قد يزاحمه من المشاركات الشَّكليَّة الخارجة عنه واقعاً.

أمَّا الكلام عن المقدِّمة وهي الاستعمالات المتعدِّدة لهذه الصِّيغة واللَّفظة في الصِّيغ القرآنيَّة وما يتبعها من السنَّة وفي اللُّغة المسايرة.

فهي المطابقة لمادة الأمر الَّتي هي من (أ - م - ر) كذلك ولكن في الأمر المجموع

ص: 113


1- سورة التوبة / آية 122.
2- مقتل الحسين u للمقرّم 340 عن تحفة العالم للسيّد جعفر بحر العلوم 1 ص 37.

على أوامر لا كما سبق ولما يخص الأحكام التَّكليفيَّة الخمسة أو ما يصح منها معه وان اختلفت مبانيه الصَّرفيَّة بعض الشَّيء ك- (فِعلَل) الوارد فيه قوله تعالى [اقرأ](1) ونحوها، وهكذا ما وازنها من السنَّة، وهكذا اللغة العامَّة المطابقة إن لم تخرج عن الصَّدد الشَّرعي، وك- (فَعلِل) الوارد فيه قوله تعالى (صلِّ) و النَّص الآخر (زكِ) ونحوهما وهكذا ما وازنهما من السنَّة، وهكذا اللغة العامَّة المطابقة إن لم تخرج عن الصَّدد الشَّرعي، وك- (فُعل) الوارد فيه قوله تعالى [قُمْ فَأَنذِرْ](2) و (قُل) ونحوهما وهكذا ما وازنهما من السنَّة، وهكذا اللغة العامَّة غير المخالفة، وك- (فاعل) الوارد فيه قوله تعالى [فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ](3) و[حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى](4) ونحوهما وما وازنهما من السنَّة وهكذا اللغة غير المخالفة.

وغير ذلك من صيغ الأمر الواردة في القرآن وما يتبعها ممَّا مرَّ الكلام عنه ولو إجمالاً فيه، وكذا ما جاء في السنَّة الشَّريفة التَّابعة له وما عرف من اللغة العامَّة المطابقة، بل قد تكون السنَّة الشَّرعيَّة واردة في الأحكام بأكثر من القرآن لوضوحها وإجماله.

ولذلك قال العلماء عنه وعنها بأنَّه قطعي الصُّدور ظنِّي الدِّلالة وأنَّها ظنيَّة الصُّدور وقطعيَّة الدِّلالة حتَّى عالجوا الأمر فيما بينهما بحالة جمع أصولي متقن يحوج أحدهما إلى الآخر كما أوصى رسول الله 2 بحديث الثَّقلين المشهور بين الفريقين وبما هو محقَّق في محلِّه من بحوثنا الأخرى وليس هذا موضعه.

ولذا قد يرد إشكال من بعضهم على أنَّ القرآن لا يمكن أن يكون الأمر فيه

ص: 114


1- سورة العلق / آية 1.
2- سورة المدثر / آية 2.
3- سورة التوبة / آية 12.
4- سورة البقرة / آية 238.

واضحاً بصورته الشَّرعيَّة لوحده لكونه قد ورد فيه وفي غيره بخمسة عشر معنى، وهذا العدد دال قطعاً على ما يزيد على الأحكام الخمسة الَّتي أوَّلها الوجوب.

بينما بحوثنا فيه أوَّلاً خاصَّة في الخمسة لا غير إلاَّ بعض من التَّوابع الَّتي سنوضِّحها.

ولتكون بحوثنا هذه ثانياً مستخلصة في الوجوب فقط والعموم المرتبط بالمعاني وألفاظها الخمسة عشر لا يرتبط بآيات الأحكام وحدها فلا ينفعنا البحث في شيء ميسَّر عمَّا في خصوص القرآن إلاَّ مع السنَّة وكلامنا فيه عن خصوص آيات أحكامه.

فنجيب أوَّلاً: بأنَّ السنَّة وهي الثِّقل المعظَّم الثَّاني مع شرافتها وكونها تابعة للثِّقل الأعظم الأوَّل في حديث الثَّقلين وموضِّحة لمعاني القرآن المجملة في بعض ألفاظه لا تنقص من عظمته حينما يحتاج إليها، بل تظهر كماله في مجمله ومبيِّنه، ولذا أوصى النَّبي 2 بهما في مقامات عديدة في روايات الفريقين ليعمل بهما معاً مع كونها التَّابعة له وما لا يضر ببحثنا عن آيات الأحكام.

ولعلَّ المتابعة للسنَّة بإخلاص واستفراغ وسع تُسبِّب التَّعرُّف على المعاني الخمسة عشر إن كانت وبما لا تضر بجوهريَّة الخمسة الرَّئيسيَّة، ولعلَّ سعة الخمسة عشر هي التَّي تكون من ضرب الخمسة الرَّئيسيَّة بالثَّلاثة الَّتي يذكرها الأخلاقيُّون وأهل العرفان الشَّرعيُّون وهي عبادة العبيد للخوف من النَّار وعبادة التُّجَّار طمعاً في الجنان والحور وعبادة الأحرار وكما حدَّده أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في دعائه الماضي.

وثانياً: بأنَّ هذا الإشكال لم يجيء إلاَّ حينما نعمِّم المطلب الأصولي اللَّفظي في القرآن كلِّه، ولذا قد يدخل الخمسة عشر أمراً لخمسة عشر معنى أو بعضها ممَّا كان زائداً على المطلوب الشَّرعي وبما قد يضر في القضيَّة لو لم يتوسَّع في القضيَّة إلى ما يزيد عن الشَّرعيَّات من بقيَّة العلوم الأخرى الَّتي أوَّلها العقائد والأخلاق والطب والهندسة ونحوهاممَّا لم تخرج الخمسة التَّكليفيَّة عن أمورها فيصل إلى هذا الرَّقم.

ص: 115

بل حتَّى لو أدخلنا السنَّة مع القرآن في المنظور العام الَّذي قد يخرجنا عن الصَّدد الشَّرعي جملة أو تفصيلاً.

ولذلك أو بعضه اعتبر البعض من أعلام الأصول المهمِّين كصاحب المعالم قدس سره الوجوب في الأوامر أو ما قد يزيد عليه فيها من المعاني الخمس ثابتاً من خصوص الوجهة اللغويَّة أو العقليَّة معها لا الشَّرعيَّة الاصطلاحيَّة كما سيأتي، ليدخل في نظره أكبر عدد من الأوامر وملحقاتها ولو بأن يكون الوجوب عقليَّاً، للتَّنبيه على أنَّ طاعة المولى واجبة ابتداءاً من تعقُّل ذلك ممَّا يجري بين العبد تجاه سيِّده إذا أمره لتسري من بعد ذلك أولويَّة إطاعة الخالق تعالى في وجوبها.

ولكن حينما نخصًّص كلامنا في محض آيات الأحكام الَّتي نقصدها في البحث دون البواقي ومنها النُّصوص المحكمة أو البالغة في ظهورها في المعنى الشَّرعي لا غير مبلغ الاعتبار أو حتَّى الَّتي احتيج في كثيرها أو أكثرها إلى السنَّة الشَّريفة جملة أو تفصيلاً لبعض الوجوه حينما سبق أن قلنا بأنَّها التَّابعة مع أهميَّتها البالغة والموضِّحة لمعاني النُّصوص المجملة.

فلابدَّ من الرُّضوخ إلى التَّعريف بالقول بالوجوب ونحوه من الأحكام الخمسة على النهج الاصطلاحي الشَّرعي لا اللغوي المزبور لإمكان الوصول إليه، بل ثبوته وتوفُّر مصاديقه بما سيتَّضح إنشاء الله تعالى.

وإن ساعدت بعض أبواب اللغة في قواميسها المطلوبة على الانفتاح على الشَّرعيَّات الاصطلاحيَّة بعد فهم تعاريف الأصوليِّين على ضوء ما أعطته تلك القواميس من لزوم فهم الوجوب العقلي من طريقها وممَّا أوضحوه وإن كانت قد تزيد عن هذه الخمسة في الجملة بما يشبهها من هذه الخمسة.

وهي كل ما طابق كلمة (افعل) وما وازنها أو اشتقَّ منها وما ألحق بها من ألفاظ الأمر الطَّلبي الآخر في الحالات الاتِّصافيَّة الأعم للخلاص من مسؤوليَّة عدم

ص: 116

التَّشخيص المضبوط كالوجوب والاستحباب والإباحة والكراهة الَّتي بمثل الَّذي يؤدِّي إلى ما يشبه معنى الوعيد في مرحلته الخفيفة الَّتي لا تصل إلى الحرمة المرتبطة بالنَّهي الخارج عن مفاد الأمر المستقل عنه في هذا المطلب الخاص إن صحَّ التَّعبير.

وهكذا ما يشبه التَّحريم أو يؤدِّي مؤدَّاه من نفس هذه الصِّيغة كما في التَّهديد والإنذار إذا أصرَّ المخالفون للشَّرع على الارتكاب أو مارسوه حتى أوصلها العلماء هي وأخريات من الفقرات القرآنيَّة إلى خمسة عشر أو الأقرب ولخروج أكثرها عن الصَّدد المطلوب في مهمَّة التَّشخيص لما نريده.

فلابدَّ من أن لا نمثِّل إلاَّ للممكن الَّذي لا يتنافى مع الخمسة المعهودة وإن زاد بعض الشَّيء عن عددها إن وفِّقنا للتَّطبيق بالأمثلة القرآنيَّة المقنعة لتشخيص كل منها أوَّلاً، وإن تكرَّر للتَّأكيد ولمعرفة المراد منها في حالة الوجوب مثلاً بالتَّشخيص المميِّز له عن البواقي ثانياً بعد هذه المقدِّمة وإلقاء عهدة البواقي على حالاتها المختلفة من الأبوابالأخرى.

وهي إن كانت قرائنها مع كل منها على شيء ميسَّر فالأمر سهل وإلاَّ فلابدَّ من التَّفحُّص عن القرائن واستفراغ الوسع في ذلك مع احتمال وجودها وفي حالة اليأس بالعدم فلا يبقى غير الوجوب الآتي بيانه ولو بالتَّوجيه بالمعنى نحوه ما لم يصطدم بمحذور آخر يمنعه من ناحية أخرى.

فمثال الوجوب وكما مر هو قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ](1) لو أريدت المولويَّة منه شرعاً وقوله [قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ](2) أي في حالة التَّعجيز إلى غيرها من النُّصوص وبمختلف الأوزان الآمريَّة.

ص: 117


1- سورة البقرة / آية 43.
2- سورة البقرة / آية 111.

ومثال النَّدب قوله تعالى [فَكَاتِبُوهُمْ](1) أي العبيد لكراهة الدَّوام على تملُّكهم وبالأخص إذا وصلوا إلى مرحلة الإعياء من الخدمة أو الإيمان المرجِّح للعتق عند انتهاء المرجَّح لامتلاك العبيد بالشِّراء للغنائم الَّتي منها ذلك إسلاميَّاً وبالخصوص إذا جاءت مناسباته الَّتي منها عيد شهر رمضان حتَّى مع المكاتبة.

ولذا جعل الشَّارع المقدَّس هذه وأمثالها منافذ مشروعة عديدة لفكِّهم من الرقيَّة كما كان الإمام السجَّاد عَلَيْهِ السَّلاَمُ وغيره من الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ معتاداً على منقبة تطبيقه، وجعل منها حالات واجبة كالكفَّارات ونحوها من حالات الوجوب أو الأقل كالدَّرجة المستحبَّة وهي المقصودة هنا.

ولأجل أهميَّة العتق بكلِّ أنواعه جعل المكاتبة الَّتي قد تستثقل لدى بعض العبيد مستحبَّة معهم لكونها مشروعة معهم ولصالحهم في مختلف حالاتها ومقتضية للثَّواب لكونها من مقدِّمات تحرير الرِّقاب الرَّاجحة نوعاً وتركه مرجوح وإن لم يكن معه عقاب مع ما في التَّرك من النَّفع المادِّي لنفس المالك لو لم يُرد مجرد التَّحرير القربي ولعلَّه أراده مع القربة لغاية دينيَّة أو أراد المال لإيداع البركة فيما بقي عنده بعد ذلك.

وهكذا قوله تعالى [وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا](2) لأنَّ ردَّ السَّلام بالأحسن زائد على الوجوب وهو الرَّد بالمثل فلابدَّ من القول باستحبابه.

ومثال الإباحة مع ما مرَّ قوله تعالى [كُلُوا وَاشْرَبُوا](3) حينما يقابل بالنَهي عن مطلق المرجوح المعدود من الكراهة على ما سيجي الآن، وعن الإسراف المحرَّم الَّذي سبق بيانه حيث لا ينتج أوَّل ذي بدء إلاَّ ما يباح ويجوز وإن كان قد يرتقي كل من

ص: 118


1- سورة النور /آية 33.
2- سورة النساء / آية 86.
3- سورة البقرة / آية 60.

الأكل والشُّرب بحسب القرائن إلى مرحلة الاستحباب ثمَّ الوجوب أو قد ينزَّل مائلاً نحو المبغوضيَّة القريبة من التَّحريم وهي الكراهة.وهكذا قوله [وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ](1) أي إن شئتم، إذا أريد من هذه الآية مطلق الإباحة للاصطياد وهو ثابت باشتراط ما بعد الإحلال من الإحرام، لأنَّه كان محرَّماً أثناء الإحرام ويؤكِّده عند المقابلة بالتَّحريم المنتج لأقل مراتب الجواز وإن أمكن ارتقاؤه إلى ما هو أكثر كالاستحباب والأعلى حسب دلالة القرائن وكذا النُّزول للكراهة بسببها أيضاً.

ومثال الكراهة أو ما يشبهها لو كان في أمر تهديدي خفيف اللهجة من قرائنه هو نفس قوله تعالى الماضي ذكره [قُلْ تَمَتَّعُواْ](2) لأنَّه مع القرينة على الخفَّة إنذار لم يصل الإقحام التَّام فيه إلى حدِّ مواقع الهلكة وإنَّما كان في مجرَّد التَّواجد في بدايات مسالكها.

إضافة إلى ما مضى من أدلَّة المكروهات الاصطلاحيَّة الَّتي منها كذلك قوله تعالى [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ](3) إذا كان المقصود إباحة وطي النِّساء مثل البهائم على الكراهيَّة ولو من الأدلَّة الأخرى أو التَّنبيه من هذا الأمر على مبغوضيَّة إتيان النِّساء من الدُّبر للمجازيَّة بسبب القرب من موقع الحرث بنحو الكراهة لو رضيت لكونه محش الغائط ولم تكن على حيض أو نفاس والأخير هو الأظهر في ثبوت الكراهيَّة وإن كان الأوَّل محتملاً كما سيأتي في محلِّه.

ومثال ما يناسب الحرمة من الأوامر كالتَّهديد شديد اللهجة والَّذي مفاده وجوب الإقلاع عن المحرَّم ولو مع بعض القرائن مثل قوله تعالى [اعْمَلُوا مَا

ص: 119


1- سورة المائدة / آية 2.
2- سورة إبراهيم / آية 30.
3- سورة البقرة / آية 223.

شِئْتُمْ](1) كالانشغال بما يمنع من أداء الواجب مثل الصَّلاة وإن كان ذلك المانع محللاًّ في نفسه فضلاً عمَّا لو كان محرَّماً أو كان قد عُدَّ ترك الصَّلاة مثلاً بلا تشاغل بشيء آخر محلَّل أو محرَّم وكان عدم التَّشاغل هو عمل في هذا التَهديد ولو تجوَّزاً.

ومثال ما يشبهها كذلك في الأمر شديد اللَّهجة من قرائنه أو عدمها إن أمكن التَّدليل على الإنذار من مجرَّد ورود النَّص الشَّريف الماضي هو قوله تعالى [قُلْ تَمَتَّعُواْ](2) مع ما دلَّ عليه من أمثلة التَّحريم الأصليَّة للحذر من التَّلبُّس بما يحرم فعلاً المحقَّق للعقوبة الدُّنيويَّة قبل الآخرويَّة.

ولكن لمَّا كان الأشكال باقياً في بعض الموارد الأخرى أو كثيرها لعدم وضوح أو عدم إمكان استيضاح قرائن ما عدا الوجوب في بعضها أو اختفاء مظاهر الوجوب في بعضها الآخر.

لكون الجميع المحتمل جاء على صيغة (افعل) أمراً أو ما يؤول إليه من فصائل الأمر ولكثرة الاستعمال المجازي في غير الوجوب ممَّا سموه بالمجاز الغالب في مقام الاستحباب الآتي ذكره، حتَّى أثَّر على أصل الدِّلالة على الوجوب عند البعض، فأخذالاستحباب مكان الوجوب في الأصالة، أو في بعض المقامات عند بعض آخر.

حتَّى قال بعضهم بأنَّ (افعل) دالَّة على الوجوب بحسب الظَّاهر الَّذي قد يكون معناه على خلاف الواقع الَّذي لم يتَّضح.

وقال بعضهم أيضاً بأنَّها صيغة مشتركة اشتراكاً لفظيَّاً بين الوجوب والنَّدب.

وقال آخرون بأنَّها للقدر المشترك منهما وهو الطَّلب ليس أكثر حتَّى لو اختلف اللفظ.

وتجاوز آخرون فقالوا بالاشتراك بين الثَّلاثة.

ص: 120


1- سورة فصلت / آية 40.
2- سورة إبراهيم / آية 30.

وقال آخرون كذلك بأنَّها مشتركة ما بين الأربعة.

وقال آخرون شيئاً آخر لا نطيل فيه المقام لقلَّة أهميته، وإنَّما سوف يأتي بيان ما كان نافعاً في مطلبه في محلِّه، وهنا أمكن القول بتعدُّد المعاني مع الألفاظ وإن اتَّحدت بتصوير آخر والأمثلة الَّتي مرَّت من الآيات وإن تكرَّرت مع السَّابق من بعض العناوين فهي هنا لغرض الخوض في تعدُّد معاني الأكثر من الخمسة الأصيلة.

وأمَّا الكلام عن ذي المقدِّمة فلابدَّ من الخوض في موضوعه الخاص بعد ما مضى ولو بمقدار الحاجة الماسَّة بأهميَّتها لتفريغ لفظة الأمر - إلى خصوص ما تدل عليه مع التَّجرُّد من القرائن - عمَّا قد يتصوَّر من بعض حالات الاشتراك لترك الباقي على ما تدل عليه قرائنه.

فنقول: إنَّه ذكر المهمُّون من الأصوليِّين ومنهم صاحب المعالم قدس سره بأّنَّ دلالة الأمر وما في معناها مع التَّجرُّد حقيقة في الوجوب فقط بحسب اللُّغة على الأقوى وفاقاً لجمهور الأصوليِّين، وهو مذهب أكثر الفقهاء والمتكلِّمين وأبي الحسين والشَّافعيَّة وعلى ذلك، فهو مجاز في البواقي من الأحكام مع تجرُّد لفظ الأمر وبقيَّة ألفاظه التَّابعة له من القرائن للحاجة إليها عنده، لأنَّه استعمال في غير ما وضع له.

وهذا إن تمَّ وثبت بأدلَّته عنده وعندهم فإنَّ انتزاع الوجوب من كلِّ هذه الأوامر القرآنيَّة بملحقاتها المشابهة وبما جاء في السنَّة وما جاءت به اللغة في قواميسها يكون سهلاً يسيراًً، على ما أثبتته ظواهر مألوفيَّة هذا الأمر بين الأصوليِّين والفقهاء المتَّجهين نحو هذا الاتِّجاه مع صاحب المعالم قدس سره وأمثاله أو كان هو معهم في أكثر الحالات أو دائمها على مدَّعاهم أو مدَّعاه.

ولكن فتح باب هذه السُّهولة واليسر على مصراعيه لما كان من خصوص ما يناسب القرار اللُّغوي من هذه الادِّعاءات الأصوليَّة والفقهيَّة الَّتي لم تتقيَّد في فهم الوجوب بخصوص ما يتعلَّق بالشَّرعي الاصطلاحي الَّذي مرَّت الإشارة إليه وأنَّ

ص: 121

القرار اللُّغوي الدَّاخل فيه المعلوم الشَّرعي وغيره من العقلي الَّذي فسح له المجال شرعاً من الأدلَّة الإرشاديَّة على رأي من يجعله هو المقياس في التَّشخيص للواجب ابتداءاً.

فلابدَّ وأن يراد منه خصوص وجوبه العقلي ومن قرائنه ما بيَّناه في السَّابق من حالة جعل المقياس كذلك عموم الأوامر القرآنيَّة والَّتي تدخل فيها المعاني الخمسة عشر أو ما قد يزيد وما يشمل الفقه والعقائد وغيرهما وإن لم تشخِّص أسماءها أو بعضها.

وأمَّا بعد ما خصَّصنا الكلام في بعض مطالب موسوعتنا السَّابقة عن آيات الأحكاموعن خصوص ما في القرآن وما يلحق به من السنَّة وإن توسّعنا إلى ما قد يدخل أوامر العقائد والأخلاق والإرشاديَّات.

وكذا ما في بحوث هذه الأصول وأدخلنا السنَّة التَّابعة، وهكذا اللغة الخاصَّة التَّي يحويها أمثال مجمع البحرين أو بعضه.

فلابدَّ من أن تكون النَّظرة إلى القرار اللُّغوي العام وسير هؤلاء الأصوليِّين نحو الوجوب العقلي المرتَّب على نهجها غير ملزمة في البقاء عليها، وقد أشرنا إليه مراراً.

إضافة إلى أنَّ واجبات الإسلام وفرائضه الثَّابتة من الأوامر الَّتي وردت في الكتاب العزيز ومعه ملحقاته والَّذي من هذه الواجبات الصَّلاة -- مثلاً الَّتي هي عمود الدِّين وسيِّد الفرائض -- فإنَّها في الشَّرع بمعنى ذات الأركان الخاصَّة وبما لم تفهمه اللُّغة الملحوظة بالاعتبار عندهم.

بينما في اللُّغة بمعنى الدُّعاء كصلاة الأموات ونحوها من عموم الأدعية الَّتي لا ترتبط بجميع مصاديقها بخصوص الوجوب الشَّرعي الَّذي نريده بمنظورنا الَّذي سوف يتَّضح بأنَّه الشَّرعي لا غير مع ثبوت الوجوب العقلي مع هذا الوجوب لا محالة معيَّناً على لزوم الاعتقاد بهذا الوجوب بطريق أولى.

ص: 122

وإن قيل فلماذا وجبت فرائض الصَّلاة اليوميَّة شرعاً ووجبت صلاة الأموات وهي مرتبطة بالمفهوم اللغوي؟

فإنَّا نقول بأنَّه ما وجب كلاهما بمعنى حرمة التَّرك لهما مع العقاب عليه بالنَّحو المتساوي إلاَّ في نظر الشَّرع الخاص، إذ لم يعلم كون صلاة الأموات في اللُّغة واجباً بأي نحو من الوجوب وإن رجح شرعاً لو أدرك أهل اللُّغة العامَّة بعض ما يريده الشَّرع دون القرار الشَّرعي، لعدم المألوفيَّة في ذلك عند أهل اللُّغة السَّابقين نوعاً ولو يسيراً من حالات التَّفصيل ولو كان لبان، مع الفرق البيِّن شرعاً أنَّ اليوميَّة واجبة عينيَّة وصلاة الأموات كفائيَّة.

وكذلك مطلق الدعاء في رجحان الالتزام وإن كان هذا المطلق من الوضع اللُّغوي، لأنَّه ما يتعلق ببعض الخصوصيات في رجحانه مع كونه مأثوراً لوجوده في زمن الدِّيانات الماضية، إلاَّ إذا أدخلنا الشَّرع في التَّشخيص ليكون عملاً إسلاميَّاً، ومنه الدُّعاء الواجب من صيغة الأمر المفيدة له.

نعم قد تستكشف بعض المعاني الفقهيَّة من الألفاظ اللغويَّة عن طريق الشَّرع بالإمضاء ونحوه كما مرَّ، لكون بعض ما قبل الإسلام من مخلَّفات الشَّرائع السَّماويَّة القديمة المناسبة لأزمنتها هو ممَّا أقرَّه وأمضاه شرعنا إذا لم تنتف مناسبته مع ظروفنا الإسلاميَّة الأصيلة أو كون شرعنا قد أكمله وحسَّنه إذا كان هناك بعض من المنافاة.

وهذا الرَّأي الَّذي نراه في المقابل قد تساعد عليه الفكرة الأصوليَّة المعروفة، وهي كون الحقيقة - الَّتي تحملها الألفاظ القرآنيَّة من آيات الأحكام والسنَّة التَّابعة لها وحتَّى اللغة الملحقة بهما والمسايرة لهما - حقيقة متشرعيَّة لا شرعيَّة جديدة، بحيث لم يكن لها أساس سابق يشبهها قبل الإسلام ولو في الجملة ولو بالإمضاء ونحوه.

كيف والإسلام قديم بقدم الفطرة، فيمكن حينئذ أن يستفاد ما تعطيه اللُّغة في ألفاظها من معنى الوجوب المراد وإن جاء القرآن على نهجها العربي، لكن لابدَّ وأن

ص: 123

نبقى على تلك الحاجة إلى الإمضاء الشَّرعي وكذا التَّقرير من المعصوم في السنَّة ونحوهما.

لأنَّ اللُّغة القرآنيَّة ما اختيرت إلهيَّاً إلاَّ من أحسن أنواع اللُّغة العربيَّة والَّتي لا تتنافر مع اللغات الدِّينيَّة السَّابقة بتنافر كبير، بحيث يمكن للعربيَّة القديمة وقواميسها من ذلك أن تخضع للتَّشريع الحنيف أو إمضاءه أو تقرير المعصوم لما ينسجم مع شرعنا من مفاهيمها.

ولذلك كان السيد المرتضى علم الهدى قدس سره صاحب الرَّأي المعارض لصاحب المعالم قدس سره يقول ما مضمونه (أنَّ لفظ الأمر مشترك في اللغة بين الوجوب والنَّدب وأمَّا في العرف الشَّرعي فهو حقيقة في الوجوب فقط).

وعليه فمألوفيَّة سرعة استفادة الوجوب من مجرَّد الأمر بين الأصوليِّين أو مقنِّني الأصول من الفقهاء المتبحرِّين لعلَّها ما جاءت إلاَّ من هذا العرف الشَّرعي السَّائد بين العلماء المتشرِّعة قديماً وحديثاً والمنسجم مع اللغة العربيَّة الدِّينيَّة في قواميسها وفي قرآن آيات الأحكام والسنَّة المطهَّرة وبما يخضعها للشَّرع ولا عكس إلاَّ في مواقع الحيرة عند انسداد باب العلم عن فهم المعاني.

وأمَّا مطلق اللُّغة أو عمومها فلا تفيدنا أوامرها إلاَّ بما وجَّهناه من الإمضائيَّات لابتعاده عن تكوين المصطلحات الملائمة للشَّرع وحدها.

ولذلك قال السيِّد قدس سره بخضوعها إلى القول بالاشتراك اللغوي بين الوجوب والنَّدب حينما يأتي أمر ولم يمكن توجيهه مولويَّاً عند الانسداد ولا أصوليَّاً عمليَّاً عند الشَّك ببركة الأدلَّة الإرشاديَّة عند الانسداد الأكثر وإنَّما يكون المرجع هي تلك القواميس اللُّغويَّة.

نعم هناك تخريجة يمكن أن تعطي مجالاً للقول بصدق الوجوب وحده من جهة المجاز الغالب بسبب المألوفيَة من كثرة الاستعمال، وهو ما قد يقترب ممَّا ذكرناه من

ص: 124

حالة الإمضاء الشَّرعي ليكون وجوب الأمر بالتَّالي شرعيَّاً لا عقليَّاً أو شرعيَّاً في اللُّغة الخاصَّة، لا حقيقة مستقلَّة في معناه له، لتشعُّب اللُّغة العامَّة وحدها وبالخصوص أكثر إذا جعلنا اللغة المعاصرة للإسلام والمتأثِّرة به مستقلَّة عمَّا قبل الإسلام من زمن الجاهليَّة والأديان السَّابقة الَّتي حرِّفت كتبها وإن كانت الحقيقة متشرِّعيَّة، لوجود بعض العلاقات الَّتي لم تنته مع القديم الَّذي بقي بعضه من دون تحريف.

وبذلك تكون اللغة لغتين لا يمكن أن يكون الوجوب في حقيقته ثابتاً لغة بذلك.

وهكذا ما يقصده المتكلِّمون في أمور الضَّروريَّات العقائديَّة الَّتي ملاكها العقل مع تلك اللغة.

وكذا ما يشعر به العقلاء والعارفون من وجوب شكر المنعم عقلاً قبل الشَّرع للإرتقاء والذَّوبان في الله عزَّ وجل وحبِّه حين تعاملهم مع الألفاظ الواردة في ذلك وإن كان مستحبَّاً في واقعه كما في دعاء أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ الماضي ذكره مكرَّراً (إلهي ماعبدتك طمعاً في جنَّتك ولا خوفاً من نارك، ولكن رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتُّك)(1).

وبهذا الَّذي بيَّناه ووجَّهنا به البحث يكون المطلب الحق معارضاً للوجوب اللغوي وحده ولزوم كونه شرعيَّاً في الأوامر عرفاً أو لغوياً ممضى شرعاً لا غير.

وللتَّأكيد على الوجوب العرفي الشَّرعي للأمر وما يلحق به لابدَّ من ذكر أدلَّة القائلين بالوجوب له لغة بتصرُّف ومناقشتها وردِّها رجوعاً إلى ما نريد فنقول:-

1 - قد استدلَّ القائلون بالوجوب لغة أوَّلاً:

ببعض القضايا الوجدانيَّة الاجتماعيَّة الَّتي فيما بين العقلاء بأن السيد إذا قال لعبده (افعل) كذا أو (اشتر لنا كذا) ولم يفعل أو لم يشتر عُد عاصياً بين مجتمعه وذمَّه العقلاء" معلِّلين حسن ذمِّه بمجرَّد ترك الامتثال وهو معنى الوجوب الَّذي مرَّ

ص: 125


1- ميزان الحكمة : ج 6 ص 18.

أنَّه الأمر بالفعل مع المنع من التَّرك، ولذا عُد منه قوله تعالى [أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي](1) أي تركت مقتضاه إذا أريد من التَّرك ما يستحق به العبد الذَّم والعقوبة عليه.

ولكن يمكن أن يفترض على ذلك إيراد لنقض هذا الاستدلال وهو منع المقدِّمة القائلة بأنَّ الذَّم من العقلاء دوماً كان معلولاً لمجرَّد التَّرك لجواز أن يكون الذَّم مطابقاً للقرينة المثبتة لمصداقيَّته في الخارج لا مع التَّجرُّد منها وهو وارد كثيراً فيما بين السَّادة وعبيدهم أو من شابههم من ذوي الشَّأن مع من كان دونهم من الخدم حينما يحصل تقصير واقعي من قبل العبيد أو الخدم وبالأخص حين ورود القرائن غالبة في مثل هذه الأوامر الاجتماعيَّة لا مثل حالة التَّجرُّد الَّتي كثيراً ما يحصل فيها عكس العصيان حين انكشاف الواقع بل حتَّى ما يريح السيِّد أو صاحب الشَّأن إذا انكشف الخلاف بعدم الامتثال غير المتعمِّد فلا يدل إذن على الأمر للوجوب لغة حقيقة بدون القرينة، وللفرق بين الأمور الاجتماعيَّة الَّتي يكثر فيها الظلم بين السَّادة وعبيدهم أو المتعالين على خدَّامهم المظلومين وبين حقوق الله عزَّ وجل الفقهيَّة المفروضة وغيرها على عباده المليئة بالعدل واللُّطف والرَّحمة والفيوضات العظيمة بما صدر منه في قرآنه من الأوامر وبما لا يقاس هذا بذاك دوماً ولو بأقل نسبة حتَّى لو جاء في القرآن لفظ المعصية للأمر للفرق الواضح بين معصية الله ورسوله لأمرهما وبين معصية النَّاس لأمثال الفراعنة فلابدَّ من ترتيب الأثر المناسب.

وقد يجاب دفاعاً عن الوجوب لغة بأنَّ المفروض فيما ذكرناه هو نفس التَّجرُّد عن القرينة وانتفاءها بل وعلى فرض وجود شيء منها أو احتماله فلتقدَّر منتفية.

فإنَّ الوجدان يشهد ببقاء الذَّم حينئذ عرفاً وبضميمة أصالة عدم النَّقل عند الشَّك لصيغة افعل وما شابهها عن المعنى اللُّغوي إلى العرفي الشَّرعي للوجوب.

وبهذا يتم المطلوب.

ص: 126


1- سورة طه / آية 93.

لكنَّا نضيف لدعم القول بالوجوب العرفي الشَّرعي ونقول:بأنَّ الذَّم العرفي المذكور الَّذي قاله أو اعترف به المجيب من حيث لا يريد إن كان العرف فيه شرعيَّاً فقد صحَّ ما توصَّلنا إليه لا ما يريده هذا المجيب.

لأنَّه لم يكن الشَّرع يوماً تابعاً لكل مقرَّرات اللُّغة بدوام إلاَّ في الجملة، لأنَّه صاحب اصطلاحات خاصَّة تشاطره اللغة الخاصَّة مشاطرة الانضمام له ولاصطلاحاته إلاَّ في حالة واحدة.

وهي أنَّ المتشرِّعة من فقهاءنا قد يستفيدون من معاني ألفاظ تلك المفردات أو ما يشبهها من عموم اللغة في بعض الحالات الَّتي لم يعرف معناها من جانب الشَّرع ومداركه بسبب الكوارث الَّتي أغلقت بعض أبوابه الأصليَّة عليهم من الحاقدين ونحوهم وبما لا يؤثِّر على الاصطلاحات العرفيَّة الشَرعيَّة الخاصَّة.

وبذلك لا تتم الحجيَّة التَّامَّة في اللغة إلاَّ بما وجَّهناه سابقاً من الإمضاء أو التَّقرير لكل ما ينسجم مع الشَّرع من حالاتها وهو القريب ممَّا قاله السيد علم الهدى قدس سره أو هو نفسه.

لأنَّ مألوفيَّة استفادة الوجوب من الأمر ما جاءت إلاّ بعد رضا الشَّرع بما قالته اللغة أو بإمضاء منه لا بقرارها وحدها كي يحتاج إلى القرينة حينما يكون الوجوب شرعيَّاً وهذا كثير في بابه.

وقد أُلف بين الأصوليِّين بأن قول المعصوم وفعله وتقريره حجَّة، وبين الفقهاء بأنَّ الإسلام يجب ما قبله.

وإن كان العرف في نظر المجيب عرفاً لغويَّاً خاصَّاً أو اجتماعيَّاً لا علاقة له بالشَّرع في شيء ولو في بعض الأمور دون بعض كما مرَّ آنفاً من ذكر حالة ظلم السَّادة كثيراً لعبيدهم أو ذوي الأموال لخدَّامهم ممَّا لم يقبله الشَّرع حتماً أن يكون يوماً مقياساً على كون الأمر دوماً للوجوب مع تجرُده بحسب اللُّغة سارياً منها إلى

ص: 127

الشَّرع وبالنَّحو المطلق، إلاَّ إذا اعتبرنا جميع تعاملات السَّادة مع عبيدهم -- وكذا الآخرين -- عادلة، لكن هذا غير ثابت حتماً، بل العكس هو الأكثر، فلا يمكن الخلط بين مراد الشَّرع ومراد غيره في كل اعتبار.

وعلى فرض قولنا بوجود شيء مقبول من التَّعاملات عند اللغة ومجتمعاتها فلا ينفعنا إلاَّ في الوجوب العقلي دليلاً إرشاديَّاً على الشَّرعي وفي خصوص مقامه لا في كل الموارد كبعض الآيات الإرشاديَّة، وهو مع ذلك يحتاج إلى الإمضاء من قبله لو لم يكن دليل شرعي آخر يقومه.

2 - واستدلُّوا على الوجوب لغةً ثانياً:

بقوله تعالى مخاطباً لإبليس [قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ](1) والمراد بالأمر هو [اسْجُدُواْ] في قوله تعالى قبل ذلك [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ](2)وإنَّ الاستفهام في هذا الخطاب كان منه تعالى في معرض الإنكار والاعتراض لا الاستفهام الحقيقي كما لا يخفى مثل قوله تعالى [قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ](3) وقول الشَّاعر:

فكم من سائل عن أمره وهو عالم(4)

فلابدَّ من كون مفاد الأمر هو وجوب الامتثال حقيقة لغة.

ولكن نحن نقول مثل ما قد يقوله الآخرون بأنَّ السُّجود في الآية مجهول في أنَّه هل كان لعبادة آدم قدس سره بصفة استثنائيَّة خاصَّة ذات توجيه عند الله بنحو الخضوع له، أو بنحو الامتحان لهم لنفس معرفة مدى الخضوع له قدس سره في عالم الجنَّة.

ص: 128


1- سورة الأعراف / آية 12.
2- سورة البقرة / آية 34.
3- سورة البقرة / آية 30.
4- أدب الطَّف ج8 ص34، من قصيدة للسيد ميرزا صالح القزويني المتوفى 1304.

فهو الَّذي لم يخرج بنوع هذه المعاني عن كون المصداقيَّة لغويَّة لوفرة القرائن لها دون المعاني الخاصَّة في الله لاختصاص المعنى الشَّرعي فيه تعالى وكما قال [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا](1).

أو أنَّ السُّجود كان لله في واقعه هناك للدعاء لآدم شكراً لأنَّ آدم نعمة في كونه أوَّل البشر والخليفة الأوَّل وما هو مدى هذا السجود مقارنة له بما في شرعنا في عالم التَّكليف الدُّنيوي العرفي الاصطلاحي شرعاً.

وبهذا التَّفاوت - بين اللحاظين وهما مجهوليَّة الأوَّل ومعلوميَّة الثَّاني أو معلوميَّة الأوَّل بما لا يتناسب مع الثَّاني المعلوم أمره - لم يثبت المطلوب للقول بالوجوب لغة حقيقة مع التَّجرُّد عن القرائن بدقائقه كما يدَّعى.

وحتَى لو كان بهذا الدَّليل ثابت الوجوب في اللغة فإنَّه من محض العقل وليس هو كما في شرعنا العبادي وفقهنا الحنيف بدقَّته وإن كان خضوع العقل اللُّغوي محفِّزاً للخضوع لله وتعاليم شرعه من باب أولى، وبحيث لم يكن ممضى لأحد مهما كان مستواه في عالمنا بنحو العبادة إلاَّ لله وحده.

ولذلك إن وقعت شبهة كما في قضيَّة سجود أخوة يوسف مع أبيهم لابدَّ من التَّوجيه المناسب والعقل لابدَّ أن يكون تابعاً للشَّرع، فلا يمكن الإقرار بهذا الاستدلال اللُّغوي على الوجوب على علاَّته من جميع النَّواحي.

3 - واستدلُّوا كذلك عليه لغة ثالثاً:

بقوله تعالى [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ](2) حيث هدَّد سبحانه مخالف الأمر بالعذاب وإن لم يكن أليماً فضلاً عن الأليم، والتَّهديد بذلك دليل الوجوب.

ص: 129


1- سورة الجن / آية 18.
2- سورة النور / آية 63.

لأنَّه لم يهدِّد على ترك غير الواجب حسب التَّتبُّع والاستقراء للأدلَّة ولعدالة الله الثابتة في أحكامه.وأجيب بأنَّ الآية إنَّما دلَّت على أنَّ مخالف الأمر مأمور بالحذر بما يلحق بفعل الأمر وهو (فليحذر)، وهو لا يمكن إنكاره ولكن لا دلالة في مثله على وجوب الحذر قبل إيقاع النَّفس العمدي في المخالفة القطعيَّة للأمر الواجب امتثاله لانطباق مجرَّد الأمر بالحذر على الوجوب والاستحباب لغة قبل ارتكاب الحرام.

وهو لا يعطي من مجموعهما إلاَّ رجحان الامتثال للأمر بالمعنى الأعم أو ما قد يطلق عليه عند بعضهم بالاحتياط من التَّورط إن صحَّ التَّعبير، وهو في واقعه لم يكن حكماً واقعيَّاً من الأحكام الخمسة، وهو الوجوب المطلوب إثباته، وهو غير تام إلاَّ بتقدير كون هذا الأمر للوجوب وحده لغة، وهو عين المتنازع فيه.

وثمَّ إنَّ الحذر عن الشَّيء الخطر الَّذي قد يستلزم القول بالوجوب فيه قبل حصول المحذور مع احتمال الخلاف لا يحصر الأمر فيه لاشتراكه مع الاستحباب كما مرَّ وإن كان من حالاته التَّجرِّي للخلاف فيه بين التَّجرِّي المحرَّم والتَّجرِّي المكروه.

وعلى فرض وجود الحرمة فيه فالأمر بوجوب الإقلاع من حالته ليس إلاَّ من العقل فقط وهو لا ينفعنا على مسلكنا الشَّرعي وإن أرضى القائلين بالوجوب لغة.

إضافة إلى ذكر الفتنة في الآية الَّتي استدَّل بها الآخرون فإنَّها لو لوحظت بأدنى تأمُّل فإنَّها لم تبتعد عن ذهن اللَّبيب في كونها مخلوطة بين ما نتيجته الحرام وبين غيره وقد تنتهي بسلام وإن رجح الحذر.

وكذلك مساواتها في التَّرديد بينها وبين فقرة [عَذَابٌ أَلِيمٌ](1) بكلمة (أو) الواضحة في ذلك وهو ما لا يعطي للوصول - إلى استحقاق العذاب الأليم - أي مجال قبل ارتكاب ما يستوجبه.

ص: 130


1- سورة النور / آية 63.

لأنَّ هذا إمَّا أن يقلب الفتنة المخلوطة إلى ما نتيجته العذاب، وهو ارتكاب الحرام وهو غير معقول في عدالة حكم الله الثَّابتة.

أو تبقي حالة التَّردُّد في أمر ما يجري بين العباد كافَّة بين المتمحِّض بالحرام في النَّتيجة وهو العذاب الأليم، وبين المخلوط الذي بمجموع فرديه - وهو الَّذي تضمَّنته الفتنة المذكورة - لا يشكِّل ما بين الفقرتين خصوص ما يحرم من مقدِّمتي

النَّتيجتين المتفاوتتين، وهو في بعد تام عن حالة خصوص وجوب حالة الإقلاع الَّذي يريده المستدِّلون.

ثمَّ إن أعيدت محاولة التَّسنيد لهذا الوجوب في (افعل) لغة - حول نفس الآية بإنَّ هذا الأمر كان للإيجاب والإلزام قطعاً إذ لا معنى لندب الحذر عن العذاب وإباحته ومع التَّنزُّل عن القول بالوجوب كما يذكر الخصم - فلا أقل من دلالة (فليحذر) على حسن الحذر حين مخالفة الأمر كهذا الفعل مع لام الأمر.

ولا ريب أنَّه إنَّما يحسن عند قيام المقتضي للعذاب، إذ لو لم يوجد المقتضي له لكان الحذر عنه سفهاً وعبثاً كالحذر من الجدار المائل للسقوط بعدم التَّواجد تحت ظلُّهوالحذر من افتراس الأسد بعدم التَّواجد في مكان تواجده.

فإنَّ هذا الحسن مع وجود المقتضي يخصص عموم الحسن الَّذي تنزَّلنا إليه إلى الوجوب المنشود، وهو على خلاف حالتي السَّفهيَّة والعبثيَّة كما في الحذر من الجدار غير الماثل للسُّقوط والحذر من الأسد المفترس حالة عدم وجوده، لعدم وجود المقتضي، ولكونهما محالاً على الله لحكمته البالغة في أحكامه ولكون القران واضحاً في إعجازه البياني السَّديد فلابدَّ من القول بالوجوب لغة.

إلاَّ أنَّنا لابدَّ أن نقول أيضاً: إنَّ حسن الحذر مهما كان مع ذلك التَّنزُّل الصَّريح لا يثبت الوجوب دوماً وإن كان هو أبرز مصداقي الحسن - وهما الوجوب والنَّدب - لضعف المقتضي، لأنَّ الجدار لم يسقط مع ميلانه، والأسد لم يفترس القريب منه

ص: 131

لأنَّه نائم أو نحو ذلك من كل حالات ما قبل إيقاع النَّفس في التَّهلكة من المؤمِّنات على الحياة من قريب أو بعيد ولو بالاحتمال العقلائي.

لإمكان أن يكون هذا المقدار من حسن الحذر غير مثبت للوجوب المزعوم خاصَّة في اللغة وخصوصاً مع التَّجرُّد عن القرينة الكاملة.

إذ قد لا يبقى من حسنه إلاَّ نفس النَّتيجة وهي السَّلامة لا غير وهو ما يتأتَّى من القول بالاشتراك اللَّفظي لغة لا القول بالوجوب خاصَّة، وهو النَّمط الأوسط في اعتداله.

وإن تنزَّلنا للخصم كما قال فقلنا بالوجوب حين صدور مثل هذا الأمر في القرآن الكريم وجاء بسببه حسن الحذر بالمعنى الأعم وبما لا يمنع من وجود المقتضي القوي للوجوب كما في الظنون المتاخمة للعلم بالسَّير نحو الهلكة.

فلا نسلِّم له بالنَّتيجة إلاَّ بالقول بالوجوب الشَّرعي لا اللغوي كما لو حصل إمضاء من الشَّرع أو قضى عرفه الخاص بذلك.

وقد يساعد على القول بحسن الحذر الأعم من الوجوب لغة قول البعض بأنَّ هذا الاستدلال بالآية مبني على أنَّ المراد بمخالفة الأمر فيها هو حمله على ما يخالف ويغاير المأمور به، وهو المعنى الايجابي العام كالحذر ممَّا يجب تركه أو يستحب تركه، فإن صحَّ الأعم فلم يستقل الوجوب وحده لغة في هذه الآية.

ولكن أجاب على هذا الرَّأي الأخير صاحب المعالم قدس سره، بقوله بأنَّ:-

(المتبادر إلى الفهم من المخالفة هو ترك الامتثال والآتيان بالمأمور به.

وأما المعنى الذي ذكرتموه فبعيد عن الفهم، غير متبادر عند إطلاق اللفظ، فلا يصار إليه إلا بدليل، وكأنها في الآية اعتبرت متضمنة معنى الاعراض، فعديت ب- "عن")(1).

ص: 132


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص48.

بمعنى أنَّ القرينة مفقودة، فلم يثبت لصالح من نعترض عليهم شيء ممَّا يدَّعون، وكأنَّها في الآية اعتبرت متضمِّنة معنى الأعراض فعديت ب- (عن)، فلو كانت المخالفة بمعنى التَّغيير لما عديت ب- (عن).

إلاَّ أنَّنا نبقى فنقول أيضاً:-أنَّ التَّحقيق في أمر [يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ](1) من الآية الماضية باق على ابتناءه على الحذر الَّذي ذكرنا عدم اختصاصه بما يجب من جهة احتمال الخلاف قبل التَّورُّط في الهلكة وإن رجح الاحتياط أو اشتدَّ في بعض المقامات فصار لازماً.

لأنَّ المطلوب المراد عند المعارض هو خصوص فتوى الوجوب من الأمر الثَّابت والاحتياط مهما كان فليس بحكم.

وإذا كان شيء منه مراعى كما في الاحتياطات الوجوبيَّة كما مرَّت الإشارة إليه فما هو إلاَّ بسبب الإمضاء الشَّرعي المظنون وسبب صدق عرفه الخاص إن كان حاصلاً.

وعليه فلا يكون وجوبه إن توصَّلنا إليه إلاَّ وجوباً شرعيَّاً، وأمَّا كلمة (وكأنَّها في الآية اعتبرت متضمِّنة معنى الإعراض إلخ) السَّابقة في كلام المعترض فلم تثبت لنا حق المطابقة كاملاً حتَّى تكون بمعنى الإعراض واقعاً لعدم كفاءة كاف التَّشبيه في التَّدليل على حقيقة الشَّيء.

4 - واستدلوا كذلك عليه لغةً رابعاً:

بقوله تعالى: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ](2) فإنَّه سبحانه ذمَّهم على مخالفتهم للأمر، ولولا أنَّه للوجوب لم يتوجَّه الذَّم.

وهذا الدَّليل مبني على أساس كون الرُّكوع ليس هو بركوع الصَّلوات المتعارفة

ص: 133


1- سورة النور / آية 63.
2- سورة المرسلات / آية 48.

عند المتشرِّعة بحسب الظاهر وإلاَّ لم يكن الوجوب في الركوع الاصطلاحي الشَّرعي في اللغة فقط والمفروض هو لغوي.

واعترض على هذا الاستدلال بشيئين:

أوَّلهما: منع كون الذَّم على ترك المأمور به، بل إنَّما كان على تكذيب الرُّسل في التَّبليغ حيث أنَّهم لمَّا بلغوا من قبلهم بالرُّكوع كذَّبوهم بدليل قوله تعالى [وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ](1).

وهذه قضيَّة متعارفة غالباً أو دائماً في عهود الأنبياء والرُّسل ما بينهم وبين رعاياهم من حالة تكذيب الرَّعايا لهم أو المحاربة ونحو ذلك من أنواع المطالبة بالدَّليل أو المعجز، طلباً لما يثبت صدق أولئك الأنبياء أو الرُّسل، فلا وضوح إذن في كون الذَّم على ترك المأمور به، فلا يثبت هذا الوجوب بهذا الاعتبار.

ثانيهما: أنَّ الصيغة وهي (اركعوا) تفيد الوجوب، ولا مانع من ذلك وحسب طبيعة الأوامر والنَّواهي ما لم يكن كما في الاعتراض الأوَّل على دليل المستدل.

وعلى أساس هذه الطَّبيعة فلابدَّ من انضمام القرينة إليها لو احتمل دخول معنى آخرفيها لتفيد الوجوب إجماعاً، فلعلَّ الأمر بالرُّكوع كان مقترناً بما يقتضي كونه للوجوب حتَّى لو كان حسب مبنى المستدل اللغوي، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال فلم يكن الوجوب وحده هو فارس الميدان.

وأجيب عن هذا الاعتراض من قبل المستدل أو أنصاره بجوابين على فقرتي الاعتراض:

فعن الأولى: بأنَّ المكذِّبين إمَّا أن يكونوا هم الَّذين لم يركعوا عقيب أمرهم بالرُّكوع أو غيرهم.

فإن كان الأوَّل وهو أنَّ الَّذين لم يركعوا هم نفس المكذِّبين فجاز أن يستحقُّوا

ص: 134


1- سورة المرسلات / آية 15.

الذَّم بترك الرُّكوع والويل بواسطة التَّكذيب، فإنَّ الكفَّار عندنا نحن الإماميَّة معاقبون على الفروع كعقابهم على الأصول.

وإن كان الثَّاني وهم غير المكذِّبين لم يكن إثبات الويل لقوم بسبب تكذيبهم منافياً لذمِّ قوم بتركهم ما أمروا به، وقد يجتمع الأمران في جهة واحدة.

وعن الثَّانية: بأنَّه تعالى رتَّب الذَّم على مجرَّد مخالفة الأمر فدلَّ على أنَّ الاعتبار به لا بالقرينة، وهذا هو الظَّاهر أكثر من غيره.

ولكن نحن نبقى فنقول عن الجواب الأوَّل: بعدم الدَّاعي إلى تقسيم المكذِّبين في الجواب إلى غير راكعين وغيرهم ما داموا مكذِّبين بأجمعهم.

لأنَّ من لم يُعلم عدم ركوعه لم يحسب راكعاً وإن ركع وهو مكذِّب أو في عداده، وهو المنافق في قلبه وحكمه مع صاحبه واحد فضلاً عمَّا لو لم يكن راكعاً كصاحبه في ظاهر ركوعه لو أحرز نفاقه، إلاَّ أن نحمل ذلك على الوجوب الشَّرعي كما اتَّضح وسيتَّضح.

ونقول أيضاً عن الجواب الثَّاني: بأنَّ المدار لمَّا كان على العرف باعتراف مؤسِّس القول بالوجوب لغة ولم يكن ذلك العرف داخلاً إلاَّ في الشَّرعيات لا ما هو الأعم لدخول ما ليس بحكم شرعي في الأحكام الشَّرعيَّة فتختلط المعاني وهي متباعدة لو كان اللحاظ لحاظاً لغويَّاً وفي المقام عرف خاص.

وإن صدق شيء من ألفاظ الوحي المبين أو أشياء لوحدها من ذلك ولو ظاهراً، فلابدَّ من أن لا يخلو المطلب من حالة امضائيَّة أو نحوها من الشَّرع كي لا يبقى العرف لغويَّاً والمقصود في الأمر هو الشَّرعيَّات.

وإن كانت هذه الآية من آيات الأحكام المتعارفة شرعاً فلا مانع من دلالتها على الوجوب الشَّرعي فوراً من الأمر الَّذي فيها بمجرَّده كذلك بدون أيِّ تكلُّف.

وأمَّا إذا حسبت الآية من القصص الماضية إذا فرضنا أو احتملنا كونها غير

ص: 135

داخلة في ضمن آيات الأحكام المتعارفة فلا مانع من دلالتها اللغويَّة العامَّة ظاهراً على الوجوب غير الاصطلاحي.

ولكن كونها لم تكن في الواقع من آيات الأحكام أو ملحقاتها بعد التَّدقيق والوصول إلى شيء من ذلك بمثل الإمضاء الشَّرعي لو تطابق العملان إن تطابقا على شكل واحد أو لم يتطابق المشكل كالصَّلاة على الموتى ونحوه فأوَّل الكلام.فلابدَّ إذن من التَّدقيق في مثل هذه الآية المطروحة للبحث من قبل المستدل وغيرها لو شُكَّ في نوعيَّتها وفي أمر حاجتها أو عدم حاجتها إلى القرينة.

فإنَّها بعد التَّدقيق إن حسبت من الآيات الاصطلاحيَّة فلا داعي إلى القرينة على الوجوب ما دام العرف الشَّرعي قاضياً بذلك وأنَّه الَّذي قرَّبها إلينا أو أمضاها لنا وإن لم تحسب من الاصطلاحيَّة.

فلابدَّ من القرينة للاشتراك بين الوجوب والنَّدب ومع صدق القرينة لا مجال للتَّبادر لغة بدون صدق الإمضاء بواسطة القرينة.

وقد بيَّنَّا بعض هذا الكلام المشابه في الكلام عن تعداد آيات الأحكام الآتي ذكره ولو موجزاً في هذا الجزء فراجع.

الثَّاني عشر - الوضع والاستعمال في اللُّغة والشَّرع

بعدما مرَّ من الكلام في الجزء الأوَّل من بعض الجوانب السَّطحيَّة عن أهمِّ ما يحفِّز النُّفوس تجاه معبودها تعالى أو من أمرنا بإطاعتهم من خلفاءه في أرضه من أنبياء ورسل وأئمَّة لتلك الإطاعة، وهو الوجوب أكثر من غيره من الأحكام في الأوامر الَّتي مرَّت .

فمن الرَّاجح الآن -- في هذا الجزء للتَّدقيق أصوليَّاً فقهيَّاً مع التَّطبيق وللتَّوضيح أكثر حينئذ -- بيان ما قد يسبِّب غلبة اللغة على الشَّرع إذا توقَّف فهم ما عند الشِّرع

ص: 136

على ما في قواميس اللُّغة كحاجتنا إلى الرُّجوع إلى مثل مجمع البحرين وغيره في المرحلة الأخيرة كأزمنة الصَّدر الأوَّل أو المعرفة عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ أو الشَّرع على اللُّغة.

كما لو كان فيه صدق الحقيقة الشَّرعيَّة في زماننا بدون قرينة وهو الكلام عن الوضع والاستعمال ومدى علاقتهما في توليد الاصطلاحات الَّتي لا يجوز فنيَّاً تجاوزها لو تحقَّقت، سواء كانت لصالح اللغة المطابقة للشَّرع أو لصالح الشَّرع إن كانت اللُّغة أعم، وعند عدم التَّحقُّق فسوف يخضع الأمر وملحقاته إلى القرائن لفهم غير الوجوب.

فنقول حينئذ: كل مصطلح لفظي - وأهمُّه ما بين أيدينا ومورد حاجتنا الفعليَّة والمحور الأصولي وهو اللغوي العربي والَّذي منه والشَّامخ بين ألفاظه ألفاظ الكتاب والسنَّة وأهمُّها ألفاظ ما تحصى به الأحكام - لابدَّ له - حينما يصير اصطلاحاً لشيء أو أشياء ومنه تلك الأوامر - من الوضع ويؤكِّده الاستعمال.

وهذا الاستعمال إمَّا بكثرته للدَّلالة على الشَّيء حقيقة مع التَّجرُّد بمثل التَّبادر أو قلَّته للدَّلالة على الشَّيء مجازاً لحاجته بسبب القلَّة إلى القرينة.

وهذا الوضع إمَّا أن يكون عامَّاً قابلاً لدخول أكثر من مصداق فيه في شموليَّته، أو خاصَّاً في مصداق واحد في تلك الحقيقة أو ذلك المجاز، كما في صدق الأمر لغة على الوجوب فقط حقيقة، أو صدقه لغة على الوجوب والنَّدب أو الأكثر حقيقة كذلك لكن باشتراك، أو صدقه على الوجوب شرعاً حقيقة فقط كذلك، أو عليه وعلى النَدب أو الأكثر حقيقة باشتراك، أو كما في صدق الأمر لغة أو شرعاً عموماً أو خصوصاً لكن بمجازيَّة بسبب قلَّة الاستعمال، كما مرَّت بياناتنا حول ذلك وكما سوف يأتي.

وكما أنَّ الوضع إمَّا أن يكون تعينيَّاً في عمومه أو خصوصه، أو تعيينيَّاً في كلِّ

ص: 137

منهما من ناحية اللغة أو الشَّرع، فهذه صور عديدة نبتغي التَّعرُّف عليها أو على المهم منها لصالح موردنا المبحوث عنه.

فهذا المصطلح أو ذاك لمَّا كان موضوعاً قبل كلِّ شيء وضعاً لغويَّاً عامَّاً ونوعيَّاً، أو خاصَّاً في شيء لا يعدوه، ولكن جُهلت كثرة الاستعمال فيه أو قلَّته كالأمر، وكان أيضاً من صنَّاع قراره وأصحابه المهمِّين - إضافة إلى اللغوييِّن - هم الفقهاء وأصوليُّوهم الَّذين لم يبارحوا المباني الفقهيَّة الإلهيَّة اللُّغويَّة المخزونة في كتاب الله العزيز وهو القرآن العربي المبين، والَّذي اختار من لغة العرب أجودها، وخصَّ الفقه وتوابعه بآيات الأحكام وتتبعه السنَّة، بل هما فيما حوياه من لسان الفقه الخاص أفضل ما في عموم وإطلاق اللُّغة على ما أحكم عند أهل التَّتبُّع والخبرة.

وكان هذا الأمر قد جهل فيه كذلك التَّعيين والتَّعيُّن في وضعه، ووصل أمر استعماله لغة إلى حالات مختلفة كما مرَّ عليك.

فهل على هذا يصلح له أن يكون معياراً اصطلاحيَّاً تامَّاً للوجوب لغة مع التَّجرُّد عن القرينة في مقابل الاستحباب المحتاج إليها كما يقال؟

بحيث يراد ذلك في نفس الفقه كذلك بمستوى واحد تابع للاصطلاح الأصولي لغة.أم لا يصلح، إلاَّ أن يكون معياراً اصطلاحيَّاً تامَّاً للوجوب شرعاً مع التَّجرُّد عن تلك القرينة كذلك في مقابل الاستحباب المحتاج إليها أيضاً؟

أم أنَّ الوجوب والاستحباب كلاهما كانا في اشتراك لفظي؟

أم كانا في اشتراك معنوي جامعهما الطَّلب ونحو ذلك أم لا؟

فهذه أسئلة تحتاج إلى البحث والإجابة النَّافعة.

مع أنَّ الفقه وتوابعه له اصطلاحاته الخاصَّة المتميِّزة عمَّا عداه بحيث تجعله هو المتبوع، وليس هو التَّابع في الوضع والاستعمال بتلك الأوامر ومن ناحية الظهور

ص: 138

الأقوى كذلك، وإن ضعف هذا الأمر فيه في بداية التشريع وبداية الدَّعوة.

لكون العمدة هو اعتبار هذا الاصطلاح أيَّام زهوه وضعاً واستعمالاً بحيث لا يُراد بنحو التَّبادر إلاَّ هذا المعنى.

ولم يُختر فقهيَّاً عند الفقهاء وفي مصطلحهم إلاَّ الوجوب في مقام دليله الخاص، أو الاستحباب في مقامه أيضاً، أو غير ذلك من الأحكام الخمسة بالمنظور الفقهي فقط.

وما اللُّغة حينذاك عند الأصوليِّين الآخرين إلاَّ تابعة للفقه أيَّام زهوه، وحين ترسخ مصطلحه مع مجهوليَّة فترة ضعف مصطلحه في بدء الدَّعوة وعدم أهميَّة قيمتها حينما نشأت قوَّته وازدادت إلى أن صار حقيقة غالبة واللُّغة حقيقة مغلوبة؟

فنقول: إنَّه سبق وإن ذكرنا بأنَّ اللُّغة مع تنوعها اللَّفظي في أمور الدِّين وغيره، بل غير المحصور بشيء باعتبار معيَّن، لاختراق أجوائها بمختلف المذاهب السَّماويَّة وغير السَّماويَّة فلسفيَّة وجاهليَّة وبالمعاني الجديَّة والهازلة ونحو ذلك.

لا يمكن أن نجعلها مقياساً لنا في خصوص ما نحن نؤمن به أو ننقاد إليه من الوجهة المولويَّة الإسلاميَّة والإيمانيَّة الخاصَّة تعبُّداً، بمثل التَّلقِّي المباشر من المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ أو نائبه الخاص أو اجتهاداً أو تقليداً في زمن البعد عن المعصوم مكاناً وزماناً، وملؤ قضاياها على الأكثر الإسلام والإيمان والانقياد والطَّاعة للمشرِّع تعالى مع هذا التَّفاوت اللغوي.

إلاَّ في خصوص ما يتلائم منها وقضايانا الفقهيَّة الخاصَّة هذه وما يتبعها.

مع أنَّ اللُّغة الشَّائكة في مضامينها المتفاوتة -- وبما أشرنا إليه في السؤال والَّتي لم يفرز بعضها عن بعض نوعاً إلاَّ بالقرائن إلاَّ ما قلَّ وندر حتَّى الكتب السَّماويَّة -- أصبحت في قواميسها المعربة متهرِّءة بالتَّحريف والزِّيادة والنَّقيصة، ما عدا القرآن الكريم المحفوظ في جميعه ومنه آيات أحكامه.

ص: 139

فلا يصح فرض كل الأمور اللُّغويَّة مسلَّطة دوماً على خصوص الأوامر الشَّرعيَّة لتعطي الوجوب من عندها، أو يتولَّى الأصوليُّون نيابة عنها هذا الدَّفع، لفقدان اللُّغة لهذه الصَّلاحيَّة، إلاَّ إذا أفرزت بعض قضاياها عن العالم المشترك ونحوه وتمحَّضت لخدمة ما نحن فيه.

فلا قياس في قضايانا الشَّرعية على اللُّغويَّة في شيء مع غنانا الشَّرعي وضعف اللُّغة وعدم تمكُّنها المعهود من التَّسلُّط على الشَّرع، بل قِدم قوَّة الشَّرع حتَّى في فترات ماقبل الإسلام من عهود السَّماويَّات ممَّا بقي ولم يحرَّف منها وإن قلَّ كثيراً، ومنها ما نقل منها في القرآن الكريم، وهو ما لا بأس به في انسجامه فقهيَّاً مع ما عندنا.

وهذا ما قد يساعد على تسلُّطه على اللُّغة حتَّى في الفترة المجهولة في أمر حقيقة الوضع والاستعمال، كبدء الدَّعوة الإسلاميَّة، أو في عموم الفترات المجهولة الأخرى الَّتي قد يقال بأنَّها ممَّا تضعف فيها قوَّة كلا الأمرين.

إلاَّ في حالة قدرة اللُّغة فيما لو لم يكن الاصطلاح الفقهي ثابتاً آنذاك ولم يكن اصطلاح اللغة ثابتاً أيضاً لصالح جهة معيَّنة، فلا يستفاد إلاَّ وجوب الطَّاعة العقليَّة كما أسلفنا في أصل الوضع بتنوُّعه وعمومه وإطلاقه، ويتبعه أو يؤكِّده الاستعمال كذلك، وهو لا ينفعنا في المقام إلاَّ في الخضوع العرفاني، وهو ما قد يجعل استحبابه واجباً عقليَّاً.

وأمَّا في مقام استكشاف المسائل الفقهيَّة الشَّرعيَّة فلا نفع فيه نفعاً تامَّاً لا في تحقيق الوجوب الشَّرعي فيه، لعدم وضوحه عن هذا الطَّريق، لما مرَّ ذكره.

ولا في براءة الذمَّة في أداءه بعد التَّكليف على أي حال، حينما كان واجباً شرعيَّاً حسب الفرض في الواقع ولم نكن نعلمه في حقيقة ذلك الوضع اللُّغوي والاستعمال فيه تعيينيَّاً أو تعيُّناً، سواء بقلَّة الاستعمال أو كثرته، إلاَّ إذا كان الشَّرعي شرعيَّاً لا تعترف اللُّغة بشرعيَّته إلاَّ عن طريقها، وهو رأي الفريق الأوَّل من

ص: 140

الأصولييِّن.

مع أنَّا قد سبق وأن ذكرنا أنَّ الشَّرع لا يعترف بكل ما تعتبره اللُّغة بهذه البساطة إلاَّ بإمضاء منه.

والآن نحن في حِل من هذه الزَّاوية التَّأريخيَّة النَّادرة في بدء الدَّعوة من أواخر أيَّام الجاهليَّة الأولى لجهالة الأمر الحقيقي فيها عن اللغة ومدى علاقة الشَّرع بها، لأنَّها لم تكن من محل ابتلاءنا هذه الأيَّام وما سبقها من أيَّام الزَّهو الشَّرعي والاصطلاح الفقهي لا اللغوي.

ولذلك يفضِّل فقهاء اليوم - بل حتَّى من سبقهم ممَّن يرى حجيَّة الاصطلاح الفقهي والحقيقة المتبادر إليها في أوامر القرآن الفقهيَّة وما يتبعها من السنَّة عند الحاجة إلى بعض الكتب اللغويَّة - الرُّجوع إلى ما يتضمَّن منها ما هو الأقرب إلى الهدف الشَّرعي، لا العموم اللُّغوي من أمثال كتاب (مجمع البحرين)، لكونه الأقرب في اختياره إلى تحقيق عموم مراد لسان مصدري الكتاب والسنَّة وخصوصه، والأقرب إلى لسانهما الفقهي بصورة خاصَّة أخص.

دون أن يرجعوا إلى اللغويَّات العامَّة الأبعد، لما سبق ذكره من أنَّ الأخذ من هذه اللغويَّات العامَّة - ومن مقرَّراتها الحالة الوجوبيَّة للأوامر - لا ينفعنا نفعاً تامَّاً.

لاحتمال كون هذا الوجوب جاء من القرينة من مثل الإمضاء الشَّرعي لا من التَّجرُّد عنها.

وأنَّ وجوب الطَّاعة الثَّابت من الأوامر من ناحية ظهورها في الأعم من الوجوب والاستحباب الشَّرعيَّين لا ينفعنا كذلك عن نفس الوجوب الشَّرعي التَّام.

بينما قد تنفعنا الطَّاعة الواجبة شرعاً بسبب الوضع التَّعييني الَّذي يراه بعضالأصوليِّين إن كنَّا قبلناه ،دون أن نلتزم بالوضع التَّعيُّني بسبب كثرة الاستعمال الَّذي صيَّرته مألوفاً متعارفاً شرعيَّاً،وهو رأي الأصوليِّين الآخرين.

ص: 141

وإن كان في أساسه وقبل اصطلاحه للشَّرع والفقه كان للوجوب اللُّغوي في القسم المقارب لمقامنا بعد التَّوجيه له ومن أقسامه، لكونه أمضى شرعاً حتَّى صار اصطلاحاً لا يفهم غيره.

إلاَّ أنَّنا نرى في المقام وغيره بأنَّ الوضع في صيغة الأمر وغيره من التَّوابع وضع تعيُّني لناحية أدق من التَّعييني، إلاَّ أنَّه نفس النَّفع والفائدة الَّتي في الوضع التَّعييني.

وهو مثل ما اختلف فيه الأصوليُّون على فريقين، فريق يقول بالحقيقة الشَّرعيَّة أو التَّعيين، وآخر يقول بالحقيقة المتشرعيَّة أو التَّعيُّن.

ولكن لا نطيل هنا في هذين المقامين لأنَّ لهما محل آخر وبما يقتضيه مع ما مرَّ الكلام عليه حوله في الجزء الأوَّل.

وعليه يكون كلا المقامين مساعداً للوجوب العرفي الشَّرعي في الأوامر مع التَّجرُّد وبلا حاجة إلى القرينة، بل إذا أُريد الوجوب العقلي اللًّغوي والماضي تصويره منها فلابدَّ من القرينة عليه.

وهكذا الاستحباب الشَّرعي وغيره ممَّا عدا الوجوب فإنَّه لابدَّ له من القرينة لو أريد وحده في مقابل الوجوب الشَّرعي.

وان كان هذا الاستحباب في مجاز غالب مؤثِّر على حقيقة الوجوب الشَّرعي بعض الشَّيء كما يقولون، لأنَّ ذلك لا يصيِّره حقيقة معارضة للوجوب كما يتوهمه البعض، ممَّا سنبينه بإذن الله حال بقاء المجازيَّة مهما بلغت ما بلغت للفوارق الاصطلاحيَّة الواضحة.

وبهذا الَّذي بينَّاه تكون الطَّاعة الَّتي في خصوص هذا الإطار هي المحقِّقة لوجوب الامتثال الشَّرعي ولو ظاهراً حين الجهل بالنُّصوص الصَّريحة في بعض حالات الاستقراء والتَّتبُّع حول هذه الأمور، ما لم يرخِّص نفس المولى تعالى في التَّرك ويأذن به.

ص: 142

وإن كان من ذلك ما أجري في بدء البعثة الشَّريفة ولو في بعض أدوارها المعقولة، لا الطَّاعة الخارجة عن هذا الإطار، وإن رجحت عرفانيَّاً كما مرَّ بيانه من مثل سيرة بعض المؤمنين المستقيمة قبل الإسلام وبعد عهود الدِّيانات السَّماوية السَّابقة، كما كان عليه سلمان الفارسي وعبد المطِّلب وأبو طالب "رضوان الله عليهم" وكل من كان متديِّناً بدين الأحناف، وكما عُرف به جعفر الطيَّار(رض) أيَّام الجاهليَّة من حسن السِّيرة والسَّريرة لإطاعة الله أو مقت المحرَّمات الواجب تركها عقلاً التزاماً بالفطرة السَّليمة ولو في العرف اللغوي.

لأنَّها وإن لم تكن من خصوصيَّات المصطلحات في ظل الإسلام وشرعه، ولكنَّها قابلة لذلك كما حصل تعينيَّاً أو تعيُّناً.

الثَّالث عشر- دلالة الأمر على الاستحباب

بعدما مرَّ الكلام على الوجوب الشَّرعي -- وترجيحه على اللغوي وذكر ما ينبغي فيه حول الأوامر -- جاء دور القول بما يتناسب مع الوجوب في الإيجابيَّة، ولكن هو أخفض منه في شدَّة التَّكليف به.

وهو الاستحباب من الأحكام، بحيث لا عقوبة على ترك المستحبَّات من مصاديقه، كما هي في حالة الواجبات الماضية وبما يشبه الوجوب كذلك في كون الصِّيغة المبحوث عنها أوَّلاً هي نفس الأوامر وإن تبعتها توابع تخصُّها كما مرَّ ذكره، وبنفس مستوى الخلاف والاختلاف فيما بين الأصوليِّين.

فبعض قال بأنَّ الأمر كما كان يدل على الوجوب لغة حقيقة مع التَّجرُّد عن القرينة فكذلك يدل على الاستحباب لغة مجازاً مع القرينة.

وآخرون قالوا بأنَّ الأمر يدل على الاستحباب لغة كذلك مع التَّجرُّد من القرينة للدَّلالة على الحقيقة في ذلك، وهو أنَّ الَّذي معناه الوجوب لا يظهر من الأمر إلاَّ

ص: 143

بنحو المجاز لحاجته إلى القرينة.

وهو الَّذي نفيناه مع سابقه بالقول بالوجوب الشَّرعي الحقيقي له دونهما.

ولكن لتوضيح الدقَّة أكثر دفاعاً عمَّا نراه لابدَّ من استعراض ما يتعلَّق بهذا الاستحباب جرياً على ما قمنا به من الكلام عن الوجوب لغة كما أراده القائلون به، نقول وبتصرُّف نافع بإذن الله:-

احتجَّ القائلون بأنَّه للنَّدب بوجهين:-

أحدهما: قول النَّبي 2 (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم)(1)، فقالوا بأنَّ وجه الدَّلالة أنَّه 2 ردَّ الإتيان بالمأمور به إلى مشيئتنا وهو معنى النَّدب، لأنَّ الرِّواية دلَّت على استعمال الأمر في النَّدب لا مجرَّد الوضع الَّذي لم يلتزم به البعض والأصل فيه الحقيقة،فللإنسان أن يختار من ذلك القليل أو الكثير بحسب الاستطاعة وهو مردَّد ما بين المقدارين بصيغة خالية من الشِدَّة.

وهذا الحديث وإن لم يكن من آيات الأحكام ولكنَّه من التَّوابع والملحقات للسنَّة، بل والمؤسِّسة لبعض القواعد ولو بالمشاركة.

ولكن أجيب في مقابل هذا على أنَّ الأمر للوجوب، إذ لو كان للنَّدب فقط لم يحتج إلى البيان، لانصرافه إليه بلا حاجة إلى هذا البيان، بينما جاء هذا المعنى له ببيان إضافي لا لمنع الوجوب، بل ربَّما له شأن في توليد أو الدَّعم لإحدى القواعد الفقهيَّة التَّسهيليَّة المهمَّة، وهو خلاف المأمول من المستدل.

وأمَّا حمل هذا البيان من المستدل ونحوه على نحو التَّوكيد والتَّوضيح لا على تأسيس الحصر في النَّدب، بحيث لا يراد الوجوب بسبب المشيئة فهو خلاف الأصل.

لكون الأصل هو الوجوب بلا حاجة إلى البيان لا مثل ما احتيج إليه في أمر

ص: 144


1- أخرجه البخاري في "الاعتصام بالكتاب والسنَّة" باب الاقتداء بسنن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (7288)، ومسلم في "الحج" (1337).

الاستحباب.

وأجيب أيضاً لصالح القول بالوجوب بالمنع من ردِّه إلى مشيئتنا، وإنَّما ردُّه إلى استطاعتنا وهو معنى الوجوب، لأنَّ الفرائض والواجبات ما جاءت إلاَّ مطابقة للاستطاعة والقدرة على الأداء وكما قال تعالى [نَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا](1) ومنه هذه التَّكاليف.

ثمَّ إنَّ هذا الحديث في واقعه ما جاء إلاَّ تفصيلاً لما أجمله تعالى من قوله: [مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا](2) وهو واضح في وجوب امتثال الأوامر، وتفصيل الحديث لا ينفي وجوب أقل ما يمكن فعله.

ونظير ذلك تقريباً وجوب الفرائض اليوميَّة داخل أوقات تسعها وتسع غيرها.

وجاء أيضاً مطابقاً لما ذكره تعالى من حالات نفي العسر والحرج ونفي التَّكليف بما لا يطاق في آيات أخرى عن حالة أداء الفرائض والواجبات ارتباطاً بالعدل الإلهي المتواصل في كلِّ شيء، وإن وجبت في بداية الأمر على المكلَّف غير المقتدر على نحو الإجمال كذلك كما في قوله تعالى عن الصَّوم أثناء المرض والسفر [يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ](3) وقوله عن الحج [وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً](4) وغيرهما من الأمور الخاصَّة.

وهكذا جاء مطابقاً لهذه الحالات من التَّكاليف العامَّة مثل قوله تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ](5)، وكذلك قوله [لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ

ص: 145


1- سورة الطلاق / آية 3.
2- سورة الحشر / آية 7.
3- سورة البقرة / آية 185.
4- سورة آل عمران / آية 97.
5- سورة الحج / آية 78.

وُسْعَهَا](1) وغير ذلك منالأحاديث الشَّريفة الَّتي لا ترفع مداليل الأوامر المثبتة لوجوب الواجبات، وإنَّما تحدِّد التَّكاليف بما يتناسب والقدرة الفعليَّة.

وإذا اعتبرت الفرائض غير الصَّلاة بأنَّها مشروطة في وجوبها بشروط لو لم تتوفَّر لم تكن بواجبة، فإن الصَّلاة تكفينا في أنَّها لا تسقط بحال وإنَّما تتفاوت حالاتها حسب ما يتناسب وطاقة المكلَّف، إضافة إلى أنَّ بقيَّة هذه الواجبات من غيرها لم تكن دوماً بساقطة أصلاً، بل إنَّها ربَّما تكون مؤجلَّة.

وإن أورد مورد على أنَّ الأمر في الحديث لا يدل بالمطابقة أو التَّضمُّن على الوجوب؟

فإنَّه يجاب أوَّلاً: بأنَّ الأمر يكفيه أن يستلزم ذلك لا أكثر، لكون معنى الوجوب من لوازمه غير المنفكَّة عنه لإرادته من الأمر بالدَّرجة الأولى وهو كاف في المقام.

وثاني الوجهين: إنَّ أهل اللُّغة قالوا: (لا فرق بين السُّؤال والأمر إلاَّ في الرُّتبة)(2)، فإنَّ رتبة الآمر أعلى من رتبة السَّائل، والسُّؤال إنَّما يدل على النَّدب فكذلك الأمر، إذ لو دلَّ الأمر على الإيجاب لكان بينهما فرق آخر، وهو خلاف ما نقلوه من حالة عدم الفرق وهو ما كان هذا العدم في الطول لا في العرض.

وأجيب عن هذا الثَاني بجوابين:

أوَّلاً: بأنَّ النَّقل المذكور عن أهل اللُّغة غير ثابت، بل صرَّح بعضهم بعدم صحَّته على ما نقله صاحب المعالم قدس سره.

وثانياً: لو تنزَّلنا مع النَّقل، وقلنا بأنَّ القائل بكون الأمر للإيجاب -- وهو الوارد المألوف في السَّاحة العلميَّة الفقهيَّة -- يقول بأنَّ السُّؤال يدل عليه أيضاً، في مقابل

ص: 146


1- سورة البقرة / آية 286.
2- وهذه المقولة من احتجاج ونقل أبي هاشم المعتزلي، راجع معالم الدين وملاذ المجتهدين ص49.

القول بالنَّدب لثبوت الحق في ذلك، لأنَّ صيغة افعل عنده موضوعة لطلب الفعل مع المنع من التَّرك، وقد استعملها السَّائل فيه أيضاً، لكنَّه لا يلزم منه الوجوب، إذ الوجوب لا يثبت إلاَّ من جهة الشَّرع، وبذلك لا يلزم المسؤول القبول.

وبهذا يتبيَّن الفرق بين المسؤول والسؤال، فلا يكون إلاَّ الوجوب للفارق بين الحالتين.

ونبقى نحن نضيف ونبيِّن مؤكِّدين:-

بأنَّ الوجوب هو المتعيَّن لا الاستحباب لما مضى، وأنَّه شرعي لا لغوي محض، لأنَّ اللغة قد تحمل شيئاً يثبت شرعاً بالإمضاء ونحوه من التَّطابق أو بكثرة الاستعمال كما في ما أوضحناه في الجواب الثَّاني في ردِّ دليل أهل اللغة، ولكن لا داعي إلى ضمِّ السُّؤال إلى الأمر.

لأنَّه مع قول أهل اللُّغة الماضي ذكره عن السُّؤال والفرق بينه وبين الأمر (إلاَّ في الرُّتبة)، فإنَّه لم يخرج عن كون هذا قياس مع الفارق الواضح المصرَّح به من قبل نفسالقايس وهو اللُّغة.

إضافة إلى كوننا وإن قلنا سابقاً أنَّ السُّؤال من أنواع الطَّلب وقد يؤتى به للتَّوبيخ أو بنحو الأدلَّة الإرشاديَّة الَّتي تعطي معنى القول بالوجوب عقلاً، لكن هذا غير مناسب ليكون من لسان مقام المشرِّع تعالى بالمعنى الحقيقي، فحصرنا أمر المأخوذ منه ممَّا نصُّه من أنواع الطَّلب كما في التَّحضيض لصحَّة كون معناه من العالي إلى الدَّاني دون السؤال وغيره، للفرق الَّذي مرَّ ذكره.

لأنَّ الأمر جهته جهة علو على خلاف السُّؤال، وإن أريد من ضمِّه إلى الأمر كذلك في ردِّ القول بأنَّه للنَّدب لعدم الحاجة بعد تبيُّن الفرق.

إضافة إلى ما ذكره ابن الشهيد الثَّاني "صاحب المعالم" قدس سره من احتجاج السيِّد المرتضى u على الدَّليل على كون هذه الصِّيغة على الوجوب الشَّرعي لا غير، وأنَّها

ص: 147

حقيقة فيه بالنِّسبة إلى العرف الخاص به في قوله:-

(بحمل الصَّحابة كل أمر ورد في القرآن أو السنَّة على الوجوب وكان يناظر بعضهم بعضاً في مسائل مختلفة ومتى أورد أحدهم على صاحبه أمراً من الله سبحانه أو من رسوله 2 لم يقل صاحبه هذا أمر والأمر يقتضي النَّدب أو الوقف بين الوجوب والنَّدب بل اكتفوا في اللزوم والوجوب بالظَّاهر وهذا معلوم ضرورة من عاداتهم، ومعلوم أيضاً أنَّ ذلك من شأن التَّابعين لهم وتابعي التابعين فطالما اختلفوا وتناظروا فلم يخرجوا عن القانون الَّذي ذكرناه، وهذا يدل على قيام الحجَّة عليهم بذلك حتَّى جرت عادتهم وخرجوا عمَّا يقتضيه مجرَّد وضع اللغة في هذا الباب)(1).

حيث نقل قول السيِّد المرتضى قدس سره ("وأمَّا أصحابنا معشر الإماميَّة فلا يختلفون في هذا الحكم الَّذي ذكرناه وإن اختلفوا في أحكام هذه الألفاظ في موضوع اللغة فلم يحملوا قط ظواهر هذه الألفاظ إلاَّ على ما بيَّناه ولم يتوقَّفوا على الأدلَّة، وقد بينَّا في مواضع من كتبنا أنَّ أجماع أصحابنا حجَّة" (2))(3).

هذا كلامه "رُفع مقامه" وهو حجَّة في بابه ومن القدماء.

وناقشه صاحب المعالم قدس سره في قوله (وأمَّا احتجاجه على أنَّه في العرف الشَّرعي للوجوب فيتحقَّق ما ادعيناه "من أنَّ الأمر في اللُّغة أيضاً في الوجوب فقط كما في العرف" إذ الظاهر أنَّ حملهم له على الوجوب إنَّما هو لكونه له لغة، ولأنَّ تخصيص ذلك بعرفهم يستدعي تغيير اللفظ عن موضوعه اللغوي وهو مخالف للأصل)(4).

فإنَّنا نقول إضافة إلى ما مضى جواباً مختصراً بنحوين:

ص: 148


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص51.
2- الذَّريعة إلى أصول الشَّريعة / السيد المرتضى ج1 ص52.
3- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص51.
4- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص52.

فأوَّلاً: بأنَّ أوَّل عبارته عن كلام السيِّد قدس سره اعتراف منه ضمناً بالعرف الشَّرعي أو أنَّه ما نفاه وإن كان ذلك عنده من تلك اللُّغة أساساً.

وثانياً: إنَّ جعله هذا الأساس الَّذي لا ينكر عنده - أصالة مؤثِّرة على هذا العرف الشَّرعي لا يمكن قبوله للتَّفاوت الاعتباري بما أوضحناه سابقاً من حيث الزَّمان - بقِدم اللُّغة وعمومها وإطلاقها وبحدوث الشَّرع على أساس مجيئه بعد ذلك بالحقيقة الشَّرعيَّة أو المتشرعيَّة كما نوَّهنا وبأوضاع خاصَّة.

كانت نصوصها من الكتاب والسنَّة بنحو يختلف عن نصوص اللُّغة وإن نزل القرآن على منحاها.

ومن حيث معنى الطَّاعة - في كونها لغة بالأوامر إن قبلناها واجبة - فهي عقليَّة، وإن لم نقبلها للوجوب فقط فهي مشتركة بين الوجوب والنَّدب اللُّغوي، كما هو الحق عنده بما أسلفنا نقله ولو إشارة.

ومن حيث معناها في كونها شرعاً بهذه الأوامر فهي طاعة شرعيَّة منبعها الأوامر الإلهيَّة وهو مبتغانا في مبنانا لغلبتها.

الرَّابع عشر - دلالة الأمر على القدر المشترك

بين الوجوب والاستحباب مثلاً

من جملة ما بحثه الأصوليُّون ممَّا يحتمل كون الأوامر داخلة فيه هو دلالتها على القدر المشترك، وهو طلب الفعل المراد منها فقط من دون قصد خاص لكلِّ ما يحمله الطَّلب، كالوجوب بكلِّ خصوصيَّاته والنَّدب كذلك، وهو المتعارف ذكره بينهم في المقام أو الأزيد لو اختلف لفظ كل منها عن الآخر دون ما لو اتَّفق.

لأنَّ قصد الأثنين معاً من اللَّفظة الواحدة مثلاً بهذا النَّحو يدخل الأوامر في الاشتراك اللَّفظي الموحَّد.

ص: 149

وهو غير القدر المشترك المراد ذكره وذكر الكلام عنه هنا أو لأحدهما دون الآخر مثلاً، لأنَّ أحدهما دون الآخر مع اللفظي يحوجه إلى القرينة معيِّنة المراد.

دون القدر المشترك كذلك وقصد أحدهما دون الآخر فقط بلا اشتراك لفظي مع عدم التَّساوي في المصداق الخارجي الَّذي يدخل الأوامر في أمر المجاز ويحوجه إلى القرينة الصَّارفة، كإرادة النَّدب منها مع احتمال إرادة الوجوب، وهو غير القدر المشترك المراد ذكره أيضاً.

ومع اشتراك الاثنين معاً تكون قرينته هي المسمَّاة بالمفهمة مع التَّساوي في المصداق كالإنسان والبشر.

فلأجل الوصول إلى محصِّلة نافعة إيجابيَّة أو سلبيَّة للاستقرار على مطلب أصولي ذي ثمرة عمليَّة في مجال آيات الأحكام وما يتبعها من الأوامر ودلالتها الأصيلة.

فلابدَّ من استعراض ما تكلَّموا فيه استدلالاً عليه وهو القدر المشترك الَّذي هو ليس بالوجوب حسب وليس بالاستحباب كذلك جرياً على ما أحصي من نتاجهم فنقول مع شيءمن التَّصرُّف:-

احتجَّ القائلون بأنَّه للقدر المشترك - وهو الطَّلب المراد منه الوجوب والاستحباب معاً مثلاً مع التَّفاوت اللفظي بين الاثنين وإن زاد الوجوب على الاستحباب بقيد المنع من التَّرك أو انخفض الاستحباب عن الوجوب بقيد عدم المنع من التَّرك - بأنَّ الصِّيغة استعملت تارة في الوجوب كقوله تعالى [أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وآتوا الزَّكاة](1) وغيره، وأخرى في النَّدب كقوله تعالى [فَكَاتِبُوهُمْ](2) وغيره على حدِّ سواء، بلا امتياز لأحدهما على الآخر في العرض القرآني مع التَّفاوت اللفظي

ص: 150


1- سورة البقرة / آية 43.
2- سورة النور / آية 33.

والمعنوي بين النَّصَّين وحصول اللقاء المجمل بينهما.

فإن كانت هذه الصِّيغة موضوعة لكل منهما مع كل خصوصيَّة فيهما لا مجرَّد الطَّلب لزم الاشتراك اللفظي المحوج للقرينة المعيِّنة في كل منهما كما مرَّ.

بينما هذا الطَّلب بمجرَّده أخف مؤنة حتَّى في تشخيص الواجب عن المستحب أو العكس، لعدم الحاجة في الخصوصيَّة لكل منهما وبالخصوص عند المواظبين على المستحبَّات مع الواجبات والمحترمين لأوامر الاثنين بالسَّوية كأهل العرفان والسُّلوك الشَّرعي الَّذين يكفيهم مجرَّد الطَّلب بهاتين الصِّيغتين.

وإن كانت هذه الصِّيغة موضوعة لأحدهما فقط لزم المجاز المحوج للقرينة الصَارفة، بينما كل من النَّصَّين استعمل فيما يخصُّه للجامع المشترك المعهود بلا عناية الحاجة إلى القرينة الصَّارفة أو ما سبقها وللطَّلب، فيكون حقيقة في القدر المشترك بينهما بتبادره عند الإطلاق في النَّصَّين وغيرهما، وهو طلب الفعل دفعاً للاشتراك والمجاز، فإذا علم أنَّهما مرجوحان فالقدر المشترك هو الرَّاجح.

وكان جواب من ردَّهم وهم القائلون بالوجوب لغة بنحو الحقيقة وبالنَّدب بنحو المجاز وإن كان مخالفاً للأصل، وهو الحقيقة الدَّالَّة على نفسها مع التَّجرُّد عن القرينة تجاه الشَّرعيَّة، لكن يجب المصير إليه إذا دلَّ الدَّليل عليه، وهو خير من الاشتراك في دليل المحتجِّين حتَّى إذا كان هذا المجاز في نفسه يحتاج إلى الوضع الأوَّل وإلى معرفة المناسبة بين المعينين وإلى النَّقل منه إلى المعنى المجازي.

فإنَّ الحاجة إلى ذلك في مقابل الحقيقة المحتاجة إلى الوضع فقط لا في مقابل الاشتراك، فحينما بيَّنا أنَّه حقيقة في الوجوب بخصوصه رعاية للوضع الأوَّل وجاء مورد الوضع الثَّاني وقرينته، فلابدَّ من كونه مجازاً في مقابل الأوَّل وهما النَّدب ومطلق الطَّلب.

لأنّهما استعملا في غير ما وضع له الأمر، وإلاَّ لزم الاشتراك المخالف للأصل

ص: 151

بصفة أشد منه، بل هو المرجوح وهو مرفوض بخلاف دليل الحقيقة الأصيل وهو أمر الوجوب مع التَّجرُّد، وبخلاف دليل المجاز وهو النَّدب أو مطلق الطَّلب مع القرينة.

على أنَّ المجاز لازم كذلك بتقدير وضعه للقدر المشترك وهو ذلك الطَّلب العام، لأنَّاستعماله في كل واحد من المعنيين بخصوصه مجاز، لأنَّ كل واحد بخصوصه استعمال في غير ما وضع له.

وإذا ثبت أنَّ التَّجوز اللازم على التَّقدير الأوَّل - وهو ما كان في مقابل الحقيقة أقل كلفة منه بتقدير القدر المشترك على التَّقدير الثَّاني، لأنَّه في الأوَّل مختص بأحد المعنيين وفي الثَّاني - حاصل فيهما كان بالتَّرجيح - لو لم يقم عليه دليل أقوى - أحق من الآخر.

لكن مع كل ذلك لابدَّ من كون الوجوب هو المقدَّم في أصالته لو لم تكن قرائن غير الأصل موجودة لكونه قد دلَّت عليه الأدلَّة الأربعة وهي الكتاب والسنَّة واللغة والعرف.

إذن نبقى نقول -- عوداً على ما مضى وتوكيداً له -- إذا كان قصد هذا القائل بالوجوب هو الوجوب اللغوي فلابدَّ من القول في مقابله بأنَّه الشَّرعي لما مضى بيانه، وإذا كان قصده هو الشَّرعي فهو المقصود والمنشود.

إلحاق

ويلحق بدلالة لفظ الأمر على الطَّلب الجامع للوجوب والنَّدب الكلام عن الأكثر من الاثنين، لأنَّ دلالته على الأكثر كالدِّلالة على الاثنين في نظر القائل بذلك إذا كان الجامع للجميع هو الطَّلب لا غير من أحد معانيه المناسبة الأخرى من غير الوجوب والنَّدب ممَّا سبق ذكره كالآيات الَّتي تجمع هذا الأكثر في الطَّلب الواحد

ص: 152

مثل قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ](1) أي الَّتي قد يكون من غرض الواعظ بها هو الأمر بالإقلاع عمَّا يحرم من إساءة الظن وعمَا يكره وحتَّى عمَّا يستحب لما مرَّ بيانه عنه من أنَّه قد يحمل هذه الثَّلاثة ولا غرض لهذا الواعظ سوى أصل الإقلاع، لئلاَّ يتورَّط المكلَّف بارتكاب ما كان محرَّماً بل حتَّى ما كان مكروهاً في طريق الظان وإن جاز ارتكابه وفيه يسير من المبغوضيَّة بل حتَّى المستحب الرَّاجح فعله بترجيح تركه لو اختلط بالظن العام الَّذي صار عرضة للإشتباه بالمحرَّم أو المكروه تخلُّصاً من ذلك المحرَّم أو المكروه، وهكذا الإنذار والتَّهديد إذا ناسب أحدهما مثلاً نص يقصده مع الوجوب والنَّدب، أو الإذن الشَّامل للوجوب والنَّدب والإباحة، وإنَّ الدَّليل الَّذي ذكره القائل في الطَّلب للاثنين هو نفسه جار في الأكثر وإنَّ ردَّه هناك جار هنا أيضاً وهو دلالة الأدلَّة الأربعة على الوجوب والباقي خاضع للقرائن مع تعليقنا نفسه عليه.

الخامس عشر- دلالة الأمر على الاشتراك لغة

ومن تلك البحوث الَّتي تطرَّق إليها الأصوليُّون حول الأمر وملحقاته للكلام عن دلالته الَّتي ادَّعاها جماعة منهم بما هو أوسع من الوجوب أو النَّدب هو الاشتراك اللَّفظي الجامع بين الاثنين، وإن أحوج فهم كل منهما بخصوصه إلى القرينة المعيِّنة المراد، لإمكان دلالة هذا الأمر على كلِّ منهما من حيث المبدأ للإيجابيَّة المرتبطة به حين تعريف كلِّ منهما بما مرَّ ذكره، ولعدم المانع من حمله كلاًّ منهما في الجملة طولاً أو عرضاً بعموم الرُّجحان، وهذا ليس بضائر.

وإنَّما المهم هو دلالته عليهما معاً بكلِّ خصوصيَّاتهما وفي آن واحد وهو ما

ص: 153


1- سورة الحجرات / آية 12.

يحتاج إلى برهنة هؤلاء الجماعة على مدَّعاهم.

لكون هذا الادِّعاء يزاحم ما سلف ذكره من حمله خصوص الوجوب مع واضح أدلَّته الماضية شرعاً بعد ادِّعاءهم أوَّلاً لغة بأدلَّة قد نقضت.

وهكذا من حمله الاستحباب فقط على رأي من يدَّعي ذلك بالأدلَّة الَّتي أرادوها وبما كان أقوى من الاشتراك وإن نقضتها أدلَّة الوجوب الشَّرعي.

وهكذا من حمله ما يتناسب مع مطلق الطَّلب بأدلَّته الَّتي أتى بها مدَّعوا ذلك وبما كان أقوى عندهم وعند غيرهم من هذا الاشتراك اللفظي وإن فنِّدت أدلَّة هذا بأدلَّة القول بالوجوب الماضي لولا القيام بهذه البرهنة من مدِّعي الاشتراك لمعرفة قوَّتها من ضعفها أمام الأدلَّة الماضية.

فلنذكر شيئاً أو بعض شيء ممَّا قالوه لتقويم مدَّعاهم ولو بتصرُّف منَّا لغرض المناقشة والوصول إلى الحق في المقام:-

احتج السيد المرتضى قدس سره - على أنَّ صيغة الأمر مشتركة لغة بين الوجوب والاستحباب اشتراكاً لفظيَّاً في مقابل ادِّعاء خصوص الوجوب له لغة - بأنَّه:-(لا شبهة في استعمال هذه الصِّيغة في الإيجاب والنَّدب معاً في اللُّغة والتَّعارف والقران والسنَّة، وظاهر الاستعمال يقتضي الحقيقة)(1)، أي اللغويَّة.

وهو ما يلِّوح من السيِّد قدس سره أنَّ هذا لم يكن بمصادفة الاستعمال النَّادر، وإنَّما من الكثرة المفيدة لهذا التَّبادر.

وبناءاً على هذا يكون هو المأخوذ به دون القول بالوجوب اللُّغوي في مقابل الشَّرعي، الَّذي قد يدَّعى له مجرَّد الوضع اللُّغوي له من دون معرفة أنَّه استعمل كاستعمال الأمر للاشتراك اللُّغوي في الاثنين في اللُّغة والتَّعارف والقرآن والسنَّة، وعليه فلا يُعدل عن هذه الحقيقة إلاَّ بدليل.

ص: 154


1- الذَّريعة إلى أصول الشَّريعة / السيد المرتضى ج 1 ص52.

ثمَّ قال: (وما استعمال اللَّفظة الواحدة في الشَّيئين أو الأشياء إلاَّ كاستعمالها في الشَّيء الواحد للدَّلالة على الحقيقة).

وهو ما قد لا يمنعنا أن نضيف منَّا أكثر من ذي قبل وعلى مستوى هذا المبنى أيضاً من إمكان حمل الأمر أكثر من اثنين كما سيأتي، ومن دون أن يكون ذلك مقصوراً على الأمر كذلك، فلا غرابة في أمره حينئذ.

وأجابه صاحب المعالم قدس سره عن هذا الاحتجاج بتوضيح منا:-

(أنَّا قد بيَّنَّا أنَّ الوجوب - وحده - هو المتبادر من أطلاق الأمر عرفاً، ثمَّ إنَّ مجرَّد استعمالها - أي الصِّيغة - في النَّدب لا يقتضي كونه حقيقة فيه أيضاً، بل يكون مجازا لوجود إمارته وكونه خيراً من الاشتراك.

وقوله ]إنَّ استعمال اللفظة الواحدة في الشَّيئين أو الأشياء كاستعمالها في الشَّيء الواحد في الدِّلالة على الحقيقة[ إنَّما يصح إذا تساوت نسبة اللفظ إلى الشَّيئين أو الأشياء في الاستعمال إمَّا مع التَّفاوت بالتَّبادر وعدمه أو بما أشبه هذا من علامات الحقيقة والمجاز فلا، وقد بيَّنَّا ثبوت التَّفاوت)(1).

وما ذلك إلاَّ أنَّ المجاز خير من الاشتراك، فكيف الحقيقة.

ولكن نحن نقول أيضاً: أنَّ هذا الوجوب ما دام لغويَّاً في نظر من يرفض الاشتراك فلا يمكن الرِّضا به، بعد ما مرَّ كثيراً ممَّا يمنعه من كون اللُّغة مختلطة قبل الإسلام، إلاَّ فئة خاصَّة منها ومن قواميسها ارتبطت بالاصطلاح الشَّرعي.

وإن كان هناك نوع وجوب عقلي لا يذهب عن البال وله ألفاظه المستقلَّة، لكنَّه لا يضاهي الشَّرعي وإن أمكن دخوله في عمقه عرفانيَّاً، لأنَّه لا يزاحم أصالة الوجوب الشَّرعي المصطلح، بل المتعيَّن هو الشَّرعي.

وأدلَّة من يقول باللُّغوي إمَّا عائدة إلى الشَّرعي، أو أنَّها لا تصلح كي تكون أدلَّة

ص: 155


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص51 - 52.

لخصوص الوجوب له، لقوَّة الاشتراك اللُّغوي لما مرَّ من اختلاط اللُّغة القديمة بما لا نظام خاصٌّ فيها يؤهلها لخصوص الوجوب اللُّغوي وحده أو الاستحباب وحده فيتساوى المعنيان، فيحل الاشتراك بما لا مقاومة منه للوجوب الشَّرعي إن جاءت مقوِّماته.

وعليه فما ذكره صاحب المعالم قدس سره من كون المجاز خيراً من الاشتراك فهو وإن كان في محلِّه من حيث المبدأ، ولكن لا يقبل إلاَّ إذا ثبت موضوعه، وهو غلبة الوجوب في اللُّغة على النَّدب من جميع النَّواحي بسبب كثرة الاستعمال، ليكون شبيه الحقيقة بتبادره إلى الذِّهن من هذه القرينة في ظلِّ الاصطلاح الفقهي الشَّرعي وازدهاره دون غلبة الوجوب في العرف الشَّرعي.

لأنَّ الشَّرع لا يخضع للغة، وإنَّما اللُّغة هي الخاضعة إلاَّ ما سبق استثناؤه من الرُّجوع إلى اللُّغة في المرحلة الأخيرة بعد اليأس من صراحة الشَّرع الواقعيَّة ثمَّ الظاهريَّة ثمَّ العرفيَّة.فلا محلَّ إذن لهذا المجاز فلا يبقى إلاَّ الاشتراك مع افتراض البقاء على اللُّغة.

نعم لا نبالغ في هذا الاشتراك دوماً لو ضعف الوجوب لغة في أبوابه نسبيَّاً وحلَّت غلبة النَّدب من كثرة استعماله، لإمكان حمل النَّدب على المجاز المحتاج إلى القرينة.

وعندها يكون المجاز خيراً من الاشتراك، إلاَّ إذا حصل التَّساوي بين الاثنين بما لا يمكن الفرار من الاشتراك بينهما أو صارت غلبة النَّدب في قبال هجران الوجوب ليكون النَّدب حقيقة في بابه والوجوب مجازاً في بابه لا يظهر من أوامره إلاَّ عبر القرينة الصَّارفة.

وهذا كلُّه نحن في غنى عنه ما دمنا مع الحقيقة العرفيَّة الشَّرعيَّة في ظلِّ اصطلاحنا الفقهي الشَّرعي.

ص: 156

وعلى هذا الأساس الَّذي ثبتنا عليه يمكن أن يكون النَّدب في مقابله مجازاً لا أكثر ما لم تحصل غلبة استعمال النَّدب في قبال هجران الوجوب الشَّرعي، ليكون الوجوب هو المحتاج إلى القرينة عكس النَّدب إن قبلنا مصاديقه النَّادرة أو المساواة بسبب كثرة الاستعمال في المقامين.

وهو نادر أيضاً لا يضر مع ما سبق بقاعدة دلالة الأمر على الوجوب شرعاً.

وقد اعترف في معالمه قدس سره بما قد يفيد العموم أو الإطلاق ولو بما وجَّهناه سابقاً أو ما سيأتي (بأنَّ الوجوب هو المتبادر من اطلاق الأمر عرفاً)(1).

ومعلوم من سياقات كلماته الماضية أنَّه العرف اللغوي الَّذي لابدَّ أن ينسجم مع الشَّرع، بل إنَّه المنسجم معه حينما تأتي مصاديقه معه في حينه، لما مرَّ ذكره من حمل اللغة أيَّام الجاهلية جميع المطالب المتنوِّعة حتَّى في اللفظ الواحد، إمَّا بنحو الاشتراك أو الحقيقة والمجاز وبما لا يخص عهداً بعينه أو عرفاً بخصوصه حتَّى العرف الشَّرعي الخاص في زمن الإسلام الَّذي ترسَّخت اصطلاحاته الخاصَّة من زمن كثرة الاستعمال الأوَّل تعيُّناً أو تعييناً الأوَّل إلى هذا الحين.

وعلى فرض عدم انسجامه مع الشَّرع لتبقى الحقيقة عنده قدس سره فمعناه أنَّ القرآن في آيات أحكامه والسنَّة التَّابعة لها حينما أتت على ميزانيَّة هذه اللغة العربيَّة ما أتت إلاَّ لمعاني قد تخرج عن مضامين الإسلام والاستقامة الشَّرعيَّة كثيراً وهو غير مقصود بأقل تقاديره عنده قدس سره حتماً لأنَّه من أكابر علماء الإسلام الأصيلين.

فالعرف عنده أيضاً لابدَّ وأن يشمل عرفنا الشَّرعي بما مرَّ وبالإمضاء والتَّقرير كما سلف، ولو لم يكن إلاَّ أن نبقى معه قدس سره على هذا الإجمال لكفى.

ص: 157


1- راجع المصدر السَّابق.

إلحاق

وبعد الفراغ من مسألة الاشتراك اللغوي بين الوجوب والنَّدب لردِّ الوجوب اللغوي وحده، لابدَّ من معرفة وجود رأي يقول بإمكان الدِّلالة في الأوامر على أكثر من اثنين أيضاً مثل الثَّلاثة وهي الوجوب والنَّدب والإباحة الَّتي قد يستدل عليها بقوله تعالى [وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ](1)، حينما يمكن إفادته الجميع بمساواة اعتماداً من المستدل على الاستعمال لأنَّه أعم من الحقيقة قبل أن يكثر ويؤثِّر عليها بالإسراف المكروه.

بناءاً على أنَّ هذه الآية جمعت الأكل والشرب الواجبين الَّذين لو لم يكونا لمات أولئك المخاطبون والمستحبِّين كحالة الاستعداد للسَّفر أو العمل الشَّاق المحتاج لحسن التَّغذية بهما والمباحين للشَّهوة غير المحرَّمة بهما.

بل قد يقول رأي آخر بإمكان دلالة هذه الأوامر على الأربعة بمثل إضافة الكراهة، ويحتمل أن تكون نفس الآية الماضية هي الَّتي يمكن التَّمسُّك بها عندهم بنحو المساواة على نحو اعتبار إمكان أن يكون الأكل والشُّرب بزيادة عن مقدار الحاجة إليهما بما لم يصل إلى حدِّ الحرمة، شريطة أن لا تكون هذه الكراهة مشمولة في قوله تعالى [ولا تسرفوا]، إذا كان نهيه يراد منه الحرام، أو بناءاً على أنَّ هذا النَّهي لا يخص الحرام كالكراهة.

وهذا النَّحو من الإلحاق ذكرناه مع مضامينه مع شيء من التَّصرُّف منَّا للسيِّد المرتضى قدس سره ومن أيَّده في مقابل القول بالوجوب اللغوي فقط.

ويناسبه جرياً على ما مضى أيضاً ردَّ صاحب المعالم قدس سره الماضي عن أصل الاشتراك اللفظي.

ص: 158


1- سورة الأعراف / آية 31.

ويناسبه أيضاً ما أضفناه من التَّعليق بإمكان الاشتراك نوعاً في مقابل هذا الوجوب، وانتصارنا للقول بالوجوب الشَّرعي، وإن كان الوجوب اللُّغوي له وجوده في عموم اللغة بما لا يزاحم الشَّرعي في اصطلاحه.

السَّادس عشر- التَّوقُّف في دلالة الأمر على الشَّيء بعينه

والانتهاء إلى القول بالوجوب الشَّرعي

بعد حصول ما مضى من الخلاف والاختلاف حول الأوامر ودلالتها واستعراض كل من ذوي الآراء دليله وقوَّة بعض الأدلَّة وضعف البعض الآخر والتَّحيُّر في أمر أدلَّة أخرى في أنَّها مناسبة أم لا؟

نشأ مذهب التَّوقُّف في هذا الأمر حتَّى حاول أصحابه التَّدليل على مقصودهم بأدلَّتهم.

فاحتجَّ الذَّاهبون إلى التَّوقُف بأنَّه لو ثبت كون الأمر موضوعاً لشيء من المعاني المشار إليها فيما مضى ليثبت بدليل واللازم منتف.

لأنَّ الدَّليل إمَّا العقل ولا مدخل له لأنَّه لا يدرك أنَّ اللفظ الفلاني موضوع للمعنى الفلاني بهذه السُّهولة لا بالحقيقة لمعنى واحد أو لاثنين أو لأكثر أو لطلب واحد يجمع ما يحمله لفظان أو أكثر لمعنين أو أكثر.

وأمَّا النَّقل وهو إمَّا الآحاد فلا يفيد العلم لأنَّ في مثل هذه المسألة عمليَّة لا يكتفي بالظَّن فيها أو التَّواتر والعادة تقضي بامتناع عدم الاطِّلاع على التَّواتر ممَّن يبحث ويجتهد في الطَّلب فكان الواجب أن لا يختلف فيه بينما الواقع خلافه.

وأجيبوا: بمنع الحصر في العقل والنَّقل بالآحاد والتَّواتر وهو ثبوت الوجوب في الأدلَّة الأربعة الَّتي قدَّمناها وهي اللغة والتَّعارف والكتاب والسنَّة ومرجعها إلى تتبُّع مظانِّ استعمال اللفظ بالكثرة المرضية بنشوء الحقيقة في ذلك.

ص: 159

ونحن نجيب أيضاً بأنَّ قصد المجيب إذا كان للإفادة الوجوبيَّة اللغويَّة غير الاصطلاحيَّة فقط فلا يمكن المساعدة عليه.

لأنَّ ما ظهر من الأدلَّة الأربعة لا ينفع إلاَّ بما يعود للوجوب الشَّرعي الاصطلاحي ولو بعد الدَّلالة على الوجوب اللغوي بالإمضاء ونحوه كما مرَّ توضيحه، حتَّى لو كان عن طريق ظنِّي معتبر يغلب ما يقل عنه من أدلَّة الآراء الأخرى.

وكذلك ما تحمله الظواهر لو انعدمت النُّصوص ولم يقاومها دليل من تلك الآراء وإلاَّ لانغلق باب العلم في الشَّرعيَّات، وإن كان للإفادة الشَّرعيَّة فهو عين المطلوب.

السَّابع عشر- التَّنبيه على ما عدا الوجوب والاستحباب لغة

واصطلاحاً شرعيَّاً في مدى إرادته من الأوامر

بعد أن مرَّ الكلام عن إمكان حمل الأوامر وما يلحق بها على أكثر من الوجوب والاستحباب وبما يتناسب مع الأحكام الشَّرعيَّة من المعاني الخمسة عشر لا جميعها،وتبيَّن أنَّ الحقيقة كانت في جهة الوجوب والبواقي تحتاج إلى القرائن على ما عداه وإن حصل الكلام مختصراً فيما مضى عن الأكثر منه كما في الاستحباب، والنِّقاش فيه أو ما حصل من الأكثر منه بنحو الإشارة إليه.

فلا داعي لبسط الأكثر من تلك المعاني، لإمكان بيان بعضه في باب النَّواهي كالأوامر الَّتي مفادها وجوب التَّرك كاجتنبوا أو اتركوا أو التَّهديد والإنذار.

لعدم أهميَّة هذه ببسط الكلام فيها لوضوحها بما مرَّ تحت عنوان (دلالة الأمر في أساسه على الوجوب دون بقيَّة الأحكام) وبما سيأتي عند مجيء مناسبة أخرى له.

ص: 160

توابع الأمر

(تنبيه حول تسلسل التَّوابع الآتية)

بما أنَّ التَّوابع الآتية بعضها توابع الواجب بوضوح وبعضها توابع الأوامر العامَّة بوضوح أيضاً كما سوف يتَّضح للمتتبِّع.

ونحن جمعناها هنا تحت عنوان واحد وهو عنوان توابع الأمر وذلك رعاية للأوامر الجامعة ورعاية للواجب الشَّامل للجميع أيضاً، لكون الأوامر أبرزها الواجب كما مضى تحقيقه.

فرعاية لما رتَّبه العلماء السَّابقون للتَّسلسل الموضوعي بالدقَّة قدَّمنا توابع ما يتعلَّق بالواجب أوَّلاً، ثمَّ جعلنا ما يتعلَّق بالأوامر العامَّة ثانياً بعده للانتقال بعد ذلك إلى بحث النَّواهي المستقلَّة في خاتمة هذا الجزء بإذن الله تعالى.

والمتتبِّع النَّبيه لا تخفى عليه قرائن افراز شيء عن شيء، ومن ثمَّ إنَّ هذه التَّوابع ليس بأجمعها ذات علاقة تامَّة لأن يكون طريق علاج أمورها هو خصوص طريق غير المستقلاَّت العقليَّة، لإمكان أن تعالج عن طريق خصوص بعض الأدلَّة اللَّفظيَّة المتوفِّرة كما سيتَّضح.

التَّابع الأوَّل / وهو المرَّة والتِّكرار

معنى المرَّة والتِّكرار أو طلب الماهيَّة:-

إذا جاء نص فيه أمر أو ما يلحق به يراد امتثال مضمونه كالأمر بالصَّلاة مثلاً، فهل المطلوب من طلب الإتيان بها بعد الفراغ من دلالته على الوجوب هو صرف

ص: 161

الماهيَّة من دون أن يتقيَّد أمرها بمرَّة أو تكرار؟

علماً بأنَّ الماهيَّة هي الحقيقة المقولة في جواب ما هو، حيث أنَّه لو أتى بها المكلَّف مرَّة واحدة تحقَّقت تلك الماهيَّة، أو أتى أكثر تحقَّقت أيضاً، ككامل ركعات اليوميَّة- أو كصلوات كلِّ أيَّام الحياة الواجبة وبنفس مستوى الوجوب وهي الماهيَّة المسمَّاة منطقيَّاً بالماهيَّة اللا بشرط.

لكونها تجتمع حتَّى مع ألف شرط على حد قول المنطقيِّين، بلا خصوص المرَة ولا خصوص التِّكرار.

وإن كانت المرَّة هي الَّتي لابدَّ أن تكون مصداقاً للامتثال على الأقل، وإن تجاوز المصداق الواحد عن أوَّله فغير ممنوع منطقيَّاً إذا كان المراد من نصوص الشَّرع هو ذلك على نحو الحقيقة.

أو أن يكون التِّكرار لغواً في بعض مقامات أخرى، أو الاعتزاز بكون ذلك الأمر في إيجابه جارياً في كلِّ صلاة يحل وقتها حينما لا لغويَّة فيه إذا كان المقصود خصوص المرَّةالواحدة لا أكثر وهو ما يسمَّى بشرط لا؟.

بمعنى أنَّه إذا أريد التِّكرار فلابدَّ من مجيء الأمر مرَّة ثانية له، وكذلك الثَّالثَّة للأكثر، وهكذا لو نصبت قرينة إضافيَّة للأمر الأوَّل تدل على ذلك، لخصوصيَّة في النَّص أيضاً لكن مع القرينة.

أمَّ أنَّ المقصود هو خصوص التِّكرار، بحيث لا يكتفي بخصوص المرَّة الواحدة لدخولها في المكرَّر، وهو ما يسمَّى عندهم بالماهيَّة بشرط شيء، أي إذا أريد التِّكرار، وهو ما لابدَّ فيه من نصب قرينة لهما كذلك؟.

وعلى هذا الأساس إن استقرَّ الرَّأي على الأوَّل فلابدَّ من أن تكون إرادة الثَّاني أو الثَّالث مصحوبة بالقرينة الصَّارفة بخلاف المعنى الأوَّل لاعتباره هو الحقيقة عند تبادره وإلاَّ فلا.

ص: 162

وإن كان المعنى الحقيقي هو الثَّاني لأجل نصوصه فلابدَّ من اعتبار المعنيين الأوَّل والثَّالث أنَّهما الدَّاخلان في المعنى المجازي لحاجتهما إلى القرينة الصَّارفة.

وإذا كان المعنى الحقيقي هو الثَّالث حسبما يقتضيه نصُّه فلابدَّ من حاجة المعنيين الآخرين وهما الأوَّل والثَّاني إلى القرينة الصَّارفة أيضاً.

ويضاف إلى هذه الثَّلاثة رابع نحتاج إلى التَّعرُّف عليه وهو التَّوقُّف عن كلِّ قرار يتَّخذ على أي ممَّا مضى بمعنى لزوم إرجاع النَّتيجة - لاتِّخاذ أي معنى من الأوامر - إلى دلالة القرائن على كلِّ معنى يراد بعينه لصعوبة التَّبادر من أي معنى عند القائلين بالتَّوقُّف.

فالأقوال إذن تكون أربعة.

وفي المقام وقبل الخوض في شيء عمَّا مضى، وللتَّركيز على خصوص ما حقَّقناه سابقاً عن الوجوب ونحوه أكثر إن أمكن، كي نعرف تكليفنا من هذا التَّفريع عن أصل الوجوب الشَّرعي في آيات الأحكام وما يلحق بها.

لابدَّ من محاولة فهم المقصود - عند الأصوليِّين حينما بحثوا عن هذا الأمر وناقشوا فيه - بأنَّه هل كان حول هذا الأمر من النَّاحية اللغويَّة العامَّة أم اللغويَّة الخاصَّة المرتبطة بالعرف الشَّرعي وآيات أحكامه وتوابعها؟

لنعرف أنَّه لو كان المقصود هو الأخير لكان بحثه ذا ثمرة عمليَّة سريعة في الأصول إن تمَّت نتائجه كما يرام.

ولو كان هو الأوَّل لكان إمَّا معرضاً عنه أو بطيئاً في إنتاجه لحاجته إلى التَّوجيه بمثل خضوعه إلى الأعراف الشَّرعيَّة الخاصَّة الَّتي توَّلدت في ظلِّ الإسلام حين هجران الأعراف العامَّة أو بقاء دلالة أوامرها على عموم وإطلاق الألفاظ اللغويَّة في عالمها الآخر، الَّذي لا يخدم سوى المنطق العام أو ينسجم معه المنطق العام (خادم العلوم)، لا علم الأصول المسخَّر لخدمة خصوص الفقه ومداركه اللَّفظيَّة وغيرها

ص: 163

وتوليد القواعد والطُّرق الممهدة لاستنباط أحكامه بأسهل ما يمكن؟

وعل كلِّ فقد يتبيَّن عنهم شيء مفهم للمقصود حينما نعرض ما عرضوا أوَّل قول من أقواله الأربعة الآتية ممَّا يجعلنا منتبهين إلى ما نبحث عنه وندقِّق فيه وعنه بصورة نافعة أكثر ولو بالعلاج.

أوَّل الأقوال طلب إيجاد الحقيقة:-

وهو أن يكون المطلوب من الأمر صرف وجود الشَّيء بلا قيد ولا شرط، بمعنى أنَّه يريد الآمر أن لا يبقى مطلوبه معدوماً ولو بفرد واحد، وبه لا محالة يتحقَّق الامتثال، كما لا يمنع من الأكثر، إلاَّ أنَّه قد يكون لغواً، ومثَّلوا لذلك في باب الفقهيَّات بالصَّلاة اليوميَّة.

وممَّن قال بهذا القول صاحب المعالم قدس سره وهو الَّذي كان يرى أنَّ الأوامر تدل على الوجوب لغة لا شرعاً.

وقد سبق عرض ذلك ومناقشته وبعدها ما سنعرضه الآن عنه في المقام تفريعاً ممَّامضى ممَّا سوف يتبيَّن ميله كذلك إلى النَّحو اللغوي.

فورد عنه قوله مع بعض التَّصرُّف منَّا (الحق أنَّ صيغة الأمر بمجرَّدها - أي إذا تجرَّدت من قرائن المرَّة أو التِّكرار - لا إشعار فيها بوحدة ولا تكرار وإنَّما تدل على طلب الماهيَّة - أي حقيقة الشَّيء - لأنَّ المتبادر من الأمر طلب إيجاد حقيقة الفعل والمرَّة والتَّكرار خارجان عن حقيقته كالزَّمان والمكان ونحوهما، فكما أن قول القائل اضرب غير متناول لمكان ولا زمان ولا آلة يقع بها الضرب كذلك - هو - غير متناول للعدد في كثرة ولا قلَّة)(1).

وهذا البيان منه قدس سره يظهر منه بعد جعله تفريعاً عن أصل الوجوب أن أوامره لا

ص: 164


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص53.

تفيد سوى طلب إيجاد الحقيقة لغة كذلك وكما أشرنا.

وهو ما لا نرتضيه من حيث المبدأ وإن كان لا يهمُّنا أمر هذا التَّفريع، لإمكان علاجه مثل ما أهمَّنا أصل الوجوب، وهو الأساس حينما أكثرنا في مناقشته سابقاً ورجَّحنا القول بالوجوب الشَّرعي لا اللُّغوي.

لمسيس الارتباط بالتَّعرُّف على المراد من نصوص آيات الأحكام خاصَّة، إلاَّ إذا تطابقت اللُّغة العامَّة والشَّرع على منهجيَّة واحدة قبل الإسلام أو يقوم مقام اللُّغة العامَّة مع الشَّرع اللُّغة العرفيَّة الخاصَّة.

وأمَّا ما أراده قدس سره من أنَّ الأمر لا يدل إلاَّ على طلب إيجاد الحقيقة، فهو كما قال من حيث المبدأ كذلك وكما سيتَّضح دليله أكثر من ردود أدلَّة الأقوال الأخرى الآتية، لكن على النَّهج الشَّرعي لا اللُّغوي، كما أشرنا وكما سيأتي من النَّظائر المؤكدة.

فنحن بما أنَّنا قد ركَّزنا على أخذ الوجوب العرفي الشَّرعي فلا يمكن بعد ذلك قبول ما يقابله لاختلاف المصاديق بين المقامين، وإن كانت اللُّغة ومعانيها - ومنها الوجوب العقلي - لا يمكن إنكارها بالمرَّة، بل يمكن انضمام بعضها تحت ظلِّ الشَّرع وبما يختلف عن وضعها الأوَّل.

فبالإمكان عندئذ قبول هذا التَّفريع عن دلالة الأمر على الوجوب ممَّا بيَّنه صاحب المعالم قدس سره، لكن على ضوء مسلكنا حسب، لعدم وجود الموانع عنه، ولإمكان الاتِّفاق عليه من حيث النَّتيجة.

فدلالة طبيعة الأمر بالضَّرب - وهو المعنى المصدري للفعل - هي المتعيِّنة دون غيرها وهي اللا بشرط.

لأنَّ الوجهين الأخيرين قبل الرَّابع - وهما ما كان بشرط لا وبشرط شيء إذا أريد كل منهما وحده دون الآخر - يحتاجان إلى بيان زائد على مفاد أصل الصِّيغة

ص: 165

وإطلاقها، والأصل عدم الحاجة إليه للوضوح الحاصل.

وإن صحَّ أن يأتي المأمور بكل منهما لا بقيدي القولين الثَّاني والثَّالث كالضَّرب المكرَّر أو غير المكرَّر إذا لم يمنع من أحدهما الآمر قبل إذ أو بعدئذ، وبلا فرق بين المادَّةوهي (ض - ر - ب) والهيئة وهي صيغة (اضرب) مثلاً أو كلمة (صلِّ) الَّتي ترتبط بالمادَّة وهي حروف الصَّلاة والهيئة وهي هذا الأمر الوارد.

ثاني الأقوال إفادة المرَّة فقط:-

وهو أن يكون المطلوب هو الوجود الواحد بقيد الوحدة، فلو أتى المكلَّف حينئذ بالمأمور به مرَّتين لا يحصل الامتثال أصلاً، كتَّكبيرة الإحرام للصَّلاة، فإنَّ الإتيان بالثَّانية عقيب الأولى مبطل للأولى، وهي تقع باطلة إلاَّ بالثَّالثة، وهي المرَّة المرادة أو الأولى الَّتي لا ثانية بعدها، عدا ما لو نصَّ على الإضافة الاستحبابيَّة غير الوجوبيَّة الخارجة عن إطار بحثنا من المثال.

واستدلَّ من قال بالمرَّة أيضاً: بأنَّه إذا قال السيِّد لعبده ادخل الدَّار فدخلها مرَّة عدَّ ممتثلاً عرفاً، ولو كان للتِّكرار لما عدَّ كذلك.

ولكن جاء الجواب له: بأنَّه إنَّما صار ممتثلاً لأنَّ المأمور به وهو الحقيقة حصل بالمرَّة، لا لأنَّ الأمر ظاهر في المرَّة بخصوصها كما يتوهَّم.

إذ لو كان كذلك لم يصدق الامتثال فيما بعدها وهو حاصل لا محالة في طبيعة القدر المشترك بين المرَّة والتِّكرار في لسان الأوامر عرفاً.

وبالأخص إذا أدخلنا الشَّرع مع اللُّغة لكون مكرَّر الدخول في الدَّار لا يمنع من أن يعد ممتثلاً أيضاً، كما لو طلب منه دخولها لسقي الماء فدخلها بسقي ناقص غفلة أو اشتباهاً ثمَّ دخلها بعد ذلك لإكمال السَّقي، ومن ذلك كون توفُّر الماء الكافي محتاجاً إلى هذا التِّكرار.

ص: 166

وعليه فلسان الشَّرع في مثل المنع من تثنية تكبيرة الإحرام إلاَّ بالتَّثليث مثلاً، لأنَّ المراد الأوَّل هو المرَّة الأولى لا أكثر أو الثَّالثة، وهي نفسها المرَّة مكان الأولى ما جاءت إلاَّ من العرف الخاص في الشَّرع، أو من اللُّغة المنسجمة مع الشَّرع، بما قرَّرناه سابقاً بالمرَّة الَّتي تقول بها الطَّبيعة الفقهيَّة الَّتي قد يكون التِّكرار عندها لغواً لكن لا يمنع من تكرارها الاستحبابي منه إلى ثلاث أو خمس أو سبع أحدها تكبيرة الإحرام حتَّى لو تأخَّرت على ما يُصرَّح به في الرَّسائل العمليَّة لمباني ذلك العلميَّة الَّتي في محلِّها.

وإلاَّ فلابدَّ من التَّفريق لتهذيب البحث من المفارقات بين اللُّغة والشَّرع في أصل الموضوع، حينما يتنافر المقصودان والبقاء على ما يجمعهما على الموحِّد الَّذي فيه خضوع اللُّغة للشَّرع دون العكس أو خضوع أهل الشَّرع في أيَّام الغيبة في بعض الأحوال إلى اللُّغة الخاصَّة غير المضرَّة بالقرار الشَّرعي إذا انتهت مباني الشَّرع الأربعة كلِّها، وما بقي إلاَّ العرف الشَّرعي المستفاد من القواميس اللُّغويَّة القريبة من مبانينا كما مرَّ بيانه.

ثالث الأقوال: إفادة التِّكرار:-

بأن يكون المطلوب هو الوجود المتكرِّر بشرط تكرُّره، فيكون المطلوب هو المجموع بما هو مجموع، فلا يحصل الامتثال بالمرَّة أصلاً كركعات الصَّلاة الواحدة ثنائيَّة أو ثلاثيَّةأو رباعيَّة أو اليوميَّة الخمسة بركعاتها السَّبعة عشر ونحو ذلك من المصاديق إذا عُدَّت هذه الرَّكعات على اختلاف بعضها عن بعض تكراراً.

وقد استدلَّ القائلون به بوجوه ثلاثة، قد رُدَّ كل منها بما يأتي بعد استعراض أفرادها.

الوجه الأوَّل: إنَّ صيغة الأمر لو لم تكرَّر وأريد تكرارها لما تكرَّرت الصَّلاة

ص: 167

والصَّوم في فرائضهما المستمرَّة قطعاً.

ففي الصَّلاة فرائض معلومة مكرَّرة في كل يوم بركعاتها المرتبطة بالصَّلوات الخمس وفي الصَّوم أداؤه كل يوم من أيَّام شهر رمضان ومن كل عام.

ولكن أجيب عن هذا القول بالمنع من هذه الملازمة دائماً، لإمكان أن لا يكون هذا الأمر للتِّكرار أصلاً، ولكنَّه لا يمنع منه فتتكرَّر الصَّلاة والصَّوم.

لأنَّ كلاًّ منهما لعلَّه جاء من دليل آخر لا من نفس الصِّيغة القرآنيَّة الأولى، كآية ثانية من باب تفسير القرآن بالقرآن، أو من أقوال النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والعترة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كالسنَّة بتفاصيلها، أو إجماع بما يرتضى منه، أو تقييد بعلَّة أو شرط مع بقيَّة الأدلَّة من الأصول إن كانت وانسجمت، وبالأخص ركعات الصَّلاة حتَّى إذا لم يتفاوت بعضها عن بعض في الكيفيَّة، كصلاة الصَّحيح في بدنه أو الأدنى من المعوَّقين ممَّا لم يسقط كل منهما عن كلِّ مكلَّف بحال أداءاً وقضاءاً عند الفوت من كلِّ يوم عدا الحائض والنُّفساء ما عدا الصَّوم.

فإنَّ الصَّوم في بعض أحواله لمَّا كان فرضه بقرينة كون شهر رمضان زمناً له، وهو لمعنى واحد ظاهراً واستمراريَّة أوامره له في كلِّ عام وإن كان لثلاثين يوماً.

فلا نمنع من تكراره الشَّهري إلاَّ بنحو القيد من نفس النُّصوص القرآنيَّة لآيات الأحكام وتعداد أيامه داخلي، فيستحب قصد شهره من أولَّه بالنيَّة الموحَّدة على ما قرِّر في الفقه.

ولذا قد ينقطع التَّكليف بعد صلاة واحدة أو صوم يوم واحد.

إضافة إلى أنَّ استدلال المستدل على ذلك كان من نوع حمل الألفاظ اللغويَّة لذلك لا كما هو مفصَّل شرعاً.

ولو تنزَّلنا وقبلنا بأنَّه جاء من نفس الصِّيغة لوحدها، فما العذر في الحج الَّذي جاء التَّكليف به من صيغته لوحدها في العمر كلِّه مرَّة واحدة.

ص: 168

نعم يمكن أن يكون الأمر حاملاً للمعنى المتكرِّر مستمرَّاً، لكن لا لأجل الأداء المتكرِّر للامتثال كما يتوهَّم، وإنَّما للتَّنبيه على ذلك الفرد الواجب أو أفراده المتكرِّرة الَّتي تأتي واجبة بقرائنها لئلاَّ يتخلَّف المكلَّف عنها في أزمنة وجوبها أو إمكانها، ولأجل أن يكون ذهن المكلَّف مستقرَّاً على هذا التَّكليف ناوياً أداءه لا أكثر، ولكن هذا المعنى لا يظهر من طرح المستدل في استدلاله السَّابق.

الوجه الثَّاني: إنَّ النَّهي يقتضي التِّكرار كالنَّهي عن (شرب الخمر) لاستمرار حرمته في كلِّ يوم وساعة، وهكذا النَّواهي عن المحرَّمات الأخرى، فكذلك الأمر قياساً عليه بجامع اشتراكهما في الدَّلالة على الطَّلب.

ونزَّل القائلون بذلك هذه الصِّيغة منزلة قول النَّاهي (لا تشربها أبداً) أو الآمر (اتركهاأبداً).

ولكن أجيب عنه من ناحيتين:-

أولاهما: إنَّ قياس الأمر على النَّهي قياس في اللُّغة، واللغة توقيفيَّة فهو باطل، لأنَّها لا تثبت إلاَّ بالنَّقل وهو مقصور على ما ورد منها حتَّى لو قلنا بجوازه في الأحكام الشَّرعيَّة كقياس حرمة النَّبيذ بحرمة الخمر لجامع العليَّة بينهما.

وقد مرَّ التَّفريق ما بين خصوص الأمر وخصوص النَّهي وإن اجتمعا في الجملة والتقت صيغة كلِّ منهما مع الأخرى كذلك في مصداق واحد وهو الصَّلاة في (صلِّ) المردَّد بين الموسَّع والمضيَّق في صلاته و (لا تترك الصَّلاة) الصالحة بالدَّرجة القطعيَّة في ضيق الوقت، لوجود التَّفاوت بين المثالين وترك المسكر في (اترك المسكر) أمراً و (لا تشربه) نهياً، لاختلال هذا في الأمثلة الأخرى.

لأنَّ اختلاف الألفاظ يدل على اختلاف المعنى ولو في الجملة، فلا يقاس أحدهما على الآخر كما سيتَّضح.

وثانيهما: بيان الفارق بين الأمر والنَّهي، فإنَّ النَّهي بصيغته يقتضي انتفاء

ص: 169

الحقيقة، وهو إنَّما يكون بانتفائها في جميع الأوقات، لأنَّ انتفاء الماهيَّة موقوف على انتفاء جميع الأفراد المنهي عنها تقديراً فيها، وترك المنهي عنه بالمرَّة لا يعني خصوص التِّكرار للفعل المحرَم، لأنَّ صحَّة تعقُّله في الذِّهن تقديريَة حتَّى مع وحدانيَّته في الخارج، لأنَّه يتحقَّق بالتَّرك مرَّة واحدة مستمرَّاً، وإنَّ الأمر يقتضي إثباتها وهو يحصل بمرَّة لأنَّ الماهيَّة إيجاباً توجد بفرد واحد.

وعليه فالنَّهي إن اقتضى التِّكرار بما صوِّرناه ليس معناه أن الأمر كذلك قطعاً.

وأيضاً التِّكرار في الأمر إن حصل فرضاً يكون مانعاً من فعل غير المأمور به ممَّا يحتاج إليه، لامتلاء الزَّمان بتكاليف الامتثاليَّات المكرَّرة افتراضاً بخلافه في النَّهي.

إذ التُروك تجتمع وتجامع كل فعل، فإنَّ قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ](1) - وهو الَّذي فيه الصَّلاة المأمور بها فيما شاء الله من الآيات والأدلَّة الأخرى - يستفاد منه بأنَّ الفعل المأمور به وإن كان واحداً، فهو قابل لأن يجتمع معه ومع غيره تروك عديدة كترك الزِّنا وشرب الخمر واللواط والقمار والشَّتم والضَّرب اعتداءاً والكذب ونحو ذلك الكثير من كبائر المعاصي.

إضافة إلى أنَّ تنزيلهم الأمر - حين إرادتهم منه التِّكرار ومنزلة إرادة ذلك منه أبداً - لعلَّه كان مرادهم منه معنى ما يجب إجراء الواجب منه في الوقت الموسَّع لا المضيَّق أو الخاص ممَّا لا يمكن التِّكرار فيه، وهو الَّذي لا ينافي معنى الوجوب لتلك المرَّة الواحدة المحقِّقة للماهيَّة الَّتي نراها.

وهو ما يناسب معنى التَّراخي الآتي ذكره في التَّابع الثَّاني وهو الكلام عن الفور والتَّراخي، بمعنى صدق تكرار أمريَّة الأمر أو نهييِّة النَّهي موزَّعة على أزمنة الإمكان المتعدِّدة من الموسَّع، لتكون حصَّة الزَّمن الأوَّل إذا أدَّى فيها الواجب أو ترك المحرَّم بلاداعٍ للتِّكرار ، وإذا لم يحصل ذلك فيه ففي الزَّمن الثَّاني وإذا لم يحصل كذلك

ص: 170


1- سورة العنكبوت / آية 45.

ففي الثَّالث، وهكذا إلى أخر أزمنة الإمكان، وعلى هذا فلا تكرار إلاَّ في الصِّيغة.

والقول به وحده لا ينافي القول بطلب الماهيَّة في الفعل كالأمر بالصَّلاة وفي النَّهي كترك شرب الخمر أو ترك الصَّلاة وهو المسمَّى بطلب ترك المحرَّم أثناء الصَّلاة.

لأنَّ هذا الطَّلب في واقعه واحد يصدق في كلِّ زمان من الوقت الموسَّع الَّذي ذكرناه، وعند ذلك يصح قياس أحد الأمرين على الآخر، ولكنَّه لا يخرج عن مصاديق طلب الماهيَّة.

وأمَّا إذا كان المأمور به يمكن أن يتعدَّد بتعدُّد هذه الصِّيغة المتكرِّرة بما وجَّهناه من الافتراض لغة فليس بممكن شرعاً، إلاَّ إذا بطل الامتثال الأوَّل، وهكذا في الامتثال الثَّاني فيعاد ثالثاً وهكذا بواقي التُّروك، وهو خارج عن الفروض الاعتياديَّة من هذا البحث.

الوجه الثَّالث: إنَّ الأمر بالشَّيء نهي عن ضدِّه، والنَّهي يمنع عن المنهي عنه دائماً فيلزم التِّكرار في المأمور به.

فيكون على هذا معنى (اضرب) طلب الضَّرب دائماً من دون كفاية المرَّة، لأنَّه بهذا التَّفسير يعني إذا كان ترك الضَّرب منهيَّاً عنه دائماً حسب تعريف الأمر كان فعل الضَّرب مأموراً به دائماً كذلك، وهكذا جميع الأوامر الأخرى.

ولكن أجيب عن هذا بعد قبول كون الأمر بالشَّيء نهياً عن ضدِّه الخاص في جميع الحالات لما قد سبق الكلام حوله إلاَّ بتوجيه وكما سيتَّضح أو تخصيص ذلك الأمر بالنَّهي عن ضدِّه العام وإرادة التَّرك منه بمنع كون النَّهي الَّذي في ضمن الأمر مانعاً عن المنهي عنه دائماً، بل يتفرَّع على نوع الأمر الَّذي هو في ضمنه.

فإن كان النَّهي مستقلاًّ فيدل على الدَّوام كقول الشَّارع لا تكفر ولا تشرك ولا تغتب ولا تزن ولا تكذب ونحو ذلك كما سيتَّضح بيانه في الجزء الثَّاني قريباً بلا إمكان صدق الملازمة.

ص: 171

وإن كان النَّهي في ضمن الأمر ويتفرَّع عليه كقول الشَّارع لا تترك الصَّلاة المستفادة من (صلِّ)، فيدل على عدم الدَّوام إذا امتثل وصلَّى صلاته.

ونظير ذلك الأمر بالحركة، فإن كان الأمر بها دائماً فإنَّه يقتضي المنع من السكون دائماً، وإن كان الأمر بها في ساعة حسب فيقتضي المنع عن السكون فيها لا دائماً وهما بعيدان عن كل ملازم.

ولذلك نرى الله تعالى في كتابه العزيز لم يجمع مفادي الأمر والنَّهي في واحد من لفظيهما ينحو مستمر مع إمكان التقاءهما في الجملة المعهودة خارجاً.

بل فرَّق بينهما في آيات مرَّت ومنها قوله [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا](1) فما جمع فيه بين الأمر والنَّهي بالأمر حسب ولا بينهما بالنَّهي حسب للفوارق الَّتي أشرنا إليها.وإن التقى كل من الأمر والنَّهي في بعض الحالات فلا دلالة فيه على لزوم حالة واحدة من الحالتين، لا من خصوص الأمر ولا من خصوص النَّهي.

ولذا صار المعروف معروفاً والمنكر منكراً، وهما الاثنان المعروفات من فروع الدِّين العشرة.

إلى غير ذلك من آيات ونصوص أخرى من هذا القبيل، ولو لاحتمال استقلال هذا النَّهي عن الأمر الَّذي لا يعلم سرَّه إلاَّ الله تعالى والرَّاسخون في العلم هم الأدلاء عليه، وقد قال تعالى في مقام مناسب لذلك [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا](2) وغيره.

ولذا جعل الحدود والتَّعزيرات توقيفيَّة لا يحق تجاوزها، إضافة إلى أنَّ الحكم للشَّرع لا للغة وكما سلف بيانه.

ص: 172


1- سورة الحشر / آية 7.
2- سورة البقرة / آية 187.

رابع الأقوال: القول بالتَّوقف عن خصوص المرَّة والتِّكرار وكلِّي الطَّبيعة.

فإنَّه قد يحار المرء حينما تتكاثر الآراء وتتزاحم الأفكار عليه في المسألة الواحدة وتزداد الاحتمالات بكثرة الشُّبهات من هنا وهناك عنده، وبالأخص إذا كان سطحيَّاً في نظراته أو لم يدقِّق الفكر جيداً.

ومن ذلك ما جاء من الكلام عن الأوامر في المرَّة والتِّكرار وكلِّي الطَّبيعة إلى أن وصل في البعض إلى القول بالتَّوقف وعدم التَّصميم على قرار معين عمَّا مضى.

واحتجُّوا لمطلوبهم كما احتجُّوا في قضيَّة الوجوب الَّذي مضى ذكره للأوامر ونحوه من الأحكام حينما قالوا بالتَّوقُّف هناك.

فقالوا بالتَّوقُّف هنا كذلك، وكانت حجَّتهم بأنَّه لو ثبت شيء من هذه المعاني الثَّلاثة لثبت بدليل وهو إمَّا العقل أو النَّقل:-

والأوَّل: لا مدخل له لأنَّه لا يدرك أنَّ اللفظ الفلاني موضوع للمعنى الفلاني حتَّى يختار أي هذه المعاني يشاء بحدِّ إدراكه ما دامت اللغة العامَّة لا يتحدَّد لها فكر معيَّن - لكونها في أوضاعها واستعمالاتها - متداولة عند جميع طبقات النَّاس على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم ومشاربهم.

والثَّاني: وهو الآحاد أو التَّواتر، بأنَّ الآحاد لا تفيد إلاَّ الظنيَّة الضعيفة، وبالخصوص إنَّ ضعفها لا يتناسب مع القضايا المهمَّة الكبيرة، وإنَّ الَّذي قد يعتريه من الآحاد المحفوفة بالقرائن المقويَّة للضَّعف لم يثبت منها شيء هنا، ولو كان لبان.

وإنَّ التَّواتر لو حصل لكان مانعاً من الخلاف والاختلاف، بينما الوجدان أو حتَّى ما هو الأقل نسبة -- من التَّتبُّع -- يشهدان بوجودهما، فلا مناص إذن من نتيجة هي عدم البت بشيء من ذلك.

وعليه فلابدَّ من إجراء عمليَّة استفراغ الوسع أو إضافة شيء آخر منه إليه - إن

ص: 173

سبقها نسبة غير وافية منه - في كلِّ أمر يأتي لمعرفته جيّداً عن طريق القرائن.ولكن أجيبوا - وعلى نهج ما قد مضى في أمور توقفهم في القول بالوجوب ونحوه لما نحن فيه من هذا التّابع - بمنع حصر الدَّليل بما مرَّ ذكره.

لأنَّ سبق المعنى إلى الفهم وتبادره من اللَّفظ -- ومنه الأوامر وملحقاتها في المقام وغير المقام ممَّا سبق ذكره -- يُعدَّ أمارة على وضعه له وعلى استعماله فيه، ويُعدُّ عدمها دليل على عدمه.

وقد مرَّ بأنَّه لا يتبادر من الأمر شيء إلاَّ طلب إيجاد الفعل وهو كافٍ في إثبات ما يماثله ممَّا يقصد منه تعيين مدلوله.

ولعلَّه لم يقتصر في دلالة هذه الأوامر على الكلِّي الطَّبيعي الأدائي من هذا الواجب في هذا البحث، بل قد يشمل هذا في كلامهم حتَّى القضائي كما سوف يأتي التَّعرُّض له في مجالات هذه الأمور الفقهيَّة الاستدلاليَّة المناسبة من أبواب القضاء للفوائت.

ونحن نضيف إلى هذه الإجابة وإلى ما سبقها من الأجوبة المساندة للقول الأوَّل بأنَّ كثرة النِّقاش - في هذه الأقوال الثَّلاثة الأخيرة بل حتَّى في الأربعة كلِّها وإن كنَّا قد رضينا لا محالة بالقول الأوَّل من حيث المبدأ وهو كلِّي الطِّبيعة للأوامر - لعلَّها ما جاءتنا في الظَّاهر إلاَّ من استعراض هذه الأمور عن هذه الأوامر على النَّحو اللُّغوي العام أصوليَّاً لا نحو العرف الشَّرعي الخاص.

لاختلاف الأمثلة المعروضة من الأصوليِّين في المقام المختلف فيه ما بينهم حينما يريد كل منهم أن يُنظِّرَ لمطلبه بمثال يتناسب مع مسلكه.

حيث مثَّلوا ب- (أمر السيِّد عبده)، ومثَّلوا بكلام الآدميِّين العام الشَّبيه بهذا أيضاً، وهو ما يصلح حتماً لمراد الأصولي الَّذي يرى أنَّ اللُّغة العامَّة هي المعيار وعليها المدار في تشخيص مداليل الأوامر على أن تكون الأعراف الشَّرعيَّة الخاصَّة

ص: 174

داخلة في هذا المعيار وبخضوع - لها - يمكن أن تتولَّد عن طريقه قواعد أصول الفقه اللَّفظيَّة ولوازمها.

ومثَّلوا كذلك بأوامر الله تعالى لعباده - من كتابه القرآني من آيات الأحكام وتوابعها - مباشرة - ومثَّلوا بالسنَّة الَّتي أفاضها النَّبي 5 لنا بواسطة العترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ - وهما الثِّقلان - المرتبطان بالوحي المنزل لفظاً ومعنىً، وهو ما يصلح حتماً لمرام الأصولي الَّذي يرى أنَّ العرف الشَّرعي هو ما عليه المعيار الأصيل في تشخيص مداليلها لا ذلك العموم اللُّغوي، وهذا ما يتجلَّى منه شيء من التَّفاوت.

لاعتبار أنَّ القرآن والسنَّة الخاصَّين فقهيَّاً وشرعيَّاً لا يمكن أن ينسجما تماماً مع عموم اللغة الَّذي لا يمكن أن يسانده إلاَّ المنطق العام - خادم العلوم - ومنه بعض القضايا الخارجة عن الفقه والشَّريعة من الكتاب والسنَّة بينما خصوص الشَّرع ولغته وألفاظه الاصطلاحيَّة الخاصَّة لا سند مهمَّاً له إلاَّ منطقه الخاص وهو الأصول الفقهيَّة المتعارفة والَّتي أهمُّها في المقام مباحث الألفاظ لا غير.

كيف وقد ظهر من كلا الفريقين تقريباً أنَّه مثل كل منهما لمطلبه بأمثلة الآخر أو ما يشبهها اشتباهاً ونحوه حتَّى صار الخلط المشوَّش وكثر النِّقاش بما لا طائل تحته في موارد عديدة لا تخفى على المتتبِّع.بينما لو تمسَّكنا من البداية بخصوص المعايير الأصوليَّة ونتائج البحث الأصولي المرتبط بالعرف الخاص الشَّرعي وخصوص أدلَّته مثل ما أشرنا إليه آنفاً من أوامر آيات الأحكام وما يتبعها من ألفاظ السنَّة دون الألفاظ العربيَّة العامَّة إلاَّ بما استثنيناه منها سابقاً في محلِّه ممَّا مضى.

لم تبق عندنا حيرة كبيرة، ولا يداهمنا نقاش معارض مشوَّش أو لا طائل تحته، لا حينما نقول بالوجوب الأساس، ولا حينما نقول بالكلِّي الطَّبيعي في المقام من هذا الآن وهو أوَّل توابعه.

ص: 175

لأنَّ القول بهذين هو المتعيِّن عندنا بما مرَّ تحريره وما أضفناه إليه، ولأنَّ الشَّرع الشَّريف بالسَّداد الإلهي الَّذي هو فيه لا يمكن أن يبقينا في هذه الحيرة.

لا كما يقول به المتوقِّفون جميعاً أو حتَّى ما توصَّلوا إليه من وجوب التَّفتيش عن القرائن في كلِّ ما مضى من الأقوال المهمَّة في المسألة وبما قد يتوسَّع بسعة اللُّغة العامَّة.

لوجود ما به الكفاية المغنية عن هذا التَّفتيش من القواعد المهمَّة والأدلَّة الشَّرعيَّة الاصطلاحيَّة الكافية أو المساعدة على التَّبادر وسرعة الفهم بهذا وبما قبله بما يدحض القول بالتَّوقُّف.

وإن كنَّا قد نرجِّح القول احتياطاً باستفراغ الوسع جهد الإمكان في كلِّ مجال محتمل عقلائي من مجالاتنا الشَّرعيَّة المألوفة الأخرى، حينما نحتمل شيئاً يستدعي ذلك، لأنَّ ترجيحاتنا ذلك أو بعضه كانت أو تكون في مجالات اصطلاحيَّاتنا حسب لا في السِّعة اللغويَّة العامَّة.

إضافة إلى إمكان حصول ما به التَّفاوت التَّشخيصي من مداليل الأوامر وتوابعها للمرَّة والتِّكرار - موردي البحث في هذا التَّابع - ممَّا مرَّ ذكره بسبب عدم وضوح الزَّمن المراد أن يجري الواجب فيه مكرَّراً أو غيره في أنَّه:

هل كان موسَّعاً أو غيره؟ أو أنَّ هذا التِّكرار المراد أو عدمه هل المفروض أن تحمله صيغة الأمر فقط وإن لم يستثمر عمليَّاً أم هو ما يجب أن يطبَّق في الامتثال العملي من ذلك لا أقل؟

وهذا كلُّه أيضاً لو تمَّ فهو ممَّا قد يعيننا على تحقيق مرادنا الَّذي ذكرناه.

لأنَّ الوقت الضيِّق التَّام لا يناسبه مثلاً إلاَّ المرَّة حتَّى لو كان من ضمن الوقت الواسع كنهاية الوقت منه أو حتَّى أوَّله إذا ما جاءت مؤشِّرات الموت ونحوها.

ولكن هذه المرَّة لابدَّ وأن نبقى نحن فنقول عنها بأنَّها هي نفسها مرَّة الكلِّي

ص: 176

الطَّبيعي الذَّي مصداقه المرَّة حتماً وإن كانت المرَّة الثَّانية الَّتي بعدها قد تكون لغواً لو لم يبرِّرها مبرِّر الكلِّي الطَّبيعي لكنَّها لم تمنع في بعض مقامات أخرى.

كما لو برِّر الإتيان بها مرَّة ثانية مبرِّر الكلِّي الطَّبيعي لفقد الأولى شروط الصحَّة أو لم يأت بها في الظرف الأوَّل عصياناً أو غفلة أو نحو ذلك.

أو كان قد ارتفع الضِّيق ولو من غير احتساب أو انكشفت سعة الوقت عن اشتباه سابق بالضِّيق أو كان الوقت واسعاً على حقيقته في السِّعة لكون المرَّة الثَّانية كانت هيالمرادة دون الأولى لسبب من الأسباب وإن حملتها الصِّيغة في الظَّاهر.

لأنَّ حمل الصِّيغة لا يتلازم دوماً مع كلِّ تطبيق وامتثال عملي حتَّى لو كان هو الأظهر، لأنَّ التَّطبيق والامتثال مرتبطان بمرَّة الكلِّي الطَّبيعي لما مرَّ.

وإلاَّ لكان الواجب يلزم تكراره طول هذا الزَّمن الواسع إذا اعتبرنا أنَّ صيغ الأوامر متعدِّدة وموزَّعة على كلِّ أوقات إمكان أداء الواجب الواحد فيه ولكن هذا بهذا النَّحو لم يكن له وجود في الشَّريعة أصلاً ولوحدة الأمر الَّتي فيها مرونة التِّكرار وشبهه بما يناسب الكلِّي الطَّبيعي عند الحاجة.

وذلك إذا أبطل العمل الأوَّل كما سبق أو استحبَّ تكراره مع صحَّة الأَّوَّل كما لو كان المكلَّف قد صلَّى فريضته منفرداً ثمَّ أقيمت الجماعة في نفس المكان والوقت المقارب.

ولكن هذان الموردان تابعان لمقامهما الخاص الخارج عن المورد الطَّبيعي وهو المرَّة في كليهما الطَّبيعي بلا قيد المرَّة وحدها دائماً ولا قيد التِّكرار العملي كذلك.

وهكذا الأمر نفسه جارٍ في الزَّمن الثَّالث للمرَّة الثَّالثة لو لم يكتف بالثَّانية في الزَّمن الثَّاني، وهكذا ما بعد ممَّا يمكن حصوله لإبراء الذِّمَّة في هذه المرونة إلى آخر الزَّمن الموسَّع.

وبهذا يتم المطلوب على ما ذكرناه دون غيره في الإيضاح الإضافي الَّذي أرجوه

ص: 177

أن يكون نافعاً أكثر.

التَّابع الثَّاني / الفور والتَّراخي وبما يشبهه في بعض النَّواحي

من سعة الوقت وضيقه.

والبحث فيه عن أمور:-

1 - ضرورة الكلام عنهما وأهميَّة تشخيص موضوع البحث.

إنَّ من فروع المسألة الماضية وتوابعها - وهي الكلام عن دلالة الأوامر على الوجوب - هو الكلام عن الفور والتَّراخي لقضايا مهمَّة حولهما يجب على أهل العلم التَّحقيق فيها واستمرار التَّأكُّد منها، وبالأخص في قضايانا الفقهيَّة المرتبطة بالكتاب من آياته الخاصَّة وهي آيات الأحكام والسنَّة الشَّريفة التَّابعة لها وما يلحق بها.

لأنَّ بتحقيقها أو استمرار التَّأكُّد منها يتم ضبط الحكم الشَّرعي على الأساس الأصولي اللفظي المحكم حتَّى مع سعة الوقت المفروضة بأن تكون كذلك للكلام عن الاثنين معاً، بناءاً على أنَّ ضيق الوقت لا يناسبه غير الفور ولو في الجملة وكما سوف يتَّضح لكون السِّعة قد تشمل الاثنين معاً حتَّى في التَّطبيق كما سيجيء وإن اهتمام السَّلف من الأصوليِّين في البحث عنهما معاً لا محالة منصب ولو ظاهراً على حالة الوجوب المسلَّم عند الجميع تقريباً في الأوامر وتوابعها بصورة أكثر.

إذ لو كان المراد هو خصوص المستحبَّات فضلاً عن الأقل كالمباحات والأدنى منه كالمكروهات من الأمور الدَّاخلة في عموم الجواز لاقتصروا في بحثهم هذا على خصوصالتَّراخي لا عن الاثنين وهما الفور والتَّراخي معاً لأنَّه الأنسب للمستحب وما دونه في الوقت الموسَّع.

ص: 178

إلاَّ ما اشترطت فيه المبادرة والإسراع من غير الواجبات وهي تلك المستحبَّات لخصوص تسبيب ما به صحَّة العمل المستحب المصاحب للثَّواب الأرقى بالتَّعجيل فيه أو المتعيِّن في ذلك بالأدلَّة الخاصَّة، إذا أريد إحرازه بدلاً من حالة التَّأجيل والتَّراخي فيه، لا لإبراء الذِّمَّة المشغولة بشيء واجب يجب أداؤه تامَّاً صحيحاً إذا افترضنا عدم وجوده وإنَّما المفترض وجوده مثلاً هو المستحب لا غير.

بل حتَّى لو خلطنا المستحبَّات مع الواجبات في الافتراض الَّذي يحتمل فيه بعض التَّناسب مع هذا البحث المراد أن يكون جامعاً وإن ضعفت مناسبة المستحبَّات كثيراً فيه.

فإنَّنا لو خلطنا بينهما حينئذ مع التَّفاوت الملحوظ لما وصلنا فيه إلى نتيجة مرضية تصلح للحكمين من الفور والتَّراخي تجاه التَّكليفين المختلفين الَّذين أوَّلهما الواجبات الَّتي يحرم التَّهاون فيها وثانيهما المستحبَّات الَّتي يجوز تركها، وإن كان التَّرك يسبِّب الحرمان من الأجر والثَّواب، أو أنَّ تركه هجراناً يًسبِّب الجفاء، وهو من صغار المعاصي لمثل صلاة اللَّيل.

وغير ذلك من الفوارق حتَّى لو اخترنا الفور للواجب والتَّراخي للمستحب، لافتراض تعلُّق الاثنين وهما الوجبات والمستحبَّات في البحث عن الاثنين، وهما الفور والتَّراخي معاً في بعض الحالات مع التَّفصيل في البعض الآخر لما مرَّت الإشارة إليه وما سيأتي، وهو ما لا يعطي قاعدة متوازنة بين المتفاوتين.

وعلى كل ِّفمع هذا كلِّه فإنَّ المستحب في المقام في ذهن المحقِّقين إن لم يكن له وجود بالمرَّة فهو نادر ندرة التَّفاوت بين الواجب والمستحب.

ولذلك إن أرادوا في سعيهم الحثيث هذا - وبالاهتمام البالغ منهم في الحديث عن الواجب - الوصول إلى نتائج مهمَّة وموسَّعة وذات ثمار عمليَّة متنوِّعة فلا يناسبه حتماً خلط المستحبَّات به مع التَّفاوت البيِّن والَّذي أشرنا إليه وما قد يتَّضح بعضه

ص: 179

آتياً.

فإذن بعد ما استعرضوا الكلام عن الاثنين معاً وهما الفور والتَّراخي فلا محالة من كون الأبرز في الحديث عنهما بل المتعيِّن هو الكلام عنهما في ظلِّ الوجوب على القدر المتيقَّن في نفعه لا غير.

بل لو أدخلوا المستحبَّات مع تلك الواجبات في بحثهم هذا عنهما لما كان الأمر مقبولاً كما يرام، ولوصل إلى ما يسوء بسبب الخلط مع التَّفاوت والدِّقَّة في الفقهيَّات.

لأنَّه لو كان كذلك لذهبت مناسبة الكلام عن الفور بخصوصه بناءاً عليه لو اقتضى أمر الكلام عنه لاشتراك ما يتناسب معه ولو في الأكثر جدلاً وهو الواجبات مع ما لا يتناسب معه بمساواة كاملة وهي المستحبَّات كما سلف ولو في النِّسبة الأقل جدلاً، أو كان يناسب خصوص التَّراخي على الأكثر وهي هذه المستحبَّات والأقل منها والأدنى كذلك ممَّا يدخل تحت عنوان الجواز.

أو ما يدخل من الاثنين - الواجبات والمستحبَّات - في خصوص مطلب التَّراخي بناءاً على القول بالفور فقط إلاَّ أن نختار التَّراخي دون الفور ليشترك الاثنان - واجبات ومستحبَّات - في البحث عنهما في حدوده، بناءاً على سعة الوقت في كلتا وظيفتي كليهمالكنَّهما غير متوازنين كذلك لضعف المستحب تجاه الواجب.

ولذلك فهو غريب منهم إن قصدوا البحث عنهما بمساواة في أمره وبنتيجة موحَّدة.

وإن كان هذا الاستحباب قد يناسب الوقت الواسع والتَّراخي فيه بصفة تخصُّه كثيراً ووجداناً، بناءاً على التَّراخي لو ارتضيناه وحده لمعرفة النَّتيجة إن حصلت إيجابيَّاً باليد بمعرفة كثرة الثَّواب بالفور والمبادرة في أوقاته أو سلبيَّاً في قلَّته وضآلته بعدمها أو بالتَّراخي في فعل هذه المستحبَّات.

كما وقد يدخل هذا البحث أيضاً إن أردنا التَّعمُّق أكثر في أمور القضاء

ص: 180

للواجبات كما مرَّ في التَّابع الأوَّل إذا انتهى وقت الأداء، أي إذا استمرَّت دلالة الأوامر على الوجوب بعد نهاية الوقت الخاص للواجب أيضاً، كما لو كان في أمور الأداء إذا عُدَّ دليل الأداء والقضاء واحداً بمساواة أو مشابهة ولم يسقط وجوب الواجب إذا انتهى وقت أداءه ولو في الجملة، كتبدُّل حالة النيَّة من نيَّة الأداء إلى القضاء أو كان قد دلَّ دليل القضاء الخاص على وجود مناسبة البحث عن الفور والتَّراخي والتَّوسُّع فيه في زمانه الخارجي كذلك ولو من بدوِّ علامات الموت القريب من المكلَّف إذا أريد الفور، وعدمه إذا أريد التَّراخي.

ومن أدلَّة رجحان إدخالهم القضاء مع الأداء في البحث الأثر الوارد (يقضي ما فات كما فات)(1) وغيره، إلاَّ أنَّ هذا الواجب الَّذي يريده الأصوليُّون القدامى -- إن كانت مبانيهم أو بعضهم الأساسيَّة هي المصادر اللغويَّة -- لابدَّ وأن يصل بالنَّتيجة إلى مستوى مبانينا الشَّرعيَّة المباشرة بعد ذلك على ما أوضحناه وما سيتَّضح أكثر.

وزبدة الكلام عن تشخيص موضوع البحث هو أنَّه عن عموم الفور والتَّراخي في الوقت الموسَّع، لأنَّ المضيَّق وما يلحق به قرينته معه في الدَّلالة على الفوريَّة وحدها ما لم يحصل دليل على شمول الموسَّع للمضيَّق كذلك.

وأنَّ التَّراخي وحده وإن كان لا يتناسب إلاَّ مع الموسَّع إلاَّ أنَّهم لم يبحثوا عنه فيه وحده ظاهراً إلاَّ مع الفور كما مرَّ شرحه، وهو ما كان داخلاً في مورد الوجوب لا الاستحباب إلاَّ بمعنى يختلف عن مورد الوجوب للتَّفاوت الَّذي أوضحناه بين الحكمين.

وهذا كلُّه ما قد يقترب من قول الكلِّي الطَّبيعي الَّذي يجمع بينهما بعد تعيُّنه بمثبِّتاته دون غيره من الأقوال كما سوف يتَّضح.

ص: 181


1- الوسائل 8: 268/ أبواب قضاء الصلوات ب 6 وغيره.

2 - الأقوال والأدلَّة على كلِّ منها والإجابات عليها والرَّأي المختار.

فعلى هذا الأساس ونحوه من المحتملات الَّتي أدخلناها في تدوين البحث لشموله لها ولو على الاحتمال.

فإنَّهم قد اختلفوا في هذا البحث عن الواجب المبحوث عنه ولو بالتَّركيز الخاص نحوه أكثر من غيره وإن احتمل كقدر متيقَّن في قصده في كون صيغته لابدَّ أن تكون دالةَّعلى الفور في التَّطبيق دون التَّراخي، وهو الأمر المطلق إضافة إلى دلالة الصِّيغة على ذلك.

أو على الاشتراك اللفظي بين الاثنين - الفور والتَّراخي - المحتاج إلى القرينة المعيِّنة عند التَّطبيق.

أو على مطلق الطَّلب وهو الأعم الَّذي يمكن فيه التَّطبيق مع هذه الدَّلالة بفعله كقدر متيقَّن في القبول بين الفور والتَّراخي.

أو لا هذا ولا ذاك ولا ذلك، وإنَّما هو خصوص التَّراخي إن قبلناه قولاً رابعاً، إن أمكن ادِّعاء ظهوره من الأوامر بمظهر التَّبادر لوحده كالآراء الثَّلاثة السَّابقة على ما ظهر من إضافته إلى الثَّلاثة رابعاً من الشَّيخ المظفَّر قدس سره في أصوله.

إلاَّ أنُّه لم يُعرف في البحث عندهم عنه وحده إلاَّ منضمَّاً إلى الفور في الوقت الموسَّع.

وقد يُراد احتمال أحدها لا بنحو التَّبادر، لكن على ما تدل على كلِّ منها قرينته إن قبلنا قولاً خامساً يقول بالوقف جدلاً، فلا يُرتضى بناءاً عليه في البين إلاَّ بصدق الحاجة إلى القرينة.

ولكنَّه أوَّل الكلام لوجود التَّبادر الحتمي في أحد الأقوال الرَّئيسيَّة الماضية كما سيظهر في النَّتيجة.

ص: 182

لتكون الآراء بالنَّحو المسلَّم في ظاهر الصِّراع تجنُّباً عن الإطالة المملَّة وبدون جدوى ثلاثة لا غير.

وكل قد استدلَّ على مطلبه بدليل خاص يراه علماً بأنَّ تفاوت النَّتيجة ما بين هذه الآراء مع أدلَّة كل منها في القبول والعدم قد يبتني على ملاحظاتهم أو بعضها فيما اختلفوا فيه:-

بأنَّه هل كان حول المصطلح الأصولي اللغوي وحده دون العرف الشَّرعي كما أشرنا ليكون على أساسه الوصول إلى القرار الشَّرعي؟

أم هل كان حول المصطلح الأصولي الشَّرعي المشيَّد ركنه بالعرف الشَّرعي الخاص من البداية لا بخصوص ما سبق ولا بخضوع الشَّرع للَّغة في جميع الموارد وكما أسلفنا بيانه؟

وأنَّه هل كان الفور في كلامهم فوراً في أوَّل الوقت الحقيقي لا غيره كالفترة الزَّمنيَّة الكافية والمختصَّة لصلاة الفريضة الواحدة مثلاً فيه حتَّى لو كان الوقت في واقعه متَّسعاً؟

أو أنَّه كان كذلك في أوَّل أوقات الإمكان وإن كان في وسط الحقيقي الموسَّع أو خصوص أواخره الَّتي يضيق وقتها أو حتَّى أوائله أو أواسطه وغيرها من الَّتي تعيَّنت بمؤشِّرات الموت ونحوها لا غير؟

أم كان كل من الوقتين - الموسَّع والمضيَّق - داخلاً في البحث بورود مناسب فيه عن الفور والتَّراخي منهما في المقام الأدائي مع احتمال إدخالهم الوقت القضائي تبعاً للأدائي في البين ممَّا سبق بيانه فيكون الفور والتَّراخي داخلين في البحث بالمعنى الأعم؟

وقد يكون التَّراخي المبحوث عنه أيضاً منه وارداً في السُّؤال وهو:-

هل هو ذلك الوقت الأوَّل كذلك ولكن بما يناسبه، كما لو جعلناه للصَّلاة

ص: 183

الماضي مثالها لا بنحو التَّعيِّين المضيِّق فيه لها، لئلاَّ تكون مناسبة لمعنى الفور الَّذي ذكرناه، وإنَّما هو من ضمن الوقت الموسَّع المتراخي فيه من بدايته، كما لو أدَّاها المكلَّف فيه شوقاً منه لها بصرف اختياره لا لأنَّه لا يجوز التَّجاوز عنه إلى ما بعده أو لأنَّ تعيين هذا الوقت الأوَّل ربَّما كان لعدم جواز الصَّلاة قبله.

لأنَّ الصَّلاة كتاب موقوت بصريح البعض القرآني الشَّريف من بدايته كما هو في نهايته، فلا يمنع من كونه من التَّراخي، أو لكي لا يصلِّي غير تلك الصَّلاة الخاصَّة فيه، كصلاة الظهر في أوَّل وقتها فلا يجوز صلاة غيرها فيه لا أن يمنع شمول التَّراخي له كذلك في جملة ما لم يمنع منه وإن احتكَّ بالخاص؟

أو كان التَّراخي مناسباً لما بعد انتهاء مؤشِّرات الموت إذا بقي وقت واسع يتَّسع له؟

أو ما كان منه بعد أوَّل أزمنة الإمكان من الفترات الأخرى إذا حصرنا الأوَّل مجالاً خاصَّاً للفور؟

أو ما قد يمتد حتَّى إلى الأواخر من الوقت الأدائي إلحاقاً للأخير بالوقت الموسَّع لاعتبار أنَّ ذلك الأخير ربَّما كان يمكن أن يتوصَّل إليه المصلِّي أو إلى شيء منه مبتدئاً ممَّا قبله بنيَّة التَّراخي، وإن كان قد يُعد باعتباره الآخر من أوقات الفور حذراً من التَّجاوزإلى الوقت القضائي بلا إبراء الذِّمَّة الأدائيَّة.

وكما قد يدخل في التَّراخي حتَّى الَّذي يبقى من الواجب واجباً إذا خرج عن وقت الأداء وصار قضاءيَّاً إذا توسَّعنا في الاعتبار وقبلناه في التَّخطيط للبحث العام - وإن كان بعض حالات هذا التَّجاوز إليه عن تعمُّد ومعصية - لحتميَّة ثبوت صحَّة العمل المتقن حتَّى في الخارج، لبقاء الوجوب من أدلَّته الخاصَّة المحتَّم فيه ملازمته للصحَّة والأقرب من هذا للواقع في صحَّة التَّراخي هو ما لو كان المكلَّف مدركاً من داخل الوقت الأدائي على الأقل مقدار ركعة فقط.

ص: 184

فإنَّهم قالوا وقلنا بوجوب الابتداء بتلك الرِّكعة من ذلك الوقت وإن وقع الباقي في خارج الوقت وقالوا أيضاً بصحَّة الصَّلاة في هذا النَّحو من التَّوسُّع والتَّراخي للأدلَّة المثبتة في هذا الباب وإن قلنا فيه وفيما سبقه بالبطلان ووجوب الإعادة في موارد أخرى مغايرة.

كل هذه الأمور من الأسئلة وما بعدها أشياء لابدَّ وأن تدور في الخلد ولابدَّ من احتواءها إن احتيج إلى الإجابة عنها أو عن بعضها.

ونحن إذا تأمَّلنا بعد ذكر هذه المحتملات في ألفاظ هذه الأوامر ومضامينها كتاباً وسنَّة واستقرينا آراء فقهاءنا مع أدلَّتهم والأخذ بأقواها أو أقربها إلى الواقع، لإرساء دعائم الأصول اللفظيَّة أو الميسور من بعضها أو التَّأكد من صحَّة ما استحصل منها من عدمه إن كان الاستقراء ممَّا يمكن أن تتشكَّل به القواعد الأصوليَّة اللفظيَّة.

فقد يتفاوت لدى البعض تشخيص الحق في المقام بين ما تدل عليه صيغة الأمر مثلاً وإن لم يُرَد منه الفعل وبين ما يُطلب فعله في مقام الامتثال خارجاً كدلالة الصِّيغة على التَّراخي في الوقت الموسَّع وكون هذا الامتثال قد أجري في أوَّل أوقاته الَّذي قد يحتمل فيه عدم كونه مصداقاً ثابتاً للتَّراخي فيه في جميع الحالات إلاَّ بما وجَّهناه آنفاً.

وكدلالتها على الفور أيضاً لمؤشِّر الموت مثلاً وإن كان في أواسط الوقت الواسع للعبادة، وكون الامتثال ما أجري إلاَّ في أواخر الأوقات، بسبب عدم صدق المؤشِّر وبقاء الحياة وإن كان من المجازفة أو المعصية في التَّأخير فانكشف عدم ثبوت ذلك المؤشِّر.

إلاَّ إذا قلنا بتلازم دلالة الصِّيغة مع الفعل دوماً ولم نفكِّك بينهما ولو على ما هو الظَّاهر عند متابعة الأدلَّة وحكمة الحكيم تعالى فيها وبما قد يكون أسد من القول بالتَّفريق بين الاثنين، وهو أمر طبيعي في كلِّ الأصول من ذوات الثِّمار العمليَّة.

ص: 185

وعليه فلا فور ولا تراخي في كلِّ من الفور والتَّراخي على حِدة، ولا اشتراك لفظي ما بينهما كذلك.

وإنَّما هو مطلق الفعل المطلوب عند تعيُّنه حين بطلان القولين السَّابقين، ولو بمساعدة بعض القرائن على خصوص الفور أو التَّراخي كما سيتَّضح إن أريد الوصول إلى ما يشبه حالة التَّبادر من هذا القول الأخير.

3 - الاكتفاء في البحث بالآراء الرَّئيسيَّة الثَّلاث.

وحسم الأمر لا يتحقَّق تحديده إلاَّ حينما يستقر الكلام حول رأي معيَّن من هذه الآراءالرَّئيسيَّة الثَّلاثة المدَّعاة وهي الفور والتَّراخي ومطلق الطَّلب، بعد معرفة دليل كلِّ قائل من قائليها وانتصار الدَّليل الحق في البين بعد الخوض في مناقشتها ولو بالإجمال الكافي.

وقد يفهم إنشاء الله حكم ما يحتاج إلى فهمه كالتَّراخي وحده فيما بعد - أثناء الاستدلال -

فلنأت بعد التَّوكُل على الله بهذه الأقوال مع شيء من التَّصرُّف والإضافات النَّافعة منَّا واختيار الرَّأي السَّديد.

القول الأوَّل: هو الفور

وهو الاستعجال والمبادرة في أداء المأمور به بدون تواني، وقد يكون منه عموم الاستعجال حتَّى في القضاء كما في الأداء أيضاً إذا صدق التَّكليف السَّابق واستمرَّ إلى ما بعد انتهاء الوقت ولو في بعض المقامات، كما فيما لو دلَّت إمارات الموت على قربه من المكلَّف ونحو ذلك.

وممَّن ذهب إلى جوهر القول الشَّيخ الطُّوسي قدس سره وأبو الحسن الكرخي

ص: 186

وغيرهما.

واستدلُّوا بأدلَّة ستَّة على مدَّعاهم ذكرها بأجمعها صاحب المعالم قدس سره ونذكرها نحن بأجمعها مع شيء من التَّصرُّف المشار إليه آنفاً.

الدَّليل الأوَّل: إنَّهم قالوا بأنَّ الأمر المطلق يقتضي الفور والتَّعجيل فلو أخرَّ المكلَّف عصى كما لو أمر السيِّد عبده أن يسقيه ماءاً فأخَّر العبد السَّقي بلا عذر عُدَّ عاصياً عرفاً بحيث لولا إفادة هذا الأمر للفور لم يكن بالتَّأخير من العصاة والواقع العرفي خلافه.

ويظهر منهم بهذه الملازمة الَّتي في الاستدلال إضافة إلى الدَّلالة على الفور أنَّ دلالة الأمر هي على الوجوب نوعاً كذلك كما سبق بيانه، وأنَّ الوجوب هذا ثابت كذلك في سرعة الامتثال المطلوبة إن قبلت في أدلَّتها.

لكن بلا ملازمة في أن يكون العمل بعد ذلك أيضاً باطلاً معه في الوقت المتراخي والموسَّع، لأنَّ بعدم الفور بعد تكامل دليله معصية، وبتأجيل الامتثال مع سعة الوقت لا بطلان، بل هو صحَّة.

فالأوَّل حكم تكليفي مع ضمان الوضعي وهو الصحَّة.

والثَّاني حكم وضعي، ولكنَّه إيجابي وهو صحَّة العمل كما قلنا، حتَّى لو تأخَّر وقته وكان في السَّابق معصية بالتَّأخير ممَّا قد سبَّب قلَّة الثَّواب أو عدمه واحتاج إلى رفع ذلك بالاستغفار والتَّوبة.

وهذا الفرق هنا بين الحكم التَّكليفي والوضعي رد لمن يتوهَّم أنَّ النَّهي في العبادات يقتضي الفساد مطلقاً.

وكأنَّ صحَّة العمل هذه عندهم حالة العصيان بالتَّأخير لا خلاف فيها، حتَّى عند من لم يقل بخصوص الفور وهو السيِّد المرتضى قدس سره كما مضى وكما سيأتي.

وبذلك صفى استدلالهم هذا على الفور في خصوص الحكم التَّكليفي لا غير.

ص: 187

وقد رُدَّ هذا الدَّليل بأنَّ وجوب التَّعجيل ما جاء إلاَّ من الحاجة وهي قرينة عليه، لامن مجرَّد اللفظ وفي كلِّ حال فلا دليل على الفور وحده بتبادر.

وإنَّ حمل اللفظ المجرَّد من القرائن في كلِّ أحواله مع اختلافها الواضح بعضها عن بعض على هذا الوجوب - هو أوَّل الكلام.

بل هو محل النِّزاع، وإن ارتضينا الوجوب في الوقت الضيِّق أو دلَّت قرينته، وإن كان في ضمن الموسَّع أو رأيناه الأصل في الوقت الخاص لاعتبار آخر، لأنَّ هذه الأمور خارجة من محور البحث تخصيصاً أو تخصُّصاً.

وإذا كان ذلك الاختلاف كذلك فكيف إذن نقيس عليه أمر الوقت الموسَّع حتَّى لو حصل تفاوت في الفضيلة بين التَّعجيل والتَّأجيل.

الدَّليل الثَّاني: أنَّه تعالى ذمَّ إبليس (لع) على ترك السُّجود لآدم u بقوله تعالى [قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ](1)، وهو الاستفهام الإنكاري على إبليس الَّذي يعطي معنى تحدِّيه لأمر الله تعالى الواجب اتِّباعه وهو السُّجود لآدم بعدم امتثاله والقيام به مثل ما قام به الملائكة له.

ولو لم يكن الأمر فيه للفور لم يتوجَّه عليه الذَّم بمثل هذا الاستفهام، ولكان له أن يقول مخاطباً الله تعالى إنَّك لم تأمرني بالمبادرة وسوف أسجد، والحال أنَّه سبحانه ذمَّه بالآية آنفة الذِّكر بما لا نقاش فيه، بعد تأكُّد التَّصميم منه على عدم الامتثال الفوري، وإبليس المذموم بما أنَّه لم يجب بشيء من ذلك فكان الأمر بالفور.

ورُدَّ هذا الدَّليل الثَّاني كذلك: بأنَّ الذَّم جاء على اعتبار كون الأمر مقيَّداً بوقت معيَّن، ولم يأت بالفعل فيه وهو السُّجود وقت تسوية الله عزَّ وجل لآدم بخلقه ونفخه فيه من روحه، وكان الدَّليل على التَّقييد قوله تعالى في الآية السَّابقة على الآية

ص: 188


1- سورة الأعراف / آية 12.

الماضية في الدَّليل [فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ](1).

فلم يكن إلاَّ الفور الَّذي ارتبط بالوقت المعيَّن، لا من مجرَّد الأمر بالسُّجود في عموم الوقت الموسَّع بدون تعيين حتَّى يقال به حسب فلا فور كما يريد المستدل.

ولو قيل" بأنَّ عدم سجوده الفوري لآدم لعلَّه كان من كونه لم يكن من سنخ الملائكة تكويناً، لأنَّهم من نور، وابليس كان من الجن كما تشهد عليه الآية [إلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ](2)، والجان من نار كما في قوله تعالى [وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ](3).

لقلنا: بأنَّه وإن كان كذلك، لكن ذلك لا ينفي شموله بالخطاب التَّكليفي، وإلاَّ فلا معنى من توبيخ المولى عزَّ وجل له بعدم تنفيذ السُّجود لآدم u وتمرُّده، في حين كونه قبل هذا الأمر والتَّكليف كان ملتزماً بعبادته وكان مكثراً منها فرزقه الله معاشرة الملائكة فكان كالطَّاووس بين الملائكة، فوصف قبل تمرُّده ب- (طاووس الملائكة) حسب بعض الآثاروالرِّوايات على فرض تسليمها، ولا ينافي ذلك ما ورد عن الإمام الهادي u بأنَّ (طاووس الملائكة هو الرُّوح الأمين جبرئيل u)(4)، من باب حمل تلك الرِّوايات على تشريفه بهذا اللَّقب قبل التَّمرُّد وعدم الطَّاعة.

إذن في هذا الخطاب لا فوريَّة فيه، لاستمرار غضب الله عليه في جميع آيات بغضه وحسده لآدم، وهذا من جملتها فيتم الرَّد إذن كاملاً.

الدَّليل الثَّالث: أنَّه لو شُرِّع التَّأخير وهو ما يؤول إلى التَّراخي لوجب أن يكون إلى وقت معيَّن.

ص: 189


1- سورة الحجر / آية 29.
2- سورة الكهف /آية 50.
3- سورة الحجر / آية 27.
4- بحار الأنوار: ج17 ص309.

واللازم منتف، لأنَّه لولا الوقت المعيَّن لكان إلى آخر أزمنة الإمكان اتِّفاقاً، ولكنَّه لا يستقيم لأنَّه غير معلوم، إذ لا يعلم الشَّخص منَّا آخر عمره وأن الجهل به يستلزم التَّكليف بالمحال.

وبما أنَّه لا وقت معيَّن له وأنَّ الجهل بالتَّشخيص إلى آخر العمر يستدعي التَّكليف بالمحال، فلابدَّ من الفور.

لأنَّه ليس في الأمر إشعار بتعيين الوقت وليس عليه دليل من خارج، وبهذا ينتفي اللازم بوضوح أكثر.

ولكن رُدَّ هذا الدَّليل من جهتين:-

الأولى: بالدَّليل النَّقضي المنطقي، وهو أنَّه لا مانع من التَّأخير، لعدم النِّزاع في إمكان التَّصريح بجوازه ولو بقرينة، كأنَّ يقول الآمر (افعل كذا ونفيت عنك الفور)، مع أنّ الدَّليل على عدم شرع التَّأخير جارٍ فيه بعينه، فلا يثبت الفور مع هذه المرونة المساعدة على التَّوسُّع.

الثَّانية: أنَّه إنَّما يلزم تكليف المحال لو كان التَّأخير متعيِّناً إلى آخر أزمنة الإمكان غير المعلومة في نهايتها، وهو غير لازم، لإمكان تحديد التَّراخي في الوقت الواسع الخاص بمحدوديَّته في مثل أمثلة الصَّلوات الَّتي مرَّت بعضها وغيرها.

ولذا لم يجز الإتيان به على الفور، لعدم إمكان تعريف الوقت الَّذي يؤخر إليه.

بينما لو التزمنا بجواز الفور لا وجوبه أو عموم رجحانه مع عدم المنع من التَّراخي فيه فلا محذور للتَّمكُّن من الالتزام بالمبادرة، لأنَّه لا محال ليمتنع التَّكليف به.

وبذلك يمكن القول بوجوب الفور حتَّى في الوقت الواسع، لكن بمعنى طلب حقيقة الفعل من غير دلالة على الفور في وقت خاص ولا التَّراخي بخصوصه، إلاَّ أنَّه بمعنى عدم جواز التَّهاون بالواجب إلى نهاية الوقت.

ص: 190

الدَّليل الرَّابع: قوله تعالى [وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ](1) حيث أمر تعالى عباده بالمسارعة إلى هذه المغفرة عند ارتكاب الذُّنوب ومنها ترك الواجبات وفعل المحرمات، لكن لا بإيجاد حقيقة المغفرة من نفس العباد - لأنَّها من رحمة الله وعفوه - بل بفعلالمأمور به، فيستحيل مسارعة العبد إلى المغفرة بإيجادها من دون امتثال الأوامر فوراً، وحينئذ تجب المسارعة إلى هذا الامتثال.

ونظير هذا القول الإلهي قوله تعالى [فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ](2)، حيث أنَّ فعل المأمور بالفعل وهو الاستباق مثلاً داخل في عموم الخير ات، فيجب الاستباق إليه وهو الخيرات للأمر بذلك، وإنَّما يتحقَّق هذا الاستباق بأدائه الفوري.

ورُدَّ هذا الدَّليل: بأنَّ الاستدلال بالآيتين على المطلوب المذكور لم يكن بالدقَّة الشَّافية حتَّى يبنى عليه، بل الواضح خلافها.

لأنَّ (سارعوا) في الآية الأولى لم تكن ك- (أسرعوا) ولا (استبقوا) في الآية الثَّانية ك- (اسبقوا) المتَّفق عليهما أدبيَّاً وأصوليَّاً في أنَّهما ممَّا يخص الوجوب فقط في أمريهما المجرَّدين من الألف والثَّاء.

بينما أمر الآيتين وهما المؤدَّيان أداء المسارعة مع الألف والاستباق مع التَّاء بالمفاعلة والافتعال لا يُعطي في كليهما غير معنى أفضليَّة المسارعة والاستباق، بلا أيَّة علاقة بوجوبهما بشيء ولو جزئي من الفوريَّة.

لأنَّ المسارعة والاستباق لا ينسجمان إلاَّ مع الوقت الموسَّع، عكس أسرعوا واسبقوا المرتبطين بالواجب في وقته الضيِّق الَّذي لا مهلة فيه أو وقته الموسَّع مع مؤشِّر الموت ونحوه، مثل ما يتناسب من ذلك الوقت الموسَّع في طبيعته من تلك الأفضليَّة الَّتي يجوز فيها التَّأخير.

ص: 191


1- سورة آل عمران / آية 133.
2- سورة البقرة / آية 148.

وإن لم نقل بالأفضليَّة في خطابي الآيتين، لقلنا بوجوب الفور في وقتهما الواسع أو الموسَّع، وهو غير وارد مع القرينة الإضافيَّة في الآية الثَّانية زيادة على تاء (استبقوا) وهي كلمة (الخيرات) الصَّريحة في المستحب دون الواجب، وإن كان اللَّفظ فيها وفي الآية السَّابقة عليها لفظي أمر للقرينة المصاحبة.

وكأنَّ شأن الآيتين في المقام شأن قوله تعالى [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ](1) للتَّشجيع على المسابقة في طاعة الله الَّتي لابدَّ وأن تلازمها الفسحة المجاليَّة زمانيَّة أو مكانيَّة أو كليهما، سواء بين المكلَّف ونفسه الأمَّارة لاغتنام الفرصة، أو بين المكلَّف والآخرين، كي يتَّحقق في ذلك درجات السَّبق والأسبقيَّة، وإن دخلت الواجبات في بعض الأحوال، لعدم إمكان المنع فيها بالمرَّة، وإلاَّ فلا معنى لذكر التَّنافس فيه.

وإنَّما الفور اللازم الَّذي لا يراد غيره فهو في المضيَّق فقط أو ما شابهه كما مرَّ، لعدم إمكان أن يقال لمن أُمر بالصَّوم غداً مثلاً فصام ( إنَّك سارعت إليه واستبقت له).

ولكن لو أمر المولى تعالى عبده بالصَّوم يوماً -- أو أيَّاماً معدودة في طول السَّنة من دون تعيين لها من ضمن أيَّامها الأوسع كقضاء ما فاته من أيَّام شهر رمضان الماضي مثلاً -- وأتى بما كان عليه في أوائل أيَّامها لصحَّ أن يقال عنه (أنَّه سارع إلى ما عليهواستبق).

ولذلك يُعد الوقت الواسع أو الموسَّع أنسب ما يكون لهذين اللَّفظين وإن كانا أمرين ظاهرهما الدَّلالة على الوجوب لولا هذين الحرفين الزَّائدين لتلائمهما مع التَّراخي، وإن كان الفور قد يرجح عليه من إمارته بنحو الاستحباب من الَّتي منها ألف المسارعة وتاء الاستباق للمطاوعة.

ص: 192


1- سورة المطففين / آية 26.

نعم يمكن القول ببقاء الوجوب أيضاً في آية المسارعة من ناحية الأمر الدَّال عليه حتَّى مع الألف الشَّاهد على الوقت الموسَّع مع التَّراخي المتعيِّن في المقام الَّذي لا يتناسب أداؤه إلاَّ مع الكلِّي الطَّبيعي الَّذي يصير معنى الفوريَّة فيه داخل الموسَّع مستحبَّاً، ولكنَّه لا يخرج عن كونه واجباً بمعنى عدم جواز التَّجاوز عن تمام الوقت إذا كان وجوبه في ضمن موسِّعيَّته ثابتاً وكان في الضِّيق أثبت إلاَّ بأداء ذلك الواجب كما سوف يتَّضح.

نعم إذا كانت (سارعوا) قد فُسِّرت بمعنى (بادروا) وهو الدَّال على الفوريَّة، فيمكن أن تكون مراده، وهي مع صيغة الأمر دليل الوجوب كذلك.

ولكنَّه لا يتم إلاَّ في الوقت المضيَّق، لعدم تناسب الفوريَّة مع ما ذكرناه من وقت التَّراخي، وهو الموسَّع الَّذي لا يتناسب إلاَّ مع المادَّة وهي المسارعة والاستباق حسب تفسيرها بمعنى بادروا، ولكن بحمله على المجاز لا على الحقيقة، لأنَّه استعمل في غير ما وضع له، لعدم المألوفيَّة في ذلك.

وأيضاً إنَّ حمل (سارعوا) - الَّتي دون هذا التَّفسير - على النَّدب وبصيغة الأمر سوف يكون مجازاً كذلك، فيتعارض المجازان فيتساقطان، ولكن بالإمكان التَّمسُّك عند الشَّك بأصالة عدم الفوريَّة، وبالأخص إذا حملنا الأمر على الوقت الموسَّع.

وعدم التَّغافل عن مؤدَّى الآية الثَّانية المساعدة عليه أكثر لعدم وجود المناقشة فيها مثل ما جرى في الأولى مع ضمِّ كلمة (الخيرات) المؤيِّدة لاستحباب الفور لا وجوبه بصفة أكثر، وبهذا ترتفع المنافاة بين الهيئة والمادَّة.

وممَّا يؤكِّد هذه النَّتيجة هو البناء على الأخذ بمطلق الفعل امتثالاً لطلب حقيقة المجتمع مع الفور والتَّراخي، بلا أن يكون المقصود هو خصوص الثَّاني ليكون مشتركاً لفظيَّاً كما سيجيء شرحه، لكون التَّراخي لابدَّ وأن يحمل في أوَّل أزمانه فرد الفوريَّة، وعليه فإذا أريد خصوصها دون معنى التَّراخي الَّذي ضمَّ زمنها فلابدَّ من

ص: 193

القرينة.

هذا ما كان من الجواب الَّذي قد يتناسب مع القرار الأصولي اللُّغوي.

وأمَّا ما يتناسب مع القرار الأصولي للعرف الشَّرعي وإن كان له أساس لغوي فسوف يأتي ما يتناسب معه بصفة أدق من التَّفاصيل المناسبة لمصدري الكتاب والسنَّة التَّابعة وما يتبعهما من اللغويَّات وهي الأقرب لما نستهدفه في هذه الموسوعة.

الدَّليل الخامس: أنَّ كلَّ مخبر يخبر بخبر ما كقوله (سافر الحجَّاج أو رجعوا أو انتهيت من وظيفتي الدِّراسيَّة الحوزويَّة أو ابتدأت بها أو أنَّ ولدي مصلِّي ,صائم أو لم يلتزم بالصَّوم والصَّلاة تمُّرداً) إلى آخره.

وأنَّ كل من ينشئ بإنشاء ما كقول البائع (بعتك هذا الكتاب بدينار أو صالحتك علىما بيني وبينك من الشُّبهات الماليَّة بدينار أو زوجتك موكِّلتي فلانة على مهر قدره كذا وكذا أو فلانة -- أصالة من زوجها أو وكالة عنه أمام الشُّهود -- طالق) إلى آخره.

إنَّما يقصدان من هذه الإخبارات والإنشاءات خصوص الزَّمان الحاضر فكذلك الأمر إلحاقاً له بالأعم الأغلب، ولأنَّ صدوره جاء في الحال مثل الإخبار والإنشاء، ولذلك يكون مفاده الفوريَّة مثل مفادهما الَّذي يظهر للمطالع.

ورُدَّ هذا من جهتين:-

الأولى: بأنَّ هذا قياس في اللُّغة، وقد سبق أن قلنا بمنعه مع صريح المغايرة ما بين الخبر والإنشاء وبين الأوامر، لأنَّ الأوامر غيرهما لفظاً واصطلاحاً لا محالة، حتَّى أمكنت الاستفادة من القياسات الخاصَّة الأخرى أو لا تمتنع أو قد ترجح في مقاماتها العقليَّة المنطقيَّة كما في العقائد أو الشَّرعيَّة كقياس (حرمة النَّبيذ) على (حرمة الخمرة) لجامع الإسكار وعِليَّته المشتركة عقلاً وشرعاً للنَّص.

إلاَّ إذا كان الأمر فرداً مساوياً للخبر والإنشاء في كلِّ شيء تحت ذلك الأعم

ص: 194

الأغلب أو أمور خاصَّة تجمع ما بينهما كي يفيض الجميع ما يتعلَّق بالوقت الحاضر بما ينتفع به، وهو غير صحيح بل الواقع خلافه كما سيجيء.

كما أنَّ هذا القياس العقلي لا يقبل على فرض وجوده في الحال إلاَّ في المطلب الأصولي على مبنى اللُّغة لا الشَّرع لاستحالته فيه إن ارتضينا اللُّغة وحدها كمبنى في أصول اللُّغة على كلِّ حال.

الثَّانية: بوجود الفارق بين المقيس والمقيس عليه، لأنَّ الخبر والإنشاء إن اختصَّا بما يتعلَّق بالحال فالأمر لا يمكن توجيهه نحوه في أثره ومؤدَّاه، وإن صدر لفظه في زمن يُعدُّ حالا من الأحوال كحالهما أو ما يتناسب مع كلِّ الأحوال بمثل حمله وجوب الامتثال كما في الأوامر الموافقة للمعقول المنطقي أو حمله هذا الوجوب كما في الأوامر الشَّرعيَّة الإلهيَّة لأنَّه حاصل والحاصل لا يطلب.

وإنَّما توجيهه إلى الاستقبال بخلاف المأمور به من المقاس عليهما، فمثل كلمة (افعل) أو (صلِّ) لا يراد منها الامتثال لهذا الأمر إلاَّ بعد الفراغ من التَّلفُّظ بصيغته وهو أوَّل أوقات الاستقبال، بخلاف ذلك من المقاس عليهما من أمثلتهما الَّتي وقعت مصاديقها في أحوالها.

ولكن هذا الاستقبال المطلوب فيه امتثال ما يريده الأمر إمَّا أن يكون من النَّاحية المطلقة، أي سواء كان متعقِّباً للحال بمعناه المباشر وهو الفور من أوَّل أزمنة ما يتناسب معه من الوقت الموسَّع الَّذي مرَّ ذكره في مقام التَّطبيق أو غير متعقِّب له وهو التَّراخي الموسَّع من دون إحراج بالفور.

أو أن يكون من ناحية ما يمكن تعقُّله في الوقت الضيِّق الَّذي لا يمتنع أن يكون أوَّل أوقات زمن التَّراخي أو هو نفسه كما حدَّدناه للفور خصِّيصاً.

لا ما تحمله الصِّيغة من معنى الاستقبال في لفظها - الَّذي يكون معناه مجهولاً.

فكلتا الحالتين محتملتان، ولأجلهها صار التَّرديد بين اثنين.

ص: 195

ولكن لا يصار إلى ذلك الفور بخصوصه وهو المرتبط بالزَّمن الأوَّل بعد صدور الأمر إلاَّ بدليل، سواء في الأصول اللُّغويَّة المنطقيَّة أو الفقهيَّة الخاصَّة.

نعم لو التزمنا بامتثال الأوامر وهي حقيقة الفعل المطلوب لكفى بما سيتَّضح أكثر قريباً.

ثمَّ ولو قيل بأنَّ هذا الأمر الَّذي بعد التَّلفُّظ به لماذا لا يمتثل مطلوبه في أوَّل أزمنة ما بعده، وهو الّذي معناه الفور كذلك؟

لقلنا بأنَّ هذا هو المتنازع فيه، وأنَّه لم يكن الاستدلال الماضي نافعاً في أمره، للفرق الَّذي بيَّنَّاه.

وأمَّا مسألة أنَّ الحاصل لا يطلب وإنَّ صحَّ فلا ينقضه الأمر للأمر الوارد حول الأوامر نفسها لو استكشف أمر المسؤوليَّة بالتَّكليف بها كما في قوله تعالى [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ](1) وقوله تعالى [وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ](2) وغيرهما.

لأنَّ كلمة (وأمر) في النَّصَّين لا يمكن أن يطلبا بنفسيهما عندما حصلا في الحال، لأنَّه تحصيل حاصل في الخطاب الإلهي كما في ثاني الجوابين لاستدلال السيِّد قدس سره.

وإنَّما الَّذي يصح أن يطلب هو الَّذي يراد إجراؤه من تأثير (أءمر) من الأمر الثَّاني الَّذي يجب أن يقوم به النَّبي أو الرَّسول 5 أو الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ أو سائر المبلِّغين في الاستقبال بعد ذلك الأمر الأوَّل.

وهو غير المتنازع فيه قطعاً فلم تثبت الفوريَّة المستدل عليها بما مضى.

وإنَّما قد يحصل شيء من ذلك في خصوص النَّصَّين أو النَّص الثَّاني لا قربيَّته للفور من دليل خاص قد لا يُقاس عليه في كلِّ الموارد، وهو كما في الحديث الشَّريف القائل (من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع

ص: 196


1- سورة طه / آية 132.
2- سورة لقمان / آية 17.

فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)(1)، والحديث عن الأمر بالأمر سوف يأتي قريباً في أحد التَّوابع الآتية.

الدَّليل السَّادس: أنَّ المستدل قال بأنَّ النَّهي لمَّا كان يفيد الفور وهو سرعة الاجتناب عن المنهي عنه وعدم جواز الإبقاء عليه حتَّى في نيَّة التَّجرِّي عند كثيرين، فكذلك الأمر يفيده لأنَّه طلب مثله، وأيضاً لمَّا كان الأمر بالشَّيء يقتضي النَّهي عن أضداده وهي تقتضي الفوريَّة فالأمر كذلك مثله لجامع الطَّلبيَّة وهو كما في التِّكرار طابق النَّعل بالنَّعل.

ورُدَّ هذا الاستدلال: بأنَّ مطلق النَّهي ليس كما يتصوَّره المستدل، لأنَّه ينقسم في حقيقته إلى قسمين مستقل وغير مستقل، والمستقل - وهو الَّذي لا يرتبط بما وراءه بشيء - هو الّذي يفيد لفظه الفور، كقولك (لا تغتب) و (لا تزن) و (لا تشرب الخمرة) و (لا تقامر) و (لا ترتش) ونحوها وهو كما يقول المستدل.ولكن غير المستقل، وهو النَّهي التَّابع للأمر والملازم له دوماً أو الَّذي هو في ضمنه كلَّما أطلق بتعبير آخر نحو لا تترك هذا الضَّرب الشَّرعي المستفاد من قول الآمر الشَّرعي (اضرب المجرم حدَّاً أو تعزيراً)، أو لا تترك الصَّلاة المستفادة من قول الآمر (صلِّ فرائضك) وهكذا في الصَّوم والزَّكاة والخمس والحج والأمر بالواجبات الأخرى حينما يلازمها النَّهي عن تركها.

لا يلازم الفوريَّة، لأنَّه متى تحقَّق الضَّرب في المثال الأوَّل والصَّلاة في الثَّاني أو بقيَّة أوامر الواجبات الأخرى المرتبطة معها ما وراءها من النَّواهي المناسبة لها بالتَّلازم المشار إليه انقطع استمرار الخطاب ولا يبقى معها أي تقيُّد بالفور، لتبعيَّة هذه النَّواهي لمقامات أوامرها ومقتضيات مقاماتها، وإن قلنا بعدم جواز تعطيل الأحكام

ص: 197


1- ميزان الحكمة / ج 3 ص 1950.

في الأزمنة الموسَّعة الَّتي منها أوَّل الأزمنة، لأنَّ هذا القول لابدَّ وأن يفسَّر بعدم جواز التَّأخير عن جميع الوقت الموسَّع.

ولهذا لا يمكن المقايسة بين الأوامر والنَّواهي من الجهتين حتَّى يقال بالفوريَّة في الحالتين معاً لهذا الفرق.

وكذلك لا يمكن المقايسة بينهما بسبب المساواة في الطَّلبيَّة الواحدة مهما تعدَّدت.

فحينما فرَّقنا ما بين الأمر والنَّهي بحالتي الاستقلال وغيره، فكيف لا نفرِّق في البين بجامع الطَّلب المتعدِّد في الأكثر، وقد ذكرنا حصول فوارق أخرى بين الأنواع الأخرى.

ولذلك فلا مساواة كاملة لا بكون اقتضاء الأمر النَّهي عن ضدِّه، ولا اقتضاء النَّهي الأمر بضدِّه، ما دام القسمان موجودين في البين.

وإذا قبلنا الفوريَّة في قسمها المستقل من النَّواهي فقط فلابدَّ من كونها في الزَّمان الضيِّق وهو وقت ما بعد الخطاب.

وأمَّا الواسع، فلا وجود له لئلاَّ يتمادى النَّاس بارتكاب المآثم متى ما اشتهوا أو متى ما شاءوا، ولذلك قد تنقلب الأوقات الموسَّعة للأوامر المناسبة كقوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ](1) ونحوه إلى أوقات ضيِّقة للنَّواهي المستقلَّة إلاَّ في حالة ما لو ارتكب المنهي عنه إذا اعتقد بكراهته في الموسَّع ثمَّ انكشفت حرمته فلابدَّ من الانتهاء منه فيه كذلك فوراً.

وعليه فبعد الأدلَّة الستَّة الماضية وردودها لا يتعيَّن القول بالفور كما يراه المتمسِّكون به في الأوامر وملحقاتها لا في اللُّغة ولا في الشَّرع إلاَّ مع ضيق الوقت وتعيُّنه، وإن حمل اللَّفظ والصِّيغة للاثنين وهما الفور والتَّراخي.

لأنَّ الحمل قد يحصل لغة وصيغة أو في ألفاظ الشَّرع، ولكن لا يجب أن يلازمه

ص: 198


1- سورة الأنعام / آية 151.

التَّطبيق إلاَّ مع حصول المؤهِّل له، وهو إمَّا التَّبادر للعلاقة بين اللفظ والمعنى إن كانت، أو ما تؤدِّي إليه القرينة مثل عطش الآمر حينما يأمر عبده أو خادمه بالسَّقي إذا كان لا يتحمَّل التَّأخير لشدَّته أو مثل بدو إمارات الموت في أوائل وقت الصَّلاة الموسَّع أو أواسطه أو أواخره.والتَّبادر لا يمكن أن نتساهل في أمره حتَّى لو أدُّعي للفوريَّة، إلاَّ بما قلناه سابقاً أكثر من مرَّة، وهو أنَّ تمر فترة زمنيَّة تشد العلاقة بين اللفظ والمعنى من كثرة الاستعمال واستقرار ذلك في الخواطر من دون انفكاك، بحيث يكون الفور وهو المراد من الأمر دون التَّراخي وجوباً من ذلك الوقت الموسَّع.

وهذا غير ممكن في اللُّغة لما ذكرناه عنها بهذه السُّهولة.

وأمَّا في الشَّرع فلا مانع منه إن أريدت حقيقة الطَّلب لما مرَّ ذكره أيضاً أو من تبعيَّته للأدلَّة المتوفِّرة الَّتي استقرأها فقهاء الأصول وأصوليُّوا الفقه وتتبَّعوا ما يناسب منها للمقام حتَّى ظهر منها ما يثبت ذلك.

القول الثَّاني: وهو الاشتراك اللَّفظي بين الفور والتَّراخي.

فقد أدَّعى السيِّد المرتضى علم الهدى قدس سره(1) بأنَّ الأمر ممَّا كان يحمل عليه يحمل على ما به الاشتراك اللَّفظي من الفور والتَّراخي، كما كان عنده دلالة الأمر على الوجوب والاستحباب اللَّفظي بنحو الاشتراك أيضاً، كما مرَّت الإشارة إلى ذلك في البحث عن الوجوب، بل هذا البحث تابع لذاك ظاهراً عنده.

وكان مضمون ادِّعاءه هذا واستدلاله عليه مع بعض التَّصرُّف التَّقريبي للذِّهن والإضافي المناسب منَّا:-

بأنَّ الأمر لمَّا صدر واستعمل في الدَّلالة على الفور وفي نفس المستوى أيضاً

ص: 199


1- الذَّريعة إلى أصول الشَّريعة ص132.

صدر واستعمل قبله أو في حينه عند قوم آخرين أو بعده على التَّراخي كذلك وبنحو مستقل في أحدهما عن الآخر وبمساواة وتعادل في دلالة واستعمال كلِّ منهما بما يخصُّه أو بنحو لم يثبت فيه زيادة دلالة على دلالة أو استعمال على استعمال.

ولا أسبقيَّة فهم الفور على التَّراخي ولا أسبقيَّة فهم التَّراخي على الفور مع عدم امتناع صيغ الأوامر وتوابعها ولو من حيث المبدأ في أن تحمل كلا المعنيين في آن واحد، وبالأخص كون ذلك بالمنظور اللُّغوي.

فلا محالة إذن من أن يكون حمل الأمر لهما حمل الاشتراك اللَّفظي ثابتاً، ما دامت اللُّغة وقواميسها تشهد بذلك، بحيث لم يفهم خصوص أحد المعنيين وحده دون الآخر إلاَّ بالقرينة معيِّنة المراد.

ومن ذلك ما قد جاء من الاستعمال المشترك لهذه الصِّيغة في القرآن الكريم وتوابعه من ألفاظ السنَّة العامَّة.

وبهذا النَّحو المتساوي لخصوص الفور وخصوص التَّراخي وظاهر استعمال لفظة الأمر في الاثنين معاً لابدَّ أن يكون حقيقة فيهما، ولكن ليس في أن يدل كلاهما معاً في آن واحد بهذا الاستعمال بقرينة كل منهما المتفاوتة إلاَّ بعزل مطلب عن مطلب حسب قرينته الخاصَّة.إلاَّ في مقام التَّمثيل للمشتركات اللفظيَّة مثل العين والجون والقرء ونحو ذلك، لتقريب كلِّي المشتركات إلى ذهن الطلاَّب ونحوهم أو للأحاجي الأدبيَّة المسليَّة أو المأدية والامتحانات المحرجة، ولكن هذا ليس موضع بحثنا.

لأنَّ موضعه المراد علمي وعملي وحقيقي في أصول مهمَّة لهذه الموسوعة.

ولذا لا يمكن أن يستفاد من أحدهما شيء مع هذا الاشتراك إلاَّ بالقرينة مع استحالة أن يكون شيء حقيقيَّاً وعلميَّاً وعمليَّاً من كليهما بدون الإفراز.

وممَّا يُعطي مجال وجود المشترك مثل ما مرَّ أنَّه لا شبهة في حسن استفهام المأمور

ص: 200

من آمره أو من يمثِّله عند حيرته في نوع المراد من المعنيين في أنَّه هل المراد هو الفور؟ أو التَّراخي؟ إذا لم تكن هناك عادة أو إمارة دالَّة على خصوص أحدهما دون الآخر.

لعدم إمكان الجمع بين الاثنين من إطلاق اللفظ لما مرَّ ذكره، وهذا الحسن في الاستفهام لا يناسبه إلاَّ التَّعرُّف على خصوص هذا أو خصوص ذاك، لاحتمال بقاء وجود الاثنين في آن واحد من هذا اللفظ بما يوصل إلى الحيرة لو لم تكن تلك القرينة المعيِّنة موجودة، لأنَّه لو اختصَّ بأحدهما أو انضمَّ أحدهما إلى الآخر بالقدر المشترك في الواقع أو الظاهر أو الأظهر بدون هذا الاشتراك اللفظي وبدون الحاجة إلى أيَّة قرينة، لتبادر ذلك المعنى إلى الذِّهن وبدون الحاجة إلى الاستفهام.

بينما الواقع خلافه فلابدَّ للخلاص من الالتباس وتعطيل الواجبات من نصب القرينة عند الحاجة حين إرادة الأمر الخاص، ليدل على المعنى المخصوص في المحاورات الكلاميَّة الاعتياديَّة أو الاستفهام المذكور أعلاه، لئلاَّ يكون إغراء بالجهل وهو كثير في تصرُّفات الجاهلين من أهل اللُّغة.

هذا ما يتعلَّق بعموم اللغة وقد يكون معها بعض عموميَّات ما في الكتاب والسنَّة الَّتي لا تعنينا أيضاً وقد رجح الاستفهام علميَّاً وأدبيَّاً عند الحاجة على نحو الحقيقة.

وأمَّا خصوصيَّات الكتاب والسنَّة وهي أمور الأحكام الشَّرعيَّة وتتبعها الاعتقاديَّات غير الضَّروريَّة، ومعها ما يناسبها من خصوصيَّات اللغة المقاربة، فلابدَّ للشَّارع أيضاً من أن ينصب القرائن لنا إن كنَّا لا نهتدي إليها إن أراد شيئاً خاصَّاً أو أن يعرِّفنا كيف ننصب القرائن عند الحاجة في المشتركات أو أن نسأل أهل الذِّكر وكما قال تعالى [فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ](1) وبما هو أهم وأحوج إليه من أمر المشتركات في عرف اللغة العامة.

ص: 201


1- سورة النحل / آية 43.

ولذا لم تغفل الشَّريعة المقدَّسة عن أهميَّة هذه الأمور فاتَّخذت لنا العلاجيَّات المهمَّة في روايات أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ لو أشكل أمر من هذا القبيل.

ولذلك لا يمكن القول بانَّ الشَّارع تصدَّى لوضع المشتركات لولا بعض موارد التَّقيَّة الملجئة إلى التَّعبير بالإجمال للتدرُّج أو التَّقيَّة إلى أن يأتي دور كشف الواقع، لأنَّه لم يترك شيئاً إلاَّ وبيَّنه.

وإنَّ ما حصل في نصوصه من الإجمال ونحوه فما هو إلاَّ من سوء فهم المكلِّفين الواردين في التَّحقيق أو من الكوارث الطَّبيعيَّة وغير الطَّبيعيَّة على مصادر الرِّوايات وعدم التَّحقيق العلمي الكافي منه والحاجة إلى استفراغ الوسع الكامل في سبيل ذلك.

وقد أجيب السيِّد قدس سره بأنَّ الَّذي يتبادر إلى الذِّهن من إطلاق الأمر من دون تكلُّف ليس هو إلاَّ مطلق طلب الفعل، لحمله له واستعماله فيما هو الأعم من الفور والتَّراخي، الَّذي قد يكون أوَّل حصَّة من زمن التَّراخي الموسَّع - وهي الَّتي يمكن أن تجتمع أيضاً مع حصَّةالفور المضيَّقة من أوَّل الأوقات كذلك - هو ما يحقِّق المطلوب من طلب الفعل من دون حاجة إلى الاشتراك وقراءنه وهو المقدَّم عليه كذلك في مورد الشَّك.

لأنَّ لفظ الأمر لمطلق الطَّلب يحمله ويستعمل فيه، ولفظ المشترك يحمل الجميع ولا يستعمل فيها بأجمعها كما سبق بيانه، مضافاً إلى ما يفسحه لنا مجال مطلق الطَّلب من بقيَّة أوقات الوقت الموسَّع لذلك عند الحاجة أو لغيره من اللوازم الأخرى.

وقد يكون من بعض حالاته اجتماع الفور مع التَّراخي ممكناً، بل واقعاً في الخارج كالزَّمن الثَّاني الَّذي عصى فيه المأمور حين تخلَّف عن الأوَّل بعدم الامتثال فيه، بناءاً على الفور ولو تقديراً لو وجب فما أدى وظيفته إلاَّ في ذلك الثَّاني وهو من أوقات التَّراخي حتماً أو ترك ذلك المأمور الأوَّل حتَّى جاء الزَّمن الثَّاني حينما لم

ص: 202

يجب الفور بل يرجح استحباباً أو ما لا مانع منه كالمباح.

وهكذا قد يكون هذا الأمر حاصلاً بأجزائه في تنفيذه في الوقت الثَّالث، وكذا البواقي على ذلك الاحتمال ممَّا يتَّسع له مجال مطلق الطَّلب في الوجوب والاستحباب والعمل الصَّحيح، ممَّا قد يسبِّبه إضافة لطف وطيب أخلاق تسامحاً، وإن كانت الحاجة قد تدعوا عرفانيَّاً إلى الاستغفار في مواردها، لكنَّها بلا ملازمة دائمة لهذه الصحَّة لا ما كان في خصوص كلِّ من الفور والتَّراخي حتَّى يتعاندا أو لا يمكن اجتماعهما في الفعل الواحد.

ولأنَّ كلا منهما قد لا يفهم من لفظ الأمر إلاَّ بالقرينة لا مع تجرُّده عنها حتَّى يقتضي كونه حقيقة فيه كما في الجواب الَّذي أورد على السيِّد وما جاءه من إضافاتنا.

ولعلَّه يمكن رضاه بما نقول أو بشيء منه لو نجعل ترجيحنا للجامع الأعم، وهو الامتثال بمطلق الطَّلب على نهج العرف الشَّرعي الَّذي نراه لا اللُّغوي، إن استحال اللُّغوي في نظره.

وإن أمكن في نظرنا بعض الشَّيء كما كان يرجِّحه في إثباته للوجوب الشَّرعي دون اللغوي، لأنَّ اللغوي كان عنده مع الاستحباب مشتركاً لفظيَّاً كما في المقام، بل إنَّ عموم هذا التَّابع الثَّاني فرع للكلام عن أصل المتبوع وهو الوجوب.

وعلى الأقل أنَّه لم يصدر من السيِّد قدس سره منع من القول بمطلق الطَّلب أو كلِّي الطَّبيعة بالمنظور العرفي الشَّرعي، الَّذي هو خير من الاشتراك عند الشَّك، لما أشرنا إليه وما سيأتي.

ولأنَّ في مطلق الطَّلب إمكان الإسراع بأداء الواجب أو عدم التَّساهل في أمره إلى آخر وقته الموسَّع، وإن لم يكن في القصد بعض التَّفاصيل حرصاً على إبراء الذمَّة، ولو بالتَّمسُّك بقاعدة الميسور.

بينما الاشتراك لو كان مع عذر أو حتَّى مع عسر تحصيل القرينة المعيِّنة فيه

ص: 203

لأسباب لا بدونها، وهي:-

1 - انسداد باب العلم لكثرة المصاديق المشتركة في اللُّغة، وصعوبة الأخذ بها في مجالاتنا الفقهيَّة لو يبنى عليها دائماً، لعدم إمكان العثور على القرائن المريحة دائماً.

2 - إبقاء كثير من واجباتنا معطَّلة، وعرقلة أداء الواجب بما كان أسرع منه فيإبراء الذمَّة، وبالخصوص أكثر في الواجبات الَّتي حلَّت أوقاتها ولو موسَّعة وبما قد لا يتيسَّر فيه تحصيل هذه القرينة أو تلك.

3 - اتِّهام الشَّريعة بقصورها أو تقصيرها وتكليفها للأمَّة بما لا يطاق، والأمر ليس كذلك.

هذا ويكفي في حسن الاستفهام كونه موضوعاً للمعنى الأعم المذكور لا غيره، ولهذا يحسن للآمر فيما نحن فيه أن يجيب سائله بالتَّخيير بين الأمرين من دون أن يكون فيه خروج عن ظاهر اللفظ حينما كان كذلك ، ولو كان موضوعاً لكل واحد منهما بخصوصه كما يريده السيِّد لكان في إرادة التَّخيير بينهما فيه - إذا أجاب الآمر سائله - خروج عن ظاهر اللفظ وارتكاب للتَّجوُّز وهو مدعاة للتّكلُّف.

في حين أنَّ ما نرجِّحه نحن في الجواب لا تكلُّف فيه للانفتاح بما مرَّ ذكره.

بل إنَّ الاستفهام قد يكون لا داعي له حتَّى في المقام لإمكان الالتزام بالقدر المتيقَّن فيه وبالتَّخيير مستقلاًّ عنه من غير داع للتَّحيّر لوضوح ذلك من مطلق الطَّلب، إلاَّ ما أغمض من بعض أمور وأوامر الشَّريعة في أطراف الجوامع ممَّا يحتاج إلى استفراغ الوسع عند احتمال وجود الضالَّة في السَّعي لذلك أو ما تبرزه من القرائن المشخِّصة لأحد الطَّرفين أو الأطراف دون الباقي.

ولكن هذا قليل لا يناهض ما شخَّصناه.

ص: 204

القول الثَّالث: وهو الدَّلالة على مطلق الطَّلب.

إنَّ ثالث الأقوال ممَّا مرَّت الإشارة إلى مهمَّات إعدادها في المقام وهو الرَّأي المعتبر منها، وهو الدَّلالة على مطلق الطَّلب، وهو ما كان الأعم من الفور والتَّراخي وإليه ذهب جماعة منهم المحقِّق أبو القاسم محمد بن سعيد والعلاَّمة الحلِّي قدس سرهما.

واستدلُّوا على هذا المراد بأدلَّة قد مرَّ ما يكفي منها في ردودنا على القولين الماضيين، فأغنانا ذلك عن الإطالة والحمد لله، فصار المجال واضحاً ومثبَّتاً لقوَّة هذا القول الثَّالث وجاهزاً أكثر.

إضافة إلى ما سنوجزه من دليلهم على ذلك مع بعض تصرُّف نافع منَّا.

وهو أنَّه لمَّا كان الأمر لم يدل على الفور وحده لما مرَّ دفعه، ولا على التَّراخي وحده كذلك لما مرَّ دفعه أيضاً، لوجود حالات الفوريَّة معه حتَّى في الوقت الواسع فضلاً عن الضيِّق.

ولم يدل على الاشتراك اللفظي أيضاً لما مرَّ دفعه قريباً وتوجيه أمر الخروج من مشكل الاشتراك إلى حالة هذا الثَّالث بما سبَّب قوَّته.

ومن ذلك اندماج التَّراخي مع الفور بجامع الطَّلب، بحيث لا يجعل الفور وحده ولا التَّراخي وحده قادراً على الاستقلال حتَّى في ذلك الوقت الواسع ممَّا مرَّ ذكره، وهو الأقدر من الاشتراك اللَّفظي قطعاً.

لعدم الحاجة إلى القرينة المعيِّنة وإن حمل قرينة الإفهام، لإمكان صدق الفور والتَّراخي حتَّى في الحصَّة الأولى من الزَّمن الموسَّع، لكون خصوص الفور وخصوص التَّراخي خارجين عن مدلول الأمر في هذا الجامع حسب الفرض، على مبنى أنَّ المجاز خير من الاشتراك.

فلابدَّ إذن من الرُّضوخ إلى ما يمكن الرِّضا به، بل هو المتعيِّن كما مرَّ في التَّابع

ص: 205

الأوَّل، وهو استقرار أمر الدَّلالة على مطلق الفعل، وهو الأعم من الفور والتَّراخي، الَّذي نتيجته في الوقت الموسَّع أنَّ أيَّاً من الاثنين إذا أُتي يه كان مجزياً، وإن كان التَّراخي بالفعل قد تمر به في بعض الأوقات حالة من العصيان حينما يتخلَّف عن الامتثال في الوقت الأوَّل من آنات الموسَّع.

إلاَّ أنَّه لم يثبت في مثل هذا الأمر الجامع، إلاَّ حينما ينكشف له أنَّ في التَّقدير كان الواجب هو الفور لقرينة ذلك، لتعيُّن طلب حقيقة الفعل في مدلول الأمر.

والفور والتَّراخي خارجان عنها، لأنَّهما من صفات الفعل لا الفاعل، فلا دلالة له عليهما لا بحسب المادَّة ولا بحسب الصُّورة (الهيئة).

ولكن لإلفات النَّظر أكثر نقول تأكيداً: أنَّ هذا القول لو كان منظوراً عند أصحابه قدس سره بالاعتبار العرفي الشَّرعي، وبالأخص حينما يقول بعض من يرى رأي الدَّلالة على مطلق الطَّلب في هذا القول الثَّالث.

ونحن معهم كما لا يخفى بأنَّ هذه النَّتيجة هي كالنَّتيجة في التَّابع الأوَّل.فإنَّ المطلب يكون هنا كما كنَّا قد عقَّبنا عليه هناك، وهو أنَّ الأمر يدل على مطلق الطَّلب.

ولو أريد أحد الأمرين من الفور أو التَّراخي فلابدَّ من نصب القرينة على مراده.

وفي حال سعة المدارك الشَّرعيَّة - إن انغلقت الأبواب العلميَّة لبعض العوارض الطَّارئة مع احتمال وجود الخلاف - فلابدَّ من استفراغ الوسع أكثر، لتحصيل الخصوصيَّة، فيما لو كان الوقت موسَّعاً ولو لاحتمال وجود الضَّالَّة عقلائيَّاً إن أمكن السَّعي، أو وجوب الفوريَّة في الوقت المعيَّن أو ما يشبهه من حالات الانحصار الزَّمني ولو بعد الحصَّة الزَّمنيَّة الأولى، لأنَّ هذا المنظور يختلف عن عموم المنظور اللُّغوي.

ص: 206

تنبيه مهم

حول ما مضى من التَّابع الماضي والآتي

لابدَّ من تبيُّن الفرق بين حالتي الفرق بين الفور والتَّراخي -- من التَّابع الماضي -- وبين الموسَّع والمضيَّق الآتي، لكل ذكي ومتتبِّع، لما يذكر من المصطلحات الخاصَّة لكل من المقامين، لاحتمال الاشتباه بين كل منهما إذا لاحظ ما يتناسب معه من الأدلَّة والقواعد الفقهيَّة والأصوليَّة المتعلَّقة به.

فإنَّ الموسَّع من الآتي قد بتناسب معه الفور والتَّراخي، والمضيَّق منه كذلك قد يتناسب مع كل منهما، لأنَّ دين الله من الفقه العام والخاص نصَّ كثيراً على ما يتناسب من نصوص التَّيسير والتَّسهيل آيات وروايات وقواعد وأصول، وسوف يتَّضح البعض عن طريق نماذج من الأمثلة.

لكن لو حاولنا التَّفريق الأدق بينهما نجدهم قالوا عن الفور والتَّراخي بأنَّ صيغتهما لا تدل بشيء من الدِّلالات الثَّلاث بأكثر ممَّا دلَّت عليه أدلَّة حسن المسارعة والاستباق بالخيرات والمبرَّات، والحسن بما فوق الوجوب.

بينما الموسَّع والمضيَّق الآتيان فهما خاضعان للزَّمان تكويناً وتشريعاً في الواجب وغيره من أفعال المكلَّفين.

فإن كان الزَّمان دخيلاً في الواجب شرعاً أيضاً يسمَّى موقَّتاً، وإلاَّ فغير موقَّت، والأوَّل إمَّا مضيَّق أو موسَّع، والموسَّع إمَّا فوري أو لا، والأخير له أفراد طوليَّة وعرضية ولا إشكال في وقوع الجميع حسب التَّعليم الشَّرعي.

لكن قد يكون الموقَّت حتَّى مع سعة وقته -- وكذا غيره -- ممَّا لا مهلة في أداءه فضلاً مع ضيق الوقت بحق أداءه، ممَّا لا يمكن فيه إلاَّ فوريَّة الأداء، ولا تتناسب معه حالة المسارعة والاستباق في البحث الماضي.

ص: 207

التَّابع الثَّالث / الواجب الموسَّع والمضيَّق

والزَّائد على وقته وما ليس له وقت.

إنَّ من أهم المقولات التِّسعة لأعمالنا العامَّة وعلى الأخص الشَّرعيَّة الخاصَّة والَّتي تتشخَّص فيه الأحداث ويمتاز به وجودها عن عدمها ويمتاز به حكم بعضها عن البعض الآخر.

هو الزَّمان، اعتماداً طبيعيَّاً وشرعيَّاً على أن الأشياء مرهونة بأوقاتها على أي نحو يرتبط الزَّمان بكل منها.

وقد برز هذا الأمر بالصِّيغة الأكثر في الشَّرعيَّات للحكمة البالغة إلهيَّاً وراء ذلك من أسباب التَّشريع، ومن ذلك ما يرتبط بشرطيَّة أو قيديَّة ذلك الأمر الشَّرعي في الأداء أو القضاء وبما قد يختلف عن الأمور العامَّة.

لكون الشَّرع دقيقاً في الأمور الَّتي له علاقة بالحكم عليها وحدَّياً في ذلك، ومعه العقل السَّليم المطيع لأوامره، وإن لم يخرج عن أطار الزَّمن حتماً كذلك كبداية لكل شيء تكويناً وتشريعاً.

وقد كتبنا بعض بحوث نسأل الله تعالى إتمامها بعنوان (أوقات العبادات والمعاملات ودقائق ضبطها) فيها توضيح ذلك بما لابدَّ أن ينتفع به.

فقد يكون منها ما كان مؤقَّتاً بوقت ما، وهو ما يستقر عليه التَّكوين والتَّشريع، وقد يكون منها ما لا يكون مؤقَّتاً بوقت معيَّن، وإن خضع للزَّمن في صيرورته الاعتياديَّة، وهو الَّذي يستقر عليه التَّشريع في تحديداته لا التَّكوين وإن كان لعدم انفكاكه عن الزَّمان طبيعة، لكنَّه لا اعتبار له شرعاً بتلك الدقَّة إلاَّ في حالات خاصَّة قد يصاحب الشَّرع فيها بعض حالات التَّكوين بما ليس له وقت محدَّد كالأحكام الَّتي تشرِّع متى ما يولد المولود ومتى ما يبلغ المكلَّف.

ص: 208

وهكذا في جميع الحالات وكافَّة الأمور ولو ظاهراً بلا أن يكون لها وقت محدَّد حتَّى الوفاة للإنسان وأحكامها إلاَّ من كان المولود له شأنيَّة إضافيَّة في نبوَّته أو رسالته أو إمامته أو علميَّته الَّتي يراد لها أن تشاع ذكراها حتَّى حالة الولادة لإحصاء كل ما يتعلَّق بحياته الَّتي قد يكون منها ما يرتبط بالولادة ممَّا يتناسب والذكر الخاص به حينها أو باستمرار إحياء ذكراها في كل سنة.

الأوَّل: وهو المؤقَّت.

فإمَّا أن يكون موسَّعاً، وهو وصاحبه الآتي أشير إليهما في النُّصوص وغيرها، كأن يكون العمل الكذائي مثلاً بالإمكان إجراءه في الوقت الواسع لمرَّات عديدة يمكن أن يستغرقها ذلك الزَّمان لو أريد ذلك أو احتيج إليه.

إلاَّ أنَّ المطلوب الشَّرعي واحد كما في مقاماتنا الشَّرعيَّة الواجبة المتعارفة بحسب الحكم الأوَّلي لطفاً من الله تعالى، لأجل أن يتَّسع الوقت للمشاغل المهمَّة الأخرى، وحتَّى لا تتزاحم مع الواجب المشخَّص حرصاً عليه.

كالصَّلاة اليوميَّة الموقوتة والمتفاوتة بين أوقات الوجوب والفضيلة الخاصَّة ابتداءاً، والمشتركة التَّامَّة بين الظهرين مثلاً والخاصَّة للأخيرة الثَّانية كذلك، كفرض الوقت الموسَّع للظهر والعصر الأدائيَّين من الزَّوال إلى الغروب ما عدا الوقتين الخاصَّين لكل منهما، والمغرب والعشاء إلى منتصف اللَّيل كذلك، وما بين الطلوعين لصلاة الصُّبح على التَّفصيل المعروف في الفقه.

وكقضاء شهر رمضان لعموم السنة ما عدا العيدين.

وأداء الحج في العمر مرَّة واحدة عند الاستطاعة وفي موسمه، وهكذا بقيَّة الموقَّتات الأخرى من الفقه.

وإمَّا أن يكون مضيَّقاً، وهو ما لا يمكن إجراؤه من المكلَّف إلاَّ حسب إرادة الشَّرع وطلبه في وقته الخاص المعيَّن، من دون أن يتجاوز عنه تقدُّماً أو تأخُّراً مع

ص: 209

كفاءته لكلِّ ذلك العمل بمساواة كافية.

إمَّا بتعيُّنه في ذلك الوقت من قبل العرف العام لو احتيج إليه شرعاً، أو من قبل العرف الشَّرعي نفسه، أو تعيُّنه ولو من صدفة اضطرَّته إلى ذلك ثمَّ أمضي له شرعاً ولو في الوقت الموسَّع كمؤشِّر الموت أو بقصد المكلَّف، كما لو عين به واجباً مضيَّقاً على نفسه ولو في الموسَّع كالنَّذر والعهد واليمين.

وهذا الثَّاني وهو المضيَّق أقرب من سابقه الموسَّع مصداقيَّة إلى ما مرَّ من (أنَّ الأشياء مرهونة بأوقاتها).

إلاَّ أنَّه لم يكن منسجماً انسجام الأوَّل مع اللطف الإلهي في التَّكليف به، ولذلك نعتبره نوعاً خاصَّاً من رعيل التَّكاليف الثَّانويَّة الَّتي سبَّبها المكلَّف على نفسه وأنَّ شرعيَّته أتت من فسح الشَّارع له المجال فيه أو جرَّه القدر إلى ذلك بعد أن كان الأصل هو السِّعة، لكون المكلَّف لم يبادر بداية إلى الامتثال ولو من المرجِّح الاستحبابي.

ولذلك يكون المقام ممَّا تنطبق عليه الآية الكريمة وهي قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُمَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ](1) وكما سوف يتَّضح أكثر.

وإمَّا أن يكون زائداً على الوقت المحدَّد وبما كان أكبر منه بحيث لو أجري العمل فيه لبقي قسم منه خارج الوقت المحدَّد له كما سبق وسيتَّضح قريباً كذلك.

وأمَّا الثَّاني: وهو ما ليس له وقت معيَّن من الزَّمان.

فهو وإن كان ممَّا لابدَّ أن يصير في أحد أوقات تحل مناسبتها مصادفة فيجب أو يرجح أو يباح كما سبق ذكره، بمعنى أنَّه يمكن أن يجري في أي وقت ومنه الَّذي يجب فعله ويأتيه حكمه من مقتضياته.

ص: 210


1- سورة الرعد / آية 11.

ولذا فرَّق العلماء في أمره بين أن يكون فوريَّاً وبين غيره من نوع عدم التَّوقيت له بوقت محدَّد، لأسباب بعض العوارض الطَّارئة عليه.

لا للذَّات الَّتي ليس لها وقت معيَّن كما في صلاة الزَّلزلة، فإنَّ صلاتها وقت حدوثها فوريَّة وإن انتهت وعرف بها المكلَّف لأحد أوقاتها في الأداء، ولأجل ذلك دلَّت الأدلَّة المناسبة كما هو محرَّر في محلِّه من الفقه.

وكذا صلاة الجنائز كلما مات أو استشهد مسلم.

هكذا عرَّفتنا الأوامر الإلهيَّة من آيات الأحكام وما يلحق بها من القرآن الكريم والسنَّة التَّابعة له من أوامرها وملحقاتها وما يتبع المصدرين من الملحقات الإضافيَّة في فنِّ الأصول.

وكذا ما ألحق بذلك من اللغة الخاصَّة وعرفيَّاتها المخصوصة الَّتي لا يمتنع عقلاً ولا وضعاً ولا عادة من حمل ألفاظها الخاصَّة القريبة من التَّعارف الشَّرعي وما يحوم حوله على ما أوضحه لنا المفسِّرون المهمُّون لعموم القرآن ولخصوص آيات أحكامه وما عرَّفنا به فقهاء الأصول وأصوليُّوا الفقه.

وعلى ذلك شواهد ومشاهد مؤنسة لأهل التَّحقيق والتَّتبُّع لو اطَّلعوا عليها، وسوف تظهر مصاديقها للمحقِّق والمتتبِّع في مضامين بحوثنا الفقهيَّة المستقبليَّة المرتبطة بخصوص هذه العناوين إن شاء الله تعالى.

وقبل الشُّروع بالمقصود الأصيل في البحث وهو الأوَّل - الموسَّع - لنذكر مقدِّمة مختصرة قبله.

وهي عن الموردين السَّابقين الَّذين أوَّلاهما ما كان ملحقاً بالأوَّل الأصيل، وهو الزَّائد على الوقت.

وثانيهما ما ليس له وقت.

وهو الثَّاني بعد المقصود ممَّا أشرنا إليه لمطلبهما بالكلام المختصر عنهما أوَّلاً

ص: 211

لخلوِّهما عن كبير الفائدة بالتَّفصيل لهما للتَّفرُّغ ثانياً بعد ذلك إلى ذلك الأصيل.

أمَّا الكلام عن الأوَّل من الاثنين الإضافيَّين، وهو الزَّائد من الأعمال على الوقت وهو الَّذي لا وجود له في أصله لا في التَّكوين ولا في التَّشريع وبالأخص إذا كان الواجبيستغرق في أداءه الوقت وزيادة، لأنَّه بذلك لابدَّ وأن يخالف عقيدتنا الحقَّة في العدل الإلهي والَّتي لا يجوز لأي شخص الشَّك فيه للأدلَّة الكثيرة الثَّابتة في محلِّها من علم الكلام ولقوله تعالى [قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا](1) وقوله [وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا](2) وقوله [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ](3) وقوله [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا](4)، وغير ذلك ممَّا يدل على أنَّ الأمور مرهونة بأوقاتها كما سبق.

ولكن قد يحصل شيء من التَّجاوزات بصورة استثنائيَّة خارجة بالدَّليل الخاص وغير المنافي للعدالة، لكون التَّكليف لم يكن مثلها ما يستغرق الوقت كلَّه وزيادة، وإنَّما من قبيل ما قد يتجاوز الوقت ولكن بداية العمل كانت في ضمن الوقت الخاص لا من أوَّل الخارج عنه.

ولكن هذا لا يمكن ولا يجوز أن يقاس عليه إذا دلَّ الدَّليل عليه، كما لو لم يدرك المكلَّف من صلاته الأدائيَّة من آخر وقتها إلاَّ مقدار ركعة أو ركعتين أو ثلاث إذا كانت رباعيَّة والباقي صار في خارج الوقت كما في صلاة العصر الَّتي نهاية وقتها غياب الشَّمس وصلاة العشاء الَّتي نهاية وقتها للمختار نصف اللَّيل.

فلابدَّ من الاستعجال في مثل هذا الأداء لو ابتلي المكلَّف بهذا الابتلاء وأمثاله

ص: 212


1- سورة الطلاق / آية 3.
2- سورة الأحزاب / آية 38.
3- سورة القمر / آية 49.
4- سورة البقرة / آية 286.

وإن صار باقي الرَّكعات في خارج الوقت وهكذا بقيَّة الأمور لو كانت من هذا القبيل أو ما يشبهه لو دلَّ عليه الدَّليل.

للأدلَّة العامَّة الدَّالَّة على ذلك قبل الخاصَّة، وهي قوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا](1) وقوله تعالى [وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ](2) مع قاعدة الميسور المستفادة من الحديث المشهور (لا يترك الميسور بالمعسور) جمعاً فيما بينهما أي وإن تجاوز عن حدِّه المرسوم له.

وأمَّا ثاني الإضافيَّين: وهو الَّذي لا وقت له خاص في الشَّرع وإن كان كل فعل لابدَّ له بالطَّبع من وقت يحتويه، إلاَّ أنَّ الشَّرع وسَّع نطاقه، وهو إمَّا فوري كإزالة النَّجاسة عن المساجد أثر رؤيتها والنَّهي عن المنكر أثر حصول مقتضيه وردِّ السَّلام لمن بدأ به فوراً وإن كان واجباً كفائيَّاً والفوائت من الصَّلاة والصَّوم ونحوهما إذا بدت إمارات الموت على المكلَّف بها.

وإمَّا غير فوري كقضاء الفوائت خارج الوقت الأدائي بلا مقتضي ملزم للتَّعجيل كالصَّلاة والصِّيام ونحوهما.نعم يمكن أن يستثنى من سعة وقتهما مثلاً حضور الصَّلاة الحاضرة فإنَّها إذا ضاق وقتها الأدائي قُدِّمت على الفائتة، وهكذا الصَّوم القضائي بالنِّسبة إلى ما عدا يومي العيدين وأيَّام التَّشريق لمن كان بمنى سواء كان ناسكاً أم غير ناسك وأيَّام شهر رمضان الخاصَّة بالأداء في أيَّامها دون أن يكون فيها أي قضاء.

ومن غير الفوريَّات الخمس والزَّكاة إذا لم تبدأ في أموالهما حالة التَّلف أو ظن السَّرقة، أو حاجة المستحق السَّريعة لهما، أو ضعف المالين عن القدرة الشِّرائيَّة بسبب التَّعطيل، أو يصعب إيصالهما إلى الحاكم الشَّرعي لبعض الطَّوارئ وإن

ص: 213


1- سورة البقرة / آية 286.
2- سورة محمد / آية 33.

طالب بهما.

ومن غير الفوريَّات كذلك صلاة الجنائز، إلى غير ذلك ممَّا ليس له وقت معيَّن ممَّا هو محرَّر كله وبإسهاب في الفقه فليطلب هناك.

وبهذا البيان من المقدِّمة نكتفي لهذا الاطِّلاع العام ولأخذ الفكرة العامَّة عمَّا ينبغي التَّحرُّز عنه حين الخوض في صميم الموضوع وذي المقدِّمة المهم.

فنقول عن الأوَّل: وهو المقصود في البحث وهو الَّذي عبَّرنا عنه بالمؤَّقت ولنأخذ ما كان موسَّعاً منه وهو الأهم كما سلف وكما سيأتي.

فإنَّه قد ذكر الأصوليُّون من علمائنا عنه قدس سره بأنَّ الأمر بالفعل في وقت يفضل عنه جائز عقلاً، بمعنى إمكانه وعدم امتناعه وواقع على الأصح شرعاً، وهو كذلك وورد نقلاً كما لا يخفى على المتتبِّعين للنُّصوص الشَّرعيَّة وظواهرها في المقام والَّتي كلَّفتنا بذوات الأوقات الموسَّعة من العبادات وغيرها، وهو الَّذي يمكن بل يصح أن يسمَّى بذي الوقت الموسَّع، لأنَّ فيه توسعة على المكلَّف بحكم تجويز أداءه في أوَّل الوقت وفي أثناءه وفي أواخره.

كالصَّلوات اليوميَّة وصلاة الآيات في حالتيهما الشَّرعيَّة الطَّبيعيَّة، وكلِّي فريضة الحج في ضمن أشهره الثَّلاثة وبقيَّة أعمال الحج المفصَّلة ما عدا الوقوفين، لحكمة إلهيَّة لا يعلمها إلاَّ الله، أو لأنَّهما أهم ركنين في الحج، إلاَّ إذا قصدنا من الرُّكنين خصوص المسمَّى الجزئي، فتحصل السِّعة كذلك وإن كان عليه فداء عند المخالفة.

والعمرة المرتبطة بأوقات كل منها المفصَّلة إلى غير ذلك ممَّا وردت فيه الأدلَّة الكافية بحكم اللطف والفضل الإلهيَّين الزَّائدين على وجوب شكر المنعم على عظيم نعمه الَّتي منها سعة الوقت والثَّابت في حقِّه وجوب هذه الأمور على العباد وعلى نحو من السِّعة وقاعدتها.

أمَّا من جهة العموم فهي آيات عديدة منها قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ

ص: 214

يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ](1) وإن جاء في ضمن آيات الصَّوم وغيره لسعة الحياة في مشاغلها اللازمة الأخرى.

وأمَّا من جهة الخصوص كما فيما يتعلَّق بالظهرين من هذا التَّوقيت الموسَّع في مثلقوله تعالى [أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ](2) وغيره ممَّا سوف يأتي ذكره عند التَّفاصيل الفقهيَّة.

إلاَّ أنَّه لأجل هذا التَّوقيت المومى إليه بالتَّوسعة لا يجوز ترك الواجب في جميع الوقت بطريق أولى حتَّى بترك فعله إلى وقت القضاء وإن أمكنت صحَّته، لأنَّه قد يكون في حالة غير اختياريَّة حتَّى لو صوحبت بشيء من التَّساهل والمعصية.

لما قد فرَّقنا فيه بين الحكم التَّكليفي والوضعي لأدلَّة الوجوب في الوقت وحرمة التأخير عنه أدائيَّاً، ولوجوب احترام اللطف والفضل الإلهيَّين.

وإن اكتفى الشَّرع في سعته بالمرَّة الواحدة في أصل الشَّرع، أو أنَّه وجبت الإعادة أو استحبَّت، تحت عناوين أخرى ليس هنا موضع بحثها.

وبهذا القول قال أكثر الأصحاب كالمرتضى والشَّيخ والمحقِّق والعلاَّمة وصاحب المعالم قدس سره وجمهور المحقِّقين من العامَّة(3).

ولكن أشكل آخرون بل أنكروا على هذا، لظنِّهم أنَّ هذا يؤدِّي إلى جواز ترك الواجب حينما يترك من أوَّل الوقت ويؤخِّر إلى وسطه مثلاً أو يترك من وسطه بعد اليأس من أوَّله ويؤخِّر إلى ما قبل آخره، وهكذا فيما هو الأوسع من الأوقات لمثل الواجب الواحد من الواجبات.

فمنعوا هذا السَّراح المطلق بما مضى ذكره بين قائل بأنَّ الوجوب فيما ورد من

ص: 215


1- سورة البقرة / آية 185.
2- سورة الإسراء / آية 78.
3- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص73.

الأوامر الَّتي ظاهرها ذلك كان مختصَّاً بأوَّل الوقت وهو المستظهر من كلام المفيد قدس سره على ما ذكره العلاَّمة قدس سره عنه.

وبين قائل بأنَّه مختص بآخر الوقت، ولكنَّه لو فعله في أوَّله كان جارياً مجرى تقديم الخمس والزَّكاة فيكون نفلاً يسقط به الفرض، وهو منسوب إلى بعض العامَّة من غير المحقِّقين.

وبين قائل بأنَّه مختص بالآخر كذلك ولكنَّه إذا وقع في الأوَّل وقع بلا حكم إلاَّ أنَّ المكلَّف إذا بقي على تكليفه تبيَّن أنَّ ما أتى به كان واجباً وإن خرج عن صفات التَّكليف كان نفلاً كتقديم غُسل الجمعة يوم الخميس أو ليلة الجمعة وهو منسوب إلى بعض آخر من العامَّة من غير المحقِّقين.

ولكن لا يخفى على المتتبِّعين ما في هذه الأقوال الثَّلاثة - على الرَّغم من جلالة قدر صاحب القول الأوَّل وهو الشَّيخ المفيد قدس سره إن ثبتت النِّسبة إليه - من الضَّعف.

ولذلك أجيبوا أوَّلاً: بما أسلفناه ممَّا قاله أكثر الأصحاب ممَّا لم يجعل في قول الشَّيخ المفيد قدس سره قوَّة استقلاليَّة بدون أن يكون في قبالهم مثل رأي الأكثر المشار إليه.

وثانياً: بأنَّ ما أفاده الشَّيخ المفيد قدس سره - وإن كان ظاهره عدم الرِّضا بتأخير الواجب عن الوقت الأوَّل لو طبِّق في الزَّمن الثَّاني فضلاً عن الثَّالث أو الأبعد من ذلك الموسَّعالمفترض في هذا القول، لأهميَّة رجحان عموم التَّقديم غير المستنكر - أنَّه يكون من القضاء أو ما يجري في مسلكه مع هذه السِّعة وهو غريب.

بينما هذا القول المستظهر من سماحته قدس سره لا يؤدِّي إلاَّ إلى ما يخص الوقت المضيَّق لا الموسَّع المفترض.

ولأنَّ الاختصاص المشهور بيننا مثلاً إن كان يقصده لمثل صلاة الظُّهر من الوقت الموسَّع من أوَّل وقتها وهو ما كان بمقدار أدائها، وهكذا المغرب من أوَّل وقتها الموسَّع بمقدار أداءها وهو لا يعني حرمة الأداء لكلٍّ منهما في الوقت الثَّاني أو ما

ص: 216

بعده وإلى ما قبل وقت العصر بمقدار الظُّهر أو ما قبل وقت العشاء بمقدار المغرب من آخر وقتيهما لتساوي أوقات الموسَّع المفترض في البحث.

اللَّهمَّ إلاَّ في فضيلة التَّقديم وقلَّة ثواب التَّأخير الَّذين أشرنا إليهما لا غير مع الاختيار والتَّعمُّد، وهذا لا يمكن إنكاره.

بل لا ينبغي أن يُتساهل فيه لكراهة التَّأخير عمداً فضلاً عن عدمهما.

ولهذا لا يمكن في أمر وجوب الأداء في الزَّمان الأوَّل أن نرتضي به كما يفيد المفيد قدس سره أن يكون التَّوجيه الوجيه إلاَّ بنحو حرمة صلاة غير صلاة الظُّهر في وقتها الخاص من أوَّل هذا الموسَّع لها وللعصر، وكذلك حرمة صلاة غير صلاة المغرب في وقت المغرب الخاص من أوَّل الوقت الموسَّع لها وللعشاء كما لا يخفى.

ولا يخفى أنَّ الفرق واضح بين حرمة غير صلاة الظُّهر في وقتها الخاص المذكور وحرمة صلاة غير المغرب في وقت المغرب الخاص المذكور.

وبين وجوب الظُّهر أو المغرب في الوقتين الخاصَّين لهما وبالنَّحو الَّذي لا يسمح من التَّأخير في وقتيهما الموسَّع.

لكون هذا الأخير يحتاج إلى دليل صريح، بل هو باطل إجماعاً، هو وادِّعاء وجوب الفرض في الوقت الأخير مع السِّعة المفترضة في البحث كما سوف يتَّضح.

وثالثاً: إنَّ القولين الأخيرين الآخرين ليس لعَلَم من فقهائنا وأصوليينا ولا جمهور محقِّقي العامَّة من يُرتضى بهما، وهكذا غيرهما من أراء أخرى متروكة لا يُعتنى بها.

إضافة إلى أنَّ القول الأوَّل - من هذين القولين في جعل قائليه الوقت الأخير من الموسَّع هو الواجب لا غيره - لعلَّه كان كذلك من كونه لو تخلَّف عنه لصار قضائيَّاً لا لأجل الحصص الزَّمنيَّة السَّابقة على هذا الأخير ليكون نفلاً لو فعل الواجب فيها ومُسقطاً للفرض بها.

ص: 217

لأنَّ الواجبات الموقوتة لا يمكن أن يعوَّض عنها تقديم فعلها على أوقاتها لو كانت أوقاتها متأخِّرة حقَّاً، وبالأخص حينما يعتبر التَّقديم نفليَّاً.

وعليه فلا يمكن أن يستدل لهذا بقوله تعالى [وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ](1) كما قد يتوَّهم، لأنَّ الآية لا تريد إلاَّ الإسراع بفعل الخيرات العامَّة قبل فواتالأوان وفراق الحياة وهو غير شامل لتقديم الواجبات على أوقاتها الخاصَّة وبالنَّحو الاستحبابي المعوِّض عن الواجبات.

وامَّا تقديم الخمس والزَّكاة على وقتهما إن أجزناه فإنَّما هو بنحو الدفع قرضاً لا بنحو صدق الخمس والزَّكاة قبل وقتيهما، لأنَّهما قد لا يصدق الحكم بوجوبهما إن حلَّ الوقت المنتظر فيه صدق ذلك لهما، وقد لا يبقى المستحق لهما مستحقَّاً عند صدق وجوبهما حقَّاً فلا يصدق حينئذٍ ما مثَّلوا به أو مُثِّل لهم به.

وإنَّ القول الثَّاني - من القولين الأخيرين في جعل قائليه الوقت الأخير من الموسَّع هو الواجب لا ما سبقه، ولكنَّه إن سبق فعله على الأخير فإنَّه يكون بلا حكم إلاَّ إذا جاء الوقت الأخير وثبت البقاء على التَّكليف فيعوَّض هذا السَّبق بنحو الكشف -

لا يمكن فيه قبول الكشف في المقام، لعدم تسليم قاعدَّيته في كلِّ مورد يحتمل دخوله فيه بل هذا القول أوهى من سابقه.

لأنَّ فعل الأمر قبل وقته يكون عند أولئك نفلاً، وأمَّا عند هؤلاء لا حكم له.

إضافة إلى أنَّ التَّمثيل لقولهم فيما لو لم يبق التَّكليف على حاله -- بمثل تقديم غُسل الجمعة عليها في يوم الخميس أو ليلتها وجعله نفلاً -- لا يمكن المساعدة عليه، لعدم التَّناسب بين اللا حكم في السَّابق كما افترضوا وبين الاستحباب.

إضافة إلى أنَّ صدق عدم التَّكليف لا يتناسب مع أي حكم حتَّى المستحب.

ص: 218


1- سورة البقرة / آية 110.

ونزيد على ذلك بأنَّ تقديم غُسل الجمعة لم يثبت فيه الاستحباب تامَّاً وإنَّما يؤتى به لرجاء المطلوبيَّة، ولذلك لا يصلح هذا المطلب إلى هذا الحد دليلاً.

خلاصة البحث

نقول: بعد افتراض الوقت الموسَّع - للواجب الواحد كالظُّهر مثلاً أو المغرب مثلاً أو الواجبين كالظُّهر والعصر أو المغرب والعشاء في وقت كل من الاثنين الأولى والاثنين الثَّانية المشترك - ثابتاً في المقام وأنَّه غير ما هو الخاص بضيق أو باختصاص، مثل الوقت الأوَّل المحصور لصلاة واحدة أو الوقت الأخير كالعصر أو العشاء أو ما قبل الأخير كالظهر والمغرب المحصور كل ما تقدَّم لصلاة واحدة الَّذي يجب فعل الواجب فيه.

بحيث لا يجوز تعدِّي أحد هذين الوقتين الخاصَّين إلى الوسط الواسع بحكم مشترك إلاَّ بالتَّوجيه الَّذي ذكره هؤلاء المستدلُّون بمقدار أداء الصَّلاة الخاصَّة ممَّا مضى بركعاتها.

بل إنَّه المشترك للصَّلاتين ولكنَّه بتقديم الظُّهر على العصر أو المغرب على العشاء على ما سيتَّضح في محلِّه وأنَّه الموسَّع للظُّهر أو للمغرب من الوقتين على الأقل كشاهد ثابت للتَّمثيل الموضِّح للمقام.

فلابدَّ حينئذٍ من تساوي جميع أجزاء الوقت الموسَّع القابل لتقسيمه على حصص متساوية من أوَّل الوقت إلى آخره من كلِّ منهما، بحيث يمكن أداء كلٍّ من الصَّلاتين في كلِّ حصَّة زمنيَّة مناسبة من هذه الحصص بلا أن تكون قضاءاً أو نفلاً خارجين عن مقامنا أو ليس لها بالتَّقديم حكم أو نحو ذلك، سواء تقدَّم الأداء أو تأخَّر مع ذكر فارق الفضيلة الَّذي ذكرناه وفارق ما وجَّهنا به الأداء في الحصَّة الأولى والحصَّة الأخيرة أو ما قبلها.

ص: 219

وبحيث لو لم يأت المكلَّف بواجبه في الوقت الأوَّل لأمكنه الإتيان به في الثَّاني، ولو لم يمكن الإتيان به في الثَّاني ففي الثَّالث، وهكذا إلى الآخر أو ما قبله ممَّا مرَّ ذكره.

علماً بأنَّ تكرار هذا الواجب الواحد بعد الاطمئنان بأدائه وبصحَّته لغو لا داعي له إلاَّ في مستثنيات خارجة عن موضوعنا لا علاقة لها في بحثنا هذا.

فلا يقال باعتبار التَّساوي أنَّه بمعنى إمكان التِّكرار في جميع الحصص المتساوية فضلاً عن الوجوب، وإنَّ تساويه المقصود بالذِّكر لا يعني دخول القضاء مع الأداء فيه لما سيأتي شرحه في تابع آخر.

وإنَّ مؤشِّر الموت الَّذي ذكرناه أكثر من مرَّة في وجوب التَّعجيل بالأداء ليس بدائم، لأنَّ في مقابله الأمل في الحياة، ولأجله صدرت الأوامر باستمرار الواجبات، ولولا الأمل لبطل العمل.

إضافة إلى ما ذكرناه من اللطف والفضل الإلهيَّين بالتَّوسعة الَّتي تحتاج إلى شكر المنعم تعالى عليها، لا عدم الاعتداد بحكم السِّعة بالمرَّة.

وعلى أساس هذا التَّساوي في كلِّ هذه الحصص لو أديت الصَّلاة مثلاً في الحصَّة الأخيرة وما قبل النِّهاية - صحيحة في ركعاتها وشروطها - حتَّى لو فرضت المعصية عند التَّخلُّف عمداً عن الحصَّة الأولى بناءاً على رأي الشَّيخ المفيد قدس سره.وهكذا الثَّانية أو الثَّالثة الَّتي قبل الأخيرة، بناءاً على أنَّ الأمر بالشَّيء يقتضي النَّهي عن ضدِّه، وقد جاء للحصَّة الأولى مع فرض التَّوسعة والمساواة الَّتي فيها فإنَّه لا يعني فيه اقتضاء هذا النَّهي الفساد.

لأنَّ الفساد الَّذي يمكن أن يتصوَّر في المقام هو الصَّلاة قبل وقتها وهو ما قبل الزَّوال مثلاً وإن كانت مطابقة لفقهيَّاتها الذَّاتيَّة أو كانت قد صُلِّيت في داخل الوقت كالحصَّة الأولى ولكنَّها بلا وضوء أو معه ولكنَّه مع الخلل المبطل له أو نحو ذلك من

ص: 220

المنافيات، وهذا غير موردنا.

لأنَّ المورد المبحوث عنه هو التَّأخير إلى الحصَّة الثَّانية أو الأكثر إلى الأخيرة مع حفظ جميع الضَّوابط الشَّرعيَّة.

إضافة إلى أنَّه لا يمكن قبول المساواة المدَّعاة بين الحصص على أن توزَّع ركعات الصَّلاة الواحدة أو جميع أفعال الرَّكعات بين الحصص الممكنة من الزَّوال إلى الغروب أو من الغروب إلى منتصف اللَّيل للمختار من الوقتين الموسَّعين الأخرين، وبهذا تكون المساواة لا ضير فيها ولا يضر في الواجب الواحد الأداء في الأوَّل أو الوسط أو الأخير، وهكذا لو اشترك الوقت بين فرضين كالظُّهر والعصر والمغرب والعشاء إلاَّ في الفضيلة وعدمها ممَّا تمَّت الإشارة إليه.

وبعد هذا كلِّه فلن يبقى عندنا إلاَّ قولان للسَّلف الصَّالح ومن تبعهم.

القول الأوَّل: قول السيِّد المرتضى علم الهدى قدس سره واختاره شيخ الطَّائفة حكاية عن المحقِّق الحلِّي قدس سره وتبعهما السيِّد أبو المكارم بن زهرة قدس سره والقاضي سعد الدِّين بن البرَّاج وجماعة من المعتزلة(1).

وهو القول بوجوب البدل، وهو العزم على أداء الفعل في الحصَّة الثَّانية من الوقت إذا أخَّره عن الحصَّة الأولى أو على الثَّالثة إذا أخَّره عن الحصّة الثَّانية، وهكذا في الباقي.

ولكنَّا نقول: بأنَّ هذا الرَّأي لو راجعنا ما سبق وهو التَّابع الثَّاني فإنَّه لا يختلف عن الفور الَّذي نفيناه.

وإذا أرادوا من الأمر تكراره مع كلِّ حصَّة يتخلَّف المكلَّف عن أداء واجبه فيما

ص: 221


1- راجع معالم الدين وملاذ المجتهدين ص74، عن كتاب معارج الأصول، ص 74، وكتاب نهاية الأصول، ورقه 70، ص1.

سبقها فهو خلاف الظَّاهر من أوامر آيات الأحكام أو ما يتبعها من السنَّة الشَّريفة، وإلاَّ لانقلبت التَّوسعة اللطفيَّة التَّفضليَّة إلى التَّعيين المضيَّق أو ما يؤدِّي إليه، في حين أنَّ الخطاب الإلهي واحد لا شكَّ فيه بحسب كلِّ أمر.

إذن هو مخالف للبلاغة والإعجاز المعروفين من لسان مصادر التَّشريع المهمَّة.

بل إَّن المعصية على هذا عند التَّخلُّفات سوف تكون موزَّعة على جميع الحصص، بينما الواقع أنَّها لم تكن واضحة إلاَّ بعد انتهاء وقت كافَّة الحصص بدون امتثال، فلو أدى المكلَّف واجبه حتَّى في الوقت الأخير فلا معصية.نعم لا تنكر الأفضليَّة المشار إليها في السَّابق وكما ورد ممَّا قدَّمناه من آيتي المسارعة والاستباق في التَّابع الثَّاني، ودلالة أمر الصَّلاة الفوري مثلاً على الاستحباب مع القرينة ما دام الوقت داخليَّاً.

وأمَّا دلالته على الوجوب وحرمة التَّرك في هذه الفوريَّة غير المحتاجة إلى القرينة فما هو إلاَّ ثابت مع كمال الامتثال في الوقت بتلك المرَّة الواحدة الواجبة في أي حصَّة من الحصص الدَّاخليَّة وحرمة التَّخلُّف لو انتهى بدون تلك المرَّة.

ومع ذلك فقد وردت روايات تعلَّقت بأمور الحكم الدَّاخلي للأوقات الموسَّعة نكتفي بما ورد منها عن الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ، فعن أبي عبدالله u قال : (إنَّ فضل الوقت الأوَّل على الآخر كفضل الآخرة على الدنيا) (1) وعنه u أيضاً (أوَّله رضوان الله، وآخره عفو الله، والعفو لا يكون إلاّ عن ذنب)(2) إلى غير ذلك.

فإذن لابدَّ من دلالة هذه الرِّواية وأمثالها على ما يتعلَّق بالوقت الواسع وما يمكن إجراؤه فيه من الواجب في أوَّله أو آخره لا خصوص الواجب الواحد المحدَّد في أمر إبراء الذمَّة منه بما يُتصوَّر، فإنَّه يمكن فيه تصوُّر السِّعة لمثل صلاة الصُّبح الوحيدة

ص: 222


1- وسائل الشيعة ج 4 ص121.
2- نفس المصدر السَّابق.

فيه.

القول الثَّاني: وهو الَّذي مفاده النَّقض على القول السَّابق، وهو رأي الأكثرين في تعبير البعض، ومنهم المحقِّق والعلاَّمة وصاحب المعالم قدس سره:-

حيث قالوا بعدم الوجوب، لأنَّ الأمر ورد مطلقاً بالفعل وليس فيه تعرُّض للتَّخيير بينه وبين العزم.

بل ظاهره ينفي التَّخيير ضرورة كون الأمر دالاًّ على وجوب الفعل بعينه لا ببدله، فيبقى وجوب العزم محتاجاً إلى دليل يخصَّه، والإصرار على القول به تحكُّم كتخصيص الوجوب بجزء معيَّن والوقت الموسَّع.

وهذا الثَّاني وهو النَّقض يعطي عين ما رددنا به القول الأوَّل أو الأقرب إليه، وهو المناسب لما استقرَّ عليه رأينا من عموم ما مضى ذكره، فلا يحتاج إلى تعليق إضافي.

وأمَّا المضيَّق من المؤقَّت المذكور فهو الَّذي لا إشكال في إمكانه ووقوعه، بل لا ينبغي فيه الإشكال مطلقاً من عالمه وإن كان غير طبيعي في بابه الشَّرعي كالموسَّع.

لأهميَّة التَّفريق بين الحدث الَّذي لا يزداد على حيِّزه الزَّماني المحدَّد له تكويناً ولا ينقص وإن كان عبادة شرعيَّة وبين الحدث الَّذي جعل له الشَّرع وقتاً موسَّعاً يحويه ويحوي أمثاله مرَّات لطفاً وفضلاً منه، لئلاَّ يفرط به بسبب المزاحمات المهمَّة الأخرى من الأحداث، كالصَّوم في كلِّ نهار لأيَّام شهر رمضان المبارك من الفجر إلى الغروب بل في رمضان كلِّه من الهلال إلى الهلال.

وهكذا حج البيت في عام الاستطاعة مع حرمة التَّسويف.

وهكذا يوم الثَّالث من أيَّام الاعتكاف وإن ابتدأ باليومين السَّابقين بنحو اختيارياستحبابي.

وكذا ما يجب من المؤقَّت المضيَّق من الصَّلاة أو الصِّيام بنحو النَّذر أو العهد أو

ص: 223

اليمين.

وهكذا الحصَّة المضيَّقة من الموسَّع إذا جاءت مؤشِّرات الموت.

وكذا وقت الظُّهر الخاص من أوَّله إذا كان معنى ضيقه أن لا يقدِّم المكلَّف هذه الصَّلاة على الزَّوال أو لا يصلِّي غير الظُّهر مكان الظُّهر.

وهكذا وقت العصر الخاص في آخر الموسَّع الَّذي يعني في ضيقه أن لا يصلِّي غيرها في وقتها أو أن لا يتجاوز عن هذا الوقت بلا صلاة.

وهكذا ما يتعلَّق بالمغرب والعشاء ممَّا سبق ذكره، وكذا صلاة الفجر في موارد الضِّيق وكذا الآيات.

فإنَّ الضِّيق الَّذي في الصَّوم حينما صار صار بتكليف نفسي لا فعلي كالصَّلاة الَّتي تحتاج للاهتمام بها في حكمها الأوَّلي إلى السِّعة الوقتيَّة.

لكنَّ الرَّادع النَّفسي عن المفطِّرات فيه لا يمنع عن وقت سعته في إمكان إجراء أعمال ضروريَّة أخرى، إضافة إلى فسحة اللَّيل وسعته لمزاولة الأمور العاديَّة، وهكذا الاعتكاف الشَّبيه به.

والضيق الَّذي في الحج عام الاستطاعة بعد دخول أشهر الحج وإن كان بمعنى عدم جواز التَّأخير إلى العام الآتي، لكنَّه إذا لوحظ وهو في ضمن أشهر الحج الثَّلاثة أو في ظروف أعماله الفرعيَّة المتعدِّدة عمرة وحجَّاً سواء عمليَّة الإحرام أو كان طوافاً أو صلاة أو سعياً أو تقصيراً في العمرة.

وهكذا أعمال الحج الخاصَّة من الإحرام إلى آخر شيء منه حتَّى طواف النِّساء، فإنَّها أغلبها لا تخلو من السِّعة الزَّمنيَّة حتَّى في الوقوفين في مسألة إدراك الرُّكنيَّة بالمسمَّى الكافي وإن أوجب ترك باقي ما بين الزَّوال إلى الغروب في عرفة وترك باقي ما بين طلوع الفجر وطلوع الشَّمس في المزدلفة دفع الفداء والكفَّارة على ما هو المفصَّل في موضعه، وهكذا بقيَّة ما مثَّلنا به.

ص: 224

وأمَّا إلحاق ما ذكرناه من بعض أمثلة ما كان موسَّعاً من غير ذلك فلا يعتريه حكم الضيق بالعنوان الأوَّلي.

وكذا لا يكون الوقت الأوَّل من الموسَّع واجباً ملحقاً بالمضيَّق ولا جعل الوجوب مودعاً على نحو البدليَّة كي يضيِّق السِّعة في الموسَّع ولا الوقت الأخير من الموسَّع بالمعنيين ممَّا قاله الفريقان من خيرة محقِّقي العامَّة من هذا المضيَّق إلاَّ بسبب انحصار الأداء فيه بسبب عدمه فيما سبق مثلاً كانحصار الفرض في بعض حصص ما سبق ذكره بسبب مؤشِّر الموت أو بمعنى عدم جواز التَّقديم على أوَّل الوقت لكونه وقتاً خارجاً غير شرعي فإنَّها من الملحقات بالمضيَّق لا من أساسيَّاته كما مرَّ ذكره.

التَّابع الرَّابع / هل يدل نسخ الوجوب على الجواز؟

ذكر الأصوليُّون هذا البحث تحت عنوانه، ولكن كان ذكرهم له على الأكثر للاستعراض العلمي النَّظري، ولم يهتمُّوا فيه بأنَّه ذو فائدة عمليَّة محرزة كبيرة أو قليلة ولو ظاهراً أو حتَّى لو لم تكن.

لاحتمال كون بحثهم هذا كان لتوسعة الذِّهن فقط على ما هو المحرز، أو لعلَّه كأطروحة خدمة للعلم والعلماء تحضيراً لمحصِّلي المستقبل عسى أن ينتخبوا من سعيهم شيئاً باليد، ولو لأن ينفتح ذهنهم فيه وإن تأخَّر زمانهم إلى ما به رجاء بعض الثِّمار العمليَّة مستقبلاً إضافة إلى محض العلميَّة.

فقالوا: إذا وجب شيء في النُّصوص من آيات الأحكام أو توابعها في وقت خاص من أوامرها أو ما يلحق بها ثمَّ جاء ناسخ مقطوع به، بما قد يتفاوت فيه كلامهم في بقاء الجواز العام الَّذي كان مدلولاً للأمر مع المنع من التَّرك بعد مجيء ذلك النَّسخ للجزء الثَّاني من التَّعريف المؤلَّف من جزءين وهو الجواز والمنع من التَّرك وعدمه.

ص: 225

فهل يدل نسخ ذلك الوجوب على الجواز حتَّى المحمول على ما عدا المحرَّم أم لا؟

فمنهم من قال ببقاء الجواز ومنهم من قال بعدمه.

وفي الحقيقة إنَّ هذا يرتكز على مبنيين، كل مبنى عائد لفريق منهم.

فمبنى يُراد منه رفع خصوص المنع من التَّرك فقط دون الفقرة الأولى من التَّعريف، وهذا ما قد يتناسب مع قاعدة (إثبات الشَّيء لا ينفي ما عداه) ومثَّلوا لذلك بما إذا صدر أمر شرعي بالإتِّجاه في العبادات الخاصَّة إلى جهة بيت المقدس كما حدث سابقاً كقبلة للنَّاس ثمَّ حصل النَّسخ بعده بقوله تعالى في المسجد المعروف بمسجد القبلتين في المدينة المنوَّرة [فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ](1).

حيث قال المستدل: ببقاء الجواز إلى القبلة الأولى، محتجَّاً بأنَّ المقتضي للجواز موجود والمانع منه مفقود، فوجب القول بتحقُّقه.

ويمكن أن يستدل لهم كذلك بآية النَّجوى، فإنَّها بعد نسخ وجوب الصَّدقة للنَّجوى معالنَّبي 2، حينما لم يطعه أحد في ذلك إلاَّ أمير المؤمنينعَلَيْهِ السَّلاَمُ وحازها فضيلة لنفسه، وبقي الاستحباب، فهو داخل بناءاً على هذا في عموم الجواز.

ومبنى يُراد منه رفع الوجوب من أصله وهو ما يتعلَّق بمفاد كمال التَّعريف المذكور أعلاه أو قل الجواز مع المنع من التَّرك للبحث من جديد عمَّا يدل على الجواز المغاير للوجوب من الأحكام الخمسة وعلى الأخص مع إمكان العثور أو احتماله أو ظنِّه ما دام الانسداد العلمي لم يكن كاملاً أو كبيراً.

وبذلك قال العلاَّمة في النِّهاية وصاحب المعالم وبعض المحقِّقين من العامَّة(2)،

ص: 226


1- سورة البقرة / آية 144.
2- راجع معالم الدين وملاذ المجتهدين ص74، عن كتاب نهاية الأصول، ورقة 74، ص2.

واستدلُّوا على مدَّعاهم بما مضمونه وبتصرُّف منَّا:-

بأنَّه كما أنَّ الحيوان لا يتقوَّم ولا يوجد إلاَّ بانضمام قيد النَّاطقيَّة والصَّاهليَّة أو غيرهما من القيود في باب التَّعريفات للإنسان أو الفرس مثلاً، كذلك الإذن في الفعل في باب الأوامر لا يتقوَّم ولا يوجد إلاَّ بقيد المنع من التَّرك أو رجحان عدم التَّرك أو غيرهما من قيود أحكام الأوامر.

وأجاب من قال ببقاء الجواز بعد النَّسخ عند استدلاله:

بوجود المقتضي وعدم المانع بالمنع من وجود المقتضي، لأنَّ الجواز الَّذي هو جزء من ماهيَّة الوجوب في مقامنا وقدر مشترك بينها وبين الأحكام الثَّلاثة الأخر وهي الاستحباب والكراهة والإباحة لا تحقِّق له بدون انضمام قيودها إليه قطعاً وإن لم يثبت عليه الفصل للجنس.

لأنَّ انحصار الأحكام في الخمسة يُعد من الضَّروريَّات دون أن يتداخل بعضها في بعض، وحينئذ فالشَّك في وجود القيد يوجب الشَّك في وجود المقتضي.

ويمكن الإجابة عن آية النَّجوى:-

بأنَّ بقاء الاستحباب بعد أن كانت الصَّدقة واجبة ما جاء بعد نسخ الوجوب لوحده حتَّى يقال ما يقال وإنَّما جاء بدليل آخر يدل على الاستحباب ولو من تقرير المعصوم أو أدلَّة الصَّدقات العامَّة الكثيرة المستحبَّة الَّتي تقلب هذا الجواز إلى الاستحباب.

وعليه فمن طريق البت بكلٍّ من المبنيين والبناء عليهما من كل فريق يلتزم بمبناه منهما يمكن أن يُعرف مقدار دلالة نسخ الوجوب في أنَّه هل هو جزء تعريفه أم كله.

فإن بنينا على الأوَّل فلابدَّ من أن تبقى دلالة الأمر على الجواز على حالها لا يمسها شيء من النَّسخ.

لأنَّ الوجوب إذا كان ينحلَّ في تعريفه إلى الجواز والمنع من التَّرك ولم يرفع من

ص: 227

هذين الجزئين إلاَّ الثَّاني وهو المنع من التَّرك وحده فلا محالة أن يبقى الجنس الجامع وهو الجواز أو ما قد يسمَّى بالإذن في الفعل أو طلب الفعل الَّذي لا يبقى فيه إلاَّ ما في الأمور الثَّلاثة من الأحكام التَّكليفيَّة الخمسة ما عدا الوجوب المنسوخ مثلاً والحرمة المخالفة للوجوب مخالفتها التَّامَّة من الأوَّل.ولا يمكن دخولها حتَّى بعد النَّسخ في هذا المبنى، وهذا أتم من غيره فسوف يسهِّل للفقيه أمر الفتوى من دون تكلُّف المتابعة.

ولكن مع هذا لابدَّ أن يحتاج إلى تشخيص نوعيَّة الجواز المخالف للوجوب من الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة من لسان الشَّرع للتَّدقيق المطلوب.

وإن بنينا على الثَّاني فلابدَّ من أن لا يبقى لدليل الوجوب شيء يدل عليه، لاعتبار أنَّ الوجوب معنى بسيط لا ينحل معناه إلى جزئين كالألفاظ المعرِّفة والمقرِّبة إلى الذِّهن لهذا المعنى البسيط.

فلا يتصوَّر في النَّسخ أنَّه رفع للمنع من التَّرك فقط حتَّى يبقى الجواز - وهو الجزء الأوَّل بعد رفع الثَّاني - هو السَّائد في التَّأثير.

وإنَّ هذا التَّركيب الموجود في التَّعريف ما هو إلاَّ للإعراب المقرِّب لهذا المعنى البسيط كبقيَّة التَّعاريف الأربعة للأحكام الأربعة الباقية الَّتي لا تنفك عنها، كالاستحباب البسيط الَّذي تعريفه الجواز الرَّاجح مع عدم المنع من التَّرك، والإباحة البسيطة الَّتي تعريفها الجواز مع عدم المنع من التَّرك وعدم التَّرجيح للفعل وبالنَّحو المتساوي، والكراهة البسيطة الَّتي تعريفها بأنَّها الجواز مع مرجوحيَّة الفعل وعدم المنع من التَّرك، والحرمة البسيطة الَّتي تعريفها بأنَّها لطلب التَّرك مع المنع من الفعل.

بحيث لا ترتبط هذه التَّعاريف الخمسة للأحكام الخمسة بعضها مع بعض.

وهذا ما يعني بأنَّ الجواز بعد النَّسخ الوارد يحتاج إلى دليل خاص يدل عليه أيضاً، ولا يكفي دليل الوجوب وحده بعد نسخه على أمل وجود شيء باقٍ من

ص: 228

الجواز ما دام كل حكم له اصطلاحه الخاص مع بساطته،

وعليه فيكون الفعل بعد النَّسخ معرضاً لاحتمال طرو كلٍّ من الأحكام الأربعة الأخرى إذا جاء دليل كلٍّ منها بدون معارضة.

ولكن نحن نقدر أن نقول في الختام كما أشرنا سلفاً بأنَّ البحث قليل الفائدة إن لم نقل بأنَّها منعدمة فيه عمليَّاً، وإن توسَّع الذِّهن به ولو لقلَّة هذه الفائدة بانحصارها في إيضاح إثبات هذا العدم العملي، وبالأخص حينما قلنا في بحوثنا السَّابقة عن النَّسخ في آيات الأحكام في بحثه الخاص بعد أن توصَّلنا هناك إلى أنَّه نسخ الحكم لا التِّلاوة - بأنَّ رفع الحكم في واقعه ليس هو كلُّه بل جزء منه وهو ما قد يسمَّى بالنَّسخ التَّخصيصي.

فإذا كان المنسوخ هو بعض الوجوب فلابدَّ من أن يكون له باق غير منسوخ، كما قد سبق التَّمثيل له بالصَّوم المنسوخ حكم وجوبه التَّخييري بين الصَّوم والفدية في بدء التَّشريع له، لعدم التَّعوُّد عليه بما يثبت خصوص الصَّوم على المكلَّف بعد ذلك التَّعوُّد بقوله تعالى [فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ](1) ونحو ذلك من حالات النَّسخ الأخرى.

فلا داعي للقول بالجواز في القول الأوَّل ما دام شيء من الوجوب باقياً حينما كان النَّسخ رافعاُ لبعض الوجوب دون كلِّه وعلى نحو التَّخصيص لا رفع التِّلاوة.

بل لا داعي لكلا القولين لعدم الفائدة بشيء مهم من المعنيين، لأنَّ كليهما لم يثبتلهما بصراحة أكثر.

وقد يبنى على الثَّاني من حيث المبدأ لوفرة الأدلَّة الَّتي قد تعرَّفنا على ما عدا الوجوب من الأحكام الأربعة الأخرى بعد حصول النَّسخ بدل القول بالجواز بنحو المجازفة بلا ركون إلى الأدلَّة.

ص: 229


1- سورة البقرة / آية 185.

التَّابع الخامس / الحقيقة الشَّرعيَّة والمتشرعيَّة في نظرتهما الثَّانية

هذا أحد مواضيع الأصول اللَّفظيَّة الَّتي ذكرها الأصوليُّون أو بعضهم قبل مباحث الألفاظ من مقدِّماتها كما مرَّ، ونحن ذكرناها في الجزء الأوَّل بالأسلوب العام الشَّامل للعلاقة اللُّغويَّة العامَّة حتَّى الَّتي قبل أن تتناسب مع مضامين الشَّرع في نصوصه شرعيَّة أم متشرعيَّة.

ونحن الآن نذكر الكلام عنها كذلك وإن كان فيها بعض التِّكرار، لكن حسب ترتُّبه المتعارف فيها بصورته المناسبة الأكثر من نفس مباحث الألفاظ الدِّينيَّة العامَّة من هذه الموسوعة، لإحاطة المطالع الكريم بالأوسع ممَّا يتناسب مع ما قبل مباحث الألفاظ وما بعدها كلَّما تقترب بحوثنا من الفقهيَّة الخاصَّة من ألفاظ آيات الأحكام ورواياته، وهوما يلي:-

الأوَّل: عدم الرَّغبة الأدبيَّة في المجاز نوعاً في الأدلَّة ما دامت الإرادة جدِّية وطبيعيَّة في بيان المعاني، سواء في الإبداء من جانب أو عند التَّفاهم.

فلم يكن المجاز العربي -- في لغة العرب المعتبرة في كونها أفضل اللُّغات في استيعاب مضامين وحي خاتم الرِّسالات وأفضلها، وهو القرآن الكريم، وإن كان يحمل في طيَّاته ومضامينه الكثير منه للحاجة إليه في مقاماتها الخاصَّة بذلك، كما سنشير إلى المهم منها من قسم آيات أحكامه وما يتبعها من السنَّة الشَّريفة --

مرغوباً فيه فقهيَّاً وأصوليَّاً، كما هو ديدن التَّشريع الإلهي ولسانه المتشعِّب لكل البشر في المعمورة بأعلى المضامين، الَّتي لابدَّ وأن تصل إلى كافَّة أذهانهم بالمباشرة أو التَّسبيب السَّهل اليسير وإلاَّ لاختلطت الحقيقة بالمجاز.

لكونه يبتعد كثيراً عن الحقيقة التَّكليفيَّة الواقعيَّة ولو ظاهراً في طبيعة مراحل الأداء، ولأنَّه قد يوصل إلى الإغراء بالجهل الممتنع في أن يكون للنَّاس فيه على الله

ص: 230

أيَّة حجَّة عند المخالفة للمعذِّريَّة الواضحة لهم بسبب ذلك ولقبح العقاب بلا بيان إلاَّ في بعض الاستثناءات وتحت العناوين الثَّانويَّة المبرَّر لها ذلك.

بينما التَّلفُّظ بخصوص الحقيقة أو ما يقترب معها يكون له تعالى عليهم تمام الحجَّة البالغة في ذلك، وله أن يعاقبهم على ترك الواجبات وفعل المحرَّمات بعد وضوح الأدلَّة بحقائقها النَّاصعة ولو بالتَّسبيب الاستدلالي من ربط شيء بشيء أو نفي شيء عن شيء من عدم صحَّته معه.

بل حتَّى اللُّغة الَّتي قد يُحتاج إليها في قواميسها عندما تضعف الأدلَّة الأصيلة أو تنعدم، فإنَّ المجاز بدون علاج يُعد في بعض الأمور غير مرغوب فيه نوعاً كذلك.

إلاَّ في باب التَّقيَّة أيَّام المحن كما كان في بدء الدَّعوة السريَّة للنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم إلى الإسلام وبعد فقده للاتِّقاء من شر المنافقين وشر المنقلبين من أصحابه على الأعقاب حرباً له ولأهل بيته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ولخلافة وصيِّه أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ يوم الغدير نفاقاً وبغضاً وحسداً وارتداداً وأخذاً بثأر أشياخهم المشركين الَّذين قتلوا بسيف الإسلام المسلول - سيف ذي الفقار - ولغصب تلك الخلافة كما حقَّقوا ذلك وفوق ذلك ممَّا يشيب منه رأس الإنسان الغيور قبل أهل العدل الإسلامي والولائي.

وبعد كثرة التَّيارات المخالفة والمحاربة تطرُّفاً وتعصُّباً لا يُطاق ومنها عهود الدَّولتين المشؤمتين الأمويَّة والعبَّاسيَّة وما بعدهما من عهود أهل النِّفاق والسَّلفيَّة وسلاطين الجور.

فقد استعمل هذا المجاز والكنايات والاستعارات والضمائر العامَّة والاختباريَّة والموهمة للمعاني الثَّانويَّة العقلائيَّة، ومنها التَّقيَّة أمام الأعداء خوفاً من بطشهم وفتكهم أو لإبعادهم عن المؤمنين.

مع أنَّ القضيَّة المرادة خاصَّة غير عامَّة في كلِّ مورد، وإن جاءت بها وبالحث عليها كثير من النُّصوص كتاباً وعترة وبتأكيدات كثيرة ومهمَّة لتخليص الفرقة النَّاجية

ص: 231

لتنجو من بطش أولئك الأعداء.

في حين أنَّه قد التزم ب- (التَّقيَّة) المخالفون أنفسهم في موارد خوفهم بين فرقهم المتنافرة.

فإنَّها بعد ما كانت في الموارد غير الاعتياديَّة فلا يجوز لنا إجراء نصوصها تلك في القضايا الاختياريَّة الَّتي لا ترتبط إلاَّ بالاعتياديَّات غير المخيفة خوفها الصَّحيح.

لكون تلك خاصَّة في مواردها، ولأنَّ الضَّرورة تقدَّر بقدرها دون أن يُلتزم بها في كلِّ مورد، ما دامت القدرة على الحجَّة والبرهان البالغين في مورد المحاججات ممكنين في موارد الاختبار الكثيرة جدَّاً ولو من فسح الأعداء أنفسهم أو غيرهم من بعض المخالفين العقلاء والمنصفين شيئاً من ذلك، من دون إخافة مؤذية أو فسح مخادع أو بعد ضعف تلك الدُّول الظالمة والمرتدَّة والمنافقة أو بعد قوَّتنا في مواقعنا الإيمانيَّة ممَّا سبَّب انتصار المبادئ الحقَّة للنَّبي 2 وأهل بيته الأئمَّة الأطهار عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ مع سيِّدة النِّساء الزَّهراء قدس سرهما وخيرة الأصحاب من بركة وجودهم والاحتكاك بهم والاستفادة منهم أحياءاً وأمواتاً -- لأنَّهم أحياءعند ربِّهم يرزقون -- بعد انتشار علومهم في مدرسة الإمامين الباقر والصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ حتَّى توسَّع التَّشيُّع وعلومه وعقائده وشرعيَّاته وإلى هذا اليوم بما شاء الله.

أو حاجة تلك الدَّولة أو الدُّول الظالمة لفسح المجال لبعض الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ كما حصل للإمامين الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ والصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ من العبَّاسيِّين بعد ضعف الدَّولة الأمويَّة وإلى حدِّ الانهيار، ثمَّ بالانتهاء سياسيَّاً عن العجمومة المبتلى بها آنذاك لفتح مدرستيهما العظيمتين على مصراعي بابيهما، وهكذا غيرهما حتَّى اليوم في بعض المجالات.

فإذن لابدَّ من استعمال الحقيقة في طبيعة التَّلفُّظ دون غيرها في الاختيار.

وأمَّا الإجمال والتَّعمية والتَّورية ونحوهما ممَّا مرَّ في هذه الآيات ممَّا جاء إضافيَّاً

ص: 232

فهو للاختصار ونحوه من حكمة الحكيم تعالى كما في السُّور المكيَّة القصار ممَّا فيه من بعض ألفاظ الفقهيَّات كما في بدء الدَّعوة أو لمعلوميَّته الثَّابتة من قبل المعاصرين للنَّبي 2 وأهل بيته الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من بركة وجودهم أو التَّعلُّم منهم أو لأنَّه كان الوحي قد نزل بلسان أولئك الأقوام ممَّا لا تخفى معانيه عليهم نوعاً كما ورد في النُّصوص ممَّا سوف يتوسَّع عرضه لها عند تطبيق هذه الأصول في فقهيَّاتنا.

ولكنَّه اختفى الأمر علينا وعلى من سبقنا من الَّذين جاءوا بعد أولئك بسبب الأعداء والطَّامعين والمتساهلين والنَّقل بالمعنى ونحو ذلك ومن الكوارث الطَّبيعيَّة ونحوها وتجنُّب التَّعرُّف على تأويلات الأئمَّة الأطهار عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الَّذين نزل الوحي في بيوتهم حتَّى صار ذلك الانسداد العلمي الصَّغير الَّذي أكَّد عليه المحقِّقون من الأصوليِّين والمتعارف عندنا لدى ذلك التَّحقيق أيضاً وبما لا يمكن إنكاره.

أو كان ذلك بسبب البقاء على عهد العجومة وتكثُّر مدارسها - من كل غير عربي من غير مدارسنا - تعصُّباً قوميَّاً أو تساهلاً غروريَّاً بما يحمله ذلك العالم أو قلَّة في التَّحصيل العلمي بالنِّسبة إلى الآخرين أو للشُّبهات المثارة على بعض الألفاظ الواضحة قبل دفعها أو قبل التَّأمُّل في أمرها.

مع أنَّ علماءنا من السَّلف الصَّالح القريبين من عهود الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ جمعوا لنا خيار الأحاديث الشَّارحة للمجملات من الآيات في أمرها لتسليم وضوحها بعد التَّأمُّل.

ولأنَّ العلماء الفطاحل منَّا عرباً وعجماً صرَّحوا بأقوال مهمَّة تساعد على كون هذا الانسداد صغيراً، كتصريح الشَّيخ النَّائيني قدس سره بما مضمونه بأنَّ من يحاول التَّدخُّل في تنقيح أسانيد الكافي فلابدَّ أن يعتريه العجز.

وكذا تصريح الشَّيخ كاشف الغطاء قدس سره (إنَّنا كثيراً ما نصحِّح الأسانيد بالمتون)(1)

ص: 233


1- الفردوس الأعلى / الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ص 51.

ونحوهما.

فجاء حلُّه في أموره وأوامره بسبب مرونة تلك الآيات الشَّريفة مع ما يفسِّرها من المتوسِّطة والطَّويلة بما لا يخرجها عن إعجازها وتسديد الشَّارع للأحكام فيها بين بعضها مع بعضها الآخر فيشرح بعضها بعضها.وبسبب السنَّة الشَّريفة لفظاً وعملاً وتقريراً من المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ كذلك يتم رفع ذلك الإجمال أو دفعه ونحوه من التَّعميات بتشخيصها أو بعضها.

وبسبب القوَّة الاستنباطيَّة الَّتي تعلَّمها العلماء خلفاً عن سلف من مصادرهم وطرقهم العديدة المتوارثة ممَّا حفظه الله تعالى لهم بقدرته الغيبيَّة، نتيجة لإخلاصهم التَّقرُّبي ومن حرصهم عليها في الحوزات العلميَّة النَّجفيَّة والحُليَّة والقُميَّة وغيرها من الكثير، وممَّا تعلَّموه ومارسوه من فنون الأدبيَّات المُعينة على الفهم والأصول النَّافعة مع تلك الممارسات الطَّويلة المعطاء.

يبقى لسان العقائد والقصص وبقيَّة المعارف وغيرها، فلا مشاحَّة في الاصطلاح إذا كان لها اصطلاح يغاير ما يتعلَّق بالفقه والأصول جملة أو تفصيلاً.

ولأنَّه لولا المجازات والكنايات والاستعارات في ذلك ومنه العقائد لكان الخالق مثلاً في تجسًُّم ونحو ذلك -- نسجير بالله -- بمثل ما ادَّعاه ابن تيميَّة وأمثاله، ممَّا هو مستحيل وممتنع ذاتاً بالنِّسبة إليه ولا يناسبه تعالى، لأنَّه ليس كمثله شيء من أشياءنا من المقولات التِّسعة.

ولجاز أن يُغالى في النَّبي 2 وأهل بيته عَلَيْهِم السَّلاَمُ بكثرة، بسبب المبالغة في مدحهم آيات وروايات، وإن كانوا عَلَيْهِم السَّلاَمُ فوق مستوى المخلوق دون مستوى الخالق تعالى.

إلاَّ أنَّه للخشية من كثرة الفتن المحرجة ومن التَّطرُّف ينبغي لنا التَّورُّع من بعض إضافات قد يتَّهمنا بعض مخالفينا بها، وإن كنَّا نحن بحسن نوايانا من شبهاتهم أبرياء.

وعليه فتكون الحقيقة فقهيَّاً هي المتعيِّنة في المقام، ولكنَّها هل هي الشَّرعيَّة المحضة

ص: 234

أم المتشرِّعيَّة حينئذ؟

فنقول في الجواب عنه: أنَّها تندرج ضمن البحوث الآتية بعد الَّذي مرَّ ذكره آنفاً من البحث الأوَّل وهو عدم الرَّغبة الأدبيَّة في المجاز نوعاً في الأدلَّة ما دامت الإرادة جديَّة وطبيعيَّة في بيان المعاني.

الثَّاني: ما مدى أهميَّة هذا البحث

فقد ثبت عندهم أنَّ هذا البحث لم يكن بذا فائدة مهمَّة، لعدم الاختلاف فيما بين السَّلف وعهد الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ حتى عهد النَّبي 2 بأنَّ ما يشك فيه من النُّصوص الشَّرعيَّة بأنَّه هل يراد منه الحمل على المعنى اللُّغوي أو الشَّرعي؟

أو التَّوقُّف، وهو أنَّه لابدَّ وأن يراد منه الحقيقة.

إلاَّ أنَّها لم تُعلم، هل هي الشَّرعيَّة أم المتشرِّعيَّة؟

والجواب: لابدَّ وأن تكون للمتشرِّعيَّة، حيث مصاديق صدر الإسلام قبل تصريح النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم بأقواله المنسوبة إليه ممَّا مضى ذكره وما سيأتي، لا الشَّرعيَّة إلاَّ في زمن صدق التَّبادر وعدم صحَّة السَّلب.

لأنَّها معاني جديدة عند الأعم الأعلم من النَّاس لاحتياج أن تصدق معانيها بالتَّبادر والانسباق الذِّهني إلى مدَّة التَّعوِّد على سرعة فهم معناها عند إطلاقها ولا اللغويَّة، لما مرَّ بيانه في البحث السَّابق، ولا داعي للتَّوقُّف.

الثَّالث: هل الحقيقة شرعيَّة أم متشرِّعيَّة

قد مضى البحث عن هذين المقامين بأكثر من موقع حتَّى صار في المقام أصوليَاً رأيان:

أحدهما: رأي الحقيقة الشَّرعيَّة.

ص: 235

وثانيهما: رأي الحقيقة المتشرِّعيَّة.

وقد بحثوا فيهما قديماً وحديثاً في ضمن المباحث الأساسيَّة، لكنَّا قد جعلناهما هنا كما أشرنا من هذه التَّوابع، بعد تلخيص تلك الأساسيَّة البدائيَّة وتمحيصها لصالح هذه المتَّصلة بالشَّرعيَّات كثيراً.

ونحن قبل الخوض في ذلك وقبل الكلام عن أساسيَّات ما هنالك أو شيء منه لغة، وعرض أدلَّة كل من الرَّأيين.

لابدَّ أن نعرف ما معنى الشَّرعيَّة وما معنى المتشرِّعيَّة، كي نصل إلى ما هو المختار منهما عن معرفة صحيحة لمعناهما بالتَّوضيح الإضافي:-

أ / معنى الحقيقة الشَّرعيَّة

هو أنَّ جميع المصطلحات - حسب اعتقاد أصحابها - ما سبقها وما سبق الواضع لها - وهو المشرِّع تعالى وضعاً واستعمالاً بصدور الأوامر ليطاع الآمر تعالى - أي سابق.بل ما سبق بزوغ شمس إسلامنا العزيز الشَّرعي - في أزمنة الشَّرائع السَّماويَّة القديمة وذلك بمعنى حتَّى الحنيفيَّة البيضاء الإبراهيميَّة العشرة أو الأقل أو الأكثر ولا كتب الأنبياء السَّابقين وإن حرِّف أكثرها فيما بقي منها أو إن قلَّ النَّاجي كما في إنجيل برنابا ونحوه - أي سابق.

بحيث أنَّ النَّبي 2 بعد نزول الوحي عليه فقهيَّاً وشرح مقاصده لنا تامَّة -- في ذلك ببيانه وسنَّته الشَّريفة -- وأمرنا بالفرائض عمليَّاً.

كانت معانيها قبل ذلك التَّشريع -- من أوَّلها إلى آخرها مع فروعها جميعاً وما يتبعها من السنن والمستحبَّات والمكروهات والمحرَّمات -- غير معهودة سابقاً.

وكأنَّه كان يقول لمن بعث إليهم آنذاك مخاطباً لهم بما مضمونه (أنِّي وضعت لكم

ص: 236

هذا الشَّيء أو ذاك من الفرائض والأحكام) أو قام بقوله وبعمله هذا ليُقتدى به من قبلهم، أو يمضيه لهم كذلك إذا أجروه أمامه قولاً وفعلاً وتقريراً.

بدون أن يكون شيء من ذلك له سابقة في العهود القديمة من أزمنة تلك الدِّيانات.

بل حتَّى في اللُّغة الَّتي نقلت كتبها في قواميسها القديمة والحديثة ونقلت أشياء وغيرها من كون اللُّغة وقواميسها عربية، وهي صاحبة التَّضلُّع في بيان أدق المعاني من اللُّغات الأخرى، إضافة إلى الألفاظ القديمة العربية مع جميع معانيها.

لا شيء فيها - حسب ادِّعائهم - ما يشبه ما عندنا، فضلاً عن أن يكون هو نفسه.

فلم يصدق من هذا المعنى الحقيقي إلاَّ الَّذي تعوَّدنا عليه بسرعة الانتباه إليه عند مجرَّد إطلاقه.

وهذا في بداية أيَّام التَّشريع لم يتحقَّق منه شيء إلاَّ بالممارسة عمليَّاً مع النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وخلَّص الأصحاب.

ب - معنى الحقيقة المتشرعيَّة

وهو خلاف مفاد الشَّرعيَّة، وبنحو أن تكون الحقائق قد توصَّل إليها الفقهاء وأصوليوهم اصطياداً ومتابعة.

على أنَّها لا تنفي كونها كليات وصغريات أو بعضها كذلك أو ما يشبه جميعها أو بعضها في سابق عهود ديانات السَّماء.

ومن ذلك ما عثر عليه من بواقي ما لم يحرَّف من كتبها السَّابقة، وما نطق القرآن الكريم به في آيات أحكامه أو قصص الماضين ممَّا يتعلَّق بذلك.

ولأنَّ الوحي الإلهي واحد قديماً وحديثاً وهو لسان الإسلام الصَّادق في عهدَي القديم والحديث كما جاء عن القديم على لسان إبراهيم الخليل سلام الله علیها وغيره.

ص: 237

وكذلك جاء في قواميس اللُّغة الكثير والجم الغفير من الرَّوابط بين طقوس الماضي والتزاماتنا، من دون أن يكون أي مؤثِّر ثابت من نبينا صلی الله علیه و آله و سلم أنَّه تصدَّى للوضع الجديد وبالمعنى الأوَّل.

بل نُقل عنه قوله مثلاً (صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي)(1) أو (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ)(2)

وهكذا ثمَّ صلَّى أو حجَّ، وهو ما يدل بالتَّأكيد على أنَّه لا حقيقة تامَّة له بمجرَّد هذين القولين.

ثمَّ إنَّ هذين الحديثين الشَّريفين له صلی الله علیه و آله و سلم لا ينفيان منه صلی الله علیه و آله و سلم عدم العلاقة بالقديم من التَّعاليم ولو جزئيَّاً، وإثبات الشَّيء لا ينفي ما عداه.

وبعد بيان هذه المقدِّمة من معنى الاثنين لنعرف كلاًّ من الرأيين مع دليله جرياً علىما سبقنا السَّلف الصالح به مع بعض إضافاتنا للتَّوصُّل إلى ما هو الحق في الأخير وبالدقَّة الممكنة الأكثر.

وذلك بعد معرفة أساس أوضاع كل مصطلح فقهي وشرعي وعرفي خاص للشَّرع وهو اللُّغة العربيَّة القديمة لا محالة، لكونها الأساس الَّذي لابدَّ وأن يرجع إليه وجداناً جملة أو تفصيلاً عند الحاجة الماسَّة إليها إن لم يظهر من الشَّرع أو العرف ما يكفي.

وإن كان لنا رأي أدق من ذلك، باعتبار أنَّ للفقه والشَّرع ولعرفه الخاص رأي خاص كما سبق تحقيقه والتَّدقيق فيه.

فإنَّها وإن كانت هذه اللُّغة عامَّة تشمل كل لفظ أصيل مجمل بمعنى خاص ولأي

ص: 238


1- غوالي اللئالي ج1 ص197 الفصل التاسع ح8.
2- أخرجه مسلم (2/ 943، رقم 1297). واللفظ للبيهقي في السنن الكبرى (5/ 204، رقم 9542)، ولفظ مسلم: "لتأْخذوا مناسككم فإنَّي لا أدري لعلِّي لا أحج بعد حجتي هذه".

علم ومعرفة وغير ذلك.

كما واستعملت فيها الحقائق والمجازات ونحوهما كما أفرزه علماء الأدبيَّات العامَّة والخاصَّة المتعدِّدة من المعاني المختلفة وفصَّلوه وقسَّموه إلى عناوين ذكرها البيانيوَّن والمناطقة وعلماء الأصول وكوَّنوا منها مباحث مهمَّة جداً أُطلق عليها بمباحث الألفاظ بعد مباحث سابقة عليها وهي أساسيَّات لهذه المباحث فُصلِّت بنحو دقيق مناسب في علم أصول الفقه.

لكنَّها في أبرز ما فيها جداً وواقعاً تحمُّل الحقائق، وذلك بما معناه أنَّ الأعراف الخاصَّة لو تبانى أصحابها على شيء لهم خاص فيها على خلاف ما تعرفه اللُّغة من الحقائق الَّتي عندها أو كانت تلك الأعراف عند أهلها حقائق لكانت في نظر أهل اللُّغة مجازات إلاَّ إذا هجرت المعاني اللغويَّة القديمة وغلبت العرفيَّة الخاصَّة في عالمها في وصفها واستعمالها بحيث لم يُلحظ ذلك الأساس بأي اعتبار.

فحينما كانت الصَّلاة مثلاً عند أهل اللُّغة بمعنى الدُّعاء وعند أهل الشَّرع بمعنى كونها ذات الأركان الخاصَّة.

وحينما كان الصَّوم في اللُّغة لمطلق الإمساك وعند أهل الشَّرع بمعنى الإمساك عن المفطِّرات العشرة.

وحينما كانت الزَّكاة في اللُّغة هي النَّزاهة والنَّظافة وعند أهل الشَّرع هو إخراج المال الواجب المعروف.

وحينما كان الحج في اللُّغة هو مطلق القصد وعند أهل الشَّرع هو مناسك مكَّة المعروفة -

فلا شكَّ أنَّ المعاني اللغويَّة كافَّة عند أهلها حقائق وغيرها في نظرهم مجازات، وإن كان الغير في الواقع أنَّه من أهل تلك اللُّغة.

إلاَّ أنَّنا قد قلنا في السَّابق بعد التَّحقيق والتَّدقيق بأنَّ تلك اللُّغة بعمومها

ص: 239

وإطلاقها -- واختلاط أمورها المتعدِّدة بما يبعدنا عن مقصودنا الخاص في البحث -- هو خصوص آيات الأحكام، الَّتي لا تحمل سوى الأعراف الخاصَّة بل الأخص.

وإن كانت اللُّغة لها معاني حقيقيَّة في ظاهرها كالأسد وهو الحيوان المفترس والإنسان المعروف وهو النَّاطق. ومعاني عرفيَّة لها كالدابَّة لذات الأربع بعد كونها لكل ما دبَّ.

فلا يلزم إذن أن تكون مرجعنا في كل شيء، إلاَّ ما كان قد استثنيناه من موارد الحاجة الخاصَّة، وهي نادرة لا تتعلَّق إلاَّ بموارد تلك النُّدرة وانسداد باب العلم في المصادر الشَّرعيَّة، مع رجحان الاحتياط بالرجوع إلى أمثال كتاب (مجمع البحرين) وما حوته الموسوعات الاستدلاليَّة من اللُّغويَّات المناسبة بقربها لمثل هذا الكتاب.

إضافة إلى ما لو حصل هجران للمعنى الأوَّل كما ذكره علماء الأدبيَّات، وإن كان ما بين ذلك القديم وهذا الحديث شيء أو بعض شيء من العلاقة الجزئيَّة كما مرَّ وكما سيأتي.وحينئذ بعد ذلك الهجران صار ممَّا لا شكَّ فيه أن هذا الأخير يُعد من نوع الحقيقة الَّتي لا غبار عليها، إلاَّ ما وقع الشَّك فيه من بعض الحالات بأنَّه هل هذا الَّذي لابدَّ وأن يلتزم به ممَّا لم يسبق له فهم الماضين قبل الإسلام العزيز أنَّه من الوضع التَّعييني أو التَّعيُّني؟

فهو ما سوف يأتي قريباً بيانه في أدلَّة كل من الرَّأيين.

وتظهر حينئذ ثمرة النِّزاع فيما لو جاءت الآيات وما يتبعها من الرِّوايات بدون قرينة، كما هو المتعارف عند الفقهاء وعلماء الأصول.

فإن كان عدم القرينة تبادراً من نوع التَّعيين فهو الحقيقة كما مرَّ ذكره من الرِّوايات الشَّريفة آنفاً.

وإن كان من نوع التُّعين وهو ما يتفطَّن له الفقهاء وأهل الأصول عادة قديماً

ص: 240

وحديثاً، وبالأخص أهل التَّحقيق والتَّدقيق منهم، حتَّى أنَّهم ما عرفوا عنها إلاَّ كونها حقائق ولكنَّها من نوع أخفض من الوضع التَّعييني، لوجود العلاقة ولو جزئيَّة مع اللغة، ولذا تُعد في بدايتها من المجازات لكونها أعراف خاصَّة لا حقائق أصيلة.

وبعد التَّعرُّف على ما أردنا بيانه بعد الإنتهاء من المقدِّمة لنعرف كلاًّ من الرَّأيين مع دليله للتَّوصُّل إلى ما هو الحق في الأخير.

فالأوَّل، وهو الحقيقة الشَّرعيَّة.

فقد احتج المثبتون لها بنحو التَّعيين ومنهم المعتزلة مطلقاً كما قيل، بأنَّا نقطع بأنَّ الصَّلاة مثلاً اسم للرَّكعات المخصوصة بما فيها من الأقوال والهيئات، وأنَّ الصِّيام لإمساك مخصوص، وأنَّ الزَّكاة لأداء مال مخصوص، وأنَّ الحج لقصد مخصوص.

ونقطع أيضاً بسبق هذه المعاني منها إلى الفهم عند إطلاقها، وذلك هو التَّبادر وهو علامة الحقيقة.

ثمَّ إنَّ هذا لم يحصل إلاَّ بتصرُّف الشَّارع ونقله لهذه الألفاظ إلى تلك المعاني الشَّرعيَّة وهو معنى هذه الحقيقة الشَّرعيَّة.

ورُدَّ ذلك: بأنَّه لا يلزم من استعمالها - من قبل المتشرِّعة حينما وصلت إليهم - في غير معانيها الأساسيَّة -- كما سبق وأن ذكرناه - أن تكون حقائق شرعيَّة.

بل يجوز كونها مجازات عندهم، وإن كانت جديدة في بداية التَّشريع من زمن النَّبي 0، وقد اشتهرت بعد ذلك من زمن أمير المؤمنين u إلى يومنا هذا حتَّى صارت حقائق بالنَّحو الأخر فيما بينهم، بعد هجران العلاقة مع الماضي.

ولأنَّ الحقيقة بالمعنى الأوَّل مقطوعة العدم.

لأنَّه لو كان لنقل إلينا بالتَّواتر أو بالآحاد على الأقل لعدم الدَّاعي إلى الإخفاء، بل الدَّواعي متظافرة على نقله مع أنَّه لم ينقل ذلك أو شيء منه أبداً ولو كان لبان.

بينما العلاقة مع اللُّغة لها آثارها أو بعضها وإن انتقل الأمر إلى حقيقته الَّتي عند

ص: 241

المتشرِّعة بعد ذلك.

والثَّاني: هو الحقيقة المتشرعيَّة:-

فأحتج النَّافون مطلقاً ومنهم القاضي أبو بكر كما قيل بوجهين:

الأوَّل: أنَّه لو ثبت نقل الشَّارع هذه الألفاظ إلى غير معانيها اللُّغويَّة -- وهي الشَّرعيَّة -- بنحو التَّعيين لفهَّمها المخاطبين بها، حيث أنَّهم مكلَّفون بما تتضمَّنه تلك الألفاظ من المعاني الشَّرعيَّة، ولا ريب أنَّ الفهم شرط التَّكليف.

الثَّاني: لو كانت حقائق شرعيَّة كما قيل لكانت غير عربيَّة، واللاَّزم باطل، فالملزوم مثله، لأنَّ النَّاقل لمعانيها لابدَّ وأن يكون هو اللُّغة نفسها والمطلوب مفقود فيها.

بيان الملازمة: أنَّ اختصاص الألفاظ باللُّغات إنَّما هو بحسب دلالتها بالوضع فيها والعرب لم يفهموها -- لأنَّه المفروض -- فلا تكون عربية.

فمثلاً اختصاص لفظة (ضرب ونصر وعلم) باللُّغة العربيَّة إنَّما هو بسبب دلالتهابالوضع فيها، وكذلك اختصاص لفظة (زدن ورفتن وآمدن) ليست بعربيَّة وهي الفارسيَّة، إذ لم يضعها العرب في لغة العرب لمعانيها المعلومة.

فكذلك لفظة الصَّلاة والصَّوم والحج والزَّكاة لا تكون عربية حسب الفرض المشتبه به، وذلك لأنَّ العرب لم يضعوها في لغة العرب لمعانيها الشَّرعيَّة فلا تكون عربيَّة والواقع خلاف ذلك.

ولذلك يكون اللازم باطلاً، لأنَّه يلزم أن لا يكون القرآن عربيَّاً في جميعه لاشتمالهِ عليها وما بعضه خاصَّة عربي لا يكون عربيَّاً كلَّه، وقد قال الله سبحانه [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ](1).

ص: 242


1- سورة يوسف / آية 2.

وقد أوضحنا هذا الأمر في بحث من بحوث هذه الموسوعة تحت عنوان (من فضائل القرآن عروبته فيه وفي آيات أحكامه وتوابعها) فراجع.

إضافة إلى أنَّ دعوى كونها أسماء لمعانيها الشَّرعيَّة للشَّارع ممنوعة، وإن كان بلغة العرب.

وهذا أيضاً بالنَّظر إلى اطلاق أهل الشَّرع من بعض أهل الفقه والكلام، لامتناع أن يطلقوا شيئاً لم يعلموا به، لأنَّه لم يأت إليهم بالنَّحو التَّدريجي الَّذي يمكن أن يتبادروا عليه.

بل إنَّ التَّدريجي المتعارف في ورود أحكام الشَّريعة على نهجه وحياً وسنَّة يصعب اطلاقه أيضاً، إلاَّ بعد إكمال الدِّين وختم الوحي وبعد كثرة الممارسة والتَّعوُّد عليه.

فالَّذي يلزم حينئذ هو كونها حقائق عرفيَّة لهم لا حقائق شرعيَّة كما يُدَّعى.

ولأن الاشتهار والإفادة بغير قرينة إنَّما هو في عرف أهل الشَّرع لا في اطلاق الشَّارع، لإمكانه بل وقوعه وما أكثره، ولأنَّ السَّبق إلى الفهم بغير قرينة إنَّما كان بالنِّسبة إلى المتشرِّعة لا إلى الشَّارع لغناه تعالى عن فهم خصائص ما شرَّعه.

وبهذا يكون المعنى التَّعيُّني أو الحقيقة المتشرعيَّة هي المتعيِّنة وإن كانت غير مترسِّخة في الأذهان في بداية التَّشريع من زمن النَّبي 4، للحاجة إلى القرينة في الغالب.

لقوَّة المعاني اللغويَّة القديمة حينذاك أو كون الألفاظ صارت بنحو المجاز المشهور وقراءتها بدأت من فعل النَّبي 4 وقوله وتقريره كما مرَّ الحديث عنه، إلاَّ أنَّها صارت من وزن الحقيقة العرفيَّة الخاصَّة في زمن إمامنا أمير المؤمنين سلام الله علیهاوما بعده كما سبق حتَّى صار معلوماً بدون قرينة.

لأن اللفظ اذا استعمل في معنى خاص في لسان جماعة كثيره زماناً معتداً به -

ص: 243

ومن ذلك ما لو كان المعنى جديداً ولو في علاقة جزئيَّة مع الماضي اللغوي - يصح أن يكون حقيقة فيه بكثرة الاستعمال.

فكيف إذا كان ذلك معلوماً عند قاطبة المسلمين ما بعد بدء الدَّعوة، وإن احتيج في بعض الأحوال إلى بعض القرائن الاستيضاحيَّة من بعض الأدلَّة والرِّوايات لكسب الاطمئنان الاجتهادي حتَّى قد يلوح من بعض الرِّوايات بعض الشُّبهات والمشتركات.

فلا تنفى تلك الحقيقة العرفيَّة في الأعم الأغلب، وإن زادت تلك الشُّبهات أو المشتركات، ولعل الشُّبهات تلك من احتمال ضعف في أدبيَّات البعض لا عند من يمتلك القدرة عليها ويمارسها.

وبالنَّتيجة لو ادُّعي افتراضاً التكافؤ في الدَّليلين وحصل التَّفاوت في العملين لابدَّ أن يكون هنا المقدَّم منهما ما وافق الاستنباط الدَّقيق الفقهي.

ولو كان التَّفاوت غير مركَّز عليه شرعاً فيهون الأمر أيضاً، وإن كان كلا العملين هو واحد.

فلابدَّ من الوصول إلى ما هو نتيجته بإنَّه نزاع لفظي، فلا جدوى من هذا الاختلاف والله العالم.

التَّابع السَّادس / بحث الأوامر المكرَّرة

وهي المراد منها ما لو كرِّرت مرَّتين من قبل الأمر أو من يمثِّله حول نفس الموضوع الَّذي لأجله صدر الأمر للمرَّة الأولى إذا لم يكن فرق في ذي الموضوع بين نفس الآمر وبين من يمثِّله.

كالأمر بالسَّقي بالماء في العرفيَّات اللُّغويَّة بين العقلاء الاجتماعيِّين الَّذين يحترمون الطَّبقيَّات كما بين الآباء وأبناءهم والسَّادة وخدَّامهم أو حتَّى السَّادة

ص: 244

وعبيدهم إن وجدوا في هذا الزَّمن، وقد نقلت أمر ذلك الكتب القاموسيَّة والتَّأريخيَّة بإسهاب.

وكالأمر بالصَّلاة في العرفيَّات الخاصَّة أو الشَّرعيَّات، قبل أن تصرف القرينة لأحد الأمرين الحقيقة عن المجاز وبعد الامتثال للأمر الأوَّل.

فهو لا يحمل سوى صورة واحدة، وهي لزوم الامتثال الثَّاني في لسان اللُّغويَّات والعرفيَّات العامَّة كما في أمر السَّقي بالماء أو العرفيَّات الخاصَّة أو لسان الشَّرعيَّات وصيغها من الكتاب والسنَّة، ولكن باصطلاح لفظ الوجوب كما في الأمر بالصَّلاة ونحوها، وهي الأعلى من صفة ما يستحب لإعداد الأمر الثَّاني كالأمر الأوَّل بنحو تأسيسي.

وهناك صورة أخرى، وهي ما لو كان ذلك التِّكرار قبل امتثال الأمر الأوَّل.

وهذا ما قد يسبِّب وقوع الشَّك والتَّردُّد بين أن يكون اللُّزوم أو الوجوب في المقام بين مثالي الأمرين للامتثال مرَّتين أو كفاية المرَّة الأولى أو الثَّانية لا على التَّعيين.

وبسبب هذا التَّردُّد الحاصل كثيراً جدَّاً بين أبناء المجتمع لابدَّ أن يؤدِّي أوامره إلى معقوليَّة احتمال توسُّعها إلى أربع صور بسبب مصداقيَّة معنى التَّأسيس للأمر الثَّاني أو التَّأكيد له الوارد في البين.

الصُّورة الأولى: المشفعة بالمثال، هي أن يكون الأمران معاً غير معلَّقين على شرط، كأن يقول الآمر لغويَّاً مثلاً لمأموره (أسقني ماءاً) ثمَّ يقول ثانياً أمراً أخر مماثلاً وهو (أسقني ماءاً) في الفترة العرفيَّة غير المعطية لامتياز أحد الأمرين على الآخر وبما يخرجهما عن صدق التَّردُّد الملاحظ بين التَّأكيد والتَّأسيس.

وكذا أن يقول الأمر المتشرِّعي أو الشَّرعي أمره الأوَّل (صلِّ) ثمَّ يكرِّر هذا الأمر نفسه وهو (صلِّ) ثانية.

فإنَّ الظاهر بعد هذا التَّردُّد أن يحمل الأمر الثَّاني على التَّأكيد دون التَّأسيس ما

ص: 245

لم تكن قرينة تميِّز الثَّاني على الأوَّل، ولأنَّ الطَّبيعة الواحدة يستحيل تعلُّق الأمرين بها من دون ذلك الامتياز، ولصحَّة التَّأكيد على ذلك الأمر الَّذي يلزم أو يجب القيام به حتَّى لو أدَّى ذلك الأمر الأوَّل قبل هذا الثَّاني، إمَّا لعدم كفاية مصداقه أو لتسبيب بطلانه.

بينما لو كان هذا الثَّاني تأسيساً مستقلاًّ غير مؤكَّد لسابقه لكان على الآمر تقييد متعلِّقه ولو ب- (مرَّة واحدة) أو (أعد صلاتك) واللُّغة وعرفيَّاتها العامَّة والشَّرع وبصدارة في العرف الخاص والحقيقة الشَّرعيَّة متَّسعان لهذا ونحوه عند المتابعة.

ولذا فضَّلنا القول بالتَّأكيد دون التَّأسيس، وإن كان القول بالتَّأكيد في نفسه خلاف الأصل وخلاف ظاهر الكلام لو خلِّي ونفسه.

لأنَّا ذكرنا أن بعض حالاته كون سابقه قد أدَّى على خلل أو في بعضه كذلك أو أدِّعي كون الأمر الثَّاني جاء على بطؤ، وهو خلاف المتعارف للعمل الواحد.

الصَّورة الثَّانية: وهي المشفعة بالمثال مع التَّعليق بالشَّرط سواء في المثال اللُّغوي الاجتماعي أو العرفي الخاص المرتبط بالشَّرعي.

فإنَّ الأمرين إذا علِّقا على شرط -- كأن يقول الآمر اللُّغوي (إن أردتني مصاحباً لكفي المسير فاسقني)، والشَّرعي حسبما ورد في النًّصوص وما أكثرها (إن كنت محدثاً فتوضَّأ) ثمَّ يكرِّر القول ثانياً --

فإنَّه لا يحمل ثانياً إلاَّ على التَّأكيد كالصُّورة الأولى، وإن اختلفت الصُّورتان بين المعلَّقة وغيرها.

ولعل الشَّرطيَّة في كلا مثالي هذه الصُّورة الثَّانية هي الَّتي ساعدت على قبول هذا القرار كعدمهما في الصُّورة الأولى.

الصُّورة الثَّالثة: وهي ما لو كانت الأولى غير معلَّقة على شيء، وقد يكون العمل واحداً كالأمر في الشَّرعيَّات بالاغتسال بالنَّحو المطلق في تلك الأولى كقول

ص: 246

المولى (اغتسل) بدون الاشتراط، وثانية بالمقيَّد كقوله تعالى (إن كنت مجنباً فاغتسل).

وهو ما قد يكون معناه أن لا يمنع من حمل المطلق على المقيد وهو غير مختلف عن معنى التَّأكيد على الأسس المبنيَّة وكالصورتين الأوليَّتين وبالنَّحو الكاشف.

الصُّورة الرَّابعة: وهي ما لو كانت كل من الحالتين في الصُّورة معلَّقة في مثالها على شيء، ولكن ذلك الشَّيء مختلف في الأولى عن الثَّانية كقول المولى الشَّرعي في الأوَّل (إن مسست ميِّتاً في برده وقبل تطهيره فاغتسل) وقوله في الثَّاني وعلى ما بينَّاه (إن كنت جنباً فاغتسل).

فإنَّ هذه الصُّورة لا تخرج عن كون التِّكرار فيها تأسيساً وإن لم يمنع من الاكتفاء بالغُسل الواحد التَّداخلي اعتماداً على كون غسل الجنابة يكفي فيه دخول بقيَّة الأغسال الأخرى المغايرة واجبة أو مستحبَّة، ولا تأكيد فيه ما لم تكن قرينة تثبت أنَّ الأمر المولوي الأوَّل كأن يراد منه غسل الجنابة كالثَّاني فهو في معنى التَّأكيد كما ذكرنا، لكنَّه مخالف للأصل مع تجرُّده.

التَّابع السَّابع / الأمر بالأمر

من جملة ما ذكر أدبيَّاً وعلى هذا النَّحو ذكر هذا في مباحث الألفاظ الأصوليَّة أيضاً أنَّ الأمر يفيد وجوب الامتثال على المأمور.

بحيث لو تخلَّف عن هذا الامتثال يكون عاصيا كما لو أمر السيِّد عبده بسقيه ماء من قبل عبد آخر يأمره بذلك، وهكذا الأب لو أمر ولده بأن يأمر من يتكفَّل هذا الأمر من الآخرين كعصيان المأمور الأوَّل.

وعلى هذا النَّحو جرت تعابير الأدباء وأهل اللُّغة اعتماداً على العرف السَّائد بينهم؟ فقالوا بأنَّ مؤدَّى الأمر الثَّاني هو نفس الثَّاني.

ص: 247

أم قد يحصل بعض التَّفاوت؟

فقالوا بأنَّ الوجوب نفسه جارٍ في المقام، إلاَّ أنَّه عقلي من جهلة استعمال أهل اللُّغة لهذا المعنى السَّائد لا غوي على ما ظهر من معاني ما تضمَّنته القواميس اللُّغويَّة وكتب العلوم.

لكن لم يعلم بالدقَّة أنَّ أهل الأعراف الَّذين شخَّصوا المعاني هذه هل كانوا متفاوتين بينهم بسطاً وقبضاً، نتيجة لاختلافهم بين ملل ونحل متعدِّدة والحكم العقلي المذكور لم تثبت شرعيَّته سماويَّاً إلاَّ عند شروق شمس الإسلام وبعثة النَّبي ورسالته وتحديدات الصِّيغ التَّفاهميَّة الَّتي جاءت عن طريقها حتَّى لو قلنا برضا الإسلام العزيز بالإمضاء لبعض تلك الأعراف عن طريق بعض الأدلَّة الإرشاديَّة ليكون ما تقول به اللُّغة وتعاليم الآداب وصيغها هو نفسه ما يراد من الصِّيغ المولويَّة في القران والسنَّة لكن حينما نقرأبعض الآيات المشابهة كقوله تعالى [خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ](1) وقوله [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا](2) وقوله [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ](3).

وهكذا ما يشبه هذه الآيات من نصوص السنَّة الواردة عن العترة وما ألحق بها من المؤيِّدات عن خيار الآخرين إذا تأمَّلنا فيها.

فإنَّنا سنجد الوجوب العقلي غير اللازم شرعاً، إلاَّ أن يؤكِّده الشَّرع في تضاعيف أحكامه.

للتَّفاوت البيِّن بين ما تقوله النَّاس من أهل اللُّغة -- وفي ضمنهم الجهلة وعلى ضوء أعرافها غير الشَّرعيَّة الَّتي قد يكون منها بعض أو كثير التَّعاملات القاسية بين

ص: 248


1- سورة الأعراف / آية 199.
2- سورة طه / آية 132.
3- سورة لقمان / آية 17.

السَّادة والعبيد- وبين ما تقوله نصوص الشَّرع الشَّريف الَّذي بيده الإمضاء بعد التَّصحيح.

وهو أنَّ الأمر الأوَّل الصَّادر منه مولويَّاً إذا كان واجباً مطلقاً كالأمر بالصَّلاة في الآية الشَّريفة الأخيرة الماضية والَّتي ورد عنها أنَّها (لا تسقط بحال)(1).

والأمر الثَّاني هو الأمر بالمعروف الَّذي أمر به ثانياً بعد أمره الأوَّل بوجوب التزامه هو الَّذي صار أوَّلاً، ليحقِّق واجبه الآخر بعد التزامه السَّابق أنَّه كان كما لا يخفى من نوع الواجب الكفائي.

وهو تفاوت.

وعند تسليمنا بهذا التَّفاوت لا يمكن أن نستعمل القياس على اللُّغة إلاَّ بالتَّساوي التَّام بين الشَّرع وبين اللُّغة، لتصح المقايسة والتَّفاوت بين الشَّرعي الحديث وبين اللُّغوي المحفوف في قدمه بالشَّرائع والرِّسالات السَّماويَّة السَّابقة الَّتي قد تحصل بينها وبين الإسلام بعض التَّشابهات ممَّا بقي محفوظاً على قلَّته وإلى حد الآن، لكن لا توصلنا إلى حد صحَّة تماميَّة المقايسة.

ولذلك نرى أنَّ الأرجح في هذا هو الرجوع إلى ما ذكرناه عن الحقيقة اللُّغويَّة والشَّرعيَّة والمتشرِّعيَّة من هذا الكتاب لجزئه الأوَّل إذ قد يتشابه في النَّتيجة الأمر الأوَّل والأمر الثَّاني وكما قال تعالى تأنيباً وتوبيخاً للمتخلِّفين [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ](2)، فضلاً عمَّا لو كانوا قد سبقوا بالأمر الأوَّل ولم يقوموا بواجبهم.

ص: 249


1- الوسائل 2: 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5.
2- سورة البقرة / آية 44.

التَّابع الثَّامن / أداء المأمور به هل يتبعه قضاءه بدليله وحكمه؟

أم كان من نحو مستقل؟

قد تطلق كلمة القضاء في العقائد تكويناً ويراد منها ما يقابل القدر بالنَّحو المحتَّم، وقد تطلق في التَّشريع لتولِّي أمور البت في أمور النِّزاعات، وهذان المعنيان ليس لنا الآن بهما أيَّة علاقة.

وأمَّا القضاء بمعنى الإتيان بالشَّيء المأمور به إذا كان مؤقَّتاً كما في الشَّرعيَّات بعد انتهاء وقته الأصلي ففي الفقه الشَّرعي العام له لسانان:-

لسان فقهي استنباطي خاص قد عنى به فقهاءنا عنايتهم الشَّريفة أتحفوا بها موسوعاتهم الفقهيَّة وبما أنتج لهم من ذلك فتاوى شرعيَّة خاصَّة دوَّنوا لها رسائل عمليَّة لمقلِّديهم، وهي معدَّة لطلاَّبها الرَّاغبين في التَّزوَّد من معلوماتها.

وهي ليس لنا معها فعلاً كبير فائدة كذلك، وإن كانت النَّتيجة قد تتقارب أو هي نفسها مع ما أعطاه الأصوليُّون في كتبهم الخاصَّة حولها.

ولسان أصولي خاص به قد يبدأ له عندهم أوَّلاً بالعقل في أنَّه هل يمكن أن يتعقَّل له مشروعيَّة باقية عند انتهاء وقت التَّشريع الأدائي له بلا تطبيق فيه؟

ثمَّ لينظر ثانياً بعد مقبوليَّة هذا التَّعقُّل بأنَّه هل يمكن أن يكون ما يقول به العقل يقول به الشَّرع وعلى الأخص لو أمضى للعقل مثل هذا التَّعقُّل ولو بالأدلَّة الإرشادَّية؟

أم لابدَّ من محاولة إيجاد تنصيص شرعي خاص لا يبتعد حتَّى العقل عنه في الفقه الشَّرعي العام؟

وبذلك قد تكون النَّتيجة واحدة فقهاً وأصولاً.

وعلى أي حال فإنَّ ممَّا يتفرَّع على البحث عن الموقَّت (تبعية القضاء الأدائي)

ص: 250

بعد بحث الموسَّع والمضيَّق، وقد أعددناها من مباحث الألفاظ بعد المقدِّمات الماضية لقرب استفادة أمرها من العناوين الملازمة للنُّصوص أو المستفادة من النُّصوص نفسها ولو من كون التَّوقيت الأدائي كقاعدة معوِّضة عن التَّصريح بالدَّليل لما يجب أن يكون من القضاء بعد انتهاء وقت الأداء وهي من خواص باب الأوامر.

وهذه التَّبعيَّة وإن كان من حقِّها أن تذكر قبل توابع الأوامر لأهميَّتها بعد الأوامر إلاَّ أنَّها رجح ذكرها الآن لكونها من فروع بحث الموقَّت منها.

فبعد مسلميَّة كون المؤقَّتات من الواجبات لو فات وقتها من دون امتثال، إمَّا لتركها عن عذر أوعن عمد واختيار، وإمَّا لفسادها لعذر أو لغير عذر كما في الصَّلاة أو الصَّوم ونحوهما إلى أن انتهت أوقاتها الأدائيَّة.

فإنَّ ممَّا ثبت في الشَّريعة وجوب تداركها وهو وجوب قضاءها خارج الوقت، إمَّا من قبل المكلَّف نفسه في حياته، أو القضاء عنه من قبل نائب عنه لو لم يستطع هو نفسه كما في الحج كذلك، على تفصيل في محلِّه أو القضاء عنه من قبل الآخرين بعد وفاته على تفصيل أوسع في أكثر من الحج، وهو ممَّا لا كلام لنا فيه.

ولكن الأصوليُّين هنا اختلفوا في أنَّ وجوب القضاء هل كان على مقتضى القاعدة كما أشرنا؟

أي بمعنى أنَّ الأمر بنفس الوقت يدل على وجوب قضاءه إذا فات في وقته، فيكون وجوب القضاء بنفس دليل الأداء.

أو أنَّ القاعدة لا تقتضي ذلك، بل وجوب القضاء يحتاج إلى دليل خاص غير نفس دليل الأداء؟

أمَّ أنَّ هناك تفصيل بين ما إذا كان الدَّليل على التَّوقيت متَّصلاً فلا تبعيَّة، لأنَّه هو نفسه ما خلا التَّوقيت الَّذي انتهى أمده وكان العملان يعد كل منهما لو أدرك من القضاء المحتاج إلى دليل آخر.

ص: 251

وبين ما إذا كان منفصلاً فالقضاء تابع للأداء لا أنَّه هو نفسه، وكل من العملين له عنوانه.

فالأقوال ثلاثة ولربَّما يأتي التَّعرُّض لما نستقر عليه ولو استطراداً بالمثال في باب الملازمات العقليَّة للوصول إلى ما يرتجى قبوله أو لا يرتجى في حينه بما هو أوضح، وهي:-

1 - قول بالتَّبعيَّة مطلقاً

2 - قول بعدمها مطلقاً

3 - قول بالتَّفصيل الَّذي بينَّا ملخَّصه.

والمختار هو ما سعى له الفقهاء ورتَّبوه من الأدلَّة الإضافيَّة على قاعدة الأداء لا من خصوص قاعدة الأداء وهو استصحابه كما أشرنا وللتَّفاوت العنواني.

التَّابع التَّاسع / هل يجزئ الأمر مع انتفاء الشَّرط

لا شكَّ في أنَّ الواجبات الثَّابتة في الشَّرع من الأوامر وملحقاتها لا تخلو إمَّا أن تكون مطلقة لا تسقط بحال كالصَّلاة.

وإنَّ الشُّروط الَّتي فيها هي إمَّا شروط عامَّة كالحياة والبلوغ والعقل والطَّهارة من الحيض والنَّفاس للنَِّساء كباقي الواجبات، وإمَّا أن تكون شروط خاصَّة مع تلك العامَّة الَّتي يلزم أن تكون في الجميع، لاستكشاف مرحلة أصل التَّكليف كالصَّوم والحج والخمس والزَّكاة وغير ذلك من فروع الدِّين العشرة ممَّا هو معروف في الفقه بالنِّسبة إلى كلِّ فرع من تلك الفروع.

وعليه فهل يتفاوت الأمر ونحوه في دلالته على الوجوب في الواجب المشروط بالشَّروط الخاصَّة الَّتي انتفى شرطه أو شروطه منها فلا يدل عليه؟

أو لا يجوز أن يدل عليه الأمر، لئلاَّ يكون ذلك من التَّشريع الباطل، بسبب

ص: 252

انتفاء موضوع تنجيز التَّكليف به فعلاً وبهذه الدقَّة لأنَّه عدم عند عدم شرطه؟

أم هو كالمشروط الَّذي حصل شرطه أو كان في أساسه واجباً مطلقاً لابدَّ وأن يدل عليه ولو تقديراً ولو لتوفُّر الشَّروط العامَّة فقط من هذا التَّقدير ككون الإنسان حيَّاً بالغاً عاقلاً ولكن الشروط الخاصَّة بعد لم تتوفَّر فيه فعلاً وعلى أمل توفُّرها فيه؟

كالحج المأمول أن تظهر للمكلَّف مؤشِّرات الاستطاعة شبه الكاملة فيؤدِّيه بنحو الجواز غيرالتَّشريعي أو لإبراء الذمَّة شبه المشغولة.

فهنا رأيان وقولان:

قول لأكثر المخالفين من العامَّة، وقول للإماميَّة ومن تبعهم من بعض العامَّة، وقول ثالث، ونحن نأخذ بالثَّالث الآتي لما سيأتي سببه.

فاختلف أصوليُّوا ومتكلِّموا العامَّة وتفاوتوا عن أصوليي ومتكلِّمي الإماميَّة ومن تبعهم من العامَّة فيما اختلفوا فيه مع أولئك العامَّة:-

1 - فنسب أحد جهابذة علماءنا إلى أكثر المخالفين من العامَّة - وهو صاحب المعالم قدس سره - القول بأنَّ (الأمر بالفعل المشروط جائز وإن علم الآمر انتفاء شرطه فعلاً مع احتمال تعدِّي بعض متأخِّريهم فأجاز ذلك حتَّى مع علم المأمور أيضاً)(1).

أقول: وهذا المعنى بظاهره لا يلوح منه سوى كون هذا البعض كان من المجبِّرة.

ثمَّ قال قدس سره (مع نقل كثير منهم الاتِّفاق على منعه إلخ).

أقول أيضاً: وذلك لاحتمال الحذر من وصول هذه الفكرة إلى حدِّ القول بالجبر الممنوع إلهيَّاً في الأحكام كما هو مخل في العقائد.

وأكثر الظن أنَّ المانعين من هؤلاء هم المعتزلة جماعة واصل ابن عطاء، لتمسُّكهم بالعدل الإلهي معنا نحن الإماميَّة، على خلاف قول الأشاعرة وإن خالفونا في أمورهم الأخرى، كالقول بالتَّفويض والعياذ بالله.

ص: 253


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص82.

نعم قد يشكل البت بهذا الوجه في كل صورة كما لو كان الواجب الَّذي انتفى شرطه أنَّه لا يسبِّب حرمة عليه كالصَّوم المشروط بما لا أذيَّة فيه عليه بشدَّة.

2 - ثمَّ قال (وشرط أصحابنا الإماميَّة عند تجويزهم ذلك مع انتفاء الشَّرط كون الآمر جاهلاً بالانتفاء).

أقول: حذراً من الجبر والقساوة من الأسياد ضدَّ عبيدهم أو الطَّبقات المرفَّهة ضدَّ خدمهم عند علم الآمر منهم بذلك، وهو من يمكن في حقِّه الجهل في بعض حالاته من غير المعصومين من النَّبي 5 والأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ.

ولذلك مثَّل بقوله (كأنَّ يأمر السيِّد عبده بالفعل في غد - مثلاً - ويتَّفق موته قبله فإنَّ الأمر هنا جائز باعتبار عدم العلم بانتفاء الشَّرط ويكون مشروطاً ببقاء العبد إلى الوقت المعيَّن)(1).أقول: وبما أنَّ المفروض عدم بقاء العبد في المثال مع الجهل فلا موضوع لعدم الجواز لعدم ثبوت الجبر كما أشار قدس سره هكذا مع علم هذا النَّوع من الآمر وكذلك المأمور، وكون الشَّرط شرط وجود ككون العبد غير راغب في امتثال أوامر سيِّده، لا شرط وجوب كالحياة والبلوغ والعقل، فلا جبر ولا محذور كذلك.

وعلى الظاهر أنَّ هذا الشَّرط في هذا المورد وغيره لا يفرِّق الأمر فيه بين عدم توفُّره من الأوَّل كالصِّبا أو توفَّر وانتفى قبل الأمر.

وأمَّا مع علم الآمر بذلك الانتفاء وعلمه ببقاء حياة المأمور وإحراز رغبته في الامتثال وكون الشَّرط شرط وجوب كالحياة والبلوغ والعقل، فضلاً عن كون الآمر هو الله تعالى، إذ يتأكَّد هذا الأمر في أوامره تعالى كثيراُ.

فلا يجوز، حيث قال قدس سره بعد ذلك (وأمَّا مع علم الآمر كأمر الله تعالى زيداً بصوم غدٍ وهو يعلم موته فيه فليس بجائز وهو الحق).

ص: 254


1- نفس المصدر السَّابق.

أقول: لكنَّه قد لا يضرنا هذا الأمر إذا أراد الآمر تعالى من أمره هذا اختبار المأمور وأمثاله ليموتوا ولو كانوا في وسط الطَّاعة ليثيبهم.

3 - وهو ما نقول به نحن تأييداً: إذا كان الموت قضاءاً حتميَّاً كما لا يخفى على كلِّ أحد كسنَّة الحياة وهو كذلك، لأنَّ الله ليس بظلاَّم للعبيد في ذلك.

إضافة إلى عدم إمكان فرض الجهالة عليه حتَّى ينتفي الجبر في بعض الحالات إلاَّ ما نقول به نحن.

وهذا هو القول الثَّالث، وهو في موارد استثنائيَّة مصحِّحة لقولنا الثَّالث لو انتفى الجبر.

فالقضيَّة تتجلَّى في الأمور الآتية مع تصرُّفنا:-

أوَّلاً: إذا كان إصدار الأوامر منه تعالى إصداراً لنوع كل من تتوفَّر فيه الشُّروط المذكورة أعلاه -- لا خصوص الأفراد الَّذين يموتون قبل صدور الأمر مع ذلك العلم الإلهي وهو القضاء المبرم بالموت فماتوا -- فهو من نوع السَّالبة بانتفاء الموضوع.

أو لم يموتوا بسبب من أسباب التَّفصيل كما في صلة الأرحام أو الصَّدقات فصدر الأمر، فكما مرَّ ذكره بالتَّمثيل الماضي للاختبار ولو ليموت في وسط العمل كما في قوله تعالى [وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا](1).

أو على تقدير شمول العبد فيخرج الحال من يموت قبل أن يصل إليه ذلك الأمر وبالطَّبع إنَّ أوامره تعالى نوعيَّة.

وعلى تقدير توفُّر ما يلزم توفُّره في المكلَّف لا على فرض عدم التَّوفُّر إلى حدِّ ذلك الموت لاستحالة ذلك بالنِّسبة إليه.

ثانياً: ممَّا يستثنى من ذلك أمره تعالى عباده بالصَّلاة مثلاً، وهو يعلم أنَّ بعضهم

ص: 255


1- سورة النساء / آية 100.

لايتطهَّرون -- أو لا يريدون الالتزام بالصَّلاة عصياناً -- فلا جبر ولا تكليف بما لا يطاق، وإنَّما النَّتيجة هو معصيتهم له تعالى.

ثالثاً: ومن ذلك حالة البداء عندنا نحن الإماميَّة، لأنَّه قد يظهر منه تعالى بعض أوامر من هذا القبيل نحن لا نعلم سرَّها، كما لو بدا له أو منه تعالى أمر في عبد من عباده يعلم به أنَّه سوف يموت في السَّنة الفلانيَّة قبل الأمر ولكنَّ العبد وصل رحمه فأطال تعالى عمره.

رابعاً: ما لو كان للامتحان والاختبار.

خامساً: ما لو كان المكلَّف قد نام أو نسي وجهل تكليفه ثمَّ عرف أو استيقظ بعد نهاية الوقت وكان عليه القضاء.

سادساً: ما لو كان قد صمَّم على العصيان والتَّمرُّد عن الطَّاعة ثمَّ مات فوجب على ولده الأكبر القضاء عنه ولو ليخفِّف عنه يوم القيامة.

ومن أدلَّة المجوِّزين:-

أنَّه لو لم يصح مثل هذه الأوامر لم يعلم إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ بوجوب ذبح ولده لانتفاء شرطه عند وقته - وهو عدم النَّسخ - وقد علمه، وإلاَّ لم يقدم على ذبح ولده بتهيئة الأسباب من الإضجاع وتلِّه للجبين وإمرار المدية على حلقه بل مطاوعة ولده النَّبي إسماعيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ كذلك، لأنَّه حرام على تقدير عدم العلم بالوجوب ولم يحتج أيضاً إلى فداء، وقد قال الله تعالى [وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ](1).

والجواب عن ذلك: بالمنع من تكليف إبراهيم بالذَّبح الَّذي هو فري الأوداج، بل كُلِّف بمقدِّماته كالإضجاع وتناول المدية وما يجري مجرى ذلك والدَّليل على ذلك قوله تعالى [وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ](2).

ص: 256


1- سورة الصافات / آية 107.
2- سورة الصافات / آية 104.

وأمَّا جزعه عَلَيْهِ السَّلاَمُ فلإشفاقه من أن يؤمر - بعد مقدِّمات الذَّبح - به نفسه لجريان العادة بذلك.

وأمَّا الفداء فيجوز أن يكون عمَّا ظنَّ أنَّه سيؤمر به من الذَّبح أو عن مقدِّمات الذَّبح زيادة عمَّا فعله لم يكن قد أمر بها.

إذ لا يجب في الفدية أن يكون من جنس المفدى - وهو ما كان الفداء بدلاً منه - حتَّى ورد في بعض النُّصوص أنَّه الهدي في الحج أو الأضحية.

وورد أيضاً إن التزمنا بالمماثل في بعض التَّأويلات الشَّرعيَّة أنَّه هو سيِّد الشُّهداء أبو عبد الله الحسين شهيد كربلاء "سلام الله عليه"، وهو معنى العظيم في [وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ] وهو الصَّحيح في بابه.

ثمَّ أقول: وهذا الجواب صحيح ويتناسب مع ما ذكرناه سابقاً ممَّا يستحقُّه المولى تعالى من التَّوجيهات لطاعته.ومن أدلَّتهم كذلك قولهم:-

بأنَّ الأمر كما يحسن لمصالح تنشأ من المأمور به، كذلك يحسن لمصالح تنشأ من نفس الأمر وموضع النِّزاع من هذا القبيل.

فإنَّ المكلَّف من حيث عدم علمه بانتفاء فعل المأمور به ربَّما يوطِّن نفسه على الامتثال، بل قد يكون مستأنساً لعمق إيمانه فيحصل له بذلك لطف في الآخرة وفي الدُّنيا لانزجاره عن القبيح.

ألا ترى أنَّ المولى قد يستصلح بعض عبيده بأوامر ينجزها عليه مع عزمه على نسخها امتحاناً له، والإنسان قد يقول لغيره وكَّكلتك في بيع عبدي مثلاً مع علمه بأنَّ سيعزله إذا كان غرضه استمالة الوكيل - أي لكي يعلم بميله هل هو راغب في البيع أم لا؟ - أو امتحانه في أمر العبد - هل هو راض أن يباع العبد ويبقى المولى بلا عبيد أم لا؟

ص: 257

و الجواب أيضاً بالمنع، لأنَّه لو سلِّم ذلك لم يكن الطَّلب هناك للفعل لما قد علم من امتناعه، بل للعزم على الفعل والانقياد إليه والامتثال لأوامره وليس النِّزاع فيه بل في نفس الفعل.

وأمَّا ما ذكر فيه من المثال فإنَّما يحسن لمكان التَّوصُّل إلى تحصيل العلم بحال العبد والوكيل، وذلك ممتنع في حقِّه تعالى، للفرق بينه وبين عبده فلا يقبل، للقياس مع الفارق.

أقول: وهذا الجواب كالجواب الأوَّل بلا فرق فلا نعيد، وهو صحيح لو كانت النَّتيجة كما مرَّ ذكره من المستثنيات في الجواب الثَّالث.

التَّابع العاشر / المفاهيم

إنَّ للمفاهيم في اللُّغة العربيَّة وزناً مهمَّاً يضاف إلى المنطوق نصوصاً وظواهر لابدَّ من الكلام عنه لأسباب مهمَّة قد لا يوفَّق لها غير العربي في لغته، بحيث لا يستوعب معارف الإسلام العظيمة في سعتها ودقَّتها كتاباً وسنَّة إلاَّ تلك العربيَّة.

وقد يتَّضح أمره أكثر عند المرور على البحث عن ما يقابل بحث حجيَّة الظهور من المفاهيم، ومن هذه الأسباب هي:-

الأوَّل: سعة لغة القرآن والى الأخذ بالمفاهيم ولو في الجملة.

لا شكَّ أنَّ من سعة اللُّغة العربيَّة وتفوُّقها على بقيَّة اللُّغات الأخرى -- وارتباطها بما ينفع وينتفع به جميع البشر على اختلاف طبقاتهم ومشاربهم وأقوامهم لو تعلَّموها وعلَّموها وبالخصوص لمعارف شرعنا الإسلامي الحنيف العام الشَّامل بالنَّفع لكلِّهم، لكونه دين الفطرة وأصل الخلقة المنسجمة مع كل مبادئه المستقيمة انسجامها الطَّبيعي أو التَّطبعي، ولئلا تبقى للنَّاس أيَّة حجَّة في شيء، وليظهر الله

ص: 258

تعالى دينه على الدِّين كلِّه بهذه اللُّغة وحجَّته البالغة بها عليهم، لأنَّها لا تكفيها إلاَّ هذه اللُّغة، ولأنَّها لغة أهل الجنَّة وأوَّل ما نطق به أبونا أدم u --

أن جعل فيها دروباً وطرائق لحمل كل المعاني غير المحدودة في كثرتها وللتَّفهيم والتَّفاهم قد يخفى كثيراً منها على البسطاء من غير المتعلِّمين أو ضعيفي المعرفة بأدبيَّاتها حتَّى مع وضوحها ليتعلَّموا.

لأنَّها تحمل في أقوالها وتخاريجها المختلفة ومركَّباتها وجملها المتفاوتة مضامين كبيرة وعالية من المعاني لم تحملها غيرها من اللُّغات الأعجميَّة - وهي الَّتي لم تكن عربيَّة - بل لو حملها غيرها لكانت تلك المعاني معقَّدة, وقد تخفى على من تخفى عليهم حسداً على أقوامها وأنصارها من غيرهم، لصعوبة تعلُّمهم لها.

ولذلك نشأت النِّزاعات القوميَّة المعادية من الأخرين ومن خونة الدَّاخل من أعداء الإسلام، الَّذين وجدوا ضالَّة كفرهم وانحرافهم وفسقهم وأطماعهم في غيرها، وإن كان الدِّين جامعاً لكل القوميَّات وعالج أشدَّ هذه المشاكل بأفضل العلاجات.

ومن تلك هي المفاهيم الَّتي تُفهم من وراء اللَّفظ العربي، ومن أهم أقسام هذا اللَّفظ هو آيات الأحكام وما يتبعه من السنَّة، وذلك إذا كان في مقابل المنطوق لا غير ممَّا اختلفوا فيه من المفاهيم كما سوف يتَّضح قريباً بإذن الله تعالى.

فاقتضت حكمة المكوِّن والمشرِّع جلَّ وعلا أن تضم هذه اللُّغة الواسعة في جنباتها - وإن كان بالمرتبة الثَّانية بعد المنطوق - هذه المفاهيم، لأنَّها لم تكن بمستوى المنطوق من النُّصوص والمحكمات.

بل حتَّى الظواهر الملحقة بالمنطوق من غير المُعدّة من المفاهيم اصطلاحاً، كما سوف يجيء إيضاحه من موارد الإفادة والاستفادة القريبة من ذهن الإنسان الفَطن المتوجِّه، حيث أنَّهما يحصلان منه عادةً بعد ذلك بصورة أوسع، ولعلَّه من هذا

ص: 259

وأمثاله ورد أنَّ للآيات سبع بطون أو سبعون بطناً ووجهاً.

ونحن لابدَّ أن لا نمنع من الاستفادة من هذه المفاهيم إن ساعدت الأدلَّة عليها بعد انتهاء الاستفادة من النُّصوص المحكمة، وكذا الأظهريَّات والظواهر المقبولة وثمَّ هذه المفاهيم عند الحاجة إليها.

الثَّاني: عناية الأصوليِّين بها واختلافهم في موقع بحثها والسِّر فيه.

اعتنى الأصوليُّون قديماً وحديثاً بالبحث عن المفاهيم بعد ما عرفوا قدرها ومحلِّها في حمل المعاني المهمَّة والحاجة إليها، لأنَّها من لغة القرآن والسنَّة، لئلا تفوتهم فوائدها وإن كانت في بعضها قد تُعد من زوايا وخبايا الكلام غير الميسور فهمها لكل أحد كمفهوم المخالفة، فأسَّسوا لها بعض القواعد أو استكشفوها من مظانِّها للالتزام بتطبيق ما صحَّ وتأكَّد الصَّحيح منها في طريق الاستنباط.

ونظراً لأنَّهم اختلفوا في موضع البحث في هذه المفاهيم في أنَّه هل المناسب كونه في ظل توابع الأوامر أو بعد النَّواهي ليشمل الاثنين، لتساويهما في الاعتبار، وإن كان كلمنهما له اعتباره الخاص في المعنى على ما سيجيء ذكره في القسم الثَّاني وهو النَّواهي المستقلَّة، وصار هذا الأمر مختلفاً فيه في الظَّاهر بين القدماء والمحدثين.

أمَّا القدامى ومن يقرب منهم فظهر من بعضهم ذكرهُ لها والبحث فيها تحت ظل الأوامر كصاحب المعالم قدس سره وغيره، وأمَّا المحدثون فجعلوها بعد الاثنين كالشَّيخ المظفر رحمه الله في أصوله.

ولعل النَّظرة الأولى هي من جهة كون الأوامر أنَّها هي الأهم والأولى في أن يكون هذا موضعها بعد الأوامر قبل النَّواهي، لكون الأوامر أساس النَّواهي في بعض الاعتبارات بحيث لم تعلم النَّواهي إلاَّ بعد عدم امتثال الأوامر.

وإن كانت النَّواهي قد يدخل في خدمتها وتعريفها الأوامر في ظاهر الحال

ص: 260

للتَّلاقي في الإجمال بين الاثنين كما مرَّ وكما سيأتي، فتكون بمثابة الخضوع للنَّواهي، لأنَّ النَّهي في رتبته الأولى هو طلب التَّرك مع المنع من الفعل.

بينما كان الأمر الَّذي هو الأساس هو طلب الفعل مع المنع من الترك، ولأنَّه لو طبَّق المكلَّف النَّهي، فترك شرب الخمرة ولعب القمار والزنا والسَّرقة ونحو ذلك فليس معناه أنَّه قد طبَّق الأوامر وأطاع الله تعالى فيها فصلَّى وصام وزكَّى وحجَّ ونحو ذلك.

فلذلك جعلت بعد الأوامر وقبل النَّواهي على ما سيتَّضح أكثر في القسم الثَّاني من بحث النَّواهي المستقلَّة.

ولعل النَّظرة الثَّانية هي الجمع بين الأمر والنَّهي المترابطين في كون أحدهما متمِّماً للأخر ولو في الجملة، كما سبق أن ذكرنا شيئاً من ذلك في بداية الكلام عن الأوامر.

إلاَّ أنَّ النَّظرة الأولى هي الأدق تقريباً، كما لا يخفى لتكون المفاهيم من توابع الأوامر.

وإن كان الاحتجاج بها يحتاج إلى بعض الدَّعم الشَّرعي، كحاجة مفهوم الشَّرط في مثل آية النَّبأ إذا كان هو العادل لو قلنا بعدم كفاءته وحده إلى عضده ببعض القرائن كعضده بالشُّهرة العمليَّة.

الثَّالث: معنى المفهوم:

ولذلك كلِّه جاء في مجال التَّوجيهات للاصطلاحات والعناوين المختلفة لألفاظ اللُّغة العربيَّة الَّتي منها المفاهيم لأهل العلم وتنويع الاصطلاحات في إطلاقهم لكلمتها حسب العادة على ثلاثة معان، نستعرضها لحصر المقصود بالبحث هنا للبحث بعينه وترك الباقي لمجالاته الخاصَّة به.

ص: 261

أحدها: المعنى المراد للفظ المفهوم منه، فيساوي ذلك المفهوم ذلك المعنى المراد من اللَّفظ الأساسي، سواء كان ذلك الأساسي مفرداً أو جملة، وسواء كان مراداً حقيقيَّاً أو مجازيَّاً من لفظه، وليس ما بين الاثنين تنافر.

فمثلاً زيد المفرد معناه ذلك الاسم للعلم الخاص، وزيد قائم وهو الجملة المتعارفة تعني الإخبار عن قيام زيد، ولفظة الأسد الحقيقي تعنى الحيوان الخاص المفترس، ولفظة المجازي هو المسمَّى به شخص من البشر المشابه للأصل بالقوَّة يعنى ذلك الرَّجل الشُّجاع، وهكذا الأمر فيما يتعلَّق بأمثالنا الفقهيَّة.

ثانيها: ما يقابل المصداق، فيراد منه كل معنى يفهم ليراد منه ذلك المصداق الخارجي، وإن لم يكن هذا المفهوم مدلولاً للفظ، فيعم المعنى الأوَّل وغيره.

فإذا كان المصداق الخارجي لبعض الكليَّات مثلاً (زيد) للإنسان أو (البقرة) للحيوان فبالإمكان حتماً أن يراد في تعريف أحدهما ما يفهم منه من دون أن يتعلَّق شيء منه بخصوص لفظي مصداقيهما الخارجيين بتعلُّق المعنى المفهوم، حيث أنَّ معنى المفهوم للأوَّل وهو الإنسان هو الحيوان النَّاطق، والمفهوم للثَّاني هو الحيوان الصَّامت، لكون المعنيين فكريَّين.ثالثها: ما يقابل المنطوق، وهو الأخص من سابقيه - وهو مقصد الأصوليِّين في هذا البحث - وهو ما يختص حسبما ذكروا في مقرَّراتهم بالمدلولات الإلتزاميَّة للجمل التَّركيبيَّة، سواء كانت إنشائيَّة أو إخباريَّة.

فلا يقال لغير هذين المركَّبين من المفردات أنَّ لها مفهوماً، لأنَّه لا شيء وراء ألفاظها حتَّى يتصوَّر المفهوم لها في حدود هذا المعنى الثَّالث وإن كانت جزء من المدلولات الإلتزاميَّة الَّتي في جملها الإنشائيَّة أو الإخباريَّة، لأنَّ جزء التَّركيب لا شكَّ في أن يكون أحد أجزاء المركَّب، ولكنَّه ملازم له صيرورته جزء ومفرداً منه، بحيث لم يفهم له معنى إلاَّ بانضمامه إلى ذلك المركَّب الإنشائي أو الإخباري، بل لا

ص: 262

يتم حتَّى لو كان في مركب ناقص.

أمَّا المنطوق فلم يكن إلاَّ ما دلَّ عليه ذلك اللفظ الَّذي نطق به ذاتاً، ككونه ما قال إلاَّ لما لا يزيد عليه من المعنى بالمطابقة حتَّى لو كان المعنى مجازيَّاً جاء استعماله بتلك المطابقة بسبب القرينة، وإن كانت مداليل الأحكام الشَّرعيَّة تبتعد عن المجازات جملةً وتفصيلاً إلاَّ بما أوضحناه سابقاً عند الكلام عن الحقيقة الشَّرعيَّة والمتشرعيَّة.

وعلى هذا الأساس يكون المفهوم الَّذي لم يكن اللَّفظ حاملاً له بصراحة في تلك المقابلة بنحو الدِّلالة المطابقيَّة، وإنَّما كان لازماً لمعنى الجملة بنحو اللُّزوم البيِّن بالمعنى الأخص وإلاَّ لم يكن من المفاهيم.

وممَّا يمكن أن يمثَّل به في المقام من آيات الأحكام هو قوله تعالى [إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا](1) فإنَّ المنطوق هو وجوب التَّبيُّن عند إخبار الفاسق بأي خبر وإن كان صادقاً في الواقع، وهو ما حواه مضمون نفس اللَّفظ الصَّريح.

وإنَّ المفهوم المراد من وراءه هو إن لم يجئكم فاسق بنبأ فلا تتبيَّنوا، بناءاً على الرِّضا بمفهوم المخالفة حتَّى بالنِّسبة إلى المجهول في أمره، لأنَّنا لا نريد في الآية خصوص ما يصح فيه صدق المفهوم في الآية، وهو مفهوم الموافقة كما سيتَّضح.

وممَّا مثَّلوا به في المقام كذلك قولهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ فيما ورد عنهم (إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجِّسه شيء)(2)، فإنَّ المنطوق فيه هو عدم تنجُّس الماء البالغ كرَّاً بشيء من النَّجاسات ممَّا أعطاه المضمون اللَّفظي الوارد إذا لم يتغيَّر بتلك النَّجاسات.

وأنَّ المفهوم من وراء هذا اللفظ - إذا قبلناه أن يكون مفهوماً بناءاً على قبول وصحَّة مفهوم المخالفة في الجمل الشَّرطيَّة - أنَّه إذا لم يبلغ كرَّاً يتنجَّس حتَّى لو لم يتغيَّر بوصف النَّجاسة وإن كان يمكن المناقشة كذلك في ما لم يبلغ الكر كالعين والبئر

ص: 263


1- سورة الحجرات / آية 6.
2- وسائل الشيعة: باب عدم نجاسة الكر من الماء الراكد ح 2، ج 1، ص 117.

وغسالة الحمَّام حيث قالوا بطهارتها.

فإذن يكون المنطوق في مختصر العبارة وواضحها كما جاء بتعبير أحد الأفاضل المعاصرين رحمه الله بأنَّه (حكم دلَّ عليه اللَّفظ في محل النُّطق، والمفهوم هو حكم دلَّ عليه اللَّفظ لا في محل النُّطق)(1).

وهو الَّذي يرتبط لكل الأحكام الخمسة، ولذلك جعلناه بحسب التَّسلسل الموضوعي من توابع الأوامر لا من توابع خصوص الواجب.

الرَّابع: هل إنَّ المفاهيم تابعة لمباحث الألفاظ؟ أم للعقل غير المستقل.

عُرف المفهوم اللَّفظي بين الأصوليِّين بأنَّه المعلوم بمقدار ما من وراء اللَّفظ، لا من نفس دلالة ذلك اللَّفظ على ذلك المقدار الخاص ممَّا سبق، كما عُرف بينهم أيضاً بكونه منالأمور المحاوريَّة.

لكن لم يصل كما وصلت إليه ألفاظ نصوص وظواهر الكتاب والسنَّة بأدلَّتهما الطَّبيعيَّة المرتبطة بمباحث الألفاظ كاملة.

ولذلك لم يرد لفظ المفهوم بين أهل التتبُّع في المصدرين الشَّريفين بما يتساوى وتمام طبيعة ألفاظهما الدالَّة على معاني كل منهما من تلك النُّصوص والظواهر ممَّا يخص المعنى الثَّالث المذكور للمفاهيم آنفاً حتَّى يكون مؤدَّاه الخاص من الموضوعات الشَّرعيَّة أو المستنبطة المحتاجة إلى النَّظر أو البحث.

وهذا هو ما سبَّب عرضهم لموضوعه والبحث حوله في خصوص ما يتعلَّق بالأمور العقليَّة غير المستقلَّة دون الشَّرعيَّة الكاملة.

وهو نوع ابتعاد عن خصوصيَّات مباحث الألفاظ المطابقة لمعانيها في المتعارف

ص: 264


1- أصول الفقه ج 1 ص155.

الاعتيادي، ومنه المصطلح الأصولي وإلى خصوص ما يلازم مثال الكر -- الماضي ذكره في الرِّواية -- عرفاً اعتياديَّاً أيضاً في قبال المنطوق.

دون ما يقابل المعنيين السَّابقين وبنحو اللُّزوم البيِّن بالمعنى الأخص وفي خصوص المركبَّات الدَّائرة بين أهل المحاورات والاحتجاجات البيانيَّة دون مفرداتها بما يصح الاعتماد عليه فيما بينهم، ليتجلَّى المعنى من ذلك المفهوم.

سواء كان الكلام الَّذي يعطيه إنشاءيَّاً مثل (أكرم زيداً إن جاءك) أم إخباريَّاً مثل (إن ضربتني ضربتك)، وسواء كان أحد المثالين يحمل حكماً لغير مذكور أو حكماً غير مذكور والكل واحد.

ولكن بما أنَّ هذا النَّوع من الفهم -- وإن كان مألوفاً أمره بين خصوص أهل المحاورات والاحتجاجات الكلاميَّة -- غير طبيعة فهم أهل لساني الكتاب والسنَّة المنصرف إلى المعنى الأوَّل والثَّاني من معاني المفاهيم الثَّلاثة الَّتي مرَّت.

إلاَّ أنَّ هذا المعنى الثَّالث ما دام معناه المحاوري لم يعرف عنه شيء مفيد حتَّى يتدخَّل أهل المحاورة، وبالأخص الاصطلاحيِّين والمسموح لهم فيه علميَّاً في أمثلة ما ورد في الكتاب والسنَّة ممَّا عرف في المفاهيم الَّتي أنهاها صاحب كشف الغطاء قدس سره إلى عشرين نوعاً منها حتَّى وصلت خلاصتها بين أهل العلم اليوم إلى ستَّة.

لكونها لو أنتجت كلُّها على ما يراد فهمه بلا تفاوت بينهم كان ذلك تحت ظل الألفاظ وقواعدها المناسبة مع مداليل المصدرين الشَّريفين من آيات الأحكام ورواياتها على ما سيجيء التَّمثيل له ممَّا يصح أو لا يصح حسبما يطابق الشُّروط المطروحة في المقام.

إذن فلا معنى للكلام فيه ولو في خصوص مفهوم الموافقة إن انتفى الموضوع أو غيره من الشُّروط.

وهذا ما قد سبَّب ادخالهم لموضوعه والبحث فيه وإدخاله في بحوث مباحث

ص: 265

الألفاظ.

ونظراً لمصادفة البحث في هذا الجزء الثَّاني عن مباحث الألفاظ والدخول في بحوث ما يرتبط بالمعقولات غير المستقلَّة كمسألة الضد ومقدِّمة الواجب والواجب الغيري والإجزاء.

كان البحث منَّا عن المفاهيم الستَّة والمناقشة حولها ممَّا يرضي من تعارف بينهم ذكرها حتَّى في خصوص مباحث الألفاظ.

الخامس: هل المفهوم في بابه حجَّة أم لا؟

قد يلوح من بعض تعبيرات الأصوليِّين أنَّ المفهوم لمَّا كان يُتساءل حوله في أنَّه هل كان حجَّة في بابه أم لا؟

بأنَّ البحث عنه لا يناسبه إلاَّ أن يكون في مباحث الحجَّة لا في مباحث الألفاظ كما هو موجود في مباحث الأخير.

بينما القضية لم تصل في واقعها إلى هذا المعنى، لأنَّ النِّزاع إن قبلناه لم يكن واصلاً إلى أنَّه حجَّة حتَّى يدخل في مباحثها.بل إنَّه إذا كان لكلام مفهوم يدل عليه فهل هو ظاهر فيه أم لا؟ حتَّى يُبنى عليه كبقيَّة الظواهر الأخرى.

أو لا يبنى عليه، كما في السَّالبة بانتفاء الموضوع في مفهوم الشَّرط مثلاً، أو مفهوم المخالفة فيه كذلك عند المشهور.

وعليه فإذا كان مورد النِّزاع هو في السُّؤال الثَّاني لا الأوَّل، وحصر مورده الَّذي لا يمكن القول به كالسَّالبة بانتفاء الموضوع ومفهوم المخالفة بما مر إيضاحه في(معنى المفهوم) من مفهوم الشَّرط وبعض المفاهيم الَّتي نتيجتها عدم ظهورها كما سيأتي في التَّقسيم والتِّعداد.

ص: 266

فلابدَّ من أن يبقى الباقي وهو المشهور بينهم ولو كان في الجملة بأنَّه ممَّا لا شكَّ فيه بأن الكلام إذا كان له مفهوم يدل عليه فهو ظاهر فيه.

وبذلك يكون حجَّة من المتكلِّم على السَّامع، ومن السَّامع على المتكلِّم كبقيَّة الظواهر الأخرى مع بقاء بحثه من مباحث الألفاظ .

ولذلك قال صاحب المعالم قدس سره ( الحق أنَّ تعليق الأمر - بل مطلق الحكم - على شرط يدل على انتفاءه عند انتفاء الشَّرط وهو مختار أكثر المحقِّقين ومنهم الفاضلان)(1).

أقول وهما العلاَّمة وابنه فخر المحقِّقين رضي الله عنها، ولكن الحق هو في الإجمال لو أذن للعقل أن يستدل به من الأدلَّة الإرشاديَّة لا التفصيل كما نوَّهنا، ولذلك لا يكون الظهور في الجميع.

والمقصود من مطلق الحكم هو أنَّ الإسناد والحكم قد يكون في أساسه بدون شرط نحو (أنت حر لوجه الله)، وقد يكون معلَّقاً بشرط نحو (إن صلَّيت فأنت حر).

فالمقصود في المقام هو المثال الثَّاني، وإن لم يكن أمراً حسب إطلاقه رحمه الله وهو الممثِّل له بقولهم (أدِّ صلاتك أُطلق سراحك)، لأنَّه لا يختص بالأوامر عنده على خلاف قول أخرين.

وكان استدلال صاحب المعالم رحمه اللهعلى ما ادَّعاه بأنَّ:-

(لنا أن قول القائل "أعط زيداً درهماً إن أكرمك" يجرى في الحرف مجرى قولنا "الشَّرط في اعطاءه اكرامك"، والمتبادر من هذا انتفاء الإعطاء عند انتفاء الإكرام قطعاً، بحيث لا يكاد يُنكر عند مراجعة الوجدان، فيكون الأوَّل أيضاً هكذا، وإذا ثبتت الدِّلالة على هذا المعنى عرفاً ضممنا إلى ذلك مقدِّمة أخرى سبق التنبيه عليها، وهي أصالة عدم النَّقل فيكون كذلك لغة).

ص: 267


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص77.

أقول: وهو كما قال آخرون قبلي بأنَّه رحمه الله يريد من هذا الاستدلال هذه النَّتيجة، وهي ثبوت كون التَّعليق دالاًّ على انتفاء الحكم عند انتفاء الشَّرط لغة أيضاً.

إلاَّ أنَّ هذا وهو أصالة كون اللُّغة هي مرجعنا في كل الأمور كما كان قد أصرَّ عليه البعض في بحوثهم، وكنَّا قد ناقشناه عليه هناك ممَّا أثبتناه أنَّ المقصود من العرف هو العرف الشَّرعي، لا خصوص اللُّغوي العام، للعموم والتَّنوع في اللُّغة بما يمنع من القول بكون أعرافها غير الشَّرعية لها تلك الأصالة الكافية، كما سبقه وسبقنا في هذه النَّتيجة السيد المرتضى علم الهدى قدس سره، فلا يتم الإطلاق في الحكم كما يدَّعي.

ولذلك ذهب السيد علم الهدى قدس سره إلى أنَّه لا يدل عليه إلاَّ بدليل منفصل، لعدم الإنسداد الكامل في الأدلَّة، وتبعه ابن زهرة وهو قول جماعة من العامَّة.

محتجَّاً على ما ذهب إليه ( بأنَّ تأثير الشَّرط هو تعليق الحكم به وليس يمتنع ان يخلفه وينوب منابه شرط أخر يجري مجراه ولا يخرج عن أن يكون شرطاً)(1).أقول: وهذا ما مفاده عنده بأنَّ تعريف الشَّرط في القضية الشَّرطيَّة -- الَّتي يتوقَّف فيها أمر المقدَّم على محقِّقه في التَّالي -- لا يلزم بأن يكون في مطلق الأحكام ومن كل قضية أن يكون لها مفهوم إلاَّ بالدَّليل المنفصل.

ومثَّل لذلك بقوله من آيات الأحكام (ألا ترى أنَّ قوله تعالى [وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ](2) يمنع من قبول الشَّاهد الواحد حتَّى ينضمَّ إليه أخر لواجب توفير البيِّنة، فانضمام الثَّاني إلى الأوَّل شرط في القبول، ثمَّ نعلم أنَّ ضمَّ امرأتين إلى الشَّاهد الأوَّل يقوم مقام الثَّاني ثمَّ نعلم بدليل أخر إذا انضمَّ اليمين إلى الواحد يقوم مقامه أيضاً فنيابة بعض الشُّروط عن بعض أكثر من أن تحصى).

ص: 268


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص78، عن الذريعة للسيد المرتضى قدس سره 1 / 406، في جوابه عن ثالث وجوه أدلة القول بثبوت المفهوم.
2- سورة البقرة / آية 282.

أقول: وهذا ما يمكن أن ينتفي بسببه البناء على المفهوم حتَّى مطلقاً، لأنَّ الشَّاهد والمرأتين أو الشَّاهد واليمين ما جاءا حقَّاً من نفس القضية الشَّرطية، وإنَّما من الدَّليل المنفصل أو القرينة المنفصلة.

ومسألة النِّيابة المدَّعاة منه قدس سرهتحتاج إلى قوَّة استدلاليَّة أكثر إن استفادها بعضهم، ومن ذلك بقاء المفهوم، وإن كان قيد [من رجالكم] قد لا ينفي ما عداه.

إضافة ما ذكروه من الكلام عن مفهوم الوصف كما في الآية، وكذلك إضافة إلى ما ذكره من مصاديق قبول قول الثِّقة المتبيَّن منه وإن كان فاسقاً أو ما ورد من خير ذي الشَّهادتين للنَّص الخاص ونحو ذلك كما سوف يتَّضح في الكلام عن مفهوم الوصف.

واحتج موافقوا السيد قدس سره -- مع ذلك -- (بأنَّه لو كان انتفاء الشَّرط مقتضياً لانتفاء ما عُلِّق عليه لكان قوله تعالى [وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا](1) دالاًّ على عدم تحريم الإكراه حيث لا يردن التَّحصُّن، وليس كذلك بل هو حرام مطلقاً)(2).

أقول: أي سواء أردن التَّحصُّن أو لا, لانتفاء الموضوع بعدم حجيَّة ذلك لحرمة الزِّنا بأدلَّته المستقلَّة الكثيرة وحرمة غض النَّظر عن تيسير مقدِّماته.

إلاَّ إذا قلنا بأنَّ المقصود من الإكراه هو الإحراج الاختباري لبعض من لم ترد الزواج لاستكشاف أمرها في موارد الشُّبهة إلاَّ أن تتزوَّج خوفاً عليها.

ولكن هذا ما يحتاج إلى قوَّة استظهاريَّة، أو أنَّ الإكراه لم يحرم إذا لم يردن الزَّواج، لانتفاء موضوع هذا الحكم حينما كان موضوعه إرادة الزَّواج فقط ولم يكن البغاء يمر على بالهنَّ لشرفهن، لعدم لزوم عدم الحرمة ثبوت الإباحة، ولذلك مثَّلوا

ص: 269


1- سورة النور / آية 33.
2- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص78.

بما إذا انقلب الخمر خلاًّ.

فنقول في ذلك لا حرمة، لأنَّ انتفاء الحرمة لم يكن نتيجة عروض الخل على الخمر، بل لانتفاء موضوع الخمريَّة أو للمبالغة في النَّهي عن الإكراه.ولكن ليس معنى ذلك أنَّنا نوافق صاحب المعالم قدس سره في كلِّ ما قال، كما لا يخفى.

6 - أقسام المفهوم وأنواعه .

ينقسم المفهوم إلى مفهوم الموافقة كما في قوله تعالى [إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا](1) الَّذي مفهومه هو مفهوم الموافقة (إن جاءكم عادل فلا تتبيَّنوا).

وإلى مفهوم المخالفة، وهو ما يقرب من نفس هذا القول، كما لو نقول إن لم يجئكم فاسق فلا تتبيَّنوا، ولكن ليس معنى هذا هو التَّصديق بكل شيء إضافي من الكلام كما أشرنا.

وأمَّا الأنواع فهي:-

1- مفهوم الشرط

2 - مفهوم الوصف 3 - مفهوم الغاية

4 - مفهوم الحصر أو الاستثناء 5 و 6- مفهوم اللقب والعدد

ونأتي لها تباعاً:

الأوَّل / مفهوم الشَّرط:-

وهو أهم المفاهيم الَّتي يحتج بها المتكلِّم على السَّامع أو السَّامع على المتكلِّم، وإن كان بعض حالاته عدم قبول بعض مفاهيمه كما لو قيل (إن رزقت ولداً فاختنه)

ص: 270


1- سورة الحجرات / آية 6.

أي كان المقدَّم هو نفس موضوع الحكم، حيث يكون الحكم في التَّالي منوطاً بالشَّرط في المقدَّم على وجه لا يعقل فرض الحكم بدونه، لأنَّه لو لم يرزق ولداً فلا داعي للختان، للسَّالبة بانتفاء الموضوع.

ومنه ما مرَّ من قوله تعالى [وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا](1) فإنَّه لا يعقل فرض الإكراه المحرَّم على البغاء إلاَّ بعد فرض إرادة التَّحصُّن والزَّواج من الفتيات إلاَّ ممَّا وجَّهناه.

وهذا لا نزاع بينهم في أمره لاتِّفاقهم على أنَّه لا مفهوم لهذا النَّحو من الجملة الشَّرطيَّة نوعاً.

وإنَّما النِّزاع بينهم في هذا البحث على أن لا تكون الجملة الشَّرطيَّة مسوقة لبيان الموضوع، حيث يكون الحكم في التَّالي منوطاً بالشُّرط على وجه يمكن فرض الحكم بدونه نحو قولهم (أن أحسن صديقك فأحسن إليه)، فصار النِّزاع في صدق المفهوم وترتيب الأثر عليه.

فبعض قال ما مضمونه (إن لم يحسن إليك فلا تحسن إليه)، وبالأخص إذا كان المطلوب شرعيَّاً ارتباطاً بالمفهوم في النُّصوص، وإن أمكنت المناقشة عقليَّاً.

وبعضهم اعتبر عدم لزوم عدم الإحسان لمن لم يحسن إليك، لأنَّ فرض الإحسان إلى الصَّديق لا يتوقَّف عقلاً وأخلاقيَّاً على فرض صدور الإحسان منه أو لا، فإنَّه يمكن الإحسان حتَّى على من يُسيء التَّصرف مع أصدقائه طبقاً لبعض المرويَّات الَّتي منها قولهم (أحسن لمن أساء إليك ) أو (أُنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً).

ومرجع هذا النِّزاع مبني على دلالة الجملة الشَّرطيَّة على انتفاء الحكم عند انتفاء الشَّرط الَّذي لم يستقر الأمر عليه مطلقاً، ولذا صحَّ هذا السُّؤال الَّذي يحتاج إلى الإجابة.

ص: 271


1- سورة النور / آية 33.

وهو هل يستكشف من طبع التَّعليق على الشَّرط انتفاء نوع الحكم المعلَّق كالوجوب مثلاً على تقدير انتفاء الشَّرط؟

والجواب: أنَّه لمَّا كان في مفهوم الشَّرطيَّة قولان، فإنَّ الأرجح دلالتها على الانتفاء عند الانتفاء، ولو بالاقتصار على مفهوم الموافقة وإن احتيج أمره إلى تقوية على وجه آخر أو مفهوم المخالفة نفسه كما في الآية [إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا](1) إذا كان مفهوم المخالفة فيه وجود طرف ثالث وهو المجهول.

بل إنَّ الفاسق أو العادل كما إذا انتفى الفاسق فلا مجال لأن يجيء إلاَّ العادل، فإنَّه لا يحتاج إلى التَّبيُّن عند الانتفاء حسب هذا المفهوم إذا قبلنا العادل وحده إن وثق به.

إلاَّ أنَّ في مفهوم المخالفة يبقى الإشكال فلابدَّ من أن تكون القضية محصورة في خصوص ما يصح كما أشرنا في السَّابق دون مطلق العادل وحده.

علماً بأنَّ هذا الخاص من الصَّحيح المسلَّم لم يكن الوصول إليه بالشَّيء الصَّعب،وإنَّما كان بسبب الوضع العربي بنحو التَّبادر إلى معناه فيكون حجَّة بلا إشكال إن جري العرف الأدبي عليه بدون التَّقيُّد بالشَّرع الأهم وهو أوَّل الكلام.

(ما هي علامات مفهوم الشَّرط في القضايا)

إنَّ لمفهوم الشَّرط علامات لابدَّ من وجودها وتحقُّقها، وهي:-

1 -- دلالتها على الارتباط والملازمة بين المقدَّم والتَّالي، وذلك الارتباط بينهما لزوميَّاً أنه بالوضع بحكم التَّبادر، وذلك بوضع الهيئة التَّركيبيَّة للجملة الشَّرطيَّة بمجموعها، لا بوضع خصوص أدوات الشَّرط حتَّى ينكر وضعها لذلك، فاستعملها

ص: 272


1- سورة الحجرات / آية 6.

في القضية الاتِّفاقيَّة الَّتي لا ترابط أساسي فيها، كأن يكون بالعناية وادِّعاء التَّلازم والارتباط إذا اتَّفقت لهما المقارنة في الوجود كقولك (إذا صاح الدِّيك حل وقت الأذان) أي لو قبلت هذه الملازمة على الدَّوام.

2 -- دلالتها على أنَّ الثاني معلَّق على المقدَّم ومرتَّب عليه، فيكون المقدَّم سبباً للتَّالي، ولكن بمعنى أنَّ المراد كل ما يترتَّب عليه الشَّيء وإن كان شرطاً ونحوه وهو الأعم من السَّبب المصطلح في فن المعقول وهو متحقِّق بالوضع كذلك، وهو وضع واحد لا وضعان وهو التَّلازم والتَّرتيب للارتباط الخاص وهو ترتُّب التَّالي على المقدَّم كقول (إذا طلع الفجر حلَّ وقت الآذان).

3 -- الدلالة على انحصار السَّببيَّة في المقدَّم، بمعنى أنَّه لا سبب بديل له يترتَّب عليه التَّالي كما ذكرناه ممَّا بيَّنه علم الهدى قدس سره في نيابة الشَّاهد والمرأتين والشَّاهد واليمين، لكون ذلك كان بديلاً منفصلاً، ولكن دلالتها على أنَّ الشَّرط منحصر كانت بالإطلاق لا الوضع على ما ذكره البعض من أهل العلم، لأنَّه لو كان هناك شرط أخر للجزاء بديلاً للشَّرط الأساس أو كان معه شرط أخر يكونان معاً شرطاً للحكم لاحتاج ذلك إلى بيان زائد إمَّا بالعطف في الصُّورة الأولى بأو وبالواو في الصُّورة الثَّانية.

وبعد إتمام ما ذكرناه لا يبقى الشَّك في صدق المفهوم للشَّرطية، ولذلك جاءت رواية أبي بصير عن الإمام الصَّادقعَلَيْهِ السَّلاَمُ في استدلاله بالمفهوم حيث قال سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الشَّاة تذبح فلا تتحرَّك ويراق منها دم عبيط فقال لا تؤكل؟ للحاجة إلى كلا الأمرين وهما الحركة وشخب الدَّم.

أنَّ عليَّاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان يقول (إذا ركضت الرِّجل أو طرفت العين فكُل)(1).

وهذا واضح منه عَلَيْهِ السَّلاَمُ في صدق المفهوم ولزومه. ولكنَّا نقول أنَّ مفهوم المخالفة

ص: 273


1- جامع أحاديث الشيعة / السيد البروجردي ج 23 ص 70 عن التَّهذيب ج9 ص57.

لا يكون بالنَّحو المطلق إلاَّ ما يدل الدَّليل عليه.

( اذا تعدَّد الشَّرط واتَّحد الجزاء )

كما لو تقول (إن صلَّيت وصمت الواجبين فسأزوِّجك)، وهكذا ما يناسب هذا المثال ممَّا قد يكون من الكتاب أو السنَّة، فإنَّ قرينة الواو العاطفة في الشَّرط إذا جمعت بين الواجبين على المخاطب المكلَّف لابدَّ أن تكون المجازاة بالتَّزويج مرتبطة بتطبيق الاثنين دون أحدهما.

وأمَّا باقي الكلام عن مفهوم الشَّرط والأخذ به فقد مضى بعضه، وسيأتي آخر في بحث السنَّة.

الثَّاني / مفهوم الوصف

تعارف ذكر مفهوم الوصف فيما بين المفاهيم وإن كانت أغلب حالاته بالنَّتيجة لا نفع فيه إلاَّ أن تعارفهم على ذكره التَّسلسلي عادة بعد مفهوم الشَّرط بالمباشرة، وبالأخص عند محاولة المقارنة بين الاثنين للتَّعرُّف على مورد التَّلاقي المناسب بينهما وإن قلَّ.

فلابدَّ أن نجد أنَّ مفهوم الوصف يشبه مفهوم الشَّرط في التَّحقُّق، أي فكما أنَّ مفهوم الشَّرط يؤخذ به إذا كان علَّة تامَّة منحصرة قائمة على الحجَّة المعتبرة لثبوت الحكم للموضوع دون ما يكون مقتضياً له أو لا اقتضاء له أصلاً.

فكذلك جاء التَّشابه على هذا النَّحو في مفهوم الوصف، فبعد التَّطابق بين الوصف والموصوف لابدَّ أن يحصل الانتفاء عند الانتفاء كما سيتَّضح.

ومن هنا يمكن القول بعدم الرَّيب في ثبوت المفهوم للوصف في بعض الموارد لقرائن خارجيَّة أو داخليَّة كما لا ريب في عدمه كذلك في بعض الموارد الأخرى، إذ

ص: 274

عند اجتماع الأفراد عند قيام العلَّة التَّامَّة على هذا وامتناع الأغيار بانغلاق الباب عنها ينعقد الأمل بعدم الرَّيب أيضاً في إثبات صدقه الخارجي بما قد تكثر بسببه مصاديق هذه الأمور في تضاعيف الأمور الفقهيَّة الاستدلاليَّة إيجاباً أو سلباً لكل فقيه متتبِّع.

لكنَّ الكلام بعد هذا وذاك وعلى النَّحو الأهم حول إمكان إيجاد القاعدة الكليَّة الَّتي يصح الاستناد إليها في شؤون الأدلَّة اللَّفظيَّة للأحكام، بل في كل مقام من حالات عدمه بالاستناد على ما يضاددها احتمالات كلُّها قابلة للمناقشة على ما سيجيء بعض نماذج مهمَّة منه.

والمراد من الوصف في المقام مايشمل النَّعت ويتعدَّاه من أشباهه كالحال والتَّمييز وعطف البيان والبدل وغيرها ممَّا يصلح أن يكون قيداً لموضوع التَّكليف، كما أنَّ الوصف يختص بما إذا كان معتمداً على موصوف فلا يشمل ما إذا كان الوصف نفسه موضوعاً للحكم محو قوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا](1) لخروج الآية عمَّا نحن فيه ودخولها في مفهوم اللَّقب الَّذي لا وجود لموضوعه على ما سيأتي، من أنَّ أمر السَّالبة بانتفاء الموضوع لا مفهوم له، ومنه مفهوم اللَّقب بعد استقرارهم على كون موصوف الوصف يجب أن يكون موجوداً لا غير.

ولهذا ونحوه جعل اثنان من موارد امتناع صدق المفهوم للوصف من النِّسب المنطقيَّة الأربعة وهما التَّساوي والتَّباين وأمكن صدقه مع الاثنين الباقيين وهما العموم والخصوص المطلق والعموم والخصوص من وجه في بحوثهم.

وسر امتناع صدق مفهوم الوصف على نحو التَّساوي بينه وبين الموصوف كون الظَّاهر خروجه عن مورد البحث، لكون مقتضى التَّساوي بين الموصوف والصِّفة -- وإن كان الإتِّحاد الإجمالي بينهما مراداً دون معنى التَّساوي الكامل -- انتفاء

ص: 275


1-

الموصوف بانتفاء الوصف قهراً، فتكون القضيَّة من نوع السَّالبة بانتفاء الموضوع، وهو ما لا مفهوم له كالشَّرط إذا خلا من المفهوم.

إلاَّ إذا كان مورد نظر المانعين من صدق المفهوم إلى ما هو الأعم من ثبوت الموضوع خارجاً أو فرضاً، لأنَّ بالتَّساوي وبالأعم لا يحصل تضييق وتقييد في الموصوف فلا يصح فرض انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف.

ولكنَّه حسب ما استفاده أحد أساتذتنا العظام قدس سره أنَّ هذا بعيد عن مغزى كلماتهم.

وسر هذا الامتناع بالقياس إلى مورد الافتراق والتَّباين لو افترق الوصف عن الموصوف، ففي مثال (في الغنم السَّائمة زكاة) المأخوذ من قولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ(وليس على العوامل شئ إنما ذلك على السائمة الراعية)(1) إذا افترض أنَّ له مفهوماً من وراء اللَّفظ مع هذا الافتراق الواضح الحاصل من طرف الموضوع ما دام لا اعتماد فيه للوصف علىالموصوف في ظاهر الخطاب إذا أدخل غير الغنم في محاولة الاستفادة من المفهوم كالإبل.

يكون ما نُسب إلى الشَّافعيَّة من نفي وجوب الزَّكاة فيها لا وجه له أصلاً، لإنَّ الحق هو الواجب في كلِّ النِّعم الثَّلاث كل بحسب تعليماته وتفاصيله في الفقه.

وأمَّا الاثنان الباقيان وهما العام والخاص المطلق والعام والخاص من وجه وبالأخص الثَّاني للتَّلاقي الإجمالي بين الوصف والموصوف من جانبي الوجهين معاً إذا كانت العلَّة التَّامَّة هي سبب حصر ثبوت الحكم للموضوع وبه يتحقَّق المفهوم وهو الانتفاء عند الانتفاء إذا ساعدت الأدلَّة المناسبة على ذلك فضلاً عن العام والخاص المطلق -- فلا مفهوم له لو لم تساعد على تثبيته الأدلَّة المناسبة.

ص: 276


1- وسائل الشِّيعة ج6 ص80، وفي مستدرك الوسائل / الميرزا النوري ج 7 ص63 عن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، أنه قال: "الزكاة في الإبل والبقر والغنم السائمة".

ولنشرع بعد هذا في موارد ما جاءت به المناقشات للإجابة عليها، وهي:-

أوَّلاً: إن قيل بثبوت المفهوم سفهاً حتَّى في قوله تعالى الواضح ضدَّ القيل [وَرَبَائِبُكُمُ الَّلاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ الَّلاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ](1)، بحجَّة كثرة أو أكثريَّة من يحسبن ظاهراً من الرَّبائب ولكنَّهنَّ لم يكنَّ في حالات حتَّى يوماً واحداً أو دقيقة في الحجور وإن قيل بكون غالب الصِّبيان في الحجور ولو حصانة تسامحاً.

فإنَّه يجاب عنه: بحكمة الحكم الإلهي الَّذي لم يترك قرينة الدخول بإمَّهاتهنَّ، وإلاَّ لحلَّ الغضب الإلهي بالجمع بين الدخول بالأمَّهات بعد الزَّواج منهنَّ وبين حليَّة الرَّبائب معهنَّ أيضاً بحجَّة ندرة من صادفن أن كنَّ في الحجور.

ولذا فالأصح أن يدَّعى عن هذه الآية بداية بأنَّها ممَّا لا مفهوم لها، مع إضافة أنَّ هناك أدلَّة خاصَّة غير هذه الآية -- لا لضعف فيها حول هذا الأمر -- دلَّت على حرمة الرَّبيبة مطلقاً حتَّى لو لم يدخل بإمِّها الَّتي عقد عليها عقد الزَّواج حسب وإن لم تكن الرَّبيبة يوماً في الحِجر.

ثانياً: إن استدلَّ ببعض المرويات على أنَّها ممَّا ثبت لها المفهوم كما عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (مطل الغني ظلم)(2)، ومنه استكشافه في المحاورات العرفيَّة.

فإنَّه يجاب: بأنَّ ذلك على تقديره لا ينفع المستدل لأنَّا لا نمنع كما سلفت الإشارة من دلالة التَّقييد بالوصف كالغنى على المفهوم أحياناً لوجود قرينة.

وإنَّما موضوع البحث في اقتضاء طبع الوصف لو خُلِّي ونفسه للمفهوم، وفي خصوص المثال تجد القرينة على إناطة الحكم بالغني موجودة من جهة مناسبة الحكم

ص: 277


1- سورة النساء / آية 23.
2- ميزان الحكمة / الريشهري ج2 ص959 عن مستدرك الوسائل: 13 / 397 / 15713، وفي صحيح البخاري 3: 123، صحيح مسلم 3: 1197 / 1564، سنن ابن ماجة 2 بإضافة (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع).

للموضوع.

فيفهم أنَّ السَّبب في الحكم بالظلم كون المدين غنيَّاً فيكون مطلُّه ظلماً بتعمُّد عدم الدَّفع.

لكن إلى هنا نحن والمستدل متَّفقون بدون مناقشة.

أمَّا إذا كان المدين هو الفقير -- بل حتَّى الغني المدين إذا كان سبب مماطلته بعد التَّحقُّق هو عدم القدرة الفعليَّة على الوفاء، كما هو عموم وإطلاق النَّص الإلهي وهو قوله تعالى [فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ](1) -- فلا نساعده على ما يظهر من مدَّعاه.

ثالثاً: ما قيل من اشتهار أنَّ الأصل في القيد أن يكون احترازيَّاً، وإنَّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعليَّة فيثبت المفهوم لا محالة، وهو المفهوم المعاكس وهو الانتفاء عند الإنتفاء.

فإنَّه يُجاب: بأنَّ هذا وإن كان مسلماً في ظاهره ولكن معنى الاحتراز حينما كان هو تضييق دائرة الموضوع لإخراج ما عدا القيد عن شمول شخص الحكم له لا غير.

وقولنا بتسليم أمره كذلك ليس لكونه من المفهوم في شيء، لإنَّ اثبات الحكم لموضوع لا ينفي ثبوت سنخ الحكم لما عداه، لأنَّه سوف يكون من السَّالبة بانتفاء الموضوع كمفهوم اللَّقب ما دامت النَّتيجة لم تصل إلى كون القيد احترازيَّاً بأن يلزم إرجاعه قيداً للحكم المراد جعل المفهوم له.

وقضيَّة تعليق الحكم على الوصف مشعراً بالعليَّة ليست من القواعد المعتبرة مع إنَّ الإشعار بالعليَّة أعم من العليَّة التَّامَّة المنحصرة الَّتي هي مناط تحقُّق المفهوم المراد.

رابعاً: ولو قيل أنَّ الوصف لو لم يدل على المفهوم لكان ذكره لغواً، إذ لا فائدة فيه غير ذلك، وهو الانتفاء عند الانتفاء؟

فإنَّه يجاب: بأنَّ الفائدة غير منحصرة برجوعه إلى خصوص الحكم، وكفى فائدة

ص: 278


1- سورة البقرة / آية 280.

فيه، وهي تحديد موضوع الحكم وتقييده به، وهو ما قد لا ينفعنا إذا كانت المناقشة في غير ما نحن بصدده.

كيف وهناك فوائد أخرى متجاوزة عمَّا يخرج عن توصيف الحكم، لعدم الحاجة إليه ممَّا عدا موضوع الحكم عند أهل المحاورات الأدبيَّة كأهل علم المعاني والبيان والبديع، وبكثرة لو تأمَّلوا فيها وتشعَّبوا في جوانبها نثراً وشعراً.

خامساً: ولو قيل بدلالة الوصف على المفهوم وضعاً وبما لا مفرَّ منه ولو كان في جملته الخاصَّة به كي يكون ما زاد عليها خارجاً بالدَّليل تخصيصاً.

فإنَّه يجاب عنه: إنَّه لو كان كذلك لما وقع الخلاف فيه بين أهل العلم المخصوصين في أمور المفاهيم، ولكانت قواميس اللُّغة مرجعاً ولو لذلك البعض المرصود في تشخيصه الوضعي من دون احتياج إلى إتعاب النَّفس لعدم تميُّزه المغاير إلى التَّمسُّك بالأدلَّة الخارجيَّة.

(زبدة المخض فيما مضى عن مفهوم الوصف)

بعد إيجاز ما يوضِّح معيار ما تتشخَّص به قضيَّة المفاهيم المنتجة بالنَّحو الأكثر عمَّا بينها وبين كل منطوق لها من الانتفاء عند الانتفاء كمفهوم الوصف الَّذي من ثوابتانتاجه على ضعفها ثبوت الموضوع لحلول الوصف عليه، لتشكيل الجامع بين الوصف والموصوف بما يُحقِّق علاقة العليَّة والمعلوليَّة النَّاشئة من خصوص الحجَّة المعتبرة في الشِّرعيَّات في السَّلب والإيجاب إذا كان الوصف قيداً للحكم دون نشوءها من الاقتضاء أو اللا اقتضاء عقلاً.

وإن لم يكن له موضوع فلابدَّ أن يشمله حكم السَّالبة بانتفاء الموضوع كمفهوم اللَّقب الآتي، وكذا إذا كان الوصف قيداً للمحمول فقط.

فلنفرض بعده مثال المفهوم بالمثال الَّذي لا مفهوم له من باب تعريف الشَّيء

ص: 279

بأضداده، فإنَّ المنطوق المألوف عرضه اليوم لتعريف المعنى المعاكس للذِّهن هو تعريف الشَّكل الهندسي المربَّع بإنَّه (ذو الأضلاع الأربعة قائمة الزَّوايا).

فإنَّك مهما حاولت أن تقلب أركان تعريفه ظهراً لبطن فلن تجد مجالاً لفهم أي شيء وراء هذه الأركان والمعنى المنطوق.

ونظيره قولك حين الاعتراف منك بأنَّ (عليك لزيد عشرة دراهم إلاَّ درهم) بالَّرفع بجعل (درهم) وصفاً.

فإنَّه يثبت في ذمَّته لزيد تمام العشرة الموصوفة بإنَّها ليست بدرهم، ولا يصح أن تكون استثنائيَّة، لعدم نصب درهم، ولا مفهوم لها حينئذ، فلا تدل على عدم ثبوت شيء آخر في ذمَّته لزيد.

وبهذا وذلك من الأمثلة يتم ترجيحنا بمثل غالبيَّة عدم ثبوت الموضوع لحلول الوصف على الموصوف ليتحقَّق له مفهوم بعدمه، إلاَّ إذا دلَّت عليه قرائنه البيانيَّة المثبتة لإنصراف الذِّهن إلى صحَّة المفهوم حسب تطبيق قواعد علمي النَّحو والمعاني والبيان على ما يظهر من مدارك الأحكام.

الثَّالث / مفهوم الغاية

من أمور التَّسلسل الموضوعي المتعارف بين أصحاب التَّدوين للمفاهيم منطقيَّاً وأصوليَّاً هو مفهوم الغاية، لما قصده أصحاب كل من العلمين من حيث العقل المستقل للجهة الأولى، أو غير المستقل للجهة الأخيرة، أو ما قد يتَّضح من بعض الإضافات المناسبة لذلك، أو ما هو الأقرب لمراد غايات الشَّرع المدركيَّة، لما قد يتبيَّن سرُّه أكثر من خلال ضرب الأمثلة الآتية بعون الله تعالى.

بل حتَّى إذا كانت نتائجها على أساس من العقل المستقل منطقيَّاً، بل وأصوليَّاً وقام الشَّرع بإمضاءه لبعض القرائن الإيجابيَّة الجامعة بين العقل والشَّرع فلا مانع.

ص: 280

فحق الكلام عن هذا المفهوم أن يُقال على علاَّته ولو مختصراً جامعاً في حالتين عند تقييده إذا ورد بالغاية.

الحالة الأولى: وهي ما لا مفهوم للفظه من وراءه ظاهراً، سواء كان مفهوم موافقة أو مفهوم مخالفة كبعض الأمثلة الآتية، أو له ذلك المفهوم بالمعنيين لكونه لا نزاع لهم في أمر أمثلته لإمكان حلِّ أمورها على ضوء القرائن وأدلَّتها على ما سيتَّضح.وعند استعراض هذه الحالة مع أمثلتها يمكن معرفة شيء أو بعض شيء عن الحالة الثَّانية الآتية بنحو من الضدِّيَّة المخالفة، إذ قد تُعرف الأشياء بأضدادها ولو بالشَّكليَّة المشابهة لها بعض الشَّيء، لكن بنحو يحتاج إلى التَّوجيه المغاير للمعنى الَّذي يُحسب له حسابه إن بني عليه في الحالة الآتية.

الحالة الثَّانية: ما له مفهوم وبالمعنيين.

وكل من الحالتين لها حدودها المرسومة بياناً وتمثيلاً وتوجيهاً وغير ذلك.

أمَّا الحالة الأولى: فالمتَّبع بين أهل التَّحقيق الَّذي نحن نوافقهم عليه أنَّ لها معنيين ولو بالاكتفاء بمجرَّد التَّمييز التَّعريفي عن الحالة الآتية الثَّانية، لأنَّ مورد النِّزاع بينهم من الحالتين هي الآتية دون الَّتي بين أيدينا.

فتارة يُراد بها آخر الشَّيء باعتبار وجوده المختص به غائيَّاً كقول المهندس أو المسَّاح (مسافة هذا الشَّيء ذراع واحد).

أو مشتركاً بين الأوَّل والأخير إذا ورد شيء بمثل قوله (كل السَّمكة حتَّى رأسها).

ففي المثال الأوَّل إذا كان محدوداً بما لا يزيد ولا ينقص، وفي الثَّاني إذا أريدت السَّمكة كلَّها، فصار كل من المحدودين داخلاً في المغيَّا.

ومثلهما ما ورد في الشَّرع لتحديد مسافة من عليه السَّعي وراء البئر للتَّطهير بماءه

ص: 281

ب- (غلوة سهم في السَّهلة وغلوة سهمين في الحزنة).

وهذه الأمثلة ونحوها مرتبطة بخصوص المنطوق، وهي الَّتي لم يخل من الموضوع.

وتارة أخرى يُراد بها ما ينتهي عند الشَّيء باعتبار الحكم لا باعتبار الموضوع كقوله تعالى [ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ](1)، وإن كان الموضوع باقياً.

وعليه فكلا التَّقديرين فقهيَّاً سواء قلنا بأنَّ آخر نهار الصِّيام بناءاً على القرائن المعتبرة هو ما بعد مغيب الشَّمس الحقيقي ولو بدقيقة إن اكتفينا به.

أو أوَّل لحظة من ذهاب الحمرة المشرقيَّة على ما هو المتبَّع من تلك القرائن وبه براءة الذمَّة من التَّشريع الإضافي المحرَّم.

إذ عند الشَّك يرجع إلى الاستصحاب ما بين الوقتين ولو احتياطاً، لئلاَّ يدخل الحال عرفاً في عمق اللَّيل هروباً من صوم الوصال المحرَّم.

وعليه فيكون الحكم المحدود في هذه الآية بما ذكرنا غير مانع من الدخول في المغيَّا، وإن أمكن حصول مفهوم موافقة على ما مرَّ توضيحه فيها.

وكذا مفهوم مخالفة أيضاً، لأنَّ الخطاب فيها دال على وجوب إتمام الصِّيام إلاَّ لمن يسافر في النَّهار قاطعاً للمسافة، والَّذي يمرض بما يمنع من الصَّوم، وكذا المرأة الَّتي تحيض أو تتنفَّس وغير ذلك.

وبما أنَّ كلمة (حتَّى) تشترك مع (إلى) في بعض النُّصوص الدَّاخلة في محور الحديث الَّذي يحتمل أكثر من معنى حتَّى في خصوص هذه الحالة الأولى ما دامت القرائن هي الَّتييُعوَّل عليها لهذه الحالة أو لما يعود للحالة الآتية.

ولهذه النَّاحية لا مانع من الاستشهاد بالرِّواية الشَّريفة إلحاقاً بالآية الماضية وهي

ص: 282


1- سورة البقرة / آية 187.

(كل شيء لك حلال حتَّى تعلم أنَّه حرام بعينه)(1)، فيحنما لم يتَّضح تشخيص الحرام بعد (حتَّى) في هذه الرِّواية -- أو حصل شك لشبهة وقعت -- فلابدَّ أن يُستصحب الحلال الَّذي قبلها.

وكما مرَّ فيما لو ورد (كل السَّمكة حتَّى رأسها)، فإنَّ الأكل لها لو تخلَّف عن أكل رأسها لم يكن عاصياً، لعدم صدور صيغة الأمر دليلاًّ على الوجوب بسبب بعض القرائن.

فيظهر التَّشابه بين نتيجتي الحتَّائتين فلا دلالة على ما قد يتصوَّر من أنَّ رواية (كل شيء لك حلال حتَّى... إلخ) تعود إلى الأمثلة الخاصَّة بأمور الحالة الثَّانية الآتية.

فالحق أن يُقال أنَّه لم يدخل ما قبل حتَّى بما بعدها بعمق دوماً بسبب تفاوت حالات ورود القرائن.

ومن قرائن تفاوت هذه الحالات ما يدل على ما لا يلائم هذه الحالة الَّتي بأيدينا، وهو ما لا يختلط فيه الحلال بالحرام فهي شبيهة ب- (إلى).

فإنَّهما وإن عرف أدبيَّاً عنهما بأنَّ الغاية بسببهما قد تكون داخلة في المغيَّا، لكن لا يلزم أن تكون كذلك بعمق حتَّى بما قد يختلط فيه الحلال بالحرام في الرِّواية الأخيرة، لتمثيلنا بما هو الأسبق ممَّا لا يحتمل فيه هذا المحذور.

ولذلك يمكن أن تًعد هذه الأمثلة حول هذه الحالة من نوع السَّالبة بانتفاء الموضوع، وكونها مرتبطة بالمنطوق إلاَّ إذا كانت قرينة دالَّة على الخلاف، ومن مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة كما أشرنا.

وأمَّا الحالة الثَّانية: وهي الَّتي يحوم حولها بحثنا الَّذي لأجله ينم تحرير أموره فيها عمَّا وقع أو يقع من الملابسات.

ص: 283


1- وسائل الشيعة ج17، ص89، أبواب ما يكتسب به، ب4، ح4، ط آل البيت.

أي هل تدل الحالة هذه على ارتفاع الحكم عمَّا بعد الغاية، أم لا؟

فالحق أن يقال أنَّ الغاية إن كانت قيداً للموضوع تكون من الوصف حينئذ إذا صار شبيهاً باللَّقب الآتي، وهو الَّذي سبق ذكره بأنَّه لا مفهوم له، وإن كانت قيداً للحكم فتدل على ارتفاع الحكم عمَّا بعد الغاية قهراً، وإلاَّ فلن تكون غاية، وهو من الخُلف غير الخفي على الملتفت.

ولأجله كان الاستشهاد بقاعدتي النَّصَّين الشَّريفين (كل شئ نظيف حتَّى تعلم أنه قذر)(1)، و (كل شيء لك حلال حتَّى تعلم أنَّه حرام بعينه)(2) كمقياسين مهمَّين للتَّطبيق لو علمت القذارة والحرمة بعد التَّفحُّص قلَّ أو كثر.

لما أشرنا من الاعتماد على القرائن مع إمكان أن يُقال حصول هذا المعنى من الدِّلالةالمنطوقيَّة حتَّى دون المفهوميَّة لوضوحه.

وعند الشَّك يمكن الرجوع إلى الاستصحاب إذا تحقَّقت شرائطه، وإن تعذَّرت فالبراءة، وبالسَّير على نهجها يتم الانفكاك عن العلاقة بالمنطوق والمفهوم.

وعلى هذا المستوى أمكن التَّشابه على إجماله بين مفهوم الشَّرط ومفهوم الوصف ومفهوم الغاية كما أشرنا في مطلع البحث.

الرَّابع / مفهوم الحصر أو الاستثناء.

اتَّفق كافَّة أهل المحاورات البيانيَّة قديماً وحديثاً عقلاً ونقلاً ومن كافَّة اللُّغات وأهمُّها لغة التَّكاليف الإلهيَّة العامَّة والخاصَّة، وعلى الأخص اليوم إسلاميَّاً وشرعيَّاً

ص: 284


1- التهذيب: ج 1 ص 285 باب تطهير الثياب من النجاسات الحديث 119، الوسائل: ج 2 الباب 37 من النجاسات الحديث 4.
2- وسائل الشيعة ج17، ص89، أبواب ما يكتسب به، ب4، ح4، ط آل البيت.

عامَّاً وخاصَّاً، وهي اللُّغة العربيَّة الأم قرآناً وسنَّة ونحوهما من علوم الدِّين وتشعُّبات حياة الاستقامة وبعناية علوم الأدب الَّتي لم تخرج عن طور بحوثتنا الَّتي من أهمِّها النَّحو والبلاغة وشواهدهما العربيَّة القديمة.

على أنَّ هناك شبه ثوابت من أدوات الحصر والاستثناء اتُّخذت بعد تنقيحها وفرزها عن مثيلاتها الغريبة وبمعونة القرائن الخاصَّة من قبل مدوِّني قواعد علوم الأدب، وأضاف إليها الأصوليُّون مقرَّراتهم الخاصَّة كثوابت تظهر عن طريقها ما يسمَّى منها (مفاهيم الحصر) ومنها ( مفاهيم الاستثناء).

على أن لا يمتنع التقاؤهما بأدائهما نفس المؤدَّى بعد تنقيتهما من الشَّوائب الغريبة عن تلك الأدوات الآتية مع التحاق بعض هيئات آتية أخرى تُعطي نفس المفاد بواسطة القرائن كالتَّبادر ونحو ذلك.

وقبل التقائهما بما لا يمنع من ظهور المفاهيم كما في حالة عدم صحَّة أن يكون للحصر مفهوماً يطلق على الحصر لغة (القصر) وهو الَّذي لا يحصل له مفهوم قطعاً.

ومن أمثلة ذلك ما ذكره البيانيُّون ما سمَّوه بقصر الصِّفة على الموصوف كرواية (لا سيف إلاَّ ذو الفقار ولا فتى إلاَّ علي)(1)، وكذا ما سمَّوه بقصر الموصوف على الصِّفة كقوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ](2) وقوله [إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ](3)، وغير ذلك.

وبعد التقائهما بما لا يمنع لم يصطلح على الحصر إلاَّ لفظ الحصر نفسه، وبذلك يكون الاستثناء أقرب إلى معنى الحصر المفهومي ما لم يكن مانعاً من صدق المفهوم ممَّا يأتي بيانه.

ص: 285


1- تذكرة خواص الأمَّة في خصائص الأئمَّة / سبط ابن الجوزي ص29.
2- سورة آل عمران / آية 144.
3- سورة الرعد / آية 7.

إضافة إلى أنَّ من أسباب قربه من الحصر لصدق المفهوم هو اقتضاء المحاورات المتعارفة في كل لغة أنَّ الاستثناء من الإيجاب سلب ومن السَّلب إيجاب.

ومن هنا تظهر بعض المعاني من وراء الألفاظ وهي المفاهيم، اهتماماً بأنَّ الحكمالمذكور فيما تحمله أمثال هذه القضايا تختص بخصوص المستثنى منه لا بعين الاستنثاء، ولذلك اشتهر بينهم أنَّ انتغاء حكم المستثنى منه عن حكم المستثنى إنَّما هو بالمفهوم.

ولذلك فإن أرادوا هذا منه في الجملة لا دائماً بل في بعض الموارد الخاصَّة على ما سيتَّضح منَّا توجيه خصوص حالة إجماله فلا إشكال فيه.

وإلاَّ فالظاهر أنَّه في مثل (ليس) و (لا يكون) سائد بينهم بالمنطوق لا بالمفهوم، لتبادر ذلك منهما في محاوراتهم.

بل حتَّى في مثل (إلاَّ) أيضاً إذا كان استعمالها في حدود الحكم المنطوقي ومتعلَّقاته، فضلاً عمَّا إذا كان ذلك من قيود الموضوع، لأنَّ مرجعه إلى الوصف، في حين أنَّ الوصف كما مرَّ في مفهومه الخاص السَّابق إذا كان بمعنى اللَّقب لا مفهوم له، وكما سيأتي في الكلام عن اللَّقب.

فيصح إذن أن يُقال أنَّ الأدوات الاستثنائيَّة في طبيعتها الزَّائدة على ما أشرنا إليه من الحالة الإجماليَّة الجائزة في المفاهيم تدل دائماً على انتفاء حكم ما قبلها عمَّا بعدها بالمنطوق لا بالمفهوم إلاَّ في بعض تلك الموارد المجملة المستثناة من تلك الطَّبيعة السَّائدة بينهم لقرائنها الخاصَّة.

والبارز من بين تلك الأدوات الملتحقة بهذه الطَّبيعة والمناقش في بعض أمثلتها إلاَّ ما خرج عنها، لصحَّة مفهومها للقرائن الخاصَّة، هي:-

1 - إلاَّ 2 - إنَّما 3 - بل الاضرابيَّة

ويلحق بهذه الأدوات الثَّلاثة هيئات لفظيَّة عربيَّة إذا أفادت معنى الحصر كتقدُّم

ص: 286

المفعول على الفاعل، وتعريف المسند إليه بلام الجنس مع تقديمه، وغير ذلك ممَّا ستأتي بعض أمثلته الميسورة في نهاية المطاف.

وسبب ورود بعض المناقشات حول بعض أمثلة الأدوات الثَّلاثة هو أنَّ (إلاَّ) جاءت على وجوه ثلاثة، وهي:-

الأوَّل: (إلاَّ) الوصفيَّة الَّتي بمعنى (غير)، وهي الَّتي مثَّلنا لها في الكلام عن مفهوم الوصف بقولنا مثلاً (في ذمَّتي لزيد عشرة دراهم إلاَّ درهم) بالرَّفع، وقلنا عن هذا المثال أنَّه ممَّا لا مفهوم له، لأنَّه لم يكن مفاد (إلاَّ) مفاد الاسثناء الإخراجي، وإلاَّ لوجب نصب (درهم) فلا نعيد، وإلاَّ فمعناه تمام العشرة.

الثَّاني: (إلاَّ) الاستثنائيَّة، وهي الَّتي لا شبهة في دلالتها على المفهوم خلافاً لطبيعة ما ساد بينهم بسبب بدو القرائن عند انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى، ونصب المستثنى الَّذي بعد (إلاَّ) وهو لفظ (درهم) في المثال الماضي لإلاَّ الوصفيَّة.

ولإنَّ الاستثنائيَّة موضوعه للإخراج لزوماً بنحو اللُّزوم البيِّن بالمعنى الأخص، وهو ما لابدَّ أن يؤدِّي إلى أن يكون المستثنى محكوماً بنقيض حكم المستثنى منه، وهو ما يكون المعنى فيه إقرار المقر بأنَّ ذمَّته لزيد من الدَّراهم سوى تسعة بإخراجه الواحد المنصوب.

وهذا مع وضوحه قد سبَّب -- مع الفرق بين الوصفيَّة والاستثنائيَّة بحسب القرائنبينهم في النَّحو والبلاغة -- بعض توهُّم بأنَّ هذا المثال ممَّا يعود إلى كون الاستثناء وصفيَّاً لا إخراجيَّاً.

وجوابه: لابدَّ أن يرتفع عند الشَّك في نفس المثال المذكور في أنَّ (إلاَّ) هذه استثنائيَّة أم وصفيَّة لو أضيفت إلى أوَّله كلمة (ليس)، فإنَّه يكون المعنى بناءاً على الاستثناء أنَّ الأصل فيه تقدُّمه على الوصف فيما مرَّ من وصفه الإجمالي مع القرائن دون ما يُدَّعى من كون الطَّبيعة مع المنطوق لا مفهوم لها، فإنَّه لابدَّ أن يكون عند نفي

ص: 287

الإقرار لزيد بالدَّراهم العشرة ب- (ليس) المضافة في بداية المثال أن تكون نتيجته الاعتراف بخصوص الدَّرهم الواحد المذكور بعد (إلاَّ) دون التِّسعة المنفيَّة ب- (ليس) مع الاهتمام أدبيَّاً بنصب (درهم) الَّتي بعد (إلاَّ).

وأمَّا مورد توهُّم الوصفيَّة فإنَّ مقتضى المثال المحفوف ب- (ليس) في أوَّلها و (إلاَّ) في آخرها أن ليس في ذمَّته لزيد أي شيء من تلك الدَّراهم العشرة الموصوفة بأنَّها ليست من نوع الدَّراهم.

وممَّا توهَّمه بعضهم عن (إلاَّ) الاستثنائيَّة بأنَّها قد تكون ممَّا لا مفهوم لها بقرينة عدم دخول الحديث الشَّريف وهو قولهم (لا صلاة إلاَّ بطهور)(1) وقولهم (لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب)(2) في مفاد المفهوم الكامل لما وراء الحديثين.

لما يمكن أن يصح فيهما الاكتفاء بكون الطَّهور وحده هو الصَّلاة في الأوَّل، وبكون الفاتحة وحدها هي الصَّلاة في الثَّاني، ولو لم تتحقَّق سائر الأجزاء والشَّرائط في الأوَّل إذا اعتبر الطهور مقدَّمة واجبة للصَّلاة ليس إلاَّ، وفي الثَّاني كذلك حينما تعتبر الفاتحة أحد أجزاء وشرائط الصَّلاة الواجبة، وهذان المقداران غير كافيين عند الجميع.

وجواب أمر الاكتفاء بما ذكر عنهما فيما مرَّ باطل قطعاً.

لأنَّ حقيقة المراد من الحديثين عند مراجعة تفاصيل مداركهما الأخرى هو المجموع من المقدِّمة وذيها وأجزاء العبادة وشرائطها الخارجيَّة والدَّاخليَّة دون خصوص ما أشير إلى شيء مهم مبالغ فيه فيهما بنحو من الاختصار، فكل من الحديثين كأنَّه عبارة أخرى عن قول آخر للإمام u وهي (الصلاة ثلاثة أثلاث ثلث

ص: 288


1- كتاب وسائل الشيعة ج 1 ص 365 أبواب الوضوء ب 1 ح 1.
2- المستدرك 4 : 158 / أبواب القراءة ب 1 ح 5.

طهور وثلث ركوع وثلث سجود)(1) ونحوه من الرِّوايات المشابهة.

كما أنَّ قبول اسلام من قال (لا إله إلاَّ الله) لا يدل على ثبوت المفهوم الكامل للإستثناء المسبوق ب- (لا النَّافية) على نحو الكليَّة لو لم يكن معه إقرار بالرِّسالة المحمَّديَّة.

وعلى فرض كونها بالمفهوم -- لا لخصوص المنطوق الَّذي لم يعط إلاَّ معنى كلمة التَّوحيد (الإخلاص) ك- (ليس) و (لا يكون) الماضيتين -- فلا يتم.إلاَّ أن يكون كمال ذلك للقرينة الخاصَّة، وهي للأدلَّة غير الخافية مع إضافة كلمة (محمَّد رسول الله)، وإن لم يطلق عليها المفهوم اصطلاحاً.

الثَّالث: (إلاَّ) الحصريَّة، وهي المسمَّاة بأداة الحصر بعد النَّفي، وهي الَّتي تنسجم كثيراً مع ما مرَّ ذكره من المناقشات المفيدة وأجوبتها.

بل هي صالحة لأن تكون عائدة إليها أيضاً تمثيلاً ومناقشة وإجابة وإن كانت هذه الأداة هي الاستثنائيَّة، سواء كانت وحدها بانفراد أو مسبوقة بحرف نفي وتنسجم كثيراً كذلك مع (إنَّما) الآتية في دلالتها على معنى الحصر وإن كان التَّركيب متفاوتاً بين لفظيهما.

الثَّاني من الأدوات الَّتي يراد الكلام عنها في المقام هي (إنَّما).

وهي كما أشرنا أنَّها دالَّة على الحصر والاختصاص لتبادر ذلك منه عند أهل المحاورات، فإذا استعملت في حصر الحكم في موضوع معيَّن دلَّت بالملازمة البيِّنة على انتفاءه عن غير ذلك الموضوع وهو الواضح في كونه من المفهوم إلاَّ إذا عثر على قرينة على الخلاف مربكة للتَّبادر.

ص: 289


1- وسائل الشيعة ج6 ص389.

الثَّالث من الأدوات الموما إليها (بل) الإضرابيَّة.

وتستعمل أدبيَّاً في وجوه ثلاثة ك- (إلاَّ):-

أوَّلها: إذا كانت للدِّلالة على كون المضروب عنه جاء عن غفلة، أو عن نحو الغلط، وهذا المعنى لا دلالة له على شيء من الحصر بوضوح.

ثانيها: إذا كانت للدِّلالة على كون المضروب عنه جاء للتَّأكيد عليه ولتقريره نحو (زيد عالم بل شاعر)، وهو لا دلالة له على الحصر كالسَّابق.

ثالثها: وهي الَّتي لو دلَّت على معنى الرَّدع وابطال ما ثبت أوَّلاً، وهي بغيتنا كشاهد على صحَّة المفهوم.

والأمثلة كثيرة ومنها قوله تعالى [أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ](1)، أي في دلالة ما بعد (بل) على الحصر والنَّفي لما قبلها، وعلى خلاف ما مرَّ ذكره من معنى القصر في بداية البحث.

الرَّابع: وهو الملحق بالأدوات

وهي الهيئات الَّتي وعدنا آنفاً بذكرها للإستفادة من مناسبة ذكرها بشيء من الأمثلة الدَّالَّة على المفاهيم بوضوح بعد انتهاء الأدوات مثل تقدُّم المفعول على الفاعل [إِيَّاكَ نَعْبُدُوَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ](2).

ومثل تعريف المسند إليه بلام الجنس مع تقديمه في الذِّكر عند التَّثميل كقولك (الرَّسول الخاتم محمَّد) و (الإمام الأوَّل علي)، والأمثلة كثيرة جدَّاً عربيَّاً عامَّاً وخاصَّاً قديماً وحديثاً، ومن العام القديم قول الشَّاعر:-

ص: 290


1- سورة المؤمنون / آية 70.
2- سورة الفاتحة / آية 5.

إذا قالت حذام فصدقوها *** فإنَّ القول ما قالت حذام(1)

حتَّى عُدَّ من كثرة الأمثلة وفي جميع الميادين الأدبيَّة بلاغيَّاً لهذا الرَّابع وما سبقه من الأساليب الحصريَّة قاعدة يستوحى منها:

أنَّ كل ما يعطي معنى حصريَّاً بسبب التَّلازم البيِّن لابدَّ أن يكون دالاًّ على المفهوم بنحو المبادرة.

الخامس والسَّادس / مفهوم العدد واللَّقب

قد دار الحديث بين الأصوليِّين حول الاثنين الأخيرين، وهما مفهوم العدد ومفهو اللَّقب ودورانه البحثي عن حقيقة وجود كل منهما من عدمه أو مألوفيَّة كثرة مصاديقه من قلَّتها الضَّعيفة في هيئات الألفاظ الأدبيَّة ومنها ما يخص المدارك الأصوليَّة وتبيُّن ما نتيجته الضَّعف في مفهوم كل منهما وبالأخص الثَّاني.

ولذلك أخَّروه وأخَّرناه معهم، بل ضممنا الاثنين إلى كل منهما في عنوان واحد، للإختصار الممكن كما يرى الطَّالب والباحث الكريم، ولجامع ضعفهما الأدائي على ما سيأتي، وإن كان كل منهما مستقلاًّ في ذكرع التَّسلسلي، فنقول:-

الأوَّل منهما: مفهوم العدد.

فإنَّ جملته العدديَّة -- إذا كانت قد قيَّد موضوعها أو متعلَّق الحكم فيها بعدد محدَّد -- يمكن أن يكون البحث عن ظهورها في المفهوم عن عدمه.

فارضاً السُّؤال على نفسه وعن أنَّ طبيعيِّ الحكم الثَّابت للموضوع أو ذلك

ص: 291


1- قيل القائل هو زوجها (لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل)، وقيل إنه ل- (ديسم بن طارق) أحد شعراء الجاهلية، وقد جرى مجرى المثل.

المتعلَّق ذي العدد الخاص، بأنَّه هل ينتفي عن الموضوع غير المحدَّد بذلك العدد الخاص أم لا؟

ففي مجال ما يجب علينا من السَّعي لتحصيله من آثار المدارك الشَّرعيَّة على نهج من سبقنا من السَّلف الصَّالح الكاشفة عمَّا يوضِّح وجود المفاهيم من غيرها.

فإنَّ الميسور باليد منها تارة يكون محدوداً بالنِّسبة إلى طرفي القلَّة والكثرة ومن صنف الواجبات العباديَّة، كركعات صلاة الظهر المختلفة في وجوبها بين كونها تامَّة الرَّكعات للمتم كالمواطن والمقيم، وناقصة بركعتين للمقصر في سفره.

فبتعيَّن أحد المقدَّرين لا يجزي المغاير عمداً.

وتارة أخرى بالنِّسبة إلى طرف القلَّة من الواجبات كالزَّكواة والصَّدقات الواجبة المحدودة بحد خاص معيَّن فلا يجزي الأقل وإن جاز الأكثر استحباباً أو احتياطاً إذا لم يكن ذلك بنيَّة التَّشريع.

وثالثة: يكون محدوداً ومن الواجبات كذلك بالنِّسبة إلى طرف الزِّيادة، كدليل صومثلاثين يوماً من شهر رمضان دون الأكثر إذا كانت هذه الدِّلالة من جهة خصوصيَّة المورد، لا من جهة أصل التَّحديد بالعدد حتَّى يكون لنفس العدد مفهوم لو لم ترد حرمة صوم العيد من سبب ما مرَّ من التَّحديد.

ويُلحق بهذه الثَّالثة: ما يكون محدوداً بالنِّسبة إلى طرف الزِّيادة من المستحبَّات، حيث لا تجوز الزِّيادة على نافلة الظهر المعلومة بعددها وركعاتها الثَّمان تشريعاً وإن جاز التَّقليل.

وتارة رابعة: كحالات عدم اقتضاء شيء من طرفي الزِّيادة والنَّقيصة كعموم المستحبَّات الَّتي تُقيَّد بقيد خاص فيهما وإن كانت الزِّيادة أفضل.

وهكذا القضائيَّات الاحتياطيَّة وإن وجبت بعضها احتمالاً مع كون الإكثار منها أبرء للذمَّة الاحتماليَّة.

ص: 292

ولسعة ما ورد لتسنيد فرعيَّات الفقهيَّات من الطَّهارة إلى الدِّيات من الأدلَّة -- وبما قد يزيد كثيراً على ما حُدِّد ممَّا ذكرناه من التَّحديدات العدديَّة وإن كان القليل والنَّادر منها -- قد يبدو من بعضها أنَّ له مفهوماً، لأنَّ أكثريَّة تلك الأدلَّة هي المغيِّرة لسيطرة تلك المفاهيم.

فإنَّه على الغالب بل الأغلب عدم وقوع الخلاف بين المدقِّقين ظاهراً في عدم القول برسميَّة المفاهيم المؤثِّرة إلاَّ ما أثبتته تلك السِّعة بصراحة من حالة الخلاف، فضلاً عن المستحبَّات ونحوها ممَّا لا اقتضاء فيها من النَّفي عند الانتفاء في زيادة أو نقيصة.

الثَّاني: مفهوم اللَّقب.

واللَّقب في مصطلح أهل مباحث الألفاظ ( كل اسم لغوي سواء كان مشتقَّاً أو وصفاً غير معتمد على موصوف مذكور) كقولك (أكرم عالماً) وقول الله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا](1)، وقول (أطعم فقيراً).

أو كان جامداً غير موصوف بوصف كقولك (أكرم رجلاً) أو (أكرم زيداً).

والبحث المراد عن مفهوم اللَّقب هو لمحاولة التَّعرُّف على مدى ثبوت المفهوم له من عدمه من الجمل اللَّقبيَّة بين أهل المحاورات، وأهمُّها ما ورد في بيانات مدارك الأحكام.

بأنَّ من معاني ما قد يظهر من بعض ما قد يتصوَّر أنَّها من المفاهيم، وأنَّها هل تنتفي بانتفاء اللَّقب أم لا؟

وهو ما دعى بعض السَّطحيِّين إلى شيء من التَّحيُّر أو حتَّى بعض القصور.

ص: 293


1-

ولكن بعد أن أوردنا الإشكالات في الماضي وبأكثر من مرَّة في دلالة الوصف على المفهوم يكون عدم دلالة اللَّقب عليه بطريق أولى.

ثمَّ إنَّ مثل قول (زيد قائم) لا يدل على نفي القعود عنه، نعم حين القيام الواقعي لايصدق عليه القعود فعلاً من جهة امتناع الضدَّين إذا أريد من القيام في (زيد قام) الحكم النَّوعي.

ولا ربط لهذا بشيء من المفهوم كما لا يدل من باب أولى أيضاً على نفي القيام عن عمرو الَّذي لم يذكر مكان زيد في المثال المذكور بشيء من الدِّلالات اللَّفظيَّة المعروفة.

وقد ارتكز في نفوس أهل العلم أنَّ اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عمَّا عداه، ونفي ما عداه عنه وعن غيره.

وبعبارة أخرى: أنَّ نفس موضوع الحكم بعنوانه لا يشعر بتعليق الحكم عليه، فضلاً عن أن يكون له حضور في الانحصار.

نعم غاية ما يفهم من اللَّقب عدم تناول شخص الحكم لغير ما يشمله عموم الإسم، وهذا لا كلام لنا فيه.

أمَّا عدم ثبوت نوع الحكم لموضوع آخر فلا دلالة له عليه أصلاً.

إلاَّ ما لو أدَّت بعض ألفاظ النُّصوص ومعتبرات الأدلَّة بصراحتها ما تؤدِّيها معاني ما وراء الألفاظ بالخصوص دون ما تكون مستفادة من وراءها.

ولهذا وأمثاله عدُّوا مفهوم اللَّقب من أضعف المفاهيم، ولذا أخَّرناه.

ص: 294

تتميم مهم مغفول عنه عن

(دلالة الاقتضاء والتَّنبيه والإشارة)

التَّقديم

لم يُعهد لهذه الأمور تدوين مشخَّص مألوف في الأصول وفي مثل هذه المواقع من غير الدِّلالات اللَّفظيَّة الثَّلاث المعهودة قديماً، وهي (المطابقيَّة والتَّضمنيَّة والإلتزاميَّة) في مواقعها المخصوصة إلاَّ مؤخَّراً، ولدلالات أخرى سميِّت ب- (الاقتضاء والتَّنبيه والإشارة) رمزنا لها كلمة الدِّلالات الجديدة، وبنحو جمع شمل.

ولمَّا كان ذكره مبعثراً عنها في المنطقيَّات -- خادمة العلوم -- وفي الأدبيَّات البيانيَّة والمعاني البلاغيَّة ومن قبل بعض الأعلام المهمِّين الحريصين على السَّعي لإنجاز الفوائد المتكاملة حتَّى في الأصول لو لم تكن اعتياديَّة ولو كملحقات لبعض توابع مباحث ألفاظها الَّتي من شواهد أمورها الكثيرة والمتنوِّعة في تلك الأدبيَّات وما قبلها ولو من بعض لغات أخرى مشاركة لها في معانيها.

لم يكن غير بعيد عمَّا يمكن أن يكون وبقوَّة في مألوفيَّتها شبه اللَّفظيَّة الأصوليَّة كالَّتي ممَّا في الكتاب الكريم والسنَّة الشَّريفة من المضامين العالية غير المترابطة ترابط الدِّلالات الثَّلاث المعهودة من مثل التَّطابق والتَّضمُّن وبالأسلوب الدِّلالي الآخر.

ونخص به في الذِّكر ما أطلقنا عليه آنفاً بأنَّه عمَّا يرتبط بدلالات الاقتضاء والتَّنبيه، بل حتَّى الإشارة لو تمَّت مؤهلات امكان الاستفادة الثَّمنيَّة منها في المجال الشَّرعي الإصلاحي الَّذي سيجيء.

وإن حسبت أكثر مضامين هذه الدِّلالات الجديدة غير بعيدة بعض الشَّيء عن الثَّلاثة المعهودة، لكونها في علو ما تعطيه يمكن إلحاق ثمارها بثمار الظَّواهر اللَّفظيَّة وإن كان بنحو أقل، لضعف الرَّوابط على ما سيتَّضح.

ص: 295

كيف وقد كثر تطرَّق الفقهاء والأصوليِّين إلى ذكر هذه الجديدة أو مختلف أمثلتها ألفاظاً وكتابات في مدوَّناتهم القديمة مع هذا التَّبعثُّر غير المنظوم بقواعد مألوفة قابلة لسرعة الاستفادة منها في الأصول؟

وإن استضعفت الثَّالثة من هذه الجديدة كثيراً لفقد روابط التَّعلُّق المألوفة في الدِّلالات المعهودة في حين أن ما تعطيه القرينة الإشاريَّة -- من الفائدة المغفول عنها، وهي ذات سمو إصلاحي معنوي -- حريَّة بأن يعتنى بأمور هذه المستضعفة، فضلاً عن اللَّتين عدَّتا أمور أمثلتهما ملحقة بالظواهر اللَّفظيَّة.

ولذا أطلق على الثَّلاث الجديدة لفظ الدِّلالات أيضاً وإن كان مع بعض التَّسامح اعتزازاً بما مرَّ من التَّقارب.

بل حري بنا كمن سبقنا من بعض الأعلام المتأخِّرين "رفع الله تعالى درجاتهم" أن نجمع شتات أمور هذه الثَّلاثة في موضوع موحَّد كاهتمام السَّلف الصَّالح بأمور الثَّلاثة المعهودة بما يستحقُّه كل منها أو ما قد يتيسَّر من الحديث عنها بأيدي الباحثين منَّا تتبعُّاًلمظانِّ كل ما يساعد على تدوينها الموحَّد.

لينظر بحثها المجموع هذا بالعناية المركَّزة والاعتبار وحسن التَّلقِّي كثيراً من مصادرها المأخوذة منها كالمنطق ومواضيعه المناسبة لها من ملحقات مباحث ألفاظه كبعض حالات اللازم والملزوم كغير البيِّن أو البيِّن بالمعنى الأعم على ما يأتي وما يناسبها في الذِّكر من جميع الأدبيَّات والأصول في ملحقات مباحث ألفاظها من الَّتي لابدَّ وأن تمر على كلِّ طالب حوزوي أيَّام دراساته للمقدِّمات والسُّطوح.

للوقوف على ما يوضِّح أمور كل منها وبالنَّحو المشترك بما يناسب كثيراً بحوثنا الخاصَّة هذه من الشَّواهد القرآنيَّة الخاصَّة بآيات الأحكام وروايات النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وأهل البيت والأئمَّة المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ والَّتي تحل معضلاتها عنهم بالتَّأويل، لضعف العلائم اللَّفظيَّة أو عدمها.

ص: 296

ولذا تفوَّقوا في إنجاح قضائيَّاتهم بما يبهر العقول.

إضافة إلى مألوفيَّة ما قد يؤخذ به بل اتَّفق على الأخذ به في عمومات واطلاقات ما يناسب نفس الاستفادة المرادة ممَّا يتحقَّق به الصِّدق العرفي المحتاج إليه من المعاني أو لا أقل ممَّا يوجد الاستئناس منها في شؤوننا الأدبيَّة العربيَّة العامَّة والرَّاقية من راقي كلام الآدميِّين وعلى ما يتلائم مع مفردات أصولنا الشَّرعيَّة المنسجمة معها.

أو لا أقل من غير المعارضة لها من المواقع الطِّبيعيَّة المشتركة معها عموماً أو خصوصاً في النَّتيجة، لصالح مجملات وتفاصيل ديننا العظيم، أو حتَّى لصالح ما يتلائم مع مبادئ بل غايات ما قد يساعد في تيسير إصلاحيَّات أمور ما نزل من عموم وحي السَّماء السَّابق ممَّا حُرِّف، لأجل أحكام الكتابيِّين والتزاماتهم السَّابقة وعلاجها، وبقي محفوظاً إلى اليوم من غير تحريف لهداية المنحرفين منهم من قبل مجاهدينا بإفهامهم.

ليلتقي مع تعاليم إسلامنا الجامع العزيز وما صحَّ من (إنجيل برنابا) ونحوه والإبراهيميَّات المعلومة والمحفوظة بتلك اللُّغة العربيَّة الأصيلة والعامَّة الحاوية لكل مباني ومعاني علومها الأدبيَّة المشتركة والخاصَّة غير القاصرة والمقصِّرة في حق ما اختصَّ من المباني والمعاني الأخرى لتلك العلوم المشار إليها نصرة للحق وأهله.

سواء كانت تلك الألفاظ الرَّاعية لتلك المباني والمعاني -- من محور بحثنا المذكور وهو الدِّلالات الجديدة -- أصيلة في ألفاظها ومعانيها.

أو أصيلة في معانيها وترجمت إلى أصيل مستعرب حوته قواميس العرب وغيرهم والمسلمين وغيرهم وحوت لها كتب العلوم الأدبيَّة لأعلام عرب وغيرهم ومسلمين من شتَّى مذاهبهم وغيرهم ألفاظاً مفردة تحمل معاني.

أو مركَّبة تركيب جمل مفيدة من كلمتين فأكثر.

ص: 297

أو من جمل متعدِّدة مترابطة كالجمل الخبريَّة والفعليَّة والوصفيَّة والحاليَّة.

أو غير مترابطة في ظاهرها لكن لها علاقة بسياق يكشف حالتها.

أو جملة معترضة يتعلَّق ما قبلها بما بعدها وظهر من مفرداتها ومركَّباتها معاني حقيقيَّة ومجازيَّة وكنايات تصريحيَّة وتلويحيَّة واستعارات وإضمارات ونحوها لم تغفل عنمهمَّاتها الآيات الكريمة والرِّوايات الشَّريفة وغيرهما من كلام الآدميِّين الَّذي من أفضله نهج البلاغة وأدعية الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ المعروفة في عظم ما حوته.

ثمَّ أعالي كلام الآدميِّين الَّذي من أهمِّه اللُّغويَّات الأصيلة وشواهد العلوم نحواً وصرفاً ومنطقاً لبعض صناعاته الخمسة ومعانياً وبيانات بلاغيَّة نثراً وشعراً ممَّا يستأنس بها كثيراً، لتقريب معاني مبانينا الشَّريفة في الأصول ولتصلح أن يستفاد منها على ما سيجيء -- بعد بيان مواقع بحثها -- ذكر كل منها على نحو التَّعاقب واحداً بعد الآخر، اعتماداً على طرق فقهيَّة قد تفوق بعض الأصوليَّات بمثل التَّأويلات المتقنة لأهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وغيرها.

(مواقع الدِّلالات الثَّلاث الجديدة في الأدبيَّات والأصول)

للدِّلالات الثَّلاث الجديدة من (الاقتضاء والتَّنبيه والإشارة) مواقع للحديث عنها وبأكثر من جانب، والتَّطبيق لها فيما بين ما اشترك من علمي الأدبيَّات والأصول من أمور مباحث الألفاظ وتوابعهما وبما يقدر عليه سعي الباحث الحريص عليها لأن يعرف عنها بما يشترك بينها.

أو عن كل منها ممَّا قد يختلف حدُّه وحتَّى مبلغ هذا البحث حولها من الإيجاز أو الإطناب في مثل علاقة جميع هذه الثَّلاثة في ارتباطها بالعلقة السِّياقيَّة كما سيتَّضح في التَّمثيل.

مع اختلاف (الاقتضاء والتَّنبيه) عن الثَّالثة وهي (الإشارة) باشتراط أن يكونا

ص: 298

مقصودين عند العرف على الأقل، على تفصيل يأتي بين الأولى والثَّانية وعند لتَّمثيل كذلك.

وفي الثَّالثة أن يشترط فيها عكس ما اشترط في الاثنين السَّابقين عليها، وهو أن لا تكون دلالتها مقصودة بالقصد الاستعمالي بحسب العرف، ولكن مدلولها لازم لمدلول الكلام لزوماً غير مبيَّن أو لزوماً بيِّناً بالمعنى الأعم.

سواء استنبط هذا المدلول من كلام واحد أو من كلامين، وسياقيَّته الواسطة فيها كثيراً ما تكون خفيَّة على البعض، مع كونها أدبيَّاً قد لا تخرج إلاَّ من وحي العقل وتدبير الأذكياء كما كان بعضها عند الأدباء من الأحاجي ونحوها.

وعند الشَّرعيِّين ومدوِّني الأصول لم تكن علقتها الاستنباطيَّة الخفيَّة إلاَّ من وحي الله تعالى، ولم يعرف أسرار الوصول إليها إلاَّ من نزل الوحي في بيوتهم.

وقد أشرنا إلى أن ضبط نجاح أصحاب هذه الفعَّاليَّات التَّأويليَّة لمضامين الإلهيَّات عن هذا الطَّريق وفي مثل القضائيَّات الشَّائكة وبما قد بهر العقول وبما سيأتي التَّمثيل له.

فما اشترك ممَّا بين الأدبيَّات وقواعدها وأمثلتها المتنوِّعة -- تجاه هذه الأمور ومدارك الفقه والأصول أو تقارب معها كثيراً، بناءاً على ما جاء في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ](1).

بل حتَّى الأمور الَّتي قد يستفاد بعض معانيها من خادم العلوم (علم المنطق) من توابع مباحث ألفاظه، كبعض حالات دلالة اللازم والملزوم من الدِّلالة الثَّالثة القديمة من الدِّلالات الثَّلاثة المعهودة في علم المنطق والَّتي قد لا تمتنع أن تلتقي مع الثَّالثة الجديدة من الدِّلالات الثَّلاث (مورد البحث) وهي الإشارة في أمور اللازم غير البيِّن أو البيِّن بالمعنى العام --

ص: 299


1- سورة إبراهيم / آية 4.

ما هو إلاَّ الأمثلة التَّوضيحيَّة لجميع الثَّلاثة الجديدة الَّتي منها الألفاظ المفردة الَّتي تحمل معنى من المعاني حقيقيَّاً كان أو مجازيَّاً أو نحوهما ظاهراً كان أو مضمراً ومنها المركَّبة تركيب جملة مفيدة من كلمتين فأكثر أو من أكثر من جملة كجملتين أو جملات متعدِّدة مفيدة في كل منها أو بين بعضها مع بعضها الآخر على ما مرَّت الإشارة إليه وإلى سببه.

وبسبب ابتعاد هذه الثَّلاثة الجديدة عن تشخيص معنى عن معنى لأمورها المتعارفة بمعونة ضعف الرَّوابط اللَّفظيَّة أو عدمها ظاهراً للحِكم الأدبيَّة أو لأسرار الحِكم للوحي المبين والاكتفاء من حيث المبدأ لا في كل شيء بما سمَّاه الجميع ب- (الوسائل السِّياقيَّة) وسمَّوه له في باب الدِّلالة الإلتزاميَّة لتدخل دلالة (الاقتضاء والتَّنبيه) ويخرج ما كان من باب المطابقة والتَّضمُّن، وأمَّا الإشارة فهي معروفة بعلاقتها بالتَّلازم ممَّا سبق وما يأتي.

صار لزاماً علينا أن نبحث عن المواقع الَّتي تألف لها نفوس الطلاَّب الكرام ونفوسنا التَّواقة في باب التّدوين لما يتناسب ويليق بأمورها في مقام الاعتبار والحجيَّة لها على ما سيجيء، وهي:-أوَّلاً: استئناس أهل العلوم والمعارف الأدبيَّة الصِّناعيَّة بما ورد من كلام العرب القديم ومن تلاهم ناهجاً منهجهم نثراً وشعراً ومنها الأحاجي.

ثانياً: وهو ما قد نجعله الأهم لما يليق ببحوثنا الأصوليَّة وما دخل في الغرض منها وما تقوم الخدمة له، وهو باب التَّديُّن والاتِّجاه إلى أنواع طاعات المعبود تعالى في شرعه لصالح النَّشأتين للدَّارين، لكثرة ما ورد من المدارك وبكافَّة الأساليب وبالخصوص في هذه الأمور الثَّلاثة.

وستظهر فوائد ذلك من خلال التَّنظير بالأمثلة لجميعها.

ثالثاً: ما يعود إلى إنعاش ما يستأنس به بحثا (الضِّد والتَّرتُّب) عكس ما قيل من

ص: 300

عدم إمكان تعقُّل الشَّرعيَّة في أمورهما عن العقل غير المستقل أو حتَّى المستقل بواسطة اللازم غير البيِّن أو اللازم البيِّن بالمعنى العام كالإمضاء الشَّرعي لقول الطَّبيب.

رابعاً: ومنها وهو ذكر البحث كلِّه إلى آخره، لأنَّه كان بنحو التتمَّة لبحث المفاهيم لما اظهرناه من الأسباب، ولذا صار الأنسب أن لا يكون موقع ذكر هذا البحث بعد الفراغ من ذكر جميع المفاهيم بنحو مستقل.

(الاقتضاء)

ودلالته هي ما كان المدلول منها فيه مضمراً إمَّا لضرورة صدق المتكلِّم أو لصحَّة وقوع الملفوظ به عقلاً أو شرعاً عن المقوِّم اللُّغوي مع سعته والاعتياديَّات المتعارفة كل حسب قرينته.

وهو ما معناه أنَّ مدلول الخطاب فيه لا يستفاد من المنطوق المقابل للمفهوم الاصطلاحي لوحده، بل يحتاج إلى تقدير ما يجعله صادقاً وصحيحاً على خلاف دلالة التَّنبيه الآتية والمسمَّاة ب- (الإيماء) أيضاً، وهي الَّتي يكتفى فيها بالعلاقة السِّياقيَّة واشتراط كونها مع سابقتها مقصودة عند العُرف كما يأتي.

وقد يطلق على دلالة الاقتضاء بدلالة الالتزام.

وللتَّدليل على هذه الدِّلالة الجديدة الأولى من الشَّواهد العربيَّة في العلوم الأدبيَّة من النَّحو والمعاني والبيان والبلاغة ما لا يمكن حصره في مختصر.

لذا رأينا أن نعوِّض عنها هنا بما يماثلها من موقعها الأصولي والفقهي في مداركهما الغفيرة من لساني الكتاب والسنَّة وبعض المتفرِّقات الأدبيَّة المفيدة.

فمنها: قوله تعالى [وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا](1) الَّذي لا يراد منه قطعاً غير

ص: 301


1- سورة يوسف / آية 82.

ساكني القرية.

لسفاهة أن يراد من الوحي الإعجازي -- ولهداية البشر ببعثة الأنبياء والمرسلين الحكيمة والمحكمة مخاطبة المبعوث في ذلك ابتداءاً بسبب كفر وانحرافات أهلها --

بأن تكون لبيوتها وجدرانها وجماداتها وعجماواتها أذن سامعة، ولذا بعد اليأس منهداية أمثال هؤلاء قد تختفي بعض ضمائر التَّعابير لحكمة بالغة كهذه الآية الكريمة وهي الاختصار المفهوم وكما قال الأديب اليائس:-

لقد أسمعت لو ناديت حيَّاً ***** ولكن لا حياة لمن تنادي(1)

فلا ضير أن لا يراد بلاغيَّاً عقليَّاً اقتضائيَّاً تلازميَّاً إلاَّ تحسيس الضمائر الَّتي كانت ميِّتة في غفلاتهم بين يدي رسولهم حينما أمر بسؤال القرية مكانهم، بينما الواقع هو إضمار لفظ (أهل) من باب حذف المضاف أو تقدير معنى (أهل) فيكون من باب المجاز في الإسناد.

ومع هذا فلا مجال لإثارة شبهة أنَّ استعمال (القرية) في غير ما وضعت له مجازاً تابع للمعنى المطابقي، وإن صحَّ هذا في مجاله الخاص به دون مجالنا الاقتضائي التَّقديري وأنَّه هو الأصل دون هذا الاستعمال.

للفرق الواضح بين أن تكون القرينة المرادة في طريق الاقتضاء هي نفسها المحفوف بها الكلام والدَّال على إرادة المعنى المجازي من اللَّفظ لا دلالة نفس اللَّفظ عليه بغير توسُّط القرينة.

ومنها قوله صلی الله علیه و آله و سلم (لا عتق إلا بعد ملك)(2) فإنَّه إن صيغت عبارة أخرى على ضوء هذا الحديث الشَّريف للتَّطبيق والمناسب لما يحتاجه من الإضماء كما ورد في

ص: 302


1- هذا البيت للشاعر عمرو بن معدي كرب بن ربيعة الزبيدي، الذي عاش في الفترة بين عامي 525، 642 ميلادي.
2- الكافي ج 6 ص179.

مقولات العرب (اعتق عبدك عنِّي بألف) إن ساروا على نهجه لابدَّ أن تكون صحَّة هذا العتق الشَّرعي متوقِّفة على الملك أوَّلاً ثمَّ العتق بعده فيجب تقدير كلمة (ملكِّني) أي ملكِّني العبد ثمَّ اعتقه عنِّي.

ومنها: قوله صلی الله علیه و آله و سلم (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام)(1) للابدَّيَّة التَّقدير الاقتضائي بما يتناسب مع عدالة المفيض "جلَّ وعلا" بعظيم نعمائه ومنها نعمة الإسلام.

لئلاَّ يفوه الإباحيُّون والظلمة من أعداءه بما يهوونه من عدم التَّقيُّد بتعاليمه وضوابطه الَّتي سببها انحراف البشر وضلاليَّاتهم.

اعتماداً على ما قد يستظهرونه من كلام النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم المحكم في إضماره لمعنى الأحكام والآثار الشَّرعيَّة، لتكون هي المنفيَّة حقيقة لوجود الضِّرر والضِّرار قطعاً عند المسلمين في تصرُّفاتهم ما بينهم، فضلاً عن أهل الكفر.

ومنها: قوله صلی الله علیه و آله و سلم (لا صلاة لمن جاره المسجد إلاَّ في المسجد)(2) فإنَّ صدق الكلام وصحَّته تتوقَّف على تقدير كلمة (كاملة) محذوفة بعد الصَّلاة، ليكون المحذوف كمالالصَّلاة لا أصل الصَّلاة على تفصيل في محلِّه.

ومنها: قوله تعالى [وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ](3) بناءاً على أنَّ لفظ اللام في (له) لم يوضع لإفادة الحكمين المذكورين في الآية الشَّريفة وهما الرِّزق والكسوة على ما هو الظَّاهر لأنَّهافي (له) لها مثابتها في الوضع البياني الاقتضائي والإلتزامي كمثابة دلالة لفظ السَّقف على الحائط المستتبع له استتباع الرَّفيق الملازم الخارج عن ذاته، وكدلالة الإنسان على قابل صفة الخياطة وتعلُّمها.

ص: 303


1- الوسائل: ج 17 ص 341 ،الباب 12 من أبواب إحياء الموات ح 3 و 5 ، و ص 319 باب 5 من أبواب الشفعة ح 1.
2- الوسائل 5 : 194 / أبواب أحكام المساجد ب 2 ح 1.
3- سورة البقرة / آية 233.

وهو ما يقتضي في المقام عقلاً التزاميَّاً تقدير من يُلزم شرعاً بالحكمين المذكورين وهما الإنفاق بالمعروف على زوجاته لملازمة اللام له وهي خارجة وهو (وعلى المولود له ولد منهن)، لتكون الهاء مع الَّلام عبارة عن الزَّوج، وإنَّ النَّسب ومسؤليَّاته مرتبطة بالآباء دون الأمَّهات.

ومنها: قوله تعالى [يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ](1) فلأجل إظهار حكمة كلام الله الكامل في ظاهره وواقعه لابدَّ من أن يكون مطابقاً لقواعد أدبيَّات ما نزل على طبقها، إذ لا يتم مسدَّداً من دون مناقشة من أحد إلاَّ بتقدير (منه) بعد (تشربون) وإن كان مستواه الإجمالي ونحوه من إعجازيَّاته يتطابق وبانبهار مع ما يفهمه الأذكياء المفرطون ومنهم (الوليد ابن المغيرة "لعنه الله") الَّذي كان معجباً به كثيراً مع كفره، وقد صحَّ الاقتضاء عن أمثاله أدبيَّاً.

ومنها: ما جاء من أشعار القديم المنسجم مع هذه الآية قول الشَّاعر:

نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راضٍ والرَّأي مختلفٌ(2)

في حاجته الاقتضائيَّة والإلتزاميَّة إلى تقدير (راضون) بعد (عندنا) من الشَّطر الأوَّل.

(التَّنبيه والإيماء)

وهي أن تكون دلالة أحدهما مقصودة للمتكلِّم بحسب العرف، لكن لا يتوقَّف صدق الكلام أو صحَّته عليه مثل دلالة الاقتضاء وإن أشبهته في كون الدِّلالة مقصودة للمتكلِّم لكفاية سياق الكلام بما يقطع معه بإرادة ذلك الَّلازم أو يستبعد

ص: 304


1- سورة المؤمنون / آية 33.
2- هذا البيت من المنسرح لقيس بن الخطيم.

عدم إرادته.

وأمثلة هذا الأمر كثيرة جدَّاً من لسان الأدباء تنبيهاً وإيماءاً ومن لسان مدارك الشَّريعة أيضاً، وأضيف إلى التَّنبيه والإيماء لفظ (التَّفهيم).

فهذه الدِّلالة لهذه الألفاظ المتداخلة للمحور الواحد تعارف أن يحصل التَّفهيم بها بتغليب علامة دالَّة على المقصود بواسطة أداة أو حركة أو نحوهما.

إلاَّ أنَّ الإيماء الَّذي ذكروه يمكن دخوله في الإشارة الثَّالثة الآتية، لكن بما يخصُّها،ولكل من هذا الثَّاني والثَّالث قرينته.

فمن الأمثلة الواردة عن ابن عبَّاس قال (بينا رجل واقف مع النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته فقال النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم اغسلوه بماء وسدر وكفِّنوه في ثوبين ولا تمسُّوه طيباً ولا تخمِّروا رأسه ولا تحنِّطوه فإنَّ الله يبعثه يوم القيامة ملبِّياً)(1).

فالتَّعليل بمدلول اللَّفظ على الحكم من هذا الحديث الَّذي استشهد به الشَّوكاني في المقام للأخذ بما نتَّفق عليه معاً ونترك الباقي للتَّحقيق.

هو النَّهي في قوله (ولا تمسُّوه) وهو متقدِّم والوصف ما دلَّ عليه قوله (فإنَّه يبعث) وهذا بدخول الفاء عليه يجعل عِلَّة النَّهي هي أن يبعث ملبِّياً.

ومنها وممَّا استشهد به بدر الدين الشَّوكاني للمقام في آيتين ولكن بدخول الفاء على الحكم، ويكون الوصف متقدِّماً وهو على اثنين.

والآيتان هما قوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا](2) وقوله كذلك [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ](3) بدخول الفاء في كل منهما على كلام وأسلوب للشَّارع.

ص: 305


1- صحيح البخاري ج2 ص217.
2- سورة المائدة / آية 38.
3- سورة المائدة / آية 6.

حيث نبَّهت الفاء في الآية الأولى وأومأت عن طريق التَّعليل بمدلول اللَّفظ إلى أنَّ الوصف هو السَّرقة باستحقاق قطع اليدين.

ونبَّهت أيضاً في الآية الثَّانية بإيماءها على أنَّ القيام فيها للصَّلاة، ويدل فيها على الغسل وهو متأخِّر عن الوصف لدخول الفاء عليه، فيجب لأجل القيام الَّذي حلَّ وقته.

ومنها: ما إذا أراد المتكلِّم بيان أمر فنبَّه عليه بذكر ما يلازمه عقلاً أو عرفاً كما إذا قال القائل مثلاً (دقَّت السَّاعة العاشرة)، حيث تكون السَّاعة العاشرة موعداً له مع المخاطب، لينبِّهه على حلول الموعد المتَّفق عليه.

أو قال (طلعت الشَّمس) مخاطباً من قد استيقظ من نومه حينئذ، لبيان فوات وقت أداء صلاة الغداة.

أو قال (إنِّي عطشان) لدلالة على طلب الماء للسَّقي بأي نحو من الإيماء.

ومن هذا الباب ذكر الخبر، لبيان لازم الفائدة، مثل ما لو أخبر المخاطب بقوله (إنَّك صائم)، لبيان أنَّه عالم بصومه، لينضبط في صومه.

ومن هذا الباب أيضاً الكنايات إذا كان المراد الحقيقي مقصوداً بالإفادة من صريح اللَّفظ ثمَّ كنَّى به عن شيء آخر، لئلاَّ ينزعج عند التَّصريح بالحقيقي.

ومنها: ما إذا اقترن الكلام بشيء يفيد كونه عِلَّة للحكم أو شرطاً مانعاً أو جزءاً أو غير هذه الأمور فيكون ذكر الحكم تنبيهاً على كون ذلك الشَّيء عِلَّة أو شرطاً مانعاً أو جزءاً أو عدم كونه كذلك.مثاله: قول المفتي (أعد الصَّلاة) لمن سأله عن الشَّك في أعداد الثُّنائيَّة، فإنَّه يُستفاد منه أنَّ الشَّك المذكور عِلَّة لبطلان الصَّلاة وللحكم بوجوب الإعادة،.

ومثال آخر: قول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم (كفِّر) للأعرابي الَّذي قال له (هلكت وأهلكت

ص: 306

واقعت أهلي في شهر رمضان)(1)، فإنَّه يفيد أنَّ الوقاع في الصَّوم الواجب موجب للكفَّارة.

ومثال ثالث: قوله (بطل البيع) لمن قال له (بعت السَّمك في النَّهر) فيفهم منه اشتراط القدرة على التَّسليم في البيع.

ومثال رابع: قوله (لا تعيد) لمن سأل عن (الصَّلاة في الحمام)، فيفهم منه عدم مانعيَّة الكون في الحمَّام للصَّلاة وإن حسب من المكروهات غير المحرَّمة.

وهكذا غير هذه الأمثلة من المقارنات لمختلف الأحكام الشَّرعيَّة.

ومنها: ما إذا اقترن الكلام بشيء يفيد تعيين بعض متعلَّقات الفعل كما إذا قال القائل (وصلت إلى النَّهر وشربت)، فيفهم من هذه المقارنة أنَّ المشروب هو الماء وأنَّه من النَّهر.

ومثل ما إذا قال (قمت وخطبت) أي وخطبت قائماً.

وهكذا، لئلاَّ يتَّهم في المثالين بما يلام عليه.

(دلالة الإشارة)

الإشارة في اللُّغة تأتي بمعنى الإيماء، فيقال أشار إليه وشوراً أومأ، ويكون ذلك بالكف والعين والحاجب، وأشار الرَّجل يشير إشارة إذا أومأ بيديه، ولذا جاء في أشعارهم:-

أشر للحر من قرب وبُعد *** فإنَّ الحر تكفيه الإشارة(2)

وهي في الاصطلاح من حيث لفظه في فكر الأصوليِّين - المسمَّاة عند الأحناف

ص: 307


1- التاج الجامع للصحاح:2/67.
2- مقتل الحسين u للمقرّم 340 عن تحفة العالم للسيّد جعفر بحر العلوم 1 ص 37.

بإشارة النَّص - وعلى حدِّ تعبير أصولينا ومعنا بعض العامَّة كالشَّوكاني بأنَّها (دلالة اللَّفظ على لازم غير مقصود للمتكلِّم ولا يتوقَّف عليه صدق الكلام ولا صحَّته)(1).

ومعنى دلالته على معنى لازم ذلك أنَّ هذه الدِّلالة من باب الحالة الإلتزاميَّة وإن دخلت معها دلالة الاقتضاء والتَّنبيه المفسَّرة بما مرَّ ذكره ب- (الإيماء) وهو المشترك مع ما تفسَّر به (الإشارة) أيضاً.

حيث قلنا سلفاً بأنَّ (الإيماء) المشترك بين الثَّاني والثَّالث من الدِّلالتين كل له قرينته المعيِّنة المراد الخاصَّة به، حيث أنَّ الدِّلالتين الأولى والثَّانية وهي (الاقتضاء والإيماء) المراد بها (التَّنبيه) لكل منهما مقصودتان قصداً كما مرَّ، والإيماء الَّذي للإشارة غير مقصود للمتكلِّم على النَّحو الَّذي يتَّضح في الأمثلة الآتية بنحو من اللزوم للكلام لمدلولهلزوماً غير بيِّن أوبيِّناً بالمعنى العام، سواء استنبط المدلول من كلام واحد أو من كلامين.

ومن الأمثلة المتعارفة بينهم لتوضيح المطلوب لذهن الطَّالب والمتتبِّع قوله تعالى آيتين في مجموعهما حصول أقل الحمل أولاهما قوله تعالى [وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا](2)، وثانيهما قوله [وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ](3).

فإنَّه بطرح الحولين الكاملين للرَّضاعة وهما مدَّة الفصال الخاصَّة بها يكون الباقي ستَّة أشهر، فيعرف أقل الحمل.

وبهذا التَّوجيه الاستنباطي المهم قام أمير المؤمنين علي "سلام الله عليه" حلاًّ لمشكلة أوقع عمر نفسه فيها كاد أن يحد بسببها امرأة حاملاً بريئة ولدت لستَّة أشهر

ص: 308


1- معجم أصول الفقه / خالد رمضان حسن ص304.
2- سورة الأحقاف / آية 15.
3- سورة البقرة / آية 233.

بتهمة الزِّنا وهي في حبالة زوجها الشَّرعي(1).

وهذه من الموارد السَّبعين الَّتي اعترف بسببها بالأحقيَّة لأمير المؤمنين u بأقواله المشهورة (لولا علي لهلك عمر)(2) في الإمامة وإلحاق ولدها بأبيه.

ومنها ما سمَّاه الأحناف بإشارة النَّص أحياناً فإنَّهم يرون أنَّ دلالة الإشارة تشبه رجلاً ينظر ببصره إلى شيء ويدرك مع ذلك شيئاً آخر فكذلك العبارة الَّتي يستشهد بها في التَّمثيل للمقام، حيث يقصد منها معنى هو المدرك بدلالة تلك العبارة.

وقد تشير إلى معنى آخر يكون من لوزام تلك العبارة, وهو المسمَّى بدلالة الإشارة وذكروا للتَّمثيل ما في قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ](3).

حيث دلَّ في عبارته عندهم على أنَّ الشُّورى أصل من أصول الإسلام، ودلَّ بإشارته أيضاً على وجوب إيجاد طائفة من الأمَّة تستشار في أمورها وشؤونها بحيث لا يمكن مشاورة كل فرد من أفرادها لوحده.

وقد يساعد على تصحيح أصالة هذا الأصل المدَّعى في نظر بعضهم مشروعيَّة ما في قوله تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ](4)، أي حتَّى لو استقلُّوا عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم عبارة وإشارة.

بل قد يدَّعي من قد يدَّعي جزافاً بعد أمر النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم في الآية الأولى بمعنى إخضاعه لمشاورتهم، وهو ما قد يُبرِّر لهم استقلالهم في أمورهم عنه أو أن يفرضوا عليه ما يرونه خلافاً لرأيه عند مشاورته لهم أو كون مشاورته نحو استجازة منه لهم.

ص: 309


1- بحار الأنوار / المجلسي ج9 ص 483، طبعة الكمبانيّ.
2- الرياض النضرة 2/194، الاستيعاب في معرفة الأصحاب - ج 2 باب علي.
3- سورة آل عمران / آية 159.
4- سورة الشورى / آية 38.

وعلى أيِّ حال إن قبلنا أن يكون معنى الإشارة في هذه الآية مثالاً يُحتذى به للمقام وعلى تمام مستوى هذه الدِّلالة الأخيرة.

فلابدَّ من الخلاص من الإلتباسات الَّتي يحاولها بعض المنحرفين في عقيدتهم ضدَّ مستوى سلطة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم العظمى ليبقى الباقي ناجياً من هذه الشُّبهات بذكر بعض التَّصحيحات ولو بالنَّحو المختصر، وهي:-

أوَّلاً: إنَّ أصول الإسلام الثَّابتة لا يجوز زجِّها عقيدة وعملاً بما اختلفت فيها المذاهب والمشارب الكلاميَّة والفقهيَّة بعد ثبوت ما يوجب على الجميع إعادة النَّظر في غير ما صحَّ عن أهل البيت الطَّاهر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من الرِّوايات الَّتي جعلوها مفسِّرة لبعض الآيات كالآية المذكورة والَّتي بعدها.

ثانياً: صراحة قوله تعالى [مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ](1) وقوله [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا](2) وقوله [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِيالأَمْرِ مِنكُمْ](3) وقوله [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ](4) وقوله [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ](5) وقوله [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ](6)، وغير ذلك من الكثير الَّذي لا يوضِّح مكنون ما فيها من اللِّسان الثَّاني للمدركين المعظَّمين إلاَّ ما عناه

ص: 310


1- سورة القصص / آية 68.
2- سورة الحشر / آية 7.
3- سورة النساء / آية 59.
4- سورة النساء / آية 65.
5- سورة المائدة / آية 55.
6- سورة المائدة / آية 67.

الحديث المتواتر بين الفريقين وهو المعروف ب- (حديث الثَّقلين) وأمثاله ممَّا ورد عن الإماميَّة وعن المنصفين من غيرهم ليعرِّفنا مع أمثاله من هم أهل الشُّورى في كبريات الأمور في عصر النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وبُعيده.

ثالثاً: أهميَّة التَّفريق في أمور الشُّورى بين الأمور الجزئيَّة -- وصغريات الأمور المحتاجة إلى جمع الشَّمل العرفي أو من يُسمَّون بأهل الحل والعقد لو تعاونوا على النِّظام الموحَّد في دقائقه لمَّاحصل خلل اجتماعي فيما بينهم، ولساد العباد والبلاد سعادة الدَّارين ومعهم سعادة بقيَّة الأقليَّات --

وبين الأمور المهمَّة، وهي النبُّوة وبعدها الإمامة، وهي المتمثِّلة في الأئمَّة الاثنى عشر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

فلن يكون ممَّن يمكن أن يؤذن لهم في التَّصدِّيات الاجتهاديَّة الاستنباطيَّة بالدَّرجة التَّالية بعد وفاة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وغيبة ولي الأمر f الأخير من بعض حواريهم ومن يليهم من عدول المجتهدين الخاصِّين القابلين للتَّفكير واستنتاج أمور المعضلات الكبرى دون من هبَّ ودب، ليفرض نفسه من أهل الشُّورى.

كيف بمن كان من المنافقين أو المنقلبين على الأعقاب وغير ذلك وإن زاحم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأوصياءه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الَّذين نوَّه مرَّات وكرَّات بمقاماتهم.

ومنها مفاد قوله تعالى [فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ](1) فإنَّه يؤخذ من هذا القول الكريم بطريق العبارة إباحة المباشرات للزَّوجات والطَّعام والشَّراب إلى طلوع الفجر من ليالي شهر رمضان، ولكن يؤخذ منه بطريق الإشارة صحَّة صوم من أصبح جنباً إذا نسي غُسله أو نام نومته الأولى قبل الفجر بمدَّة تمكِّنه أن يستيقظ قبله للإغتسال ليطلع الفجر على طهارته وما استيقظ إلاَّ بعده بدون تعمُّد.

ص: 311


1- سورة البقرة / آية 187.

لأنَّه أبيحت له هذه المباشرات إلى طلوع الفجر بلا شيء من هذه المزاحمات العمديَّة، إذ عند طلوعه يبدأ صومه ويلزمه من وقت النَّهار بعد ذلك ما يكفي للإغتسال من الجنابة على الأقل ما لم يضق وقت الفرائض العباديَّة المشروطة بالطَّهارة، على ما هومفصَّل في محلِّه من الفقه.

حجيَّة الدِّلالات الثَّلاث الجديدة

ذكر الشَّيخ المظفَّر قدس سره في أصوله عن الاثنين الأوَّل والثَّاني من هذه الدِّلالات قوله:-

(أمَّا "الاقتضاء" و "التَّنبيه" فلا شكَّ في حجيَّتهما إذا كانت هناك دلالة وظهور، لأنَّه من باب حجيَّة الظواهر، ولا كلام في ذلك)(1).

أقول: وهو صحيح كما عُلِّل عند الأصوليِّين إذا كان سند النُّصوص الَّتي تحمل تلك الدِّلالات سنداً صحيحاً معتبراً غير معارض بما يخالفه ممَّا كان أقوى مع المواصفات المشترطة في كلِّ منهما.

وأمَّا حول ثالثة هذه الدِّلالات، وهي (الإشارة) فقد أشكل قدس سره على حجيَّتها من باب الظَّواهر فقال:-

(إنَّ تسميتها بالدِّلالة من باب المسامحة، إذ المفروض أنَّها غير مقصودة، والدِّلالة تابعة للإرادة، وحقُّها أن تسمَّى "إشارة" و "إشعاراً" فقط بغير لفظ "الدِّلالة" فليست هي من الظَّواهر في شيء حتَّى تكون حجَّة من هذه الجهة)(2).

أقول: لكن أشكل عليه بأنَّ هذا الإشكال في أنَّ دلالتها غير مقصودة مبني على

ص: 312


1- أصول الفقه ج 1 ص188.
2- المصدر السَّابق.

تبعيَّة الدِّلالة للإرادة، وهو غير تام، كما هو موضَّح في محلِّه أصوليَّاً.

ثمَّ تلا هذا الأمر المناقش فيه باعترافه بحجيَّتها في باقي أمورها بقوله:-

(نعم، هي حجَّة من باب الملازمة العقليَّة حيث تكون ملازمة، فيستكشف منها لازمها، سواء كان حكماً أم غير حكم، كالأخذ بلوازم إقرار المقر وإن لم يكن قاصداً لها أو كان منكراً للملازمة)(1).

ثمَّ أقول: إنَّ إفادة هذه الدِّلالة وإن لم تكن مقصودة إلاَّ أنَّها غير قاصرة عن أن تُعطي بدل غض النَّظر الحاصل إشعاراً آخر من ناحية أخرى على ما أفادته الأمثلة المتنوِّعة الماضية، إذ قد يكون من هذا القبيل الأدبي المثل المعروف (إيَّاك أعني واسمعي ياجارة) بناءاً على أنَّ المخاطبة لم تكن مقصودة جدَّاً، وإنَّما المراد هو إشعار الجارة ليلتزم العقل بهذا التَّوجّه.

التَّابع الحادي عشر / مقدِّمة الواجب

لا شكَّ في أنَّ كلَّ عاقل يدرك أنَّه إذا وجب عليه شيء يتوقَّف تحقُّقه على مقدِّمات ذلك الشَّيء فلابدَّ له أوَّلاً من تهيئة تلك المقدِّمات ولو إجمالاً أو تهيؤها - أي كانت تلك بين العقلاء - ثمَّ يأتي بذلك ثانياً.

سواء كان شرطاً، وهو الشَّرط الشَّرعي الَّذي لا يتأتَّى الفعل بدونه عقلاً أو عادة، إلاَّ أنَّ الشَّارع جعله شرطاً لإيقاعه على الوجه المشروع كالوضوء والغُسل والتَّيمُّم للصَّلاة أو للصَّوم أو الطَّواف والاعتكاف ونحو ذلك، والشَّرع هو الغالب.

أو كان سبباً، وهو ما يلزم من وجوده وجود الشَّيء ومن عدمه عدمه خارجاً، وهو المعبَّر عنه بالعلَّة التَّامَّة، كعمليَّة الصُّعود للكون على السَّطح.

ص: 313


1- المصدر السَّابق.

أو كان من المقدِّمات العقليَّة، وهي الَّتي لا يتأتَّى الفعل بدونها عقلاً وليس شرطاً عقليَّاً أيضاً، كنصب السلَّم للصُّعود على السَّطح وكترك جميع الأضداد للواجب.

أو كان من المقدِّمات العاديَّة، وهي الَّتي لا يتأتَّى الفعل بدونها عادة وليس شرطاً عاديَّاً أيضاً، كغُسل جزء من الرأس لغسل الوجه كلِّه في الوضوء مثلاً وستر جزء من الوجه لستر الرأس كلِّه في باب حجاب الرَّأس للمرَّأة.

وهي المسمَّاة بتعبير آخر بالمقدِّمات العلميَّة احتياطاً أو تدقيقاً لإبراء الذمَّة.

وهذا أمر قال به الأكثر، بل لا نزاع فيه من حيث المبدأ، وإن توسَّعنا في معنى المقدِّمات بإدخال المقدِّمات الشَّرعيَّة أو الشُّروط أو نحو ذلك ممَّا سوف يتَّضح.

إلاَّ أنَّ الأصوليِّين اختلفوا في أمر تلك المقدِّمات في بحوثهم بين كونها وجبت بالوجوب العقلي الَّذي لا يرتبط بشيء من الألفاظ ارتباطاً وثيقاً - وإن كانت الألفاظ كقنطرة لإيصال المعاني إلى الأذهان، وذلك بنحو من الملازمة غير البيِّنة أو البيِّنة بالمعنى الأعم.

ثمَّ بعد ذلك يترشَّح ذلك الوجوب إلى الشَّرع، ومنه يكون الوجوب شرعيَّاً، وهومبني على القول المعروف بينهم وهو (كل ما حكم به العقل حكم به الشرع) جملة في اعتبار عند قوم أو تفصيلاً في اعتبار آخر عند آخرين.

لكنَّا لا نرى من ذلك إلاَّ من حيث الإجمال إذا كان العقل هو الدَّليل الرَّابع لا الأوَّل وهو المستفاد من الأدلَّة الإرشاديَّة لا ذلك الأوَّل المستقل عن الشِّرع في تخريجاته كما هو محقَّق في موضعه ردَّاً على أصحابه العلمانيّين وأهل القانون الوضعي.

أو لا يترشَّح شيء منه إلاَّ أن يبقى الوجوب عقليَّاً لا شرعيَّاً، وهو الَّذي يعتبره الفقهاء - لو لم يصادفه عندهم دليل شرعي يؤيِّده - احتياطيَّاً، كنحو المقدِّمات العلميَّة

ص: 314

المتعارفة في كثرة مصاديقها في الوضوء والغُسل والتَّيمُّم وغيرهما من العبادات المرتبطة بهما -- كالصَّلاة والصَّوم والحج -- والمعاملات كالبيع بدفع الزَّائد وأخذ النَّاقص، وعلى الأخص لو أمضى شرعاً عكس التَّعارف السوقي اللا شرعي.

وبين كونها ما وجبت إلاَّ بسبب الألفاظ، وهي الَّتي كانت بنحو الملازمة البيِّنة بالمعنى الأخص، ولكن العقل لا يتخلَّى مع ذلك عن الرَّبط بين المقدِّمة وذيها ولو بنحو التَّصوُّر الَّذي لا يعد مشرعاً أو المذعن التَّابع للشَّرع ولو بالإذن الإرشادي.

ولكن نظراً إلى أنَّ بحوثنا في هذه الموسوعة متعلِّقة بمباحث آيات الأحكام أو فقل الفقه القرآني الموسَّع خاصَّة وأكثرها مع ما يتبعها من السنَّة الشَّريفة لفظيَّة كما لا يخفى مع ذلك التَّعقُّل -

مع كون الانسداد العلمي - الَّذي منيت به الشَّريعة المقدَّسة الَّتي مسلكها الصَّحيح على مسلك النَّبي 5 وأهل بيته الطَّاهرين عَلَيْهِم السَّلاَمُ على ما هو محقَّق في محلَّه أصوليَّاً - كان صغيراً، وهو الَّذي يعطي الأمل كثيراً أو بالصِّفة الأكثر في إمكان ترجيح بل تحقُّق جعل هذا البحث لفظيَّاً أكثر من كونه عقليَّاً في الأصول.

وبالأخص إذا ضمَّمنا الرِّوايات المساندة للكتاب من الضعاف المجبورة بعمل الأصحاب مع أخبار الآحاد المحفوفة بالقرائن أو الآحاد الأعلائيَّة مع بعض قريناتها أيضاً، أو ممَّا قد تؤيَّد ببعض المستفيضات معنويَّاً لو لم يعثر على المتواترات في مقابل الأحاد، لو لم يعارضها ما يمنع من الاستفادة منها وملحقات ذلك.

وهو ممَّا يشيَّد به وجوب تلك المقدِّمات شرعاً أو ما يتصادق العقل عليه والشَّرع في ذلك، ولإحراز كون البحث ذا ثمرة عمليَّة لا علميَّة فقط.

إضافة إلى أنَّ الملازمة الَّتي كانت بين الواجبات الَّتي تثبتها الأوامر اللَّفظيَّة وبين مقدِّماتها بعد ما كانت من نوع البيِّنة بالمعنى الأخص في هذه المناسبة - بل حتَّى لو كان الانسداد متوسِّطاً مع استفراغ الوسع والمهارة الاجتهاديَّة فيه.

ص: 315

فلابدَّ حينئذ من أن تكون محاولتنا - في هذا البحث لإثبات اللازم للملزوم - محصورة لا محالة وبصفة أكثر في شأن الدَّلالة اللفظيَّة لا العقليَّة حسب، لأنَّه يحصل بسببها وهو الدَّلالة الإلتزاميَّة اللفظيَّة خاصَّة، وسيأتي حول السنَّة ما ينفع أكثر.

ولا شكَّ في أنَّ الدَّلالة الإلتزاميَّة هذه من الظَّواهر الَّتي هي حجَّة لفظيَّة وعليها المعوَّل أكثر كلَّما تحقَّقت بنجاح علمي وعملي.

ولعلَّه لهذه الملاحظة أدخل الأصوليُّون السَّابقون هذه المسألة في مباحث الألفاظ، حيث جعلوها من مباحث الأوامر بالخصوص.

وعلى هذا الأساس وكون الملازمة هذه بين الواجب ومقدِّماته وبنحو الملازمة البيِّنة بالمعنى الأخص لا إشكال فيها ظاهراً بين الجميع، إذا تمَّ بهذا المقدار لا أكثر.

وإن جاء آخرون فأدخلوا هذه المسألة في المدار العقلي المحض من دون اكتراث بالعلاقة اللَّفظيَّة وإن تضمَّنت في الظَّاهر عند الآخرين، ولعلَّه عند هؤلاء مستضعفة لأنَّها أخبار آحاد أو ضعيفة وإن جبرت بعمل الأصحاب.فأصابوا بعض الشَّيء علميَّاً وقالوا بوجوب مقدِّمة الواجب ورتَّبوا الأثر عقلاً من دون أن يرتبط ذلك بالأوامر اللفظيَّة الَّتي يعنينا أمرها هنا، وإن كان أساس هذا الوجوب لفظيَّاً، وهو ما يعني أنَّ (كلَّ ما يقول به العقل يقول به الشَّرع).

بينما لا يصح من ذلك عمليَّاً إلاَّ ما يجب بنحو المستقلاَّت العقليَّة الخاصَّة في مواردها كما مرَّ، ولأهميَّة التَّفريق بين اللَّفظ المشرِّع كالأوامر الشَّرعيَّة وبين غيره كأوامر السَّادة لعبيدهم.

فالصَّلاة مثلاً إذا وجبت على المكلَّف مع سعة وقتها لا يجب عليه تهيئة مقدِّماتها مثل الوضوء أو الغُسل أو التَّيمُّم لأجل ذلك الوجوب.

بل لم يقل الفقهاء في ذلك إلاَّ باستحبابها أو أخذها في أصل الشَّرع مع تلك السِّعة ومن أدلَّة خارجة عن هذه الملازمة مع الوجوب الثَّابت لها.

ص: 316

وهكذا الصَّوم في شهر رمضان حينما يجب على المكلَّف وكان قبل أوَّل أيَّامه مثلاً من أوَّل ليلته الأولى مجنباً، أو كانت المرأة حائضاً قد نقت من حيضها أو نفساء نقت من نفاسها ولم تغتسل، وكذا الرَّجل من جنابته.

فإنَّهم لا يجب عليهم الطَّهارة، وهي الاغتسال مثلاً مع سعة الوقت، وإنَّما يستحب لهم المبادرة إليه في أصل الشَّرع.

وهكذا الحج فهو وإن كان واجباً في أصل الشَّرع على المكلَّف في العمر مرةَّ واحدة بعد الاستطاعة -- الَّتي يفترض أن تكون محرزة عليه -- بأعماله المهمَّة مثلاً طواف عمرة التَّمتُّع وطواف الحج وطواف النِّساء، فهي -- وإن كانت واجبة على المكلَّف لا تنفك عنه في حجِّه، لأنَّها من أهمِّ أعماله أو الملحقة مع سعة الوقت لأي طواف منها في تلك البقاع -- لا يجب الطَّهور قبلها مع تلك السِّعة، وإنَّما الطَّهور مستحب في أساسه.

وهكذا الحج أيضاً إذا أحرز وجوبه في ظرف بعض سنين استطاعته من غير المعيَّنة في ظرف سنة بعينها، ولنفرضها في ظرف سنتين أو ثلاث من تلك السِّنين أو حتَّى في سنة واحدة معيَّنة ولكن قبل مجيء أشهر الحج ممَّا قد يحوجه إلى السَّعي لاكتساب أو شيء منه لتحصيل تلك الاستطاعة وأمثالها من المقدِّمات.

فلا يجب عليه تحصيل مقدِّماته هذه لأجل أصل الوجوب المحرز في ظرف هذه السَّنة أو تلك مع السِّعة الَّتي افترضناها وإن استحبَّ توفير المال اقتصاديَّاً لمثل هذا الواجب ولو قبل موعده الدَّقيق.

سواء قلنا بأنَّ هذه الأمور من المقدِّمات الخاصَّة حقَّاً، أو توسَّعنا فقلنا بأنَّها من عموم المقدِّمات، وإن كانت في واقعها كالطَّهارات وأموال الاستطاعة من الشُّروط الَّتي لا تصح العبادات المذكورة إلاَّ بتوفُّرها مسبقاً.

إلى غير ذلك من الأمثلة الأخرى فإنَّ المورد سيَّال بالنَّظائر والأمثال.

ص: 317

نعم يبقى الكلام في مورد ضيق الوقت وانحصار الأمر به.

فلابدَّ من ثبوت هذه المقدِّمات لتلك الواجبات، لكن لا ينفعنا في مسألة تدوين أصل البحث الَّذي ربطوا فيه المقدِّمات والَّذي أهم حالاته سعة الوقت.بل إنَّ حالات ضيق الوقت قد جاءت دلائل وجوب مقدِّماتها من نصوص الأدلَّة اللفظيَّة، وإن كان العقل لابدَّ وأن يتعقَّل اللزوم في الأثناء، ولكنَّه لم يكن هو المستقل أو هو الَّذي عليه المعوَّل.

وعليه فلن تكون المسألة ذات ثمرة عمليَّة في البحث عنها في كلِّ مجال حتَّى مع الفائدة العلميَّة المجرَّدة ولو جملة.

إلاَّ بما قرَّبناه آنفاً عند توجيه البحث لصالح كون اللازم والملزوم والمقدِّمات وذيها وانسجام بعضها مع بعض مع الدَّلائل اللفظيَّة، الَّتي لابدَّ وأن يحرز معها دخول العقل في الملازمة نحو دخول تصوُّر وتعقُّل، لا دخول تشريع، كما في أمثلة الصَّلاة والصَّوم والحج الماضية.

ولكن مع افتراض ضيق الوقت لها بما لا يسع إلاَّ للطَّهارة والصَّلاة والصَّوم وطواف الحج، أو كون ذلك الضِّيق الاستطاعة للحج في سنته بعد دخول أشهر الحج.

فلابدَّ بعد ذلك من الاهتمام بالمقدِّمة تجاه ذيها الواجب وعدم التَّفريط فيها.

بل حتَّى في نفس حال السِّعة المفترضة في مثل الصَّلاة من تلك الأمثلة لا من جهة وجوب الطَّهارة غير الثَّابت بالفوريَّة مع تلك السِّعة العاديَّة كما سبق ذكره.

ولكن من جهة توقُّف صحَّة الصَّلاة - الَّتي لا يجوز التَّفريط فيها بحال - على الطَّهارة لأنَّه (لا صلاة إلاَّ بطهور)(1)، وإن كانت الطَّهارة مستحبَّة في أساسها مع تلك السِّعة المفترضة آنفاً.

ص: 318


1- كتاب وسائل الشيعة ج 1 ص 365 أبواب الوضوء ب 1 ح 1.

إلاَّ أنَّها قد تشتد وتصل إلى شيء من ذلك الوجوب في حالة عروض بعض مؤشِّرات الموت أو كونه ابتدأ قاصداً في الموسَّع، ولكنَّها لم تخرج عمَّا ذكرناه من خضوع ذلك إلى مداليل الألفاظ الشَّريفة لا إلى العقل كقوله تعالى [وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ](1).

ولكن قد تكون المسألة ذات ثمرة علميَّة حسب، ولكنَّها لم تحرز في علميَّتها تلك، إلاَّ إذا أدخلناها في مباحث الألفاظ على القول بذلك عند القدامى أو أدخلناها كذلك في الملازمات العقليَّة عند المتأخِّرين على القول بذلك أيضاً، لمحاولة الجمع بين الجهتين اللفظيَّة والعقليَّة.

لأنَّ بذلك إن لم يناسب إدخالها في الملازمات العقليَّة بالمعنى الأخص فلابدَّ من أن تدخل في الملازمات العقليَّة بالمعنى الأعم بالصِّفة العلميَّة الطَّبيعيَّة، وهو ممَّا يرتجى فيه الوصول حتماً إلى ما به النَّفع العلمي، وإن لم يعط النَّتيجة العمليَّة المباشرة.

إلاَّ أنَّها سوف ترتبط بعد ذلك وبالصِّفة غير المباشرة بكثير من المسائل -- على ما ذكره بعض الأفاضل -- من ذات الشَّأن العملي أيضاً، كالعلمي، ولكنَّه في الفقه لا في الأصول لعدم المباشرة، فهي بهذا خرجت عن الفن الأصولي إلى خصوص الفقهيَّات.

فلنذكر بعض المواقع المناسبة في مجال العمل ممَّا نستحضره الآن من المقدِّمات لئلاَّتفوتنا فوائدها، كيف وإنَّ علميَّتها ما ثبتت ثمرتها، إلاَّ إذا أدخلناها في مباحث الألفاظ بناءاً عليه، وهي:-

1 - البحث عن الشَّرط المتأخِّر شرعاً، والَّذي ظاهره تأخُّره في الوجود عن الواجب المشروط، بينما هو في واقعه كاشف عن صحَّة العمل العبادي المشروط به في الأدلَّة حينما يكون الشَّرط شرطاً في المأمور به كما في الأمور التَّالية:

ص: 319


1- سورة محمد / آية 33.

أ/ في الغُسل اللَّيلي للمستحاضة الكبرى الَّذي يُعد عند البعض شرطاً لصوم النَّهار السَّابق على اللَّيل، وإن لم يكن في واقعه رافعاً للحدثيَّة الَّتي في النَّهار السَّابق، بينما النَّقل لا محلَّ له هنا، لأنَّ هذا الشَّرط شرعي لا عرفي كبيع الفضولي الآتي ذكره إضافة إلى مخالفة هذا المثال للَّذي يناسبه.

ب/ حينما يكون الشَّرط المتأخِّر شرطاً للحكم، سواء كان الحكم تكليفيَّاً ككون تحقيق الوجوب للمشروط بأداء ذلك الشَّرط المتأخِّر.

أو وصفيَّاً كثبوت الإجزاء والصحَّة بالإتيان به بعد ذلك المشروط، على قول بعض آخر بذلك، لأنَّه يكون عندهم محسوباً كالأجزاء الدَّاخليَّة للواجب المركَّب الواحد وإن كان خارجاً عنها في الحقيقة.

فكما أنَّ الجزء الأوَّل وما بعده من الواجب مراعى في البراءة منه أو صحَّته وأجزائه على الأقل إلى أن يحصل الجزء الأخير الواقعي، فكذلك هذا الخارج المتأخِّر في كونه حينما كان شرطاً متأخِّراً لابدَّ فيه من كون كل الواجب المشروط في جميع أجزاءه، وإن كان الأخير اعتباريَّاً يراعى في براءة الذمَّة من عهدة وجوبه أو صحَّة أو إجزاء القيام به إلى أن يؤتى بعده بذلك الشَّرط.

ج/ في إجازة بيع الفضولي - الَّذي أجري عقده سابقاً - الكاشفة بعد نهايته عن صحَّة البيع، بناء على الكشف عندهم، لا النَّقل الَّذي بمعنى العقد الجديد في تلك الإجازة.

وعلى كل فسواء ثبت هذا الشَّرط شرعاً أو لم يثبت فلابدَّ من وجود الثَّمرة العلميَّة على الأقل.

وأمَّا النَّقل وإن صحَّ عرفاً فلا يفيد هنا، لعدم انطباق المثال عليه.

2 - البحث عن المقدِّمات المفوِّتة:-

أ/ كما في وجوب قطع المسافة للحج الواجب قبل حلول أيَّامه إذا عرف، بأنَّه

ص: 320

ليس بإمكانه الذَّهاب أصلاً بعد تلك الأيَّام.

ب/ ووجوب الوضوء أو الغُسل قبل دخول وقت الصَّلاة عند التَّأكُّد من عدم التَّمكُّن من أحدهما المحتاج إليه فعلاً بعد دخول وقتها، وإن كان بالإمكان حصول التُّراب للتَّيمُّم بعد دخول وقتها بدلاً عن أحدهما، لاعتبار أنَّ التَّيمُّم مبيح وليس برافع كالوضوء أو الغُسل.

أو وجوب التَّيمُّم بدلاً عن أحدهما لو انحصر الأمر فيه قبل دخول وقت الصَّلاة أيضاً عند ذلك التَّأكُّد من عدم التَّمكُّن منه عند الحاجة إليه بعد دخول وقتها.

ج/ ووجوب الغُسل من الجنابة لعموم المكلَّفين أو من الحيض والنَّفاس للنِّساءللصَّوم قبل الفجر الَّذي لابدَّ حين طلوعه من كون المكلَّف طاهراً، ولكن في حالة وجود سعة الوقت، ككون جاهزيَّة الغُسل أو مناسبته كانت من أوَّل اللَّيل، ولكن كان ذلك بعد التَّأكُّد من أنَّ عدم الاغتسال في ذلك الأوَّل يفوِّت الفرصة على المكلَّف، لعدم توفُّر ما يحتاج إليه من حاجات الاغتسال آخر اللَّيل.

وهكذا الأمر في التَّيمُّم المعوَّض عن الغُّسل عند الحاجة إليه.

وإنَّما سميِّت هذه المقدِّمات بالمفوِّتة عند المصطلحين لها فلاعتبار أنَّ تركها موجب لتفويت الواجب الأساسي في وقته.

وعليه فإن ثبت بالدَّليل وجوب هذه المقدِّمات شرعاً كما قد اشرنا في بعض الأمثلة الَّتي قد لا تخلو بعضها على الأقل إن لم نقل الكل من دليل يقوِّمه، فلابدَّ من اشتراك العقل في هذا الوجوب مع الشَّرع اعتماداً على أصل وجوب ذي المقدِّمة.

ولكن هذا الاشتراك بمعنى تصوُّر العقل وإذعانه لقرار الشَّرع، لا أنَّه هو المشرِّع أو المشارك في التَّشريع، وإن ساعد على شيء من ذلك علميَّاً في البداية إن توسَّعنا وكانت تلك المساعدة بمعنى إقراره بلزوم هذه المقدِّمات.

3 - البحث عن المقدِّمات العباديَّة، حيث ثبت بالدَّليل الشَّرعي بأنَّ بعض

ص: 321

المقدِّمات الشَّرعيَّة لا تقع مقدِّمة إلاَّ إذا وقعت على وجه عبادي، بمعنى أنَّه مقصود فيه القربة إلى الله تعالى حيث تعبَّدنا لإحراز المقدِّمة الصَّحيحة قبل ذيها ولنيل الثَّواب المترتِّب على أدائها بخصوصها قبل فعل ذيها وقبل إحراز الثَّواب المترتِّب عليه.

وذلك خاص في الطَّهارات الثَّلاث وهي الوضوء والغُسل والتَّيمُّم المعوِّض عن سابقيه عند عدم القدرة عليهما، وهي بأجمعها تصح أن تكون مقدِّمة لكلِّ ما يتوقَّف على الطَّهارة من العبادات وإن اشترط في صحَّتها قصد القربة فيها وبما يساوي أصل ذي المقدِّمة في ذلك.

وقد فصَّلناها في كتابنا الفقهي شبه الموسَّع (المقدِّمات العامَّة لكتاب غُنية المتَّقين في أحكام الدِّين)، وسوف يتَّضح هذا الأمر أيضاً في خصوص مباحثنا الفقهيَّة المرتبطة بآيات الأحكام من هذه الموسوعة بعد الأصول وفي خصوص باب الطَّهارات، فلا حاجة لنا هنا إلى التِّكرار.

وهذه الطَّهارات الثَّلاث - الَّتي لابدَّ في تصحيح مقدِّميتها وترتُّب الثَّواب عليها بما ذكرناه - إضافة إلى حاجة العبادات الخاصَّة إليها ممَّا لا يخفى على المحصَّلين - إلى التَّقرُّب الإلهي - لا تغاير المقدِّمة العامَّة المرتبطة بالطَّهارة العامَّة أيضاً لو أريد منها حتميَّة الفوز بالثَّواب على كل عمل.

ولكن بعض أنواعها قد يكون من نوع آخر لا تشترط فيه نيَّة القربة وإن كانت النيَّة أفضل، وهي عمليَّة التَّطهير الواجب أو الَّتي لا تصح العبادة أو حتَّى مقدِّماتها الثَّلاث المذكورة إلاَّ بتحقيقها قبل ذلك، كعمليَّة التَّطهير من الخبائث والنَّجاسات العرضيَّة قبل فعل ما تشترط فيه الطَّهارة ومقدِّماتها من العبادات.

وعلى كل حال فهذه المقدِّمات وإن وردت في الشَّرع عباديَّة الثَّلاثة الماضية منهاوما ألحق بها، فلا يمنع من أن يكون حكم العقل هو الدَّاعي - لو بقي الفكر الأصولي

ص: 322

مستقلاًّ فلا ثمرة علميَّة فيه أصلاً - علميَّاً إلى فعلها كمقدِّمات إلى ذيها، ولكن على ما عُرف عنها في الشَّرع.

لأنَّ هذا الورود فيه لا يجعلها مستقلَّة في الشَّرع عن ذيها وإن كانت الدَّيمومة على الطَّهارة راجحة في نفسها ولها موضوعيَّتها الخاصَّة بها من أدلَّة أخرى.

فالثَّمرة العلميَّة موجودة لا محالة بلا أن يكون العقل هو المشرِّع ولا المشارك فيه، إلاَّ في مورد المستقلاَّت العقليَّة الَّتي لا تلزم المكلَّف بالقصد القربي مع سعة الوقت بمثل الوضوء أو الغسل أو التَّيمُّم البديل، وإن استحبَّت المبادرة للواجب المشروط بالطَّهارة إلاَّ في الوقت الضيِّق.

لكن لو صلَّى مثلاً عن الطَّهارة في الوقت الموسَّع بدون القصد القربي لا صحَّة في صلاته، لتنصيص الشَّرع من جهة أخرى كما مرَّ، وهو غير ما نريده في المقام.

التَّابع الثَّاني عشر: ما يلحق بمقدِّمة الواجب

الواجب النَّفسي والغيري

لقد اعتاد الأصوليُّون أو بعضهم على ذكر هذا البحث في ضمن مباحث الملازمات العقليَّة، الَّذي سوف يأتي مطلبه بعد الفراغ من مباحث الألفاظ، تبعاً لشبيهه أو الأساس الَّذي يكون هذا البحث أقرب ما يكون إليه -- وهو مبحث مقدِّمة الواجب -- المعتبر كونه من أهم مباحثها هناك، ولو من بعض النَّواحي دون جميعها.

ولكنَّا حينما نوَّهنا هناك - في التَّابع السَّابق في مقدِّمة الواج8ب - بأنَّ الثَّمرات العمليَّة بأنَّها معدومة في هذا الأصل، إلاَّ إذا أخذنا بعض المصاديق المناسبة لمباحث الألفاظ والأنسب لمباحثنا هي آيات الأحكام كالمقدِّمات العباديَّة ولو بالواسطة، كما مرَّ توضيحه هناك.

ونقلنا البحث عن مقدِّمته إلى تلك المباحث اهتماماً بالاستثمار الممكن.

ص: 323

لذلك جاء اهتمامنا بجعل هذا التَّابع الثَّاني عشر أن يكون تابعاً له أيضاً هنا دون الالتزام بالتَّعرُّض لهما في الملازمات الآتية في حينها.

وقد مرَّ الكلام كذلك، بأنَّه يمكن أن يرتبط به البحث عن هذا الواجب النَّفسي والغيري ببعض لا بأس به من الارتباط المناسب القديم كذلك أيضاً وهو الحديث عن مقدِّمة الواجب، بل قد يكون هو نفسه في بعض الجوانب، بل إنَّ الواجب الغيري كما يقول البعض هو نفس وجوب المقدِّمة، لكن لو ثبت وجوبها مطلقاً أو يزيد.

ولذلك ينبغي أن نتبع هذا الواجب بكلا نوعيه والكلام عنهما بما يشبه ذلك الحديث، لاغتنام بعض الفوائد الأصوليَّة المشتركة المدَّعاة، وكذا الإضافيَّة النَّافعة جهد الإمكان إن تيسَّرت.

وعلى الأخص لو ثبت وجوب المقدِّمة بالنَّحو المطلق كما أشرنا كما هو المحقَّق إلاَّ بما أوضحناه.

وبقي وجوب الواجب الغيري على حاله ببعض من الاعتبار الخاص به، وبما يشبهالمقدِّمة في خصوص مصاديق القول بعباديَّتها لو يثبت كما سيجيء كذلك.

وقبل الخوض في النَّوعين بما سوف نختاره من الاختصار عنهما -- لعدم الحاجة الماسَّة إلى التَّفصيل في البيان -- لابدَّ من محاولة فهمهما كل على حدة، للتَّفريق بينهما ولو على مستوى التَّقابل الإسمي لكل منهما، لا كما قد يتصوَّره الواهمون كما سيجيء.

فالواجب النَّفسي: هو الواجب لنفسه لا لواجب آخر كالصَّلاة اليوميَّة، ويقابله الواجب الغيري كالوضوء على ما سيجيء، وهو الثَّابت الأساسي في وجوبه من الأوامر وملحقاتها، ويتأكَّد وجوبه كلَّما يضيق وقت أداء الصَّلاة.

وهذا الواجب وإن لم يكن هو المقصود ذاتاً في هذا البيان من التَّابع، لأنَّه قد

ص: 324

انتهى الكلام عنه في السَّابق كأساس تتَّصل به هذه التَّوابع.

في حين خصَّصنا له عنواناً مستقلاًّ، لتوضيح المقصود من الواجب الغيري بصورة أكثر من باب تعريف الشَّيء بضدِّه، ولإزالة بعض الإشكال عمَّا يخص النَّفسي كما سيتَّضح.

فهو كما مرَّ (ما وجب لنفسه للأمر ونحوه)، كالصَّلاة الَّتي مرَّ ذكرها وغيرها من عبادات الإسلام الأساسيَّة، وكل واجب شرعي أساسي ارتبطت به المقدِّمات ولم يلحق هو بها.

وإن أدخلنا حالات العرفان أو بعضها في كون هذا الوجوب - الَّذي في هذه الواجبات الأساسيَّة - بأنَّه ما جاء إلاَّ لمصلحة شرعيَّة متنوِّعة للدُّنيا والآخرة أو ما هو أرقى منها عرفانيَّاً، لكون تلك الغايات لم تكن هي نفسها الواجبة.

بل إنَّ بعضها كان فوق مستوى الواجبة وإن استحبَّ في الأساس، لكن في مستوى مشاعر العرفانيِّين كالصَّلاة الَّتي تؤدِّى لا طمعاً في الجنَّة ولا خوفاً من النَّار، بل ما قد يرقى العبد فيه أكثر، وإن وجب جلب النَّعيم بامتثال الأوامر المولويَّة تعبُّداً لا أكثر.

وهكذا الابتعاد عن الجحيم بترك المحرَّمات كذلك بلا أن يناط وجوب الصَّلاة مثلاً بقصد هذه الغايات دوماً - لأنَّ العرفان شعور قربي إضافي حسب المراتب العلميَّة وإن كان بعض أهل العرفان في مراتبهم العالية قد يكونون من الأميِّين لدقَّة مقاصدهم الشَّريفة نوعاً وبعض أهل العلم سطحيِّيين فيها.

والواجب الغيري هو (ما وجب لواجب آخر)، وهو المقابل للنَّفسي كالوضوء والغُسل للصَّلاة أو التَّيمُّم لها بدلاً عنهما، ومثل الصَّلاة في ذلك هو الصَّوم والحج والعمرة والاعتكاف وغير ذلك، ممَّا لا يصح شيء منه أو لا يقبل أو يحرم أو تفرغ الذمَّة من الواجب الأساس إلاَّ بها.

ص: 325

ومن ذلك أيضاً بل ما هو الأشد تلازماً فيه حالة الضِّيق في أوقات كل من هذه الواجبات الأساسيَّة كما مرَّ ذكره.

وهذا الغيري هو محل الكلام في هذا التَّابع دون غيره.

وكأنَّه في هذا التَّابع أقرب إلى الشَّرعيَّة من عقليَّة الكلام عن مقدِّمة الواجب الاحتياطيَّة، ولأجله قد تحرز فيه الثِّمار العمليَّة.ولكون أمثلة الغيري المتعارفة عند الأصوليِّين نوعاً هي المقدِّمات العباديَّة وتوابعها أو التَّوصليَّة الَّتي لا تبتعد كثيراً عن إمكان إحراز العباديَّة فيها ولو كانت لوحدها من دون لحاظها مقدِّمة، وإن أطلق تسامحاً في بعض الحالات على الغيري بالمقدِّمة وبالعكس.

وبتعريفنا للاثنين (النَّفسي والغيري) -- ومقابله الواجب للغير للواجب للنَّفس -- يتبيَّن معنى الثَّاني أكثر، بسبب فهم الأوَّل من تعريفه الَّذي لا يخفى على اللَّبيب الفطن حتماً من هذه المقابلة وما سبقها.

على خلاف ما قد توهَّمه البعض من ارتباطه التَّوهمي المخالف لتعلُّق الثَّاني الطَّبيعي بالأوَّل، حيث جعل (ممَّا وجب لنفسه) -- وهو الأوَّل -- أن يعطي معنى أن يكون وجوب الشَّيء الواجب علَّة لنفسه في الواجب النَّفسي وهو معلولها.

ولكن بمقتضى مقابلته لتعريف الواجب الغيري لا يستفاد منه سوى أنَّ وجوب الغير علَّة لوجوبه كما عليه المشهور.

ولهذا التَّوهُّم مجال في النَّفسي، لامتناع أن يكون الشَّيء علَّة لنفسه، حذراً من توقُّف الشَّيء على نفسه أو على ما يتوقَّف هو عليه، وهو من الدَّور الممتنع.

مع كفاءة الشَّرع التَّامَّة في التَّدليل على الوجوب النَّفسي وعليَّته من الآيات والرِّوايات.

فلابدَّ من أن يكون كما أوضحناه في المقابلة الصَّحيحة السَّابقة.

ص: 326

ولهذا نرى الشَّيخ المظفَّر رحمه الله في أصوله نظَّر معنى الواجب لنفسه(1) بأنَّه ك-تعبير عن الله تعالى في الوجوب الاعتقادي علينا به بأنَّه (واجب الوجود لذاته) أي ليس مستفاداً من الغير ولا عائداً له، فهكذا هذا الواجب لأنَّه ليس معلولاً لذاته.

ولكن هذا التَّنظير ليس في محلِّه بالدقَّة إلاَّ في سطحيَّة في التَّنظير، لأنَّه تعالى ليس معلولاً لذاته بمعنى تركُّب الشَّيء من العلَّة والمعلول، لبساطة ذاته تعالى من التَّركُّب، وأنَّ وحدانيَّته هي الهوهويَّة.

أمَّا الواجب النَّفسي وإن كان لا يخضع للغير ومنه نفس الغيري حينما يسبق النَّفسي لا يجب إلاَّ من سابقه، ويشبه الذَّات الأقدس من هذه النَّاحية.

لكنَّه في نفس الوقت تابع لدليله الَّذي لولاه لما صار واجباً لنفسه من الآيات والرِّوايات وهي الَّتي قد تسمَّى بالعلَّة له.

وهذا لم يكن في ذاته تعالى البسيطة، وإن كنَّا لم نعرفها إلاَّ بالآثار، لما ورد في الأدعية المأثورة المتعدِّدة الَّتي منها فقرة قول الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ (يا من دلَّ على ذاته بذاته)(2) وقولهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ في فقرة دعاء آخر (بك عرفتك)(3) وغيرهما.

وبهذا يتم معنى الواجب الغيري بأنَّ وجوبه كان للغير وتابع له لكونه مقدِّمة له،ويعرف في مقابله معنى الواجب لنفسه.

وبعد الفراغ من الكلام عن الواجب بالغير جاءت الحاجة إلى تشخيص بعض خصائص له يمتاز بها عن الواجب النَّفسي تفطَّن لها علماؤنا قدس سره بعد ما اتَّضح لهم معنى التَّبعيَّة فيه، نذكرها ببعض من التَّصرُّف النَّافع.

أحدها: كما أنَّه لا وجوب استقلالي له لا إطاعة استقلاليَّة له كذلك، وإن

ص: 327


1- أصول الفقه ج 2 ص321.
2- من فقرات دعاء الصَّباح لأمير المؤمنين u.
3- من فقرات دعاء أبي حمزة الثَّمالي لزين العابدين u.

شُخِّصت الإطاعة له استقلالاً لا بلحاظ الارتباط، كرجحان الدَّيمومة على الوضوء أو للكون على الطَّهارة أو هو أو الغُسل لرفع الحدث فقط وإن لم ترتبط أساساً بالواجب في بعض أحوالها إلاَّ بعد تجديد الوضوء مثلاً.

وبالأخص إذا جعلنا مقدِّمة الواجب واجبة أو أنَّ الوجوب الغيري كان مرتبطاً بالواجب المضيَّق أو الحصَّة الأخيرة من الموسَّع لا بما قبله وإن كانت شرطيَّة الكون على الطَّهارة في الموسَّع تشبه الوجوب في بعض حالاتها.

ثانيها: بعد ذكر الخاصَّة الأولى للغيري فلا ثواب مستقل فيه غير الثَّواب الَّذي يحصل على إطاعة النَّفسي، كما أنَّ العقاب يصيب تارك النَّفسي أو ما قد نسميِّه بذي المقدِّمة بسبب ترك الغيري أو المقدِّمة الَّتي توجب بطلان النَّفسي أو تعطيله إذا استمرَّ إلى آخر وقته.

وأمَّا ما ورد في الرِّوايات الشَّريفة كثيراً - من ذكر الأجر والثَّواب على نفس المشي الَّذي هو مقدِّمة للحج الواجب بدلاً عن أنواع الرَّاحلة المريحة بحسب مراحلها، كما قد أشرنا آنفاً مثل هذا في باب الوضوء أو الغُسل من مرجِّحاتها الذَّاتيَّة شرعاً، أو كونه غيريَّاً له بحسب الظَّاهر وبما قد يزيد حتماً على أنواع الرَّاحلة حتَّى لو كانت القديمة -

فلعلَّه كان بمعنى توزيع ثواب نفس العمل على مقدِّماتها، لأنَّه كلَّما كثرت مقدِّمات العمل - ولو بضخامة زحمات ذلك الشَّيء - كثرت حمازة نفس ذلك العمل فينسب الثَّواب كذلك إلى المقدِّمة ولو مجازاً.

أو أنَّ التَّبعيض هي الحالة الَّتي قوَّت العلاقة بينهما وجعلت التَّابع والمتبوع كأنَّهما شيء واحد، وإن تفاوت تابع عن تابع في الاعتياديَّة الَّتي لا تكلِّف المعتاد على ما به المشقَّة كثيراً أو المشقَّة الزَّائدة عليها بالنِّسبة إلى غير المعتاد.

أو أنَّ الالتزام بفعل المقدِّمة أو الواجب الغيري على الأنسب على اعتبار أنَّ

ص: 328

القيام به مشروع في القيام بالنَّفسي أو ذي المقدِّمة.

ثالثها: إنَّ الوجوب الغيري لا يكون إلاَّ توصليَّاً، أي لا عباديَّة فيه تجاه النَّفسي وإن كان يصلح للعباديَّة، أو لا يمتنع عنها لوحده ولا في المقدِّمة تجاه ذيها، لأنَّه لا يصح أن يقال إنَّ الصَّلاة طهارة والحج مشي في طريقه.

كما لو شخَّصناهما في الارتباط في الوقت الموسَّع للواجب، اهتماماً بالكون على الطَّهارات الثَّلاث مستقلاًّ مثلاً.

فإنَّ العباديَّة موجودة ونيل الثَّواب عليها يحتاج إلى قصد القربة حتماً كما سبق نظيره ولكنَّها لا تتشخَّص إلاَّ بالتَّعلُّق المذكور.نعم قد يكون عدم ذلك موجوداً في مثل إزالة النَّجاسة ونحوها ممَّا لا يحتاج إلى القربة وإن رجح عموماً أيضاً، لعدم عباديَّته سواء في الموسَّع والمضيَّق استعداداً لذي المقدِّمة والنَّفسي.

رابعها: إنَّ كلَّ ما كان شرطاً في وجوب ذي المقدِّمة أو النَّفسي فهو شرط في وجوب المقدِّمة والغيري، كما في أصل الوجوب فيما بينهما كالبلوغ والعقل.

وكذلك قيل باستحالة تحقُّق وجوب فعلي للمقدِّمة قبل تحقُّق وجوب ذيها، لاستحالة حصول التَّابع قبل حصول متبوعه، أو لاستحالة حصول المعلول قبل حلول علَّته، بناءاً على أنَّ وجوب المقدِّمة معلول لوجوب ذيها.

بل هناك شيء أشد، بل قد سبَّب إشكالاً للبعض حينما قالوا كيف نقدِّم المقدِّمة على وقت ذيها؟

مع التَّلازم الَّذي ذكرناه حتَّى في المقدّمة المفوِّتة، كوجوب الغُسل ليلاً على الَّذي يجب عليه الصَّوم يوم غد من شهر رمضان مثلاً إذا كان مجنباً في اللَّيل، لكون اللَّيل قبل وقت الصَّوم والطَّهارة فعليَّة وجوبها تحصل من أوَّل لحظة من نهار الصَّوم.

ولكنَّ الجواب واضح: بأنَّ صحَّة الإشكال إن تمَّت فهو من نوع الخارج بالنَّص

ص: 329

وغيره.

وأمَّا مع عدم صحَّة هذا الإشكال كما هو الصَّحيح فإنَّه لكون العقل بهذه الدقَّة لا دخل له في المقام من جهة العمل والثَّمرة العمليَّة المطلوبة، ما دمنا مع النُّصوص حتَّى في المقدِّمة المفوِّتة.

أو لكون الطَّهارة وهي هذا الغُسل مثلاً قد انحصرت في ذلك الوقت من دون قدرة على غيرها، وهذا لا يمنع من الجماع بعد ثبوت حليَّته فضلاً عن استحالته ليلة الصِّيام في آيات الصَّوم حتَّى لو نام الصَّائم ليلاً وهو مجنب وكان معتاد الانتباه أو حتَّى غير معتاده إذا استيقظ في آخر الليل.

التَّابع الثَّالث عشر / مسألة الضِّد

بعد التَّفاوت الذِّهني بين المفكِّرين من علماء الأصول حول المراد من الضِّد ومعناه التَّابع للأوامر بواسطة النَّهي المقابل لها بنسبته الخاصَّة من المعقوليَّة غير المستقلَّة على ما سيتَّضح.

لابدَّ أن يُفرض السُّؤال عنه وعن محتملاته في نفسه للوصول إلى الغاية المرتجاة لدى الباحثين منهم عنه وعن كل مطلب فكَّروا أو يُفكِّرون فيه من المعروضات الأصوليَّة الأخرى، بُغية العثور على ما به النَّفع الأكثر إن كان من الثِّمار العمليَّة عند التَّطبيق العملي للأدلَّة الشَّريفة المعطاء، إن ساعدت على شيء جملة أو تفصيلاً من عدمه.

حيث يمكن أن يُقال: ما هو المراد من هذا الضِّد عندهم، وما يقتضيه إن اشترك تعقُّل النَّهي مع ذلك الأمر الَّذي صار النَّهي ضدَّاً له؟

فهل إنَّ المراد منه أنَّه هو بمعنى التَّرك، وهو المسمَّى عندهم بالضِّد العام كمثلالصَّلاة الأدائيةَّ في سعة وقتها أو ضيقه الأدائي، وهو الأشد في المسؤوليَّة على

ص: 330

المكلَّف وما يقتضيه من آثار النَّهي عند ترك امتثال الأمر بها أو حتَّى القضائيَّة بعد انتهاء وقتها من دون امتثال، لأنَّ فريضتها لن تترك بحال بعد تأكُّد وجوبها ولو بعد انتهاء وقتها الأدائي تبعاً لأدلَّة القضاء.

إذا كان المراد من النَّهي هو نفسه الأمر إن أمكن تقبُّل تصوُّره، وإن لم يكن عن سلاسة أدبيَّة.

والَّذي يُعد مورده معه من مصاديق الجمع بين الأوامر والنَّواهي بمعنى واحد، وهو ما تبرء به الذمَّة وهو المفسَّر مع عدم تلك السَّلاسة بمعنى كون الأمر بأنَّه أمر بترك التَّرك؟

وهذا النَّهي عن المعنى الضدِّي المذكور هو في قبال النَّهي المستقل الَّذي سيأتي في آخر هذا الجزء الثَّاني من كتابنا (مساعي الوصول).

وهو الَّذي لا يمكن فيه بحسب التَّعارف الاعتيادي اجتماع في الأمر والنَّهي إلاَّ بما تفوَّق فيه جهابذة أهل الفقاهة على أهل الصَّناعة الأصوليَّة في الجملة المقبولة من الميدان الاجتهادي الفقهي الَّذي أمكن فيه هذا الجمع بين بعض حالات الأمر والنَّهي المقابل له ولو في حالة الضَّرورة وبما هو أسلم من معنى الجمع الماضي، كالصَّلاة مع ضيق وقتها في الدَّار المغصوبة أثناء الخروج الفوري، إن أمكن تصوُّره وتحقُّقه دون غير ذلك.

أم أنَّ الضِّد هو ما يقتضيه النَّهي من الأضداد المسمَّاة عندهم بالخاصَّة الَّتي ستأتي في تبعيَّتها للعامَّة، وعلى أي معنى ينبغي أن تكون؟

والَّتي قد تجتمع مع ما يحمله الأمر المولوي أو الإرشادي من مثل صلاة الفريضة اليوميَّة في سعة وقتها بما لا يفوِّت المكلَّف على نفسه شيئاً منها أداءاً ومن لوازمه الأخرى كالكسب للمعيشة ونحوها من المباحثات والأكثر إن احتاج وبما لا يزاحم الصَّلاة شيء منها ومن غيرها من المنافيات؟

ص: 331

أمَّا مع ضيق وقت الصَّلاة فلا اجتماع مع منافياتها.

فكل هذه الحالات جرت في أفكارهم.

ولأجل أهميَّة تشخيص المهم من موارد الخلاف بينهم ليلتزم به دون غيره لابدَّ أوَّلاً من فهم المفردات المشار إليها فيما قدَّمناه وهي (الضِّد) و (الاقتضاء) و (النَّهي)، ثمَّ تعقيبها بباقي ما تستحقُّه من الأمور:

فأمَّا (الضِّد) فإنَّه في اصطلاح الحكماء أو الفلاسفة يراد منه خصوص المعاند الوجودي، وهو غير مراد عند الأصوليِّين وأهل العُرف.

وإنَّما المراد عندهم في اصطلاحهما ما هو الأعم من خصوص المعاند الوجودي والعدمي والمنافي الَّذي يشمل التَّرك الَّذي يُعبَّر عنه بالنَّقيض.

بينما ذلك الضِّد الوجودي فقط عند الفلاسفة هو مضرب المثل أعني الضدَّين اللَّذين لا ثالث لهما، والأعم الأصولي ما كان يحمل مرونة إلى ما هو الثَّالث.

فكانت النَّتيجة عندهم انقسام الضِّد إلى العام -- وهو التَّرك الَّذي معناه النَّقيض --وإلى الخاص، وهو مطلق المعاند الوجودي.

وأمَّا (الاقتضاء) فإنَّ المراد منه في كلماتهم أنَّه الأعم من دلالة العينيَّة للشَّيء والجزئيَّة له واللُّزوم مطلقاً من الدِّلالات الثَّلاث وهو ما معناه أن يُراد به لابديَّة ثبوت النَّهي عن الضِّد عند الأمر بالشَّيء.

إمَّا لكون الأمر يدل عليه بإحدى الدِّلالات الثَّلاث وهي (المطابقة والتَّضمُّن والإلتزام) بسبب اللَّوازم العُرفيَّة المتوقِّفة على الاستظهار من الأدلَّة لتكون داخلة في مباحث الألفاظ.

وإمَّا لأنَّ هذه المسألة أيضاً من المسائل الأصوليَّة العقليَّة غير المستقلَّة كما أشرنا من دون أن يكون لزومه بيِّناً بالمعنى الأخص حتَّى يدل عليه بالإلتزام الأعم، بناءاً على الملازمة أو المقدِّميَّة على ما سيجيء تفصيله عنهما.

ص: 332

إذ قال بكل واحد منها قائل.

فلابدَّ أن يكون مورد النِّزاع مجمع الأقوال، فالمراد من الاقتضاء عندهم كما أشرنا أنَّه أعم من كل ذلك، وكما سيأتي تشخيص ما هو الأصح.

وأمَّا (النَّهي) وهو الَّذي عليه التَّركيز في الضديَّة للأوامر الواردة من الشَّارع المقدَّس، وإن كان تبعيَّاً كوجوب المقدِّمة الغيري التَّبعي بكون معناه المطابقي هو الزَّجر والرَّدع عمَّا تعلَّق به، وإن فسَّره المتقدِّمون بطلب التَّرك كما أشرنا وكما سيأتي من التَّعليق.

وبعد فهم مجمل ما يُراد من المفردات الثَّلاث هذه فليس من المهم علينا التَّعرُّض له في المقام إلاَّ مسألتان، وهما:-

الضِّد العام، والضِّد الخاص المنضوي تحته بناءاً عليه في كل حالة.

والخوض في كل منهما بعد تسلسل ذكرهما المتعاقب الأنسب ممَّا يستدعي التَّفرُّغ قبله من ذكر معنى (التَّرك) المشار إلى عدم سلاسته في الذَّوق الأدبي وما يحتاج إليه من التَّعليق الإضافي فنقول:-

أوَّلاً: (التَّرك)، فإنَّه بعد ظهور معناه بالمستوى الَّذي عندما يصدر الأمر الإلهي إذا اقتضى النَّهي عن ضدِّه العام.

وفُسِّر بهذا المعنى في الوجود والعدم كالأمر بالصَّلاة الَّتي تقتضي النَّهي عن عدمها وجوداً مثل عدم الانشغال بغيرها من المنافيات المباحة في نفسها أساساً في سعة وقتها، فضلاً عن المحرَّمات الَّتي كقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى](1).

وفضلاً كذلك عن وقتها الضيِّق وعنه عدماً كحالة تعيُّن أداءها في كل وقتها الضيِّق دون الانشغال بأي شُغل آخر مزاحم عنها من المباحات المنافية كما كان يمكن

ص: 333


1- سورة النساء / آية 43.

أن يكون في وقتها الواسع إذا انتهى.

وهذا التَّرك المتصوَّر معناه عن مثل هذه الأوامر لم يظهر جليَّاً لمن قال به من كثير من الأصوليِّن إلاَّ بمعنى ترك التَّرك حسبما اعتادوا عليه، والعادة قد يصعب تركها، ولوليساوى ذلك الأمر مع النَّهي الَّذي اقتضاه عن ضدِّه العام في الوجود والعدم لتطبيق ذلك الأمر تامَّاً بدون منافاة مبطلة.

وكأنَّهم وللأسف ليس لهم تعبير اعتادوا عليه إلاَّ مع هذا الضيق أو اللَّفظ الملتوي في العبارة وكما سلف تعبيرنا عنه بعدم سلاسته فيها.

مع إضافة ما قد لا يمكن تحمُّله ممَّا قد يؤدِّيه معنى ترك التَّرك المشابه لنفي النَّفي، بل المؤدِّي إلى معنى الطَّلب الَّذي لا يتلائم مع مساواته لنفس طلب ذلك الأمر المولوي الأوَّل إن أخذ به.

وهو ما يضر أدبيَّاً بمستوى كون ذلك الأمر لابدَّ أن يقتضي النَّهي عن ضدِّه العام وجوداً أو عدماً، وإن أريد من ذلك التَّرك للضِّد هو خصوص التَّفرُّغ للصَّلاة دون غيرها من الأعمال بما فسَّرناه أكثر من مرَّة.

إلاَّ إذا استبدل لفظ ترك التَّرك الَّذي وصلوا إليه مكان ما يوصلهم البقاء عليه من توهُّم مساواته لما يؤدِّي إلى طلب التَّرك المماثل للأمر المولوي في خطورته المذكورة بلفظ (الكف)، وتطبيق معناه المانع في ضدِّيته لفعل أي مناف في كلا الوقتين الواسع والضيِّق، من دون تكرار طلب آخر لطلب الأمر الأوَّل المقتضي لمعنى النَّهي عن الضِّد لا ما يخالفه.

ثانياً (التَّرك أيضاً)، فبعد أن فسَّروا الضِّد بمعنى (التَّرك) آنفاً، وقمنا بمحاولة توضيح التَّفاوت الموافق للذَّوق الأدبي السَّليم عن غيره واختيار ما ينقِّح به المفسِّر للضَّد بما كان الأصح أن يكون بمعنى ما يوافق لفظ (الكف) دون غيره.

لابدَّ من ذكر الأقوال الَّتي اختلفوا فيها حول مسألته كما نوَّهنا عنه لبحثه بما

ص: 334

يستحقُّه من بعض التَّفصيل، وهي:-

أ ) ما لعلَّه لأجل التَّوهُّم الماضي، وهو أنَّ النَّهي معناه طلب التَّرك ذهب بعضهم إلى عينيَّة الأمر بالشَّيء للنَّهي عن الضِّد العام، وهو ما قد يصل إلى معنى الدِّلالة المطابقيَّة، وقد عبَّروا عن هذا التَّرك بكلمة (النَّقيض).

ولكن ردَّ ذلك: بانتفاء العينيَّة لا مفهوماً ولا خارجاً وجداناً، وكما سبق من التَّوجيه فيكون من مجرَّد الدَّعوى بلا دليل.

ب ) قيل: بأنَّه جزء مدلوله ومفهومه فيدل عليه بنحو الدِّلالة التَّضمُّنيَّة لتركُّبها من الأمر بالشَّيء مع المنع من التَّرك.

وردَّ أيضاً: بما حُقِّق في أنَّ الوجوب بسيط لا تركُّب فيه وفي حقيقته، وإنَّما كان في مقام شرح الإسم تقريباً، لإفهام أهل العرف، لا ما هو الأدق من التَّعريفات للأمور الذَّاتيَّة كما مرَّ في الجزء الأوَّل من الكلام عن التَّعريف للأصول.

ج ) وقيل بأنَّ النَّهي عن هذا النَّحو من الضِّذ لا هو عينه ولا هو جزؤه، وإنَّما هو من لوازمه العرفيَّة المتوقِّفة على الاستظهار من الأدلَّة المتناسبة معها، وهي وإن كانت من بعض الجوانب مرتبطة بمباحث الألفاظ كما لا يخفى إذا كانت ملازمتها لها بيِّنة بالمعنى الأخص.إلاَّ أنَّها ترجع بالآخرة في بعض مراتبها إلى الملازمات العقليَّة، لعدم انفكاكها الكامل عن الأوامر، كما لو كانت بيِّنة بالمعنى العام.

فهي من العقليَّات غير المستقلَّة دون أن تكون الملازمة غير بيِّنة، حذراً من أن تكون مع العقل عقليَّة صرفة، بل هي من غير المستقلَّة بمعنى الزَّجر.

ولذا قال جمع أنَّه (بالملازمة، لأنَّ طلب الشَّيء يلازم مبغوضيَّة تركه، وهذا وجه حسن ثبوتاً وإثباتاً)(1).

ص: 335


1- تهذيب الأصول / السيد السبزواري ج1 ص233.

أقول: إنَّ هذا الحسن ليس بدائم في تلازمه، إذ ربَّ أمر بالصَّلاة قد يُكتفى به عن قول لا تتركها، وربَّ نهي ك- (لا تشرب الخمرة) قد يُكتفى به عن ترك شربها.

ثالثاً: تتمَّة الكلام عن باقي ما عن الضِّد العام.

بعد أن ذكرنا الأقوال الَّتي في الضِّد العام الَّتي أرادوها أن تكون بمعنى التَّرك، وتخلَّصنا إلى ما قد اخترناه أن يكون هذا الضِّد بمعنى (الكَّف)، وأن يكون الَّلازم والملزوم في المقام من التَّخريجات العقليَّة غير المستقلَّة، لا الصِّرفة والعرفيَّة لا الدقيَّة.

ولأجل انسجامه مع بحث مقدِّمة الواجب وبحث التَّرتُّب بما بين الأهم والمهم الآتي بيانه ونحوهما، بما يُعد من توابع الأوامر والنَّواهي مع الحاجة إلى شيء من التَّوجيه.

نحتاج إلى بيان شيء هو كتتمَّة عن باقي ما عن الضِّد العام المذكور، وينضوي تحته بالطَّبع الضِّد الخاص على تفصيل آت، ولو كتوضيح لما مضى ذكره.

فإنَّ الأمر بالشَّيء مثلاً لمَّا كان على وجه الوجوب كافياً في الزَّجر عن تركه فلا حاجة إلى جعل للنَّهي عن التَّرك من الشَّارع زيادة على الأمر بذلك الشَّيء للإكتفاء بالمنع العقلي التَّبعي الَّذي أشرنا إليه.

فحيث لم يكن اختلافهم في الضِّد العام من جهة أصل الاقتضاء وعدمه كما مرَّ على ما سطَّروه مع وضوحه، وإنَّما كان في كيفيَّة ذلك.

فعليه إن كان مراد القائلين بهذا الاقتضاء أنَّ نفس الأمر بالفعل يكون زاجراً عن تركه فهو متَّفق عليه، بل لزومه ثابت، لكونه مقتضى الوجوب مع أنَّه ليس هو موضع النِّزاع في مسألتنا، لكون النِّزاع فيها هو النَّهي المولوي زائداً على الأمر بالفعل.

وإن أرادوا باقتضاءهم أنَّ هناك نهياً مولويَّاً عن التَّرك يقتضيه الأمر بالفعل على ما في النِّزاع، فلا تسليم به، لعدم الدَّليل المقوِّم، بل هو ممنوع.

ص: 336

لعدم قبول الدِّلالة على العينيَّة ولا التَّضمُّنيَّة إلاَّ ما ذكرناه بعدهما من إمكان استثناء الدِّلالة الالتزاميَّة الَّتي من توابع الأوامر والنَّواهي من العقليَّات غير المستقلَّة.

لكون العقل التَّابع لنصوص الأوامر والنَّواهي يدرك حتماً أنَّ نفس الأمر بالشَّيء كاف في الزَّجر عن تركه، كما أنَّ نفس النَّهي عن الفعل كاف للدَّعوة إلى تركه بدون حاجة إلى جعل جديد من المولى تعالى في كلا المقامين، لأنَّهما في الحقيقة من واد واحد.

ولذلك قدَّمنا ما يدل على عدم قبول أن يُفسَّر التَّرك بلفظ الطَّلب، لعدم تلائمه مع الأمر، إذ ليس هناك طلب للتَّرك وراءالرَّدع عن الفعل في النَّهي، ولا نهي عن التَّرك وراءطلب الفعل في الأمر، كما مرَّ من بعض التَّمثيل للتَّقريب بذلك.

رابعاً: تلخيص استدلالهم على الاقتضاء في الضِّد العام والخاص بوجهين:-

لكن ينبغي لنا قبل البدء بتلخيص وجهي استدلالهم على الاقتضاء في الضِّدَّين -- العام والخاص -- أن نعرِّف معنى تبعيَّة الضِّد العام للضِّد الخاص.

فهو الَّذي لابدَّ أن يبتني اقتضاء الأمر بالشَّيء للنَّهي عن ضدِّه الخاص، ويتفرَّع على القول باقتضائه للنَّهي عن ضدِّه العام.

أي كما أنَّه لا نهي مولوي عن الضِّد العام فمن باب أولى أن يصح القول بأنَّه لا نهي مولوي عن الضِّد الخاص كذلك، ولأجله يصح القول بحق ولو إجمالاً بأنَّ الأمر بالشَّيء لا يقتضي النَّهي عن ضدِّه مطلقاً، أي سواء كان عامَّاً أو خاصَّاً.

وهو ما قد سيتَّضح في ذكر وجهي الاستدلال والأمثلة، للتَّفريق بين العام والعام والخاص ولو إجمالاً.

وبعده لنعرف موجز الوجهين مع إضافة بعض ما يناسب تعليقاً منَّا عليه.

أ ) الوجه الأوَّل: عن جهة الملازمة المشار إليها سابقاً، فدليلهم على تبعيَّة الضِّد الخاص للضِّد العام أولويَّاً مركَّب من مقدِّمات ثلاث إن اجتمعت متلازمة على

ص: 337

صحَّة واحدة يصح ادِّعاؤها، وإلاَّ فلا.

أولاها: وجوب كلِّ ضد ملازم لعدم الضِّد الآخر فيما لا ثالث له، وعدم الأضداد الأخر فيما له ثالث، وسيأتي ما يشبهه في الشَّرط الثَّالث للأخذ بالتَّرتُّب قريباً.

وهذه المقدِّمة من الواضحات الَّتي لا ينكرها أحد، فالأكل وهو الضِّد الخاص الملازم للضِّد العام وهو ترك الصَّلاة الواجبة لابدَّ من تصحيح ملازمته وتبعيَّته لضدِّه العام أولويَّاً وجوداً وتأثيراً في وقت الصَّلاة الضِّيق.

بل وكذلك في وقتها الواسع -- إذا أراد المكلَّف الإتيان بها فتركها وهو الضِّد العام -- لابدَّ أن يتبعه الضِّد الخاص وهو الأكل مثلاً، لحرمة فعل المنافي ان افترض التَّرك.

ولكن بعد القول بعدم وجود النَّهي المولوي في الضِّد العام فلا موجب للضِّد الخاص له كذلك بهذا النَّحو من الملازمة فيمكن أن يختار ترك الصَّلاة في فسحة وقتها ولا نهي عن مثل الأكل، إلاَّ إذا تعيَّنت من مقتض ملزم فيها.

ويمكن أن ينهي عن الأكل بسبب الصَّوم وتترك الصَّلاة في فسحة وقتها مؤقَّتاً.

ثانيتها: المتلازمان متَّحدان في الحكم، فلو كان أحدهما واجباً يكون الآخر كذلك لاقتضاء التَّلازم ذلك.

فإذا كانت إزالة النَّجاسة عن المسجد واجبة نفسيَّة ذاتيَّة فوريَّة يكون ترك الصَّلاة الملازم لها أيضاً واجباً نفسيَّاً ذاتيَّاً لمكان الملازمة بينهما خارجاً.

لكن يمكن أن يُقال: بإمكان أن يكون النِّزاع بين من يقول بالتَّلازم بين الضِّد العام والخاص وبين من يقول بعدمه لفظيَّاً.

أي إنَّ كل من يوجب وجود الملاك للحكم من كلا فريقي النِّزاع في هذا الأمر، إضافة إلى من يوجب الإتِّحاد في الحكم منهما أيضاً يقول بالتَّلازم بينهما، ومن لم

ص: 338

يوجب وجودالملاك له يقول بالعدم.

إلاَّ أنَّ هذا قد لا يجدي نفعاً حين الموازنة بين حالتي الضدَّين عند التَّفحُّص في عالم الأدلَّة الَّتي لكلِّ منهما على حِدة بعدم العثور على أيِّ دليل من عقل أو نقل على أنَّ التَّلازم الوجودي بين المتلازمين موجب للتَّلازم الحكمي أيضاً بالنِّسبة إلى الحكم الواقعي، لوجود حالات مهمَّة من التَّفكُّك بين ما قيل أو يُقال من بعض التَّلازمات المدَّعاة ومنها المتصادفات.

إضافة إلى أنَّ بعض ما قيل عن بعض الأدلَّة اللَّفظيَّة بأنَّها كانت مولويَّة قد جمعت الضدَّين.

فما هي في واقعها إلاَّ حالة إرشاديَّة، فإدِّعاء العلاقة المولويَّة باطلة بمثل انفكاك وجوب الصَّلاة عن الوجوب مع سعة وقتها بسبب ما زاحمه من النَّجاسة مثلاً.

ثالثتها: تقدَّم أنَّ وجوب الشَّيء ملازم لمبغوضيَّة نقيضه، لكون النَّقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، وليسا كالضدَّين إذا كان لهما ثالث، فإذا كان ترك الصَّلاة الملازم مع وجود النَّجاسة واجباً نفسيَّاً ذاتيَّاً فوريَّاً يكون فعل الصَّلاة مبغوضاً وحراماً، لأنَّ الفعل نقيض التَّرك وبديله بالوجدان، فتفسد لا محالة، لأنَّ مبغوضيَّة العبادة عبارة أخرى عن فسادها، كما لا يخفى.

فالنَّتيجة أنَّ الأمر بالشَّيء يقتضي النَّهي عن ضدِّه خاصَّاً كان الضِّد أو عامَّاً.

لكن نبقى لنقول بأنَّ هذه المقدِّمة الثَّالثة وصحَّة القول بفساد العبادة فيها بسبب المبغوضيَّة الَّتي فيها حين أداءها مع حرمتها المذكورة في الجملة دون التَّفصيل يمكن الاقتصار عليها دون ما هو الأوسع.

لعدم القدرة على إثبات أنَّ كل مبغوضيَّة لأيِّة عبادة لأي سبب هي عبارة أخرى عن القول بفسادها إذا أدِّيت، كالصَّلاة

في ضيق وقتها دون سعته، ووجود محل طاهر في المسجد للصَّلاة فيه مع تلك النَّجاسة، وبالأخص لو احتمل عقلائيَّاً أن

ص: 339

خبرها لم يخف ولن يخفى على أحد من الواردين إلى ذلك المسجد، ليتبنَّوا الإزالة مكانه.

وسيجي بعض تفصيل آخر له يثبت هذه الصحَّة الإجماليَّة بلا ذلك التَّفصيل الَّذي قد يُدَّعى، ما لم نساو في القضيَّة بين سعة الوقت وضيقه، وبين حالتي الأداء والقضاء في المسؤوليَّة على المكلَّف الواحد وهو أوَّل الكلام.

وخلاصة نتيجة ما حملته هذه المقدِّمات الثَّلاث الَّتي مرَّت -- مع ذكر وجوب تلازمها على روي موحَّد في صحَّة ما تحمله كلُّها لتثبيت أمر تلازم الضِّد الخاص للضِّد العام كشرط مسبق له ممَّا مرَّ ذكره من الوجه الأوَّل بدلاً من عدمه بصحَّة الإيراد عليه --

بأنَّ المقدِّمة الأولى والأخيرة وإن كانتا صحيحتين من حيث كل منهما بما مرَّ من البيان عنهما.

إلاَّ أنَّ المقدِّمة الوسطى في بطلانها الَّذي مرَّ ذكره مع تقديم اشتراط أن تكون كل الثَّلاثة متوافقة على صحَّة مفصَّلة، لتثبيت التَّلازم المراد، وبما أنَّه لم يحصل فلا تلازم حينئذ يمكن ادِّعاؤه فضلاً عن قبوله.ب ) الوجه الثَّاني من جهة هذه المقدِّميَّة الَّتي أشرنا إليها سابقاً في معروضات هذا البحث، وهي:-

مقدِّميَّة عدم أحد الضدَّين لوجود الآخر، وتلخيصه بدعوى أنَّ ترك الضِّد الخاص مقدِّمة لفعل المأمور به.

ففي المثال المتقدِّم للمقدِّمة الأولى من الوجه الأوَّل آنف الذِّكر لمحاولة عرض الاستدلال على هذا النَّحو من مسلك المقدِّميَّة يكون ترك الأكل مقدِّمة لفعل الصَّلاة وإن كان الأكل في أصله مباحاً مع سعة الوقت ومقدِّمة واجبة مع ضيقه، فيجب ترك الضِّد الخاص.

ص: 340

وإذا وجب ترك الأكل حرم ضدُّه وهو ترك التَّرك للأكل، لأنَّ الأمر بالشَّيء يقتضي النَّهي عن الضِّد العام.

وإذا حرم ترك ترك الأكل، فإنَّ معناه حرمة فعله، لأنَّ نفي النَّفي اثبات، فيكون الضد الخاص منهيَّاً عنه تابعاً للضدِّ العام بهذا النَّوع من الاستدلال.

ويمكن أن نبقى فنقول تعليقاً على هذا بشيء من الصَّحَّة في الجملة إذا لم يكن النَّهي نهياً مولويَّاً عن الضدِّ العام كما قد سلف أن قلنا بمنعه، ولذا جعلنا الأدلَّة الَّتي كانت بكونها إرشاديَّة، وكان التَّرك بمعنى العدم دون الوجودي خوف انقلابه إلى معنى الطَّلب الَّذي مرَّ نفيه.

ولكنَّ هذا المعنى لا يتناسب مع ما نعرضه من دليل الوجه الثَّاني على مسلك المقدِّميَّة خوف الوقوع في شبهة الكعبي الَّتي تقلب المباح وهو الأكل في سعة وقت الصَّلاة إلى كون تركه واجباً.

مع امكان دفعها بنفي المقدِّميَّة رأساً، فلا موضوع للشُّبهة، وأيضاً أنَّه يكفي في ترك الحرام وجود الصَّارف النَّفسي عن فعله بأي وجه اتَّفق.

وإذا قلنا بأنَّ التَّرك بالمعنى الوجودي دون العدمي فلا مفرَّ أيضاً من الوقوع في خطر الدَّور الحتمي، وهو عند البناء على أوَّ ل أقوال أربعة في المقام، وهو قول قائل بأنَّ ترك أحد الضدَّين لكل من الأهم والمهم مقدِّمة لوجود الآخر، وترك الآخر مقدِّمة لوجود الأوَّل، فيتوقَّف ترك أحدهما على ما يتوقَّف عليه ترك الآخر نفسه مقدِّمة لوجوده.

إلاَّ أن يقال بأنَّ التَّوقف من طرف الوجود فعلي، ومن طرف التَّرك - المضاد للعدم - شأني اقتضائي، ساعد عليه عدم العليَّة والمعلوليَّة في الأعدَام، فنقبله في سلاسته دون أن نقبل ترك التَّرك هذا مفسِّراً بالطَّلب الآخر المقابل للأمر الأوَّل لقبول الأمر الإرشادي وقبول كون النَّهي بمعنى الزَّجر والكف على أن لا تكون عدميَّته من

ص: 341

نوع العدم المحض ليتصرَّف العقل غير المستقل بما يتناسب مع ما هو مسموح له في الأمور.

خلاصة ما توصَّلنا إليه في نتيجة الكلام

(حول وجهي استدلالهم المختصر بالوجهين معاً)

قد توصَّلنا في النَّتيجة عن الوجه الأوَّل على مسلك الملازمة أن لا تلازم حينئذ بنحو من التَّفصيل بين الضِّد العام والخاص يمكن ادِّعاؤه، فضلاً عن قبوله، لوجود حالات مهمَّة من الانفكاكات بينهما ممَّا مرَّ، فلم تضعف إلاَّ الحالة الإجماليَّة.

وكذلك عن الوجه الثَّاني على مسلك المقدِّميَّة الَّذي توصَّلنا فيه بكون الرِّضا بالصحَّة فيه في الجملة أيضاً دون التَّفصيل إذا لم يكن النَّهي فيها نهياً مولويَّاً عن الضدِّ العام، وكان التَّرك بمعنى العدم، وفسَّرناه بالعدم الظلِّي دون المحض.

فلا مجال للقول بأنَّ الأمر بالشَّيء يقتضي النَّهي عن ضدِّه مطلقاً لا بالملازمة ولا بالمقدِّميَّة.

التَّابع الرَّابع عشر: هل أنَّ الأهم في بحث الضِّد أنَّه علمي؟

أم أنَّه ليجني ثماراً ولو بشرط؟

لأجل أن لا يكون البحث عن الضِّد في الأهميَّة لخصوص الغرض العلمي فقط دون أن يستفاد منه في الخارج من المصاديق العلميَّة كثمرة ترتجى ولو في بعض جوانبه دون جميعها، وإن كان الغرض العلمي وحده للأشياء قد يكون مفيداً لتوسعة الذِّهن حتَّى في مثل قضيَّتنا الأصوليَّة الخاصَّة الَّتي يبتني البحث فيها غالباً حبَّاً للإستثمارمنه وخشية من التَّطرقات العبثيَّة بلا جدوى.

ص: 342

وإن كان بعضها قد يُعد من الفوائد المحرزة في ذاتها ولو قصداً إليها للسَّعي لها في الطَّريق، لكنَّها لقلَّتها أو ندرتها يكون البحث فيها كالجاف.

أو هي موجودة فعلاً طبيعيَّة مع قلَّتها بين التَّكاليف، ولكن لقلَّة الابتلاء بها بين العوام وغيرهم من المحتاجين ممَّا قد لا يجعل بعض فقهائهم المرموقين لديهم ولو في بعض الأدوار مهتمِّين بها كثيراً ولو بحجَّة ندرة السؤال عنها أو قلَّة الطَّلب للتَّعرُّف عليها فيتركون البحث العلمي، بل وكذا الفقهي أيضاً فيها.

فمع احتمال وجود شيء من مقتضيات التَّفكير العلمي والعملي -- والعثور على ما به النَّفع المحرز ولو إجمالاً مع انتفاء الموانع المضرَّة وكثرة الحث المشجِّع دينيَّاً على تطوير أمور الحوزة العلميَّة والعمليَّة وتوسعتها، بل قد يكثر النَّفع القليل عند التَّوغُّل العلمي الأصولي والتَّعمُّق البحثي العلمي إن احتملت القوَّة في العثور على المصاديق المعتد بها من ذلك --

يجب السَّعي لذلك جهد الإمكان ولو بمقدار الحاجة دون الأكثر.

لأنَّه ما من قضيَّة في وجود المكلَّفين إلاَّ ولها حكم إلهي اهتمَّت به الشَّريعة في مصادرها الرَّصينة تصريحاً وتلويحاً تتوسَّع لأجلها الاحتمالات المثمرة إن أعتني بخدمتها على ما يرام، وإن كانت في البداية علميَّة فقط.

ومن ذلك أمور الأضداد مع التَّركيز على الخاصَّة منها لما مرَّ من الكلام السَّابق عند البحث عن الضِّد ونفي الارتباط بين العام والخاص ولو لخصوص هذا الكلام الحالي.

ولعلَّه لأجل أهميَّة قاعدة (اشتغال الذمَّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني) ولغيره تطرَّق أجلَّة علمائنا قدس سره إلى هذا الكلام التَّكميلي المهم بعد انتهاء تطرُّقهم إلى بحث الضِّد ، وهو موافق لنسق أطروحتنا الأصوليَّة المتواضعة هذه بين أيدي أعلامنا لاهتمامنا فيها جهد الإمكان نوعاً بالمثمرات من الأصول ولو بعد حين.

ص: 343

وعدم تبعيَّة الأضداد الخاصَّة للعامَّة بنحو المطابقة والتَّضمُّن وحتَّى بنحو الملازمة على مسلك الملازمة وعلى مسلك المقدِّميَّة.

إلاَّ بنحو ما تخلَّصنا إليه من اتِّخاذ تصرُّفاتنا في هذه الأمور إذا كانت أدلَّة تلك الأوامر مع أضدادها إرشاديَّة لا مولويَّة.

لاستكشاف أنَّ ارتباط الخاصَّة منها فيه مجال للإستثمار أم لا؟ وعن طريق اتِّصاف الضِّد بالعباديَّة أم بغيرها؟ وفي حالة الاقتضاء أم بعدمه؟ بمثل معرفة القول بفساد العبادة أم بعدمها؟

كما في مقدَّمة الواجب لو حصلت مضادَّة خاصَّة وكبعض أمور التَّرتُّب الآتية قريباً ممَّا بين الأهم والمهم وغيرهما ممَّا مضى وما سيأتي كذلك بانحصار مجال الاستثمار فيها مع تلك الأضداد الخاصَّة فقط.

والعمدة في الشُّروط الَّتي وضعوها في المقام لتصحيح مجال سلامة ما يؤمَّل منه الاستثمار من عدمه هو صحَّة اتِّصاف الضدَّية بالعبادة دون غيرها لتجويز اطلاق الفساد عليها عند المخالفة من عدمه، لأنَّ حالة عدمه لا موضوع لتصحيح اطلاق الفساد علىحالة المخالفة فيها مع اشتراط القول بالاقتضاء أيضاً وحصل تزاحم بين ذلك الواجب وبين ضدِّه.

وأمَّا مع القول بعدم الاقتضاء فلا مجال لإطلاق الفساد على الضِّد حتَّى مع عباديَّته.

وهذا ما يحتاج في البداية إلى شيء من التَّوضيح ولو لافتراضه صحيحاً على علاَّته لاحتمال المناقشة في أموره أو بعضها إن اقتضت إليها.

الأوَّل: كما لو كان هناك واجب لم يتقيَّد وجوبه في كونه عبادة كاحتمال الحاجة إلى تطهير الملابس الواجب، وكان ما يضادده نافلة فلا شكَّ في تقدُّم الواجب على المندوب، بل بناءاً على اقتضاء الأمر بالشَّيء النَّهي عن ضدِّه الخاص لا يصح

ص: 344

الاشتغال بالنَّافلة مثلاً إذا كانت مطلقة كغير الرَّاتبة، وقد حلَّ وقت صلاة الفريضة، وهو ما يقتضي وقوع النَّافلة فاسداً لو كان حال التَّزاحم مع الضِّد وهو مثل غسل الملابس.

وبناءاُ على هذا وعلى عموم وجوب الواجب وإطلاقه تدخل الفوائت الواجبة الَّتي يجب قضاؤها أيضاً في تقدُّمها على النَّوافل المطلقة إذا حصلت الرَّغبة في مزاحمة النَّافلة للفريضة لتقضى بحجَّة سعة أوقات الفريضة القضائيَّة.

لكن يبقى تقدُّم هذه الفريضة لأصل وجوبها المقدَّم على النَّافلة مطلقاً، ويزداد في تأكُّده كثرة تقصير المكلَّف السَّابق تجاه بعض الواجبات من ذلك وكبر عمره وعجزه عن الخلط بناءاً على النَّهي عن الضِّد.

وأمَّا بناءاً على القول بعدم اقتضاء النَّهي عن الضِّد فعدم جواز فعل النَّافلة يحتاج إلى دليل خاص إذا اتُّبعت شروط الصحَّة كالطَّهارة.

ويلحق بهذا ما لو كان الواجب غير عبادي، كوجوب غَسل الملابس المتنجِّسة مقدِّمة لأداء الفريضة معها مع القول بعدم الاقتضاء فهو غير مقدَّم على النَّافلة إلاَّ بدليل، لأنَّه من توابع الأمور العقليَّة غير المستقلَّة، وسيأتي ذكره في بحث التَّرتُّب.

ولأجل عدم الدَّليل فلا حجيَّة على بطلان النَّافة، وبالأخص إذا كان وقت الفريضة غير ضيِّق.

نعم يمكن أن تستثنى النَّوافل الرَّاتبة لورود الأمر بها كورود الأمر بالواجبة إذا ساوينا بين الأمرين في موضوعيَّة أمر الاقتضاء المطلق وأثره في ضدَّية كل منهما، وبالأخص لو كان الواجب موسَّعاً إن أمكن تصوُّر المزاحمة بينها وبين صلاتي الظُّهرين فلا مانع من تلك النَّوافل مع سعة وقتي الظُّهرين وإلاَّ فلهذه النَّوافل وقتها المحدَّد في الفقه الشَّرعي بدون مزاحمة.

الثَّاني: أن يكون الضِّد العبادي واجباً، ولكنَّه أدنى أهميَّة من الواجب الأساس

ص: 345

في الشَّريعة، كما في مورد اجتماع انقاذ غريق محترم إنسانيَّاً بالمزاحمة مع الصَّلاة الواجبة.

فإنَّه لمكان هذا التَّزاحم بين الأمرين الواجبين لمتضادَّي متعلَّقيهما، حيث أنَّ كل أمر يتولَّد منه ضد للأمر المقابل له.

لابدَّ أن يتقدَّم الواجب الأوَّل مع عدم عباديَّته على الثَّاني حتَّى مع عباديَّته مثل صلاة الفريضة في وقتها الواسع، بل حتَّى في ضيقه الخاص تقديماً للصَّالح العام العادلالإنساني على الحق الإلهي الخاص.

فلو قُدِّم الثَّاني المسبِّب لهلاك الغريق استهانة بضدِّ الثَّاني من الأمر الأوَّل، لابدَّ أن يكون أداؤها فاسداً بناءاً على عباديَّة الواجب الثَّاني واقتضاء أمر الواجب الأوَّل النَّهي عن الضِّد الخاص.

إلاَّ في حالة ما لو أدَّى المكلَّف صلاته وصادف مجيء آخر أنقذ الغريق، فإنَّ صحَّة صلاته تحتاج إلى دليل، مع ضخامة إثم هذا النَّوع من التَّجرِّي المحتاج إلى الاستغفار والتَّوبة.

أو من أدَّى صلاته في ضيق وقتها مع وجود احتماله العقلائي الوارد بمن يحقِّق انقاذ الغريق من الآخرين، وقد تحقَّق مع رجحان الاحتياط بالاستغفار والتَّوبة من شبهة التَّجرِّي المخالف إن حصلت.

الثَّالث: أن يكون الضِّد العبادي واجباً أيضاً، ولكنَّه موسَّع الوقت في مجاله الشَّرعي أثناء سعته والأوَّل مضيَّق فيه.

ولا شكَّ في أنَّ المضيَّق مقدَّم على الموسَّع حال سعته، وإن كان الموسَّع أكثر أهميَّة منه، لعدم وجود ضرر عند اختيار المزاحمة من المكلَّف بالموسَّع للمضيَّق، ما لم يكن في باقي حصص الموسَّع ممَّا يزامن المضيَّق من الواجب الأهم ما يُعدُّ مشغلاً له عن الاهتمام بالمضيَّق.

ص: 346

كاجتماع قضاء الدَّين الفوري مع القدرة على الوفاء به مع الصَّلاة في سعة وقتها.

وكذلك إزالة النَّجاسة الواجبة فوراً عن المسجد، لو لم تشمل الآخرين مع الصَّلاة المذكورة في سعة الوقت.

وعلى هذا ففي حالة تساوي المثالين المذكورين في نظر أهل العلم مع البناء على الاقتضاء وعباديَّة الضِّد يظهر الفساد عند المخالفة في تلك الصَّلاة.

وفي حالة التَّفاوت النَّظري بينهم، كاختلاف المثال الثَّاني عن الأوَّل، كمن ترك من عليه الإزالة بمثل عدم الابتلاء بحاجة المصلِّين الآخرين فعلاً للصَّلاة مع وجود بقعة طاهرة لصلاة مصلٍّ واحد اتَّخذها لنفسه فصلَّى صلاته في تلك السِّعة من الوقت مع تركه للإزالة مع فوريَّة وجوبها ليقوم بها بعد انتهاء صلاته حسبما يستفاد من أدلَّة فوريَّة ذلك عموماً أو إطلاقاً أو كليهما.

فإنَّه قد يختلف النَّظر حالة وجود الابتلاء بحاجة المصلِّين إلى كل بقاع المسجد المتنجِّسة للتَّطهير، وفوريَّة الإزالة عليه لصلاتهم جميعاً مع عدم وجود بقعة خاصَّة طاهرة له ليصلِّي فيها.

ففي الصُّورة الثَّانية هذه يمكن أن يتصوَّر الفساد عند المخالفة أكثر من الأولى.

الرَّابع: أن يكون الضِّد العبادي واجباً أيضاً، ولكنَّه مخيَّر كخصال الكفَّارة لمن ترك الصَّوم عمداً، وكان قد عيَّن على نفسه سفر يوم معيَّن أثناء وجوب الكفَّارة عليه بنذر ونحوه، وإن كان المخيَّر أكثر أهميَّة من المعيَّن، لأنَّ المخيَّر له بدل دون المعيَّن.

لذلك يجب أن يتقدَّم المعيَّن على المخيَّر، فلو ترك السَّفر المعيَّن وأشغل نفسه بصومالكفَّارة المتنافي مع السَّفر -- وبنينا على أنَّ مطلق الأمر بالشَّيء يقتضي النَّهي عن ضدِّه الخاص -- لابدَّ أن يكون الصَّوم منهيَّاً عنه وفاسداً.

ص: 347

هذه الأمور الأربعة الَّتي ذكروها باستعراضنا مضمونها الإجمالي عنهم من موارد الاستثمار المستقات من المظان الاستدلاليَّة الشَّريفة عند العثور عليها هنا وهناك مع ما ضممنا إليها دمجاً بعض إضافاتنا الَّتي قد تشير إلى إمكان الحاجة إلى ضمِّ مناقشات أخرى مفيدة مضت أو هي آتية.

كما في أمر واجب غيري تبعي لفرض واجب أساسي مولوي كالوضوء لصلاة فريضة في سعة وقتها، أو حتَّى في ضيقه إن زاحمها وجوب انقاذ غريق فوراً، بحيث لو ترك لمات ولم يحتمل آخر ينقذه.

فالوضوء الَّذي ينوى لصلاة الفريضة دون الكون على الطَّهارة مثلاً مع سعة الوقت لها ولحصص كثيرة حينما تبطل الحصَّة الأولى عند المزاحمة الَّتي ذكرناها من الغريق بغرقه وموته.

هل يكون بتبعيَّته للصَّلاة دون الكون على الطَّهارة باطلاً كذلك، ليتوضَّأ صاحبه مرَّة أخرى لإعادة الصَّلاة الباطلة في الحصَّة الثَّانية من الوقت؟

أم لا داعي لإعادته لصلاحيَّته لأداء الصَّلاة في كل حصصها من ذلك الوقت، ولكون الأمر بالتَّبعي مستقلاًّ عن الأمر بالأساسي ما لم يحصل النَّاقض، أم لا؟

فقال بكلٍّ قائل.

فعلى القول الأوَّل يمكن أن يتنجَّز معنى الاستثمار للتَّبعيَّة إن قلنا بالملازمة.

مع ترجيح القول الثَّاني، لاستقلال الأمر بالتَّبعي، ولعمومه وإطلاقه وعدم تبعيَّته لخصوص ما بطل من الحصَّة الأولى للصَّلاة، بل يصلح هذا لكل ما يشترط فيه الطَّهارة من الأعمال.

ويتبع الوضوء التَّيمُّم أيضاً لو جاء ظرفه لنفس السَّبب، وهو استقلال الأمر به لو فقد الماء، ولرواية (يكفيك الصَّعيد عشر سنين)(1) وغيرها.

ص: 348


1- وسائل الشيعة (آل البيت) ج3 ص386.

وعليه يكون الاستثمار هنا ضعيفاً، وإن صادف بعض فساد في الواجب المتبوع.

ولعلَّه لخروج الواجب المتبوع بالدَّليل المثبت للفساد وبما يختلف عن دليل التَّابع المستقل.

وكل هذا عن الواجب الأساسي -- إذا قيل بفساده تجاه ما هو الأهم في الأمور الأربعة الماضي ذكرها مع ما يشابهها -- مبني على القول بالاقتضاء ونحوه.

وأمَّا على البناء على عدم الاقتضاء كما مضت الإشارة إليه فلا وجه للفساد أصلاً، بل وكذا بناءاً على الشَّك في الاقتضاء وعدمه.

لإمكان حلِّه بالاستعانة بأصالة الصَّحَّة وعدم المانعيَّة في العبادة الَّتي يكون تركها -- وهي صلاة الفريضة حتَّى في سعة وقتها -- مقدِّمة لإتيان الواجب الأهم، وهو انقاذ الغريق عند تصوُّر التَّزاحم مثلاً بين الحالتين.مع تثبيتنا لعدم الاقتضاء، الَّذي لا يُبقي مجالاً للقول بأي معنى لإدِّعاء الفساد في فريضة الصَّلاة المهمَّة لو أديَّت وتُرك الأهم وهو الإنقاذ.

لأنَّ الأهميَّة جاءت من تشخيص خارجي عقلي غير مستقل، من دون أي ارتباط بين الأمرين، وهما انقاذ الغريق ووجوب الصَّلاة، حتَّى يُقدَّم وجوب الصَّلاة -- وبالأخص في ضيق وقتها -- على وجوب الإنقاذ، لو كان كلا الأمرين مولويَّين في الآن الواحد، وكان على هذا استقرار أراء المحقِّقين من العلماء.

بل عُرف عن الشَّيخ البهائي قدس سره القول ببطلان الثَّمرة العمليَّة للمقام تخصُّصاً، حيث قال في مأثوراته:-

(إنَّ الثَّمرة إنَّما تتصوَّر في العبادة المأمور بها عند ابتلاءها بمزاحمة الضِّد الأهم، وهو غير ممكن، لعدم إمكان صدور الأمر بالضدَّين من العاقل، فضلاً عن الحكيم تعالى فتبطل العبادة من حيث عدم الأمر.

فلا تصل النَّوبة إلى القول بأنَّ الأمر بالشَّيء نهي عن ضدِّه أوَّلاً؟، ولا إلى أنَّ

ص: 349

النَّهي في العبادة يوجب الفساد.

لأنَّ كل ذلك مبني على إمكان تحقُّق الأمر بالعبادة المبتلاة بالضِّد الأهم، وهو غير ممكن.

والاستدلال للبطلان بعدم المقتضي للصحَّة أولى من الاستدلال بوجود المانع عنها كما لا يخفى)(1).

أقول: لكن لا يمنع هذا عن إمكان توجيه الرَّد إجمالاً بعدم الدَّاعي إلى مطلق التَّشدُّد في مجال الجمع بين أمرين متضادَّين إلهيَّاً في آن واحد.

أحدهما: عن ملاكه الخاص حتَّى لو كان هو الأقل أهميَّة.

وثانيهما: إن كان الأهم وإن كان عند دليل عقلي غير مستقل مع إمكانيَّة اثبات الأمر بالضِّدَّين على نحو التَّرتُّب الآتي بيانه الآن لاحقاً.

التَّابع الخامس عشر: بحث التَّرتُّب.

ممَّا دار بين الأصوليِّين مأخوذاً بعد الكلام عن مسألة الضِّد المتفرِّعة عن بحث الأوامر والنَّواهي الواسع.

هو الكلام عن التَّرتُّب، بل جعل موضوع بحثه تابعاً لموضوع بحث الضِّد، لتبعيَّته للأوامر والنَّواهي مع كونه بهذه التَّبعيَّة أيضاً يرتبط بأمور الملازمات العقليَّة غير المستقلَّة.

بل ساد النِّقاش في أمره نقضاً وإبراماً بمقدار ما ضربوه حول ذلك من الأمثلة المختلفة المتعارفة الآتية بين قداماهم ومحدثيهم من هؤلاء العلماء حوله ممَّا بين الأهم والمهم من تلك الأوامر والنَّواهي.

ص: 350


1- تهذيب الأصول / السبزواري ج1 ص228.

على أن يكون معنى هذا التَّرتُّب مردَّداً عندهم بين أن يكون:-

عبارة عن لزوم التَّعرُّف على صحَّة تصوير أمرين فعليَّين بالضدَّين من كلِّ منهما في آن واحد.

أو على أن يكون الوجوب بالنِّسبة إلى الأهم مطلقاً وفعليَّاً على الإطلاق، وتكون فعليَّة الوجوب بالنِّسبة إلى غير الأهم مشروطة بعصيان الأهم.

ومع عدمه لم يكن وجوبه فعليَّاً أم ماذا؟

وعلى كلا المعنيين ينبغي أن يُفترض من كل من الأمرين للإستيعاب الَّلازم ما يقتضي النَّهي عن ضدِّه، أم لا؟ بناءاً على حصوله في موارد الحصول.

وإنَّ النَّهي المذكور هل يقتضي الفساد في العبادة، أم لا؟

إذا كان كل من الأمرين يحثُّ على العبادة وجوباً أو استحباباً أو وجوباً أهم من وجوب غير الأهم، أو ما بين وجوبين مضيَّق وموسَّع، وهكذا ممَّا يتَّضح عند التَّوسُّع في الأمثلة.

ولأجل التَّوضيح بالنَّحو الأكثر لما ذكروه من صورتي معنى التَّرتُّب لننقل ما ذكره الشَّيخ المظفَّر قدس سره في أصوله بقوله:-

(فإذا قلنا بأنَّ صحَّة العبادة لا تتوقَّف على وجود أمر فعلي متعلِّق به، وقلنا بأنَّه لا نهي عن الضِّد، أو النَّهي عنه لا يقتضي الفساد، فلا إشكال ولا مشكلة، لأنَّ فعل المهم العبادي يقع صحيحاً حتَّى مع فعليَّة الأمر بالأهم، غاية الأمر يكون المكلَّف عاصياً بترك الأهم من دون أن يؤثِّر ذلك على صحَّة ما فعله من العبادة)(1).

ثمَّ قال في الصُّورة الثَّانية:-

(وإنَّما المشكلة فيما إذا قلنا بالنَّهي عن الضِّد، وأنَّ النَّهي يقتضي الفساد، أو قلنا

ص: 351


1- أصول الفقه / المظفر ج2 ص372.

بتوقُّف صحَّة العبادة على الأمر بها -- كما هو المعروف عن الشَّيخ صاحب الجواهر(1) قدس سره، فإنَّ أعمالهم هذه كلُّها باطلة، ولا يستحقُّون عليها ثواباً، لأنَّه إمَّا منهي عنها، والنَّهي يقتضي الفساد، وإمَّا لا أمر بها، وصحَّتها تتوقَّف على الأمر)(2).

أقول: إنَّ البيان الأوَّل لما ذكره الشَّيخ قدس سره يظهر منه المعنى الإيجابي لصالح التَّرتُّب ثبوتاً وإثباتاً على المبنى الخاص الَّذي في هذا الأوَّل، وهو عدم لزوم أن يكون كل عصيان بترك الأهم وفعل المهم العبادي موجباً لفساد العبادة، ما عدا حالات خاصَّة، وإنَّما الحاجة إلى التَّوبة.

وأمَّا بيانه الثَّاني: وعلى مبنى الصُّورة الثَّانية الَّتي لها وجودها عند الأصوليِّين أيضاً، وهو القول بالعصيان المصحوب بفساد العبادة.

لكن مع عدم ثبوت وإثبات ما يقتضي فسادها بنحو الموجبة الكليَّة، إلاَّ فيما عرفمن ذلك بين الفقهاء فلا مجال إلاَّ لإبقاء الأمل في الحالة النَّظريَّة لصالح التَّرتُّب الَّتي لابدَّ أن يظهر أصحابها قدرتهم على الإثبات المصداقي مع الثُّبوت، لعدم الاستحالة في المقام ممَّا سيتجلَّى أمره.

وممَّا ذكروه من الأمثلة في المقام ولصالح البيان الأوَّل مع الإمكان النَّظري للبيان الثَّاني عن المحاورات العرفيَّة قبل البدء بما ورد ممَّا بين الأهم والمهم من الأوامر وملحقاتها الشَّرعيَّة والَّتي تُعد أصدق شاهد على الثُّبوت والإثبات وإمكان القول به مع الامتناع قول المولى (اسقني ماءاً وافرش لي سجَّادتي وإن عصيتني في الأوَّل فلا تعصني في الأخير).

فالعرف يقضي بصدور الأمرين معاً من سيِّد العبد في الآن الواحد، مع أسبقيَّة السَّقي وأهميَّته، لكون الأوَّل مع احتمال العصيان بتركه وكون مثابة مسؤوليَّة التَّرك

ص: 352


1- جواهر الكلام: ج 9 ص155 - 157.
2- أصول الفقه / المظفر ج2 ص372 -- 373.

كمثابة ترك الأولى أو ما قد يؤدِّي إلى مجرَّد الملامة للكراهة المشابهة للعصيان اللُّغوي.

أو حتَّى العصيان الملحق بالشَّرعي الَّذي قد يصل إليه بنحو العنوان الثَّانوي، وهذا قد لا ينفي المساواة بين هذا الأهم وبين المهم الَّذي تلاه.

وهو معنى الآن الواحد المذكور آنفاً دون أن يكون اشتراط سَبق ترك الأهم موجباً للعصيان والحرمة مطلقاً، وكذا الفساد مطلقاً لو قدَّم المهم على الأهم.

ولذا لا ينبغي رفض محاولة سعي المانعين للتَّرتُّب لعدم قدرتهم على العثور على ما يُحقِّقه ثبوتاً وإثباتاً، بحجَّة عدم مصادفتهم لمصاديق هذه القدرة، لعدم المانع من بقايا ما في أذهانهم النَّظريَّة، لسعة ما حوته الأوامر والنَّواهي، ولأنَّه ما خفي على فقيه طريق، كما مرَّ وكما سيجيء.

وممَّا ذكروه من الأمثلة المشابهة في المقامات الشَّرعيَّة، وهي كثيرة كحالات تعليق الوجوب على الاختيار والعصيان، مثل تعليق وجوب القضاء المهم على ترك الأداء الأهم وعصيان أمره صلاة وصياماً وحجَّاً وعمرة ونحوها.

وكتعليق الأمر بالكفَّارات المهمَّة على ارتكاب المحظورات الأهم في الأمر بالإنتهاء عن فعلها صوماً وإحراماً وقتلاً ونحوها.

ونسب المشهور إلى أنَّ أوَّل من أسَّس ونبَّه على نظريَّة "الترتب" هو المحقِّق الكركي قدس سره(1) والَّتي هي من أدق النَّظريَّات العلميَّة،وأنكر على أساسها "ثمرة الضِّد".

وتبعه جملة من الأساطين والأساتذة المتقدِّمين، منهم المجدِّد الشِّيرازي الكبير قدس سره(2) وتلميذه المحقق الفشاركي قدس سره الَّذين شيَّدوا أركانه وبالغوا في الفحص والتَّحقيق حوله بتقديم مقدِّمات كثيرة.

ص: 353


1- جامع المقاصد:5/ ص12 - 14.
2- درر الفوائد ج1 ص 107، تقريرات المجدّد الشيرازي 2: 273.

وقد عنونها الشَّيخ كاشف الغطاء الكبير قدس سره(1) بالعنوان الخاص المتعارف حاليَّاً، ردَّاًعلى ما أشكله الشَّيخ البهائي قدس سره على صحّة العبادة عند عدم الاقتضاء.

كما وقد نقَّح هذا البحث الدَّقيق ورتَّبه المحقِّق النَّائيني قدس سره(2)، وتبعه تلميذه أستاذنا السيِّد الخوئي قدس سره(3).

إلاَّ أنَّ الشَّيخ الأنصاري قدس سره(4) قد أنكر في رسائله ما يتعلَّق بالأهم والمهم حول هذا التَّرتُّب أشدَّ الإنكار، وتبعه صاحب الكفاية الشَّيخ الآخوند قدس سره.

ولم يكن هذا البحث في الأزمنة الغابرة عند الأقدمين قدس سره بالنَّحو المتنازع فيه حدَّياً له عين ولا أثر، إلاَّ ما ذكر عنه ذكراً نظريَّاً لا أكثر.

لكن مع عدم الإشكال من أحد نوعاً قي صحَّة جعل المتنازعين خطاباً وملاكاً فإنَّه يكون أصل النِّزاع في أمريهما لفظيَّاً كالتَّردُّد بين المتنازعين قبل حصول القدرة على انقاذ الغريق.

فإنَّ من يثبت قدرة المكلَّف على الامتثال يقول بوقوع التَّرتُّب لا محالة، ولكنَّه معترف بالامتناع مع عدم القدرة.

ومن يثبت عدم القدرة على الامتثال لا مناص له إلاَّ القول بالامتناع.

ولهذا وأمثاله قد تكون أسباب امتناعات المانعين ظاهرة دون شيء آخر تبعاً للنَّتيجة، لا للمانع النَّظري العقلي في كلا مرحلتي الثُّبوت والإثبات كقاعدة يُبنى عليها.

فالنِّزاع الأصولي بين ما نوَّهنا عنهم في مقام الإثبات والامتثال وبما يزيد على

ص: 354


1- كشف الغطاء: 27.
2- مقالات الأصول 1: 342.
3- محاضرات في أصول الفقه ج2 ص397.
4- فرائد الأصول 2: 761.

النِّزاع اللَّفظي إن أصَّروا عليه بين القول بالتَّرتُّب وعدمه.

ما هو إلاَّ لمحاولة من يقول بالتَّرتُّب على أساس توفُّر شروط خاصَّة، لتكوين قاعدة كليَّة له للتَّمسُّك بها بين كل ما هو أهم ومهم من القضايا الشَّرعيَّة، حينما يصدران في آن واحد، ولو ليتزاحما في الآداء، مع إمكان ذلك فيهما كما في بعض ما مرَّ.

فالأهم الَّذي قدَّمه من يقول بتقدَّمه على المهم -- بناءاً على الأخذ بقاعدة الأولويَّة في جميع الموارد، أي حتَّى فيما لم يقبل التَّطبيق على هذا النَّحو، لخروجه بالنَّص ولو في بعض المقامات دون غيرها كقوله تعالى [فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا](1)، لحرمة الأشد حتماً كالضَّرب والقتل ونحوهما على الأبناء.

وكقوله تعالى [وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا](2)، وهو ما يحرم مؤكَّداً على أولياءهنَّ إكراههنَّ عليه حتَّى لو لم يردن التَّحصُّن، بل عليهم منعهنَّ عن التَّسبيب --

فهو غير مقبول، لعدم جريان هذه القاعدة مع ما خرج عنها.والمهم الَّذي يخضع للأهم -- وإن كان بكل بساطة ولو من الجهة اللَّفظيَّة، سواء تعمَّق معناها، أو كان سطحيَّاً -- فإنَّه لا يمكن من جهتها أيضاً تكوُّن هذه القاعدة بتمام خضوعه للأهم، بنحو انسلاب اختيار المختار وفي كل حالة، حتَّى إذا كان الأمر من الأهم (يقتضي النَّهي عن ضدِّه)، وهو فعل المهم، وإنَّ النَّهي عنه (يقتضي الفساد في العبادة)، للقول ببطلانه.

لعدم ثبوت كليَّة (كل أمر يقتضي النَّهي عن ضدِّه) وعدم كليَّة (كل نهي يقتضي الفساد في العبادة) إلاَّ في بعض حالات من الجهتين.

ص: 355


1- سورة الإسراء / آية 23.
2- سورة النُّور / آية 33.

كالأمر بالصَّلاة (الأهم) في وقتها الموسَّع كصلاة الظهر أو العصر، والأمر بصلاة الآيات (المهمَّة) كصلاة كسوف الشَّمس في الآن الواحد، وقيام المكلَّف بهذه الصَّلاة (المهمَّة) في وقتها الخاص، ثمَّ الصَّلاة اليوميَّة بعد ذلك.

فلا النَّهي عن الضِّد في الأمرين حاصل، ولا الفساد في العبادتين عند اقتضاء أمريهما النَّهي عن الضِّد حاصل.

وهو ما يؤمن به الكل، مع أنَّ هذه الصَّلاة اليوميَّة في ضيق وقتها مقدِّمة على صلاة الكسوف.

وبهذا التَّخلُّف عند عدم الاقتضاء للنَّهي والفساد فيه في الأمرين غير متماش عند من يحاول توليد القاعدة الكليَّة المذكورة لأن يتغلَّب الأهم على المهم دوماً حالة الإثبات إلاَّ ما أخرجه الدَّليل.

فضلاً عن الَّذين لم يتصدُّوا لهذه الأمور إلاَّ في الصُّورة الثُّبوتيَّة النَّظريَّة لو قدروا على تحقيق مرادهم بالتَّالي.

وعليه فالنَّتيجة المتحصَّلة من مجموع ما مضى أنَّ التَّرتُّب بين قول المانعين في حال الثُّبوت وعالم النَّظريَّات وبين قول محاولي توليد القاعدة الكليَّة في حال الثُّبوت والإثبات.

هو الوسط والموجبة الجزئيَّة على أن لا ينعدم الأمل نظريَّاً.

وعليه فمن المهم والأجدر في المقام السَّعي للتَّعرُّض للشُّروط المتعارفة المشار إليها بينهم، تسديداً لما نريد ولو بإيجاز مع ما يتلوها أو بعضها من التَّعليق الممكن أو المناسب إن كان، فهي:-

أوَّلاً: وجود الملاك في كل واحد من المتزاحمين ثبوتاً، وتماميَّة الحجَّة على كل واحد منهما إثباتاً.

وهذا الشَّرط معتبر عند المجوِّزين والمانعين.

ص: 356

ثانياً: كون الأهم مضيَّقاً، سواء كان المهم كذلك أم لا، كإنقاذ الغريق، أو كان ضيق أمر الغريق من جهة الملاك الذَّاتي، أو من جهة فوريَّة الخطاب المتواصلة كإزالة النَّجاسة من المسجد.

أقول: عن الأهم المضيِّق حول هذا الشَّرط الثَّاني -- كما في ضيق وقت الصَّلاة اليوميَّة -- لا يلزم من تركه دائماً بالانشغال بالمهم في ضيقه أيضاً بمثل انقاذ الغريق حصول المعصية.غاية الأمر ينتقل التَّكليف لطفاً من الله جلَّ وعلا إلى القضاء، لأنَّ هلاك الغريق بتركه والانشغال باليوميَّة أخطر وأشد عنده تعالى من الاهتمام بأداء الصَّلاة حتَّى في وقتها الضيِّق.

للحق العام الَّذي قد يُقدَّم على حقِّ الله الخاص من مقتضيات حكمته التَّشريعيَّة.

وإنَّما الملفت للنَّظر هو حالة عدم ضيق المهم والاهتمام به دون فعل الأهم المضيِّق، فإنَّه يوجب العصيان المحتاج إلى الاستغفار والتَّوبة، دون أن يسبِّب ذلك شيئاً مفسداً لعمليَّة انقاذ الغريق إن تحقَّق حتَّى في مهلة أوسع من ضيق وقت اليوميَّة.

فضلاً عمَّا لو جاء ملاك وجوب انقاذ الغريق ذاتيَّاً وحصل فعلاً فلا معصية عند ترك ذلك الأهم أيضاً.

وكذا في فوريَّة الخطاب حالة حصول النَّجاسة في المسجد لو توقَّف الأمر في ذلك على ذلك المكلَّف المبتلى بوجوب إزالتها عليه دون غيره، لأنَّه لا توسعة في مجال الإزالة حينئذ حتَّى يكون وقتها ضيِّقاً.

ثالثاً: كون الضَّدَّين ممَّا لهما ثالث، وأن لا يكون فعل أحدهما في ظرف ترك الآخر من الأمور التَّكوينيَّة، ويكون الأمر به حينئذ من الشَّارع إرشاديَّاً، لا أن يكون مولويَّاً.

ص: 357

ومورد البحث في التَّرتُّب إنَّما هو اجتماع الأمرين المولويَّين في آن واحد.

أقول: هذا حينما يكون الضِّدَّان قد تزاحما بين أهم ومهم في بعض الاعتبارات الفعليَّة ولهما ضدُّ ثالث يمكن اللُّجوء إليه في بعض الحالات.

كالصَّلاة في ضيق وقتها والغريق الَّذي يجب إنقاذه وكان ضدُّهما الثَّالث أيضاً عليه الصَّلاة في ضيق وقتها، وقد ألزم بالابتدار إلى إنقاذ ذلك الغريق.

وهو ممَّا يُغني الأوَّل عن تعيُّن الإنقاذ عليه للوجوب الكفائي على الاثنين، لكون هذا تنفُّس إضافي.

لعدم وجوب تقدُّم ذلك الأهم مطلقاً على المهم، إلاَّ في حالات، عدا مثل هذا الإنقاذ، لعدم إمكان تعقُّل فساد حالة الإنقاذ موضوعاً إن تحقَّقت فعلاً من الأوَّل أو الثَّاني، وإن جاء النَّهي عنها ظاهراً بسبب ذلك الأمر بالأهم وهو الصَّلاة المضيَّقة.

ولهذا ومع ما سبق من الشَّرطين الماضيين يكون التَّرتُّب ممَّا يجوز الأخذ به مع شرطيَّة التَّزاحم التَّكليفي والتَّشريعي، لا من أصليهما، وإنَّما ممَّا بين فعلي الضَّدَّين من الجهة الخارجيَّة.

على أن لا يكون وقت ضيق صلاة الأهم قبل بداية (الغرق) المهم، أو حلول الغرق قبل ضيق الصَّلاة (الأهم)، وأن يكون الأمر إرشاديَّاً لا مولويَّاً في ذلك التَّزامن التَّكليفي بين الضِّدَّين.

لأنَّ الأدلَّة الإرشاديَّة أشمل من الزَّمان والمكان ونحوهما في تحقُّق ما افترضناه من التَّزاحم المبقي لتعقُّل معنى العدل الإلهي في التَّشريع الَّذي يفترض فيه صحَّة التَّرتُّب المذكور، دون التَّزاحم في الأمور والأوامر المولويَّة تشريعاً وتطبيقاً.

رابعاً: انحصار مورد البحث بمرحلة قدرة قدرة المكلَّف فقط من دون أن يكون فيالبين مانع آخر من موانع التَّكليف، لأنَّه لا موضوع للخطاب مع وجود مانع عنه في البين، فلا يفرض اجتماع الخطابين في آن واحد حتَّى يتَّحقق موضوع التَّرتُّب.

ص: 358

أقول: فإذا تعذَّرت أو تعسَّرت الاستقلاليَّة المطلوبة في مثل انقاذ الغريق المذكور تكون القضيَّة من قبيل السَّالبة بانتفاء الموضوع، لتفاوت خطاب الأهم عن خطاب المهم المحتاج إلى توفُّر القدرة التَّامَّة.

فلابدَّ من تقديم الأهم ولو بصلاة العاجز إن تعدَّدا أو تعسَّر الكامل.

خامساً: كون الأهم والمهم متعدِّدين وجوداً على ما هو المعلوم من كلماتهم.

فلا يكون مورد تداخل الأغسال واجتماع الأمر والنَّهي -- بناءاً على الجواز -- من موارد التَّرتُّب، لغرض اتِّحاد الوجود في متعلَّق الخطاب فيهما.

أقول: بعد تسليم وحدة الخطاب الإلهي في الأمر المقتضي لوجوب كل غُسل واجب كالجنابة والحيض والاستحاضة ومسِّ الميِّت، أو وجوب ما مضى ذكره مع استحباب غُسل الجمعة -- بناء على عدم وجوبه أو استحباب الأغسال المستحبَّة كغُسل الإحرام أو الزِّيارة وما حُقِّق فقهيَّاً عن الأدلَّة الشَّريفة من صحَّة التَّداخل في أسبابها تبعاً لأهمِّها --

فلن يكون مورد تداخلها من موارد التَّرتُّب.

وأمَّا اجتماع الأمر والنَّهي فإنَّه إن شكِّك في بعض مصاديقه فإنَّه لا ينبغي الشَّك في مثل الصَّلاة في الدَّار المغصوبة إن ضاق وقتها أثناء الخروج، فلا ترتُّب كذلك.

سادساً: إمكان فرض إطلاق خطاب الأهم وتقييد خطاب المهم بترك الأهم، وإلاَّ فمع فرض بقاء اطلاق الخطابين من كل جهة فلم يقل أحد بالجواز حينئذ.

أقول: وهذا الشَّرط السَّادس قد سبق التَّعرُّف على مضمونه من التَّعريف للتَّرتُّب عند المعتبرين له حالة إطلاق خطاب الأهم وتقييد خطاب المهم بترك الأهم بنحو العصيان مع بقيَّة الشُّروط.

مع ما ذكرناه من إمكان اقتراب بعض المانعين في ناحية تعقُّل النِّزاع اللَّفظي المذكور من المعتبرين له.

ص: 359

على شرط الوصول إلى التَّوفيق الفعلي دون بقاء إطلاق الخطابين المانع من تحقُّق شيء، وعند توفُّر كل الشُّروط يتم الجواز على الأقل من وجهات ثلاث:--

أ ) وجهة الدَّليل العقلي لما مرَّت الإشارة إليه في بداية البحث بأنَّه مرتبط بالملازمات العقليَّة غير المستقلَّة، فإنَّ المقتضي في المقام موجود، وهو جواز التَّرتُّب، وهو البناء على المهم على الأقل -- بسبب الملاك والخطاب -- والمانع مفقود، فلابدَّ من الوقوع.

ب ) وجهة الاستظهار الصِّناعي الأصولي، فإذا كان الخطابان عرضيَّين من كل جهة فلا ريب في الامتناع.

وأمَّا إذا كانا طوليَّين، ككون خطاب المهم مشروطاً بترك الأهم ولو عصياناً فلا أثر للامتناع حينئذ، كما مرَّ التَّمثيل لذلك في الصَّلاة الواجبة في وقتها الضيِّق وإنقاذ الغريق وغيره من الأمثلة المشابهة ما دامت القدرة الطُّوليَّة موجودة في الحالتين.ج ) وجهة الاعتبار العرفي، فإنَّ المحاورات العرفيَّة -- قد مرَّ سابقاً في بدايات البحث -- أنَّها أصدق شاهد على الصَّحَّة والوقوع في كثير من الأمثلة الَّتي لا يمكن البخس بحقِّها بين الآدميِّين اجتماعيَّاً.

كأمر الآمر لخادمه بقوله (اذهب فأوف ديني المستعجل الَّذي عليَّ لفلان، فإن عصيتني فاسقني دوائي الَّذي قارب موعده).

ولدعم المسألة أكثر إن استدَّل المانعون ضدَّاً للتَّرتُّب بأنَّه:-

من نوع طلب الضدِّين، وهو ممتنع عقلاً وقبيح، فيكون محالاً من الشَّارع في آن واحد، لاستحالة المحالات من الله تعالى في شرعه العادل؟

نقول كما سبق في آخر الكلام عن ثمرة الضِّد.

فإنَّهم لابدَّ أن يجابوا: بأنَّ هذا النَّوع طرد لطلب الضِّدَّين المزعوم جعلهما في آن واحد، لا أن يكون جمعاً بينهما في الطَّلب.

ص: 360

لما مرَّ ذكره من كون فعل المهم مشروطاً بعصيان الأهم، فضلاً عمَّا لو لم تنجز عقوبة على ذلك العصيان.

أو لا موضوع لها إن دعت ضرورة خاصَّة للمهم، كما مرَّ في أمر انقاذ الغريق.

فكيف يكون حينئذ طلباً للضَّدَّين؟

وبه غاية ما يعنينا من تلخيص الكلام عن التَّرتُّب المبحوث عنه في الأصول.

بلا حاجة إلى المزيد عن وجه الدَّليل العقلي، ووجه الاستظهار الصِّناعي الأصولي، ووجه الاعتبار العرفي.

أين يكمن فساد النَّهي عن الشَّيء عبادة أو معاملة إن صحَّ؟

وهل هو عن الدِّلالة أم عن الاقتضاء؟

للحديث عن هذا الأمر -- في قدمه وحدوثه الأصولي بين العلماء قدس سره، وأهميَّته بين توابع الأمر والنَّهي وتحت هذا العنوان -- مقامان مهمَّان، وهما:-

أحدهما: في العبادة وملحقاتها، مع كون المعاملة من فقهيَّاتها بعنوان الفقه الشَّامل لهما.

ثانيهما: في المعاملة الخاصَّة وما يرتبط بجوانبها المخصوصة الَّتي أوردوها حال الانفصال عن العبادة.

وفي كلا المقامين إن صحَّ الفساد جملة أو تفصيلاً، أم لا؟

وقبل البدء بهذا الحديث -- عن كل من المقامين، لمحاولة التَّفصيل فيه -- لابدَّ من التَّركيز فيه أوَّلاً على الصَّواب الَّذي نحاوله ممَّا دار منهم من التَّفاوت النَّظري حول المفردات الاصطلاحيَّة السَّائدة ممَّا عرضوه منها فيه.

ثمَّ العملي للميل إليه أو اختياره في نتيجة التَّفصيل جملة أو تفصيلاً من

ص: 361

عدمهما، وهي ألفاظ.أولاها وثانيها: ما دار بينهم من عبارتي (الدِّلالة) و (الاقتضاء).

فجعل قدماؤهم الدِّلالة -- تحت العنوان المذكور أعلاه -- علامة للتَّدليل على كون ألفاظ الأوامر بسبب ما تعطيه النَّواهي المضادَّة عنها.

موجبة لفساد العمل العبادي أو المعاملي بالتَّخلُّف عن تلك الأوامر والالتزام بما يطابق النَّواهي عنها أو عدمه جملة أو تفصيلاً، دون تطبيق هذا الأمر بنحو الاقتضاء.

وهو ما قد يجعل الفساد أو عدمه -- بناءاً على ذلك -- مستفاداً من الأعم من المطابقة الدِّلاليَّة أو التَّضمُّنيَّة أو الإلتزاميَّة بالمعنى الخاص أو العام.

وهو ما قد كان مسبِّباً زجهم هذا الموضوع في مباحث الألفاظ، ولو ليتناسب ذلك على النَّحو الأكثر لصالح أمور خصوص الدِّلالة.

بينما أكثريَّة حالات طروق هذا الموضوع بين متأخِّري هؤلاء العلماء هي حول ما يرتبط بالدِّلالة الإلتزاميَّة دون المطابقة والتَّضمُّن.

لذا ناسب كون البديل عن مصطلح الدِّلالة على الأكثر لفظ (الاقتضاء)، لأقربيَّة الحالة الإلتزاميَّة في بعض معانيها من مصداقيَّة المعقول غير المستقل حتَّى لو بقي زجُّنا لهذا الموضوع في مجموعة توابع مباحث الألفاظ بالدَّرجة الأولى من أساسها، كما هو الأفضل، كما صنعه الشَّيخ المحقِّق الآخوند قدس سره بالرَّبط بمصطلح الاقتضاء.

وهذه منه قدس سره قد تُعد من المخالفات الاصطلاحيَّة لما هو المشهور بين القدامى.

ولتكون كما أشرنا أميل إلى بحوث الملازمات العقليَّة غير المستقلَّة، ولذا جاء ذكرها في التَّوابع.

وقد مرَّ الحديث منَّا عمَّا يفي ويكفي من ذلك بنحو أكثر في مبحث الضِّد

ص: 362

والتَّرتُّب من المجموعة، فليراجعا.

وثالثها: (النَّهي) المدلول منه -- بواسطة الأدلَّة اللَّفظيَّة أو المتعقَّل منه بواسطة الَّلازم والملزوم منها بعد الأمر -- معنى الفساد أو عدمه في العبادة أو المعاملة جملة أو تفصيلاً أو غير ذلك.

وفي النَّهي الَّذي قد تفاوت فيما بين الأعلام قدس سره في أمر معنى الاقتضاء بين التَّحريمي ليقتضي الفساد، وبين التَّنزيهي كما في المكروهات لكي لا يقتضيه على قول بعضهم، وبين النَّفسي كالسُّجود للصَّنم، وبين الغيري كقول الصَّادق u: (لا تصلِّ فيما لا يؤكل لحمه، ذكَّاه الذَّبح أو لم يذِّكه)(1)، أو غير ذلك كالتَّبعي كما في مورد ترك الأهم والإتيان بالعبادة المهمَّة في ظرف التَّرك كما في مبحث التَّرتُّب.

فعرف عن الشَّيخ الآخوند قدس سره التزامه بالأعم من دلالته بحسب الوضع على خصوص التَّحريمي، ليشمل التَّنزيهي الدَّال على الكراهة، وإن كانت كلمة النَّهي ظاهرة في التَّحريم فقط، كما صنعه الشَّيخ النَّائيني قدس سره فقط على خلافه، ليظهر منه عدم القول بالفساد.

إلاَّ أنَّ الظهور في التَّحريم ليس منحصراً في جهة الوضع، بل يمكن حصوله في جهة العقل أيضاً.

ويتبعه في نظره النَّفسي كذلك، لأنَّه مع سابقه يتم الفساد عند ارتكاب المنهي عنه عنده، بل من قال بالأعم أدخل الغيري في التَّنزيهي مع التَّحريمي والنَّفسي في مورد النِّزاع الدَّائر بينهم في المقام على ما سيتَّضح في المقامين الآتيين عند التَّفصيل.

ورابعها: (الفساد) وهو الَّذي يكون معناه عدم صحَّة الشَّيء عمَّا في شأنه أن يكون فاسداً، وهو المسمَّى منطقيَّاً بمصطلح العدم والملكة، دون تقابل الضِّدِّين ولا

ص: 363


1- الكافي 3: 397 ح 1، التهذيب 2: 209 ح 818، الاستبصار 1: 383 ح 1454، باختلاف في ألفاظ الحديث.

النَّقيضين.

فمن يعصي الشَّرع والعقل المستقيم باحتسائه الخمرة المنهي عنها مع حرمة شربها واستحقاق محتسيها العقوبة الشَّرعيَّة الخاصَّة عليه.

لا معنى لتصحيح ما أوقع نفسه فيه من عموم واطلاق هذا الفساد المختلف عن المصطلح الآنف الذِّكر، إلاَّ بمعنى ما يحتاج إلى الاستغفار والتَّوبة والإنابة دون معنى ما يعنيه المصطلحون من حالة الإعادة أو القضاء المتعارفين من الفساد النَّوعي الخلقي الاجتماعي.

نعم إذا ارتبط هذا الاحتساء المحرَّم بالعمل العبادي الَّذي يرجع المعنى المصطلح للفساد، فإنَّه لابدَّ أن يُحقِّقه كالجمع بين الصَّلاة وشرب الخمرة، وهو المحوج لا محالة إلى الإعادة أو القضاء بعد التَّنزُّه التَّام عنها، وسيأتي التَّوضيح الأكثر في موارد التَّطبيق المناسبة.

ولذا أمكنت التَّوسعة في التَّعبير عن الفساد بالمعنيين معاً بأن تكون الصَّحَّة والفساد من الاعتبارات الإضافيَّة، فتنتزعان من مطابقة الشَّيء لما هو المطلوب منه للصَّحيح ومايخالفه وهو الفاسد.

ويطلق عليهما أيضاً التَّماميَّة وعدمها من دون أن تكون خصوصيَّة للجعل الشَّرعي في ذلك، فتدخل في العقائد أيضاً.

ومن حالاتها لو اختلت في ذهن العابد تجاه المعبود تعالى بما يستوجب الإعادة أو القضاء، كما وقد تكون التَّوسعة في مثل ما ذكرناه من ارتكاب مجرَّد المعاصي غير المرتبطة بمثل الصَّلاة كالخمرة أو القرب منها كما في آية النَّهي عن الاقتراب منها.

وخامسها: (متعلَّق النَّهي) وهو الَّذي يصح بين أهل الاصطلاح أن يكون محلاًّ للنِّزاع، سواء في العبادة أو في المعاملة، ليطلق عليه الفساد من عدمه كالصَّلاة الفاسدة إذا اختلَّت شروط صحَّتها، والصَّحَّة إذا طابقتها.

ص: 364

وهكذا البيع الباطل إذا اختَّلت شروط صحَّته، والصَّحيح الَّذي تكاملت حسبما تفيده الأدلَّة اللَّفظيَّة أو ما قد تقتضيه ملازماتها من ذلك أو عدمه، دون مثل شرب الخمرة الَّذي مرَّ ذكره في اللَّفظ الَّرابع.

فإنَّه لا معنى لأن يقال بأنَّ النَّهي الصَّادر إلهيَّاً عن شرب الخمرة يقتضي الفساد أو لا يقتضيه؟

إلاَّ بما مرَّ من التَّوجيه الخارج عن المعنى المصطلح الخاص، وهو المسبِّب للضَّرر الخاص أو العام الاجتماعي.

وقد يتعلَّق النَّهي بأصل العبادة كصوم يومي العيدين، أو بجزئها كالنَّهي عن قراءة إحدى سور العزائم في الصَّلاة، أو شرطها كالنَّهي عن الصَّلاة باللِّباس المغصوب أو المتنجِّس، أو النَّهي عن الوصف الَّلازم لها كترك الجهر وهي إخفاتيَّة عمداً، أو بالعكس كذلك، على ما سيأتي البت بحكمه دلالة أو اقتضاءاً.

وبعد الفراغ ممَّا كان علينا ذكره من المفردات الواردة في مصطلحات البحث لتمم المباشرة بأخذ ما يمكن أن يستثمر منه إيجاباً أو سلباً بعدمه.

لابدَّ من العود إلى الكلام عن كل من المقامين المشار إليهما عبادة ثمَّ معاملة وبما يتناسب ذكره منَّا حولهما جملة أو تفصيلاً في السَّلب أو الإيجاب بعون الله تعالى.

المقام الأوَّل

لابدَّ من محاولة تعيين محل الكلام الأنسب عمَّا يحتمل وروده فيه عباديَّاً قبل الخوض في صميم البحث الخاص عنه ثبوتاً أو إثباتاً أو كلاهما: فنقول:-

بما أنَّ معنى العباديَّة الجامعة في المقام للفقه العام الشَّامل للكلاميَّات والعقائد ولفروع الأحكام الشَّرعيَّة بأجمعها معها من بدايتها إلى نهايتها حتَّى المعاملات الملازمة لوجوب التَّفقُّه ورجحانه الكامل فيها على ما سيجيء مناسبة ذكره في المقام

ص: 365

الثَّاني حينما أمكن جعل كل من معنييهما عقائد وفرعيَّات قابلاً لدخوله فيه من حيث عموم وخصوص الخاص.

فصحَّ أن يقال في الأوَّل (مفسدة الشَّيء العقائدي تسقطه عن صلاحيَّة التَّقرُّب به إلىالمعبود جلَّ وعلا عقيدة كالشِّرك به والعياذ بالله).

وصحَّ في الثَّاني كما في العبادات أن يقال (إنَّ المحرَّمة منها أو المخلوطة بالحرام توجب على المكلَّف حينما كان الأساس واجباً وعلى طبق المشروع كالصَّلاة أو غيرها الإعادة في الوقت أو القضاء في خارجه).

كما يصح جعل العبادات من الواجبات النَّفسيَّة أو الغيريَّة من التَّي تتعلَّق بالملازمات العقليَّة غير المستقلَّة المعروفة أصوليَّاً بأن يقال عنها في هذه البحوث (كل عبادة منهي عنها فاسدة عقلاً).

وهذا الأخير من بين المعاني الثَّلاثة هو الَّذي ركَّز عليه فيما بينهم دون الباقي في البحث، لأنَّ فساد الفاسد الواضح الَّذي لا نزاع فيه عباديَّاً عندهم كالثَّاني منها هو ما دلَّت عليه الألفاظ الاجتهاديَّة الاعتياديَّة من الأدلَّة لا ما نحن نخصُّه بالذِّكر من هذا المورد المتنازع فيه الَّذي ذكرناه.

وحيث لم يعقدوا بحثاً مستقلاًّ في الأصول -- لأمور هذه الملازمات أو تطرَّق بعض المتأخَّرين إلى شيء أو بعض شيء منها بما قد لا يستوعب المقام المعتد به -- أدرجوه اضطراراً في مباحث الألفاظ.

ونحن ذكرناه في هذا الجزء الثَّاني من (المساعي)، ولكن أدرجناه في آخر توابع الأوامر والنَّواهي، لا من أساسيَّات بحوثهما اللَّفظيَّةً، ولو ليتناسب وضعه ولو بعض الشَّيء مع غيره من البحوث المرتبطة على الأكثر بالتَّصرُّفات العقليَّة غير المستقلَّة.

ص: 366

(صميم الكلام عن المقام الأولَّ وهو اقتضاء النَّهي في العبادات الفساد من عدمه)

بعد فهم شيء من مورد هذا البحث الأنسب للمقام العبادي، نقول عن مرحلتين:-

أولى المرحلتين

(عن طريق ما يحصل من الشُّكوك)

لا يمكن لكل عاقل وعاقلة أن ينكرا وجدانيَّاً -- حول الفقه العام المشار إليه، ومنه الفقه الخاص -- مبغوضيَّة التَّقرُّب إلى المعبود جلَّ وعلا في كل ما نهى عنه ومنع منه في شرعه الكريم، ومن قبله العقل السَّليم، لأنَّه (لا يطاع الله من حيث يُعصى)، بل هو مستقبح وباطل ومردود على صاحبه.

وإنَّ مجرَّد تصوُّر شيء من ذلك تجاهه تعالى دليل عليه، لا يحتاج إلى مزيد عناية رفضيَّة، ولو من هذه الحيثيَّة الإجماليَّة.

إلاَّ أنَّ الَّذي قد يوضِّح بعض الأمور -- وإلى حدِّ ما يتَّضح منه خصوص المراد المتنازع فيه ممَّا أشرنا إليه -- هو الدُّخول في شيء من التَّفصيل، حتَّى يتبيَّن الفساد من الصحَّة فيه، وما يستوجب الإعادة أو القضاء من العدم، حينما كانت العبادة شرعاً مشروطة بقصد القربة ونحوه كالصَّلاة ونحوها دون ما لم يُشترط فيه ذلك القصد كغَسل الملابس، وإن رجح فيها ذلك شرعاً لو لم يصاحبه محرَّم كالغسل بالماء المغصوب.

فإنَّها وإن طهرت من نجاستها لكنَّها لم يصب صاحبها إلاَّ الإثم وإرضاء صاحب الماء وجوباً، لاستباحة هذا التَّصرُّف الحاصل منه بعد ذلك.

ففي مرحلة الخوض في هذا المقدار من التَّفصيل لحل الأمر المتنازع فيه وإن كان

ص: 367

قبل ما يلزم من حالة عزل ما لا نزاع فيه من دلالة النَّهي على الفساد لصالح المتنازع فيه، ولتقوية اتِّخاذ القرار المحكم في أمره عن طريق بيان شيء عن هذا الَّذي لا نزاع فيه من بدائيَّات أحواله، ممَّا كان قبل أن يثبت النَّهي منها دلالته على الفساد أو عدمه ثمَّ الانتهاء إلى صميم المتنازع فيه من أمور الاقتضاء بعد عزل المشار إليه.

أنَّه ممَّا قد يدعو للنَّظر حتَّى فيما يتعلَّق ببعض شؤون نفس الدَّال والمدلول قبل قيام الحجَّة المعتبرة الَّتي لابدَّ منها على القول بالفساد ولو لشيء من الجامع المشترك بين هذا الدَّال والمدلول وبين الاقتضاء المراد.

لكون الأوَّل له تمام العلاقة بالأدلَّة اللَّفظيَّة وقواعدها الكافية.

وكون الثَّاني له علاقة بالإشارات من الأدلَّة الإرشاديَّة ولو لجامع إجمالي.

بل لإمكان أن لا يتم لكليهما حصول الفساد، فضلاً عن الثَّاني لحصوله في الدَّال والمدلول لو تكاملت الشُّروط، ولأجل تهوين الخطب على هذا الثَّاني بمعنى الاقتضاء، إذا لم يثبت تحقُّق القول بالفساد عن طريقه بنحو أيسر من حالة الدَّال والمدلول بما نذكره الآن عنه.

كما لو داخل المكلَّف الشَّك في جو من المسألة الأصوليَّة، فشكَّ في حصول هذاالفساد الدِّلالي من عدمه ثبوتاً في العدم الأزلي بنحو من المساواة التَّامَّة بينهما وجوداً وعدماً.

فمقتضى الأصل الأصولي لابدَّ من عدم ثبوت شيء من هذا الفساد، لأنَّ العدم الوصفي ليس له حالة سابقة في الأزلي، كما لا يخفى.

مع أنَّ نفس الشَّك في هذا الثُّبوت من عدمه وحده يكفي في عدم الثُّبوت.

فلابدَّ إذن من قيام الحجَّة المعتبرة على مطلق ادِّعاء دلالة النَّهي على الفساد دون ما كان أقل منها.

ومن أجل وجود بعض حالات هذا الأقل كان التَّفاوت النَّظري بين بعض

ص: 368

الباحثين حول وجود ما قد يظهر تقبُّل هذا المقدار من الثُّبوت على علاَّته من عدمه.

على أنَّنا لا نتعاطف مع هذا المستوى الأقل من معنى الثُّبوت تصوُّراً.

وكذا لو شُكَّ أصوليَّاً في دلالة النَّهي على الفساد عن طريق هذه الدِّلالة كذلك في مقام الإثبات والحالة التَّصديقيَّة بينها وبين عدمها بإحدى الدِّلالات المعتبرة الثَّلاث، لو لم نقل بأنَّ مجاهدة من يحاول إثبات الفساد من عدمه من كافَّة طرقه عن هذا الشَّك هي الأصعب.

ولذا عبَّر أحد أساتذتنا العظام قدس سره بقوله عن هذا (فبالأصل الجاري في عدم الدلالة بالعدم الأزلي تنتفي تلك الدلالة، مع أن الشك في ثبوت الدلالة يكفي في عدمها)(1).

وهذا ما نتيجته أنَّ كل شك في المسألة الأصوليَّة لا يُعطي أي مجال للفساد، سواء في العبادات أو المعاملات.

ولهذا ينعقد الأمل الكثير في قلب الفقيه الأصولي فيهما، وبالأخص العبادات بإمكان البناء على خصوص حمل قضاياها على جانب الصحَّة بسبب التَّمسُّك بعموميَّات الأدلَّة وإطلاقاتها دون الفساد لو لم يكن أي معنى من هذا التَّمسُّك مشوباً بدليل ذا موضوع مشتبه ولو بجزء منه، لأجل البقاء أو حتَّى الإبقاء بما يمكن توجيهه على تصحيح الصَّحيح واقعاً أو ظاهراً، لأجل الخلاص من قبح التَّقرُّب إلى المعبود جلَّ وعلا بما يكون مبغوضاً لديه.

وعلى هذا النَّحو يمكن تسهيل تعقُّل عدم قبول معنى الفساد في فرض الاقتضاء الآتي أيضاً.

وأمَّا ما كان ممَّا قد يدور في مجال الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل في المسائل الفقهيَّة الَّتي توصل الأمر المشكوك في مسألتنا من حالة احتمال الفساد من

ص: 369


1- تهذيب الأصول ج1 ص240.

عدمه حسبما قرَّره الأصوليُّون.

لئلاَّ يبقى المكلَّف فقهيَّاً في تحيُّره بين أحدهما بلا أصل يرجع إليه حسب التَّوجيه المناسب للموضوع والحكم الموافق للعدل الإلهي وما ذكرته الأدلَّة الإرشاديَّة ممَّا ذكروه، ليكون المرجع إمَّا إلى البراءة أو التَّخيير أو الاشتغال أو الاحتياط على ما سوف تجيءتفاصيله في جزئنا الأخير لدورة الأصول من كتاب (المساعي).

فإنَّ ملخَّص ما ينبغي من الكلام حوله الآن:

أنَّ كل مسألة ومسألة من المسائل الفقهيَّة الَّتي تطرح للتَّداول تُعد من صغريات الأقل والأكثر في باب العبادات، قبل أن تصل إلى حالة استقرار كونها أو بعضها بعد تكامل بعض حالات هذا التَّداول كبريات أو قواعد للإفادة النَّوعيَّة في مواطنها.

فإنَّ خروج معلوم الفساد -- في حالة بقاء الصغريات على حالها -- عن الإطلاقات والعمومات من الأدلَّة أمر مسلَّم.

ولكن خروج مشكوك الفساد ليس كذلك، فمن قال في الأقل والأكثر بالبراءة مثلاً يقول بها هنا أيضاً.

ومن قال فيه بالاحتياط يلزمه القول به في المقام، على حدِّ الاختلاف المبنائي.

على أنَّ الاحتياط عند غير القائلين به لا يُعطي حكماً قطعيَّاً ملزماً بالإعادة أو القضاء مثلاً في كل فساد مدلول عليه بالاحتياط وإن جُعل وجوبيَّاً عند القائلين به.

وبهذا يلزم التَّخلُّص إلى القول بوجوب إحراز دلالة الحجَّة المعتبرة على ثبوت وإثبات وقوع الفساد في العبادة المختلَّة بفقد أحد أجزائها عمداً، فضلاً عن ركن من أركانها كالصَّلاة أو شرط من شروطها دون الأقل منها من أمور ما لا نزاع فيه، فضلاً عن محل الاقتضاء الآتي ذكره ممَّا تنازعوا فيه.

بل إنَّ موارد الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل فقهيَّاً هي الأقرب -- لتعقُّل أمور حلِّها عن الاقتضاء دون الدَّال والمدلول بواسطة العقل غير المستقل من

ص: 370

أمور حُسن الإحسان وقُبح الظلم لو حصل تردُّد بين الفساد والصحَّة ونتج عن طريق هذه الأصول الحكم بما مرَّ من البراءة من الزَّائد مثلاً --

من جعلها مختصَّة بحالة تقيُّدات الفقهاء بالأدلَّة الاعتياديَّة الَّتي يمكن أن تتحقَّق بها الحجج المعتبرة لثبوت وإثبات حالات الفساد في العبادات بما مضت الإشارة إليه.

ومن حالات البراءة من الزَّائد لا يراد ما هو الأكثر من الاستغفار.

وليس كل فساد محتمل احتيط في أمره بمحتاج إلى الإعادة، فضلاً عن القضاء دائماً وفي كلا الطَّريقين دلالة واقتضاءاً.

بل حتَّى إن اشتهر بين الفقهاء حول النَّواهي التَّحريميَّة في العبادات مطلقاً بأنَّها إرشاد إلى الفساد.

فإنَّ التَّحقيقات الفقهيَّة في الطَّريقين كليهما كان نتاجها ذلك في الجملة دون التَّفصيل، مع أنَّ بعض حالاته كون اطلاق اسمه على نحو المجاز دون خصوص الحقيقة الَّتي اشتهرت.

ومع تلك الحقيقة المدَّعاة بنحو الشُّهرة المبالغ فيها بينهم لم يثبت أنَّ كل فساد يصلون إليه يوجب الإعادة أو القضاء ممَّا تكرَّرت الإشارة إليه وإلى غيره.

ومن أراد التَّوسُّع فليراجع فقهيَّاتنا المختصرَّة والموسَّعة لنا وللأخرين ممَّن سبقوا.

وأمَّا فيما لو حصل شك في جريان العمومات والإطلاقات الاستدلاليَّة لجهة أخرىغير التَّردُّد الماضي بين الأقل والأكثر من الجهات فإنَّه لم يبق بعده دليل اعتيادي أو قرينة في البين كذلك بالأمثلة الآتية وبصفة أكثر على بقاء ثبوت تلك المبغوضيَّة المستهجنة تجاه المعبود جلَّ وعلا من عباديَّاتها أو ما اختلطت مع غيرها، فضلاً عن إثباتها.

فتصل النَّوبة هنا حتماً بعد وقوع الشَّك بين الفساد وأصل الصحَّة لو لم يكن تلازم اللازم والملزوم العقلي البيِّن غير المستقل مع الشَّرعي محاسباً عليه بين واجبين

ص: 371

اجتمعا على تكليف المكلَّف بكل منهما أساسيَّاً بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر.

كما في عبادتي صلاة الظهر والعصر المصاحبتين لصيام شهر رمضان بدون ذلك التَّلازم المذكور بينهما إذا فسد أحدهما بالحجُّة المعتبرة كالصَّلاتين لوجود خلل في شروطهما أو نقص في أجزائهما عمداً، فضلاً عن الأركان من دون إصابة ذات الصِّيام بشي ممَّا يبطله.

أو بمثل الصَّلاة في الدَّار المغصوبة دون أن يصيب حالة الصَّوم شيء من جريرة هذه المصاحبة.

أو ما اختلطت عبادة مع غيرها في واجبين كواجب إزالة النَّجاسة عن المسجد مع مصاحبة المعتكف فيه في مرحلة وجوب اعتكافه.

فإنَّ المعتكف إذا لم يصب أمور اعتكافه خلل خاص بشرعيَّته فلا ضير عليه فيه إذا عصى بتركه ما وجب عليه من إزالة النَّجاسة.

ومثل هذا ما لو سلَّم الإنسان على المصليَّة لتجيبه وهو واجب قاصداً الالتذاذ بصوتها وهي أجنبيَّة وأجابته مع حسن نيَّة.

وهنا في هذه الأمثلة وأضرابها اشترك النَّقل الشَّرعي والاستدلالي مع العقل الاقتضائي كذلك في عدم سريان فساد عبادة بما يوجب الإعادة أو القضاء لها إلى العبادة الأخرى حتَّى لو صاحبتها في أصل التَّكليف لو كانت محفوظة بشرعيَّتها الخاصَّة.

وكذا في تأثير معصية ترك الإزالة وإن كبرت على أصل ما يخص طاعات تصرُّفات المعتكف الخاصَّة باعتكافه.

وكذا في تأثير معصية المسلم على الأجنبيَّة بما قصده وإن كبرت على صحَّة صلاتها مع سلامة قصدها.

ولذا جمع تعالى هذه الأمور بالنَّقل والعقل بقوله [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ

ص: 372

أُخْرَى](1) أي على المكلَّف نفسه إذا اتُّهم الغير بالوزر.

ثاني المرحلتين:

(مرحلة ما لو ثبتت الحجَّة على فساد شيء وبنحوه الأعم

في العبادة وملحقاتها أم لم تثبت؟)

بعد الانتهاء من مراحل ما قد يقع من الشُّكوك في بعض أمور المسائل الأصوليَّة وفي الفقهيَّات المنوطة بأمور الأصول العمليَّة وغيرها للعباديَّات وغيرها ممَّا يشترك معها استدلاليَّاً ممَّا كانت نتيجته عدم تحقُّق الفساد التَّام ثبوتاً بمعناه الخاص، فضلاً عنه إثباتاً --

وكذا فضلاً عن معناه الأعم الَّذي لا يراد منه الإعادة أو القضاء أو ما أطلق عليه الفساد وأريد منه معناه المجازي.

وكذا ما لو حصل ذلك الخاص للفساد بحجَّته في واجب له واجب آخر مصاحب له في أصل التَّكليف النَّهاري لو لم يصبه ما يفسده، مثل واجبي صلاة الظهر والعصر والصَّوم، حينما لا ملازمة له مع غيره المصاحب لو فسد بما يضرُّه من بعض التُّصرُّفات ممَّا تمَّ استعراض الأمثلة الماضيَّة لإيضاحه.

وإنَّ جميع ما مرَّ كان ممَّا ييسِّر أرضيَّة استفادة عدم الفساد الخاص عن طريق الاقتضاء كذلك بنحو أوضح --

لابدَّ من الدُّخول الآن في مرحلة ما اعتاد عليه البعض من استكشاف أمر وقوع الفساد من عدمه عن طريق بعض جوانب ما لو ثبتت حجَّة الفساد فيه أو معه استدلاليَّاً ممَّا قد مرَّت الإشارة إلى بعضه ولو كان بالبيان المختصر.

ص: 373


1- سورة الأنعام / آية 164.

ولنرى حالة الاقتضاء معه في أنَّه هل تكون مؤيَّدة أم لا؟ إيجاباً أو سلباً كليَّاً أم في الجملة؟

فحال العبادة الدَّاخلة في محل النِّزاع -- وهي الَّتي يشترط في صحَّتها أو قبولها قصد القربة ممَّا مرَّ ذكره أكثر من مرَّة -- هي المغايرة لما لا يشترط فيه ذلك كغسل الملابس حسب التَّوظيف الشَّرعي لمقدِّماتها، وإن رجح فيه هذا القصد من باب الكمال لا الشَّرط شرعاً.

لإمكان تحقُّق الطَّهارة الحاصلة به من النَّجاسة المحتاج إلى رفعها منها ممَّا مرَّت الإشارة إليه أيضاً.

بل حتَّى لو كان ماء الغسيل مغصوباً فليس من داع لعدم حصول الطَّهارة به وإن أحتيج إلى كسب رضا المغصوب منه فيه.

فلم يبق حينئذ إلاَّ ما يمكن أن تقوم الحجَّة المعتبرة عليه من الفساد العبادي بسبب ارتكاب النَّواهي التَّحريميَّة إذا أدَّى هذا الفساد في معناه الحقيقي إلى وجوب إعادة الواجب صحيحاً بعدما فسد ولو بمثل ترك قصد القربة ونحوه من الشُّروط الأخرى.أو حتَّى ما قد يحصل من بعض النَّواهي التَّنزيهيَّة لو ألحقناها بالتَّحريميَّة بسبب وصول ترك بعض المستحبَّات المؤكَّدة كصلاة اللَّيل وزيارة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم عند المرور على دياره وديار آله عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ المقدَّسة مكرَّراً وإلى حدِّ معنى الهجران الجفائي المنقلب بالعنوان الثَّانوي إلى ما قد يحرم تركهما وأشباههما لو فسَّرنا الفساد بمعناه الأعم.

لكن بعض هذه المستحبَّات المؤكَّدة لو وجبت ثانويَّاً وبقي الفساد لها بهجرها بمعناه الأعم لا يعني رجحان القضاء لبعضها كصلاة اللَّيل إذا تركت وانتهى وقتها شرعاً مهجورة رجوع الفساد لها إلى معناه الحقيقي لتقضى وجوباً.

لأنَّ القضاء الوارد فيها ليس بأكثر من كونه مستحبَّاً، بل لو لم يرد رجحان هذا

ص: 374

القضاء الاستحبابي لبعض المستحبَّات الأخرى لو تركت هجراً وهي مؤكَّدة فيكفي التَّكفير عن مبغوضيَّة تركها بالعنوان الإضافي بالاستغفار له ولكلِّ النَّظائر المماثلة.

بل ومن مستوى ما هو الأخف من ذلك لو أريد للفساد معناه المجازي كذلك.

ومن هذا الأخف ما لا يخفى على المتفقِّه في دينه من أمر الشكوك التِّسعة الَّتي وضعت لها حلولها شرعاً إذا وقعت في الفرائض اليوميَّة بالاحتياطات ونحوها لكي لا يحتاج معها إلى الإعادة أو القضاء المرتبط أحدهما بالفساد الحقيقي.

ومن الأخف ما قد يفرضه الوسواسي خياليَّاً على نفسه من نفس الحاجة إلى الإعادة أو القضاء لصلواته وغيرها مع أنَّها حكم باطل شرعاً اعتماداً على قاعدة (لا شكَّ لكثير الشَّك).

وممَّا يزيد البحث دقَّة في المقام عدم الخلط لصالحه بين حالة اجتماع الأوامر والنَّواهي الماضية بمجرَّد ادِّعاء هذا الخلط لصالحه مع ندرة هذا الالتقاء بينهما في مثل الصَّلاة في الدَّار المغصوبة في آخر الوقت المكتوبة وحالة الخروج، لأنَّ مصاديقها القليلة وإن ذكرنا شيئاً من حالات ندرتها في بدايات مباحث هذا الجزء الثَّاني تحت عنوان (اجتماع الأمر والنَّهي).

فإنَّها لا تتلازم مع ما نحن نبحثه في الدِّلالة أو الاقتضاء أيضاً وان استنتج بأحدهما كالأوَّل، وهو الدِّلالة على عدم حصول الفساد الحقيقي في العبادة إجمالاً، فضلاً عن الاقتضاء لانفكاك الأمر عن النَّهي في بعض الأحوال، وكذا العكس.

لأنَّ الأمر الصَّادر لو نفذ فاسداً -- حسب التَّعليمات المرسومة وعلم استمرار هذا الصُّدور إلاَّ أن يؤتى به صحيحاً -- لابدَّ أن تجب إعادته صحيحاً، وإذا كان مؤقَّتاً وانتهى وقته لابدَّ من قضاءه.

وكذا النَّهي التَّحريمي لو كان ممَّا لا علاقة له بموضوع الأمر المزبور خارجاً وفي وقته، وإن ارتبطا بنوعيَّة معنويَّة تشملهما كمعنويَّة إطاعة الأمر بالصَّلاة.

ص: 375

فإنَّه وإن كان لا يعني أن تكون الصَّلاة باطلة لو شربت الخمرة المحرَّمة في غير وقت هذه الصَّلاة، ولا يعني أن لا تكون الخمرة غير محرَّمة الشُّرب حتَّى لو لم يكن شربها مصاحباً للصَّلاة.

فإنَّ الحالة المعنويَّة الَّتي شملت الأمر الوجوبي والنَّهي التَّحريمي -- حالة انفكاكهماعن بعض كل منهما -- ما أروعها من معنويَّة تجمع مجتمع الأمَّة بفعل الطَّاعات وترك المعاصي معاً حتَّى مع الانفكاك، الَّذي لا يعني عدم وجوب الواجب وعدم حرمة المحرَّم.

(أنحاء النَّهي عن العبادة الموجبة لفسادها أو عدمه)

وممَّا يعينننا على مزيد التَّعرُّف على ما تثبته الحجج المعتبرة من الفساد الحقيقي في العبادة -- استدلاليَّاً أو اقتضاءيَّاً أيضاً بواسطة أحد محقِّقاته من عدمها وبنحو يوجب الإعادة أو القضاء، أو لا يوجب شيئاً منهما، وإن بقي الفساد فيها لإزالته لعلاجيَّاته فيها بما رسم للصَّلاة من أحكام الشُّكوك التِّسعة وما رسم من إضافيَّات الأحكام فيها بتدارك الواجبات المنسيَّة من الفاتحة والتَّشهُّد مع صلاة الاحتياط للشُّكوك وغير ذلك وسجود السَّهو للإضافيَّات --

هو أنَّ للنَّهي أنحاء في الفقه عرفت، ولها حدودها القواعديَّة في تضاعيفه، ينبغي أن نذكرها مشفوعة بالأمثلة لتمييز الفاسد حقَّاً من عدمه بحثاً، وهي:-

أحدها: أن يتعلَّق النَّهي بأصل العبادة كالنَّهي عن صوم يومي العيدين، وصوم أيَّام التَّشريق الثَّلاث لمن كان بمنى سواء كان ناسكاً أم لا، وصوم الوصال، وصلاتي الحائض والنَّفساء اليوميَّة.

إلاَّ أنَّ هذه وإن كانت فاسدة أو باطلة لابتداعها لارتفاعها تكليفاً عنهما، لكنَّها لا تلزم المكلَّف بإعادة أو قضاء للارتفاع، بل لا تحتاج إن صليِّت أكثر من الاستغفار

ص: 376

والتَّوبة حسب الأدلَّة.

ثانيها: أن يتعلَّق بجزئها كالنَّهي عن قراءة سورة من سور العزائم الأربع في فرائضه بعد الفاتحة.

لأنَّ الإكمال الَّذي يجب مع كلِّ سورة من آياته لابدَّ أن تكون أحدها آية العزيمة الَّتي لو قرأت لوجب بسبب قراءتها معها سجود إضافي أثناء الصَّلاة المحدودة في سجداتها وركعاتها.

إلاَّ أنَّ هذه الباطلة المخترقة به تستدعي الإعادة أو القضاء وجوباً حسب الأدلَّة.

ثالثها: أن يتعلَّق بشرطها أو بشرط جزئها كالنَّهي عن الصَّلاة باللِّباس المغصوب أو المتنجِّس والصَّلاة في هاتين الحالتين باطلة وتحتاج إلى الإعادة في الوقت أو القضاء في خارجه مع التَّصحيح لها حسب ما أعانت عليه الأدلَّة.

رابعها: أن يتعلَّق بوصف ملازم للصَّلاة مثلاً أو لجزئها كالنَّهي عن الجهر بالقراءة في موضع الإخفات في الظهرين والنَّهي عن الإخفات في موضع الجهر في غيرهما إذا كانت المخالفة عمديَّة.

ومن ذلك تعمُّد الإتمام مكان القصر وتعمُّد القصر مكان الإتمام، إلاَّ في صلاة الخوف وهو ما يحتاج إلى الإعادة في الوقت أو القضاء في خارجه حسبما توجيه الأدلَّة دون حالات السَّهو والنِّسيان من جميعها كذلك.

خامسها: النَّواهي التَّنزيهيَّة لو تمادى المكلَّف بالإكثار من ارتكابها وكان عكسها المستحبَّات المؤكَّدة كما مرَّ ذكره من التَّمثيل بصلاة اللَّيل وزيارة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم فيما لو تركا جفاءاً وانقلب النَّهي عن تركهما بالعنوان الثَّانوي إلى ما يُعادل الحرمة.

وكذلك زيارة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ومن بينهم هجران زيارة الإمام الحسين u والشُّهداء بقساوة مرفوضة حتماً.

فإنَّ مصاديق هذه المعاصي وأمثالها وأن تُعد مراتبيَّاً من صغائر المعاصي.

ص: 377

فإنَّ تركها بهذا النَّحو من الهجران مبغوض جدَّاً عند الشَّرع جلَّ وعلا حسب الأدلَّة المؤكَّدة وإلى حدِّ أن تضخم هذه المبغوضيَّة كلَّما دعت الحاجة إلى هذه الأمور بالإشارات والتَّصريحات ولكونها من أفضل مصاديق آيات تعظيم الشَّعائر، ولذا ورد (لا تنظر إلى صِغر المعصية بل انظر إلى من عصيت)(1).

ولا ترتفع هذه المبغوضيَّة إلاَّ بممارسة التَّقرُّب إليه تعالى بالالتزام بكل ما يخالف هذه المعاصي وإن قلَّت في كونها بدون القساوة المذكورة.

اهتماماً بالقرب المعنوي له وعكسه المبغوضيَّة المرفوضة تجاهه سبحانه، للدُّنوِّ منه ولو بواسطة المستحبَّات بعناوينها الأوليَّة، لضخامة إفادتها بالإكثار منها عرفانيَّاً على وزن (حسنات الأبرار سيِّئات المقرَّبين)(2).وهذه وإن كان يستحب قضاء بعضها كما أشرنا إذا انتهى وقتها الاستحبابي كصلاة اللَّيل وبقيَّة النَّوافل الرَّاتبة أو التَّعويض بما هو الأعم من الأداء والقضاء للبعض الآخر من تلك المصاديق المستحبَّة المؤكَّدة عند فواتها اعتزازاً بإفاداتها ولما مرَّ من التَّعظيم لشعائرها أمثال تعويض الزِّيارات المخصوصة للأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من الَّتي تركت.

لكن يبقى حالها لا يعني كون الاهتمام بها على هذا النَّحو أنَّ سببه فساد حقيقي سابق كان قد حلَّ فيها.

سادسها: النَّواهي الغيريَّة الدَّاخلة في كلِّ مجال من مجالات الحاجة الَّلازمة بعد العرض على مستوى تمحيص أمورها، كعدم اتِّباع شرائط ما يُصحِّح الوضوء أو الغُسل أو التَّيمُّم بدلاً عن كلِّ منهما عند الحاجة الماسَّة إلى العبادة الواجبة، بل حتَّى المستحبَّة المتوقِّفة على أحدها.

ص: 378


1- بحار الأنوار، ج 74، ص 77.
2- راجع هامش (3) في ص82، ولا داع إلى الإعادة.

لإزالة الأحداث الكبيرة والصَّغيرة بأحدها عند تعيينه أو تعيُّنه وإن كان الطَّهور بأحدها مستحبَّاً في أساسه واجباً غيريَّاً عند توقُّف العبادة المشروطة بالطَّهارة عليه، عكس النَّواهي الغيريَّة المحرَّمة غيريَّاً.

وباختلال أي شرط لأفراد هذه الأنواع من الشُّروط لابدَّ من إعادتها صحيحة.

وبتمحيص أمر هذا الأخير لابدَّ للفقيه الأصولي أن يحسب عليه تمييز ما لا نزاع فيه بين العلماء مع ما سبقه، وهو ما تثبَّتت الحجَّة المعتبرة على اتِّصافه بالفساد الحقيقي في العبادات عند ارتكاب النَّواهي المسبِّبة له دلالة أو اقتضاءاً أو كليهما من هذه الأنحاء الستَّة عن غير الحقيقي فيها، ممَّا نتيجته إثبات فسادها إجمالاً لا تفصيلاً بما أثبتناه.

لكن يبقى الباقي عليه أيضاً ممَّا فيه النِّزاع بينهم بأنَّه هل يعتري العبادات فساد حقيقي أم لا؟

وإنَّ ما يعتريه الفساد منها يحتاج إلى الإعادة أو القضاء أم انَّه يختلف؟

فقد أشرنا إلى مصاديق هذه الأنحاء الستَّة، وأجبنا مختصراً عمَّا يعود لكل منها على ما يقتضيه مسلك الاقتضاء، وهو حالات عدم اقتضاء الفساد الحقيقي للعبادة، وهي بعض حالات من النَّماذج.

دون ما اشترك فيه الاثنان، وهما المسلك الدِّلالي والمسلك الاقتضائي المؤيِّد له بما اتَّفقا عليه، وهو حصول الفساد الموجب للإعادة أو القضاء.

فالدِّلالي تابع للأدلَّة اللَّفظيَّة، والاقتضائي تابع للعقل غير المستقل، والأخير هو المؤهَّل لتقييم أمور ما دون الحجَّة المعتبرة على ما مرَّ من الأحكام التَّابعة للشَّرعيَّة من الأخريات.

ومن يريد التَّوسُّع إلى مصاديق إضافيَّة فليراجع فقهيَّاتنا المفصَّلة، وما ذكرناه في بحثي الضِّد والتَّرتُّب.

ص: 379

مختصر التَّقييم لصميم البحث الماضي بواسطة الاقتضاء

لما دون الحجَّة المعتبرةبعد تسليم ما تقوم به الحجَّة المعتبرة من الفساد في العبادة في النَّقل والعقل دلالة واقتضاءاً فيما مرَّ من بعض الأنحاء المعروضة الستَّة آنفاً بعد إتقانها موضوعاً وحكماً ومصاديق للفساد الحقيقي وعدم اعتداد أهل التَّحقيق من العلماء بما يتصوَّر من فساد ما دون تلك الحجَّة.

وبعد الحاجة أيضاً إلى معرفة نوعيَّة أحكام ما دونها من الأنحاء المحتملة الأخرى من الَّتي لا تفارق ذهنيَّة وعاة الأمَّة ورعاتها، لحرصهم الدَّائم على الاستفادة من سعة منابع فوائد الشَّريعة المقدَّسة والجمَّة الغفيرة للإفادة الَّلازمة منهم، لابتنائها حتَّى بما دون ما تقومه تلك الحجج المعتبرة من الأساليب الأخرى المتعارفة في الأصول.

كما أثبتته عمومات وإطلاقات إرشاديَّة يمكن أن تكون مدارك مشروعة أيضاً يأخذ بها العقل غير المستقل لتحديد وظيفة كل من كان من باقي ذوي تلك الأنحاء.

ولقد أسهبنا فيما مرَّ من سرد الأمثلة والتَّنبيهات الَّتي توضِّح ما يعطيه الاقتضاء النَّاجح من التَّشخيصات بما لا حاجة بعده إلى التَّوسعة في هذا التَّلخيص عن كلِّ ما هو متنازع فيه زيادة عليها.

فلم يبق إلاَّ إيكال أمر التَّفاصيل الأكثر إلى إسعافنا إلهيَّاً بدعاء المؤمنين الأفاضل والطلاَّب الأعزَّاء بالعافية وصفاء البال للتَّوفيق إلى تحقيق هذا المجال عمقاً واستغراقاً، إنَّ الله سميع مجيب.

ومن أراد الاطِّلاع الإضافي السَّريع فعليه مراجعة بحث الضِّد والتَّرتُّب من بحوثنا السَّابقة من هذا الجزء الثَّاني.

ص: 380

المقام الثَّاني

اقتضاء النَّهي الفساد في المعاملات من عدمه

مرَّ شيء عمَّا يتعلَّق بتشخيص الفساد في المعاملات من عدمه مشتركاً مع العبادات في الدِّلالة أو الاقتضاء أو كليهما في الكلام عن مفردات بداية البحث الأساسي لشرح معانيها، وبما لم يخلُ من فائدة العلم المشترك بمصطلحاتها إلى أن جاء دور التَّركيز على خصوص أحوال المعاملات من ذلك الفساد دون غيرها من عدمه فقهيَّاً.

كما وجعل العلماء بالمناسبة لنهي هذه الأمور أقساماً ثلاثة، للبحث في كلِّ منها من حيث قرب الارتباط بما نحن فيه من الفساد في هذه المعاملات حتَّى بما تشترك معها به تلك العبادات أيضاً، وهو ما يحمل الأوَّل منها عليه.

ومن حيث توسُّطه في ذلك، وهو ما يحمل ثانيها.

ومن حيث الحالة الأخيرة، وهي ما تحمل الثَّالث، وهو البعيد عن الفساد إجمالاً مع التَّوجيه.

ونحن نستعرض ما يكفينا منها ولو مختصراً، لأنَّ التعمُّق الفقهي التَّطبيقي هو الَّذي يعطي النَّتيجة المناسبة لكل منها.

الأوَّل منها: وهو الَّذي يكون النَّهي فيه بداعي بيان مانعيَّة الشَّيء المنهي عنه صريحاً أو بداع آخر مشابه له ولو بالإرشاد إلى المانعيَّة، فيكون كل منهما دالاًّ على فساد المعاملة عند الإخلال بشروط صحَّتها.

لتساوي المصاديق المرفوضة شرعاً، ولو لدلالة النَّهي على اعتبار عدم المانع من حصول ذلك فيها- فتخلُّفه تخلُّف للشَّرط المعتبر في صحَّتها.

سواء تعلَّق الإرشاد إلى الفساد بالمَنشأ في مثل الإيقاعات كالطَّلاق أو

ص: 381

العتق، أو بأحد الطَّرفين في العقود بيعاً وشراءاً ونكاحاً وغيرها، كإيقاع الصَّبي والمجنون والسَّفيه وعقودهم.

أو بأحد العوضين في العقود كبيع الخمر والكلب مثلاً بدون مبرِّر شرعي، لأنَّ ثمنهما سحت.

أو بالمورد في الإيقاعات كالبطلان فيها مع فقد الشَّرط كالبلوغ والعقل وشاهدي العدل وغيرهما في الطَّلاق.

أو بمطلق التَّسبيب كبيع المنابذة ونكاح الشِّغار ونحوهما.

فلا شكَّ في فساد هذا التَّعامل وبكل معانيه ما دام أنَّ النَّهي المعاملي إرشاد إليه، فضلاً عمَّا لو قامت الحجَّة الشَّرعيَّة الاستدلاليَّة عليه.

بل هو كما مرَّ ذكره في موارد فساد العبادة.

وبذلك كان كل من الأمرين عبادة ومعاملة ممَّا لا نزاع فيه بين الأصوليِّين الفقهاء.

ومن أراد التَّوسُّع فإنَّ الضَّالَّة المنشودة للمقام هي الفقهيَّات الأصوليَّة العلميَّة والعمليَّة والتَّي تطابقت عليها كلتا الواسطتين الاستدلاليَّة والاقتضائيَّة.لكن بما أنَّه لا تلازم شرعاً بين هذا الفساد النَّاتج عن الحجَّة المعتبرة، وإن كان ممَّا لا نزاع في فساده بينهم كما في الأمور العباديَّة السَّابقة.

وبين وجوب الإعادة أو القضاء للتَّعويض بالصَّحيح، وإن كان على نحو الدَّوام بعد توفُّر الأدلَّة الاستثنائيَّة على عدم استمراريَّة بقاء ذلك الفساد ما دامت هذه الأدلَّة مطابقة له، وإن غلبت كثرة الفساد الحقيقي في العبادات.

وإن لم تكن تلك الكثرة أيضاً بدائميَّة في جميع مصاديقها، لوجود بعض المستثنيات في المعاملات كبعض عقود الصِّبيان المصحِّحة مسبقاً بتخويل أولياءهم أو أرباب عملهم، كبعض الممَّيزين المؤتمنين منهم وما هم فوق ذلك ممَّا دون البلوغ.

ص: 382

ومثل هذا التَّعامل وإن أطلق على نتيجته الفساد ظاهراً، إلاَّ أنَّ الدَّليل المخالف هو الحاكم بإسقاطه.

وقد يلحق بحالته العلاج بعد إتمام العقد من الصَّبي بإمضاء من ولي أمره له في هذا، بناءاً على قاعدة الكشف.

وكتصحيح بيع كلاب الحراسة وبيع سوائل الخمور المعدَّة اقتناءاً وبيعاً للتَّخليل لا غير.

وبيع الفضولي البائع أو المخوَّل ما لا يملكه لآخر، ثمَّ تلاه إمضاء صاحب الحاجة المبيعة.

ونحو ذلك من كثير التَّعاملات المصحَّحة بالأدلَّة أو بالتَّوجيه المطابق لها أو ما تداركه المتعامل أثناء تعامله بما يرضي الشَّرع، وإن كانت البداية غير مرحَّب بها وعرف صحيحاً بين المتشرِّعة.

فلا مانع من القول إذن بصحَّة الحكم بالفساد مع الاستثناءات المشاعة في الفقه والمصفَّاة بالفساد الإجمالي كما ذكرنا هذا في العبادات، أو بقي الفساد بالنَّحو الأدنى على حاله في بواقي ما مضى وأمثاله، بتسبُّب عن سبب الفساد ممَّن لا تصح منهم الإعادة المتعارفة.

لكن ليس كالإعادة والقضاء في العبادات، بل بما يصح أداؤه على النَّهج المشروع، وممَّن يقبل منهم ذلك وعلى هذا النَّحو من الإجمال فقط.

الثَّاني: وهو ما إذا كان النَّهي الوارد تكليفيَّاً محضاً بدون أي أثر وضعي سلبي يترتَّب عليه عند المخالفة للأمر المقابل للحالة التَّعامليَّة، إلاَّ بمبغوضيَّة ما تعلَّق به ذلك النَّهي، بداعي مجرَّد الرَّدع والزَّجر لا غير.

وهو برزخ ما بين ما تأكَّد منه الفساد الحقيقي ولو إجمالاً، وبين ما لم يتأكَّد منه الصَّحَّة إلاَّ مع التَّوجيه وهو الثَّالث الآتي قريباً.

ص: 383

كالنَّهي عن البيع والشِّراء وقت النِّداء يوم الجمعة لصلاتها في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌلَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ](1).

فإنَّ البيع لو تحقَّق وتكاملت شروطه وقت النِّداء، وإن نال مرتكبه إثماً ومعصية يزولان بالاستغفار والتَّوبة النَّصوحة ولم تكن هناك مخالفة للتَّقرُّب للمعبود تعالى بالمبغوض بعدهما لخلوِّه من ذلك الأثر الوضعي المعاكس كما سبق في العبادات، ولعدم اشتراط قصد القربة في المعاملات وإن رجح قصدها استحباباً فيما لم يتعارض فيه الأمر والنَّهي.

وعليه فمن ارتدع بعد كمال العقد والتحق بالصَّلاة ورجع مطالباً بحقِّه ثمناً أو مثمناً لابدَّ من أن يكون عموم وإطلاق قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ](2)، ناصرين له وكانت أصالة الصحَّة أيضاً عامرة لصالحه عند الشَّك.

فضلاً عمَّا لو قيل بعدم وجوب هذه الصَّلاة، أو قيل بمجرَّد استحبابها بناءاً عليه كذلك في الغيبة الكبرى، ولأجله جاءت كلمة [نودي] في الآية مبنيَّة للمجهول.

ومثل ما مضى من النَّهي عن غسل الثَّوب المتنجِّس بالماء المغصوب، وتمَّ هذا على طبق الموازين الرَّدعيَّة والزَّجريَّة الماضية وطبق المبغوضيَّة من دون أثر وضعي معاكس، وهو بقاء الثَّوب على نجاسته، بل تطهر بذلك الغسل على ما أثبتته الأدلَّة مع براءة ذمَّة الغاسل إذا رضي صاحب الماء أو تمَّ تعويضه.

وعليه فعدم الفساد في المثالين ونحوهما ثابت، سواء في المعاملات اللَّفظيَّة والاصطلاحيَّة التَّابعة لأدلَّتها أو العمليَّة كالتَّصرُّف بالغسل بالماء المغصوب وفي مقابلة وجوب إرضاء صاحبه.

ص: 384


1- سورة الجمعة / آية 9.
2- سورة المائدة / آية 1.

وكلا المثالين علاقتهما بذات السَّبب الَّذي لا منافاة عقلاً -- غير مستقل -- ولا عرفاً أيضاً فيهما بين مبغوضيَّة العقد والتَّسبُّب به وبين إمضاء الشَّارع له بطرقه الَّتي مرَّت بعد تكامل العقد اللَّفظي وبين مبغوضيَّة التَّصرُّف بالغسل والتَّسبيب به كذلك وبين رضا مالك الماء بطرقه أيضاً.

الثَّالث: وهو ما إذا كان النَّهي عن المسبِّب، كما عن نفس وجود المعاملة، وهي الَّتي لم تتأكَّد من أمثلتها الصحَّة إلاَّ مع التَّوجيه لإمكانها أو عدم امتناعها إذا قبلت التَّوجيهات شرعاً.

كالنَّهي عن بيع العبد الآبق وبيع المصحف الشَّريف وبيع الطَّائر المملوك وهو في السَّماء وأمثالها قبل التَّوجيه المصحِّح.

فذهب جماعة من أهل العلم إلى القول بفساد هذا التَّعامل، لاستظهارهم من هذا ظاهراً عدم الفوز بقبض المبيع.

لكن عند طرح المجمل من القول على بساط البحث والتَّفصيل ولو مع هذا الإجمال أيضاً ككون العبد ذا مزاج خاص بتعوُّده على أن يعود بعد حين مختصر.وكون معاني المصحف الَّتي لا تكون معوَّضة بأعلى أثمان وخزائن الدُّنيا كلُّها ولن يصل إلى جميعها إلاَّ النَّبيصلی الله علیه و آله و سلم والإمام u ومن أوتي كل معارفه ممَّن شهد لهم بذلك منهما للآخرين حتَّى تصلح أن تملك لبعض حكراً لهم دون بعض.

مع كونها معروضة إلهيَّاً لهداية الجميع بعظيم أنوارها مشروطة بالتَّعلُّم ممَّن نزلت عليهم وخُصُّوا بها، كمن عنده علم الكتاب u، فلم يتيسَّر منها للمتعلِّم إلاَّ بما يطابق ما بمستواه، وعلى طبق مقولة (أعطه كلَّك يعطك بعضه).

فلابدَّ من بيع مثل المصحف من المطمئن على صحَّة مصداقيَّة التَّمليك بما قوبل بالثَّمن من غير ما مرَّ من المعاني العظمى.

وكون الطَّائر الطَّليق في الجو قد علَّمه مالكه سابقاً أو لاحقاً بأن يعود إليه متَّى

ص: 385

أراد بالإشارة الخاصَّة إليه، أو هو عائد إليه حسب عادته معه.

وعلى أساس ما ذكرنا وأشرنا إذا لم يستظهر من الأدلَّة أنَّ النَّهي إرشاد إلى خصوص الفساد كما مرَّ، لوجود السِّعة في مقاصد المتعاملين الذِّهنيَّة ومن معانيها ما يتوصَّل به إلى برِّ الأمان.

فلا يدل ذلك على خصوص البطلان أو أنَّه تكليفي محض، حتَّى لا يتحقَّق البطلان أيضاً.

ومقتضى الإطلاق والعموم وأصالة الصحَّة عند ورود الشَّك عدم البطلان في هذا القسم الثَّالث أيضاً، لكون المرجع الحاكم في هذا وهو كون تعيين أنَّ النَّهي تكليفي محض أو إرشاد إلى الفساد هي القرائن المعتبرة من النُّصوص أو الإجماع المعتبر، دون مطلق الإدِّعاء دون أن يدعم بالدَّليل.

وبالأخص إذا بيع الآبق وإن لم يعثر عليه على وجه احتمال العثور عليه عقلائيَّاً كما أشرنا، وكما لو كان بيعه مع ضميمة معتبرة ولو قلَّت قيمتها أو بيع المصحف الشَّريف بصفته الورقيَّة وكتاباتها المملوكة ممَّا بين الدَّفَّتين.

وإن احتاط الورعون وهو في محلِّه بالتَّبادل فيه بين المتبايعين بنحو التَّهادي، إكباراً لتلك المعاني بالنَّحو الاستحبابي.

أو بيع الطَّائر وهو في السَّماء مع ما مضى ذكره عنه مع ضميمة معتبرة مبررِّة للموقف، وكذا بقيَّة الأمثلة.

ولو قيل بأنَّ ممَّا قد يستدل به من كلمات الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بنحو التَّعليل منهم لتثبيت الفساد وبمطلق النَّهي التَّكليفي ممَّا ورد عنهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ حول نكاح العبد وتزوُّجه بدون إذن من سيِّده.

كما عن زرارة عن الإمام الباقر u سأله عن مملوك تزوَّج بغير إذن سيِّده فقال ذلك إلى سيِّده إن شاء أجازه وإن شاء فرَّق بينهما.

ص: 386

قلت أصلحك الله إنَّ الحكم ابن عتبة وإبراهيم النَّخعي وأصحابهما يقولون إنَّ أصل النِّكاح فاسد ولا يحل إجازة السيِّد له.فقال أبو جعفر u أنَّه لم يعص الله وإنَّما عصى سيِّده فإذا أجاز فهو له جائز)(1).

فإنَّ من فحوى هذا التَّعليل يظهر معنى كليَّاً، وهو أنَّ كل عقد أو إيقاع تحقَّقت فيه معصية الله تعالى يكون باطلاً.

أقول: فإنَّه يمكن أن يقال بعدم تصحيح الأخذ بهذا المعنى الكلِّي المخلوط فيه معنى نكاح العبد الموقوف على إجازة سيِّده.

ومعنى نكاح المحارم الَّذي لا تنفعه إجازة أي أحد، لوجوب التَّفريق بين مصداقي المعنيين المختلف في شرع الله سبحانه.

بكون الأوَّل قابلاً للصحَّة بالإجازة، وكون الثَّاني دائماً محكوماً عليه بالبطلان.

حيث ثبت بإطلاق الأدلَّة وعموماتها وبما لا نزاع فيه بأنَّ كل نكاح مأذون فيه من شرع الله إلاَّ بما قام الدَّليل الخاص على فساده كالمحارم.

ويضاف من التَّسنيد الَّذي يعطي أمل الرِّضا بزواج العبد إذا أجازه سيِّده بعد ذلك، للتَّفريق بينه وبين من يتزوَّج إحدى محارمه بدون أي أمل بأن يرتضي منه ذلك ما في صحيح منصور بن حازم، عن أبي عبد الله u في (مملوك تزوَّج بغير إذن مولاه أعاصٍ لله؟ قال: عاصٍ لمولاه، قلت: حرام هو؟ قال: ما أزعم أنَّه حرام ونوله أن لا يفعل إلاَّ بإذن مولاه)(2).

أقول: وببيان الإمام u من عدم الحرمة تثبيت حتمي له إذا تعقَّب زواجه رضا سيِّده عنه فيه بحصره المعصية لسيِّده دون الله تعالى في حكمه العام المطلق بصحَّة كل

ص: 387


1- الوسائل باب 22 من أبواب نكاح العبيد والإماء من كتاب النكاح حديث 1.
2- وسائل الشيعة (آل البيت) ج 21 ص113.

زواج قابل للتَّصحيح إذا توقَّف على قيد أو شرط من كل مباح أو لا مانع منه في أصل التَّشريع عدا ما لا مجال فيه بالتَّنصيص الخاص بالمنع منه من المحارم.

ثمَّ إن افترضنا المبالغة بأكثر ممَّا لو قيل آنفاً لصالح دلالة النَّهي في العبادات والمعاملات معاً بتعويض دلالته على الصحَّة مكان الفساد المدَّعى للحسم أكثر.

وقلنا بما كان قد قيل من هذه الدِّلالة مع تبديل الفساد بالصحَّة في الأمرين معاً، بناءاً على ما قالوا بأنَّ تعلُّق النَّهي بشيء لابدَّ أن يكون بلحاظ أثره المترتِّب عليه والفساد لا أثر له.

فلابدَّ من أن تكون دلالته في كل منهما على الصحَّة لا على الفساد إلاَّ ما خرج بالدَّليل.

ثمَّ بعده لو أخذنا بما أشرنا إلى بعضه في السَّابق جواباً قد تفضَّل به وبما أضاف إليه أحد أساتذتنا العظام قدس سره وهو خلاصة الحق بقوله:-

(إنَّه إن أراد الصحة الفعلية من كل حيثية فبطلان هذا القول غني عن البيان في العبادات، بل و في المعاملات أيضا إن كان النهي إرشادا إلى الفساد.و إن كان المراد الكشف عن الصحة لو لا النهي فهو حق لم يختلف فيه أحد)(1).

أقول: بعد ورود قول الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ(لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه)(2)، ويعضده رواية نفي الجنس الَّتي لابدَّ أن يكون منها معاني النَّهي وهي قولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (لا بيع إلاَّ في ملك)(3).

إن كان المراد الكشف عن الصحَّة لولا النَّواهي إذا تحدَّاها الفضولي وباع مال

ص: 388


1- تهذيب الأصول - ج1 – ص245.
2- وسائل الشيعة: ج14 ص572 ب90 ضمن ح19843.
3- المستدرك 13 : 230 / أبواب عقد البيع وشروطه ب1 ح3 (مع اختلاف يسير).

غيره بدون إذنه، ثمَّ تعقَّبه بعد ذلك وأجازه فهو الحق الَّذي لم يختلف فيه أحد كما مرَّ.

فخلاصة الجميع لا شكَّ في حصول الفساد الإجمالي في العبادات والمعاملات إلاَّ أنَّها في الأولى أكثر.

ومن أراد الخوض الأوسع فليراجع فقهيَّات الجانبين الاستدلاليَّة، وبما هو أنجر للمطلِّع من الفتوائيَّة، ومن الله تمام التَّوفيق.

ص: 389

خاتمة الجزء الثَّاني

الباب الرَّابع الصِّنف الثَّاني(النَّواهي المستقلَّة)

وهو على اختصارنا له بوَّبنا له هذا التَّبويب الخاص به، على أمل أن يسعى للتَّوسُّع في أمره الباحثون بما قد ينفع

وهذا الصِّنف الثَّاني هو من حالتي النَّهي الَّتي أشرنا بعد مرورنا على الصِّنف الأوَّل الماضي منهما وهو المرتبط باشتراكه مع الأوامر الَّتي بدأنا بالبحث فيها أوائل مباحث الألفاظ بعد الاشتقاق مشتركة مع تلك النَّواهي ولو بما هي عليه من الحالة الإجماليَّة التَّابعة المذكورة في هذا الجزء الثَّاني، وصنفه الأوَّل وما حملته من المعنى.

وأمَّا هذا الصِّنف الثَّاني للنَّهي لابدَّ أن نبحث فيه الآن على ما يتيسَّر على النَّحو المستقل عن الأوامر، وإن جعلناه تابعاً لها في الذكر في كثير من الحالات سابقاً، حيث كان أصله الوضعي والاستعمالي ذلك على الأكثر.

لأنَّه لا ينسجم مع الأوامر لو خلِّيت الألفاظ المتضادَّة وطباعها التَّداوليَّة بمثل ما انسجم معها بعض مصاديق الصِّنف الأوَّل الموضوعيَّة من تلك النَّواهي الخارجة عن طبيعة التَّداول الوضعي اللَّفظي والدَّاخلة في ذهنيَّة المتداخلات الفكريَّة الأصوليَّة للفقهاء وما حوته أفكارهم من دقائق المفاهيم، حينما صدعوا بمجريات نواهي الكتاب والسنَّة عن العترة الشَّريفة الَّتي طالما لم يدرك كل دقائقهم أكابر اللُّغويِّين.

وإن كان هذا الثَّاني المفترض وهو غير المنسجم مع تلك الأوامر بأيِّة علاقة من

ص: 390

علاقات الاشتراك أو التَّفرُّع عنها من الوجهة اللُّغويَّة العامَّة وذات العلاقة بالقواعد المنطقيَّة السَّائدة.

حيث أنَّ البارز منه على الأكثر هو ما كان ضدَّاً تامَّاً للأوامر وعلى تمام انطباق أنَّ المصداقيَّة الثَّابتة لحالة الضدَّيَّة هي أنَّ الضدَّين لا يجتمعان كما صرَّح به المنطقيُّون، وإن كان عدم الالتقاء بينهما عند المنطقيِّين حقيقيَّاً وعند الشَّرع اعتباريَّاً، حينما لا ينسجم على الأكثر أي أمر مع أي نهي في عكس الأوَّل وعكس الثَّاني.

كما بين النَّهي والأمر لو قلبنا الحالة، حتَّى أنَّه لو فسِّر هذا الأمر بما إذا جاء أمر بالصَّلاة على أنَّه يراد منه النَّهي عن تركه ما هو إلاَّ لعدم انسجام الأمر بالصَّلاة ذات الوقت المحدود قرآنيَّاً في جميع أوقاتها مع السِّعة المعهودة بين أفرادها، وعلى نحو إمكان أداءها نفسها في تلك السِّعة ولو بأضعاف كثيرة مع النَّهي عن التَّرك لها في جميع تلك الأجزاء من الوقت الموسَّع فهو غير ممكن تشريعاً.

مع أنَّ الواجب الأدائي هو مرَّة واحدة حسب الأدلَّة حذراً من الوقوع فيما يوصل الحالة إلى العسر والحرج الممنوعين في الكتاب والسنَّة والإجماع والسِّيرة العمليَّة والعقل ونحوها تجاه التَّزاحم مع التَّكاليف المتنوِّعة الأخرى المطلوبة من المكلَّف غير الصَّلاة من شؤون الحياة الأخرى الَّلازمة وغيرها ممَّا عدا وقت الفضيلة الخاص بها أو الضِّيق لها عند الاضطرار إليه قصوراً أو تقصيراً أو نحوهما.

فهو وإن دخل في نسبة من الاشتراك وذكرنا بعض أمثلته في الصِّنف الأوَّل ومواقعه الَّتي مرَّت.

فإنَّه في واقعه الذَّاتي ليس منسجماً مع تلك الأوامر بالانسجام التَّام مع حالات النَّهي، إذا أريد من المنهي عنه أنَّه هو ما يعارض الصَّلاة كالفحشاء والمنكر والخمر بل القرب من الصَّلاة حالة السكر.

بل حتَّى المحلَّلات من بقيَّة المنافيات لأن يكون النَّهي كما في الحالات المشتركة

ص: 391

القديمة كلاًّ أو جزء.

لأنَّ الأمر الَّذي يعطي إيجاب التَّكليف بالصَّلاة حسب والنَّهي نهياً عن ترك تلك الصَّلاة لابدَّ أن يكون بمعنى المنع عن قطع المواصلة على أداءها بالنَّحو التَّأكيدي على مفاد ذلك الأمر المؤسَّس، وهما معنيان فيهما شيء من التَّفاوت الَّذي لا يساعد حتَّى على تمام الانسجام ومن حالات النَّهي في المقام عدم التَّرك لها في الدَّار المغصوبة وهو لا يتم إن أريد تصحيحه إلاَّ في حال الهروب في الوقت المضيَّق حسب وهو معنى غير طبيعي في ندرته وإن جاز.

لوجود التَّنافر التَّام بين الأمر بها وبين أن تصلَّى في تلك الدَّار حالة الاستقرار بينما كانت تلك الدَّار مغصوبة.

ولذا سمُّوا هذا المثال من أمثلة التَّزاحم لما حصل من التَّنافر وهو التَّطبيق الاضطراري للصَّلاة وإن كانت هروباً من الغصبيَّة ولضيق الوقت.

ولذا لا يعوَّض النَّهي عن الأمر في جميع الحالات من كلِّ الجهات إلاَّ بنحو التَّأكيدوبالنَّحو العلاجي على عدم جواز التَّهاون بمزاولة مفاد الأمر واعتماداً على ما ورد من أنَّ (الصَّلاة لا تسقط بحال)(1) وهو مخالف للأحوال الأخرى.

إذ لعلَّ الآمر لا يريد من أمره تأسيساً إلاَّ المرَّة الواحدة وسعة الوقت لكل صلاة من أوقاتها بمقدار تلك المرَّة وللتَّصرُّفات الأخرى كالأكل والشُّرب والعمل والدَّرس والنَّوم ونحو ذلك، لا لتكرار الصَّلاة مرَّات عديدة في تلك السِّعة إلاَّ للإعادة التَّصحيحيَّة.

وإنَّ من مصاديق عدم انسجام النَّهي مع الأمر هو قوله تعالى [وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ](2).

ص: 392


1- الوسائل 2: 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5.
2- سورة العنكبوت / آية 45.

ومن تلك المصاديق عدم الانسجام بوضوح مع ما في قوله تعالى [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى](1) بنحو أولى.

وإذا جعلت الأوامر بطبيعتها من السِّعة منسجمة مع الطَّاعات أكثر والنَّواهي مع المعاصي كبارها وصغارها كذلك، ومن ذلك لا يصح دوماً أن يقال في باب العقائد (آمن بالله الواحد) وأنت تريد أو غيرك (لا تؤمن بالله الواحد) تعالى الله عن ذلك علوَّاً كبيراً، إلاَّ أن يضاف إلى الثَّاني كلمة (نفاقاً) والعياذ بالله من كل تناقض سرَّاً ووقاحة علناً.

لأنَّ المتناقضين لا يجتمعان ولا يرتفعان لتأكُّد الوحدويَّة في الموجد تعالى على ما هو محرَّر في محلِّه ووضوحه لكل عاقل مستقيم.

وهكذا ما نحن فيه من أمور الأحكام العباديَّة كما بين لفظي (صلِّ) في الأمر و (لا تصلِّ) نهياً، إلاَّ مع إضافة (مع السكر) أو (القرب منه) أو (بلا طهور).

لعدم إمكان الانسجام بين المتضادَّين من دون الإضافة المذكورة في جميع أوقات السِّعة المذكورة أعلاه، فضلاً عن أوقات الضِّيق.

لما مرَّ من أنَّ (الصَّلاة لا تسقط بحال)(2) في مرَّة الامتثال، وإن ارتفعا في بعض الأوقات من أوقات السِّعة حتَّى بدون معصية لو تقدَّم عمل للاضطرار إليه من المباحات، كإفطار الصَّائم في صومه المستحب مع تلك الصَّلاة وإن فضِّلت الصَّلاة في الاختيار ولو لأنَّ (اختلاف اللَّفظ يدل على اختلاف المعنى).

أو لأجل تلك الموجبة الجزئيَّة من حالتي التَّلاقي، أو السَّالبة الجزئيَّة من حالتي التَّنافر مع كون البارز الأكثر هو التَّنافر بين الأمر والنَّهي.

ولذا عنون الفقهاء أجمعون "رضوان الله عليهم" في تدوينهم الفقهي العلمي

ص: 393


1- سورة النساء / آية 43
2- الوسائل 2: 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5.

والعملي لفروع الدِّين العشرة المعروفة بمطابقتها للأدلَّة المتَّصلة بكل فرع منها من آيات الأحكام ورواياتها، وهي كون كل منها جامعاً لأفرادها ومانعاً لأغيارها "جازاهم الله عنَّا خيراً" كما هو مفصَّل في محلِّه.حتَّى جعلوا السَّابع منها وهو الأمر بالمعروف مغايراً للثَّامن منها تماماً ظاهراً وهو النَّهي عن المنكر كذلك كما في قوله تعالى [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ](1) وآية لقمان الحكيم يعظ ولده حول هذين الواجبين في قوله تعالى [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ](2).

وعن الحديث الشَّريف عن لزومهما حيث قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (اذا لم يأمروا بالمعروف و لم ينهوا عن المنكر ... سلط الله عليهم شرارهم فيدعوا عند ذلك خيارهم فلا يستجاب لهم)(3) وغيره.

حتَّى عُدَّا عندهم من أهم العقائد الشَّرعيَّة عند جميع المسلمين، وما هو إلاَّ لكون مصاديق الأمر الذَّاتيَّة غير مصاديق النَّهي الذَّاتيَّة في الجملة والتَّفصيل.

ولذا فرَّقوا بين صرف الطَّاعات بدرجاتها عن صرف المعاصي بدركاتها.

وبهذا نزلت آيات الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر على لسان كل الأنبياء والرُّسل والحكماء ولسان نبيِّنا صلی الله علیه و آله و سلم.

وهكذا تفاصيل ما في السنَّة وعلى لسانهم ولسان العترة دون أن يعوَّض المعروف يوماً عن المنكر والمنكر عن المعروف كذلك، أو للحاجة في هذا التَّقسيم إلى الإفادات المتعدِّدة لتوسعة الفقاهة في أذهان المكلَّفين أو الجمع بين بعض الأوامر

ص: 394


1- سورة آل عمران / آية 104.
2- سورة لقمان / آية 17.
3- تحف العقول، ص51.

وبعض النَّواهي جمع عموم وخصوص من وجه أو جمعاً مطلقاً، وترك الباقي على نحو الاستقلال الدَّائم.

ومن مصاديق ذلك [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ](1)، وقوله [وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ](2)، وغيرهما.

ولو أراد الله اندكاك الأمر بالنَّهي والنَّهي بالأمر مطلقاً لما فصَّل بينهما في هذين القولين وغيرهما ممَّا سبق.

إلاَّ بما مرَّ ذكره من أمثال حالة التَّزاحم الأدائيَّة في قضيَّة الصَّلاة في الدَّار المغصوبة عند ضيق الوقت من حالة العلاج الاستثنائيَّة دون طبيعة إمكان تلاقي الأمر بالنَّهي أو تلاقي النَّهي بالأمر.

بل لا تلاقي بين كل واجب ومستحب ومكروه ومباح مع كل محرَّم في سعة ذلك الواجب، أو كون النَّواهي تأتي لتهذيب الأوامر وتنقيتها من الشَّوائب.

نعم تشترك تلك الأمور الأربعة بكل ما يسعه ذلك الوقت الواسع لها ممَّا ذكرناه في الصِّنف الأوَّل إلاَّ ذلك الخاص بالواجب فلا مشاركة.هذا ما يتعلَّق باللِّسان الأوَّل وهو التَّعبير السَّطحي من المضادَّة للشَّيء عن الشَّيء لعدم إمكان اجتماع الضدَّين حديَّاً ممَّا مرَّ كالسَّواد والبياض، إن رضينا به لما نوَّهنا عنه.

إذ لا يعبِّر أحدهما عن الآخر منطقيَّاً كما كان ذلك في الأدب العربي إلاَّ مع الضميمة المخلَّة بحقيقة المتضادَّين كما أسلفنا عند تحقُّق اللِّقاء الإجمالي، ومن ذلك ما لو كان يمكن حصوله بسهولة إذا ارتفع الضدَّان إلى معنى صدق المعنى الثَّالث الَّذي يمكن فيه صدق التَّلاقي كما في المعاني المشتركة مع الأوامر من النَّواهي من

ص: 395


1- سورة آل عمران / آية 103.
2- سورة المائدة / آية 2.

صنفها الأوَّل الماضي، ولما يتحقَّق به الاعتبار الشَّرعي لا الحقيقي.

أمَّا الَّذي يتعلَّق باللِّسان الثَّاني وهو المعمَّق في ضدَّيه الضِّد حسب قصد صاحبه، وهو ما قد يضاف إلى الأمر مثلاً ما لا يمنع من الملاقاة من كلمات ضد الضِّد بما وراء المنطوق من عمقه المفهومي.

فقد ذكروا في أمره ما يمكن فيه القول بأنَّ الأمر بالشَّيء هو عدم النَّهي عن ضدِّ ضدِّه، وهو ما يتناسب مع نفس معنى الأمر الإلهي المتناسب مع معنى تناسب عدم العسر والحرج في التَّكاليف الإسلاميَّة المتعارفة في اللُّطف الإلهي المولوي ولم يتعارف عنهم كثرة الكلام أو نحو ذلك عن هذا النَّهي بعده ليكون كالأمر بأنَّ النَّهي هل يراد منه الأمر بضدِّه أم لا؟

وهو ما يتكفَّل أموره بحثنا عن الأضداد.

وقد تكلَّمنا في السَّابق عن موارد الصِّنف الأوَّل من موارد الملاقاة بما لا يحوجنا إلى الإطالة عنه أكثر وهو الَّذي يكون معنى الأمر فيه بالصَّلاة هو النَّهي الخاص عن تركها وكأنَّه أمر وزيادة بلزوم المواصلة ممَّا مرَّ ذكره.

والحمد لله أوَّلاً وآخراً

ص: 396

نهاية المطاف

وإلى هنا نكتفي بهذا القدر من الكلام عمَّا سمَّيناه في هذا الجزء الثَّاني في الباب الثَّالث بالمدخل، وفي خاتمته الباب الرَّابع الخاص بالنَّواهي المستقلَّة، وما بين البابين بعد الاشتقاق الكلام حول الأوامر والنَّواهي المنضمَّة إليها وتوابعهما، لتكون بداية الجزء الثَّالث الآتي من الباب الخامس.

ممَّا تيسَّر لي مع تشتُّت البال وكثرة الأشغال مع قصد وجه الله تعالى السَّابق تقرُّباً إليه ولو لأن لا أكون مقصِّراً تجاه واجب الانتماء إلى الحوزة النِّجفيَّة المطهَّرة منذ نعومة الأظفار، ليكون مقبولاً عنده وبدعوات المولى المعظَّم صاحب الأمر f للتَّأييد والتَّسديد إلى إكمال بقيَّة الأجزاء ولو كمقترحات يؤمل من بعضها أن تطرح فيها أو بعدها لطلاَّبها والفضلاء بمقدارها البركات.

والله ولِّي التَّوفيق.

النَّجف الأشرف 8 ذي الحجَّة الحرام

علاء الدِّين الموسوي

لسنة 1441ه- الغريفي

ص: 397

المصادر

1. القران الكريم

2. الاحتجاج / الطَّبرسي

3. الاستبصار / الطُّوسي

4. الاستيعاب في معرفة الأصحاب / ابن عبد البر

5. الحدائق الناضرة / الشيخ يوسف البحراني

6. الكافي / الكليني

7. المستدرك / للحاكم النيسابوري

8. المحاسن / أبي جعفر البرقي

9. الملهوف / ابن طاووس

10. المقتل / الخوارزمي

11. السنن الكبرى / البيهقي

12. الفردوس الأعلى / الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

13. القواعد الفقهية - السيد البجنوردي

14. الرياض النضرة / الطبري

15. التهذيب / الطوسي

16. الذَّريعة إلى أصول الشَّريعة/ السيد المرتضى

17. أدب الطَّف / السيد جواد شبر

18. أصول الفقه / الشَّيخ المظفَّر

19. إيضاح الفوائد في شرح مشكلات القواعد / فخر المحقِّقين

ص: 398

20. بحار الأنوار / المجلسي

21. جامع أحاديث الشيعة / السيد البروجردي

22. جامع المقاصد / المحقق الكركي

23. جواهر الكلام / الشيخ محمد حسن الجواهري

24. دعائم الإسلام / للقاضي أبي حنيفة النعمان ابن محمد المغربي

25. درر الفوائد / الشيخ عبد الكريم الحائري

26. وسائل الشيعة / الحر العاملي

27. كشف الخفاء / العجلوني

28. كشف الغطاء / الشيخ جعفر كاشف الغطاء

29. محاضرات في أصول الفقه / الشيخ محمد إسحاق الفياض

30. ميزان الحكمة / الرَّيشهري

31. مستدرك الوسائل / الميرزا النوري1.

32. معجم أصول الفقه / خالد رمضان حسن

33. معالم الدين وملاذ المجتهدين / لابن الشَّهيد الثَّاني

34. معارج الأصول / المحقق الحلي

35. مقالات الأصول / الشيخ ضياء الدين العراقي

36. مقتل الحسين u / المقرّم

37. مغني اللبيب / ابن هشام

38. نهاية الأصول / العلامة الحلي

39. نهج البلاغة: الكتاب 47

40. سنن ابن ماجة

41. فرائد الأصول / الشَّيخ الأنصاري

42. صحيح البخاري

ص: 399

43. صحيح مسلم

44. قطر النَّدى لابن هشام الأنصاري

45. تهذيب الأصول /السَّبزواري

46. تحف العقول / ابن شعبة الحراني

47. تحفة العالم / السيّد جعفر بحر العلوم

48. تهذيب الأحكام / الطوسي

49. تقريرات المجدّد الشيرازي

50. تذكرة الموضوعات - الفتني

51. تذكرة خواص الأمَّة في خصائص الأئمَّة / سبط ابن الجوزي

52. غوالي اللئالي / ابن أبي جمهور الأحسائي

ص: 400

فهرس

1 -كلمة النَّاشر... 3

2 -المحتوى الإجمالي لمضامين الجزء الثَّاني ... 5

3 -التَّمهيد الأول / تلخيص المبادئ اللَّغويَّة والمبادئ الأحكاميَّة ... 9

4 -المطلب الأوَّل / تلخيص المبادئ اللَّغويَّة... 10

5 -المطلب الثَّاني / تلخيص المبادئ الأحكاميَّة... 26

6 -التَّمهيد الثَّاني / ضرورة البدء في الأصول بمباحث الألفاظ ... 35

7 - بحث المشتق... 41

8 - الأمر الأوَّل / أين يكون موقعه المناسب أو الأنسب هل في المقدِّمات والمبادئ أو في مباحث الألفاظ؟... 41

9 - الأمر الثَّاني: معنى الاشتقاق عند النُّحاة ومعناه عند الأصوليِّين والفرق بينهما من النِّسب المنطقيَّة الأربعة

في بدايات أصوله... 42

10 -الأمر الثَّالث: لزوم التَّعرُّف على شرطين مهمَّين جدَّاً في المقام... 44

11 -الأمر الرَّابع: محل البحث الأصولي ومورد الاستثمار... 45

12 -الأمر الخامس: نظرة فيما اختلف فيه من الأمثلة المفردة أنَّها داخلة فيما تنازعوا فيه أم لا؟... 49

13 -الأمر السَّادس: نزاع البعض في اسم الزَّمان... 50

14 -الأمر السَّابع: دفع وهم، بمعنى أنَّ اختلاف المبادئ لا يخرج المشتقَّات عن محل النِّزاع... 53

15 -الأمر الثَّامن: مختارنا في المقام... 55

16 -الأوامر والنَّواهي الإلهيَّة في آيات الأحكام وما يلحق بهما من السنَّة... 58

ص: 401

17 -مدخل البحث العام... 58

18 -أوَّلاً- لابديَّة العلم المسبق ولو إجمالاً بكون الحالة بين هذه الأوامر على أنحاء هذا أوَّلها ... 58

19 -ثانياً - العقائديَّات النَّظريَّة أو غير الضروريَّة وترجيح إلحاقها بالفقه العام ... 61

20 -ثالثاً - ما يُناط بالمقام الخاص من بحث الأوامر والنَّواهي من السنَّة ... 64

21 -رابعاً -- معنى الأوامر والنواهي أو هل يمكن أن يقال عنهما ذلك بنحو من الجمع وهو أنَّ الأمر نهي أو النَّهي أمر

أم لا؟... 68

22 -تلخيص الكلام عن اجتماع الأمر والنَّهي... 69

23 -العود إلى تفصيل ما يلزم بيانه من معاني إمكان الاجتماع أو عدمه... 71

24 -خامساً - الفرق بين الطَّلب المولوي والإرشادي أمراً ونهياً... 79

25-سادساً - كيفيَّة التَّصوير التَّوضيحي لما يقال عن الأمر والنَّهي معاً من الكلام مع إمكانه أو حالة عدمه؟... 86

26 -سابعاً. كيف تكون الأوامر والنَّواهي محدودة بأربعة والأحكام التَّكليفيَّة المشهورة خمسة... 91

27 -ثامناً - ألفاظ أخرى تؤدِّي مؤدَّى الأوامر والنَّواهي للإعراب عن الأحكام الخمسة... 96

28 -تاسعاً -- الأحكام الوضعيَّة التَّابعة للأحكام الخمسة ولو كانت بألفاظ خاصَّة لها في النُّصوص القرآنية وتوابعها

لم تكن من صرف الملازمة الذَّاتيَّة للأوامر والنَّواهي... 105

29 -(تنبيه مهم)... 108

30 - عاشراً- انقسام الطَّلب إلى شيئين من حيث النَّوع طلب فعل وهو الأمر وطلب ترك وهو النَّهي... 109

ص: 402

31 -الحادي عشر- دلالة الأمر في أساسه على الوجوب دون بقيَّة الأحكام وإن قيل بتعدُّد معانيه لعدم المزاحمة

... 113

32 -الثَّاني عشر - الوضع والاستعمال في اللُّغة والشَّرع ... 136

33 -الثَّالث عشر -- دلالة الأمر على الاستحباب... 143

34 -الرَّابع عشر - دلالة الأمر على القدر المشترك بين الوجوب والاستحباب مثلاً... 149

35 -إلحاق... 152

36 -الخامس عشر- دلالة الأمر على الاشتراك لغة ... 153

37 -إلحاق... 158

38 -السَّادس عشر- التَّوقُّف في دلالة الأمر على الشَّيء بعينه والانتهاء إلى القول بالوجوب الشَّرعي... 159

39 -السَّابع عشر- التَّنبيه على ما عدا الوجوب والاستحباب لغة واصطلاحاً شرعيَّاً في مدى إرادته من الأوامر... 160

40 -توابع الأمر... 161

41 -(تنبيه حول تسلسل التَّوابع الآتية)... 161

42 -التَّابع الأوَّل / وهو المرَّة والتِّكرار... 161

43 - أوَّل الأقوال طلب إيجاد الحقيقة... 164

44 - ثاني الأقوال إفادة المرَّة فقط... 166

45 -ثالث الأقوال: إفادة التِّكرار ... 167

46 -التَّابع الثَّاني / الفور والتَّراخي وبما يشبهه في بعض النَّواحي من سعة الوقت وضيقه... 178

47 -1 - ضرورة الكلام عنهما وأهميَّةتشخيص موضوع البحث... 178

48 -2 - الأقوال والأدلَّة على كلِّ منها والإجابات عليها والرَّأي المختار... 182

49 -3 - الاكتفاء في البحث بالآراء الرَّئيسيَّة الثَّلاث... 186

ص: 403

50 -القول الأوَّل: هو الفور... 186

51 -القول الثَّاني: وهو الاشتراك اللَّفظي بين الفور والتَّراخي... 199

52 - القول الثَّالث: وهو الدَّلالة على مطلق الطَّلب ... 205

53 -تنبيه مهم حول ما مضى منالتَّابع الماضي والآتي... 207

54 -التَّابع الثَّالث / الواجبالموسَّع والمضيَّق والزَّائد على وقته وما ليس له وقت ... 208

55 -الأوَّل: وهو المؤقَّت........................................................209

56 -خلاصة البحث... 219

57 -التَّابع الرَّابع / هل يدل نسخ الوجوب على الجواز؟... 225

58 -التَّابع الخامس / الحقيقة الشَّرعيَّة والمتشرعيَّة في نظرتهما الثَّانية... 230

59 -الثَّاني: ما مدى أهميَّة هذا البحث... 235

60 -الثَّالث: هل الحقيقة شرعيَّة أم متشرِّعيَّة... 235

61 -أ / معنى الحقيقة الشَّرعيَّة... 236

62 -ب - معنى الحقيقة المتشرعيَّة... 237

63 -فالأوَّل، وهو الحقيقة الشَّرعيَّة... 241

64 -والثَّاني: هو الحقيقة المتشرعيَّة... 242

65 -التَّابع السَّادس / بحث الأوامر المكرَّرة ... 244

66 -التَّابع السَّابع / الأمر بالأمر... 247

67 -التَّابع الثَّامن / أداء المأمور به هل يتبعه قضاءه بدليله وحكمه؟ أم كان من نحو مستقل؟... 250

68 -التَّابع التَّاسع / هل يجزئ الأمر مع انتفاء الشَّرط... 252

69 -التَّابع العاشر / المفاهيم... 258

70 -الأوَّل: سعة لغة القرآن والى الأخذ بالمفاهيم ولو في الجملة... 258

71 -الثَّاني: عناية الأصوليِّين بها واختلافهم في موقع بحثها والسِّر فيه... 260

ص: 404

72 - الثَّالث: معنى المفهوم... 261

73 - الرَّابع: هل إنَّ المفاهيم تابعة لمباحث الألفاظ؟ أم للعقل غير المستقل ... 264

74 - الخامس: هل المفهوم في بابه حجَّة أم لا؟... 266

75 - 6 - أقسام المفهوم وأنواعه... 270

76 - الأوَّل / مفهوم الشَّرط... 272

77 - (ما هي علامات مفهوم الشَّرط في القضايا)... 272

78 - ( اذا تعدد الشرط واتحد الجزاء )... 274

79 -الثَّاني / مفهوم الوصف... 274

80 -(زبدة المخض فيما مضى عنمفهوم الوصف)... 279

81 -الثَّالث / مفهوم الغاية... 280

82 -الرَّابع / مفهوم الحصر أو الاستثناء... 284

83-الثَّاني من الأدوات الَّتي يراد الكلام عنها في المقام هي (إنَّما)... 289

84 -الثَّالث من الأدوات الموما إليها (بل) الإضرابيَّة... 290

85 -الرَّابع: وهو الملحق بالأدوات... 290

86 -الخامس والسَّادس / مفهوم العدد واللَّقب... 291

87 -الأوَّل منهما: مفهوم العدد... 291

88 -الثَّاني: مفهوم اللَّقب... 293

89 -تتميم مهم مغفول عنه عن (دلالة الاقتضاء والتَّنبيه والإشارة)... 295

90 -(مواقع الدِّلالات الثَّلاث الجديدة في الأدبيَّات والأصول)... 298

91 -(الاقتضاء)... 301

92 -(التَّنبيه والإيماء)... 304

93 -(دلالة الإشارة)... 307

94 -حجيَّة الدِّلالات الثَّلاث الجديدة... 313

ص: 405

95 - التَّابع الحادي عشر / مقدِّمة الواجب... 313

96 - التَّابع الثَّاني عشر: ما يلحق بمقدِّمة الواجب الواجب النَّفسي والغيري... 323

97 - التَّابع الثَّالث عشر / مسألة الضِّد... 330

98 - (خلاصة ما توصَّلنا إليه في نتيجة الكلام حول وجهي استدلالهم المختصر بالوجهين معاً)... 342

99- التَّابع الرَّابع عشر: هل أنَّ الأهم في بحث الضِّد أنَّه علمي؟ أم أنَّه ليجني ثماراً ولو بشرط؟... 342

100-التَّابع الخامس عشر: بحث التَّرتُّب... 350

101-أين يكمن فساد النَّهي عن الشَّيء عبادة أو معاملة إن صحَّ؟ وهل هو عن الدِّلالة أم عن الاقتضاء؟... 361

102 - المقام الأوَّل... 365

103- (صميم الكلام عن المقام الأولَّ وهو اقتضاء النَّهي في العبادات الفساد من عدمه)... 367

104- أولى المرحلتين (عن طريق ما يحصل من الشُّكوك)... 367

105-ثاني المرحلتين: (مرحلة ما لو ثبتت الحجَّة على فساد شيء وبنحوه الأعم في العبادة وملحقاتها أم لم تثبت؟)... 373

106-(أنحاء النَّهي عن العبادة الموجبة لفسادها أو عدمه)... 376

107-مختصر التَّقييم لصميم البحث الماضي بواسطة الاقتضاء لما دون الحجَّة المعتبرة ...380

108-المقام الثَّاني / اقتضاء النَّهي الفساد في المعاملات من عدمه... 381

109-خاتمة الجزء الثَّاني- الباب الرَّابع- الصِّنف الثَّاني/ (النَّواهي المستقلَّة)... 390

110-نهاية المطاف... 397

111-المصادر... 398

112-فهرس... 401

ص: 406

ص: 407

ص: 408

المجلد 3

هويَّة الكتاب

تَأليف سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الحاج السيد علاء الدّينَ المُوسَوی الغریفی دامت برکاته

الطبعة الأولى 1442 ه- / 2021م

ص: 1

اشارة

ص: 2

كلمة النَّاشر

وبه نستعين

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله محمَّد المصطفى، وعلى آله الطَّاهرين ذوي العُلا، واللَّعن الدَّائم على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدِّين، وبعد:

فهذا هو الجزء الثَّالث من الكتاب المسمَّى ب- (مساعي الوصول إلى المثمرات من الأصول) لسماحة سيِّدنا المفدَّى المرجع الدِّيني الكبير والفقيه النِّحرير آية الله العظمىالسِّيد علاء الدِّين الموسوي البحراني الغريفي "دام ظلُّه الوارف" البادئ من الباب الخامس والمختص بجملة من مباحث الألفاظ والَّذي يبدأ بالعموم والخصوص.

نقدِّمه بين يدي المطالع الكريم بعد استحصال الموافقة من سماحته "دامت تأييداته" وتفضُّله علينا بها لطباعته ونشره، راجين منه ومن الجميع التَّفضُّل بالدُّعاء لنا بالتَّسديد والتَّأييد في إكمال نشر جميع أجزاء هذا الكتاب القيِّم، وجميع ما ينتجه يراعه الشَّريف وقلمه المنيف.

كما نسأل الله تعالى أن يمتِّعنا بطول بقائه وفي أتم صحَّة وعافية، إنَّ الله سميع مجيب.

النَّاشر

ص: 3

ص: 4

تعقيب وتمهيد لما بين جزئي المدارك اللَّفظيَّة

للثَّاني الماضي والثَّالث الحالي مع المحتوى الإجمالي لمضامينه

لا يخفى على الطَّالب والمطالع والباحث الكرام أنَّ مدارك الأحكام الأربعة المعروفة وهي (الكتاب والسنَّة والإجماع والعقل)، وأنَّا قد جعلنا الأوَّل والثَّاني الشَّريفين منها مخصَّصين أصوليَّاً لما يتعلَّق بمباحث الألفاظ وحصرنا أمورهما في كتابنا هذا (مساعي الوصول) لخصوص الجزئين (الثَّاني الماضي والثَّالث الحالي).

وجعلنا منهجيَّة بحوث هذا الثَّالث بادئة بكلامنا فيه تحت عنوان (التَّعقيب والتَّمهيد) المشار إليهما في العنوان ثمَّ الابتداء بالباب الخامس الآتي ذكره مباشرة والَّذي يتفرَّع إلى ثلاث مقامات:-

المقام الأوَّل: ما يخص البحوث المشتركة لما بين المدركين الشَّريفين ممَّا سبق ذكره في الجزء الثَّاني من متعلَّقات الأوامر والنَّواهي والتَّوابع ومعها البحوث الآتية في هذا الجزء الثَّالث من العموم والخصوص وما بعدهما من البحوث وما يلحق بكل منها من الأمور.

المقام الثَّاني: ما يخص الكتاب الكريم (القرآن الشَّريف)، وله بحوث خاصَّة به كركنيَّة كتاب الله في علم الأصول، ودستوريَّته لكل شؤون الحياة، ومنها التَّعاليم الفقهيَّة الشَّرعيَّة، وحجيَّة الظهور فيه، وتعداد آيات الأحكام وغيرها

المقام الثَّالث: ما يخص السنَّة الشَّريفة ، ولها بحوث خاصَّة بها يأتي ذكرها إن شاء تعالى.

وأمَّا ما يتعلَّق بالمدركين الثَّالث والرَّابع وهما (الإجماع والعقل) مع ملحقاتهما فبما أنَّهما خارجان عمَّا اختصَّت به بحوث المدركين اللَّفظيَّين في هذين الجزئين المخصَّصين لهما دون الباقي، وكونهما منحصرين في البحوث اللُّبيَّة.

ص: 5

فقد خصًّصنا لكليهما باباً خاصَّاً في الجزء الرَّابع، ومن ثمَّ بقيَّة الأبواب الأخرى كبحوث الحجَّة وغيرها في الجزء الخامس.

وبالله الاستعانة.

الباب الخامس

وفيه ثلاث مقامات:-

المقام الأوَّل: ما يشترك في آيات الأحكام والسنَّة الشَّريفة

وفيه فصول:-

الفصل الأوَّل: العموم والخصوص

ومن أهمِّه، هو:-

الحاجة إلى البحث في العموم والخصوصألفاظ العموم

أقسام العام

في الجمع المنكَّر

في شمول الخطاب للمعدومين

عوامل التَّخصيص

في استعمال العام قبل ورود المخصِّص عليه أو وروده على المخصِّص

عمل العام مع الخاص المتِّصل والمنفصل

في جواز التَّخصيص حتَّى يبقى واحد

حجيَّة العام المخصِّص في الباقي

في تعقب المخصِّص عامَّاً متعدِّداً

ص: 6

تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

تخصيص العام بالمفهوم

تخصيص الكتاب بخبر الواحد

الدَّوران بين التَّخصيص والنَّسخ

الفصل الثَّاني: الإطلاق والتَّقييد

ومن أهمِّه، هو:-

الفوارق بين الإطلاق والتَّقييد وبين العموم والخصوص

الحاجة إلى البحث عن الإطلاق والتَّقييد

اصطلاح الإطلاق والتَّقييد يعطي التَّلازم بينهما

الإطلاق والتَّقييد وارتباطهما بالوضع أو بمقدِّمات الحكمة.

خصوص مقدِّمات الحكمة وأثرها في المقام

الفرق بين العام والمطلق وهل يجتمعا؟

الفصل الثَّالث: المجمل والمبيَّن

ومن أهمِّه، هو:-

الحاجة إلى بحث المجمل والمبين.

تقسيم المجمل اللفظي إلى مفرد ومركَّب وشيء من أسباب الإجمال فيه.

الفوارق العامَّة بين الإجمال وغيره ممَّا مضى.

مناسبة العلم الإجمالي وقاعدة منجِّزيَّته وفروعه في المقام.

بعض النُّصوص الَّتي وقع الكلام في كونها مجملة أو مبيِّنة.

لابديَّة رفع الإجمال مع المقدرة عليه.

كيفيَّة بيان المجمل عند الحاجة إليه.

الفصل الرَّابع: البداء في آيات الأحكام وما يناط بها من السنَّة

ص: 7

ومن أهمِّه، هو:-

مورد الحاجة إلى الكلام عن البداء.معنى البداء.

الفرق بين النَّسخ والبداء.

أدلَّة البداء من الكتاب والسنَّة عن الفريقين.

أقسام القضاء ومتى يقع البداء منها عند الشِّيعة الإماميَّة.

ثمرة الاعتقاد بالبداء.

الفصل الخامس: مشكلة الجبر والتفويض في آيات الأحكام والسنَّة الشَّريفة

سبب تدوين هذا البحث.

مناشئ الجبر والتَّفويض العامَّة والخاصَّة والأخص.

أدلَّة المجبرة على القول بالجبر بعد بيان أصل فكرتهم وردِّها.

ذرائع المجبِّرة الواهية وخطورتها.

أدلَّة المفوِّضة على القول بالتَّفويض وردِّها.

قول الإماميَّة أهل النَّمط الأوسط وأدلَّتهم.

ما يعين على تعقُّل وتقبُّل الوسط العقائدي والشَّرعي المطلوب.

الفصل السَّادس: الفرق بين حجيَّة ظواهر القرآن ومدى الحاجة إلى ظواهر السنَّة في نفسها لنفسها وللقرآن.

المقام الثَّاني: ما يختص بالكتاب الكريم (القرآن الشَّريف)

وفيه تمهيد وفصلان:-

ركنيَّة كتاب الله في علم الأصول.

دستوريَّة القرآن الكريم لكل شؤون الحياة، ومنها التَّعاليم الفقهيَّة الشَّرعيَّة.

ص: 8

الفصل الأوَّل: حجيَّة الظهور في خصوص القرآن الشَّريف وآيات أحكامه

ومن أهمِّه، هي:-

معنى الحجَّة والحجيَّة.

الفرق بين معاني النَّص والظَّاهر والمضمر.

كون الظواهر من مباحث الألفاظ وحجيَّتها من مباحث الحجَّة.

عدم الفرق في الظاهر القرآني في آيات أحكامه بين كونه حقيقة أو مجازاً ومختصَّاً أو مشتركاً ونحو ذلك.

الحاجة إلى البحث عن الحجيَّة في الظهور القرآني.

إثبات حجيَّة ظواهر القرآن لبعضه لا كلِّه.

الفرق بين حجيَّة القراءات وحجيَّة الظواهر القرآنيَّة.

الفرق بين الظواهر والظاهريَّة.

نماذج ممَّا يدل على إمكان فهم كلام الله من كلام الله نفسه.

الشَّواهد الأخرى الدَّالَّة على حجيَّة ظواهر القرآن وفهم العرب لمعانيه.

الفرق بين المفاهيم والظواهر.كيف يتم الظهور مع مقدِّمات الحكمة.

ما أورده المخالفون من أدلَّة إسقاط حجيَّة ظواهر الكتاب، وما ردُّوا به.

الظاهر والأظهر.

تعارض الأدلَّة القرآنيَّة في نفسها ومع غيرها.

المقارنة بين حالة النَّص والظاهر، وبين حالة الحكم الواقعي وحالة الحكم الظاهري.

الكلام عن أصالة الظهور.

الفصل الثَّاني: تعداد آيات الأحكام ومقاييس عدم حصرها بعدد معيَّن

ص: 9

ومن أهمِّه، هي:-

ليس كل ما شاع من العدد له واقع

ما هو المراد الحقيقي من آيات الأحكام

المقام الثَّالث: ما يختص ببحوث السنَّة لآيات الأحكام

ومن أهمِّه، وهي:-

أهميَّة السنَّة الشَّريفة والكلام عنها لآيات الأحكام.

مصاديق السنَّة الثَّلاثة في عرف الإمامية

هل أنَّ كل ما ورد من أهل التَّسنُّن والمخالفين يُعد من السنَّة عندنا؟

المقارنة بين رواية (خذوا ما رووا ودعوا ما رأوا) ورواية (دعوا ما وافق القوم فإنَّ الرُّشد في خلافهم).

هل من معاني (اختلاف أمَّتي رحمة) هو خصوص ما يقع بيننا وبين العامَّة من الاختلاف؟ أم حتَّى ما بيننا نحن الإماميَّة؟

هل أنَّ ما يعرض على الكتاب ويخالفه من الرِّوايات في ترك العمل به خاص بما كذب على النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ؟

هل أنَّ أخذنا بروايات العامَّة للتَّعبُّد مشروعاً أم لا تعبُّد بها؟

هل نعمل بكل الصِّحاح؟ وهل نترك كل الضِّعاف؟ منَّا ومن الآخرين؟

لماذا يُعد علم الرِّجال غير ميمون في البحث فيه والالتزام بنتائجه؟

هل يُعد المدح والذَّم لرجال السَّند منحصراً في خصوص ورودهما من الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

السنَّة والبدعة.

لماذا تسمَّى العامَّة بأهل السنَّة؟

علاقة السنَّة بآيات الأحكام.

ص: 10

صفات الرَّاوي.

صفات الرِّواية.

لماذا التَّقسيم إلى الصَّحيح والحسن والضَّعيف والموثَّق.

أسباب التَّعارض في الأخبار.

ورود استضعاف النَّبوياَّت.

قاعدة (الجمع مهما أمكن أولى من الطَّرح).ضعف السَّند وجبره بعمل الأصحاب.

الفرق بين كون القران هو الثِّقل الأكبر والسنَّة هي الثِّقل الأصغر وبين كونه هو عدلها وهي عدله والتَّوجيه مع إمكانه إن صحَّ دليل الطَّرفين.

الفصل الثَّاني / الاحتجاج بالسنَّة من الكتاب والسنَّة.

الأوَّل/ بطلان الانسداد الكبير والأقل فضلاً عن الأكثر.

الثَّاني/ شيء من الكلام عن التَّعبُّد بأخبار الآحاد.

الثَّالث/ الفرق بين الانفتاح والانسداد من مراتب الاثنين مع نتائج كل منها في الأوامر علميَّاً بين المراتب من كل منهما مع العمل قبولاً ورفضاً.

الرَّابع: من أدلَّة ما يمكن منه عدم اعتبار خبر الواحد عند العلماء إلاَّ مشروطاً.

خاتمة جزء مباحث الألفاظ: الأصول ومعالجة بعض النُّصوص المختلف فيها بين الفريقين وما شابه ذلك.

المدخل الأوَّل المدخل الثَّاني والمطلب الأوَّل / مقدِّمات البحث

المطلب الثَّاني / موارد إمكان اتِّفاق هذا الحديث وأمثاله مع الأدلَّة الصَّحيحة الأخرى من عدمه

المطلب الثَّالث / خلاصة المطلب مع نتيجته.

ص: 11

الباب الخامس

وفيه ثلاث مقامات:-

المقام الأوَّل

ما يشترك في آيات الأحكام والسنَّة الشَّريفة

وفيه فصول:-

الفصل الأوَّل

العموم والخصوص

بعد الفراغ من مجملات بحث الظهور وحجيَّته في الكتاب من خصوص (آيات الأحكام) وما تبعه من السنَّة الشَّريفة بعد اليأس من آثار النُّصوص المناسبة الممكنة منهما وذكر أنَّ من حالات ذلك الظهور مباحث لفظيَّة مهمَّة -

يجب الخوض لاستقصاء الغرض الشَّرعي أصوليَّاً في مداليل ألفاظ هذه الآيات وما يتبعها من السنَّة من كل ما يتوقَّف الفهم عليه من المباحث الأخرى التَّابعة لها أيضاً.

وأوَّل هذه الأمور هو الكلام عن العموم والخصوص وما يتعلَّق بهما والحديث عنهما يمكن استيفاؤه بأمور:-

ص: 12

الأوَّل/ تعريف العام والخاص

فمعنى العام لغة: هو ما أدَّى إلى الشُّمول لكل الأفراد، أو للأفراد الكثيرة الَّتي قد تستوفى غرض مريد العموم نوعاً، أو ذات السَّريان إلى الكل لعدم خضوعه للقيود ولو خفاءاً، أو لكونه واسع الدَّائرة.

ومعنى الخاص: أنَّه المحصور بجماعة، أو ضيِّق الدَّائرة، أو الَّذي لا يسري إلى غير العدد المعيَّن، أو المتَّصف بصفة معلومة أو المنطبق على معيِّن بالذَّات.

واصطلاحاً: فقد لا يختلف عن المعنى اللُّغوي في بعض أو جميع الأحوال على ما تدل عليه قرائن ذلك، لأنَّ الاختلاف إن وجد فهو في العرف الخاص لعلم الأصول الَّذي ترتَّب فيه خصوصيَّات لسان الدَّليلين الكتاب والسنَّة الَّتي تلحق به أو الَّتي يحتاجها مجمل الكتاب.

وعليه فالعام هو (اللَّفظ الشَّامل بمفاده ومفهومه لجميع ما يصلح انطباق عنوانه عليه في ثبوت الحكم الشَّرعي وممَّا لا علاقة له بالخاص).

وهذا ما يمكن أن يتحقَّق بأقل الجمع الَّذي يتحقَّق به العموم إذا كان أقصى به يراد، كما في أمر الشِّياع المفيد للعلم، وهو ما يرتبط بأقل نسبه الَّتي يحددها لفظ (كل حديث جاوز اثنين فهو شايع)، وكما في أمر الإجماع الحاوي في عدد أفراده المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وإن كان في ضمن ثلاثة على ما حدِّد منطقيَّاً لمثال الشِّياع وأصوليَّاً لمثال الإجماع.

وكلا المثالين ليسا على أساس الحصر والتَّحديد، مع إمكان شمول العام للاثنين -- ولذا سمِّي منطقيَّاً بالجمع المنطقي -- والواحد لكونه يتقوَّم به كل عدد وإن لم يتحقَّق بهما ذلك العموم لبعض الاعتبارات على ما سيأتي بيانه.

والخاص: هو (الحكم الَّذي لا يشمل إلاَّ بعض أفراد موضوعه أو المتعلَّق به أو

ص: 13

المكلَّف به، ومن كل ما له علاقة بالخاص من العمومات).

وعلى هذا المعنى فيكون معنى التَّخصيص هو (إخراج بعض الأفراد عن شمول الحكم العام بعد أن كان اللَّفظ في نفسه شاملاً له لولا التَّخصيص)، وهذا ما يستفاد من الأدلَّة كتاباً وسنةً في التَّطبيق.

ولتقريب معنى التَّخصص على هذا يكون هو (أن يكون اللَّفظ - من أوَّل الأمر بلا تخصيص لفظي من أحد - غير شامل لذلك المفرد غير المشمول للحكم)، كالمرسل إرسال المسلمات في خروج هذا الفرد عن العموم تخصُّصاً في الأدلَّة والعرف الشَّرعي، أو المخصِّص عمليَّاً بعمل الأصحاب حتَّى عرف هكذا تخصُّصاً أو تخصيصاً.

وقد ذكرنا هذين التَّعريفين لغة واصطلاحاً مع وضوحهما للزِّيادة في الإيضاح.

الثَّاني / الحاجة إلى البحث في العموم والخصوص

بعد ثبوت الحجيَّة للظهور القرآني الَّتي هي كالحجيَّة الَّتي لنصوصه صار كمرتبةثانية لزاماً علينا الكلام عن المهمَّات الَّتي يصفها لنا هذا الظهور، والَّتي من أهمِّها -- وكما أشرنا الآن -- العموم والخصوص، لمعرفة مدى حجيَّة كل منهما -- من حيث نفس هذا الكل ومن حيث حجيَّتهما معاً لو تلابسا معاً أو جاء الخاص بعد العام أو العام بعد الخاص - وتبيُّن حالات ذلك ممَّا يعطى العموم المخصَّص وغيره.

وذلك لأنَّ القرآن الكريم في آيات أحكامه، بل هكذا السنَّة قد حويا العام والخاص في نصوصهما وظواهرهما كما لا يخفى على المتتبِّع من العارفين، سواء في حالة الانفراد أو التَّلابس المشار إليه.

ولكن لصعوبة إحراز القول بالعموم - والبناء عليه أو الخصوص كذلك - على كل أحد في كل منهما في أن يكون ثابتاً لنفسه أو مرتبطاً مع الآخر حتَّى يعرف مدى

ص: 14

الحجيَّة له دون غيره أو معه.

كان لابدَّ من الخوض في بعض التَّفاصيل الَّتي في هذه الحالة، ممَّا أمكن من الموارد المحتملة للخروج بالمحصَّلة الأصوليَّة النَّافعة ذات القواعد المفيدة.

الثَّالث / ألفاظ العموم

إنَّ للعموم ألفاظاً خاصَّة دالَّة عليه، إمَّا بالوضع أو الإطلاق حسب اقتضاء مقدِّمات الحكمة، وهي ألفاظ مكوَّنة من ترتيبين:

أحدهما: ما إذا كانت ألفاظاً مفردة مثل (كل)، كما لو وقع في الجملة الشَّرعيَّة الَّتي تقول (كل بالغ عاقل تجب عليه الصَّلاة اليوميَّة).

ومثل ما في معنى كل ك- (جميع)، كقول الشَّارع جملة (جميع الفقراء العوام يستحقُّون الزكاة).

وك- (تمام) كقول الشَّارع جملة (تمام المحرَّمات الشَّرعيَّة محرَّمة على البالغين العاقلين).

وك- (أي) كقول الشَّارع (أي إنسان بالغ عاقل تجب عليه طاعة الله).

وك- (دائماً) كقول الشَّارع (يجب الصَّوم كل عام في شهر رمضان على كل بالغ عاقل غير مريض وغير مسافر دائماً).

ثانيهما: ما إذا كانت هيئات لفظيَّة وهي حالتان:

أ - وقوع النَّكرة في سياق النَّفي أو النَّهي.

والأوَّل: مثل (لا رجل في الدَّار).

والثَّاني: مثل (لا ضرر ولا ضرار)(1).

ص: 15


1- وسائل الشِّيعة: ج 17 ص 341، ب 12 من أبواب إحياء الموات ح3 و 5، و ص319 باب 5 من أبواب الشفعة ح 1.

بناءاً على أن لا ناهية أو في مقام النَّهي، وإن كانت بمظهر النَّفي، كما سيجيء عند الكلام عن قاعدة (لا ضرر ولا ضرار).

ب - كون اللفظ جمعاً محلَّى بالألف واللام، أو مفرداً محلَّى بهما.

فالأوَّل مثل أمر الشَّارع (أكرم العلماء).

والثَّاني مثل قوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا](1)، وقول الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ (إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجِّسه شيء)(2).

بشرط عدم كون الألف واللام للعهد الخارجي في الاثنين من هذا الثَّاني.

الرَّابع / أقسام العام

فإنَّ أقسام العام ثلاثة:

1 - العموم الاستغراقي، وهو كون الحكم شاملاً لكل فرد فرد، كقول الشَّارع (عظِّم كل إمام مفترض الطَّاعة)، لكون كل فرد منه موضوعاً للحكم، سواء غابوا أو وفِّقنا لرؤية بعضهم.

2 - العموم المجموعي، كإيماننا بكل الأئمَّة الاثني عشر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من غير استثناء، حينما عرفنا هذا من الخطاب الدَّال على ذلك، كعقيدتنا العامَّة بهم جميعاً تولِّياً وتبرِّياً.

3 - العموم البدلي، وهو كون الحكم لواحد على نحو البدليَّة كقول الشَّارع (اعتق أيَّ رقبة شئت) نظير الواجبات الكفائيَّة في المعنى لا اللَّفظ إذا أعطى المكلَّف اختياراً لنفسه في هذا.

ص: 16


1- سورة البقرة / آية 275.
2- وسائل الشِّيعة: باب عدم نجاسة الكر من الماء الرَّاكد ح 2، ج 1، ص 117.

الخامس / في الجمع المنكَّر

قال الأصوليون: بأنَّ أكثر العلماء ذكروا أن الجمع المنكَّر - كلفظة علماء وفقهاء أو نحو ذلك - لا يفيد العموم، بل يحمل على أقل مراتبه كالثَّلاثة.

وذهب الباقون أو بعضهم إلى إفادته العموم، وعزوا إفادته ذلك إلى ارتباطه بمقدِّمات الحكمة، وهي:-

الأولى: أن يكون المتكلم في مقام البيان ومتمكِّناً منه، لا في مقام التَّشريع.

الثَّانية: إمكان العموم والخصوص، أو الإطلاق والتَّقييد الآتي من جهة صحَّة التَّقابل.

الثَّالثة: عدم نصب قرينة على الخصوص على التَّقييد متَّصلة ولا منفصلة.

واحتجَّ للأكثر: في إفادة أقلِّ الجمع لا العموم بأنَّ (رجالاً) مثلاً بين الجموع في صلوحه لكل عدد بدلاً، ك- (رجل) بين الآحاد في صلوحه لكل واحد.

فكما أنَّ رجلاً ليس للعموم فيما يتناوله من الآحاد كذلك رجالاً ليس للعموم فيما يتناوله من مراتب العدد غير أقل الجمع.

واحتجَّ الباقون: للدلالة على العموم بأنَّ هذه اللَّفظة وهي (رجال) قد تدل على القلَّة والكثرة لو صدرت من حكيم، فإذا أراد القلَّة وحدها لبيَّنها، وحيث لا قرينة وجب حمله على الدِّلالة على الكل.

ولكن أجيب لنفي الدِّلالة على الكل بإجابتين:

أولاهما: بالمعارضة النَّقضيَّة بأنَّه لو أراد الكل من رجال لبيَّنه كذلك.

وثانيهما: بأنَّنا لا نمنع عدم القرينة، إذ يكفي فيها كون أقل المراتب مراداً قطعاً.

ولكن يمكن مناقشة القولين أيضاً، وهو القول بعدم إرادة العموم.

والقول بإرادته بإمكان إرادة القلَّة والكثرة كما أشرنا بالمقدِّمات.

ص: 17

لأنَّ أقل المراتب المراد قد يكون مراداً على تقدير خصوصه، وقد يكون في ضمن المراد الأكثر منه، لكن يحتاج لإثبات ذلك في الكتاب والسنَّة إلى مثبت.

ولكن إن اكتفي بالدِّلالة على الكثرة -- لا خصوص جمع القلَّة ولا الجميع -- لأمكن الاستدلال على ذلك بقوله تعالى [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ](1) وقوله [رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ](2)) وغيرهما بناءاً على أنَّ أسباب النزول لا تخصِّص المورد وهو المتبع.

ومن ذلك قوله تعالى [وَقَلِيلٌ مَا هُمْ](3) فقد يجتمع مع الآيتين وبما يمنع عن الكثرة نسبة إلى الأقل من القليل أو بقاءه على صحَّة نوع القليل.

يبقى كون الجميع يراد حتماً بالقرينة فهو مرتبط بها، ولكنَّه خارج عن مقصودنا.لأنَّ المقصود هو إرادة أن يكون الجمع المنكَّر دالاً على العموم وحده، وهذا لم يثبت بالدقَّة القطعيَّة إلاَّ بما يحقِّقه المحقِّقون اجتهاداً فيما تجتمع عليه النُّصوص أو الظواهر بعد اليأس من النُّصوص.

السَّادس/ في شمول الخطاب للمعدومين

إنَّ الآيات المصدَّرة بالخطاب للنَّاس والمؤمنين كقوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] و[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ممَّا يسمَّى بخطاب المشافهة وإن أريد به من نزول الوحي في زمنهم ولهم بصورة أقرب إلى الواقع أو فيهم كما في الخطاب الذي خصَّ به النَّبي والرَّسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لصالح الأمَّة، وكذا ما خصَّ به الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في البداية بآيات [الَّذين

ص: 18


1- سورة الأحزاب / آية 23.
2- ) سورة النور / آية 37.
3- سورة ص / آية 24.

آمنوا].

ولكن بما أنَّ الرِّسالة عامَّة ومطلقة فلابدَّ من إرادة الباقين إلى يوم القيامة.

بل حتَّى الأمور الخاصَّة كالآيات النَّازلة في حقِّ أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ وكانت متضمِّنة بعض التَّكاليف الشَّرعيَّة المستحبَّة كالتَّصدُّق بالخاتم ونحو ذلك، وهكذا كل ما مرَّ ذكره من أسباب النُّزول الَّتي لابدَّ وأن ترتبط آياتها بأحداث خاصَّة لها مدحاً أو ذمَّاً.

فلابدَّ لجميع هذه الأمور من أن تكون منافعها وما يعاكسها مرتبطاً بأمور العالمين من المعدومين في زمن نزول الآيات والَّذين ولدوا بعد ذلك وسوف يولدون بعدهم.

ولكن إرادة المعدومين بهذه الخطابات المفيدة للعموم لن تكون ثابتة بنفس خطابات المشافهة المذكورة بما أشرنا إليه، وإنَّما بدليل آخر.

وهو قول أصحابنا وأكثر أهل الخلاف بدليل عدم صحَّة مخاطبة المعدومين ب-[يَا أَيُّهَا النَّاسُ] وأمثالها، لما أرسي من الدَّعائم والقواعد الأدبيَّة العربيَّة الخاصَّة، وهكذا الخطابات الأخرى، وإنكار هذا مكابرة وعدم رضوخ للواقع.

وأيضاً إنَّ الصبية والمجانين زمن الخطاب ونزول الوحي لمَّا لم يُشملا قطعاً لعدم تكليفهم آنذاك فعدم شمول المعدومين بذلك يكون من باب أولى.

وذهب قوم منهم إلى تناوله بصيغته ولمن بعدهم، واحتجُّوا بوجهين:

الوجه الأوَّل: أنَّه لو لم يكن الرَّسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مخاطباً لمن بعده بآيات الأحكام وبقول (قولوا لا إله إلاَّ الله تفلحوا) ونحو ذلك لم يكن مرسلاً إليه، واللازم منتف، لأنَّ رسالته ثابتة للجميع قطعاً لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ](1) و (العالمين) لم تحد بزمان النَّبي والرَّسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وعليه الإجماع.

الوجه الثَّاني: إنَّ العلماء لم يزالوا يحتجُّون على أهل الأعصار ممَّن بعد

ص: 19


1- سورة الأنبياء / آية 107.

الصَّحابة بالمسائل الشَّرعية بالآيات والأخبار المنقولة عن النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، وذلك إجماع منهم على العموم.

وأجيب أهل القول الثَّاني عن الوجه الأول: بمنع أن لا تبليغ إلاَّ بهذه العمومات المشابهة، لأنَّ التبليغ لا يتعيَّن فيه المشافهة، بل يكفي حصوله للبعض مشافهة وللباقين الآتين بعدهم بنصب الدَّلائل والإمارات على أنَّ حكمهم حكم الَّذين شافههم الرَّسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.

وعن الوجه الثَّاني: بأنَّه لا يتعيَّن أن يكون احتجاجهم لتناول الخطاب بصيغته لهم، بل يجوز أن يكون ذلك لعلمهم بأنَّ الحكم ثابت عليهم بدليل آخر، وهذا ممَّا لا نزاع فيه.

إذ كوننا مكلَّفين ونحن في آخر الزَّمان بما كُلِّفوا به معلوم بالضَّرورة من الدِّين.

وسعة الأدلَّة كتاباً وسنَّة وما حواه لنا علم الأصول من خيرة الأسانيد والمعالم للتَّدليل بأمتن الأدلَّة مبني على هذا وأمثاله، حتَّى شاع (ما خفي على فقيه طريق لكل مسألة مهمة)، وبالأخص في أمور الضَّرورات الدِّينيَّة، فإنَّه خير كاف للمقام.

السَّابع / عوامل التَّخصيص

إنَّ عوامل التَّخصيص للعام عديدة:-

منها: (إلاَّ) كقولك (أكرم العلماء إلاَّ الفسَّاق) أو قولك (أكرم العلماء) ثمَّ بعد فترة قلت (أكرم العلماء إلاَّ الفسَّاق).

ومنها: لا النَّاهية كما لو قلت (أكرم العلماء ولكن لا تكرم الفسَّاق منهم) أو قلت (أكرم العلماء) وبعد مدَّة قلت أيضاً ( لا تكرم الفسَّاق منهم).

ومنها: لا دائماً كقولك ( حارب الكفَّار لا دائماً) أي فيما إذا قرب انصياعهم أو رجحان مهادنتهم.

ص: 20

ومنها: بعض كقولك (بر بالأيتام) ثمَّ قلت (اترك بر بعضهم) حينما عرفت أنَّ بعضهم اكتفوا.

ومنها: التَّخصيص بالمفهوم الموافق كما في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ](1) الَّتي عمومها بالعربيَّة وغيرها، فإذا خصَّت ب- (بعت) مثلاً عربيَّاً - وكلمة بعت ماض أقرب وأصرح في الإنشاء كما سيأتي - كانت العقود صحيحة بهذا التَّخصيص دون الفعل المضارع، وعلى الأخص إذا لم يعتبر الماضي في اللُّغات الأخرى.

ومنها: بالمفهوم المخالف كقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا](2) الدَّال بمفهوم الشَّرط على جواز الأخذ بخبر غير الفاسق بغير تبيُّن إذا يعد غير الفاسق عادلاً، بناءاً على عدم وجود الواسطة بين الفاسق والعادل وهو المجهول أو وجود الواسطة وهو المجهول في أمره وصحَّة القول بعدم الحاجة إلى التَّبين في خبره لو أخبر.

ومنها: بتخصيص آية بآية كما في قوله تعالى [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ](3) في بدء الدَّعوة إلى الصَّوم تخييراً بين الفدية والصَّوم ثمَّ حصر ترك الصَّوم على المريض والمسافر بقوله [فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ].

ومنها: بتخصيص آية من رواية متواترة كما بين قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا](4) وبين حديث الثَّقلين القاضي بالأخذ بمجموع

ص: 21


1- سورة المائدة / آية 1.
2- سورة الحجرات / آية 6.
3- سورة البقرة / آية 184.
4- سورة الحشر / آية 7.

المستفاد من الكتاب والسنَّة ومن ذلك تخصيص العمومات الَّتي في الآية المذكورة الَّتي قد يراد منها عموم المأخوذ عن النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وإن كان من صحابي.

فبمحو هذا الحديث المتواتر حصر الأخذ الشَّرعي وبالأخص في الفقهيَّات في كونه لابدَّ وأن يكون عن العترة المطهَّرة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

ومنها: بتخصيص من خبر عادل واحد لآية، وبتعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده كما في قوله تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ](1) إلى قوله [وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ](2)، فإنَّ المطلَّقات عامَّة للرَّجعيَّات وغيرهنَّ ولكن الضّمير في بعولتهنَّ يراد به خصوص الرَّجعيَّات.

ومنها: بتخصيص العام بمخصَّص متَّصل كقولك (أكرم كلَّ عالم إلاَّ الفسَّاق).

ومنها: بتخصيص العام بمخصَّص منفصل كقولك (أكرم كلَّ عالم) ثمَّ بعد فترة تقول(لا تكرم الفسَّاق منهم)، وسريان الإجمال الَّذي في المخصَّص في العام كما في الشُّبهة المفهوميَّة والشُّبهة المصداقيَّة.

وسيجيء هذه الأنواع من التَّخصيص فيما يأتي من أمور هذا البحث تباعاً بإذن الله تعالى.

الثَّامن / في استعمال العام قبل ورود المخصِّص عليه

أو وروده على المخصِّص

قد يكون الكلام عن استعمال العام متفاوتاً بين ما إذا أتى بدون مخصِّص - ولكنَّه يحتمل مجيئه بعده، بسبب وجود بعض الأقوال لبعض الفقهاء العظام الَّذين لم

ص: 22


1- سورة البقرة / آية 228.
2- سورة البقرة / آية 228.

يفتوا إلاَّ عن دليل، وكان من نوع المنفصل الَّذي مرَّ بيانه -

وبين ما لو جاء بعده ذلك المخصِّص المنفصل، ومن المنفصل ما لو جاء بعد حضور وقت العمل.

فإن أتى العام قبل الخاص، فقد ذهب بعض من أصحابنا إلى جواز الاستدلال به قبل استقصاء البحث في طلب التَّخصيص، ومال إلى هذا القول بعض العامَّة على ما حكي عنهم، وهو ما ينفعنا في عملية التَّقريب المذهبي، ولعلَّ في هذا القول قوَّة لو احتمل الفور في الخطاب بالعموم، فضلاً عما لو بدت قراءته.

واستقرب الشَّيخ في النِّهاية عدم الجواز، ومال إلى هذا القول بعض العامَّة أيضاً على ما حكي عنهم، وهو نافع في عملية التَّقريب اليوم أيضاً لو تمَّ دليله ما لم يستقص في طلب التَّخصيص.

وهذا القول يمكن الأخذ به لو احتمل وجود التَّخصيص لهذا العام، ولو لما عرف مشهوراً من قول (ما من عام إلاَّ وقد خص)، وفي الأخص لو كانت الفوريَّة فيه غير واردة أو محتملة أو كانت هناك أقوال تشير إلى وجود أثر لعدم العام وحده.

وهذا الأمر مع ما وجَّهناه هيِّن.

وإنَّما المهم من مبلغ البحث هو أنَّه قال الأكثر يكفي العمل بالعام بحيث يغلب معه الظن بعدم التَّخصيص.

وقال بعض إنَّه لا يكفي ذلك، بل لابدَّ من القطع بانتفائه.

وهذا القول لهذا البعض قد يكون مبنيَّاً على القول المشهور القائل (ما من عام إلاَّ وقد خص)، ولكن لا ينكر وجود شيء من المبالغة فيه، لوجود كثير من العمومات المعمول بها وحدها، وبالأخص مع احتمال الفوريَّة في الامتثال في بعض العمومات كوجود أقوال تحبِّذ على الامتثال الفوري.

يبقى الكلام الصَّحيح وارداً في أنَّه مع الاحتمال - فضلاً عن وجود الظن -

ص: 23

بالمخصِّص مع عدم الفوريَّة المذكورة لابدَّ من السَّعي، للتَّعرف عن المخصِّص حتَّى يحصل الانتفاء، وهو الأحوط دون الحاجة إلى تحصيل اليقين بالانتفاء.

ودليل ذلك أنَّ المجتهد يجب عليه البحث عن الأدلَّة وكيفيَّة دلالتها، والتَّخصيص كيفيَّة في الدِّلالة، ولذا قد شاع ما قيل (ما من عام إلاَّ وقد خص)، لكثرة العمومات المخصَّصة لا لكلِّها، فصار احتمال ثبوته مساوياً لاحتمال عدمه، وتوقَّف ترجح أحد الأمرين على البحث والتَّفتيش.

وإنَّما اكتفينا بحصول الظن ولم نشترط القطع، لأنَّه ممَّا لا سبيل إليه غالباً، إذ غاية الأمر عدم الوجدان، وهو لا يدل على عدم الوجود، فلو اشترط القطع لأدَّى إلى إبطال العمل بأكثر العمومات وهي كثيرة لوحدها في أدلَّة الأحكام.

تبقى قرائن فوريَّة الواجبات واحتمال الموت عند التَّأخير - وبالأخص لو تأخَّر الخاص ومنه حالات ما بعد وقت العمل أو تعسَّرت بعض المصادر لتحصيل وجود المخصِّص أو عدم قطعاً - فحينئذ يكون المورد من موارد استعمال العام لا محالة إلى أنيأتي المخصِّص.

وبذلك تظهر حالة المبالغة الَّتي في القول المذكور (ما من عام إلاَّ وقد خص) وهي الَّتي تعني عدم الحاجة إلى إعمالها في كل حالة للعموم، ولأنَّ العموم أصالة يرجع إليها عند الشَّك.

التَّاسع / عمل العام مع الخاص المتِّصل والمنفصل

فإذا دخل الخاص على العام - أو دخل العام على الخاص - فلابدَّ إمَّا أن يكون الخاص متَّصلاً أو منفصلاً.

والأوَّل: هو أن يقترن بالعام مخصِّصه في نفس الكلام الواحد الحاصل من المتكلِّم كقول (أشهد أن لا إله إلاَّ الله)، وهذا الاتِّصال الَّذي بسبب إلاَّ، ولفظ

ص: 24

الجلالة من كلمة الإخلاص قرينة على إرادة ما عدا الخاص من العموم المنفي، ومن ذلك القرينة الحاليَّة المكثَّف بها الكلام الدَّالة على إرادة الخصوص على وجه يصح تعويل المتكلِّم عليها في بيان مراده.

والثَّاني: أن لا يقترن به مخصصِّه في نفس الكلام، بل يرد في كلام آخر مستقل قبله أو بعده، وبهذا يكون الاتِّصال قرينة على إرادة ما عدا الخاص من العموم كالأوَّل كقولك (أكرم العلماء)، وبعد ساعة تقول (لا تكرم الفسَّاق منهم).

وبما أنَّ قرينة الأوَّل والثاني تعطي نفس النَّتيجة في المعنى فلا فرق بين الاثنين، وبالأخص لو كان الثَّاني وهو الانفصال لم يكن المخصِّص فيه حاصلاً بعد حضور وقت العمل كما سيتَّضح.

نعم هناك فرق بسيط بين المتِّصل والمنفصل لا أجده مضرَّاً في التَّقارب بينهما، وهو أنَّ المتِّصل لا ينعقد لكلامه ظهور إلاَّ في الخصوص وهو باقي العموم، والمنفصل ينعقد لعامَّه ظهور في أوَّل الأمر ثمَّ يخصص بعد ذلك، إلاَّ أن خاصَّه يكون أقوى، ولذلك يغطَّي على العموم حين مجيئه فوراً.

العاشر/ هل استعمال العام في المخصَّص حقيقة أم مجاز؟

لمَّا بيَّنا آنفاً في التَّمثيل للمتِّصل والمنفصل من العامَّين المخصصين في أنَّه قد حصل ذلك بسبب القرينة لكل منهما - حين أمر الآمر بهما مثلاً أو ببركة ما ظهر بعد استفراغ الوسع - صار ذلك مدعاة لبيان المراد من هاتين القرينتين في أنَّهما هل كانتا للتَّدليل على المجازيَّة في الاثنين؟

أم أنَّ ذلك مبقياً للعام المخصِّص على حقيقته في العموم؟ وإن قلَّت أفراده حتَّى لو وصل إلى أقل نسبة كالواحد أو الاثنين أو أقل الجمع.

فإنَّ الأقوال قد تعدَّدت في هذا الأمر:-

ص: 25

الأوَّل: يقول بالمجاز في الاثنين، لأنَّه استعمال للشَّيء في غير ما وضع له.

الثَّاني: بأنَّه حقيقة لكليهما، ولعلَّه للاعتماد على قاعدة المبالغة القائلة (ما من عام إلاَّ وقد خص)، لأنَّها مهما أثَّرت أثرها في العام عند تخصيصه - وبالأخص لو كان العدد الباقي كبيراً - لا يخرج ما بقي عن أن يكون نفس ذلك العام دالاَّ عليه.

الثَّالث: بالتَّفصيل، وهو كون الحقيقة حاصلة في المتِّصل والمجاز للمنفصل، وقد يشتد ذلك فيما لو كان بعد حضور وقت العمل.

وقيل العكس، وهو المجاز للمتِّصل والحقيقة للمنفصل.

وانتصر للحقيقة في الاثنين وهو الحق، بدليل أنَّ القول بالمجاز توهُّم، لأنَّ أداة العموم لمَّا كانت موضوعة للدِّلالة على سعة مدخولها وعمومه لجميع الأفراد، فلو أريد بعضه فقد استعملت في غير ما وضعت له فصارت مجازاً، وبهذا حصل التَّوهم.

بينما لو تأمَّلنا يسيراً لوجدناه يندفع بأسهل ما يكون.

لأنَّه في التَّخصيص بالمتِّصل إذا قلت (أكرم كل عالم إلاَّ الفاسقين)، فإنَّك لم تستعملأداة العموم إلاَّ في معناها، وهو الشُّمول الَّذي ينتج مع الاستثناء (أكرم كل عالم عادل).

وإنَّما لا يراد غير العموم في (كل) الَّتي للحقيقة، فلعدم صحَّة أن يكون مكان (كل) كلمة (بعض) ليتوهم باستعمال الشَّيء في بعض ما وضع له بسبب القرينة المتوهِّمة وهو المجاز، ولذا لا يقبل (أكرم بعض العلماء إلاَّ الفاسقين).

وإذا قبلناه تنزُّلاً لما يتَّضح الاستثناء المخصَّص، وهو ما لا يستقيم لو قلنا (أكرم بعض العلماء العدول)، لأنَّا وصلنا سابقاً إلى صحَّة قول (أكرم كل عالم عادل) دون غيره.

وأمَّا في الَّذي تقل أفراده ولم يبق إلاَّ الواحد أو الاثنان أو الثَّلاثة فهو داخل في الحقيقة، إذا لم يكن من مصاديق الكل، إلاَّ هذه النِّسبة كقول (اعتق كل عبد) ولم

ص: 26

يوجد إلاَّ هذه النِّسبة القليلة.

وكذا لو قال القائل (أكرم كل عالم عادل) لو قلَّ العلماء العدول وما بقي منهم إلاَّ هذا النَّفر اليسير ولو صدفة، وهكذا في كلمة الإخلاص وهي (لا إله إلاَّ الله) حيث نفت كل إله غير الله تعالى.

وبهذا البيان يكتفى ببيان مثبت الحقيقة، لأنَّ المجاز استعمال الشَّيء في غير ما وضع له، وصيغ التَّكليف يعد مألوفها الأساسي هو الحقائق نوعاً لا المجازات وإن توفَّرت.

الحادي عشر: في جواز التَّخصيص حتَّى يبقى واحد

إذا جاء الخاص فخصَّص العام فكم هي النِّسبة المقبولة لتبقي مراده من العام؟

ذهب بعض إلى جواز التَّخصيص حتَّى يبقى واحد، ويمكن التَّمثيل لهذا يقول (أكرم كل عالم إلاَّ الفسَّاق) وصادف أنَّه لم يكن من العلماء عدولاً إلاَّ واحد، ويمكن أن ينظَّر له بكلمة الإخلاص وهي (لا إله إلاَّ الله)، لأنَّ الاستثناء نفي كل آلهة وما بقى ألا الله، وممَّن ذهب إلى هذا الرأي السيد المرتضى والشَّيخ وأبو المكارم وبن زهرة(1).

وقيل حتَّى يبقى ثلاثة، ويمكن التَّمثيل له بالمثال الأوَّل، وإذا كان الباقي من العلماء العدول صدفة ثلاثة، وهو الجمع اللُّغوي، ولكن بحكمه مثال كلمة الإخلاص في المثال الثَّاني لأنَّه لم يبق منه إلاَّ الواحد.

وقيل اثنان، وهو الجمع المنطقي، ولكن يحكمه مثال كلمة الإخلاص كذلك، وهذا النَّوع من التَّخصيص إن صحَّ أو لم يصح يسمَّى بتخصيص الأكثر، ولعل

ص: 27


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين / ابن الشَّهيد الثَّاني ص157.

التَّعبير به - بهذه العبارة - عبارة عن عدم الرِّضا بها.

وذهب الأكثرون ومنهم المحقِّق(1) إلى أنَّه لابدَّ من بقاء جمع يقرب من مدلول العام، إلاَّ أن يستعمل في حق الواحد على سبيل التَّعظيم.

ولعلَّ مراد الأكثر هو التَّعظيم لله الواحد، ولكن وحده الله تعالى مع فخامتها المقدَّسة لا تخرج عن كونها ذات وحدة حقيقيَّة، فضلاً عن الأكثر من الأعداد في نسبها القليلة.

ولعلَّ مرادهم أيضاً من هذا التَّحديد في تخصيص الأكثر المرتجى قبوله أو المقبول حقَّاً هو المراد من وضع النُّصوص الشَّرعية، لا ما يصادفها في التَّطبيق والاستعمال.

وأمَّا ما يستدل به الأكثر أو بعضهم من الأمثلة الَّتي تضرب، لمحاولة التَّدليل على عدم قبول أي عدد قليل، وهو المسمَّى بتخصيص الأكثر.

إلاَّ بما وضح من حمله على التَّفخيم كقولهم بقبح قول القائل (أكلت كل رمَّانة في البستان) وفيه آلاف وقد أكل واحدة أو ثلاثة، وقبح قوله (أخذت كل ما في الصندوق من الذهب وفيه ألف وقد أخذ ديناراً أو ثلاثة).

فإنَّ القولين مع إمكان حملهما على صفة المبالغة المرادة الَّتي قد تعطي معنى نسبة الكثرة المرادة، بلا فرق بين الواحد والاثنين والثَّلاثة، لأهميَّة المأكول في نظر صاحب البستان البخيل، أو المأخوذ في نظر صاحب الصندوق الحريص وهما غير الأكَل أو الآخَذ، فهما ليسا كالنُّصوص الشَّرعية حتَّى لو أريدت وضعاً كذلك.

لأجل أنَّ الاستعمال الشَّرعي قد يصادفه النِّسب القليلة من الأعداد المتوفِّرة من حيث التَّطبيق، كما لو فرض أن قال النَّص (كل من دخل داري فهو حر)، ولم يدخله صدفة إلاَّ العدد القليل، أو (كل من جاءك فأكرمه)، ولم يفسَّر إلاَّ بواحد أو اثنين أو ثلاثة.

ص: 28


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين / ابن الشَّهيد الثَّاني ص157.

فإذا وجد المخصِّص بعد هذين المثالين لا مانع من دلالة العموم على الباقي منه وإن قلَّ كهذه النِّسب، ولذلك جاء قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ](1) والمراد نعيم بن مسعود باتِّفاق المفسرين.

وعلم بالضَّرورة من اللُّغة صحَّة قولنا (أكلت الخبز وشربت الماء)، وما أكل وما شرب إلاَّ القليل منها منهما.

ولو ذكرت المبالغة في التَّعبير للرَّد، لقلنا بإمكان مصاحبة الشِّبع والارتواء بالقليلين من ذلك، بسبب القناعة الحقيقيَّة، لأنَّ القلَّة والكثرة من المعاني النِّسبية.

الثَّاني عشر / حجيَّة العام المخصِّص في الباقي

لمَّا تقدَّم الكلام عن العام المخصِّص باتِّصال في أنَّه لابدَّ وأن ينعقد له الظهور في العموم المخصِّص، وكما تقدَّم أيضاً حصول ذلك في العام المخصِّص بانفصال، ولكن الأوَّل يكون أظهر من الثَّاني أو من باب كون الأوَّل نصَّاً والثَّاني ظاهراً -

فقد ناسب الكلام حينئذ حول التَّعرُّف على أنَّ هذا الظهور أو الأكثر في المقام هل هو حجَّة في جميع باقي العام المخصِّص أم لا؟

فمُثِّل لذلك قديماً بما إذا قال السيِّد لعبده (أكرم كل من دخل داري إلاَّ فلاناً) باتِّصال أو قال (أكرم من دخل داري) ثمَّ سكت ثمَّ قال بعده (لا تكرم فلاناً) بانفصال، فترك الإكرام بغير من وقع النَّص على إخراجه كلاًّ أو بعضاً، عُدَّ في العرف عاصياً وذمَّه العقلاء على المخالفة.

وذلك دليل الظهور والحجيَّة معاً في جميع الباقي، بناءاً على حقيقة الارتباط بباقي العام كما ذكرنا سابقاً.

وأمَّا بناءاً على المجازيَّة والتَّشكيك في أمر دخول الواحد والاثنين ممَّا دون أقل

ص: 29


1- سورة آل عمران / آية 173.

الجمع مع هذا الأقل في بعض الأمثلة فقد مُثِّل لذلك حديثاً بما إذا شككنا في شمول العام المخصِّص لبعض أفراد الباقي من العام بعد التَّخصيص.

كما إذا قال الشَّارع (كل ماء طاهر إلاَّ المتغيِّر بالنَّجاسة) بدليل متَّصل أو قال (كل ماء طاهر) ثمَّ عقَّبه بالمنفصل بقول (الماء المتغيِّر بالنَّجاسة ليس بطاهر)، ونحن احتملنا استثناء الماء القليل الملاقي للنَّجاسة من دون تغيُّر.

فإذا قلنا بأنَّ العام المتخصِّص حجَّة في كل الباقي فلابدَّ من أن نطَّرد هذا الاحتمال بظاهر عموم العام في جميع الباقي، فنحكم بطهارة الماء الملاقي من غير المتغيّر حتَّى لو كان قليلاً.

وإذا لم نقل بحجيَّته لجميع الباقي يبقى هذا الاحتمال معلَّقاً ينتظر منَّا دليلاً آخر لبعض الشُّبه الآتي بيانها.

وهذا المثال الأخير ممَّا يشير إلى وجود أقوال في المسألة.لكن الحجيَّة لابدَّ من بقاءها ثابتة في أمر كل مصداق ثابت من الأفراد الباقية، وبالأخص كثيراً في المنفصل بعد حضور وقت العمل، وعلى الأكثر في الاستثناء المنقطع الخارج موضوعاً، لا ما يشك فيه بسبب اتِّصاله بالمتغيِّر ولم يتغيِّر وهو قليل، بل هو ثابت في عدم الطَّهارة من أدلَّة أخرى ولا من مثبت الحجيَّة لجميع المصاديق كما في المثال الأوَّل.

الثَّالث عشر / هل يسري إجمال المخصِّص إلى العام؟

فحينما يكون خاص مجمل ويدخل على عام فإنَّ الإجمال على نحوين:-

1 - (الشُّبهة المفهوميَّة)، وهي في فرض الشَّك في نفس مفهوم الخاص، بأن كان مجملاً نحو قول الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ (كل ماء طاهر إلاَّ ما تغيَّر طعمه أو لونه أو ريحه)، في التَّغيُّر الَّذي يشك فيه بأنَّ المراد من التَّغيُّر هو خصوص التَّغيُّر الحسِّي أو ما يشمل

ص: 30

التَّغيُّر التَّقديري، ونحو قولنا (أحسن الظن إلاَّ بخالد) الَّذي يشك فيه أنَّ المراد من خالد هو خالد بن بكر أو خالد بن سعد مثلاً.

2 - (الشُّبهة المصداقيَّة)، وهي في فرض الشَّك في دخول فرد من أفراد العام في الخاص، مع وضوح مفهوم الخاص بأن كان مبيَّناً لا إجمال فيه، كما إذا شكَّ في مثال الماء السَّابق ولكن بصورة أخرى مختلفة بعض الشَّيء وهي أنَّ ماءاً معيَّناً أتغيَّر بالنَّجاسة فدخل في حكم الخاص؟

أم لم يتغيَّر فهو لا يزال باقياً على طهارته؟

وكما إذا شكَّ في إنسان أنَّ يده حينما أخذ من أحد شيئاً يد أمانة فلا يضمن أم لا؟ فيكون ضامناً إذا تلف.

والكلام في الشُّبهتين يختلف اختلافاً بيِّناً، فلنفرد لكل منهما بحثاً مستقلاً.

أمَّا الأولى: وهي (المفهوميَّة) فدوران الشُّبهة فيها في حالتين:

أولاهما: ما بين الأقل والأكثر كنفس المثال السَّابق، فالأقل هو المتغيِّر الحسٍّّي، لأنَّه المتيقَّن في حالة الشُّبهة، والأكثر هو الأعم من الحسِّي والتَّقديري.

ثانيهما: كونه ما بين المتباينين كالمثال الثَّاني الَّذي بعده، فإنَّ هذا الدَّوران متساوي في نسبة التَّردُّد فيه بين الاثنين، وهما خالد بن بكر وخالد بن سعد بلا قدر متيقَّن من أحدهما دون الآخر.

وفي كلتا الحالتين قد يدخل الخاص المجمل على العام دخولاً باتِّصال، وقد يكون دخولاً بانفصال فتكون حالاتهما أربعة:

1 ، 2 - وهما إذا كانتا في حالة الاتِّصال، وفي كلا الحالتين لا يمكن الرجوع في شبهتهما إلى عموم العام وأصالته، وإنَّما إجمال المخصِّص يسرى إلى هذا العموم، لأنَّ الاتِّصال قرينة مأثِّرة، فلا ينعقد للعام ظهور فيما لم يعلم خروجه عن عنوان الخاص، فيجتنب المشتبه في تغيُّره حسَّاً وتقديراً، كما في مثال ما بين الأقل والأكثر

ص: 31

وهكذا لا يحسن الظن أيضاً بكلا المستثنيين المتردَّد فيهما تردُّد تباين كما في مثال المتباينين وهما خالد بن بكر وخالد بن سعد.

3 - في حالة الانفصال عند الدَّوران بين الأقل والأكثر فقط، ففي هذه الحالة لا يسرى إجمال الخاص إلى عموم العام بتمامه، لما بيَّناه سابقاً بأنَّ العام يجرى على طبيعته ما عدا القدر المتيقَّن وهو الأقل، وهو في المثال المتقدِّم خصوص الماء المتغيِّر بالتَّغيُّر الحسِّي.

وأمَّا فيما زاد على المتيقَّن وهو التَّغيُّر التَّقديري فلا حجيَّة للخاص على العام حتَّى يتأثَّر به.

نعم يمكن الاستعانة للقول بنجاسة التَّقديري كالماء القليل المتَّصل بالمتغيِّر بالنَّجاسة بسبب القلَّة ولم يتغيَّر من أدلَّة أخرى.

4 - في الدَّوران بين المتباينين إذا كان المخصِّص (منفصلاً)، فهو في المقام كالمتَّصل لحصول العلم الإجمالي بالتَّخصيص واقعاً، والتَّساوي في الاحتمال من دون قرينة مرجِّحة في اختصاص الدُّخول لأحد الفردين في مثال المتباينين السَّابق فيالاستثناء دون الآخر، كقول القائل (أحسن الظن) ثمَّ سكت وبعد فترة قال (لا تحسن الظن بخالد) ثمَّ حصل الشَّك والدَّوران، ولا قرينة في خروج أحدهما دون الآخر، ولذلك لا تبقى حجيَّة في العموم في كل منهما، بسبب التَّردُّد وتساوى النِّسبة بين الاثنين، لتأثير الاثنين في عموم العام بالنَّتيجة من هذا السَّبب.

إلاَّ أنَّ الفرق بين المتِّصل والمنفصل هو أنَّ المتَّصل المجمل يرتفع بسببه ظهور الكلام في العموم رأساً، والخاص المنفصل المجمل بالتَّردُّد بين المتباينين في مثاله ترتفع به حجيَّة الظهور لا من رأس وإنَّما بالتَّردُّد المتساوي فيجب ترك حسن الظن بكلا الشَّخصين خالد وخالد.

وأمَّا الثَّانية: وهي (المصداقيَّة) وهي الحاصلة في فرض الشَّك في دخول فرد من

ص: 32

أفراد ما ينطبق عليه العام في المخصِّص، مع كون المخصِّص مبيَّناً لا إجمال فيه كالإجمال في المفهوميَّة، وإنَّما الإجمال في ذلك المصداق، فمن حيث لا يعلم أنَّ هذا الفرد متَّصف بعنوان الخاص فخرج عن حكم العام؟ أم لم يُتَّصف به فهو مشمول لحكم العام كما في المثالين السَّابقين في المصداقيَّة؟

كما إذا شكَّ في الأوَّل وهو مثال الماء أنَّ ماءاً معيناً أتغيَّر بالنَّجاسة فدخل في حكم الخاص؟ أم لم يتغيَّر فكان باقياً على طهارته ولم يتَّصل بماء متنجِّس متغيِّر؟

وكما إذا شكَّ في الثَّاني في اليد الموضوعة على مال لإنسان آخر أنَّها يد أمانة أم لا؟ للاستفادة من مفاد قول النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (على اليد ما أخذت حتَّى تؤدي)(1) وفي كلا المثالين يُعد التَّخصيص المحتمل هو نفس الإجمال المعلوم فيهما.

فقد نسب إلى مشهور علماءنا القدامى بجواز التَّمسُّك بالعام في الشُّبهة المصداقيَّة من دون أن يؤثِّر الخاص أثره في هذا العموم لو كان بعده مخصَّص في الاتِّصال أو الانفصال، ولكن بما أنَّا قد ذكرنا في السَّابق أنَّ العام لو خصِّص لابدَّ وأن يتأثَّر بالخاص.

وبهذا لابدَّ وأن يظهر الفرق بين الشُّبهة المصداقيَّة وبين الشُّبهة المفهوميَّة في خصوص المنفصل عند الدَّوران بين الأقل والأكثر.

فإنَّ الخاص في الشبهة المفهومية ليس حجَّة إلاَّ في الأقل وهو القدر المتيقَّن، والزَّائد المشكوك لا علاقة له بالتَّأثُّر بالخاص، وأمَّا العام فهو الحجَّة فيه.

وعليه لا يكون الأكثر مردَّداً بين دخوله في تلك الحجَّة أو هذه الحجَّة، كالمصداق المردَّد.

بينما الشُّبهة المصداقيَّة ثابتة التَّأثُّر بالعام المخصِّص دون عموم العام وحده، وعليه فلا ضمان في مثل ما أفتى به المشهور في اليد المشكوكة بأنَّها يد عادية أو يد

ص: 33


1- مستدرك الوسائل ج 3 كتاب الغصب ص 145.

أمانة، من حيث ما وجَّهناه في قضيَّة العام المخصَّص.

بل من حيث ما قصده من اشتهار الضمان عندهم، ولعلَّ ذلك من جهة احتياطيَّة، وهو في محلِّه لإبراء الذمَّة المحتملة من اشتغالها بما هو المتيقَّن ولو إجمالاً أو من جهةكون الَّذي في اليد صار بسبب الأخذ كما نصَّ الحديث لا من إعطاء صاحب الحاجة وائتمانه.

وأمَّا في عدم النَّجاسة الَّتي في الماء المعيَّن المشكوك في ورودها فيه، فالأمر أسهل وأوضح ارتباطاً بقاعدة الطَّهارة.

الرَّابع عشر / في تعقب المخصِّص عامَّاً متعدِّداً

إذا تعقَّب المخصِّص كأداة الاستثناء متعدِّداً من الأقوال جملاً أو مفردات ممَّا يصح عوده إلى كل واحد كقولك في الجمل المتعدِّدة (أكرم العلماء وداري النَّاس إلاَّ الجهَّال) وكقولك في المفردات (أدِ الصَّوم والحج والزَّكاة والخمس والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والجهاد إلاَّ ما لم يتوفَّر شرطه فيك) كان الأخير من الجمل والمفردات مخصوصاً قطعاً، ولكن هل يختص معه الباقي بالتَّساوي؟.

أو يختص الباقي به أو غير ذلك؟

جاء في ذلك أقوال، ومُثِّل لذلك في آيات الأحكام بقوله تعالى [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا](1).

فالأوَّل من الأقوال: هو أنَّ هذا الاستثناء الَّذي في الآية جاء من الحكم الأخير فقط، وهو فسق هؤلاء فينتفي بالتَّوبة كما أشرنا دون الباقي، لأنَّ الباقي هو المحتاج

ص: 34


1- سورة النور / آية 4.

إلى الجلد بسبب ثبوت الفرية أو عدم كفاءة الشهود بالكمال، وهي لا تنافي زوال الفسق بالتَّوبة.

وكذلك عدم قبول الشَّهادة من المفتري وعلى الخصوص إذا أجرى عليه الحد وباستمرار وإن انتفى فسقه بالتَّوبة المذكورة.

وإن قيل لماذا كان الجاهليون حينما أسلموا وآمنوا تاب الله عليهم وقبلت شهادتهم في مواقعها الصَّحيحة ولم يجلدوا وكانوا قد فسقوا في أيَّان الجاهليَّة كثيراً برميهم المحصنات ونحو ذلك ؟

فإنَّا نقول: بأنَّ هذا جاء في أيَّام الإسلام الأولى كعفو عام وخاص لذلك الوقت ولقاعدة عُرفت في ذلك وهي (الإسلام يجبُّ ما قبله)(1) وطبِّقت في كل كافر أسلم بعد ذلك أيضاً.

ولكن لا يمكن أن يطبَّق هذا العفو فيما يجري بين المسلمين من التَّجاوزات في ظل الإسلام إلاَّ بصدق التَّوبة من الفسق فقط وهو المتيقَّن في الآية.

الثَّاني: كون الاستثناء منه ومن الحكم بعدم قبول شهادتهم، ومن الحكم بجلدهم الثَّمانين جلدة، فرفع العقاب بالتَّوبة المذكورة، وهذان قولان رئيسيان للمسألة، ينحلاَّن إلى أقوال أربعة:

1 - ظهور الكلام في رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة، وإن كان رجوعه إلى غير الأخيرة ممكناً، ولكنَّه يحتاج إلى قرينة على ذلك.

2 - ظهوره في رجوعه إلى جميع الجمل وتخصيصها بالأخيرة فقط يحتاج إلى الدَّليل.

3 - عدم ظهوره في واحد منها، وإن كان رجوعه إلى الأخير متيقِّناً على كل حال، أمَّا ما عدا الأخيرة فيبقى مجملاً، لوجود ما يصلح للقرينة فلا ينعقد لها ظهور

ص: 35


1- عوالي اللئالي: ج 2، ص 54، ح 145.

في العموم فلا تجرى أصالة العموم فيها.

4 - التَّفصيل بين ما إذا كان الموضوع واحداً للجمل المتعاقبة لم يتكرَّر ذكره، وقد ذكر في صدر الكلام مثل ذلك كما في قولك (أحسن إلى النَّاس واحترمهم واقضِ حوائجهم إلاَّ الفاسقين)، وبهذا يعود الاستثناء إلى الجميع.

وبين ما إذا كان الموضوع متعدِّداً في ذكره لكل جملة كالآية الكريمة المتقدِّمة وإن كان الموضوع في المعنى قد يكون واحداً للجميع بالتَّوجيه.

وبذلك يكون العود إلى الأخيرة، لأنَّ الموضوع في ظاهره قد ذكر فيها مستقلاً، لأنَّ الاستثناء أخذ محلَّه الخاص.

وبذلك يكون العود إلى الباقي محتاجاً إلى قرينة مفقودة في المقام فرضاً فيتمسَّك بأصالة العموم عند الشبهة.

وبهذا يكون الجمع بين آراء العلماء المتعدِّدة ممكناً وحاصلاً.فمن ذهب إلى القول برجوعه إلى خصوص الأخيرة فلعلَّه كان ناظراً إلى ما في الآية الكريمة من تعدُّد الموضوع ظاهراً.

ومن ذهب إلى القول بالرُّجوع إلى الجميع فلعلَّه كان ناظراً إلى الجمل الَّتي لم يذكر فيها الموضوع إلاَّ في صدر الكلام، فيكون النِّزاع لفظيَّاً.

وبذلك تتحقَّق القاعدة المفيدة في العموم والخصوص عند ورود الخاص عقيب جمل متعدِّدة.

الخامس عشر / تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

فإنَّ ممَّا ينبغي الحرص على معرفته في المقام هو ما لو ورد خاص على عام برجوع الضَّمير إلى بعضه، ومثَّلوا لذلك بأمثلة من آيات الأحكام وغيرها من السنَّة،

ص: 36

ومن ذلك قوله تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ](1) ثمَّ قال بعد ذلك[وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ] والمطلَّقات عام يشمل الرَّجعيَّات والبائنات، ولكنَّه أعاد الضَّمير في القول القرآني الثَّاني وهو المخصِّص المنفصل بعوده إلى خصوص الرَّجعيات، فكان العام بظاهره مخصِّصاً.

ولكن يستشكل من هذا التَّخصيص في أنَّه قد لا يكون من نوع التَّخصيصات الماضية.

إذ أنَّ الماضية الَّتي ذكرنا بعض أمثلتها والَّتي منها (أكرم العلماء ألا الفساق) - حيث استثنى الفسَّاق من مجموع العلماء وهم كلُّهم - من يمكن أن يطرأ عليهم الفسق، لاعتبارهم من غير المعصومين إن أريد من العلماء هو ما عداهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لتصحيح كون الاستثناء متَّصلاً لا منقطعاً، وهم مع ذلك من يمكن أن يبقى العموم للعام فيهم على حاله في بواقيه بما معناه (أكرم العلماء العدول) كما مرَّ.

حيث أنَّ هذا التَّخصيص في هذه الآية قد يُراد منه عود الضَّمير على خصوص الرَّجعيَّات الَّتي هي الحصَّة المميَّزة من العام بلا أي ارتباط بالحصَّة الأخرى المميَّزة منه وهي البائنات، لأنَّ البائنات لا أحقيَّة للرِّجال في العود إليهن في العدَّة إلاَّ بعقد جديد بخلاف الرَّجعيَّات، لأنَّ الرُّجوع إليهنَّ بلا عقد أثناء العدَّة لأنَّ الرَّجعية (زوجة) كما في بعض الأخبار.

ولذلك تكون حصَّة العموم ثابتة في البائنات من دون عود الضَّمير لأي فرد منهنَّ لها إلاَّ بنحو من التَّوسُّع في الاصطلاح التَّسامحي، وبالقول بالتَّخصيص على هذا النَّحو يختص الحكم بالتَّربُّص بهنَّ، لأنَّ المتربِّصات هنَّ عموم المطلَّقات لا خصوص الرَّجعيَّات، ولكنَّه قد لا ينفع كثيراً، وهو أمر استكشاف الحمل دون تسهيل أمر الإرجاع.

ص: 37


1- سورة البقرة / آية 228.

في حين أنَّ المقصودات في القضيَّة هنَّ الرَّجعيَّات لا غيرهن وإن حملن.

إلاَّ إذا أريد ذلك التَّوسُّع بمعنى أنَّ التَّربص هو الأعم ممَّا هو في العدْة كما في الرَّجعيَّة الَّتي ترجع بمجرَّد رجوع زوجها إليها وما بعد انتهاءها لتتحرَّر البائن فتتزوَّج نفس زوجها بعقد جديد أو أي شخص.

فجاء التَّخصيص بعود الضَّمير للرَّجعيات من دليلها الخاص، وهو أظهريَّة الانصراف إلى أنَّها المرادة ولو من توضيح السنَّة وشموله للبائن قد يكون من هذا التَّعميم المذكور.

لكن إذا عقد عليها في العدَّة بعقد جديد بموافقتها من دون حاجة إلى نهاية العدَّة، لأنَّه كان زوجاً سابقاً لها، فهو أحق من الأجنبي في ذلك، أو رجعت البائن عن بذلها فانقلب الطَّلاق البائن إلى رجعي، فهو حينئذ أحق برجعته إليها كذلك ولكن هذا أقل ظهوراً من الرَّجعيَّة بطبيعتها.

وقد خالف الشَّيخ قدس سره القول بالتَّخصيص فأبقى العموم على حاله وهو عموم المطلَّقات.وما جاء من عود الضَّمير على البعض فهو من باب الاستخدام عنده، وهو محتمل ومقبول في إبقاء العموم إذا لم يكن ذلك بنحو الاستخدام لكانت المطلَّقة البائن خارجة موضوعاً فلا تخصَّص حينئذٍ.

وعند الشَّك يمكن الرجوع إلى أصالة العموم، لأنَّا لا ننكر أن يكون عود الضَّمير إلى بعض أفراد العام المفرزة بحصَّة مميَّزة أو من دليل آخر إضافي كالسنَّة موجباً لصرف ظهور العام عن عمومه.

ومن هذا القبيل تمثيلهم بما لو قال المولى (العلماء يجب إكرامهم) ثمَّ قال (وهم يجوز تقليدهم) باتِّصال في المثال وأريد من ذلك العدول بقرينة في أمر التَّقليد من أدلَّة ذلك الخاصَّة به.

ص: 38

فإنَّه واضح في هذا المثال أنَّ تقييد الحكم الثَّاني بالعدول لا يوجب تقييد الحكم الأوَّل وهو وجوب إكرام العلماء، الَّذي لا نشترط فيه كونهم عدولاً بذلك.

إضافة إلى ما قد أسلفناه في العام المخصَّص الأصلي من بقاء العموم فيه بعد تخصيصه، لأنَّه مهما كان المخصِّص فيه لا يجعله مجازاً، بل يبقى حقيقة في باقية وعلى عمومه كما مثَّلنا.

السَّادس عشر / تخصيص العام بالمفهوم

بعد تعريف المفهوم بأنَّه (ما وراء اللَّفظ) فهو يقع على قسمين:

مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة.

ففي القسم الأوَّل: إذا جاء في الشَّرع عام -- وهو مثل قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ](1) باعتبار أنَّ العقود تشمل كل عقد صِيغ له باللُّغة العربيَّة وبغيرها ومنها الأمر --

وجاء دليل آخر منه على اعتبار كون العقد بصيغة الماضي، وهو الأصرح في الإنشاء في القواعد العربيَّة.

فقد قيل: إنَّه يدل بالأولويَّة، على اعتبار أنَّ العربيَّة في العقد لذلك الماضي في الأكثر ممَّا يُعد بالعربيَّة وغيرها لأصل العقود، لأنَّه لما دلَّ -- مضافاً إلى هذا -- على عدم صحَّة العقد بالمضارع من العربيَّة حيث لم يرد.

فلئن لم يصح هذا من لغة أخرى فهو هنا من طريق أولى بعدم الصحَّة.

ولا شكَّ أنَّ مثل هذا العموم للعقود العربيَّة وغيرها يخصِّصه هذا المفهوم إن ثبت لأنَّه كالنَّص أو كان أظهر من عموم العام عند وروده، فهذا المفهوم من قسم

ص: 39


1- سورة المائدة / آية 1.

مفهوم الموافقة، لسهولة تقبُّله دون مخالفة.

وإذا جاء في القسم الثَّاني للمخالفة في لسان الشِّرع أيضاً عام مثل قوله تعالى [إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً](1)، وهو الَّذي يريد منه تعالى بظاهره كل ظن حتَّى الظن الحاصل من خبر الواحد العادل.

وجاء من لسانه قول آخر وهو [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا](2) وهو الدَّال بمفهوم المخالفة الَّذي فيه الدِّلالة على جواز الأخذ بخبر غير الفاسق بغير تبيُّن.

وهو ما اعتبره المستدل به، مخصِّصاً لعموم العام، فهذا من قسم مفهوم المخالفة بناءاً عليه.

والعلماء إن لم يختلفوا في تخصيص العام بمفهوم الموافقة فإنَّهم اختلفوا فيتخصيصه بمفهوم المخالفة.

فقيل بتقديم العام وعدم تجويزهم بتخصيصه بهذا المفهوم المخالف.

وقيل بتقديم هذا المفهوم.

وقيل بالتَّوقُّف.

وقيلت أقوال مفصَّلة أخرى.

وإنَّما حصل هذا الخلاف فلأنَّه لمَّا كان في ظهور المفهوم المخالف ليس من القوَّة بمكان، بحيث يبلغ كبلوغ درجة ظهور المنطوق أو مفهوم الموافقة، وقع الكلام في أنَّ المفهوم هل هو أقوى من ظهور العام فيقدَّم عليه؟

أو أنَّ العام أقوى فيقدَّم؟

أو أنَّهما متساويان فيتوقَّف فيهما؟

ص: 40


1- سورة يونس / آية 36.
2- سورة الحجرات / آية 6.

أو يخضع في ذلك إلى مقامات ذات قرائن أخرى تحل المشكلة.

ولكن الَّذي يبقى الالتزام به ثابتاً لأنَّه حاصل في اليد فعلاً هو أنَّ عموم العام وهو الظن المذكور في الآية لمَّا كان معلوماً بحسب الظاهر لا كالنَّص الصَّريح لأنَّ الظاهر من الظنون، وأنَّ مفهوم المخالفة أيضاً من الظنون، وهو قرينة مؤثِّرة تأثير مساواة الظن الخاص للظن العام في النِّسبة الظنيَّة.

فلابدَّ حينئذ من أن تكون مخصَّصة للعموم، وإنَّ عدم التَّأثير المدَّعى لن يكون إلاَّ إذا كان العام نصَّاً والمخصِّص ظنيَّاً في ظهوره، وهذا لم يظهر شيء منه هنا.

نعم إنَّ مفهوم المخالفة الَّذي في الآية الثَّانية وهو (إن لم يجئكم فاسق) إن أريد منه مجهول الهويَّة، وهو من لم تحرز عدالته وإن لم يُعلم فسقه -- إن تعقلنا المعنى الوسط فيه وبالأخص في اشتباك الفتن في آخر الزَّمن، وصار (سوء الظن من حسن الفطن) --

فإنَّ التَّخصيص بذلك مشكل.

والتَّوقُّف حينئذ يكون أوفق بالاحتياط.

فإلى مزيد في المقام من التَّتبُّع واستفراغ الوسع أكثر لمعرفة مدى ما يناسب إساءة الظن أكثر أم حسنه لتشخيص الموقف المناسب بصورة أوضح.

السَّابع عشر / تخصيص الكتاب بخبر الواحد

لا شكَّ بصحَّة تخصيص عام آيات الأحكام بالمتواترات من الأحاديث، ولكنَّ الكلام المحتاج إليه هنا دائر فيما بين العلماء حول إمكان تخصيص الآيات بخبر العادل الواحد وعدمه؟

فمنهم من جوَّزه لاعتبار أنَّ النَّسخ الَّذي جعلوه بأنَّه لا يجوز أن يكون إلاَّ بالكتاب نفسه أو المتواترات، فإنَّما هو لأنَّ النَّسخ رفع والتَّخصيص دفع، والدَّفع

ص: 41

أهون من الرَّفع، وإنَّ الرَّفع لا يناسبه إلاَّ الدَّليل القوي بخلاف أمر التَّخصيص الَّذي هو أهون.

لأنَّ القرآن في أمره وإن كان قطعي الصدور ولكنَّه ظنِّي الدِّلالة، والَّذي كان ظنِّي الدِّلالة فبالإمكان أن يخصَّص بظنِّي السَّند والدِّلالة، وإن قلَّ عمَّا لو كان ظنِّي السَّند قطعي الدِّلالة وكلاهما موجودان في المخصِّصات إذا تناسبا في الدَّفع أو الرَّفع.

ومنهم من منع التَّخصيص به، لأنَّه ممَّا قد يصعب على المبتدئ لأوَّل وهلة الإيمان بجواز التَّخصيص به، نظراً إلى أنَّ الكتاب المقدَّس إنَّما كان وحياً منزَّلاً من عند الله بلا ريب فيه، والخبر الظنِّي يحتمل فيه الخطأ والكذب وإن احتمل في مقابلهما الصَّواب والصِّدق كذلك، لوجود بعض الوسائط الغريبة وغير المطمئن بها فكيف يقدَّم على الكتاب أو يأثِّر فيه.

إضافة إلى ما في خبر الواحد من المشاكل الَّتي أعرض عنها الأصحاب وعن الخبر في أصله لأجلها.

ولكن ما ذكرناه من الدِّفاع عن جواز العمل به للتَّخصيص وجوازه كاف في ركَّة ما يسبِّب القول بعدم جواز العمل والتَّخصيص على نحو الإطلاق.إضافة إلى أنَّ رأي المشهور بين أهل التَّحقيق من عدم صحَّة العمل بخبر الواحد في الاستدلال به على الأحكام الشَّرعية كبقيَّة الأدلَّة الأخرى الضعيفة إلاَّ بالشروط المقويَّة الآتية في بحوث السنَّة ومصاديق أضعف الحُجيَّات المقبولة.

لذلك هو غير ما عرف من سيرة العلماء من القديم على العمل بخبر الواحد إذا كان مخصِّصاً للعام القرآني لما ذكرناه من التَّعليل.

نعم إنَّ هذا النَّحو من التَّخصيص إن جاء ليخصِّص العام القرآني يجب أن لا يؤخذ به في مقابل المتواتر أو المستفيض، أو أن لا يؤخذ به لو كان مجرَّداً من القرائن في مقابل آخر مثله، ولكنَّه محفوف بالقرائن فضلاً عن الرِّواية الضَّعيفة المجبورة بعمل

ص: 42

الأصحاب.

الثَّامن عشر / الدَّوران بين التَّخصيص والنَّسخ

فإنَّه قد يشتبه الأمر لدى بعض المبتدئين بأمر التَّقارب كثيراً بين النَّسخ والتَّخصيص، لكن الصَّحيح أنَّ التَّخصيص في واقعه هو غير النَّسخ، لأنَّ النسخ رفع والتَّخصيص دفع لبعض أفراده.

إلاَّ أنَّ التَّخصيص المنفصل - وبالأخص ما كان بعد حضور وقت العمل - قاربوا بينه وبين النَّسخ، ومع ذلك رجَّحوا أمر تسميته بالتَّخصيص في مورد التَّشكيك حين الجهل بالتَّأريخ.

وقد يتسامح في أمر تسميته بالنَّسخ أيضاً - إذا كان المقصود من هذا النَّسخ هو غير النَّسخ الكلِّي الممتنع وهو نسخ الحكم والتِّلاوة معاً، أو الحكم كاملاً مع بقاء التِّلاوة للآية، حتَّى لو كانت فارغة من أي معنى، كما لو كان تغيُّره بالعنوان الثَّانوي دون الأوَّلي، لئلاَّ تبقى الآية خالية من الدَّلالة على شيء، لأنَّ ذلك يخالف الإعجاز القرآني ولو في بعض معانيه الأوَّليَّة - وهو نوع نسخ الحكم وبقاء التِّلاوة.

وللتَّفصيل الأنسب نأجِّل هذا الكلام بخصوصه إلى الكلام عن النَّسخ الآتي كملحق به من بحوث النَّاسخ والمنسوخ في الكتاب والسنَّة.

التَّاسع عشر / نتيجة البحث

قد ثبت من خلال أمور هذا البحث من بدايتها إلى حدِّ النِّهاية أنَّ التَّخصيص وارد مهم على كتاب الله في آيات أحكامه من الكتاب نفسه أو من السنَّة القطعيَّة.

بل وحتَّى السنَّة الظنيَّة من مواردها الخاصَّة وهكذا المفاهيم في بعضها وله أدلَّته

ص: 43

المهمَّة.

بل هو حجَّة مأثِّرة على عموم العام إذا كانت كاملة في مواصفاتها حتَّى أدخل التَّخصيص كل ما عدا الاستثناء وغيره من المخصِّصات حتَّى الأعداد القليلة في باقي ذلك العام، ولكثرة هذه التَّخصيصات صدرت المبالغة القائلة (ما من عام إلاَّ وقد خص).

إلاَّ أنَّ الحق لابدَّ وأن يعترف به في أنَّ هناك عمومات باقية على حالها لم تأثِّر فيها مخصِّصات للفرق بين النَّص والظاهر، وضعف الظاهر في قبال النَّص إذا أثبتت وجود نفسه بدون معارض، أو وجود شبهات لا قيمة لها في قبال العمومات، لأهميَّة أصالة العموم الَّتي يرجع إليها عند الشَّك.

ص: 44

الفصل الثَّاني

الإطلاق والتَّقييد في الكتاب وملحقه السنَّة

لا يتم استيفاء الغرض الأصولي - عن الإطلاق والتَّقييد من مباحث الألفاظ - إلاَّ بأمور نعرضها أو نعرض مجملها في أمور:-

الأوَّل / معنى الإطلاق لغة

إنَّ معناه لغة: هو الإرسال والشُّيوع ويقابله التَّقييد.

ومعناه اصطلاحاً: في علم الأصول بأنَّ المطلق المأخوذ منه هو (ما دلَّ على شايع في جنسه)، بمعنى كونه حصَّة محتملة لحصص كثيرة ممَّا يندرج تحت أمر مشترك.

ويقابله المقيَّد المأخوذ من التَّقييد وهو (ما دلَّ على معنى غير شايع في جنسه)، أو كما عبَّر به صاحب المعالم قدس سره (ما يدل لا على شايع في جنسه)(1).

وقد يطلق المقيَّد على معنى آخر، وهو (ما أخرج عن شياع) مثل رقبة مؤمنة، فإنَّها وإن كانت شائعة بين الرَّقبات المؤمنات لكنَّها أخرجت من الشِّياع بوجه ما، حيث كانت شائعة بين المؤمنة وغير المؤمنة، فأزيل ذلك الشِّياع عنه وقيِّد بالمؤمنة، فهو مطلق من وجه ومقيَّد من وجه آخر.

ونقل صاحب المعالم قدس سره أنَّ الاصطلاح الثَّاني للمقيَّد هو الاصطلاح الشَّايع.

وهذا يُستفاد منه أنَّ بينهما تقابل الملكة وعدمها، بمعنى أنَّ الإطلاق هو عدم التَّقييد عمَّا من شأنه أن يكون مقيَّداً، ومن هذين المبنيين أخذت كلمة المطلَّق والمقيَّد،

ص: 45


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين / ابن الشَّهيد الثَّاني ص150.

وسيأتي ذكر الأقوال في بيان التَّلازم والتَّقابل بينهما.

ولعلَّ التَّعريف الثَّاني هو الصَّحيح من جهة العثور على المطلقات المقيَّدة من ألفاظ الشَّرع بما يحمل الاثنين، وهما الشيوع - مع انصراف الذهن عنه - وعدمه، وهو الخروج عن الشيوع بالاعتبار الآخر المغاير له.

واعتنائهم بهذا التَّعريف للمقيَّد لئلا نخسر من فوائد هذه المطلقات المقيَّدة كما مرَّ في التَّمثيل للرقبة المؤمنة.

بينما التَّعريف الأوَّل وهو (ما يدل لا على شائع في جنسه) فيه معنى نفي الجنس الَّذي لا يبقي ولا يذر من أي شيء يمكن أن يحمله المقيَّد من المطلقات إلاَّ تلك الحالة الواحدة، وإن أمكن تعقُّل تفاوت الاعتبار، مع العلم بأنَّ الألفاظ قابلة في أصل وضعها للحمل المتعدِّد للاعتبار المتعدِّد.

وأصل هذا التَّعريف قديم وقد بحث عنه كثيراً، ولعلَّه من زمن ما قبل سلطان العلماء قدس سره، وأحصوا عليه مؤاخذات عديدة لا داعي إلى الإطالة بها كثيراً، ما دام المراد هوتقريب المعنى الَّذي وضع له اللَّفظ، لعدم الفرق الدَّقيق بين التَّعريف اللُّغوي الَّذي مضى وهذا الاصطلاحي بما لا يخفى على اللَّبيب الَّذي لاحظهما معاً.

ولذلك يُعد من التَّعاريف اللفظيَّة أو ما يسمَّى بشرح الاسم كما مرَّ في تعريف العموم والخصوص.

ولعلَّه لذلك عدَّ بعضهم سرد الإشكالات الَّتي نقل أنَّها أوردت عليه لا داعي له، لأنَّه قد يضخَّم حجم الشَّيء البسيط في بابه على الأذهان، والأذهان بحسن فطرتها لا ترى في أوَّل رؤيتها إلاَّ الواضح في بساطته، وهو ما يشبه المقصود اللُّغوي من المقصود الاصطلاحي حينما لا يكون شيء أكثر منه في الواقع، إلاَّ في حالة قد لا يَخفى حتَّى على طلاَّب علم الأصول المبتدئين من المحصِّلين، وهي كون المطلق والمقيِّد مستعملان في لساني الشَّرع كتاباً وسنَّة على خصوص القضايا الفقهيَّة.

ص: 46

وبهذا يكون الفرق بين اللُّغة والشَّرع هو أنَّ اللغة تريد استعمال الاثنين بما يوافقها في دائرتها الواسعة غير المحدودة من حيث الإطلاق والتَّقييد بلا خصوصيَّات الدِّين والشَّريعة، والشَّرع يُراد من لسانه استعمالهما في دائرته الخاصَّة.

وبتوضيح آخر، وهو أنَّ إرسال كل شيء بحسبه وما يليق به، فإذا نسِّب الإطلاق والتَّقييد إلى اللَّفظ فإنَّما يُراد ذلك بحسب ماله من دلالة على المعنى فيكونان وصفين للفظ باعتبار المعنى.

فقد يكون مطلقاً باعتبار تعدُّد حالاته وقد يكون مقيَّداً لو لم يكن بالمستوى اللغوي، وهو ما قد يكون مقيَّداً لو لم يختلف لكن حسب اللسان الشَّرعي الأضيق في مثل آيات الأحكام والسنَّة المرتبطة بها.

ومن موارد استعمال لفظ المطلق المقرِّبة للمعنى أكثر -- غير ما مثَّلنا به سابقاً من الرَّقبة والرَّقبة المؤمنة -- أنَّ العلَم الشَّخصي (كمحمَّد) المعرَّف بالألف واللام (كالرَّجل) لا يسمَّيان مطلقين باعتبار معناهما المحدَّد والمشخَّص الَّذي لا شيوع ولا إرسال فيه.

ولكن لا تَظن باعتبار آخر عدم جواز أن يسمَّى العلم الشَّخصي مطلقاً إذا تعدَّدت أحواله كحالات السَّفر والحضر والنَّوم واليقظة والصَّحة والمرض والغنى والفقر والإيمان والفسق والعلم والجهل ونحو ذلك.

فإذا قال الآمر (أكرم محمَّداً) وتعدَّدت هذه الأحوال أو بعضها فيه من ايجابيَّاتها أو سلبيَّاتها واقتضى الأمر بما يناسب المشروع مثلاً ولم يكن هناك من قيد مؤثِّر يقيِّد هذا المشخَّص عند الآمر بإكرامه يكون (محمَّد) لا محالة مطلقاً، وهكذا الأمر نفسه جار في المعرف بالألف واللام.

وهكذا العام الَّذي نعرفه بأنَّه غير مطلق، لأنَّ العموم الَّذي فيه جاء باعتبار أفراده وأعداده كما مرَّ في بحث العموم وكما سيجيء أيضاً في مناسبة أخرى.

ص: 47

لكنَّه لا يمنع من اتَّصافه بالإطلاق أيضاً إذا لوحظ باعتبار تعدُّد أحواله كما سيتَّضح أكثر ولم يمنعه مانع لعدم التَّزاحم بين المعنيين في أكثر القضايا إذا أفرز في الذِّهن اعتبار الأفراد عن الأحوال والكيفيَّات كما سيأتي.

فإنَّ (رجالاً) أو (قوماً) أو نحوهما وإن كان كل منهما عامَّاً على ما مضى بيانه في باب العموم والخصوص من حيث معنى العدد فقط ولكنَّهما يمكن صدق الإطلاق على كل منهما كذلك إذا تعدُّدت أحوالهما كالفقر والغنى والصحَّة والمرض ونحو ذلك.

وبهذا يكون التَّعريف الماضي شاملاً لما ظاهره المشخَّص وما ظاهره المعمَّم إذا لوحظت فيهما الأحوال المتعدِّد، وهو كونه (شايعاً في جنسه).

أمَّا العموم الَّذي لا تعدُّد لأحواله فهو وإن تعدَّدت أفراده كالنَّكرة في سياق النَّفي كقول الشارع (لا صلاة لمن جاره المسجد إلا في المسجد)(1) و (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)(2) و(لا صلاة إلاَّ بطهور)(3) و (لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب)(4) وغيرها، فإنَّه لاإطلاق في كل منها.

لأنَّ الشيوع المراد في التَّعريف ليس كالشُّيوع في أمثال هذا النَّوع من العام مع عدم صحَّة القياس على العام هنا وغيره وإن حصل تشابه في مطلق الشُّموليَّة.

والشُّيوع في هذا العام هو سلب الأفراد فلا إطلاق حينئذ لانتفاء موضوعه الأساسي، وهو من يجب أن تظهر فيهم الأحوال ولو في باق واحد كما سيتضح

ص: 48


1- وسائل الشِّيعة: ج5 ص194 / أبواب أحكام المساجد ب 2 ح 1.
2- 2 وسائل الشِّيعة: ج 17 ص 341 ،الباب 12 من أبواب إحياء الموات ح 3 و 5 ، و ص 319 باب 5 من أبواب الشفعة ح 1.
3- وسائل الشيعة ج 1 ص 365 أبواب الوضوء ب 1 ح 1.
4- مستدرك الوسائل: ج4 ص158 / أبواب القراءة ب 1 ح 5.

قريباً في بيان الفوارق.

وبهذا يتبَّين الفرق في استعمال المشخِّص العلمي والمعرَّف بأداة التَّعريف بما يفيد الإطلاق لوجود الفرد الواحد على الأقل بينهما وبين العام.

حيث أن الصنف الأوَّل يمكن أنَّ يكون الإطلاق قبل التقييد في جميع أفراده من الأحوال، والثاني في أفراده كذلك ما عدا النَّكرة في سياق النَّفي، وهذا سهل يسير.

ولكنَّ الَّذي ينبغي التَّأمُّل فيه في شأن التَّعريف هو أنَّ المطلق من الألفاظ هل جاء بالوضع؟

أم بمقدِّمات الحكمة؟

ولا شكَّ أنَّ الأعلام في المقام المذكور والجمل مرتبطة للتَّدليل على الإطلاق بمقدَّمات الحكمة كما سيجيء.

ولكنَّ النَّكرة كرقبة ورجال ممَّا مر وأسماء الأجناس اختلفوا في أمرهما.

فمنهم من قال بالوضع.

ومنهم من قال بمقدِّمات الحكمة، وهو آت قريباً إنشاء الله.

الثَّاني / الفوارق بين الإطلاق والتَّقييد

وبين العموم والخصوص

لقد كثرت الاشتباهات وتلابست المعاني في الأذهان لكثير من الطلاَّب حتَّى تولَّدت بعض الشُّبهات في أمر العنوانين المختلفين من مباحث ألفاظ الأصول وهما المطلق والمقيَّد والعام والخاص، فأطلقوا على الإطلاق عموماً وعلى العموم إطلاقاً.

وإن كان بعض الدَّقيقين منهم قد يطلق هذا على ذاك وبالعكس تسامحاً، لخصوص جامع الشُّموليَّة الَّتي بينهما من حالة الأعم من الأعداد والحالات كما سيتَّضح، مع حفظ الميزة الذَّاتيَّة لكل منهما في ذهنه وهو مشكل جدَّاً من جهة خلط

ص: 49

الاصطلاحات.

حتَّى أنَّ بعض المعاني الأصوليَّة اشتبكت في كتب الأصوليِّين فلم يعرف أنَّها من الَّذي يعود للإطلاق والتَّقييد؟

أم للعموم والخصوص؟.

حتَّى حصل التَّوهُّم المعاكس مع وضوح الأمر كثيراً لو رُكِّز على الفروق الواضحة الآتية بين العنوانين، وبالأخص لو أتقن أعزاءنا الطلاَّب أمور هذا التَّركيز، وما غفلوا عنه بعد معرفة الفوارق يوماً بمواصلتهم الدِّراسيَّة.

ولو اعتذر عن حسن القصد في أهل العلم وهو الَّذي لا يمكن نكرانه فيهم نوعاً حينما قد يخونهم التَّعبير أو يجعلون هذا التَّعيير من التَّكيُّف لغرض التَّوضيح لتلامذتهم وممَّا قد يستعمله الجدد بعد ذلك في التَّدريس بسبب ذلك التلقي أو ما يفعله بعض غير العرب بسبب ضعف فصاحتهم.

فإنَّ هذا يكون أشكل من الماضي، لأنَّ التَّغيير في الاصطلاح وإن جاء في البداية على براءة وحسن قصد إلاَّ أنَّه بعد العثور على اختلاط المعاني وتشابك الألفاظ المختلفةبعضها عن بعض اصطلاحاً وإمكان التَّصحيح أو السَّعي وإن كان بطيئاً.

وبالأخص لو شمل ضررها الطلاَّب الأبرياء فإنَّه سوف يكون ذلك محظوراً علميَّاً للسَّعي في التَّصحيح.

ومن ثَمَّ يحظر شرعاً عند العلم بأنَّ التَّعبير من مختلفين في نصوص الشَّرع وظواهره، وأنَّه بالتَّساهل سوف يغيِّر أسس مدرسة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الفقهيَّة المبنيَّة على الرَّصانة الإلهيَّة في جميع أمورها، وفيما له علاقة بالتَّقسيم الاصطلاحي، وسوف يشاع الأغراء بالجهل بهذا الخلط والخبط وهو الذي ما فعله إلاَّ غيرنا من الأعداء بقصد أو جهل بغيره.

ولأجل هذه المهمَّة الاصطلاحيَّة لنذكر الفوارق المهمَّة في المقام بين الاثنين

ص: 50

وهي:-

أوَّلاً: كون الإطلاق لا يأتي مصطلحه إلاَّ في تعدُّد الأحوال والكيفيَّات، وكل ما يؤول إلى حدِّ السَّلب والإيجاب، وإن صاحب بعض ألفاظه العموم ومعناه، لأنَّه إن صاحبه ذلك غير مقصود حين قصد الإطلاق إلاَّ أن يريد المدرِّس مثلاً أن ينظر لتلامذته للاثنين معاً كمطلق وعام في آن واحد إذا اتَّفقا، لأنَّ (رقبة) لا عموم لها أصلاً و(لا رجل) لا إطلاق فيها أصلاً.

وكون العموم لا يأتي مصطلحه إلاَّ في كميَّة الأفراد وأعدادها، وإن اجتمع الإطلاق معه لفظاً باعتباره الخاص الَّذي ليس فيه مزاحمة مع العموم فيما لو صحَّ الاجتماع كما مرَّ في الإطلاق والتَّمثيل بكلمة (رجالاً).

ثانياً: كون الإطلاق بلا أداة في لفظه تدل عليه، وإن عرف مجيئه في ألفاظ معروفة كالمفردات من اسم الجنس والنَّكرة والجمل العاديَّة والشَّرطيَّة الَّتي سوف تأتي.

وأمَّا العموم ففي أوَّله أداة تدل عليه مع الألفاظ العاديَّة، مثل (كل) و (لا شيء) و (دائماً) ونحو ذلك.

ثالثاً: كون الإطلاق لا يثبت إلاَّ بمقدِّمات الحكمة على رأي المتأخِّرين، مبتدأ به من سلطان العلماء قدس سره حتَّى الآن، وإن كان القدامى فرَّقوا كما سيجيء بين بعض الألفاظ الَّتي يعروها الإطلاق، فجعلوا أسماء الأجناس ونحوها ممَّا وضع للإطلاق وغيرها مرتبطة بمقدِّمات الحكمة.

لكن سيأتي إمكان الجمع بين القولين.

وكون العموم جاء بالوضع كقولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (كل مولود يولد على الفطرة)(1)، فإنَّ كلمة مولود لو لم تكن معها (كل) وضعاً لم تدل على العموم.

ص: 51


1- الكافي / ج2 - باب كون المؤمن في صلب الكافر ص14.

وبمقدِّمات الحكمة كقوله تعالى [أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ] الَّتي تحتمل عموم البيع بسبب التَّحلية بألف ولام التَّعريف، وتحتمل خصوصه بسبب ألف ولام العهد، فهنا عند التَّحير قد يرجع في ذلك إلى مقدِّمات الحكمة، فتكون للعموم لو انطبقت عليها.

رابعاً: كون الإطلاق أقل ظهوراً من العموم، والعموم أكثر، ولعلَّه في الإطلاق منخلوِّه من الأدوات اللَّفظيَّة المظهرة له كما هو في العموم، لاعتماده على الفهم أكثر من المنبِّه اللَّفظي، ولعلَّه من جهة أقليَّة المصاديق في الكتاب والسنَّة.

إلاَّ أنَّ كلاَّ من الإطلاق والعموم جعل في الأصول أصالة يرجع إليها عند كل شك صحيح يأتي.

خامساً: كون المطلق لغة إذا قيِّد لا يبقى له باقي، فلفظ (رقبة) لمَّا قيِّدت بالمؤمنة عند الأمر بعتقها لم يبق شيء من المصاديق المحتملة فيما بعد التَّقييد والعام يبقى له باقي.

هذه بعض الفوارق الَّتي لو ركز عليها بين المقامين -- واستعمل كل منهما في مقامه الشَّرعي عند الحاجة في باب التَّطبيق الاستنباطي، لما في الكتاب والسنَّة -- لأستغني بذلك عن كل حالة محيِّرة أو مربكة نوعاً.

فيجب إذن علينا التَّفريق في جميع التَّصرفات البيانَّية في لساننا تدريساً ومدارسة وتدرساً، للتَّعود على مواكبة الحدث حين الدُّخول في الاستنباط لتفادي الوقوع في الاشتباه بين المصطلحين لاختلاف معنى كل منهما حتماً عن الآخر ممَّا ذكر.

الثَّالث / الحاجة إلى البحث عن الإطلاق والتَّقييد

قد تظهر الحاجة إلى البحث عن الإطلاق والتَّقييد أصوليَّاً كالحاجة إلى الكلام عن العموم والخصوص الماضي، لكن بأسباب، وهي:-

الأوَّل: باعتبار ما يخص المقام فيما يتعلَّق في الأحوال والكيفيَّات لأحوال

ص: 52

المكلَّفين وكيفيَّاتها المنوطة بالحكم الشَّرعي الصَّادر من الوحي ولسان المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، الَّذين حملا هذه الأحوال والكيفيَّات ممَّا مرَّ من الحاجة إلى التَّفريق بين هذا المقام ومقام العام الخاص لئلا يختلط احدهما بالآخر.

الثَّاني: الحاجة إلى أصل ذكر الإطلاق والتَّقييد من حيث هما لورود الكثير من الإطلاقات لها في مصدري التَّشريع الشَّريفين لمعرفة كونها مقيدة أم لا؟

أو كانت صالحة للتَّقييد أم لا؟

الثَّالث: قد يكون بعض ألفاظ لسان الشَّارع جاءت مطلقة، ولكن لم يعثر على المقيَّد لمشاكل تغيُّر الأمور بسبب الأحداث غير المتعمَّدة أو تغييرها بما كان متعمَّداً.

أو كانت هناك مؤشِّرات تعطي الأمل في تحصيل هذا المقيَّد بعد السَّعي والتَّنقيب وبالأخص بعد وقت العمل.

فاحتيج إلى هذا البحث والى أصل هذا الأمر الثَّالث من الأمور بأجمعه، لذكر مدى الحاجة في جميع مجالاتها لبيان القواعد والتَّطبيق وكما أوضحنا بعضاً من ذلك في الأمر الثَّاني الذي قبله كذلك.

الرَّابع: ومن ذلك الحاجة إلى البحث الأصولي والتَّوسُّع فيه حول هذا الأمر للتَّعرف على مدى ضرورة قواعد هذا الأمر وضعاً بناءاً عليه أو بما تقتضيه الحكمة في مقدِّماتها ممَّا سيأتي تفصيله.

الخامس: وبسبب ما وُجِدَ في ألسنة الفقهاء العظام قديماً وحديثاً، وهي الَّتي عبَّرت من حيث النَّتيجة بوجود الإطلاقات والتَّقييدات للأحكام في فتاواهم واستدلالاتهم، من مجموع الأدلَّة الَّتي قد تتجاوز مرحلة اللِّسانين الشَّريفين الأساسيَّين أو ما ظهر لهم من خصوص اللسانين أنفسهما.

ممَّا يعطينا مؤشِّر عدم جواز الغفلة أو التَّغافل عن هذا الأمر، لأجل استفراغ الوسع في مقام الاستدلال ووجوبه لإبراء الذمَّة أكثر ما دام ظن وجود الإطلاق

ص: 53

وحده من دون مقيِّد أو ظن وجود الإطلاق حاصلاً مع المقيَّد.

الرَّابع / اصطلاح الإطلاق والتَّقييد

هل يعطي التَّلازم بينهما ولو إجمالاً أم لا؟

على الرغم من اقتضاء الحكمة في الحكم الشَّرعي في بعض الأحوال لأن يكون في بعض ألفاظه نصوصاً أو ظواهر ما يرتبط بالإطلاق فقط، أو كان قد بحث عن المقيَّد حينما احتمل تحصيله ولكن لم يحالف الحظ على تحصيله وبقي الإطلاق وحده، أو شُكَّ في وجود المقيِّد وجاء مورد الرُّجوع عند الشَّك إلى أصالة الإطلاق،.

فانَّه قد اعتبر عند تدوين الأصول اصطلاح التَّلازم بين الإطلاق والتَّقييد ولو على اقل نسبة من نسب التَّطبيق الفعلي في ذلك جدلاً وإن كان الأمر ليس كذلك واقعاً.

فإذا سمِّي اللَّفظ مطلقاً وكان صالحاً للإطلاق كما سيأتي بيانه فلابدَّ من أن يكونإطلاقه في مقابل التَّقييد له.

وإذا سمِّي اللفظ الآخر مقيَّداً فلابدَّ أن يكون التَّقييد به في مقابل الإطلاق له، كالتَّناسب بين الأشد والأضعف لتثبيت ركنَّية هذه الصَّلاحيَّة من حيث المبدأ.

وإن كان المطلق قد يثبت وجود نفسه وحده من دون مقيِّد إمَّا بتعيين من الشَّارع أو لم يعثر على مقيِّده لو كان كما مرَّ بيان بعض حالاته.

ولعلَّ هذا التَّلازم بينهما فيما عدا هاتين الحالتين وهما لا يضرَّان في صدق التَّلازم.

أو كان اصطلاح التَّلازم في عمومه ولو للاستعداد لما سوف يعثر على المقيِّد المطلوب بعد ذلك حينما كان محتملاً أو لم يعثر فعلاً عليه وبقي في ظرف الشَّك وإن ألحق الأمر بأصالة الإطلاق للتَّطبيق الشَّرعي الفعلي في المستعجلات.

ص: 54

ولكن بقى احتمال التَّحصيل منتظراً إلى حين الوقت المناسب المستقبلي ما عدا ما عيَّنه الله في شرعه مطلقاً لا قيد له بحكمته.

بل إنَّ هذا الخارج وهو ما أطلق لفظه من دون مقيِّد شرعاً هو الدَّاخل في معنى التَّلازم كذلك.

لكن ذلك من ناحية أخرى، وهي كون هذا اللَّفظ المطلق مطلقاً في مقابل التَّقييد كما مرَّ من جهة بيانَّية مع كونه لم يقيَّد وهو وارد في علم المعاني والبيان.

وإن كان يمكن حينئذ أن لا يسمَّى بلفظ المطلق على رأي السيِّد الأستاذ قدس سره القائل بتقابل التَّضاد(1) كما سيأتي.

أم بسبب حالة الوضع للإطلاق فقط لا لمقدِّمات الحكمة كما يراه القدماء في بعض الألفاظ، وهو ما سوف نجيب عنه وعمَّا سبقه إنشاء الله.

ولكنَّهم اختلفوا بينهم في هذا التَّلازم قديماً وحديثاً وهو الَّذي بمعنى التَّقابل على أقوال:-

أوَّلاً: كونه تقابل العدم والملكة أو الملكة وعدمها.

لأنَّ الإطلاق هو عدم التَّقييد فيما من شأنه أن يقيَّد، فيتبع الإطلاق التَّقييد في الإمكان، أي أنَّه إذا أمكن التَّقييد في الكلام وفي لسان الدَّليل أمكن الإطلاق، ولو امتنع استحال الإطلاق كالتَّلازم بين الأشد والأضعف.

بمعنى أنَّه لا يمكن فرض استكشاف الإطلاق وإرادته من كلام المتكلِّم في مورد لا يصح فيه التَّقييد، بل يكون مثل هذا الكلام لا مطلقاً ولا مقيداً، كأمثلة النكرة في سياق النفي ممَّا مرَّ بيانه وغيره مما يأتي، وإن كان في الواقع أنَّ المتكلِّم لابدَّ وأن يريد أحدهما من حيث النَّتيجة الخارجيَّة.

وهذا الرَّأي هو الَّذي استقرَّ عليه الكثيرون من الأصولييَّن المتأخِّرين، ومنهم

ص: 55


1- محاضرات في أصول الفقه ج5 ص 365.

الشَّيخ النَّائيني قدس سره(1) وتبعه الشَّيخ المظفَّر قدس سره في أصوله(2)، وقد أستفيد ذلك من ذكر تعاريف صاحب المعالم قدس سره للمطلق والمقيَّد(3) كما مرَّ ذكره(4).

ثانياً: كون التَّقابل بين الإطلاق والتَّقييد تقابل التَّضاد.

بمعنى أنَّه إذا استحال أحدهما وهو التَّقييد مثلاً تعيَّن الآخر وهو الإطلاق، وهو رأي السيِّد الأستاذ قدس سره(5).

معتبراً أنَّ تقابل الملكة وعدمها لا يمكن تقبُّله وهو الَّذي كالعمى والبصر في مقامالإطلاق والتَّقييد، لأنَّ مثل (رقبة) و(رقبة مؤمنة) في نظره على هذا الأساس بينهما تضاد لا غير، لكون كل منهما وجوديَّاً مضاداً لصاحبه، لعدم اجتماعهما معاً في آن واحد.

لكن بعد التأمل في كلام الشيخ الآخوند قدس سره - وهذا المثال الأخير - يظهر منه أنَّ (رقبة) في إطلاقها هي عدم خصوص كونها (رقبة مؤمنة) عمَّا من شأنها أن تكون (رقبة مؤمنة) بالفطرة.

وهكذا بقيَّة الأمثلة الَّتي قد لا ينكرها حتَّى السيِّد الأستاذ قدس سره بالبناء عليها، بناءاً على اعتبار الماهيَّة (لا بشرط).

وإذا كان لا يمكن في نظره الشَّريف أن يقال للسَّاكن متحرِّكاً وللمتحرك ساكناً كما هو الصحيح في بعض الحالات، ومثله على هذا الأساس أيضاً لا يقال للمطلق مقيَّداً ولا للمقيَّد مطلقاً.

ص: 56


1- أجود التَّقريرات ج1 ص520.
2- أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج1 ص225.
3- معالم الدِّين وملاذ المجتهدين - ابن الشِّهيد الثَّاني - ص150.
4- راجع ص 45.
5- محاضرات في أصول الفقه ج5 ص 365.

إلاَّ أنَّه يمكن اجتماع المطلق والمقيَّد في حالة أخرى، وهي كون المطلق إذا قيِّد صار شيئاً آخر وقصدنا منه هو حالة التطبيق الخارجي لا المطلق من حيث هو وحده ولا المقيَّد من حيث هو وحده، فإنَّ التَّضاد من هذه النَّاحية لا مانع منه.

وهكذا المتحرك لابدَّ وأنَّ تنتهي حركته إلى سكون وإن لم يصح العكس من جميع حالاته.

ولذلك يعتبر التَّعبير بالعمى والبصر أفضل لأنه أوسع مجالاً للانطباق الخارجي.

وثم إنَّه إذا امتنع التَّقييد تعيَّن الآخر وإن صحَّ ولكن ليس معناه انه يصح تسميته بالمطلق، وهذا يختلف عن معنى التَّضاد بناءاً على اعتبار الماهيَّة (بشرط شيء) حذراً من حصول المجازيَّة عند التَّقييد وهي ما تخص حالة القول بالوضع على هذا النَّحو كما اشرنا.

ثم إنَّ العمى والبصر في أمر تقابل الملكة وعدمها لا ينافيان أمثلة الإطلاق والتَّقييد بأجمعها، والكل من باب واحد لأنَّ المقصود من العمى الَّذي هو عدم البصر وكما قال تعالى [وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ](1) هو ما كان لصاحبه قابليَّة البصر لا كالجدار، وإن جاء عماه من الولادة، وإلاَّ كيف ولد وله عينان، لأنَّ عمى الولادة قد يكون سببه من الوالدين فضلاً عمَّا لو طرؤ العمى بعد الولادة، وهكذا (رقبة) المطلقة هي عدم (المؤمنة) عمَّا من شأنها أن تكون مؤمنة لوجود القابليَّة بحكم الفطرة لما ورد (كل مولود يولد على الفطرة).

ولم تمتنع كذلك جميع الأمثلة الأخرى من الإطلاق والتَّقييد عن صدق هذا عليها إلاَّ في السَّالبة بانتقاء الموضوع كقاعدة (لا شكَّ لكثير الشَّك)(2) ونحوه، فإنَّ

ص: 57


1- سورة فاطر / آية 19.
2- بناءاً على مجموعة من الرِّوايات، منها صحيحة محمَّد بن مسلم عن أبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: (إذا كثر عليك السَّهو فامض في صلاتك)، وسائل الشيعة ج 5، ص329، ب 16 ح 1.

حالة العدم فيه حينما وجدت بنفي كثرة الشَّك لا تعني وجود شيء من الإطلاق ولا عدمه.وعليه فيكون التَّضاد بين الإطلاق والتَّقييد في أمثلتهما والَّذي معناه عدم التَّصادق الخارجي بينهما لا داعي له لوجود العدميَّة الظليَّة في البين لا الذَّاتيَّة.

ثالثاً: كون التَّقابل بين الاثنين تقابل التَّناقض.

أي إذا ارتفع أحدهما تعيَّن الآخر، وهو ما مال إليه الشَّيخ أغا ضياء الدِّين العراقي قدس سره(1) وتبعه الشَّهيد الصَّدر قدس سره(2).

ولكنَّه أبعد من التَّضاد حسب المتصوَّر الصَّحيح الَّذي ذكرناه، وإن صحَّ التَّعبير بذلك تسامحاً.

لأنَّ التَّعريف الماضي للمقيَّد بقولهم (هو ما دلَّ لا على شايع في جنسه) وإن كان يناسب التَّناقض، إلاَّ أنَّه ليس معناه أن لا يلتقي مطلق مع قيده بإطلاق الإمكان فيكون مقيداً معتداً به لذلك.

وهذا هو معنى القابليَّة والشَّأنيَّة، مضافاً إلى أننا رجَّحنا التَّعريف الثاني وهو (ما أخرج عن شياع) كما مرَّ.

وعليه فيكون بارتفاع أحدهما وهو الإطلاق على مبنى هذا القول يتعيَّن الآخر وهو التَّقييد، إلاَّ أنَّه عليه أن لا يسميِّه مقيَّداً للتَّلازم بين الإطلاق والتَّقييد وهو مستحيل.

الخامس / هل يختص الإطلاق في المفردات أم يطرأ على الجمل؟

لا يختص الإطلاق المرتبط بالتَّقييد ارتباط الملكة وعدمها المذكور بالألفاظ المفردة

ص: 58


1- نهاية الأفكار - آقا ضياء العراقي - ج3 ص17.
2- دروس في علم الأصول - السيد محمد باقر الصدر - ج2 ص81 - 82.

من آيات الأحكام وما يلحق بها من السنَّة من اسم الجنس وعلم الجنس والنَّكرة والجموع مما مرَّ تمثيله في بداية البحث.

بل يشمل الجمل أيضاً كإطلاق صيغة افعل الَّذي يقتضى استفادة الوجوب العيني فيها كما في قوله تعالى [أَقِمْ الصَّلاةَ](1) من الَّتي يراد منها اليوميَّة على المكلَّفين، فهي المطلقة في حالاتها المختلفة أوقاتاً وكيفيَّات وصلحت أن يعتد بمقيَّداتها الأخرى من الأدلَّة بلا أن يكون ذلك الوجوب كفائيَّاً كبعض الواجبات الأخرى.

وهكذا [وأَقِيمُوا الصَّلاةَ](2) لأنَّها (لا تسقط بحال)(3).

أو صيغة افعل ذات العلاقة بما يقتضيه الوجوب التَّعييني لا التَّخييري كما في قوله تعالى [فَلْيَصُمْهُ](4) من الَّتي يراد منها تعيين الصَّوم على كل المكلَّفين غير المرضى والمسافرين، بعد سقوط حالة التَّخيير الَّتي كانت في بداية تشريع الصَّوم الصَّعبة على نوع المبتدئين.

فهذه الفقرة من الآية أمر مطلق بتعدُّد حالاته وأيضاً تقبل التَّقييد، ولذا قيِّدت بفقرة أخرى من القرآن وهي [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ](5) وقوله تعالى في فقرة أخرى من آيات الصوم [شَهْرُ رَمَضَانَ] حيث عيَّنت الشَّهر بصورة أخص.

أو صيغة افعل ذات العلاقة بالوجوب النَّفسي المخالف للغيري، فإنَّ كلمة (حجُّوا) في حديث النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قابل للإطلاق في بدايته.

وعليه فهي وحدها فعلاً تعد مطلقة ولكنَّها صارت مقيدةً بتكملته بعد ذلك وهي

ص: 59


1- سورة الإسراء / آية 78.
2- سورة البقرة / آية 43.
3- وسائل الشيعة ج2 ص373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5.
4- سورة البقرة / آية 185.
5- سورة البقرة / آية 185.

قوله (خذوا عنِّي مناسككم)(1) أي لا عن طريق آخر غير ذات رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أو نفسه وهو أمير المؤمنين وأبنائه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

فإنَّ الإطلاق في جميع هذه الأوامر إنَّما هو نوع إطلاق الجملة وهو حج التمتع أو القرآن أو الأفراد أو مطلق الأحوال في كل من هذه الأقسام، فإنَّ جميعها مراد حتماً بهذا الإطلاق.

ومثله إطلاق الجملة الشَّرطية في استفادة الانحصار في الشَّرط، كما في قول الشَّارع مثلاً (إن ظاهرت فاعتق رقبة) وقوله بعد ذلك (لا تملك رقبة كافرة) فإنَّ الثَّاني يقيِّد الأوَّل بنفي الكفر لا محالة.

ولكن قد يبدو من بعض التَّصرفات الأصوليَّة هو التَّركيز على المفردات ممَّا قديستظهر منه عدم العناية بما يقع في الجمل.

ولعلَّ عدم شمول البحث عندهم للجمل أنَّه كان لاعتبار عدم وجود ضابط كلِّي لمطلقاتها، ولكن عدم وجود هذا الضابط الَّذي يرضيهم لا يمنع شمول بحث مقدِّمات الحكمة لهذه الأمور عند غيرهم.

وقد بحث عن إطلاق بعض الجمل في مناسباتها كإطلاق صيغة افعل الآمرة ولا تفعل الناهية والجملة الشَّرطيَّة ونحوها عند هؤلاء الآخرين، وقد مرَّ تمثيلنا لذلك في بدايات البحث.

السَّادس / الإطلاق والتَّقييد وارتباطهما بالوضع أو بمقدِّمات الحكمة؟

قد أشرنا فيما سبق ونقول الآن بعدم الشَّك في كون الإطلاق في الأعلام

ص: 60


1- أخرجه مسلم في صحيحه (2/ 943، رقم 1297). واللَّفظ للبيهقي في السنن الكبرى (5/ 204، رقم 9542)، ولفظ مسلم: "لتأْخذوا مناسككم فإنَّي لا أدري لعلِّي لا أحج بعد حجتي هذه".

الشَّخصيَّة اتِّجاه أحوالها وكيفيَّاتها ليس هو بالوضع من جهة الواضع، وكذلك في الجمل وما شابهها كالجمل الشَّرطيَّة بل إنَّما هو مستفاد من خصوص مقدمات الحكمة المشار إليها سابقاً على الأصح وهي الثَّلاثة المعروفة(1) وهي:

1. إمكان الإطلاق والتَّقييد من جهة صحة التَّقابل السَّابق ذكره.

2. عدم نصب قرينة على التَّقييد متَّصلة ولا منفصلة.

3. كون المتكلِّم في مقام البيان لا في مقام التشريع، لاحتمال أن التَّشريع إذا صار لا يراد تنجيزه مستعجلاً.

لأنَّه لا خلاف في ذلك عند الجميع قديماً وحديثاً، وعن طريق إعمال هذه المقدِّمات استكشف كون المطلق مطلقاً لا كونه قد وضع لذلك لعدم الدَّليل عليه، وإن وضعت بعض ألفاظ العموم لعدم الملازمة بين العام والمطلق، وإنَّما الإشكال وسبب القيل والقال ما بين أهل العلم من القدماء والمتأخرين هو في أسماء الأجناس وأعلامها والنَّكرات، عدا النَّكرة في سياق النَّفي وبعض الجموع.

فقال القدماء بأنَّها موضوعة لمعانيها بما هي شائعة ومرسلة على وجه يكون الإرسال والإطلاق مأخوذاً في المعنى الموضوع له اللفظ.

وقال المتأخِّرون ابتداءاً من سلطان العلماء قدس سره(2) بأنَّها موضوعة لنفس المعاني بما هي، بدون زيادة الإطلاق فيها، وإنَّما الإطلاق يستفاد من مقدِّمات الحكمة بسبب نفس تجرُّد اللفظ من القيد.

وعلى قول القدماء يكون استعمال اللفظ في المقيَّد من باب المجاز، لأنَّه استعمل في غير ما وضع له، وهو محذور لا يمكن تحمله في مقابل الحقيقة.

وعلى قول المتأخرين يكون من باب الحقيقة، لأنَّه ما عرف الإطلاق في هذه

ص: 61


1- راجع ص17 سطر 8،7،6.
2- راجع هذه النِّسبة في كتاب أصول الشَّيخ المظفَّر قدس سره ج1 - ص227.

الألفاظ عندهم إلاَّ بمقدِّمات الحكمة، بعدما كانت دالَّة في الوضع على خصوص معانيها بما هي من ما عدا الإطلاق حتَّى صارت صالحة للتَّقيد بعد ذلك من تلك المقدِّمات.

ولتوضيح المطلب - ومحاولة التَّقريب بين القديم والحديث مع إمكانه ومحذور البقاء على هذا الخلاف مع هذا الإمكان إن أبقيناه على حاله إذ بإبقائه حين إذ لا يجعل المجازيَّة مساوية للحقيقة بتاتاً - نحتاج إلى تقديم أمور ثلاثة، ثانيها وثالثها يصحان أن يكونا هما المقصودان في هذه الألفاظ، لتكون على معنى ما يصح منهما وعن طريقهما قد يتم العلاج، وهي المسمَّاة ب- (اعتبارات الماهية الثَّلاث) إذا قيست إلى ما هو خارج عن ذاتها، كما إذا قيست الرَّقبة بعد أطلاقها إلى الإيمان بعد التَّقييد عند الحكم عليها بحكم ما كوجوب العتق ونحو ذلك ممَّا سيتَّضح، وهذه الأمور الثَّلاثة هي:

أوَّلاً: أن تعتبر الماهيَّة المقولة في جواب ما هو مشروطة بعدمه، كما إذا كان القصر في الصَّلاة واجباً على المسافر غير العاصي في سفره بمثل السَّرقة والفرار من الزَّحفونحوهما، وتسمَّى بالماهيَّة (بشرط لا)، لأخذ عدم العصيان فيه في موضوع الحكم.

ثانياً: أن تعتبر الماهيَّة مشروطة بذلك الأمر الخارج، كاشتراط كون الرَّقبة مؤمنة بعد الظهار، فتسمَّى بالماهيَّة (بشرط شيء).

وهذا هو الاعتبار الَّذي يتناسب مع قول القدماء المدَّعى في كون أسماء الأجناس والأعلام والنَّكرات بأنَّها مطلقة وضعاً عندهم لا غير وباستمرار بحيث لو قيِّدت لكان ذلك بحكم المجاز.

ثالثاً: أن لا تعتبر مشروطة بوجوده ولا بعدمه، كوجوب الصَّلاة على الإنسان الَّذي لم تشترط فيه حالة الحريَّة ولا عدمها.

ص: 62

وإذا اعتبرنا صفة كون المكلَّف حرَّاً لكثرة الأحرار وندرة العبيد -- أو إنَّ عدم توفُّر الأخير -- لا يعني كون المكلَّف حرَّاً شرطاً، لأنَّ أصل الوجوب لم تعتبر فيه الحريَّة لا بوجودها ولا بعدمها.

فهو ما يناسب أن تسمَّى الماهيَّة بالماهيَّة (لا بشرط)، وتسمى أيضاً ب-(اللا بشرط القسمي)، وهو الَّذي معناه أنَّه القسم الثَّالث من هذه الأقسام الثلاثة.

وهو الَّذي لو اعتبر على رأي القدماء في حمل المطلقات عليه لأمكن فيه الجمع بين القديم والحديث عليه بلا مجازيَّة فيه عند تقييدها كما سيأتي.

وقد يطلق عليه بالقسيم أي أحد الأقسام الثلاثة.

وأمَّا مقسم الثَّلاثة فهو نفس لفظ (اعتبارات الماهيَّة) المذكورة سابقاً، ويمكن أن يكون (اللا بشرط القسمي) المذكور في مقابل (اللا بشرط المقسمي) كأحد أفراده.

وهذا الأخير تعبير عن الماهيَّة الَّتي تعرض لها علماء المنطق والأصوليون لمعنى آخر وهو كونه مقسماً للثلاثة المذكورة بأجمعها مكان لفظ (اعتبارات الماهيَّة) المذكورة.

وبما أنَّه لا ينفعنا ذكر (اللا بشرط المقسمي) الآن كثيراً فهو إلى الإعراض عنه وكذلك عن الماهيَّة الأخرى المسمَّاة بالمهملة - المفسَّرة بالمبهمة الَّتي لا ترتبط إلاَّ بخصوص ذات الشيء وذاتيَّاته مع قطع النَّظر عن خصوص الاعتبارات الثَّلاث الماضية - أفضل.

فالعمدة إذن هو القسم الثَّاني والثَّالث من المجموع الأوَّل من الاعتبارات وهو الَّذي يراد منه معنى الإطلاق في باب المطلق والمقيد.

وهو الواضح من الثَّالث أكثر باللُّجوء إليه في الحقيقة بنحو أجدر.

ولكن الاختلاف بين القدماء والمتأخرين هو ما يحتاج إلى الحل عند الإمكان، وبالأخص لو أمكن الجمع بين الرَّأيين كما أشرنا للوصول إلى فكرة موحَّدة يستفاد

ص: 63

منها كمنهج واحد حين الابتلاء بلفظ من الكتاب أو السنة الملحقة بآيات أحكامه للتَّعرف على كونه مطلقاً حقيقة من دون ارتباط بمجازيه.

وخلاصة إمكان الجمع أنَّه لا يمكن أن يحرز فيه شيء من ذلك بعدما اختلفوا على أقوال بنحو آخر عدُّوها أربعة لا داعي إلى ذكرها اختصاراً إلاَّ برابعها حسب وهو المتصل في نتيجته بثالث اعتبارات الماهيَّة الماضية، وهو الَّذي يتصور معناه أنَّ الموضوع لهذات المعنى المفيد هو (اللا بشرط القسمي) بلا حاجة مهمَّة إلى ذكر بقيَّة الأقوال الثَّلاثة الَّتي قبله.

على أن يكون هذا الاعتبار مصحِّحاً للموضوع لا قيداً للموضوع له لئلاَّ يكون من هذه الاعتبارات ما هو (بشرط شيء) هو المراد في مطلبنا.

بل يجب أن يكون هو هذا المعتبر الثَّالث المسمَّى ب-(اللا بشرط) كي يمكن الجمع، وبذلك يكون مطلقاً، ولو قيد هذا المطلق حينما صار كذلك بمقدِّمات الحكمة لا يكون مجازاً ومستعملاً في غير ما وضع له بينما لو جعل الوضع (بشرط شيء)، فإنَّ المجازيَّة تظهر لاستمرار الإطلاق وضعاً وما يبرز منه الخلاف حينئذ.

وبذلك قد اتَّفق المتأخرون أو بعضهم حلاًّ للإشكال، على أنَّ الموضوع له إذا كان هو خصوص ذات المعنى لا الإطلاق بماهيَّة (شرط شيء) ثمَّ صار مطلقاً بال- (لا بشرط)، فإنَّه إذا قيِّد فسوف لا يكون استعمال اللفظ في المقيد مجازاً، وبذلك يمكن أن يتحقَّق التَّلائم بين الجانبين من القدامى إذا قبلوا ال- (لا بشرط) بعد كون الموضوع له ذاتاً فقط عندهم مع المتأخرين حينما لا تكون المجازيَّة مثبتة عند القدماء بإصرار إذ هي مشكوكة في نسبتها لهم على ما يروى أيضاً.

ولا مشاحَّة في الاصطلاح من حيث أسلوب الاستثمار إذا كانت النَّتيجة تظهر متَّحدة.

كيف وأنَّ المرجع هو مقدِّمات الحكمة في المقام عند القدماء كذلك على ما بينَّاه

ص: 64

مع رضاهم بما قرَّرناه.

ونوضِّح ذلك بصورة أكثر فنقول:-

مثلاً لو جاء اسم جنس أو اسم علم أو نكرة، وكان كل منها موضوعاً من قبل الواضع -- على خصوص معناه على رأي القدماء وهو المراد من اعتبارات الماهيَّة الماضية (بشرط شيء) من دون أن يضاف إلى خصوص هذه المعاني الإطلاق كما يعتبره المتأخِّرون لنفوذ (اللا بشرط) في هذه المعاني بعد ذلك الوضع ممَّا يجعل مجال الإطلاق في هذه الألفاظ متحقِّقاً و(اللا بشرط) بعد التأمُّل يسيراً لا تتنافى مع مقدِّمات الحكمة المشار إليها --

ثمَّ حصل التَّقييد بعد ذلك فلابدَّ من أن تراد الحقيقة ويبتعد المجاز، وبذلك يمكن الجمع بين الاثنين وهم القدامى والمتأخِّرون.

السَّابع / خصوص مقدِّمات الحكمة وأثرها في المقام

لما ثبت جملة بل تفصيلاً أنَّ مقدِّمات الحكمة لها دخل مهم في تشخيص الإطلاق لتهيئة اللَّفظ للتَّقييد مع الحاجة إليه بالفحص واستفراغ الوسع أو لجعله مهيَّأً ولو للعثور على المقيِّد صدفة إن كان على خلاف الألفاظ الَّتي لا تصلح للإطلاق، وبالأخص حال كون الألفاظ موضوعة لذات المعاني لا للمعاني بما هي مطلقة وهي كالَّتي بشرط شيء ممَّا مرَّ ذكره.

فلابدَّ في إثبات أنَّ المقصود من اللَّفظ هو المطلق لتسرية الحكم إلى تمام الأفراد والمصاديق من قرينة خاصَّة أو عامَّة تجعل الكلام ظاهراً في إرادة الإطلاق عن طريق هذه المقدِّمات، وهي ثلاثة معروفة وقد أزادها بعض الإعلام باثنين.

ولكن نحن نقتصر على ما هو المعروف منطقيَّاً وأصوليَّاً، وهو مجرَّد هذه الثَّلاثة

ص: 65

الَّتي تقدَّم ذكرها(1)، لخلوها من المناقشة كالاثنين الآخرين حين رغبتنا الآن في عدم التَّوسع الكثير، ونذكرها بتفاصيلها ومناقشاتها، وهي:-

المقدِّمة الأولى: هي إمكان الإطلاق والتَّقييد.

بأنَّ يكون المتكلِّم الشَّرعي متمكِّناً من البيان والإتيان بالقيد وعلى نحو يكون متعلَّق الحكم أو موضوعه قبل فرض تعلق الحكم به قابلاً للانقسام كأي مثال من مستوى أمثلة مصاديق ما ينطبق عليه الإطلاق والتَّقييد ممَّا يطلق عليه التَّقسيمات الأوليَّة كما في الواجبات.

فإنَّ الصَّلاة مثلاً تنقسم باعتبار الخصوصيَّات الإيجابيَّة والسَّلبية الَّتي يمكن أن تلحقها في الخارج في ذاتها مع قطع النَّظر عن تعلق الأمر بها إلى ذات سورة وفاقدتها أو ذات تسليم وفاقدته ونحو ذلك، وبذلك تكون مطلقة لأنَّها مع صحَّة اشتمالها على القسمينقبل الاتِّصاف بخصوص أحدهما وقبولها تصل إلى هذا المعنى من الإطلاق.

لذلك ومع قطع النظر عن خصوص الصحة أو البطلان مثلاً فسوف تكون في باب اعتبارات الماهيَّة الثلاث من قبيل (اللا بشرط) وهو معنى الإطلاق، على خلاف ما إذا كانت بقيد الاتِّصاف بالسُّورة لملاحظة خصوص حالة الصحة الشرعية مثلاً فإنَّها تكون (بشرط شيء) من هذه الاعتبارات، وهو معنى التَّقييد.

وهذا كلُّه في هذه المقدِّمة الأولى على خلاف حالة عدم قبول هذا الانقسام إلاَّ بعد التَّعلُّق، وهو في مثل ما لا يمكن أخذه قيداً في المأمور به، وهو قيد قصد الامتثال.

إذ قبل تحقُّق الحكم مثلاً إيجاباً أو سلباً لا معنى لغرض إتيان الصَّلاة مثلاً بداعي أمرها وهو لم يكن، لأنَّ المفروض في هذه الحالة لا أمر بها حتَّى يمكن فرض قصده

ص: 66


1- راجع ص17 سطر 8،7،6 الَّتي تتعلَّق بالعام والخاص، وص61 والَّتي تتعلَّق بالمطلق والمقيَّد بصورة إجماليَّة، وهنا بصورة تفصيليَّة.

كما في النيَّة.

وهكذا الحالة السَّلبيَّة المعاكسة، فلا إطلاق لعدم إمكان التَّقييد بسبب استحالته، لأنَّ تقييد الصَّلاة بالنيَّة إنَّما هو عند الأمر بها، وتقسيم الصَّلاة إلى منويَّة لتصح وغير منويَّة لتبطل لا محلَّ له بعد التَّكليف، لأنَّه لم يكن من قصدنا حينئذ.

فإذن لا يصح الإطلاق، وإنَّما هو الَّذي لو كان قبل ذلك، ولذا يكون هنا من قبيل السَّالبة بانتفاء الموضوع.

ومن أمثلة ما لا إطلاق له لعدم إمكان تقييده هو قولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (لا صلاة إلاَّ بطهور)(1) وإن دخل في العموم، وكل مثال فيه النَّكرة في سياق النَّفي.

المقدِّمة الثَّانية: عدم نصب قرينة على التَّقييد لا متَّصلة ولا منفصلة.

لأنَّه مع القرينة المتَّصلة لا ينعقد ظهور للكلام إلاَّ في المقيَّد، وإذا قيِّد المطلق لا يبقى لنا مجال للانتفاع بالمطلق، لعدم الدَّاعي له، إلاَّ أنَّه دليل على ثبوت الإطلاق له قبل أن يقيَّد لو لم يلازمه القيد في النُّصوص والظواهر من بداية التَّشريع أو كقاعدة يستفاد منها معرفة المطلق من جرَّاء صلاحيَّته للتَّقييد بسبب ما مرَّ من تقابل الملكة وعدمها ممَّا بين الإطلاق والتَّقييد.

ومع المنفصلة فينعقد للكلام ظهور في الإطلاق حتماً، ولكنَّه يسقط عن الحجيَّة المستمرَّة، لقيام القرينة المقدَّمة عليه والحاكمة الَّتي سوف تقيِّده أيضاً، فيكون ظهوره ظهوراً بدويَّاً كما قلنا في تخصيص العموم المنفصل، وهو غير نافع تماماً، ولا تكون للمطلق تلك الدِّلالة التَّصديقيَّة الكاشفة عن مراد المتكلِّم.

بل الدِّلالة التَّصديقيَّة إنَّما هي على إرادة التَّقييد واقعاً إلاَّ في بعض الحالات الَّتي قد تكون نادرة بأشد من ندره العموم الَّذي يأتيه المخصِّص منفصلاً، كما في

ص: 67


1- وسائل الشِّيعة ج1 ص365 / أبواب الوضوء ب 1 ح1.

حالة الإطلاق ممَّا قبل موعد مجيء المقيِّد المنفصل واحتملت فوريَّة العمل وتعطُّل المقيِّد إلى حين قد يكون بعيداً يصعب انتظاره بفوريَّة وجوب عتق رقبة، فإنَّه قد يفتى لذلك بوجوب الإسراع بعتق أي رقبة متوفِّرة كانت حينئذ.المقدِّمة الثالثة: أن يكون المتكلِّم في مقام البيان لا الإجمال أو الإهمال.

فإنَّه لو لم يكن في مقام البيان بأن كان في مقام التَّشريع الَّذي قد يقضى المشرِّع في تشريعه قضاءه بمجرَّد إبداء الحكم وليس عنده غرض سوى ذلك فلا إطلاق فيه للإجمال.

وأمَّا كون التَّشريع لذلك الشَّيء منجِّزاً فوريَّاً فلا دليل عليه إلاَّ في النُّصوص والواضحات من الظواهر، لأنَّه مع عدم النُّصوص والواضحات من الظواهر قد يخضع إلى انتظار مجيء وقت آخر يناسب العمل بتمام إن تبيَّن له دليل منخفض مقبول.

وكذا الإجمال الامتحاني وغيره من أهداف الحكيم، فإنَّه لا ينعقد له ظهور في الإطلاق وكذلك حالة الإهمال إذا اقتضت حكمته فإنَّه لا ينعقد له ظهور في الإطلاق.

ولنضرب مثالاً على الإهمال من هذه الأمور، وهو فيما إذا كان المشرِّع في صدد حكم آخر غير ما عُدَّ مهملاً لالتماسه من دليل آخر مثل قوله تعالى من بعض آيات الأحكام [فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ](1) الوارد في مقام بيان حل صيد الكلاب المعلَّمة من جهة كونه ميتة فأباحه تعالى وليس هو في مقام بيان مواضع الإمساك في أنها تتنجَّس بسبب القضم فيجب تطهيرها أم لا؟.

فإنَّ هذا المقام له مورده الآخر للتَّدليل عليه في وجوب تطهيره الحتمي، فإذن لم

ص: 68


1- سورة المائدة / آية 4.

يكن هو في مقام بيان هذه الجهة فلا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق من هذه الناحية حتى يشمل هذا المقام أيضاً.

نعم لو شكَّ في بعض الصُّور أنَّ المتكلِّم في مقام البيان أو الإهمال؟

فإنَّ الأصل العقلائي يقتضي بأن يكون في مقام البيان، لأنَّ العقلاء عادة لا يحملون المتكلَّم إلاَّ على أنَّه ملتفت غير غافل وجاد غير هازل عند الشَّك في ذلك.

وكذلك يحملونه على أنَّه في مقام البيان والإفهام لا في مقام الإهمال والإبهام وبالأخص المشرِّع لا كما في الآية ممَّا قد يتوهَّمه المتساهلون، وقد أضيف إلى هذه المقدِّمات الثَّلاث اثنان لا داعي إلى الإطالة بهما لأهمية خصوص الثلاثة عند الجميع.

وبعد بيان هذه المقدِّمات الثَّلاث فكل كلام مجرَّد من القيد يُعدُّ مطلقاً يحسب النَّص والظاهر، وكاشفاً عن أنَّ المتكلم لا يريد التَّقييد فعلاً إلاَّ أن تأتي قرائنه، إذ هي غير ممتنعة بحسب الطَّبيعة ما دامت العلاقة بين الإطلاق والتَّقييد علاقة تقابل العدم والملكة كما سلف فهمه.

وإلاَّ لو كان قد أراده المشرَّع واقعاً لكان عليه البيان، ويستحيل على المشرِّع إرادة شيء لم يبيِّنه.

وكذلك يستحيل أن يحاسب عليه قبل ذلك وهو الحكيم الملتفت العادل والجاد غير الهازل.

وبهذا يكون الإطلاق وحده - لو لم يقيَّد بالفعل وبالأخص لو تعطَّل تقييده المحتمل في واجبات قد تكون فوريَّة والموت قد يكون أقرب من الصَّبر والانتظار لمعرفة المقيَّد ونحوذلك وإن صلح للتَّقييد من هذه المقدِّمات للتَّقابل المذكور -

حجَّة على المتكلِّم والسَّامع ولو مؤقَّتاً أو قلَّت مصاديقه صدفة.

ص: 69

الثَّامن / أمثلة الإطلاق والتَّقييد

إنَّ أمثلة الإطلاق والتَّقييد في صحَّة الحمل وعدمه في التَّنافي وعدمه وما ينبغي حول ذلك بما لوحظت الارتباطات بين الصِّيغ التَّعبيريَّة في الكتاب من آيات أحكامه وفي السنَّة التَّابعة لها.

بل حتَّى في لسان أهل العلم الفقهي والأصولي والاصطلاحي المليء بالثَّوابت حسب العادة المتعارفة دائماً والمتعلِّق بالكتاب والسنَّة المشار إليهما حتماً على امتداد تأريخ علمائنا الإماميَّة، ومنهم من كان من غيرهم ثمَّ اهتدى وصار منهم، ومن الغير ممَّن انسجم ولو ببعض الشَّيء معنا بالمطابقة معاً وممَّا جاء في عباراتهم بلسان الدقَّة والمتانة من ذلك ، وبالأخص في جهابذتهم ولو لفهم كلامهم الأصولي والفقهي المطابق أو المتطابق، على أساس ما وضع أدبيَّاً بيانيَّاً ومنطقيَّاً ثمَّ أدخل في الأصول خادم العلم الفقهي الخاص بما بين الإطلاق والتَّقييد من القواعد المتّخذة لتسهيل أمر الوصول إلى الفهم الصَّحيح لمعاني الكتاب والسنَّة ولمعرفة مدى توصُّلات مساعي أولئك الفقهاء من هذين المصدرين الشَّريفين من الإيجابيَّات أو حتَّى إلى ما قد يؤول إلى شيء من غير ذلك اعتماداً منَّا على مبدأ التَّخطئة لو لم يضر التَّلائم.

وذلك كلُّه حينما تجتمع تلك الصِّيغ عند التَّقابل المعهود أمره في بحثنا، سواء في المفردات المصاغة حديثاً جملاً أو الجمل الأصيلة وشبهها من الَّتي تصحِّح حمل المطلق على المقيَّد أو تصحِّحه من حالات التَّنافي وعدمه.

علماً بأنَّ معنى التَّنافي بين المطلق والمقيَّد أنَّ التَّكيُّف في المطلق لا يجتمع مع التَّكيُّف في المقيَّد مع فرض المحافظة على ظهورهما معاً، أي أنَّهما يتكاذبان في ظهورهما لكن لا يعني هذا عدم صحَّة الحمل ولو نادراً في بعض الصُّور إن قلنا بعدم صحَّته نوعاً في الغالب، لأنَّ لكل قاعدة من شواذ كما سيتَّضح.

ص: 70

وأمَّا معنى عدم التَّنافي فهو حالة عدم الاختلاف بين قضيَّتي المطلق والمقيَّد كما سيجيء أيضاً، ممَّا يمكن فيه صحَّة الحمل أو الجمع بلا حمل، فعلى الرَّغم من حالة التَّقابل بين الاثنين عموماً وما اخترناه من التَّلازم بسبب تقابل العدم والملكة ممَّا مرَّ بيانه ولو في الجملة لمراعاة نظر الخصم عناية بأصل المطلب في العرض الابتدائي.

فللتَّدقيق في شأن ذلك مع الأمثلة المعروضة قديماً وحديثاً فرَّق الأصوليُّون بين حالتين لا ثالث لهما:-

الحالة الأولى: إذا ورد مطلق ومقيَّد واختلف حكمهما فقالوا بأنَّه لا يحمل أحدهما على الآخر حينئذ بوجه من الوجوه اتِّفاقاً، إلاَّ في حالة واحدة كما سيجيء.

ومثَّلوا لأصل ما به عدم صحَّة المطلق على المقيَّد عند الاختلاف قديماً كأساس يمكن أن يتفرَّع عليه جميع صور عدم صحَّة الحمل، وهو قولهم فيما لو ورد (أكرم هاشميَّاً) وورد كذلك (جالس هاشميَّاً عالماً) وما يشبهه.

فإنَّ منشأ عدم صحَّة الحمل هو أنَّ إكرام الهاشمي بمثل احترامه غير مجالسة الهاشمي العالم، واتِّضاح هذا الأمر أكثر فيما لو كان التَّكليف واحداً لا يتعدَّد بتعدُّد الاعتبار.

نظير ذلك ما قد مثَّلوا به مؤخَّراً على هذا النَّحو وهو فيما لو قال الطَّبيب لمراجعه (اشرب لبناً) ثمَّ قال (اشرب لبناً حلواً).

فإنَّ ظاهر القول الثَّاني تعيين شرب الحلو منه، وهو الحالة الثَّانية المرتبطة بالأمر بشرب الحلو، لأنَّ الأولى قد تحمل على حالة النَّظرة السَّاذجة الَّتي قد تبيح شرب الحامض وهو مضر، بينما حالة المرض بالنَّظرة الدَّقيقة تدعو إلى خصوص شرب الحلو لشدَّة المرض المعالج بالحلاوة.

الحالة الثَّانية: إذا ورد مطلق ومقيَّد ولم يختلف أحدهما عن الآخر في الحكم، ولكن الاختلاف وعدمه كان في الموجب فواحد متَّحد في الحكم بما بين المطلق والمقيَّد

ص: 71

لكنَّه مختلف في الموجب في حالة الإثبات، واثنان متَّحدان في الموجب أحدهما في المطلق والمقيَّد مثبت وثانيهما في كلاهما منفي.

فهاهنا تكون الأقسام ثلاثة، اثنان أو قسمان لهما علاقة بصحَّة الحمل أو إمكان الجمع والأخير لا يصح فيه الحمل أو الجمع كما سيجيء.

وقد مثَّلوا للأوَّل منها بقولهم قديماً فيما لو ورد (أكرم هاشميَّاً) وورد أيضاً ولو بلسان آخر عما مضى غير مضر (أكرم هاشميَّاً عارفاً).

والثَّاني (لا تعتق المكاتب) و (لا تعتق المكاتب الكافر)، فهنا لابدَّ وأن يحصل المجال بالحمل أو الجمع بين القولين، وهو بطبيعة الحال لم يكن إلاَّ حين ما لو كان التَّكليف في أحدهما معلَّقاً على شيء وفي الآخر معلَّقاً على شيء آخر ممَّا لا يتزاحم معه تطبيق الاثنين في شخص واحد، وهو الهاشمي العارف وغير العارف ولو لشرفه في السِّيادة.

ومثَّلوا حديثاً كذلك بقولهم فيما لو قال الطَّبيب لمريضه (إذا أكلت فاشرب لبناً) وقال أيضاً (إذا استيقظت من النَّوم اشرب لبناً حلواً)، فإنَّه لا تنافي بين الاثنين.وكذلك فيما لو كان التَّكليف في المطلق إلزاميَّاً وفي المقيَّد استحبابيَّاً كما مرَّ في المثال الأوَّل في صورة التَّنافي في قولي الطَّبيب وهما (اشرب لبناً) و (اشرب لبنا حلواً) فيما لو أريد منهما حالة عدم التَّنافي لما أشرنا منه إلى أنَّ حالة القولين مختلف باختلاف الاعتبار والَّذي منه حالة عدم التَّنافي، فإنَّه إذا أريد من الأوَّل وجوب الشُّرب لأصل اللَّبن ومن الثَّاني استحبابه لو كان حلواً فلا تنافي.

وكذلك يمكن أن تجيء حالة عدم التَّنافي في نفس المثال لو فهم من التَّكليف في المقيَّد وهو خصوص اللَّبن الحلو أنَّه تكليف ثاني غير التَّكليف المطلوب من الأوَّل لنفع المريض بالاثنين في حالتين.

ومن هنا نعرف أنَّ القاعدة المعروفة في باب تطبيق الأدلَّة اللَّفظيَّة أو الرِّوايات

ص: 72

القائلة بأنَّ (الجمع مهما أمكن أولى من الطَّرح) تشمل حالة الجمع الدِّلالي والجمع العملي.

أمَّا الحالة الأولى من الحالتين وهي الَّتي فيما لو اختلف فيها حكم المطلق عن المقيَّد ففيها وفي عدم إمكان الحمل للمطلق على المقيَّد صور تصل إلى ستَّة:-

الصَّورة الأولى: فيما لو كان الخطابان المتضمِّنان للإطلاق والتَّقييد من جنس واحد، وهو أنَّ كلاهما أمر كنحو (أكرم هاشميَّاً)، وهو من حالة الإطلاق و (جالس هاشميَّاً عالماً) - وهو من حالة التَّقييد - ففي ذلك لا يمكن حمل المطلق على المقيَّد على أساس ما ذكرناه سابقاً، فيما لو كان التَّكليف واحداً لا متعدِّداً، وهكذا بقيَّة الأمثلة المشابهة.

الصَّورة الثَّانية: فيما لو كان كلا الخطابين نهياً كنحو (لا تبخل على هاشمي) - من حالة الإطلاق - و (لا تفارق هاشميَّاً عالماً في المجالسة) من حالة التَّقييد، وهي ممَّا لا يمكن فيها الحمل كذلك بناءاً على أنَّ التَّكليف واحد وهكذا بقيَّة الأمثلة.

الصَّورة الثَّالثة: فيما لو كان أحدهما أمراً وثانيهما نهياً كنحو (أكرم هاشميَّاً) - من حالة الإطلاق - و (لا تفارق هاشميَّاً عالماً في المجالسة) من حالة التَّقييد، وهذه كالصُّورتين السَّابقتين إذا كانت على نفس المبنى، وكذا العكس.

الصُّورة الرَّابعة: فيما لو كان الموجب في الاثنين واحداً، وهو الأمر الدَّال على الوجوب كنحو (أعط هاشميَّاً من خمسك) و (جالس هاشميَّاً عالماً) وهذه كالسَّوابق لو كانت على نفس المبنى.

الصُّورة الخامسة: فيما لو كان الموجب في الاثنين مختلفاً كما لو قال (إذا لقيت اليتيم فأكرمه) وقال (جالس الهاشمي العالم).

ص: 73

الصُّورة السَّادسة: لو اتَّحد الموجب كما لو قال (إذا لقيت اليتيم فأطعمه) وقال (إذا لقيت الهاشمي العالم فتعلَّم منه).

وبهذا المستوى من التَّنافي في هذه الحالات الستَّة لا يجوز فيها حمل المطلق على المقيَّد أبداً لو كانت على المبنى الماضي ذكره، إلاَّ في حالة واحدة استثنيت وهي مثل أن يقول الآمر (إن ظاهرت فاعتق رقبة) ويقول بعد ذلك (لا تملك رقبة كافرة) فهنا معالتَّنافي والاختلاف لابدَّ وأن يقيَّد المطلق عند التَّطبيق لإبراء الذمَّة بالقدر المتيقَّن من الاثنين ما دام كلا المطلبين وارداً بتساوي في السَّند والدِّلالة ولم يكن غيرهما لينتج من خلال الرَّبط الممكن نفي الكفر عند إرادة إعتاق الرَّقبة بعد الظهار وإن كان الظهار والملك لحكمين مختلفين بحسب الظاهر، لتوقُّف الإعتاق على الملك ولو لنص آخر ثابت في المقام وهو قولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (لا عتق إلاَّ في ملك)، ولوجود تكليفين فيختلف أحدهما عن الآخر لا تكليف واحد يمكن اجتماعهما له فيما ذكرناه، سواء تقدَّم أو تأخَّر، وسواء كان مجيء المتأخِّر بعد وقت العمل بالمتقدِّم أو قبله أو بالتَّصرُّف في المقيَّد على وجه لا ينافي الإطلاق ليبقى ظهور المطلق على حاله، ويمكن أن يمثَّل لذلك بقول الطَّبيب (اشرب اللَّبن) و (لا تشرب اللَّبن الحامض) لإرادة الحلو.

وأمَّا الحالة الثَّانية من الحالتين، وهي ما إذا ورد مطلق ومقيَّد ولم يختلف حكمهما ولكن الاختلاف وعدمه كان في الموجب وهو على أقسام ثلاثة كما أشرنا آنفاً:--

القسم الأوَّل: منها أن يتَّحد موجبهما حال كونهما مثبتين مثل قول الآمر (إن ظاهرت فاعتق رقبة) ويقول بعد ذلك (إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة)، ومثله قول الطَّبيب (إن مرضت فاشرب لبناً) أو (إن مرضت فاشرب لبناً حلواً).

فهنا لابدَّ وأن يحمل المطلق على المقيَّد وهو من طبيعيَّات حالات التَّلازم، واستدلَّ عليه بالإجماع، وهو غير غريب في المجال الفقهي إن دلَّت دلائله بتمام،

ص: 74

ولعدم جواز التَّفكيك بين روايتين متكافئتين بهذا النَّحو لو كانتا أو غيرهما.

وأمَّا في حال عدم وجود ذلك فرضاً فهذا الَّذي رتَّبه الأصوليُّون الفحول هنا كقاعدة يُبنى عليها بالنَّتيجة على نهجها حين العثور على مثل هاتين الرِّوايتين فهو من أهله وفي محلَّه وإن كان نظريَّاً قبل العثور عليهما، ولكن (عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود)، بل ما أكثر المصاديق من ذلك لو استفرغ الوسع في سبيله، وممَّن قال بذلك صاحب النِّهاية قدس سره.

وبذلك يكون هذا الحمل من الحمل البياني بين المطلق والمقيَّد لا النَّسخ له كما قيل، سواء تقدَّم أحدهما على الآخر أو تأخَّر، لأنَّ قاعدة (الجمع مهما أمكن أولى من الطَّرح) تفرض نفسها ولا تحدَّد في التَّقدُّم أو التَّأخُّر، وقيل ضعيفاً إنَّ ذلك من نوع النَّسخ له لا التَّقييد إن أتى القيد بعد المطلق، فهنا مطلبان:-

إمَّا مطلب حمل المطلق على المقيَّد، أو كونه بياناً لا نسخاً.

أمَّا الأوَّل: وهو حمل المطلق على المقيَّد فهو واضح، لأنَّه من الجمع بين الدَّليلين الَّذين لا مانع ولا منع من الجمع بينهما كما مرَّ بيانه، ولأنَّ العمل بالمقيَّد لابدَّ وأن يلزم منه العمل بالمطلق كما في المثال السَّابق المناسب بلا تلازم في صورة العكس، لصدق المطلق وحده في بعض حالاته من دون تقييد كما أسهبنا في هذا فيما سبق.

وبهذا المعنى يكون الصَّواب كما قلنا، وبالأخص عند وجوب حرصنا على بقاء الوجوب على الحقيقة من دون الحاجة إلى المجاز وهو النَّدب، ولأنَّ حمل المطلق على المقيَّد من باب الحمل على القدر المتيقَّن بالجمع بين القولين.

وأمَّا مع احتمال التَّجوُّز في رواية القيد واحتماله في رواية الإطلاق لبعض الأسباب فإنَّه لابدَّ وأن يكون مدعاة للتَّساقط أو التَّوقُّف، لأنَّ صحَّة الحمل لابدَّ وأن تحرز فيها الجديَّة بلا مجازيَّة، لأنَّ الأصل عدم القرينة.

ص: 75

وأمَّا الثَّاني: وهو كونه بياناً لا نسخاً، فلأنَّه في المعنى أو بعضه نوع من التَّخصيص، فإنَّ المراد من المطلق ك- (رقبة) الَّتي مرَّ ذكرها هو أي فرد كان من أفراد ماهيَّتها، فيصير هذا المطلق كالعام إلاَّ أنَّه على نحو البدل في حصصه من حالاته ويصير تقييداً بنحو (مؤمنة)، كالتَّخصيص والإخراج لبعض المسميَّات والحالات عن أن يصلح بدلاً.

فالتَّقييد الاصطلاحي هنا في كونه كالتَّخصيص هو بمعنى أنَّ الخاص المتأخر كما أنَّه بيان للعام المتقدِّم وليس ناسخاً له فكذلك المقيَّد المتأخر لو سبقه المطلق وتقدَّم عليه.

إضافة إلى أنَّ القول الأوَّل المدَّعى نسخه بالقول الثَّاني المقيِّد له كثيراً ما يحتاج إليه كمطلق وإن قيِّد في قضيَّة الثَّاني كقول (إن ظاهرت فاعتق رقبة) أوَّلاً.

فإنَّ هذا لو جعلناه منسوخاً لما أمكننا الاستفادة منه في المقامات الأخرى بالإطلاق، لأنَّ سيرة أهل البت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لم تقتصر على عتق خصوص الرِّقاب المؤمنة في المواقع العامَّة الأخرى، ولذا يكون تضييقاً لتلك الفوائد ومنها الجوانب الإنسانيَّة في حالاتها.

ولكن استدلَّ للقول بالنَّسخ بهذا القيد المتأخّر عن اللَّفظ المطلق بأنَّه لا يمكن البناء على مطلق الرَّقبة بعد ورود رواية التَّقييد، لأنَّه لو كان هذا القيد بياناً للمطلق حينئذ لكان المراد بالمطلق هو المقيَّد فيجب أن يكون مجازاً في ذلك لأنَّه استعمال للشَّيء في غير ما وضع له وهو فرع الدِّلالة لا أصلها والدَّلالة منتفية، إذ أنَّ المطلق لا دلالة له على مقيَّد خاص.

ولكن أجيب عنه: بأنَّ المعنى إنَّما يقهم من اللَّفظ بواسطة القرينة، وهي هنا القيد فيجب أن يكون حصول الدِّلالة والفهم لها بعده لا قبله، بينما هذا الَّذي ذكر في الاستدلال إنَّما يتم لو أراده لوجب حصولهما قبله لا بعده وليس الأمر كما قالوا

ص: 76

وكما استدلُّوا.

القسم الثَّاني: أن يتَّحد موجب المطلق والمقيَّد منفييَّن فإنَّهما ممَّا يعمل بهما معاً اتِّفاقاً مثل أن يقول القائل الشَّرعي في كفَّارة الظِّهار (لا تعتق المكاتب) ويقول أيضاً (لا تعتق المكاتب الكافر).

علماً بأنَّ المكاتب قد يكون مسلماً وكافراً وأنَّ غير المكاتب كذلك، وذلك حيث لا يقصد الاستغراق في مطلق الكافر أو مطلق المسلم المملوك كما في (أشتر اللَّحم) فلا يجزي في ذلك إعتاق مطلق المكاتب حتَّى المسلم.

نعم يجوز إعتاق الكافر إذا لم يكن مكاتباً لو لم يُرَ إعتاق خصوص المؤمن من دليل آخر، ومثله قول الطَّبيب (لا تشرب اللَّبن الخاثر) وقوله (لا تشرب اللَّبن الحامض)، وبذلك يكون مفادهما جواز شرب الحليب الأصلي.

القسم الثَّالث: أن يختلف موجبهما كقول القائل (إذا ظاهرت فاعتق رقبة) وقوله (إذا قتلت فاعتق رقبة مؤمنة)، ومثله قول الطَّبيب (إذا أكلت الغداء فاستلق) وقوله (إذا أكلتالعشاء فتمشَّ)، وعلى هذا لا يمكن فيه حمل أحد القولين وهو مثلاً الأوَّل المطلق على الثَّاني وهو المقيَّد، للاختلاف بين موضوعي القولين وهو رأينا نحن الإماميَّة.

وأمَّا العامَّة فقد ذهب الكثير منهم على ما رواه صاحب المعالم قدس سره إلى استعمال القياس عندهم في المقام بحمل هذا المطلق على المقيَّد إذا اجتمعت شرائط القياس الَّتي يفرضونها في ذلك، وربَّما نقل عن بعضهم الحمل على المقيَّد مطلقاً، وكلاهما باطل لاسيَّما الأخير، لوضوح الفارق بين القولين المرويَّين الَّذي لا تنفع فيه حتَّى شرائط أولئك الكثيرين.

ص: 77

التَّاسع / نتيجة البحث

لقد تبيَّن من خلال عرض هذه الأمور أنَّ الكلام عن الإطلاق والتَّقييد من أهم مباحث الأصول اللَّفظيَّة للكتاب والسنَّة، وعلى أساس ما وضع في هذه المباحث من القواعد والأصول أنَّه اعتبر أنَّ كل ما يجري للفقهاء والأصوليِّين من الكلام الفقهي والأصولي يمكن محاسبتهم عليه إن تجاوزوا حدود ما وضعوه أو وضع له من المباني الصَّحيحة، بناءاً منَّا على ما نلتزم به من مبنى التَّخطئة لأنَّ العصمة لأهلها.

وأنَّ تقابل الإطلاق والتَّقييد تقابل الملكة وعدمها، لا تقابل التَّضاد أو التَّناقض.

وأنَّ الإطلاق فمرتبط في إثباته أو استكشافه بمقدِّمات الحكمة لا بالوضع، حذراً من الوقوع في محذور المجازيَّة، وأنَّه لا يلزم أن يكون على الدَّوام مقيَّداً، ولذا عُدَّ أصالة يرجع إليها عند الشَّك.

وأنَّ مسألة حمل المطلق على المقيَّد مرتبطة بحالات عدم التَّنافي بين قضايا تقابل الإطلاق والتَّعيين على تفصيل ذكرناه.

وأمَّا حالات التَّنافي فكلُّها لا تقبل الحمل إلاَّ حالة واحدة مرَّ التَّمثيل لها وذكرنا قاعدة يمكن القياس عليها في صحَّة الحمل وعدمه أو مطلق الجمع وعدمه، وهي أنَّه إذا كان التَّكليف واحداً لكل منهما لا يمكن الحمل أو الجمع وإن كان متعدِّداً بتعدُّد القولين فلا مانع.

الفرق بين العام والمطلق وهل يجتمعان؟

قد مضى التَّعريف لكل من الاثنين(1) وللتَّمثيل للاثنين في مثال واحد غير ضار

ص: 78


1- راجع ص13 و ص45.

بكل من تعريف كل من الاثنين.

هو ما لو قلنا خطاباً للمقول له إن أبدى أمواله لإكرام وتكريم من كان أهلاً للعطاء (أكرم العالم)، وهو لفظ معرَّف بالألف واللاَّم وبنحو الإفراد، وذلك علامة على دلالته على العموم، فهو عام يُراد به إكرام كل عالم.

وهذا المفرد الدَّال على العموم يسمَّى مطلقاً أيضاً على ما يطلق عليه في الأصول بالعام الإطلاقي لارتباطه بمقدِّمات الحكمة

ص: 79

الفصل الثَّالث

المجمل والمبيَّن في آيات الأحكام وما يتعلَّق به من السنَّة

إنَّ المجمل والمبيَّن كالمباحث الماضية في الأهميَّة تجاه الدِّليلين الرَّئيسين، بل لابدَّ وأن يتوسَّعا إلى الأفعال للمعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وتمام الكلام عنهما أو عن مهمَّاتهما يحصل ببيان أمور:-

الأوَّل: معنى المجمل والمبيَّن عند اللُّغويين وفي الاصطلاح الأصولي.

إنَّ معنى المجمل والمبيَّن في اللُّغة هو أنَّ الأوَّل اسم لما يكون معناه مشتبهاً وغير ظاهر فيه، والَّثاني اسم لما يكون واضحاً وغير مشتبه.

ومعنى المجمل في اصطلاح الأصوليين جاء بتعابير متعدِّدة الألفاظ من لدن أعلام الفن، وبعكسه المبيَّن.

منها ما قاله العلاَّمة قدس سره ( المجمل ما أفاد شيئاً معيَّناً في نقسه لا يعيِّنه اللَّفظ)(1).

أقول: وذلك بمعنى أنَّ ذلك الشَّيء المعيَّن قد يكون هو المقصود في التَّكليف الأصلي ولكنَّه اختفى أو أضمر المشرَّع أمره في لفظ أوسع منه لا يفصح عنه لحكمة وقتيَّة.

أو لم يفهم المقابل - وهو المكلَّف - منه ذلك المقصود بعينه إلاَّ بالمبيَّن اللَّفظي الآخر لضعفه اللُّغوي والاصطلاحي أو لعدم انتباهه.

أو بالمبيَّن الفعلي كما في أفعال المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وكما أثبته قول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (صلُّوا

ص: 80


1- مبادئ الوصول إلى علم الأصول ص 154.

كما رأيتموني أصلِّي)(1) وقوله كذلك (خذوا عنِّي مناسككم)(2) كما أنَّ الإجمال قد يكون فعليَّاً لا يُبيَّن إلاَّ بمبيَّن لفظي أو فعلي كذلك كما سيأتي توضيح ذلك أو شيء منه.

ثمَّ قال العلاَّمة قدس سره (والمبيَّن يطلق على المستغنى عن البيان)(3).

أقول: وذلك كالنُّصوص والظواهر الواضحة في أساسها كتاباً وسنَّة أو ما كان بسببه منهما قد استوضح ما سبقه من المجمل اللفظي أو حتَّى الفعلي بهذا اللَّفظي أو بالفعلي كما أشرنا وكما سيتَّضح.

وقد يُراد من كلامه الأوَّل قدس سره - عن المجمل بقرينة قوله (لا يعيِّنه اللَّفظ) - أنَّه ما يعم الفعل المجمل كذلك، لقصور في اللَّفظ، وهو ما لا يلازمه الوضوح في الفعل كذلك.

إضافة إلى أنَّه يمكن أن يعيِّنه الفعل كما مر وكما سيأتي، لأنه قد يريد من قوله (لا يعيِّنه اللَّفظ) أي لا يعيِّنه وحده باختصاص، وذلك كما لو جهل أمر وضوء الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ أمام من يُتقَّى أمره من الوشاة والنَّواصب أو من يحتمل فيه ذلك، فإنَّ هذا الوضوء لو جهل أمره أنَّه هو المطابق للواقع ولمذهبهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ أم لا؟.

فإنَّه لا يدل على المشروعيَّة الواضحة إلاَّ أنَّ يوضح باللَّفظ الموضِّح أو بالفعل الموضِّح كذلك في حال الاختيار وأمام من لا يتَّقى من أمره قطعاً أو احتمالاً معتدَّاً

ص: 81


1- عوالي اللئالي: ج1، ص197، ذيل حديث 8، صحيح البخاري 1: 162 كتاب الصلاة باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، تفسير الرازي 2/164.
2- أخرجه مسلم في صحيحه (2/ 943، رقم 1297). واللَّفظ للبيهقي في السنن الكبرى (5/ 204، رقم 9542)، ولفظ مسلم: "لتأْخذوا مناسككم فإنَّي لا أدري لعلِّي لا أحج بعد حجتي هذه".
3- مبادئ الوصول إلى علم الأصول ص 154.

به.

وقد أعان على فهم هذا المقصود العام أيضاً تعبيره الثَّاني عن المبيِّن الَّذي تقدَّم بقرينة قوله (المستغني عن البيان) أي إنَّ استغناؤه عنه إمَّا بكفاءة اللفظ من الأساس أو بإيضاح المقصود بنفس الفعل كما مرَّ في حديثي النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وكما حرَّرناه في بحث السنَّة بأنَّ من مصاديقها فعل المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وهو الَّذي قد يظهر مجملاً وقد يظهر من أساسه بيناً واضحاً.

وقد يتبنَّى توضيح المجملات من الألفاظ والأفعال وبتمام هذا الثَّاني لابدَّ وأن يحسن السكوت من المتكلِّم والسَّامع ولا ينتظر شيء يحتاج إليه من البيان ومنه الأفعال أيضاً، وسوف يتَّضح هذا في المستقبل القريب أكثر إنشاء الله تعالى.

ومنها ما قاله الشَّيخ البهائي قدس سره (المجمل ما دلالته غير واضحة والمبيِّن نقيض المجمل)(1).

أقول: وهذا التَّعريف للاثنين بحسب ظاهره كذلك لا يعبِّر عن خصوص الألفاظ للنَّصين الشَّريفين كما بيَّنا، وإن كان المصدران الشَّريفان في ألفاظهما هما الأساس المتَّبع والمتعارف في هذه البحوث الأصوليَّة من قسم مباحث الألفاظ لأكثريَّة الاستدلال بذلك كمالا يخفى.

بل صرَّحت الظواهر والنُّصوص على مشاركة الأفعال لتلك الألفاظ ومن الشَّيء الكثير والجم الغفير كما سيأتي.

وما ذاك إلاَّ لتقويم بعض الحالات المجملة والمبيِّنة من غير اللَّفظيَّة الأصيلة والاهتمام بها في هذه التَّعاريف لئلا نحرم منها، لأنَّها ما حفظت بعضها بنصوصها التَّامَّة كالنَّقل للفظ السنَّة بالمعنى أو حكاية فعل المعصوم باللفظ من معصوم أتى بعده، أو ما حكى فعلهم بعض حواريهم الثِّقات باللفظ أو بالفعل لصيرورة الحواري

ص: 82


1- زبدة الأصول ص144.

من أهل الاقتداء بهم ثمَّ نقل ذلك لنا.

وهذه النَّاحية عن هذه المصاديق وإن ابتعدت بعض الشَّيء عن اللَّفظ الأساس كما أسلفنا بناءاً على رأي من يرى أنَّ المجمل والمبيَّن هما من مباحث الألفاظ فقط لو افترضنا ولو نادراً، إلاَّ أنَّها ألحقت أمورها بالتَّالي بالألفاظ فوصل الأمر إلى هذه المباحث ومشتقَّاتها بما يتناسب والنَّظر الأصولي اللفظي الأعم.

ومنها ما قاله صاحب المعالم قدس سره وهو قوله (أصل المجمل هو ما لم يتَّضح دلالته)(1) وقال بعد ذلك (المبين نقيض المجمل، فهو متِّضح الدِّلالة)(2).

أقول: سواء كان بنفسه مثل [وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ](3)، أو بواسطة الغير ويسمَّى ذلك الغير مبيَّناً، أي موضَّحاً للمجمل الَّذي سبقه، لأنَّه جاء خاصَّاً له كما مرَّّ بيان هذا المعنى في أمر تعدَّد معنى المبيَّن عند تعليقنا على تعريف العلامة قدس سره.

وفي هذا التَّعبير مزيد تأييد كذلك إلى أهميَّة الدِّلالة عند التَّبيُّن وعدمها عند الإجمال ودخول الحالة الفعليَّة كذلك، لعدم تصريحه بخصوص الدِّلالة وعدمها لفظاً كما أوضحنا وكما سيجيء.

وأنَّ ذكره لقوله تعالى [وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ](4) كشاهد لفظي لا يوجب تخصيص اللَّفظ في المقام، ولأنَّ (إثبات الشَّيء لا ينفي ما عداه)، وإنَّ الأمثلة قد تضرب ولا يقاس عليها في كل الموارد، أو يقاس عليها في خصوص موردها، أو أنَّ قياسها ليس إلاَّ لأحد قسمي المطلوب.

ومنها ما قاله المحقق العراقي قدس سره وهو: (المجمل هو ما لم يكن ظاهر الدِّلالة، ولا

ص: 83


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص152.
2- نفس المصدر ص156.ج
3- سورة البقرة / آية 29.ج
4- سورة البقرة / آية 29.

يكون قالباً لمعنى خاص، بل قالب لمعاني كثيرة كالمشترك، والمبيِّن خلافه)(1).

أقول: ولكن يبقى هذا التَّعريف وإن ذكر فيه كلمة (القالب) و(المشترك) الَّذين ظاهرهما اللَّفظ فهو كما علَّقنا به على تعريف صاحب المعالم قدس سره بأنَّه:-

إن أراد الإجمال والتَّبيين في التَّعريف أنَّهما اللَّفظيَّان فلا يعنى عدم إرادة بقيَّةالمعاني الأخرى حتَّى عن طريق الأفعال، إضافة إلى أنَّ الأفعال قد تشترك بين محتملين أو أكثر من المعاني كما مرَّ وكما سيأتي.

ومنها ما قاله الشيخ المظفَّر قدس سره وهو (عرَّفوا المجمل اصطلاحاً بأنَّه ما لم تتَّضح دلالته، ويقابله المبيِّن)(2).

أقول: وهذا التَّعريف على إجماله ينفعنا ويقترب كثيراً ممَّا نريد، وإن كان قد جاء به نقلاً عمَّن سبقه، ولعلَّ من ذلك ما قاله صاحب المعالم قدس سره والمحقِّق العراقي قدس سره الَّذين فيهما الإشارة أو التَّصريح بإرادة اللَّفظ، ولكن ذكره التَّعريف وإطلاقه في عبارته له وعدم تعليقه عليه بشيء إضافي خاص يكفي في قبوله له، إضافة إلى أنَّ اختصاره لجميع أو أغلب ما مضى ذكره من التَّعاريف ممَّا يعطي الظن المهم والقوي بتقارب الجميع أو الأغلب المهم على المعنى الموحَّد، وهو الَّذي أوضحنا بعضه، وهو المقارب للمعنى اللُّغوي المذكور في طليعة البحث من غير المنافي لدخول الفعل في الدِّلالة كذلك.

وقد ذكره السيد الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره بقوله (أنَّ المجمل والمبيَّن هنا كالمطلق والمقيَّد والعام والخاص مستعملان في معناهما اللُّغوي، وليس للأصوليِّين فيهما اصطلاح خاص)(3).

ص: 84


1- منهاج الأصول - محمد إبراهيم الكرباسي - ج2 ص363.
2- أصول الفقه ج1 ص179.
3- محاضرات في أصول الفقه ج4 ص555.

ولكن يمكن القول بأنَّ هناك معنى خاص إضافي يمتاز به الفقه نوعاً عن عموم وإطلاق مراد اللُّغة.

ومن هذا المنطلق يختلف المصطلح الأصولي الخادم لخصوص القضيَّة الفقهيَّة، بل هو الصَّحيح لو لم تكن الدِّلالة اللُّغويَّة ثابتة في الإجمال الفعلي.

بل إنَّ دخول الإجمال في الأفعال وكذلك مبيِّناتها ممَّا يجعل الاصطلاح الأصولي والشَّرعي أكثر دقَّة، وإن كان في الجملة صحيحاً.

وبذلك يكون ما بين الاصطلاح واللُّغة عموماً وخصوصاً من وجه، لأنَّ اللُّغة أعم من الاصطلاح في خروج اللُّغة عن إطار الدِّين في بعض الأمور أو كثيرها.

والاصطلاح أعم من اللُّغة كذلك بالأفعال المجملة والأفعال المبيَّنة بالأفعال كذلك ولو في الجملة.

إلاَّ إذا قلنا بأنَّ اللُّغة لا تمنع - من دلالات ألفاظها - على الإجمال في الأفعال بسبب العموم والإطلاق الدِّلالي، فتتحوَّل النِّسبة إلى ما بين العام والخاص المطلق، وهو أنَّ كل أمر فقهي مجمل لفظي وفعلي يدخل في اللُّغة.

لأنَّ الألفاظ التَّعريفيَّة في المصطلح اللُّغوي تشمل الأفعال حتماً ولا عكس، لخروج قضايا اللُّغة غير الفقهيَّة وهو محتمل بل مقبول.

وعند هاتين النِّسبتين من النِّسب الأربع المنطقيَّة لم يكن التَّناسب الكامل بين اللُّغة والاصطلاح ثابتاً كما يدَّعى.

الثَّاني: الحاجة إلى بحث المجمل والمبين

إنَّ الكلام عن المجمل والمبيِّن كالكلام عن مباحث الألفاظ الأصوليَّة السَّابقة ضروري جدَّاً لأمور:

منها: أنَّ آيات الأحكام - الَّتي هي مع غيرها والرِّوايات المتعلِّقة بهذه الآيات من

ص: 85

الَّتي حصل في كثير منها هذا الإجمال في أصل النُّزول والورود للحكمة الشَّرعيَّة المشار إليها فيما سبق وما ظهر لنا في ذلك كذلك من التَّردُّد والتَّأمُّل والتَّوقف في المعاني من حيث نحن، لا من حيث الوحي والرِّوايات المعصوميَّة حتَّى حصل الإجمال --

لابدَّ من أنَّها تنتظر منَّا السَّعي لتحصيل المبيِّن لهذا الإجمال إن كان، ولو بالسَّعي لتحصيل الثَّقافة الأدبيَّة المعينة على فهم البيان له.

وإن لم يظهر لنا أو لم نقدر عليه فليس هو إلاَّ لحكمة قد يأتي وقتها، ولا يعلم سر تأجيلها إلاَّ الله والراسخون في العلم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ أدلاء، بلا أي قصور أو تقصير في ذلك، ومن دون أن يقبل فيه تصوُّر جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة من أحد.

وهذا لا يمكن التَّنبُّه إليه إلاَّ من خلال عرض هذا البحث وهذه الموارد للحاجة.

ومنها: للتَّفرقة الاصطلاحيَّة الأصوليَّة بين المجمل والمبيَّن وبين ما قد يشبههما ممَّا مضى من العناوين ولو بعض الشَّيء، للتَّفاوت الَّذي سوف يأتي بيانه في الفوارق وغيره، لئلاَّ يحصل الخلط والخبط العلمي، فتتأثَّر بعد ذلك المفاهيم والنَّتائج أو المسألة الأصوليَّة.

وكونها للمسألة الفقهيَّة لابدَّ وأن تكون في غاية الحسَّاسيَّة، للأوامر الكثيرة الصَّريحة والآمرة بعدم فعل الجرأة على التَّشريع إلاَّ من أمر الله، والنَّاهية في نفس الوقت عن التَّجاوز عن الحدود المرسومة في كيفيَّة الاستنباط الصَّحيح من مواقعه الَّتي أهمُّها ألفاظ الكتاب والسنَّة، حذراً من الوقوع في الابتداع، وللابتعاد عن الخبط والخلط وعن عدم الضَّبط.

ولذلك كان عرضنا لهذا البحث.

ومنها: للفهم الصّحيح لكلام الفقهاء المهمِّين والحاذقين من القدامى والمحدثين، المبتني على الأخذ الاصطلاحي من المصادر الشَّرعية حسب المعهود عنهم، وعلى

ص: 86

نهج الفن الدَّقيق المرتبط بمباحث الألفاظ المتفاوتة في عناوينها من هذه الأصول، وغيرها من القواعد الفقهية المصطيدة من كثرة التَّحقيقات واستمرارها على اختلاف عناوينها كذلك.

لمعرفة ما قد أوصلهم إلى الحكم الشَّرعي وفهمه بسهولة أو أسهليَّة أو صعوبة أو إلى الطَّريق المسدود في بعض الأوقات.

ولمعرفة أمور التَّسهيلات النَّاجحة في تجاربهم، للوصول الأكثر إلى ذلك المطلب الفقهي الأصيل، على الأسس المضبوطة الحاصلة عن مساعي أولئك الفقهاء الحثيثة.

ولمعرفة صحَّة ذلك بتمام من عدمه عند خوضنا نحن في غمار هذا الأمر عيالاً على أسلوبهم ولو مع ما ننتقيه من المقدِّمات والسطوح المستقلَّة، وبالأخص عند العثور على بعض الاشتباهات من بعضهم في أمر تطبيق الحكم على الموضوع ومناسبته التَّامَّة ومدى علاقته بالنُّصوص المعتمدة وغيرها من عدمه.

وذلك بناءاً على مبنانا الرَّصين وهو مبدأ التَّخطئة لغير أهل العصمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وأنَّ المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ليس له قولان متساويان في مطلب واحد في وقت واحد يناقض أحدهما الآخر في الحالة الاختياريَّة، لأسباب من جملتها الرِّوايات الَّتي قد يصعب فهمها من الوجهة الأدبيَّة.

ومن جملتها ما نقل من تلك الرِّوايات وبالخصوص الطَّويلة الَّتي ما نقلت لتدل على خصوص مطلب واحد كالمسمَّات بالجامعة وغيرها.

بل إنَّما ذلك لتحفظ من الضِّياع، ولكون صدرها قد يختلف عن عجزها أو كلاهما أو أحدهما يختلف عن الوسط أو الوسط يختلف عنهما أو عن أحدهما.

فحصل من بعض ذلك من الإجمال ما قد يتعكَّر به صفو الفهم الصَّحيح في بعض الأحوال، أو ما قد يحصل من توهُّم الارتباط أو بعضه بذلك بسبب استبساط الأمر وحسن الظن من بعضهم بظاهر هذا المروي الطَّويل من دون تحقيق وتدقيق، ممَّا

ص: 87

قد يسبِّب تعطيل بعض أمور الشَّريعة المحتاج إليها، ولكن ما انزاح عند بعضهم أو عند الكثير من طلاَّب هذا اليوم من المهمِّين هذا التَّوهُّم إلاَّ بعد التَّقسيم لهذه الرِّوايات الطَّويلة أو ما يشبهها على العناوين الفقهيَّة من الَّذي صنعه الحر العاملي في وسائله قدس سره وغيره.

وإن كان لدينا على ذلك بعض الملاحظات ممَّا لا يمكن الآن بيانه، أو انكشاف الأمر بعد التَّأمُّل والتَّوجيه بعد معرفته منَّا أو من الآخرين، أو ما نُقل من تلك الرِّوايات بالمعنى من بعض الحواري ولكن بلفظ غير وافٍ يمثل يفي به كلام الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ للفرق بين الإمام والمأموم، وغير ذلك من الأسباب.

ولهذا احتجنا إلى هذا البحث لمعرفة ما ينفعنا ويدفع المشاكل عنَّا بصورة أكثر.

ومنها: ما يتعلَّق في أمر التَّدقيق في المسألة الأصوليَّة لفهم الفرق بين المجمل والمبيَّن بالمنظور الاصطلاحي لكل منهما كما مرَّ في أوَّل البحث، لئلاَّ يتوهم في بعض الأحوال أنَّ المجمل مبيَّن أو العكس.

ولمحاولة الوصول إلى بعض القواعد الأصوليَّة النَّافعة إن كان لتسهيل الأمر أكثرللباحثين بسبب الارتباكات الحاصلة في الأذهان من بعض الأدلَّة اللفظيَّة الشَّريفة، ومن ذلك ما يتعلَّق بموضوعنا الخاص.

ولمعرفة أنَّ الأصل أو القاعدة في هذه المباحث لو أمكن اتِّخاذها بعد تحصيلها والاستقرار عليها في المقام في أنَّه هل كان من مصاديقها ما يمكن العمل به والقياس عليه كقاعدة اعتياديَّة مستقيمة عند الحاجة.

ولتقريب الطَّريق عن طريقها حتَّى لو كان لها شيء من تلك الشواذ، لتكون الشَّواذ من قبيل الخارج بالنَّص الَّذي لا يضر بقاعديَّة القاعدة؟

أم أنَّ القاعدة أو الأصل ليست بقاعدة إذا كان لها شيء من تلك الشَّواذ، وإن كانت مفيدة في بعض الأحوال كالحالة التَّسهيليَّة اللَّفظيَّة الَّتي قد يستفاد منها مع

ص: 88

المساعي الأخرى بما يكون أقرب للوصول للهدف من السَّعي الميداني الابتدائي لو كان وحده للفقيه الباحث؟

ولذا لا يعتد ببعض الأصول عند بعضهم لضعفها في أدائها، ولأنَّ التَّحصيل الفقهي الميداني المباشر في نجاحه أعلى من قواعد الأصول.

ولكن هذه الفكرة على أهميِّتها وثبوت أعلائيَّاتها هي كذلك لو كانت ثابتة المصداقيَّة مائة بالمائة.

ولكون القواعد الأصوليَّة مقرَّرات علميَّة صناعيَّة، والفقه أعلى بلا شك لأهلِّيته.

ولكن لن يصيب الهدف من السَّعي الاستنباطي النَّاجح من ذلك إلاَّ النَّادر الشَّاذ والَّذي قطع في عمره وبإخلاصه الإلهي بنجاح أو ما كان قد أجراه منه في طريقه عن عدَّة دورات فقهيَّة كاملة، إلى غير هذا من موارد الحاجة.

الثَّالث: هل إنَّ الإجمال والتَّبيين يختَّصان بالألفاظ والأقوال فقط؟

أم إنَّهما تشملهما الحالات الفعليَّة فيسريان فيها

لقد بيَّنا سابقاً عن أمر الأفعال بعض الشَّيء استطراداً وإن تعدَّد بهذا الآن ذكر ذلك لما تفرضه المناسبة.

ولكن هذا الأمر قد أعددناه خاصَّاً بهذا المطلب، اهتماماً به لدفع شبهه قد تقال، وهي أنَّ وضع الإجمال في أساسه كان للألفاظ ثمَّ استعمل تسامحاً للأفعال.

ولكن هذا لم يظهر لنا في لسان الشَّارع المقدَّس وضعاً واستعمالاً بعد ما قال تعالى [وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ](1) وكما ورد في

ص: 89


1- سورة التوبة / آية 105.

الحديث الشَّريف (لا علم إلاَّ بعمل)(1) وما بيَّناه سابقاً من أنَّ فعل المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ من مصاديق السنَّة الثَّلاثة المعروفة في الأصول، وهو ممَّا قد يطرأ عليه الإجمال.

ومن ذلك ما أوردناه من بعض روايات الإجمال الفعلي المتعلِّقة بوضوء الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ المحتمل إجراؤه أمام من يُتَّقى أمامه الإجراء الصَّحيح من المخالفين الأعداء.

وكذلك ما ورد من فعل الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ الظاهر في إجماله كذلك في صلاته لجلسة الاستراحة، الَّتي لا يُدرى أنَّها بفعلها كانت منه على نحو الوجوب أو الاستحباب.

وهكذا في كل مطلب اختلف فيه في الأقوال والأدلَّة بين الاستحباب والوجوب لكل أمر، وَاصلَ فعلَه المعصومون عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من الأقوال والأدلَّة المحترمة في بابها وغير المعرض عنها بين الجميع وبين المشهور ولم يُعرف عنهم أنَّهم تساهلوا فيه.

وهكذا في كل مطلب استمرُّوا بتركه ممَّا يحتمل فيه كون التَّرك للحرمة أو الكراهة من تلك الأقوال أو الأدلَّة.

وقد مرَّ من تعاريف العلماء الماضية للمجمل ما يساعد على إمكان حمل لفظهملمطلق الفعل واللَّفظ الشَّرعيين بوضوح، لا خصوص اللَّفظ كما قد يوهمه التَّعريف اللُّغوي، ولا ما قد ذكره السيِّد الأستاذ قدس سره من ادِّعاء المقارنة بين اللُّغة والاصطلاح، ولا كما قد يظهر من بعض العبائر الأخرى الَّتي قد أجبنا عنها.

بل قد ذكر صاحب المعالم قدس سره ما يؤيِّد قوله عنه بعد تعريفه (ويكون - الإجمال - فعلاً ولفظاً)(2).

وكما لم يستبعد حمل التَّعريف اللُّغوي الماضي له نفسه إذا قارنَّا بينه وبين الاصطلاحي، أو قاربنا بينهما بما لا يمنع من الانطباق على الأفعال.

وكما ذكر الشَّيخ المظفَّر قدس سره لهذا الأمر بقوله المؤيِّد وهو (ومن هذا البيان نعرف

ص: 90


1- التحفة السنيَّة (مخطوط) السيد عبد الله الجزائري ص16.
2- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص152.

أنَّ المجمل يشمل اللَّفظ والفعل)(1) وغير ذلك.

الرَّابع: تقسيم المجمل اللَّفظي إلى مفرد ومركَّب

وشيء من أسباب الإجمال فيه

ينقسم المجمل اللَّفظي حسب المتابعات الميدانيَّة لعموم الألفاظ اللُّغويَّة - ومنه إلى ما في خصوص نصوصنا وظواهرنا اللَّفظيَّة الشَّرعيَّة من الكتاب والسنَّة - إلى مفرد ومركَّب.

فالمفرد مثل اللَّفظ المشترك لتردُّده بين معانيه المختلفة، إمَّا بالأصالة ك- (العين وجون والقرء)، وإمَّا بالإعلال ك- (المختار) المتردِّد بين الفاعل والمفعول، لأنَّ أصله إمَّا من مختيَر بفتح الياء أو مختِير بكسرها.

وبهذا اللَّفظ الجديد الجامع لهذين الأصلين صار مجملاً، وهكذا كلمة وضع العمامة في كلام بعضهم المحتملة لمعنى التتويج بها أو خلعها من على الرَّأس في قول سحيم ابن وئيل:-

أنا بن جلا وطلاَّع الثَّنايا *** متى أضع العمامة تعرفوني(2)

وهكذا بعض الكلمات الأخرى الَّتي تحمل الوجهين أو الأكثر في مثل المغالطات الاختياريَّة والإمتحانيَّة وأحاجي الكلمات وهي كثيرة لا تحصى.

والمركَّب فكقوله تعالى من آيات أحكامه [أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ](3)

ص: 91


1- أصول الفقه ج1 ص179.
2- لسحيم ابن وثيل ابن عمرو ابن جوين ابن أهيب، أحد فرسان بني تميم وشعرائها المفلقين، وقد تمثَّل بها الحجاج بن يوسف الثقفي في خطبته المشهورة يوم تولَّى إمارة العراق.
3- سورة البقرة / آية 235.

لتردُّده بين الزَّوج والولي.

وقد يكون إجماله بسبب كون استعماله في الجملة في غير ما وضع له، فيكون بذلك مجازاً عند صرف لفظه عن حقيقته، أو لعدم معرفة عود الضَّمير فيه من الَّذي هو من نوع (مغالطة المماراة).

ومُثِّل للاثنين بما يحتملهما معاً وهو مثل قول القائل لمَّا سئل عن أفضل أصحاب النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في مقام من ينبغي أمامه اتِّقاء شرِّه فقال (من بنته في بيته)، فحصل هذا الإجمال المتعمَّد بالمغالطة، أو الحالة المجازيَّة بسبب التَّقيَّة.

فإنَّ المقصود هو أمير المؤمنين علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ، لأنَّ زوجته الزَّهراء عَلَيْهِا السَّلاَمُ ابنة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْفي بيت زوجها، ولكن أراد المقابل بذلك إيهام السَّامع بكونه أبا بكر، لأنَّ ابنته عائشة في بيت النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ للخلاص من شر من كان حاضراً في المكان.

ويشبه هذا إحراج معاوية (لع) لعقيل بن أبي طالب "رضوان الله عليه" لأن يسبَّ أخاه أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في مجلسه، فأجابه محرجاً أمام الجموع مخاطباً لهم (إنَّ معاويةيأمرني بسبِّ علي فالعنوه)(1) أي العنوا معاوية في الحقيقة وإن كان في الإيهام علَّياً في الظاهر.

وبطبيعة الحال إنَّ عود الضمير وإن كان على مبنى العامَّة من الأعداء المخالفين بكونه على البعيد ممَّا يشفى غليل المؤمنين، لأنَّه لابدَّ وأن يكون ناتجة السَّب لمعاوية (لع) وكما يقصد عقيل في قلبه وواقع لسانه، وإن كان على عكس مبنانا ومباني أدباءهم الواقعيين في آية الوضوء وهي قوله تعالى [وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ](2) كما لا يخفى على اللَّبيب الأديب.

لكن المقصود الحتمي من هذا التَّعبير هو إثارة معنى الإجمال للمغالطة أو

ص: 92


1- الأنوار العلوية -- الشَّيخ جعفر النَّقدي -- ص16.ج
2- سورة المائدة / آية 6.

التَّورية أو المجازيَّة.

وكما في مرجع الضَّمير حيث يتقدُّمه أمران يصلح لكل واحد منهما نحو (ضرب زيد عمرواً فضربته)، فأجملت لتردُّده بين زيد وعمرو.

وكقول الآمر(لتضرب العاصي) وكان في الحضرة رجل وفي المخدع امرأة واحتمال أمر المخاطب المذكَّر أو الغائبة المؤنَّثة وارداً فحصل الإجمال لا محالة، لما مرَّ من الأسباب وغيرها.

وكالمخصوص بمجهول نحو قوله تعالى من آيات الأحكام [وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ](1) فإنَّ تقييد الحل بالإحصان وهو الزَّواج مع الجهل بالحل بسبب عدم التَّفصيل لما وراء ذلك بالدقَّة المفيدة يوجب الإجمال فيما أحل، ونحو قوله تعالى كذلك [أُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ](2).

ولذلك بعدما تليت عليهم نصوص وظواهر المحرَّمات بقيت أمور عالقة في كونها مجهولة الحكم بالدقَّة الشَّرعية للإجمال القرآني في مثل هذه الآية كما لا يخفى، ولمشاكل السنَّة في بعض الأسانيد والمتون كذلك.

ولذا نجد الفقهاء بين محلِّل لبعض الأمور - لأنَّه في نظره لم يجد حرمة صريحة اعتماداً على قاعدة (كل شيء لك حلال حتَّى تعلم أنَّه حرام بعينه)(3)، وإن خالف المشهور العملي أو السِّيرة العمليَّة أو الاستدلال بضعاف متعدِّدة لو اجتمعت لشكَّلت متانة دليليَّة على التَّحريم اعتماداً على أصالة الحليَّة كالكنغر والجرِّي ولحم الأرنب وغيرها - وبين محرِّم متورِّع، للأدلَّة الَّتي ذكرناها الآن وغيرها، ولورود الاحتياط في اللحوم وغير ذلك.

ص: 93


1- سورة النساء / آية 24.
2- سورة الحج / آية 30.
3- وسائل الشيعة ج17، ص89، أبواب ما يكتسب به، ب4، ح4، ط آل البيت.

وقد يكون الإجمال لاختلال التَّركيب اللَّفظي في الجمل كقول الفرزدق:-

وما مثله في النَّاس إلاَّ مملَّكاً *** أبو أمِّه حي أبوه يقابله(1)

فلم يعلم الملك من هو؟، فهل إنَّه صاحب الضمير الأوَّل؟ أم جدُّه لأمِّه؟، وثمَّ لم يُعلم أنَّ الحي هو جدُّه لأمِّه؟ أو والد جدِّه لأمِّه مقابلاً له؟.

ومثل هذا البيت ورود الإجمال في بعض الرِّوايات المنقولة بالمعنى وبالأسلوب غير الاصطلاحي أو بما لا يفهمه المقابل بسبب الإضمار المضيِّع للمعنى ونحو ذلك.

وقد يكون الإجمال لوجود ما يصلح للقرينة كقوله تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ](2) ولو من آية أخرى أو فقرة تحقِّق ذلك، لما ذكرناه في كثير من المواقع عن أهميَّة تفسير القرآن بالقرآن، فإنَّ هذا الوصف في الآية لمَّا كان يدل بظاهره لو ترك وحده وبوضوح على عدالة جميع من كان مع النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من أصحابه الذين عايشوه بمعاصرته مع نفاق بعضهم وانقلاب آخرين منهم على أعقابهم، أو أسلموا بسطحيَّة من غير إيمان وقاوموا بظلم وارتداد عترته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ واغتصبوا الخلافة الشَّرعيَّة الإلهيَّة، وهو ما لا يتناسب مع أرض الواقع والتَّأريخ الصَّحيح والمحقَّق، فأسعف الله تعالى الآية الكريمة بالآية المناسبة ذات القرينة المبيِّنة لما كان في الأولى من الإجمال، وهو قوله تعالى في ذيل هذه المجملة [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ](3)، فصارت كلمة [وَالَّذِينَ مَعَهُ] من الآية الأولى بهذا الذيل أنَّه يُراد منهم بعضهم لا جميعهم.

ومن هذا البعض بل أهمه من خصَّ بالإمامة والخلافة للنَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وهم أمير

ص: 94


1- هذا قول الفرزدق، يمدحُ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خالَ هشام بن عبدالملك.
2- سورة الفتح / آية 29.
3- سورة المائدة / آية 9.ج

المؤمنين والحسنان عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من بعده إذا لم نخصهم بدليل آخر أكثر تخصيصاً وهو متوفِّر في موارد عديدة جدَّاً نحن الآن في غنى عنه.

بل هم الصَّفوة بالأدلَّة الإضافيَّة الكثيرة الأخرى والَّذين لا يصح الأخذ فقهيَّاً إلاَّ منهم وعنهم، إلى غير ذلك من الجم الغفير من هذا الكثير.

وقد يكون المجمل بكلا قسميه اعتباريَّاً لا حقيقيَّاً دائماً، إذ قد يكون اللفظ مجملاً عند شخص مبيَّناً عند آخر كما مرَّ من التَّمثيل لصور الامتحان والمغالطة والتَّغطية للتَّستُّر والتَّقيَّة أمام الأعداء.

وهذا ما لا يمكن البقاء عليه دوماً في المسائل الشَّرعيَّة إلاَّ بانتظار ما يرفع هذه الحالات الطَّارئة للوصول إلى حالة الحكم الاختياري الأصيل لعقيدتنا بكفاءة أدلَّة شرع الله وتماميَّة مدار أحكامه، وإن حاول طمس بعضها أو الكثير منها الحاقدون، أو تطرَّف في أمر ذلك الآخرون، ولو بالتَّلاعب بأنماط الاستدلال.

ولذلك تثبت عندنا نحن الإماميَّة حرمة تأخير البيان عن وقت الحاجة، كما اشرنا وكما سيجيء بيان ذلك في الكلام عن مبيِّن الإجمال إنشاء الله، ولو بالسَّعي الحثيث منَّا للتَّعرُّف على المبيِّن دعماً لما يمتنع على الله.

ولذلك ورد عن سلفنا الصَّالح قولهم (يكفينا ما بين الدَّفَّتين)، أي القرآن الكريم، معربطه بحديث الثَّقلين المعروف.

ومن هنا لابدَّ وأن نعرف أنَّ العارف بالإجمال ومبيِّنه إذا غالط غيره في حال الضَّرورة لا يحق له أن يغالط نفسه أو غيره في الاختيار، وأنَّ العارف بالإجمال دون معرفة المبيِّن عليه دوام الفحص أو انتظار حصوله من مجتهده إن لم يقدر على الاجتهاد، وسيأتي توضيح هذا في باب المبيِّن ولو إشارة.

ص: 95

الخامس: الفوارق العامَّة بين الإجمال وغيره ممَّا مضى

إنَّ من الفوارق بين الإجمال وغيره هو:

1 - إنَّ الإجمال قد يشترك مع غيره من الإطلاق والعموم في حرمة تأخير البيان عن وقت الحاجة في المورد المناسب للحرمة الممتنعة على الله تعالى، ولكن ليس بملازمة للمساواة التَّامَّة في ذلك بينه وبين غيره منهما، إلاَّ بما تقتضيه مناسبة عدم الحاجة السَّريعة إلى ذلك، لأنَّ رفع الإجمال بالبيان حاجته في مورده الاعتيادي أشد وإلى امتثال أوامر الله المبيِّنة أسرع.

إلاَّ في الموارد المستثنات الَّتي لا يمكن فيها تصوُّر حرمة التَّأخير، كالأمور الواردة بالإجمال وإنَّ تطبيقها مفصَّلة قد لا يكون إلاَّ في عصر صاحب العصر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ كالجهاد والولاية العامَّة والقضاء ووجوب صلاة الجمعة عينيَّاً وصلاة العيد كذلك، بناءاً على القول بالتَّعليق على زمانه.

وقد تظهر في مثل هذا الإجمال - حتَّى لو كان وحده من دون مبيِّن - فائدة وهي فيما لو ظهر الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

حيث لو قيل بأنَّ الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ إذا ظهر أتى بدين جديد على ما ترويه بعض الرِّوايات(1)؟

لأمكنت الإجابة عليه بأنَّ المقصود من ذلك هو حالة من الانطماس والاندراس

ص: 96


1- عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: (إذا قام القائم عَلَيْهِ السَّلاَمُ جاء بأمر جديد كما دعى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في بدو الإسلام إلى أمر جديد)، بحار الأنوار: ج 52 ص338 ح 82.ج وعن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر (محمّد بن عليّ): (... يقوم بأمر جديد، وسنة جديدة وقضاء جديد، على العرب شديد، وليس شأنه إلا القتل، ولا يستنيب أحدا ولا تأخذه في الله لومة لائم) بحار الأنوار: ج 52 ص 348/ ح 99.

للدِّين وتعاليمه لا الإتيان بالدِّين الجديد، بسبب امتلاء الأرض ظلماً وفساداً وإلى حد صيرورة المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وكما دلَّت عليه بعض روايات آخر، والَّتي منها قوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (لقد بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الَّذين يصلحون إذا فسد النَّاس")(1).

أي بدء بأنصار قليلين ولم يلتفوا إلى قيمه ومبادئه ومن ثَمَّ ابتعادها عنهم غضباً من الله عليهم، وسيعود أيضاً بأنصار قليلين.

لا أنَّ الدِّين يأتي جديداً بحقيقته على يديه عَلَيْهِ السَّلاَمُ لأنَّه فرع الرِّسالة والامتداد لها وهو الإمام الثَّاني عشر "سلام الله عليه"، وقد قال الله تعالى في سابق الأزمان بعد بيعة الغدير [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا](2).

ولذلك بقيت بعض الأمور مجملة في الكتاب والسنَّة من دون تبيين، ولو كان قد جاء بدين جديد على حقيقته حين ظهوره لما صرَّح تعالى وكذلك رسوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بمثل هذه المجملات الَّتي تنتظر ظهوره عَلَيْهِ السَّلاَمُ لإعادة تطبيقها ونحوه، وهذا من التفاوت بين المجمل وبين الإطلاق والعموم.

نعم هناك بعض إطلاقات وعمومات قليلة لم تكن كحالات الإجمال لا يعرف تقييدها وتخصيصها إلاَّ الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ، لأنَّا لم نعثر عليها للأسباب الَّتي مرَّت أكثر من مرَّة لا لكونها لم تقيَّد أو لم تخصَّص من يومها الأوَّل.

2 - إنَّ المجمل لا يمكن أن يستفاد منه تلك الاستفادة الطَّبيعيَّة معجَّلاً إلاَّ لما ذكرناه من الاختبار بالأحاجي واستكشاف الذَّكاء الفطري عن غيره، أو للإغراء والإيهام

ص: 97


1- كمال الدين وتمام النعمة -- الشيخ الصدوق -- ص 201، كما روته العامَّة في كتبهم كصحيح مسلم (208).
2- سورة المائدة / آية 3.

والتَّقيَّة والمغالطة لبعض الأعداء وغيرهم، والعمل على أساس العلم الإجمالي لا التَّفصيلي بطريقة الاحتياط لا التَّقليد والاجتهاد إلاَّ نادراً جدَّاً، أو تأجيل وقت العمل لحكمة، بينما المطلق والعام يمكن فيهما العمل الطَّبيعي قبل التَّقييد والتَّخصيص ولو في الجملة الأحسن من حالة الإجمال.

3 - إنَّ المجمل لا ظهور ولا نصوصيَّة فيه فلا يقال نص مجمل وظاهر مجمل إلاَّ أنَّ يستظهر منه الإجمال للعلم التَّفصيلي، بخلاف المطلق والعام فإنَّهما يرتبطان بالنص والظاهر.

4 - إنَّ المجمل إذا بيِّن يكون كالمطلق إذا قُيِّد لا باقي له بخارج عنه بعد تبينه، بخلاف العام لو خُصِّص فإنَّه لابدَّ له من باقٍ قليل أو كثير ليلتزم به عامَّاً مخصَّصاً، ولذا جمع بعض الأصوليين ما بين بحثي الإطلاق والتَّقييد والإجمال والتَّبيين في باب واحد أو بتسلسل موضوعي متلاصق واحد كما عُرف في المعالم.

5 - إنَّ المجمل وإن اشترك مع المطلق والعام في أمر انطباقه مثلهما على المفرد اللَّفظي والمركَّب اللَّفظي إلاَّ أنَّه يختلف عنهما، في أنَّه يطلق لفظه ويراد منه اللفظ والفعلكما مرَّ، فيقال لفظ مجمل وفعل مجمل، بينما المطلق والعام علاقتهما بالألفاظ فقط.

6 - إنَّ الإجمال يتنافر مع الإطلاق أو العموم في بعض حالاته، فلابدَّ في أنَّه إذا لم يكن اللفظ الشَّرعي من أحدهما في مقام البيان - من غير التَّشريع أو الإجمال والإبهام - الَّذي هو أحد مقدِّمات الحكمة، بأن كان لفظ أحدهما في مقام التَّشريع ونحوه، فلا يمكن أن يكون المطلق مطلقاً أصلاً ولا العام عامَّاً وكذلك الإجمال غني عن هذا، لعدم وجود التَّقابل بينه وبين التَّبيين كالمطلق والعام.

7 - إنَّ المجمل وإن أشبه المتشابه الآتي ذكره في بعض الأمور في الكلام عن بحث المحكم والمتشابه وكما ذكرناه في التَّعريف اللغوي وغيره، وأنَّ المبيَّن الَّذي في مقابله أو

ص: 98

الرَّافع لإجماله لو كان موجوداً وإن أشبه المحكم في بعض الآيات والنُّصوص كما في قوله تعالى [هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ].

إلاَّ أنَّ بحث المجمل والمبيَّن وبالتَّقابل الخاص الَّذي بينهما وبالاعتبار الخاص الَّذي يحصل لهما فيه فلابدَّ وأن يختلف عن بحث المحكم والمتشابه في التَّقابل الخاص الَّذي بينهما للاعتبار الخاص الَّذي يحصل لهما فيه وإن حصل التَّشابه كما فيما بين الإجمال والتَّشابه المشار إليه وفيما بين المبيَّن والمحكم المشار إليه كذلك.

ويمكن استيضاح هذا الأمر أكثر من قراءة البحثين للتَّمييز بينهما أكثر، ولا مشاحَّة في الاصطلاح ولا ضير في ذلك ما دام التَّرادف جزئيَّاً بسبب التَّقابل الخاص المذكور في المقامين.

السَّادس/ مناسبة العلم الإجمالي وقاعدة منجِّزيَّته وفروعه في المقام

بعدما أشرنا إلى ضعف المجمل القولي والفعلي عن أداء المهمَّة الشَّرعية طبيعيَّاً تكليفاً وتطبيقاً إلاَّ بانتظار مجيء المبيِّن.

فليس معناه أن تُعدم الفائدة منه بالمرَّة حتَّى بالمعنى الثَّانوي لو كان وحده كما ذكرناه من حالات الاختبار والمغالطات ونحوهما أو أن يُرتجى الرِّضا الشَّرعي بما قد تبرئ الذمَّة به من العمل بالمعلوم الميسور من غير التَّفصيلي على الأقل بعد الاشتغال اليقيني لو تأخَّر المبيِّن في بعض مصاديقه ووصل أمره إلى حد اليأس وما يشبهه لئلا يأتي الفوت.

لذا قد حاولنا بهذا الأمر السَّادس تسديد المطلب بالنَّحو الإضافي ببيان بعض ما يتناسب والكلام عن قاعدة منجِّزيَّة العلم الإجمالي وما يتعلَّق بالابتلاء بفروعه أو بعضها المحتاجة ولو إجمالاً إلى إبراء الذمَّة التَّفصيليَّة وان لم يكن ذلك هو الأمر

ص: 99

الَّذي كلَّفنا به في واقعه في علم الله تعالى إلاَّ في أحد طرفي التَّردُّد بين هذا الفرد أو ذاك في مورد الفعل بمثل الجمع بينهما وفي مورد التَّرك بالاجتناب عنهما معاً، وذلك من باب (اشتغال الذمَّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني).

علماً بأنَّ هذه القاعدة وإن اتَّصفت بمستوى من العلم نسبيَّاً إلاَّ أنَّ مفادها باقٍ على إجماله ولن تخرج عن الإجمال البياني ومعه التَّكليفي فنبقى على نفس مستوى طبيعيَّة الأمر الَّذي نحن فيه وأضفناها ولو باختصار لهذه المشابهة كفائدة إضافيَّة.

وأنَّ التَّفصيل الَّذي يرفع ثقل هذا الإجمال التَّكليفي هو العمل المبرئ للذمَّة ولو مؤقَّتاً لا للدِّلالة المطلوبة بطبيعتها لانتفائها بالتَّردُّد بين هذا وذاك من التَّكليفين كالجمع بين صلاتي الظهر والجمعة يوم الجمعة.

لأنَّ الأدلَّة الخاصَّة بالظهر خصَّتها باستمرار والخاصَّة بالجمعة خصَّتها وبنفس المستوى على أحد الأقوال حتَّى تأسَّس القول بما يفيد التَّخيير أو التَّحيُّر في أمر ما يبرئ الذمَّة منهما على التَّحديد مع توفُّر الشُّروط.وكالجمع بين القصر والتَّمام حين دخول بلد المواطنة مع سعته قبل الوصول إلى دويرة الأهل للاختلاف في مؤدَّى الأدلَّة.

وكذا الجمع بينهما قبل الوصول إلى محقِّق المسافة الشَّرعيَّة الكاملة وهو الثَّمانية والأربعون "كم" لاحتمال كون التَّقدير الأقل وهو الأربعة والأربعون هو الصَّحيح كذلك فيجمع بينهما في الموقع الثَّاني ذا المقدار الأقل، بناءاً على أهميَّة الأكثر ولو استحباباً.

وهكذا كل ما يتردَّد به بين الأمرين الفعليين ومنه ما بين الأقل والأكثر كالتَّردُّد الاستدلالي بين الأقل والأكثر كما فيما بين التَّسبيحة الواحدة وبين الثَّلاثة في الرِّكعتين الثَّالثة والرَّابعة للثُّلاثيَّة والرُّباعيَّة من الصَّلوات بالالتزام بالثَّلاثة دوماً.

وكالإقامة للتَّردُّد فيها بين وجوبها واستحبابها المؤكَّد بالالتزام بها دوماً

ص: 100

والصَّلاة إلى الجهات الأربع لو جهل الاتِّجاه.

وهكذا حالات التَّردُّد في شيء بين القول بحرمته والقول بكراهته بالالتزام بتركه ولو احتياطاً.

وكذا في الأمور الوضعيَّة من الأحكام كنجاسة أحد الإناءين لقوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ (أهرقهما وتيمَّم)(1) وغير ذلك.

وحديثنا عن هذا الأمر في الاهتمام بإلحاقه ببحثنا لم يكن مختصَّاً بفتاوى الوجوب أو التَّحريم في أمر العلم الإجمالي كما في إهراق الإناءين والاحتياط الوارد فيه صريحاً بوجوب اجتناب اللُّحوم والدِّماء والفروج.

أو الاستحباب والكراهة برجحانهما الاحتياطي كما مرَّ من بعض الأمثلة، بل في الأوسع من ذلك.

وأسباب التَّكليف اللازم مع هذا الإجمال لم تكن طبيعيَّة، بل إنَّما هي قهريَّة، ومنها:-

طرؤ بعض المشاكل على أدلَّتنا الشَّرعيَّة في الكتاب من حيث الدِّلالة وفي السنَّة من حيث السَّند والدِّلالة بسبب عدائي مقصود أو غير مقصود في تحقُّق نتيجته أو عدمها.

لكن خطِّط لذلك في المقصود العدائي بليل وتلاقفه الألدَّاء وإن بان ضرره علينا بعد حين حتَّى لو لم يُعرف المخطِّط المنفِّذ بشخصه مع العلم بجهته الأساسيَّة أو حزبه الخاص وبالعكس، إضافة إلى الكوارث الطَّبيعيَّة.

ومن دلائل حالات المعادات لصاحب الشَّريعة ومداركه:

1 - منع التَّدوين للأحاديث الشَّريفة بعد وفاة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مباشرة ممَّن يدَّعي الصحبة والإخلاص له صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، وهو بريء ممَّن يعاديه.

ص: 101


1- وسائل الشيعة ج1 ص169/ أبواب الماء المطلق ب 12 ح 1 (نقل بالمضمون).

2 - اختلاق رُواة أدُّعي عنهم أنَّهم من الصَّحابة لا أصل لهم في الصحبة وفي الإسلام واختلاق روايات مكذوبة من وضَّاعين من الصَّحابة المنافقين.

3 - اختلاط رواياتنا بروايات غيرنا مع التَّفاوت في الاعتبار بيننا وبينهم في بعض التَّصرفات العمديَّة.4 - فتاوى مشتركة في أكثر من مذهب كنقل شيء أو بعض شيء من بعض أعلام لنا كان لهم عهدان عهد سنِّي وعهد شيعي من جهة التَّفاوت الاستدلالي المذهبي غير المتوازن مع وجود احتمالات تعمُّد بعض الأعداء في زجِّ فتاوى ذلك العهد بهذا العهد للإرباك.

5 - حالات النَّقل بالمعنى المشوَّش لحقيقة المرويَّات.

6 - الأخذ من روايات طويلة يتناقض صدرها مع عجزها أو هما مع الوسط أو الوسط معهما أو مع أحدهما كما أشرنا إلى ذلك في الماضي.

وغير ذلك ممَّا ضيِّع علينا بعضاً أو كثيراً من الأمور لو لم أبالغ من الَّتي اضطرَّتنا لبقاء التزامنا بما وصل إلينا من إجمال القرآن وإجمال السنَّة وبهذه الكيفيَّة بسبب ما ذكرنا ممَّا لم يظهر له مبيِّن يكشف عنه تلك الغمَّة، ولو كان ذلك إجمالاً علميَّاً لأنَّه يكفيه في المشابهة لهذا الأمر أنَّه غير تفصيلي.

إلاَّ أنَّ هذا ليس معناه -- مع وجود فحولنا الفقهاء والمحقِّقين قديماً وحديثاً في أعيانهم وآثارهم -- أن لا مخرج له عندهم بالمرَّة ولو بأداء ما يمكن من الميسور لإبراء الذمَّة.

وبذلك عرفونا بوجود المجال الشَّرعي للالتزام بالمقدار الممكن والَّذي به تبرئ الذمَّة وبذلك يتناسب الإلحاق.

ص: 102

السَّابع / بعض النُّصوص الَّتي وقع الكلام في كونها مجملة أو مبيِّنة

إنَّ من جملة ما ذكره العلماء من تلك النُّصوص الخاصَّة بآيات الأحكام للبحث عنها هو قوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا](1).

واختلفوا في أمري القطع واليد، فقال بعضهم بأنَّ القطع من المجمل المتشابه، باعتبار أنَّه يطلق على الإبانة ويطلق على الجرح أيضاً، لأنَّه يقال لغويَّاً لمن جرح يده بالسكِّين قطعها، كما يقال لمن أبانها كذلك، واللُّغة مرجعنا في هذه الأمور عند الحيرة، ولذلك صارت هذه مجملة.

وقال بعض بأنَّ اليد يُراد من ظاهرها لو خلِّي وطبعه في الأمور بأن يستفاد منه إرادة تمام العضو المخصوص من المفصل الأعلى إلى أطراف الأصابع.

إلاَّ أنَّه غير مراد وحده في هذه الآية، بل أريد منها في مقابل ذلك ما هو إلى المرفق لحد العضو المغسول في الوضوء، وما هو خصوص الكف إلى الرسغ، لتحديد موقع التَّيمُّم، وما هو خصوص الأصابع الأربع ما عدا الإبهام، لقطع يد السَّارق على مذهبنا نحن الإماميَّة.

وغير ذلك من التَّحديد لقطع يد السَّارق عند العامَّة، وكل له دليله عند أهله، ولهذا صارت هذه الآية بسبب تجرُّدها من القرينة مجملة لحملها للكل بتساوي عند هذا البعض أو ذاك.

ولكن أجيب عن الأوَّل:-

بأنَّ دلالة القطع على الإبانة بحسب الحقيقة صحيح، بل هو المتبادر إلى الذِّهن، وأمَّا دلالته على الجرح كذلك بنفس المساواة فليس بصحيح إلاَّ مجازاً، لأنَّ الاستعمال يدخل فيه الحقيقة والمجاز، والفرق بينهما في التَّشخيص واضح.

ص: 103


1- سورة المائدة / آية 38.

وهذه الدِّلالة على الجرح هي غير الأمر الموضوع له اللَّفظ حقيقة، لأنَّه إن جاء مع قرينته الخاصَّة المتفاوتة عن معنى البتر، وهي الجرح الَّذي لو تسامحنا في التَّعبير عنه بالقطع لجعلناه قطعاً لبعض اليد ولو شقَّاً بنحو التَّسامح كتقطيع النُّسوة أيديهن ليوسف كما قال تعالى [فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ](1).

وبذلك لا يتم الإجمال في هذه العبارة الشَّريفة للمعنى الوحداني الثَّابت فيها، وهو القطع بمعنى البتر والإبانة فقط.

وأجيب عن الثَّاني:-

بأنَّه إن أريد ما في غير الآية أو نفس اليد على طبيعتها بالوضع اللُّغوي العام مع قطع النَّظر عن خصوص يد السَّارق مثلاً فلابدَّ من أن يصدق الإجمال، لما مرَّ من المصاديق المتعدِّدة، وهذا لا خلاف فيه.وأمَّا استعمالها في الآية في خصوص حكم السَّارق والسَّارقة بالوضع الشَّرعي فهو وإن كان يمكن أن يدعَّى ارتفاع إجمالها به بسبب الرُّسوخ الذِّهني لفقهاء ومتفقِّهي مذهب أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، للقرينة المعيِّنة للمراد الملازمة لكل حالة سرقة تثبت بربع دينار ذهبي فما فوق كما لا يخفى.

وارتباطاً بالسِّيرة العمليَّة المنقادة إلى السنَّة الشَّريفة بمصاديقها القوليَّة والعمليَّة والإمضائيَّة والمؤكِّدة بمثل ما رواه في الوسائل عن أبي علي الأشعري عن محمَّد بن عبد الجبار عن صفوان عن اسحق بن عمَّار عن أبي إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُقال (تقطع يد السَّارق ويترك إبهامه وصدر راحته)(2).

وغير ذلك ممَّا استكشف أمر تأكيده من الكتاب في رواية شريفة أخرى ذكرت عن الإمام الجواد عَلَيْهِ السَّلاَمُ لإجابة الطَّاغوت العبَّاسي حينما سأله عن مقدار يد السَّارق،

ص: 104


1- سورة يوسف / آية 31.ج
2- وسائل الشيعة ج28 ص252 / أبواب حد السرقة ب 4 ح 4.

واستشهد لهذا التَّحديد للمقطوع بقوله تعالى [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ](1)، ومن المساجد السَّبعة للسَّاجد هو راحتا الكفَّين مع الإبهام.

إلاَّ أنَّه لا يعنى هذا عدم بقاء الإجمال الَّذي كان في الأصل لناحية معرفة المقطوع لا معنى القطع في مقابل الجرح الَّذي مرَّ ذكره.

وبذلك لا يكون رافعاً للإجمال الأصلي في الواقع إلاَّ من الكتاب نفسه والسنَّة الشَّريفة معه، إضافة إلى المعنى اللُّّغوي الَّذي يُراد منه ذلك بمثل ما في قوله تعالى [فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ](2) وهي المقصود منها الأصابع ولو في الجملة، وبالأخص أكثر لو رجعنا إضافيَّاً إلى محاولة الحل الشَّرعي النَّوعي الأوسع الَّذي لا يتقيَّد بمذهب معيَّن لعموم المسلمين، وهو المرتبط بالفقه المقارن للتَّقريب.

فلابدَّ في هذا من أن تتنوَّع الملاحظة ويكون كل مذهب من المذاهب الإسلاميَّة الخمسة أو الأكثر يطرح دليله، وعند ذلك لابدَّ من أن تلاحظ اليد ملاحظتها اللُّغويَّة الجامعة لكل المصاديق المذكورة أعلاه.

وبذلك يرجع الإجمال بصورة أوضح إلى ما أشرنا إليه سابقاً ممَّا نستدل نحن به على خصوص المقطوع من اليد الكاملة في السَّرقة لا القطع الَّذي مرَّ عدم الإجمال فيه.

ومنها قوله تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ](3) حيث قال أكثر النَّاس أو اعتبروا أنَّه لا إجمال في التَّحريم المضاف إلى الأعيان والأشخاص، لأنَّ من استقرأ كلام العرب علم أنَّ مرادهم في مثله حيث يطلقونه بهذا اللفظ إنَّما هو تحريم الفعل المقصود من ذلك كالأكل في المأكول والشُّرب في المشروب واللبس في الملبوس

ص: 105


1- سورة الجن / آية 18.
2- سورة البقرة / آية 79.
3- سورة النساء / آية 23.

والوطء في الموطؤ، فإذا قيل حُرِّم عليكم لحم الخنزير أو الخمر أو الحرير أو الأمهَّات وغيرهنَّ من المحارم فقد فهم ذلك كلُّه من الألفاظ المذكورة وما يناسبها بسبق واضح إلى الفهم عرفاً، فلذلك هو متِّضحالدِّلالة فلا إجمال.

ولكن خالف في هذا البعض من النَّاس وقالوا بإجمال التَّحريم، لاستدلالهم بأنَّ تحريم الأشخاص والأعيان غير معقول لاختلافها واختلاف معانيها، فلابدَّ من إضمار فعل يصح كونه متعلِّقاً له ليتناسب معه، والأفعال كثيرة ولا يمكن إضمار الجميع والمقام يتفاوت، ولانَّ ما يقدر للضَّرورة لابدَّ وأن يقدَّر بقدرها فتعيَّن إضمار البعض، ولا دليل على خصوصيَّة شيء منها فدلالته على البعض المراد غير واضحة وهو معنى الإجمال.

ومن هنا يمكن أن نعرف أكثر أن الإجمال في نفس [أمَّهاتكم] في المعاني المتعدِّدة والمردَّدة بين ما يحرم وغيره كالزِّنا المحرَّم وما شابهه من ملحقاته المحرَّمة كالتَّصرُّفات الأقل الَّتي كانت بشهوة وغير ذلك ممَّا لم يحرم كالتَّقبيل للاحترام أو الشَّفقة والمضاجعة البريئة من المحارم فإنَّ ذلك يعد من الإجمال الَّذي لم تعرف تفاصيله إلاَّ بالرجوع إلى أدلَّة أخرى.

إلاَّ أنَّهم أجيبوا بالمنع من عدم وضوح الدِّلالة على ذلك البعض المدَّعى جهالته لما دلَّ ممَّا مرَّ من دلالة العرف على إرادة المقصود من مثله، وهو في الآية حرمة الوطء للمحارم لا غير لدلالة لفظ التَّحريم الصَّريح ولو ظاهراً وهو الصَّحيح ولو سياقيَّاً.

وأمَّا التَّصرفات الأخرى المباحة والجائزة ممَّا سمح به الشَّارع المقدَّس للأدلَّة الأخرى فهي خارجة حتماً عن حالة مدلول التَّحريم الصَّريح على عدم الحليَّة إلاَّ بالاستثناء لها من الأدلَّة الأخرى.

ومنها قوله تعالى [فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ](1)، وقول النَّبي

ص: 106


1- سورة البقرة / آية 197.

صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (لا صلاة إلاَّ بطهور)(1)، ومثله كل ما اشتمل من الأحاديث الشَّريفة وما يلحق بها على (لا) النَّافية للجنس من المرتبطة بالأمور الشَّرعية لحكمة قد يأتي العلم بها بعدئذ إن حسبت من المجملات كقوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب)(2)، وقوله (لا صلاة لحاقن)(3)، وقوله (لا عمل في الصَّلاة)(4)، وقوله (لا صلاة لمن جاره المسجد إلاَّ في المسجد)(5)، وقوله (لا جماعة في نافلة)(6)، وقوله (لا سهو لمن كثر عليه السَّهو)(7)، وقوله (لا صيام لمن لم يُبيِّت الصِّيام في اللَّيل)(8)، وقوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (لا بيع إلاَّ في ملك)(9)، وقوله (لا نكاح إلاَّ بولي)(10)،وقوله (لا رضاع بعد فطام)(11)، وقوله (لا عتق إلاّ في الملك)(12) وقوله (لا رهبانيَّة في الإسلام)(13)، وقوله (لا غيبة لفاسق أو

ص: 107


1- وسائل الشيعة: ج1 ص365 / أبواب الوضوء ب 1 ح1.
2- مستدرك الوسائل: ج4 ص158 / أبواب القراءة ب 1 ح 5.
3- وسائل الشيعة: ج7 ص266 / أبواب قواطع الصلاة ب 15 ح 5.
4- وسائل الشيعة: ج 4 ص 1264، الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة ح 4، وفيه: ليس في الصلاة عمل.
5- وسائل الشيعة: ج5 ص194 / أبواب أحكام المساجد ب 2 ح 1.ج
6- وسائل الشيعة: ج8 ص32 / أبواب نافلة شهر رمضان ب 7 ح 6.
7- وسائل الشيعة ج8 ص227 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 16 ح 1.
8- سنن الدارقطني: ج2 / 172 برقم 1 ولفظ الحديث: "من لم يبيِّت الصِّيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له".
9- المستدرك ج13 ص230 / أبواب عقد البيع وشروطه ب1 ح3 (مع اختلاف يسير).
10- المجموع لمحيي الدين النووي ج 16 ص 174.
11- الكافي ج3 - 5 -423.
12- وسائل الشيعة: ج23 ص 15 / كتاب العتق ب 5 ح1 ، 2 ، 6 (مع اختلاف يسير).
13- جاء هذا الحديث في مجمع البحرين في مادّة (رهب).

في فاسق)(1)، وقوله (لا غش في الإسلام)(2)، وقوله (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)(3)، وقوله (لا حرج في الدِّين)(4)، وقوله (لا علم إلاَّ بعمل)(5).

ومنها غير ذلك من الرِّوايات وبقيَّة الألفاظ اللغويَّة الَّتي تكلَّموا فيها مَّا لم يتعلَّق بالأمور الشَّرعيَّة الواضحة في عدم إجمالها.

حيث عدَّ جماعة هذه النُّصوص والرِّوايات وأمثالهما من المجملات، لأنَّها بأجمعها تدل ظاهراً على نفي الفعل على الإطلاق من دون إفراز فعل عن فعل مع العلم باختلاف الأفعال بعد تعددها في اطار ذلك الإطلاق.

وأضيف إلى ذلك بأنَّ العرف في مثل هذه الألفاظ المتعدِّدة في نفي أجناسها مختلف، فيفهم منه نفي الصحَّة تارة ونفي الكمال أخرى ونفي الضرر تارة ثالثة أو لفظ مشروع رابعة أو نافذ خامسة، إلى غير ذلك ممَّا سيتَّضح أكثر، فكان متردِّداً بينها، ولذا يلزم فيها جميعاً الإجمال ما لم تتأكَّد القرينة المفرزة لكل المعاني عن الأخريات.

ولكنَّ الجواب عنه: أنَّ اختلاف العرف في الفهم إن كان في مثل ما ذكرتم فإنَّما كان باعتبار الاختلاف في التَّشخيص في أنَّه كان ظاهراً في نفي الصحَّة أو في نفي

ص: 108


1- مستدرك الوسائل، ج 9، ص 129، باب 134 من أبواب أحكام العشرة، ح6، تنبيه الخواطر، ج1، ص811.
2- سنن الدارمي: ج 2 ص 248 ،وفيه: لا غش بين المسلمين.
3- وسائل الشيعة: ج 17 ص 341 ،الباب 12 من أبواب إحياء الموات ح 3 و 5 ، و ص 319 باب 5 من أبواب الشفعة ح 1.ج
4- وسائل الشيعة: ج 1 ص 114 ،الباب 8 من أبواب الماء المطلق ح 5 وفيه: ما جعل عليكم في الدين من حرج.
5- التحفة السنية (مخطوط) السيد عبد الله الجزائري ص16.

الكمال.

بمعنى أنَّ كل صاحب مذهب يحمله على ما يعتقد هو به بحسب ما يظهر عنده، لا أنَّه متردِّد بين الحملين مثلاً عند الشَّخصين معاً كما فرض لأنَّه حسب الفرض ظاهر عند كل منهما ما هو المعتقد به حسب العرف فلا إجمال، وليس هو كتحديد المقدار المقطوع من اليد الَّتي بيَّنا أنَّها ما عرفت إلاَّ بالأدلَّة المبيِّنة للإجمال فيها.

ولو قبلنا هذا التَّردُّد بين الحملين عند كل منهما افتراضاً لكن لا يمكن في ذلك نقبل تساوي كلا المعنيين، لأرجحيَّة نفي الصِّفة وهي الصحَّة على نفى الذَّات بناءاً على الأعممن الصَّحيح والفاسد.

لأنَّ من نفي الصحَّة ما يمكن فيه تدارك العمل بإرجاعه صحيحاً كحالة نسيان الفاتحة الَّتي لو تداركها المصلَّي في الرَّواية القائلة (لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب)(1) عند نسيانها وجاء بها متداركاً بعد الفراغ من الصَّلاة أو نسيان السَّجدة الواحدة وسجد سجدتي السَّهو تداركاً.

إضافة إلى كون بعض الألفاظ الَّتي لا يراد منها معنى واحد كالأعلام أو النِّكرات المفردة المنفيَّة بلا ك- (لا رجل في الدَّار).

ولكنَّ الإنصاف لابدَّ وأن ينتهي إلى القول بأنَّ بعض الأمور لابدَّ وأن تستوضح في هذه الأدلَّة من أدلَّة أخرى لها وهو ما ظهر كثيراً من تدقيقات الفقهاء إذ لم يقتصروا على خصوص هذه الأدلَّة الأولى إن كانت غامضة لديهم، ولذا فيكون الحق المذكور وارداً في الجملة لا التَّفصيل.

وفصَّل بعضهم بين ما لو كان الفعل المنفي شرعيَّاً - كما في الأمثلة المذكورة ولو بنحو التَّوجيه في بعضها كما في الحديث الأخير - أو لغويَّاً ذا حكم واحد كالعلم الدَّال على معنى واحد خاص فيه فلا إجمال في ذلك.

ص: 109


1- مستدرك الوسائل 4 : 158 / أبواب القراءة ب 1 ح 5.

لأنَّ الشَّرعيَّات لابدَّ وأن يختار لها الشَّارع المقدَّس الألفاظ المعلومة المفهومة وإلاَّ يمتنع عليه أن يكلِّفنا بشيء لا نفهمه ولا يحق له أن يعاقبنا على شيء نخالفه فيه بسبب عدم تطبيقنا لمراده الَّذي لم يوضحه من جهلنا.

نعم يمكن أن يُلقي اللَّوم علينا فيما لو اختار لمراده الشَّرعي لفظاً وافياً ونحن لم نفهمه بسبب جهلنا حينما كان علينا أن نعرف أوَّلاً مقدِّمات العلوم وسطوحها ولم نفعل ذلك.

وأمَّا اللُّغوي ذا الحكم الواحد فهو أوضح من سابقه في تعقله بعدم إجماله، فرقاً بينه وبين ما لو كان لغويَّاً ذا حكم متعدِّد كالمشترك فعدَّ من المجملات، وكذلك لو حصل تردُّد بين نفي الذَّات أو نفي الصِّفات فهو من المجمل كذلك كما مرَّ.

واستدلَّ لهذا التَّفصيل، بأنَّ انتفاء الفعل الشَّرعي ممكن بفوات شرطه أو جزئه فيجري النَّفي فيه على ظاهره ولا يكون هناك إجمال.

وكذا مع إيجاد حكم اللُّغوي كالعلم الشَّخصي الَّذي لا يراد منه إلاَّ معنى واحد.

وكذا النَّكرات الَّتي نفيت بلا النَّافية للجنس فإنَّه يجب صرف النَّفي إلى ذلك المنفي لأنَه ظاهر في ذلك، فلا داعي إلى الشَّك فيه.

وأمَّا إذا كان للغوي حكمان أو أكثر كالمشترك أو لنفرض الفضيلة والأجزاء فليس أحدهما أولى من الآخر فلابدَّ من الإجمال.

ولكنَّ الجواب كالجواب الماضي عن الرأي الأوَّل، وهو أنَّ اختلاف العرف والفهم إن كان فإنَّما كان باعتبار الاختلاف في أنَّه ظاهر في الفضيلة أو الإجزاء، فكل صاحب مذهب يحمله على ما يعتقد هو به منهما، لا أنَّ المعنيين قد تردَّد كل من الشَّخصين بهما معاً،ولو افترضنا أنَّ هذا التَّردُّد كان عندهما معاً فلم نسلِّم أنَّ الفضيلة والأجزاء متساويان عند كل منهما.

ص: 110

وعليه فلابدَّ من كون كل منهما يبنى على أحد المعنيين دون الآخر حينما يتَّضح التَّرجيح عنده، ولكن لا ينبغي أن نجعل هذا الأمر لازماً في وضوحه بالدقَّة التَّامة في مثل المشتركات عند الواضعين لمعانيها.

لأنَّ المشتركات اللَّفظيَّة حينما تصل إلينا وهي موضوعة لمعانيها من مئات أو آلاف السِّنين فإنَّها تأتينا إتياناً متساوياً في كل معانيها.

وإنَّما الوضوح المذكور بأحد المعاني دون الباقي عند كل ذي مذهب حسب ما يعرفه في عرفه فهو حينما كان عند وضع كلِّ معنى للمشتركات على حدة في أزمنة كلِّ وضع في زمنه معلوم وواضح، وهكذا عند التَّطبيق الدِّلالي، وهذا لا ينفعنا إلاَّ في حالته وحينه.

ولكن الأفضل أن نقول أخيراً هنا ولربَّما ليس آخراً وإن أوجزنا المطلب، بأنَّ الحق ينبغي أن يقال في التَّوجيه الأفضل كما ذكره بعض الأفاضل بتصرُّف منَّا:-

أنَّ (لا) النَّافية للجنس في هذه المركَّبات لمَّا كانت تحتاج إلى اسم وخبر على نهج القواعد النَّحويَّة وكان الخبر محذوفاً كما مضى حتَّى في مثل قوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (لا غيبة لفاسق أو في فاسق)(1) الَّتي قد يتصوَّر البعض بأنَّها لا تحتاج إلى الخبر مطلقاً كبعض أمثلة نفي الجنس الَّتي ذكرها النُّحاة بدون حاجة إلى ذلك الخبر في بعض الأحوال، لأنَّ الخبر فيها في حالات الحاجة الخاصَّة لا يستغنى عنه عند إرادة إكمال معناه وبما يتناسب مع مناسبة الحكم للموضوع.

ولذلك يكون الخبر المحذوف معلوماً لتلك المناسبة وملازماً للقرينة الرَّابطة للحكم بالرِّباط المناسب للموضوع بنحو التَّطابق الكامل لتعيين المراد، وبالوضع الحقيقي لا المجازي.

ص: 111


1- مستدرك الوسائل، ج 9، ص 129، باب 134 من أبواب أحكام العشرة، ح6، تنبيه الخواطر، ج1، ص811.

وبذلك يكون المقصود بواسطة هذه القرينة واحداً غير متعدِّد من بين ما تتعدَّد معانيه الحقيقية، وبهذا يرتفع الإجمال صحيحاً.

لأنَّ الإجمال إنَّما يكون بسبب عدم القرينة أو عدم تأثيرها وبالمعنى الحقيقي الواحد يرتفع استعمال الشَّيء في غير ما وضع له ما دامت القرينة الصَّارفة غير موجودة أو مؤثِّرة، وهذا ما يساعد على فهم العرف بالصورة البيانيَّة الأدبيَّة بصورة أكثر.

وعلى هذا المبنى لابدَّ وأن يكون تطبيق المحذوف الصَّحيح المناسب في تقديره بمناسبة الحكم للموضوع في الأمثلة الماضية كما يلي:

ففي مثل الحديث الأوَّل وهو (لا صلاة إلاَّ بطهور)(1) بناءاً على الوضع للأعم من الصَّحيح والفاسد كما مرَّ يكون التَّقدير لا صلاة صحيحة لا غير.وهكذا (لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب)(2) وفي مثل (لا صلاة لحاقن)(3) يكون التَّقدير لا صلاة كاملة، بناءاً على أنَّ قيام الدَّليل كان على أنَّ الحاقن لا تفسد صلاته إذا كان يقصد من الحقن هو حبس البول والغائط، وإلاَّ يكون التَّقدير الصَّحيح، ولو كان بنحو الاحتياط أنَّه لا صلاة صحيحة كذلك لو أريد من الحقن المعروف طبيَّاً قديماً ولو نادراً من إدخال الماء الخاص إلى الباطن أو إصبع النبات بعد الوضوء من طريق الخاتم كالحديثين الماضيين.

وفي مثل (لا عمل في صلاة)(4) لا عمل خارجي مشروع فيها.

ص: 112


1- وسائل الشيعة ج 1 ص 365 أبواب الوضوء ب 1 ح 1.
2- مستدرك الوسائل ج4 ص158 / أبواب القراءة ب 1 ح 5.
3- وسائل الشيعة 7 : 266 / أبواب قواطع الصلاة ب 15 ح 5.
4- وسائل الشيعة: ج 4 ص 1264، الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة ح 4، وفيه: ليس في الصلاة عمل.

وفي مثل (لا صلاة لمن جاره المسجد إلاَّ في المسجد)(1) لا صلاة كاملة في ثوابها.

وفي مثل (لا جماعة في نافلة)(2) لا جماعة مشروعة.

وفي مثل (لا سهو لمن كثر عليه السَّهو)(3) لا سهو مضر أو محتاج إلى سجدتي السَّهو أو إعادة الصَّلاة.

وفي مثل (لا صيام لمن لم يُبيِّت الصِّيام من اللَّيل)(4) لا صيام صحيح، لذلك إذا استمرَّ بناءاً على الأعم كما مرَّ، إلاَّ بما أستثني من بعض المبرِّرات.

وفي مثل [فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ](5) لا رفث ولا فسوق ولا جدال مشروعات في الحج.

وفي مثل (لا بيع إلاَّ في ملك)(6) لا بيع صحيح بناءاً على الأعم كما مرَّ لاحتمال أن يكون تامَّاً بإمضاء المالك لو كان فضوليَّاً.

وفي مثل (لا رضاع بعد فطام)(7) لا رضاع بجائز بعد فطام بناءاً على خصوصه، وفي معنى آخر بناءاً على خصوصه كذلك لا رضاع بناشر للحرمة بعد الفطام، وفي مثل (لا رهبانيَّة في الإسلام)(8) لا رهبانيَّة مشروعة.

ص: 113


1- وسائل الشيعة ج5 ص194 / أبواب أحكام المساجد ب 2 ح 1.
2- وسائل الشيعة ج8 ص32 / أبواب نافلة شهر رمضان ب 7 ح 6.
3- وسائل الشيعة ج8 ص227 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 16 ح 1.
4- سنن الدارقطني: ج2 ص172 برقم 1 ولفظ الحديث: "من لم يبيِّت الصِّيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له".
5- سورة البقرة / آية 197.ج
6- المستدرك 13 : 230 / أبواب عقد البيع وشروطه ب1 ح3 (مع اختلاف يسير).
7- الكافي ج3 - 5 -423.
8- جاء هذا الحديث في مجمع البحرين في مادّة (رهب).

وفي مثل (لا غيبة لفاسق أو في فاسق)(1) لا غيبة محرَّمة.وفي مثل (لا غش في الإسلام)(2) لا غش مشروع.

وفي مثل (لا نكاح إلاَّ بولي)(3) لا نكاح صحيح في البواكر بناءاً على الأعم بناءاً على هذا القول، وأمَّا بناءاً على الصحَّة مع ثبوت مجرَّد الحرمة يكون المعنى لا نكاح بجائز وهو محقق الحكم التَّكليفي فقط لا الوضعي.

وفي مثل ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)(4) لا ضرر ولا ضرار مشروعان.

وفي مثل (لا حرج في الدِّين)(5) لا حرج مبطل لأعمالكم لأنَّ الضرورة تقدَّر بقدرها.

وفي مثل (لا علم إلاَّ بعمل)(6) لا علم نافع.

وفي مثل قولهم (لا حياء في الدِّين) لا حياء يستوجب عدم إفشاء المسألة الشَّرعيَّة.

إلى غير ذلك من الأدلَّة المشابهة والَّتي لا تخفى أجوبتها المناسبة على ذوي الذوق والعرف وما يتناسب مع الحكم والموضوع إضافة إلى ما تشير إليه الأدلَّة

ص: 114


1- مستدرك الوسائل، ج 9، ص 129، باب 134 من أبواب أحكام العشرة، ح6، تنبيه الخواطر، ج1، ص811.ج
2- سنن الدارمي: ج 2 ص 248، وفيه: لا غش بين المسلمين.
3- المجموع لمحيى الدين النووي ج 16 ص 174.
4- وسائل الشيعة: ج 17 ص 341 ،الباب 12 من أبواب إحياء الموات ح 3 و 5 ، و ص 319 باب 5 من أبواب الشفعة ح 1.ج
5- وسائل الشيعة: ج 1 ص 114 ،الباب 8 من أبواب الماء المطلق ح 5 وفيه: ما جعل عليكم في الدين من حرج.
6- التحفة السنية (مخطوط) السيد عبد الله الجزائري ص16.

للمعنى الواحد الَّذي لا يشاركه معنى آخر.

ولسائل أن يسأل بأنَّ هناك مجالاً لتقدير خبر عام يتناسب مع جميع هذه الأمثلة مثل موجود وثابت ومتحقِّق فيحصل بهذا النَّفي نفي الوجود والثبوت والتَّحقُّق وبما قد لا يتنافى والتَّقادير الَّتي بنيناها فلا داعي للتَّأثُّر بكلام البعض بادِّعاء أنَّ كل تقدير عام ينفي التَّقدير الخاص المتعارف أو المتناسب؟

فنقول: لا مانع من ذلك لو لم يتناف والتَّقدير حقيقة إلاَّ إذا دلَّت القرائن على عدم نفي هذه الأمور حقيقة، بل تنزُّلاً وادِّعاءاً.

وحينئذ فلابدَّ من الحمل على هذا المعنى الأخير كما في مثل قولهم (لا علم إلاَّ في عمل)(1) الَّذي يكون معناه أنَّ العلم بلا عمل كلا علم، وبالأخص إذا تضمَّن كون العمل واجباً.

وهكذا قولهم ( لا إقرار لمن أقرَّ بنفسه على الزِّنا) الَّذي يكون معناه بأنَّ إقراره كلا إقرار باعتبار عدم نفوذه عليه.

وكذا (لا سهو لمن كثر عليه السَّهو)(2) الَّذي يكون معناه أنَّ سهوه كلا سهو وهو غير مناف لما قرَّرناه مسبقاً من حالاته.هذا كلُّه من جهة تكوين الشَّيء، وقد أشرنا إليه في الجملة.

وأمَّا لو كان من ناحية التَّشريع فقد بيَّنَّاه كذلك في أمثلته كما مرَّ في الأمثلة الماضية الَّتي منها (لا غيبة لفاسق)(3) أي محرَّمة.

وأمَّا إن كان النَّفي متعلِّقاً بعنوان يصح انطباقه على الحكم فيدل هذا النَّفي على

ص: 115


1- التحفة السنية (مخطوط) السيد عبد الله الجزائري ص16.
2- وسائل الشيعة ج8 ص227 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 16 ح 1.
3- مستدرك الوسائل، ج 9، ص 129، باب 134 من أبواب أحكام العشرة، ح6، تنبيه الخواطر، ج1، ص811.

عدم تشريع حكم ينطبق عليه هذا العنوان كما في (لا حرج في الدِّين)(1).

وبالنَّتيجة تكون الحالات ثلاثة، ولتوضيحها نقول:

1 - إذا كان النَّفي من جهة تكوين الشَّيء فإنَّ في ذلك إذا قامت قرينة على عدم إرادة نفي الوجود حقيقة، بل كان ذلك ادِّعاءاً وتنزيلاً، بمعنى أن ننزِّل الموجود منزلة المعدوم، لا اعتبار عدم حصول الأثر المرغوب فيه أو المتوقَّع منه.

كقول (لا علم إلاَّ بعمل)(2) المراد منه أنَّ العلم بلا عمل كلا علم إذا لم تحصل الفائدة المترتِّبة منه، كان يُدَّعى أنَّ الموجود الخارجي ليس من أفراد الجنس الَّذي تعلَّق به النَّفي تنزيلاً.

وهكذا قولهم (لا إقرار لمن أقرَّ بنفسه على الزِّنا) الَّذي يراد منه أنَّ إقراره كلا إقرار، ولذلك نجد في روايات الإقرار أمام النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأمام أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ من قِبل من يدَّعي الزِّنا على نفسه لا يُجابه إقراره أمامهما بالتَّصديق منهما بسهولة.

بل بوعظه عن التَّسرُّع بهذا القول لئلاَّ يكون متوهِّماً أو بالمغالطة له ونحوها في ادِّعاءه لصرفه عن ذلك، لاحتمال عدم الواقعيَّة في هذا الادِّعاء أو الاشتباه ونحو ذلك.

وهكذا في قول (لا سهو لمن كثر عليه السَّهو)(3) الَّذي يُراد منه أنَّ سهوه كلا سهو، لظن انتقال هذه الحالة إلى الوسوسة الَّتي يمنع من البناء عليها، فلابدَّ في جميع ذلك من عدم البناء على النَّفي الحقيقي كما مر.

2- ما إذا كان النَّفي راجعاً إلى عالم التَّشريع، فإن كان النَّفي متعلِّقاً بالفعل

ص: 116


1- وسائل الشيعة: ج 1 ص 114 ،الباب 8 من أبواب الماء المطلق ح 5 وفيه: ما جعل عليكم في الدين من حرج.
2- التحفة السنية (مخطوط) السيد عبد الله الجزائري ص16.
3- وسائل الشيعة ج8 ص227 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 16 ح 1.

كقول (لا رهبانيَّة في الإسلام)(1) فإنَّه يكون النَّفي فيه دالاًّ على عدم ثبوت حكمه في الشَّريعة، وعليه تكون الرهبانيَّة المعروفة عند النَّصارى غير ثابتة في التَّشريع بتحليل، ولذلك تكون من البِدع الَّتي لا أصل لها.

وكقول (لا غيبة لفاسق أو في فاسق)(2) الَّتي يُراد من نفيها نفي أثرها في التَّحريم،ومثلها (لا غش في الإسلام)(3) وأمثال ذلك ممَّا مرَّ تفسيره.

3 - ما إذا كان النَّفي متعلِّقاً بعنوان يصح انطباقه على الحكم، فيدل النَّفي حينئذ على عدم تشريع حكم ينطبق عليه هذا العنوان كما في قول (لا حرج في الدِّين)(4)، فإنَّ الحرج حالة غير اختياريَّة لو وقع أمر المكلَّف فيه، وما قدر على أن يؤدِّي وظيفته الاختياريَّة فلا بأس به بمقدار ما يباح شرعاً من المقدور.

وهكذا في حديث (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)(5)، وغير ذلك من النَّظائر.

وبالنَّتيجة إنَّ المركَّبات الماضية تصل إلى أن لا تكون مجملة في أساسها إلاَّ إذا عمِّمت وأطلقت وتجرَّدت عن القرينة فيصيبها الإجمال حينئذ وكما فصَّلناه فيما سبق.

ص: 117


1- جاء هذا الحديث في مجمع البحرين في مادّة (رهب).
2- مستدرك الوسائل، ج 9، ص 129، باب 134 من أبواب أحكام العشرة، ح6، تنبيه الخواطر، ج1، ص811.
3- سنن الدارمي: ج 2 ص 248 ،وفيه: لا غش بين المسلمين.
4- وسائل الشيعة: ج 1 ص 114 ،الباب 8 من أبواب الماء المطلق ح 5 وفيه: ما جعل عليكم في الدين من حرج.
5- وسائل الشيعة: ج 17 ص 341 ،الباب 12 من أبواب إحياء الموات ح 3 و 5 ، و ص 319 باب 5 من أبواب الشفعة ح 1.

الثَّامن / لابديَّة رفع الإجمال مع المقدرة عليه

لابدَّ من محاولة رفع الإجمال اللَّفظي والعقلي عندما تكون الأمور الشَّرعيَّة في نصوصها وظواهرها وبقيَّة أدلَّتها مبهمة وغامضة، مع المقدرة على ذلك والسَّعي لذلك تفحُّصاً وترقُّباً ومثابرة ولو من مضانِّها البعيدة، حتَّى لو كلَّف الإنسان طلب العلم لنيل ذلك ولو بالذِّهاب إلى أبعد الأماكن وبصرف أضخم المبالغ قبل التَّلبُّس بالعمل الشَّرعي، لئلاَّ يكون العمل - من دون تبيُّن - ناقصاً أو غير مقبول.

حتَّى لو يصحَّح في بعض أحواله في الجملة، لأنَّه مع ذلك التَّصحيح قد يكون عملاً مستعجلاً بالميسور ولكنَّه في واقعه لو حصل التَّبين بعد ذلك وانكشف أنَّه مبيَّن من الأوَّل لتبيَّن أنَّه ممَّا يجب إعادته في داخل الوقت الواسع أو قضاؤه في الخارج لو انتهى.

وهذا ما أثبتته الأدلَّة في مواقع عديدة، فهو حينئذ لم يكن مع إجماله على طبيعته كما أوضحناه في السَّابق إلاَّ في حالات.

فإنَّ الطَّبيعي هو المبيَن من أساسه أو المبيَّن بعد إجماله من المبيَّن، ولا يتم ذلك إلا بالتَّفحص والسَّعي والاستفصال، أو رؤية النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أو الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ كيف يعمل، أو كيف موقفه لو عمل المكلَّف وطبَّق أمامه بأنَّه هل كان يرضى أم لا؟.

وما هو التَّكليف في دور الغيبة الكبرى وأنَّه بالسَّعي والاجتهاد، وفي عدم إمكانه بالأخذ بفتوى المجتهد الَّذي يُعتمد عليه، إضافة إلى أنَّ الاحتياط قد يكون طريقاً محرزاً لبراءة الذمَّة لو لم يمكن الاثنان الأساسيَّان كما مرَّ.

ولو لم يلتزم بهذه النَّاحية كما أوضحنا لوقع المتخلِّف في محنة السَّير في مسلك الجهالة وحيرة الضلالة، أو الوقوع في شبهة القول بجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وكلاهما باطل وعاطل.

ص: 118

أمَّا الأوَّل فهو أوضح من الواضح لقوله تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ](1) ومن ذلك بل أهمه أمور الفقه والشَّريعة ووجوب تطبيقها تامَّة وعن بصيرة.

وأمَّا الثَّاني فإذا كان بنحو العمد بدون مبرِّر مع وجود الحاجة إليه فإنَّه يخالف العدل الإلهي المسلَّم، فضلاً عن أصل عدم البيان.

لأنَّه تعالى بعد أن أوجب علينا الواجبات وحرَّم علينا المحرَّمات وكلَّفنا بغيرهما من الإحكام التَّكليفية الخمسة - وكذا ما تتبعها من الإحكام الوضعيَّة - وكتب علينا أن يحاسبنا عليها عند الإطاعة وعدمها وبما نتيجته الثَواب وعدمه وغير ذلك ممَّا يتعلَّق بأمور عموم الأحكام.

فلابدَّ من كون حقِّه في ذلك كلِّه ثابتاً بعد إبلاغنا بهذه الأمور إبلاغاً واضحاً تقوم حجَّته التَّامَّة علينا به بلا مجال لنا في الاعتراض عليه.

وأنَّ بقاء الإجمال من دون بيان مع فرض المحاسبة المذكورة هي من الجبر الصَّريح الَّذي لا يمكن تحمُّله.

في حين أنَّه ممتنع على المشرِّع تعالى حسب الصَّحيح من العقائد الأصوليَّة، لأنَّه العدل المطلق وصاحب الدِّين الوسط الَّذي لا جبر فيه ولا تفويض.

نعم هناك مجال على القول بتأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، وهو ما أشرنا إليه سابقاً.

فقال قوم بجوازه مطلقاً.

وقال آخرون بالمنع المطلق كذلك.

والمحكي(2) عن المرتضى قدس سره التَّفصيل:-

ص: 119


1- سورة الزمر / آية 9.
2- معالم الأصول (مع حاشية سلطان العلماء) ص219، عن (الذريعة ص363).

بين القول بجواز التَّأخير عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة - لعدم امتناع أن يفرض في ذلك مصلحة دينيَّة يحسن لأجلها في المقام المناسب.

ومن ذلك: ما لو ولَّى الملك والياً على بلد معيَّن قائلاً له (لقد ولَّيتك على البلد الفلاني ((للأمر المستعجل من غير تفصيل)) وسوف أفصِّل لك نموذج حكمك فيما بعد)، وهذا الأمر وارد معقول في بابه.

وبين القول بعدم جواز ذلك في غير مورده حتَّى عن وقت الخطاب إذا كان هناك غرض في الإجمال كما مرَّ بيانه، وقاس هذا على العام حينما يراد منه الاستغراق، ولكن هذا ليس على طبيعته.

فالتَّفصيل للسيِّد قدس سره بين الجواز وعدمه ليس بمتساوٍ لقوَّة حجَّة القول بجواز التَّأخير أكثر من حجَّة الثَّاني.

لأنَّ بعدم جواز تأخير البيان يكون المعنى هو البقاء على الإجمال، وعند هذا البقاء يظهر الأمر غير الطَّبيعي، والقياس على العام غير صحيح، لإمكان أن يكون معنىالاستغراق مراداً طبيعيَّاً من العام لا كالمجمل الَّذي لا يجوز تأخير بيانه.

ولكنَّ الصَّحيح هو جواز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب في الجملة لا تفصيلاً إذا اقتضت الحكمة الإلهيَّة.

التَّاسع/ كيفيَّة بيان المجمل عند الحاجة إليه

بعد أن ثبت وجوب أن يفهم المراد الشَّرعي من تكاليفه الإلهيَّة - وإلاَّ يكون التَّكليف تكليفاً بما لا يطاق، لأنَّه لم يفهم، وهو من الإغراء بالجهل -

فلابدَّ من كون الخطاب إمَّا أن يكون بيِّناً من أساسه، وهو المسمَّى بمتَّضح الدِّلالة كقوله تعالى [وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ](1).

ص: 120


1- سورة البقرة / آية 282.

أو بواسطة الغير كاللفظ أو الفعل المجمل إذا أوضحه ذلك الغير، وهو المسمَّى بالمبيِّن بكسر الياء المشدَّدة، وبهذا وبما يأتي تتجلَّى معرفة المبيِّن وكيفيَّة بيان المجمل.

وهذا المبيَّن مفتوح الباء المشددة يعتبر كالمجمل في انقسامه إلى مفرد وإلى مركَّب من ناحية القول وإلى ما يكون فعلاً كما مرَّت الإشارة إليه في قسم المجمل، ومن أمثلة القول المفرد المجمل قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً](1)، وكان بيانه بقوله تعالى [صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ](2).

ومن ذلك المجمل قوله تعالى [قَالَ هِيَ عَصَايَ](3) وكان بيانه بقوله [أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى].

ومن القول المركَّب المجمل قوله تعالى [أَقِيمُوا الصَّلاةَ](4)، وكان من بيانها بفعل النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والَّذي أكَّد عليه، مضافاً إلى فعله المعروف آنذاك والمحفوظ بالسِّيرة العمليَّة المستمرَّة بقوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي)(5).

ومن القول المركَّب المجمل قوله تعالى [آتُوا الزَّكَاةَ](6)، وكان بيانها حاصلاً بقول الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ (في الغنم السَّائمة زكاة) المأخوذ من قولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ(وليس على العوامل شيء إنما ذلك على السَّائمة الرَّاعية)(7)، وبقوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ (فيما سقت السَّماء

ص: 121


1- سورة البقرة / آية 67.
2- ) سورة البقرة / آية 69.
3- سورة طه / آية 18.
4- سورة البقرة / آية 43.
5- غوالي اللئالي ج1 ص197 الفصل التاسع ح8. والغوالي ج3 ص85 باب الصلاة.
6- سورة البقرة / آية 43.
7- وسائل الشِّيعة ج6 ص80، وفي مستدرك الوسائل ج 7 ص63 عن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، أنه قال: "الزكاة في الإبل والبقر والغنم السائمة".

العُشر)(1).

ومن القول المجمل المركَّب قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ](2)، وكان من بيانه ما تمَّ بفعل الرَّسول صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وحفظ بالمناسك الَّتي أجراها من تطبيقه وحفظ منها ما حفظ خلفاً عن سلف، مع ما بُيِّن بالرِّوايات، ومنها ما أكَّد عليه صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بقوله (خذوا عنِّي مناسككم)(3)، ومن الأخذ ما أخذ من القول والفعل.

ومن موضِّح حجيَّة الأفعال المبنيَّة ما أسهب به الأصوليُّون عن مصاديق السنَّة الشَّريفة بأنَّ منها فعل المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ كما مرَّ بيانه عن المجمل الفعلي، ولو عرف معرِّف الإجمال بالفعل من المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ولم يثبت عنه غيره كان المدرك منحصراً به.ولذلك يضاف إلى هذا الدَّليل الفعلي مدرك عقلي ملزم بعدم جواز التَّخلُّف عن التَّطبيق على نهجه.

ومن موضِّحات هذا الدَّليل المبيِّن الفعلي روايات المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الشَّريفة الَّتي نقلت لنا أفعال النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في صلاته وزكاته وحجِّه ونحو ذلك، وما عرفونا به من أفعالهم المطابقة لفعل النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مع عموم المبنيَّات اللفظيَّة.

وممَّا مضى يعلم كون الفعل بياناً تارة بالضَّرورة من قصده وأخرى بنصِّه، كما مرَّ من قوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (صلُوا كما رأيتموني أصلِّي)(4) وغيره.

وتارة أخرى بالدَّليل العقلي، كما لو ذكر المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ مجملاً وقت الحاجة إلى

ص: 122


1- وسائل الشيعة الباب 4 من زكاة الغلات.
2- سورة آل عمران / آية 97.
3- أخرجه مسلم في صحيحه (2/ 943، رقم 1297). واللفظ للبيهقي في السنن الكبرى (5/ 204، رقم 9542)، ولفظ مسلم: "لتأْخذوا مناسككم فإنَّي لا أدري لعلِّي لا أحج بعد حجتي هذه".
4- غوالي اللئالي ج1 ص197 الفصل التاسع ح8. والغوالي ج3 ص85 باب الصلاة.

العمل به ثمَّ فعل فعلاً يصلح بياناً له ولم يصدر عنه غيره، إذ بذلك يحكم العقل بوجوب البناء على ذلك لانحصار الأمر به، لأنَّ بعدمه يكون التَّطبيق الممنوع مبنيَّاً عليه، وهو جواز التَّأخير عن وقت الحاجة.

العاشر / نتيجة البحث

لابدَّ بعد بيان الأمور الماضية من تسليم وجود المجملات وضرورة بيانها أو مجيئها مبنيَّة الأساس في النُّصوص الشَّرعيَّة وغيرها حتَّى بعض الأفعال من جهة شرعيَّة أو غيرها وبالصِّفة الخاصَّة الَّتي يمتاز بها هذا البحث عن غيره ممَّا مرَّ من البحوث الماضية وإن حصل بعض التَّشابه فيما بينه وبينهما، إمَّا عاجلاً وقت الحاجة ولو بسعي المكلَّف نفسه أو آجلاً بعد الخطاب لو لم تثبت الحاجة ولو مجملاً وبتلك الكيفيَّات الَّتي مرَّت عليك.

وكون المجمل لو ثبت وبقي فهو على غير طبيعته في الدِّلالة وإن كان قد يستفاد منه بعض الحالات الخارجة عن الطَّبيعة أو لربَّما يجب في موارد الوجوب كما مرَّ في أمر الأحاجي والاختبار ومغالطة المماراة ونحو ذلك.

وكون المجمل والمبيَّن قد يكونان مفردين ومركَّبين.

وقد يكون كل منهما فعلاً أو قولاً يبيِّنه الفعل أو فعلاً يبيِّنه القول أو قولين أو كون ما كان ظاهره القول المجمل ولكنَّه مبيَّن في أساسه ولم يلتفت إليه المقابل.

ص: 123

الفصل الرَّابع

البداء في آيات الأحكام وما يناط بها من السنَّة

وفيه مباحث:-

الأوَّل: مورد الحاجة إلى الكلام عن البداء

بعد أن كان سبب تسمية علم الكلام - بكونه علماً وبالشُّهرة المتعارفة بين علماءه ولو في الجملة المفيدة في المقام - هو من جهة أنَّ أوَّل مسألة طُرقت عندهم فيه هو: هل أنَّ كلام الله قديم أم حادث؟

لأهميِّتها بين كل العناوين الكلاميَّة الأخرى، لأنَّ منها تتفرَّع كثير من الأمور الاعتقاديَّة المهمَّة المعروفة في مواقعها من هذا العلم، ومنها جاء الكلام عن البداء على أن القدم المفروض في المسألة هو غير الخاضع للزَّمان من المقولات التِّسع كما سيتَّضح.

بمعنى أنَّ هذا القرآن الموجود بين الدَّفتين بجميع آياته ومنها آيات الأحكام قطعاً حسب الفرض هو ذلك من حيث القِدَم عندهم في مورد نزاعهم أو أنَّه حادث بكل معانيه كذلك، وبالطَّبع إنَّ الله من صفاته أنَّه متكلِّم وأنَّ كلامه عين ذاته.

وبعد تبيُّن استحالة قِدَم هذا الموجود لخضوع المسألة حينئذ بهذا النَّحو إلى القول بتعدُّد القدماء، وهو من الممتنعات، وإلى انقلاب الحادث وهو هذا الموجود مع جلالته إلى قديم، وهو ممتنع كذلك، وإلى كون الله موصوفاً بما لا يستحق أن يوصف به، وهو مساواته للحوادث في القِدَم أو الحدوث وهو ممتنع أيضاً.

ص: 124

وبعد تعيُّن حدوث هذا الموجود وهو القرآن الَّذي هو ما بين الدَّفتين لا غير، وانحصار القِدَم حسب الفرض المذكور بالمعاني المرتبطة بالذَّات الأقدس، وهي ما قد يسمَّى في بعض تعابيرهم بالكلام النَّفسي المختص به تعالى عندهم، والَّذي جعل من مظاهر معانيه أنَّ دروب الهداية إليها تتحقَّق من هذه المركَّبات اللَّفظيَّة العظيمة بما أفاض عليها وأضاف إليها تعالى أنوار الوحي الإلهي القدسيَّة من عنده، بحيث لا يمكن فهم المقصود الشَّرعي إلاَّ بواسطتها، لأنَّها الَّتي تتناسب مع مستوانا نحن البشر في عالم المقولات التِّسع.

فلابدَّ إذن من معرفة أمور حوتها هذه الألفاظ قد أشكل أمر بعضها على بعض الأفكار.

ومن جملتها ما نحن بصدده في هذا المدخل قد مرَّ بعضها.

ومن جملتها النَّسخ.

ومن جملتها ما هو المناسب ذكره الآن بعد النَّسخ مباشرة، وهو البداء لمشابهته له في بعض الحالات كما سيجيء إنشاء الله تعالى، وهو تصحيح ما يصح منه وإبطال ما يبطل، وبالأخص في أمورنا الفقهيَّة.

هذا من حيث الفرض العام في البحث.

وأمَّا من حيث الفرض الخاص في البداء فلأنَّه وإن ذكروه في باب العقائد وأصولها مألوفاً جدَّاً، إلاَّ أنَّه يقترب من غرض المتشرِّعة في أصول الفقه عندهم أيضاً لتصحيح مداركه وتنقيحها، بل حتَّى المسائل الفقهيَّة المستفادة من تلك المدارك كما سيتَّضح.

فلهذا وغيره نحن بحاجة إلى البحث عن البداء في هذا المدخل.

ص: 125

الثَّاني: معنى البداء

قد ذكرت اللُّغة (1) أنَّ البداء مصدر (بَدَا) (يَبْدُو) ( بُدُوّا ) ظهر فهو ( بَادٍ ) و (بَدَا له في الأمر) أي ظهر له ما لم يظهر أوَّلاً، والاسم (البَدَاءُ) مثل سلام.

وقال الرَّاغب الأصفهاني(2): بدا الشيء بَدواً وبَداءً أي ظهر ظهوراً، قال تعالى [وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ](3).

وقد فسَّر السيِّد الأستاذ قدس سره وغيره هذا اللَّفظ بكلمة أخرى، وهي الإبداء، نتيجةٍ لما استفيد من التتبُّعات المصحِّحة للصَّحيح لا غيره كما سيتَّضح.

وهذا البداء بهذا المعنى أو ما يقاربه في مصطلح المتكلِّمين أو المتشرِّعة في مداركهم الأصوليَّة وأحكامهم على وجه - من أوجه التَّعلُّق الصَّحيح في بابه - قد يكون مناسباً مهمَّاً للبحث عنه في مدخلنا حول آيات الأحكام.

لكونه في أمر يشترك في باب العقائد من جهة التَّكوين وفي باب المدارك الأصوليَّة الفقهيَّة، للرَّبط الموجود أيضاً بين التَّكوين والتَّشريع من جهة أخرى وفي باب الفرعيَّات المطابقة فقهيَّاً لها من جهة أخرى كذلك كما أشرنا وكما سيجيء.

وإنَّما ركَّزنا فعلاً على المعنى اللُّغوي دون غيره فلناحية ما سيأتي بيانه من التَّفاوت المذهبي بين الخاصَّة والعامَّة حول اعتبار البداء.

أو فقل إصرار العامَّة على المغالطة ضدَّ الخاصَّة بما لا طائل تحته، بل بما يفضح أكذوبتهم ضدَّنا، فأخذ بالموجَّه منه الخاصَّة، ورفضه العامَّة أو بعضهم، ممَّن لم يقبل مكابرة بروايات رواها رواتهم ومن صحاحهم ممَّا يؤيِّدينا في الموجَّه من ذلك، لا ممَّا

ص: 126


1- المصباح المنير -- الفيومي -- ج1 ص 40.
2- مفردات غريب القرآن ص40.
3- سورة الزمر / آية 47.

لُفِّق علينا إن كان انتصاراً للحق ولو ضدَّ أنفسهم كما سيجيء.

لأنَّ التَّفاوت المذكور لابدَّ عند المنازلة للخصم في بعض الأحوال، لغرض كسبه للهداية وإبعاده عن الغواية من أن يرجح اللجوء بالتَّالي إلى اللُّغة لأنَّها مرجعنا جميعاً بلا أي قدرة على التَّخلُّف عنها في آخر المطاف.

وعليه ترتفع الإشكالات أو الاجتهادات المتطرِّفة بالرُّجوع إلى الأمر المتَّفق عليه وهو المناسب لتمام ما بني عليه ممَّا سيأتي توضيحه عنه.

وفي هذا البداء فينا نحن البشر لا يُراد به غير أن يبدو لنا مثلاً رأي في الشَّيء لم يكن لنا في السَّابق أي علاقة به.

فإن كنَّا على حالة فلابدَّ من أن تتبدَّل فينا تلك الحالة حينما صمَّمنا عليها، كتبديل الشَّيء بالتَّرك عن حالة الفعل السَّابق أو بالعكس من التَّصرُّفات المختلفة، نتيجة لتغيُّر العلم الَّذي يطرأ على الإنسان ويتفاوت عنده الحسن عن السِّيء أو الأحسن عن الحسن، نتيجة للجهل الَّذي يبتلي به ويغيِّر تصرفاته، لأنَّ فكره مَعرض للتَّغيُّرات بسبب المصالح والمفاسد المتفاوتة، ولذلك تحصل عنده كثير من النَّدامات الَّتي تغيِّر قراراته.

وهذا أمر وارد في أكثر تصرفات البشر ما لم يعاند وتركبه الحماقة.

ونظير ذلك قوله تعالى [وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون](1) وقوله أيضاً [وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون](2) وقوله كذلك [وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ](3).

وهذا البداء بهذا المعنى في الله تعالى مستحيل عليه، لأنَّ علمه وكل صفاته

ص: 127


1- سورة الزمر / آية 48.
2- سورة الجاثية / آية 33.
3- سورة الزمر / آية 47.

الثُّبوتيَّة والسَّلبيَّة - الكماليَّة والجماليَّة والجلاليَّة الثَّابتة والمتزلزل بعضها ممَّا يتَّصف به البشر منها كالرَّازقيَّة والخالقيَّة - تنافي حصول هذه الحالة فيه، ولا يناسبه إلاَّ مقام المحو والإثبات القضائي الموقوف الَّذي سوف يتجلَّى تباعاً.

ولذلك لابدَّ من التَّوجيه لهذه الحالة بعد فصل الخالق عن المخلوق مثلاً بخصوص ما يناسب الخالق تعالى.

وقد وردت بعض التَّوجيهات والتَّحذيرات من الخلط في الرِّوايات الشَّريفة.

فمن التَّوجيهات ما عن الكافي في الصَّحيح عن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ قوله: (ما بدا لله في شيء إلاَّ كان في علمه قبل أن يبدو له)(1).وأيضاً ما في الكافي عنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال (إن الله تعالى لم يبدُ له من جهل)(2).

ومن التَّحذيرات من تشبيه الله تعالى بمخلوقيه ما عن الصدوق في إكمال الدِّين بإسناده عن أبي بصير وسماعه عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال (من زعم أنَّ الله عزَّ وجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمسَّ فابرؤا منه)(3).

وقال في رواية أخرى على ما في اعتقادات الصدوق قدس سره (من زعم أنَّ الله بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم)(4).

وروي الشَّيخ الطُّوسي في كتاب الغيبة بإسناده عن البُرقطي عن أبي الحسن الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال علي بن الحسين

وعلي بن أبي طالب قبله ومحمد بن علي وجعفر بن محمد عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (كيف لنا بالحديث مع هذه الآية [يمحو الله] فأمَّا من قال بأنَّ الله تعالى

ص: 128


1- الكافي: ج1ص148ح9.
2- الكافي: ج1 ص148ح10.ج
3- إكمال الدين:ص70.
4- بحار الأنوار 4/125.

لا يعلم الشَّيء إلاَّ بعد كونه فقد كفر وخرج عن التَّوحيد)(1).

هذا مع ما سيأتي من الأدلَّة والرِّوايات الأخرى الَّتي هي غيض من فيض ممَّا تحلَّت به الشِّيعة الإماميَّة من حالة التَّفريق بين البداء في البشر وبين البداء في الخالق جلَّ وعلا.

إضافة إلى ما قد أثبتته روايات العامَّة المعتبرة عندهم والمرويَّة عن لسان النبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من طرقهم وعن لسان من يحترمونه من الصَّحابة وعن لسان أعلامهم وبعض مذاهبهم ممَّا يقوِّي هذا الأساس الرَّصين ويؤيِّدنا بلا أيِّ مجال للخلاف في هذا التَّفريق وعدم منع البداء عند الله بمعناه المناسب له بل ثبوته، إلاَّ بمكابرة أو عناد وهو مألوف أكثر المخالفين، إضافة إلى حالة سوء عقيدة بعضهم في الله كما سيجيء.

وأمَّا تهجُّم الكثير من العامَّة علينا نحن الإماميَّة لكوننا نقول بالبداء في الله بما فسَّرناه بتوجيهاتنا الوجيهة وغير الخفية على كل من ألقى السمع وهو شهيد ونحن الأدرى بما في مقاصدنا الصَّادقة والأغنياء عن تفسيراتهم وتوجيهاتهم المضرِّة بنا ونحن الأبرياء منها ومن كل ما يضمرونه أو يظهرونه ضدَّنا من التُّهم والأباطيل في هذا الأمر وغيره.

فإنَّهم أن تركوا التَّفهُّم البريء والإنصاف الجريء ولو على أنفسهم ولم يحملونا على شيء من محامل الخير كما يجب أو ينبغي وأصرُّوا واستكبروا استكباراً.

فهو ضلال عدائي أو تضليل اعتدائي أو كلاهما، وهو ليس بغريب أو عجيب من أهل التطرف والانحراف، وليس بجديد علينا، وليس وصفهم على هذا النحو بأول قارورةكسرت في الإسلام كما أحسن بذلك المنصفون الكثيرون جدَّاً من الأخوة العامَّة.

بل ممَّا قد لا يختلف أمرهم الخاص هذا عن موقف اليهود تجاه الله تعالى حيث

ص: 129


1- إكمال الدين:ص70.

حكى تعالى في قرانه المجيد توصيفهم الباطل له تعالى لتفنيده بقوله [وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ](1)، فأجاب عنه تعالى للتفنيد بقوله بعد ذلك [غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ] وكما سيتضح الأمر فيه مرة ثانية قريباً في محله من هذا البحث بإذن الله.

ومثل هذا من أهل العناد ليس بضار لنا، وإن كان يحز في النفس بقاء هذا الانحراف فيهم، ونحن لو كان في مقدورنا أن نسعى لهدايتهم لما جاز منَّا تقاعسنا لحظة واحدة، وإنَّما الضرر الكثير هو تأثير شبهاتهم الباطلة في الأبرياء المغفلين، وبتعمية من علماءهم الحاقدين مع كثرة المصادر.

وإن تفهَّموا أو أنصفوا أنفسهم حبَّاً بالهداية ولو بعد حين وآمنوا بالمحو والإثبات وبأمِّ الكتاب حتَّى لو استدلُّوا ضدَّ التَّغيير والتَّبديل بآية إكمال الدِّين وإتمام النِّعمة، وعلى ضوء مسلكهم المخالف لملحمة بيعة يوم غدير خم المعروفة بين الخاصِّ والعام في إمرة أمير المؤمنين عليعَلَيْهِ السَّلاَمُ خليفة من بعد رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مباشرة، وفرح النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والملائكة وعموم النَّاس بها في هذه الآية، والَّتي قد يفسِّرها النَّاكثون والمنقلبون على الأعقاب باطلاً بأنَّها الآية الَّتي ختم بها الوحي بالصِّفة العامَّة بلا أن يكون أيُّ مجال لأحد في التَّغيير والتَّبديل.

ورضينا منهم بذلك منازلة بما شاءوا لبعض الأغراض ومنها الزِّيادة في النَّقض عليهم، وإن خالف عقيدتنا الثَّابتة في أمر حقيقة الآية لعدم منافاتها لغرضها الأوَّل.

فإنَّ انصياعهم للحق أو بعضه ولو شيئاً فشيئاً قد يدنو ويقترب من الهدف المنشود أو بعضه وحسب استعدادهم وصلاحيَّتهم لتمام هذا التَّوفيق أو بعضه و (أوَّل الغيث قطر ثمَّ ينهمل)، وعلى الأخص لو انصاعوا إلى ما أوردته كتبهم.

ونكتفي الآن برواية واحدة ولو تمهيداً لما سيأتي التَّوسع في سرده من الأدلَّة المتعدِّدة قريباً بإذن الله.

ص: 130


1- سورة المائدة / آية 64.

ففي البخاري بإسناده عن أبي عمره أنَّ أبا هريرة حدَّثه أنَّه سمع رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يقول : ( إنَّ ثلاثة في بني إسرائيل، أبرص، وأعمى، وأقرع، بدا لله عزَّ وجل أن يبتليهم أتى الأبرص فقال أي شيء أحب إليك، قال لون حسن وجلد حسن قد قذرني النَّاس، قال فمسحه فذهب عنه فأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، فقال أي المال أحب إليك، قال الإبل (أو قال البقر هو شك في ذلك إن الأبرص والأقرع قال أحدهما الإبل وقال الآخر البقر)، فأعطي ناقة عشراء فقال يبارك لك فيها.

وأتى الأقرع فقال أيُّ شيء أحب إليك، قال شعر حسن ويذهب عنِّي هذا قد قذرني النَّاس، قال فمسحه فذهب وأعطي شعراً حسناً، قال فأيُّ المال أحب إليك.قال البقر قال فأعطاه بقرة حاملاً، وقال يبارك لك فيها.

وأتى الأعمى فقال أيُّ شيء أحب إليك، قال يرد الله إليَّ بصري فأبصر به النَّاس، قال فمسحه فردَّ الله إليه بصره، قال فأيُّ المال أحب إليك، قال الغنم فأعطاه شاة والداً فأنتج هذان وولَّد هذا.

فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من غنم.

ثمَّ إنَّه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال رجل مسكين تقطَّعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلاَّ بالله ثمَّ بك أسألك بالَّذي أعطاك اللَّون الحسن والجلد الحسن والمال بعيراً أتبلغ عليه في سفري، فقال له إنَّ الحقوق كثيرة فقال له كأنِّي أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك النَّاس فقيرا فأعطاك الله، فقال لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال إن كنت كاذباً فصيَّرك الله إلى ما كنت.

وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا، فردَّ عليه مثل ما ردَّ عليه هذا، فقال إن كنت كاذباً فصيَّرك الله إلى ما كنت.

وأتى الأعمى في صورته فقال رجل مسكين وابن سبيل وتقطَّعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلاَّ بالله ثمَّ بك، أسألك بالَّذي ردَّ عليك بصرك شاة أتبلغ بها

ص: 131

في سفري، فقال قد كنت أعمى فردَّ الله بصري وفقيراً فقد أغناني فخذ ما شئت، فو الله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله.

فقال أمسك مالك فإنَّما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك)(1).

وأمَّا روايات العامَّة الأخرى -- المكمِّلة لرواية البخاري الماضية فضلاً عن الخاصَّة -- الَّتي تنص على كون الصَّدقة والدُّعاء وصلة الأرحام تغيِّر القضاء المبرم فكثيرة لا تحصى وغفيرة لا تستقصى، وسيأتي في حينه ما يتيسَّر منها قريباً في هذا البحث .

الثَّالث: إشكال ورد

ومن بؤس ما ابتلى به المغرضون أو الجهلة المعاندون من العامَّة ضدَّ الشِّيعة الإماميَّة ممَّا قد أعدَّ تشنيعاً عليهم وطعناً في مذهبهم وطريقتهم أنَّهم حسبوا بعض روايات وردت عن الأئمَّة الأطهارعَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

أنَّها أوردت - حسب جهلهم أو توريط من تبنَّى توريطهم - إيراد ما يشفي غليلهم من الحقد والحنق كما في توحيد الصَّدوق عن الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ بقوله (ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني)(2).

لكونهم يفسِّرونه بانحرافهم بأنَّ البداء يؤدِّي إلى خفاء أمر موت إسماعيلابن الإمام جعفر ابن محمَّد الصَّادق "سلام الله عليهم" قبل البداء إلى حين موته في حياة أبيه الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ بسبب المرض، وعنده استحقَّ الخلافة والإمامة أخوه موسى الكاظم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وإن كان أصغر سنَّاً منه بعد وفاة أبيهم عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

ص: 132


1- صحيح البخاري: كتاب الأنبياء باب ما ذكره عن بني اسرائيل، الحديث 3277.
2- التوحيد: 336 ح10، إكمال الدين: 69، تصحيح الاعتقاد من مصنّفات الشيخ المفيد: 5|66.

وهكذا قد تكون روايات أخرى - أثارت حفيظتهم العِدائيَّة - على وزن الشُّبهات.

ولكن الجواب على هذا التَّشنيع واضح وضوح الشَّمس في رابعة النَّهار.

وذلك حينما نرجع إلى المعنى اللُّغوي الماضي المتَّفق عليه بين الجميع، ونُحرِّم على أنفسنا وأنفس الآخرين قبول المغالطة بما لم يتَّضح من هذه الرِّواية شيء منها أو من أمثالها ممَّا لو كان وبما يبهت به الإماميَّة الأبرياء ولو بأدنى إشارة إن كان الخصماء عرباً كما يزعمون، والعُرب ببابهم.

وهو ما يستظهرونه من كلمة (ما) النَّافية، وهي الأولى في الرِّواية الَّتي قد تُعطي بالنَّظرة السَّطحيَّة تجاهه تعالى عدم البُدوِّ له والمفسَّر بالخفاء عليه، بينما الواقع خلافه.

لأنَّ تفسير البداء بالظهور هنا بعد الخفاء في مثل هذه الرِّواية وغيرها ما هو إلاَّ الخفاء على النَّاس حسب لا على الله تعالى، لأنَّه العالم بحقائق الأمور وبجميع تقلُّباتها القضائيَّة الموقوفة كما سيتَّضح هذا لمن تخفى عليه هذه الأمور من الأدلَّة الآتية.

وإن كان غير خفي على كل مسلم متتبِّع في النُّصوص وفيما حوته العقول من خير المعقول والمنقول.

وكذلك ليس هو بداء لله وللنَّاس معاً حتى يُتصور التَّساوي بين الخالق والمخلوق، لتجنُّب لوثة الشِّرك حتَّى لو صغرت بعض معانيه - وهو الثَّابت الَّذي لا ننثني عنه.

وبذلك كان قوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ](1)، وأم الكتاب هي القضائيَّات الموقوفة في ثابت معانيها.

ص: 133


1- سورة الرعد / آية 39.

وكذلك قوله تعالى [لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ](1) وقوله [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ](2) وقوله [فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ](3).

ومن كانت هذه وأمثالها مواصفاته العظمى كيف تخفى عليه خافيته، وكيف لا يقلِّب الأمور كيف يشاء، وهي عنده بميزانية عدالة لا تضاهيها عدالة.

وعليه يكون البداء بمعنى الظهور من الله بعد الخفاء على النَّاس لا عليه.

أو الإبداء أي الإظهار.

لأنَّ الأشياء كلُّها ظاهرة لديه كما سيتَّضح أكثر، أو أنَّ اللام في (لله) بمعنى من، ولهذا المعنى الأخير شواهد مهمَّة في اللُّغة العربيَّة والنَّحو.منها ما في كتاب مغني اللَّبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام الأنصاري(4)، حيث قال عن (اللام) ما نصُّه:-

والرَّابع عشر موافقة من نحو (سمعت له صراخاً)، وقول جرير:-

لنا الفضل في الدُنيا وأنفك راغم *** ونحن لكم يوم القيامة أفضلُ

انتهى موضع الحاجة، وبهذا نكتفي عن الإطالة اختصاراً.

وعليه يكون معنى الشَّاهد النَّثري (سمعتُ منه صراخاً)، ومعنى الشَّاهد الشِّعري (منَّا الفضل الخ).

ومن أراد التَّوسع في فهم الشَّواهد فليراجع كتب اللُّغة العربيَّة والنَّحو مضافاً إلى كتب التَّفسير في مقامات آياتها اللُّغويَّة.

مضافاً إلى التَّصريح في القرآن الكريم بما يجمع أمر البداء للنَّاس ولله

ص: 134


1- سورة الروم / آية 4.ج
2- سورة الرحمن / آية 29.
3- سورة الدخان / آية 4.
4- مغنى اللَّبيب -- ابن هشام الأنصاري -- ج1 ص213.ج

وبالتَّصريح بمن لله عزَّ وجل وهو قوله تعالى [وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ](1).

وعليه فلا قيمة لإشكال المستشكلين وافتراء المفترين، وعليهم التَّوبة والإنابة والتَّعلُّم على أيدي العلماء المتَّقين.

وتوضيح الجواب: بأنَّ القول بالبداء لم يكن كما يتصوَّره أو يصوِّره المبهتون ضدَّنا وهو أنَّا نقول:-

بصحَّة القول بكون علم الله يتغيَّر في ظاهره، نتيجة لتغيُّر الأحوال في المخلوقين لما مرَّ من إشارتنا بأكثر من مرَّة إلى أنَّ الخالق تعالى بكماله وجماله وجلاله ليس كمخلوقيه من ذوي المقولات التِّسع وبلا أيِّة ملازمة بينه وبينهم في ذلك حتََى يُشاع هذا التَّعلُّق الباطل، لكون علمه لا يتغيَّر

تجاههم لو قضى بشيء حتَّى لو تبدَّل الأشخاص بالبداء، نتيجة لما قد يسبِّبونه على أنفسهم أو يسبِّبه الآخرون لهم من حالات القضاء المختلف محتومه عن مخرومه.

أو نتيجة لبعض الأمراض المميتة وإن استحقَّ المتوفَّى الإمامة قبل مستحقِّها الحقيقي ذاتها لولا بعض الموانع.

أو لبعض أسباب غير الاستحقاق الذَّاتي وإنَّما لاعتقاد جمع من المتطرِّفين بإمامة إسماعيل ابن الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ حتَّى أشاعوا غيبة إسماعيل الباطلة.

إلاَّ أنَّ تصريح أبيه عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن المرض الَّذي ألمَّ به والملحوق بوفاته وإظهاره لهم ميِّتاً هو الَّذي كشف هذا القضاء في أن يكون أخوه الإمام الكاظم عَلَيْهِ السَّلاَمُ هو الإمام من بعد أبيه وإنَّ كان إسماعيل أكبر ولده.

ص: 135


1- سورة الزمر / آية 47.

الرَّابع: إشكال آخر ورد

وقد يقال عمَّا يثيره الأصوليُّون كصاحب الكفاية(1) قدس سره وغيره من الإشكال بالإشارة إلى ما قد يظهر إلى البعض من الحديث المتعارف بينهم وهو (السَّعيد سعيد في بطن أمِّه والشَّقي شقي في بطن أمِّه).

أو محاولة لدفع دخل في البين لتنزيه الله تعالى عما قد يُثار من الشُّبهات ضدَّه بسبب هذا الحديث بتوجيهه.

ومن ذلك ما يناط بمسألتنا حيث أنَّه قد يُثار من ظاهره سؤال، وهو أنَّه لو صحَّ الحديث في لفظه أو معناه فضلاً عن كليهما في الدَّاعي إلى التَّبدُّل والتَّغيُّر إذا كانت الإمامة مثلاً في عقيدتنا ثابتة في الإثنى عشر إماماً عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لا تتغيَّر وقد انحصرت فيهم فعلاً دون غيرهم.

وهكذا الأحكام الَّتي قد انتهت آياتها بآية [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا](2) وهو يوم الغدير.

بحيث لا يصح الأخذ للإحكام إلاَّ منهم وعنهم سواء عن طرق أعلامنا وثقاتنا أو حتَّى ثقات العامَّة فضلاً عمَّا اجتمعوا عليه على الشُّروط المتعارفة في كتب علمي الرِّجال والحديث.

فنقول في الجواب: وكما أثبتناه في باب النَّسخ، بأنَّ بعض الأمور ترتبط بالأوقات وما يناسبها وبالأحوال وما يناسبها، وهكذا بقيَّة المقولات المرتبطة بالنَّاس، لكون الأشياء مرهونة بها.

وإنَّ علم الله لا يتغيَّر تجاه قضاءه الَّذي أبرمه من سماءه تجاههم بما سبَّبوه

ص: 136


1- كفاية الأصول - الآخوند الخراساني - ج1 ص68.
2- سورة المائدة / آية 3.

لأنفسهم وبما سبَّبه أو يسبِّبه الآخرون لهم أو بما سبَّبه بعض لبعض وإن كان في ضمنهم الأبرياء لبعض الأمور النِّظاميَّة لحرق أو احتراق الأخضر باليابس، وكقتل أو موت بعض أبناء الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُعن بعض الأمراض، فضلاً عن قتل الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ على يد وبأمر من فراعنة زمانهم قبل قضاءهم وقتهم الطَّبيعي لأداء الرِّسالة متكاملة في أزمنتهم الطَّبيعيَّة.

ولهذا احتجنا في هذه الغيبة الكبرى إلى التَّفقُّه الاجتهادي بما هو مسموح لنا فيه لئلاَّ تُعطَّل الأحكام إلى أن يأتي اليوم الموعود في ظهور الإمام عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ لوجوب انتظاره بفارغ الصَّبر.

وأنَّه تعالى لابدَّ وأن يعلم السَّعادة والشَّقاوة في النَّاس ومن بطون أمَّهاتهم على الأقل.

بل من قبل ذلك كما دلَّت عليه بعض الأدلَّة والرِّوايات الَّتي تتحدَّث عن كرامة الأشباح الخمسة وهم النَّبي والوصي والزَّهراء والحسنان عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ومن تلاهم من المعصومين، وأنَّ الله خلقهم من عالم الذر وغير ذلك.

ولكنَّه مع ذلك كلِّه لم يكن هو المسبِّب لهم تلك السَّعادة، وإن عظم توفقيهم باختيارهم فوق مستوى البشر دون مستوى الخالق.

أو لأعدائهم تلك الشَّقاوة من بطون الأمَّهات.

حتَّى يمكن أن يتصوَّر الجبر التَّكويني مع التَّشريعي كما ادَّعاه البعض، بل الكثير وإن علم واطَّلع على كل شيء.

ولا هو الَّذي أغفل عنهم فتاه النَّاس، أو فوَّض إليهم الأمور كما يتصوَّره المفوِّضة.

أو فلت الأمر من يده كما يتصوَّره اليهود ومن واساهم أو ساواهم من حيث لا يشعر.

ص: 137

بل إنَّ علمه ودينه وشرعه وكل نعمائه مرتبطة بالمتوسِّط من التَّصرُّفات بلا إفراط ولا تفريط وكما قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا](1) وكما ورد في حديث الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ حيث يقول (لا جبر ولا تفويض بل منزلة بين المنزلتين)(2).

وأمَّا قوله تعالى [إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ](3) فلا ينافي ما ذكرناه وإن كانت الواو فيه للمعيَّة، لأنَّ العبادة في [ما تعبدون] بإتِّباع الأحكام وإطاعة الله المعبود بما يستحقُّه تابعة لأصل الخلقة، والإيجاد للوصول إلى حد إبراء الذمَّة من التَّكليف الموجب لها تبعية عدم التَّلازم الكامل بين التَّكوين والتَّشريع،لتثبيت حقيقة حسن الاختيار في عبادة العابد وتمييزه عن حالة سوء الاختيار الَّتي يتَّصف بها العصاة، والمبرهن عليها بما شاء الله من الأدلَّة من مواقعها الخاصَّة.

وإلاَّ كيف يتم بمقتضى عدالته تعالى استحقاق الثَّواب بموجبه والعقاب بموجبه لو كانت العبادة قهريَّة كالخلق والإيجاد.

ثمَّ إنَّ ضمِّ قوله تعالى [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ](4) وقوله [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا](5) ونحوهما إلى هذا القول الكريم هو الَّذي يحل كل إشكال وأزمة في البين.

وإن قيل ما معنى النَّص المشهور (أبى الله أن يجري الأمور إلاَّ بأسبابها فجعل لكل شيء سبباً)(6) فبناء على ذلك فهو العالم وهو السَّبب في كل شيء حتَّى في

ص: 138


1- سورة البقرة / آية 143.
2- بحار الأنوار 5 : 17 ح 28.
3- سورة الأنبياء / آية 98.
4- سورة البلد / آية 10.
5- سورة الإنسان / آية 3.
6- الكافي ج 1ص 183.

اختيارات البشر أم هناك شيء آخر؟

وإذا كان كذلك كيف يتم الأمر؟

والأمر متفاوت بين السَّعادة والشَّقاوة، والله هو مسبِّب الأسباب، وعليه كيف لا يكون الجبر بناء على هذا المشهور؟

فنقول ردَّاً على ما قيل: بأنَّ الله تعالى قال الجواب بآيات من أوَّل حين الصَّدع بالحق وأوَّل يوم ألقاء للحجَّة وإقامة المحجَّة وأوضحه بمثل قوله تعالى [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ](1) وغير ذلك من الأدلَّة.

ولتوضيح الدِّفاع أكثر وبما يناسب المقام نذكر ما عن إسماعيل بن عمَّار قال قلت لأبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ (المؤمن رحمة على المؤمن).

قال: (نعم).

قلت: وكيف ذاك؟.

قال (أيما مؤمن أتاه أخوه في حاجة فإنَّما ذلك رحمة ساقها الله إليه وسبَّبها، إن قضى حاجته كان قد قبل الرَّحمة بقبولها، وإن ردَّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها فإنَّما ردَّ عن نفسه رحمة من الله عزَّ وجل ساقها إليه وسبَّبها له، وذخر الله عزَّ وجل تلك الرَّحمة إلى يوم القيامة حتَّى يكون المردود عن حاجته هو الحاكم فيها إن شاء صرفها إلى نفسه وإن شاء صرفها إلى غيره).

إلى أن قال: (استيقن أنَّه لن يردَّها عن نفسه يا إسماعيل من أتاه أخوه في حاجة يقدر على قضائها فلم يقضها له سلَّط الله عليه شجاعاً ينهش إبهامه في قبره إلى يوم القيامة مغفوراً له أو معذِّباً)(2).

ص: 139


1- سورة الزلزلة / آية 7 - 8.
2- عدَّة الداعي لابن فهد الحلي ص 177، وسائل الشيعة: ج16 ص358 ب25 ح21757.

وأمَّا إيصال الشَّيخ الآخوند قدس سره الأمر بعد تلك الإثارة التَّدقيقيَّة إلى حيث قوله بتعبيره الفارسي بما معناه عربيَّاً (وصل القلم إلى هنا وكسر رأسه)(1) ممَّا قد أشعر البعض إلى أنَّه أوصله إلى الإذعان بالجبر.

فإنَّه لم يدل بالتَّأكيد بعد التَّأمُّل البسيط فضلاً عن الدِّقَّة فيه حتَّى إلى الإلماح إلى ذلك الإذعان بانكسار القلم جبراً.

بل إنَّه قد يدل حقيقة على جبر الكسر الاعتقادي بعدم القول بالجبر الكامل من ناحية الحقيقة الدِّينيَّة العقائديَّة والمتشرعيَّة بنفس ما بيَّنَّاه من المتوسِّط في الأمور أي بلا رهينة مبتدعة ولا تفويض استهتاري.

أو بأنَّ العلم الَّذي أوصل الشَّيخ أصوليَّاً صناعيَّاً إلى العقم غير المنتج حسب فنِّه.

وهو لا يعني بذلك عدم وجود اعتبار منه لنتائج الفقه الاجتهادي الميداني غير المرتبط بالأصول النَّظريَّة الَّتي ليس فيها ثمرة عمليَّة بعمق علمي منتج أصولي للآخرين وبدون أي محذور.

بل إنَّه يقصده أهل العلم الدِّيني الشَّرعي وهو الَّذي لا ينفي علم الله تعالى واطِّلاعه وتسلُّطه الحكيم في الأمور، ولا يثبت عدم نسبة التَّسبيب المباشر المرتبط بحسن الاختيار أو سوءه إلى مخلوقيه من المكلَّفين في أمر البداء.

وأمَّا إكمال الدِّين في آية الغدير وفي الأعم من ذلك فلا تمنع من وجوب المتابعة العلميَّة الاجتهاديَّة أو رجحانها والاستدلال في مواردها وقت الغيبة الكبرى هذه للخلاص من شبهات الطَّريق ومحاولة الوصول إلى الواقع.

ص: 140


1- كفاية الأصول ج1 ص68، حيث قال (قلم اينجا رسيد سر بشكست).

الخامس: الفرق بين النَّسخ والبداء

ويمكن تقريب إمكان البداء وتعقُّله بل حصوله بما يصحُّ نسبته إلى الله تعالى لا بما يرمينا به الأعداء بأنَّه يقرب شيئاً أو بعض شيء من النَّسخ أو هو نفسه على بعض الوجوه ممَّا سيأتي في النَّسخ المتَّفق عليه بين كافَّة المسلمين، وهو الَّذي حصل من ديننا الحنيف لكافَّة الشَّرايع السَّماويَّة السَّابقة.

لقوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ](1) وقوله [إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ](2) وقوله [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ](3) وقوله [وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ](4) وغير ذلك.

لإنَّ ديننا الحنيف جمع كل الخير الَّذي فيما مضى وزيادات تتناسب مع آخر الزَّمان المشار إليه في قوله تعالى [اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ](5) وكما أثبته الباقي من ماضي الكتب السَّماويَّة ومن آيات قرآننا الواسع بما لا داعي إلى الإطالة به، وللتَّشابه الموجود بين ديننا الحنيف والدِّيانات السَّماوية السَّابقة.

ولذا كان قول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يهدر مع كثير ما يبهر وهو [إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق](6).

بل حتَّى من النَّسخ الوارد في ديننا داخليَّاً في بعض معانيه الحقَّة ممَّا في آيات

ص: 141


1- سورة آل عمران / آية 144.
2- سورة آل عمران / آية 19.
3- سورة آل عمران / آية 85.
4- سورة آل عمران / آية 102.
5- سورة القمر / آية 1.ج
6- بحار الأنوار ج16ص210.

الأحكام الفقهيَّة.

فالبداء يمكن أن يقرب من النَّسخ بتوجيهات متفاوتة بين القرب والبعد إلاَّ أنَّها سالمة من المحاذير وهي:-

1 -- أنَّ البداء إذا كان كمحو لكل ما مضى وإثبات شيء وكأنَّه جديد كما أشرنا إلى معناه بأنَّه راجع إلى حالة المحو والإثبات.

وذلك بمعنى أنَّ كل بداء له منزلته في التَّكوين، فهو كالنَّسخ في التَّشريع، وهو المعنى الَّذي نُسب إلى الدَّاماد قدس سره.

وعليه فما هو في الأمر التَّشريعي والأحكام التَّكليفيَّة نسخ هو في الأمر التَّكويني والمكوِّنات الزَّمانيَّة بداء، بل إنَّ النَّسخ كأنَّه بداء تشريعي، والبداء كأنَّه نسخ تكويني.ومن هنا وبهذه المناسبة يتناسب البحث عن البداء حتَّى شرعاً للتَّلازم بين التَّكوين والتَّشريع، لعوده بالتَّالي إلى النَّسخ في الوجه الآخر ولو في الجملة ومن باب معرفة الأشياء بأضدادها.

وعليه يكون الفرق بين البداء -- الَّذي هو كمحو لكل ما مضى -- وبين النَّسخ لكل الشَّرائع السَّابقة متساوي النِّسبة من حيث الكم مختلف من حيث الاعتبار بين التَّكوين والتَّشريع، وإن اجتمعا في الجملة التَّلازميَّة.

وبين البداء وبين النَّسخ في ديننا داخليَّاً وهو المعروف بجزئيَّته، كما أنَّه عموم بدائي وخصوص نسخي، وإن اجتمعا جزئياً في الكيف بسبب التَّلازم بين المكوِّنات البدائيَّة وبين الشَّرع الَّذي لابدَّ وأن يكون في كل حادثة.

2 -- إنَّ البداء إذا فسَّرناه بما فسَّره السيِّد المرتضى قدس سره وهو أنَّ المراد من البداء كونه بمعنى أنَّه ظهر له من الأمر ما لم يكن ظاهراً له، لأنَّه قبل وجود الأمر والنَّهي لا يكون الأمر والنَّهي ظاهرين كمدركين، وإنَّما يعلم أنَّه تعالى يأمر وينهى في المستقبل فإذا أمر فعلاً أو نهى كان البداء حاصلاً.

ص: 142

فإنَّه إذا اعتبرنا هذا المعنى من السيِّد قدس سره صحيحاً على ما ظهر من نقل النَّاقل عنه من جهة حالة توجيه أنَّ عدم ظهور الأمر والنَّهي لا يدل على عدم علم الله تعالى بذلك.

فإنَّه يمكن أن يختلف هذا البداء عن النَّسخ، ولكن لا يخرج عن صددنا في البحث عن البداء كما لا يخفى وبشكل أوضح في مورد التَّلازم وأقرب من السَّابق لطرحه الاستشهاد هنا بالأوامر والنَّواهي.

أمَّا إذا وُجِّه قوله بأنَّه عند الأمر والنهي أنَّه لا يعلم حتَّى مع نفي الجهل الثَّابت عنه سبحانه فهو ممَّا لا يمكن قبوله حتماً لو لم تكن واسطة بين الجهل والعلم.

وعلى أيِّ فبالاستشهاد بالأمر والنَّهي في البداء وباختصاص النَّسخ في ذلك أيضاً يظهر التَّقارب.

إلاَّ أنَّ النَّسخ حينما فسَّرناه في شرعنا الإسلامي بأنَّه الجزئي أو أنَّه تخصيص أزماني للعموم، وهو في البداء كامل، لأنَّه كمحو لكل ما مضى كما في التَّبدُّل في الإمامة قبل حدوثها في ذلك المبدو عنه إلى غيره، كما في السيِّد محمد عَلَيْهِ السَّلاَمُ ابن الإمام الهادي عَلَيْهِ السَّلاَمُ بسبب مرضه وموته وكما نصَّت عليه الزِّيارة الشَّريفة للعسكريين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الَّتي منها قول الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ (السَّلام عليكما يا من بدا لله في شأنكما).

فإنَّ النَّسخ يكون أخص من البداء كما سلف في التَّوجيه الأوَّل، وهو مع ذلك لا يخرج عن الصَّدد الأصولي الشَّرعي من مبحثنا.

3 - إذا فسَّرنا البداء بالمفهوم من عالمي المحو والإثبات أو إثبات أنَّ اللهمختار مطلوب في كل الأفعال التَّكوينيَّة وفي كل الإدراكات ومنها التَّشريعيَّة.

ولذلك ركَّز أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ على البداء وحثُّونا على الاهتمام به ردَّاً على اليهود القائلين بأنَّ الله تعالى فرغ من الأمر كما مرَّ.

وردَّاً على أبي إسحاق النظَّام وبعض المعتزلة القائلين بأنَّ الله خلق الموجودات

ص: 143

دفعة واحدة على ما هي عليه الآن في مكوِّناتها، بحيث لم يتقدَّم خلق آدم على خلق أولاده، وإنَّما التَّقدُّم يقع في ظهورها لا في وجودها وحدوثها(1).

وردَّاً على بعض الفلاسفة القائلين بالعقول والنُّفوس الفلكيَّة وأنَّ الله تعالى لم يؤثِّر حقيقة إلاَّ في العقل الأوَّل، فهم يعزلونه تعالى عن ملكه وسلطانه وينسبون الحوادث إلى غيره.

وردَّاً على آخرين من الفلاسفة قالوا أنَّ الله سبحانه واحد أوجد جميع مخلوقاته دفعة واحدة دهريَّة لا ترتُّب فيها باعتبار الصُّدور بل إنَّما ترتُّبها في الأزمان فقط.

فنفى أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في رواياتهم الآتية كل ذلك، لكونه تجميداً لقدرة الله تعالى الثَّابتة في اختياره لكل ما يتناسب مع الحكمة الإراديَّة من الإبقاء أو الإزالة وبكون كل يوم هو في شأن، فهو المفيد لأهمية البداء على النَّسخ كما سبق، وهو ما تصدَّى له الشَّيخ المجلسي قدس سره في بحاره(2).

4 - إذا فسَّرنا البداء بكون المراد منه هو النَّسخ بعينه إلاَّ أنَّ إطلاقه على النَّسخ فيه نوع من التَّوسُّع والمجازيَّة على ما أورده الشَّيخ الطُّوسي قدس سره في العِدَّة(3) ونقله عن السيِّد المرتضى(4) قدس سره فهو المناسب لبحثنا كذلك إذا لم تكن مجازيَّته مبعدة له عن صميم بحثنا ولو بأدنى مناسبة.

5 - إذا فسَّرنا البداء بما فسَّره الشَّيخ الصَّدوق قدس سره في توحيده(5) وهو أنَّ معناه أن

ص: 144


1- شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج4 - ص252.
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج4 ص129 - 133.
3- عدّة الأصول للشيخ الطوسي ج 2 ص 485 من الطبعة الجديدة (فصل في ذكر حقيقة النسخ و بيان شرائطه و الفصل بينه و بين البداء).
4- رسائل المرتضى ج 1 ص 117.
5- التوحيد ص 335 باب 54 البداء.

يبدأ بشيء من خلقه فيخلقه قبل كل شيء ثمَّ يُعدم ذلك ويبدأ بخلق غيره، أو يأمر بأمر ثمَّ ينهى عن مثله أو ينهى عن شيء ثمَّ يأمر بمثل ما نهى عنه.

وذلك مثل ما مرَّ من نسخ الشَّرائع وتحويل القبلة، وعِدة المتوفَّى عنها زوجها.

ولا يأمر الله عباده بأمر في وقت ما إلاَّ وهو يعلم أنَّ الصَّلاح لهم في ذلك الوقت في أن يأمر ذلك ويعلم في وقت آخر أنَّ الصَّلاح في أن ينهاهم عن مثل ما أمرهم به.

فمن أقرَّ بتبعيَّة الأوامر والنَّواهي إلى ما به المصالح والمفاسد أقرَّ حتماً بالبداء الَّذي فسَّرناه فيما مضى، وقد مرَّ شيء من الأدلَّة.

وسيأتي أنَّ هناك أدلَّة مهمَّة كثيرة تمدح حالة الاعتقاد بسعة قدرة الباري ونفوذه في ذلك.

وهذا ما ينبأ عن قرب البداء أيضاً من النَّسخ ولكن بصورة أعم من التَّكوين والتَّشريع.

وبهذا تحصل مناسبة البحث عن ملازمات آيات الأحكام.

6 - ومنها أنَّ الأمور العامَّة والخاصَّة والمطلقة والمقيَّدة والنَّاسخة والمنسوخة والمفردة والمركَّبة والخبريَّة والإنشائيَّة بأجمعها منقوشة في اللَّوح وممَّا يزيد على علم الملائكة والأنبياء والرُّسل، وهي ما يسمَّى بكتاب المحو والإثبات وبما قد تقتضيه الحكمة فيه التَّقدُّم في العلم بأموره أو التَّأخُّر فيه.

والبداء هو عبارة عن هذا التَّغيُّر.

وبكون النَّسخ أحد معاني مفرداته يكون البداء أعم منه ويتناسب مع بحثنا كذلك، وهو ما اعتبره بعض العلماء.

وهناك توجيهات مشابهة لا داعي إليها، إمَّا للحذر من أمور التِّكرار أو أنَّها خاضعة للمناقشة المبعدة لها عن القبول.

ص: 145

السَّادس: أدلَّة البداء من الكتاب والسنَّة عن الفريقين

ومن جملة ما قد يستدل على صحَّة البداء لله أمور:-

أ - من الكتاب قوله تعالى [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا](1)، وقوله كذلك [بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء](2).

وقوله أيضاً [تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ](3).وقوله أيضاً [ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا](4).

وقوله أيضاً [لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً](5).

وقوله أيضاً [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ](6).

وقوله بما يناسب مع البداء في الناس والبداء لله [وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ](7).

وقريب من ذلك آيات النَّسخ كما مرَّ توضيحه.

وغير ذلك من كثير الآيات الدَّالَّة على البداء من الله تعالى وإن لم يكن بلفظه منه تعالى، لأنَّ معناه لابدَّ وان يحصل من المحو والإثبات، وهو حاصل فيها لا محالة ولو بنحو اللازم والملزوم ومن حالات الاختبار والامتحان وعلى نهج ما مرَّ من قوله

ص: 146


1- سورة الأنفال / آية 66.
2- سورة المائدة / آية 64.
3- سورة الملك / آية 1.
4- سورة الكهف / آية 12.
5- سورة هود / آية 7.
6- سورة محمد / آية 31.
7- سورة الزمر / آية 47.

تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ](1)، وقوله [فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ](2).

ب. ما دلَّ من السنَّة الشَّريفة عمَّا رواه الإماميَّة من طرقهم المعنعنة، ومن ذلك ما في توحيد الصَّدوق قدس سره عن الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ بقوله (ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني)(3) على ما مرَّ منَّا من التَّوجيه.

لا كما التبس على الآخرين، أو لفَّقه المغرضون من التَّوجيه الباطل.

ومنه ما في زيارة الإمامين العسكريين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وهو (السَّلام عليكما يا من بدا لله في شأنكما) على ما وجَّهناه في حينه.

ومنه ما عن اعتقادات الصَّدوق قدس سره عن الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ من قوله (من زعم أنَّ الله بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم)(4)، وهو الَّذي يستفاد منه صحَّة البداء بلا ندامة.

ومنه ما عن البحار عن الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ كذلك من قوله (من زعم أنَّ الله بدا له في شيء ولم يعلمه أمس فأبرأ منه)(5)، وهو المفيد صحَّته لو كان عن علمه جلَّ وعلا.

ومنه ما عن الكافي عن زرارة عن الباقر والصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (ما عبد الله بشيء مثل البداء)(6).

ص: 147


1- سورة الرعد / آية 39.
2- سورة الدخان / آية 4.
3- التوحيد: 336 ح10، إكمال الدين: 69، تصحيح الاعتقاد من مصنّفات الشيخ المفيد: 5/66.
4- بحار الأنوار 4/125.
5- إكمال الدين: 69.
6- الكافي 1 / 113 ح 1.

وفيه أيضاً عن هشام بن سالم عن الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنَّه قال (ما عُظِّم الله بشيء بمثل البداء)(1).

وفيه ما روي في الصَّحيح عن الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له)(2).

وهذا من جملة أخبار دلَّت على أنَّ البداء لا يستلزم معنى لا يتناسب مع قدسيَّة الله سبحانه، وهو مناسب للرِّواية الرَّابعة كثيراً.

وفي توحيد الصَّدوق بإسناده عن محمَّد بن مسلم عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنَّه قال (ما بعث الله عزَّ وجل نبيَّاً حتَّى يأخذ عليه ثلاث خصال - الإقراربالعبوديَّة - وخلع الأنداد - وأنَّ الله يقدِّم ما يشاء ويؤخِّر ما يشاء)(3)، والعبارة الأخيرة هي البداء.

وروي بأنَّ عبد المطَّلب عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان أوَّل من قال بالبداء - علماً بأنَّه كان من أوَّل الموحِّدين وعلى نهج إبراهيم الخليل، وفي رواية أنَّه آخر حواري عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ وقيل بنبوَّته - وروي أنَّه كان يعلم بنبوَّة محمَّد صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عند طفولته.

فعن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: يبعث عبد المطلب أمة وحده، عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء وذلك أنَّه أوَّل من قال بالبداء، قال: وكان عبد المطلب أرسل رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ إلى رعاته في إبل قد ندت له، فجمعها فأبطأ عليه فأخذ بحلقة باب الكعبة وجعل يقول: "يا رب أتهلك آلك إن تفعل فأمر ما بدا لك" فجاء رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بالإبل وقد وجه عبد المطلب في كل طريق وفي كل شعب في طلبه وجعل يصيح: " يا رب أتهلك آلك إن تفعل فأمر ما بدا لك " ولما رأى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أخذه فقبله

ص: 148


1- الكافي 1 / 113 ذ ح 1، وفيه بدل ما بين القوسين بمثل.
2- الكافي 1 / 114 ح 9.
3- الكافي 1 / 114 ح 3.

وقال: يا بني لا وجهتك بعد هذا في شيء فإنِّي أخاف أن تغتال فتقتل(1).

ج-. وروى العامَّة في كتبهم ما يؤيِّد ما نقول ونعتقد، ويُفنِّد ما يقول به الآخرون، ومن ذلك ما رواه ابن الأثير في كامله التَّأريخي عن جدِّ النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عبد المطَّلب عَلَيْهِ السَّلاَمُأنَّه قال مخاطباً ربَّه يوم جاء أصحاب الفيل لمهاجمة بيت الله الحرام:-

لا همَّ إنَّ المرء يمنع رحله فأمنع حلالك *** إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمر ما بدا لك(2)

أقول: وقد فسَّروا مراده من قوله (فأمر ما بدا لك) بأنَّه ظهور قضاء قد كان منه في سابق علمه؟

وهو وإن لم يكن متعيِّناً إلاَّ أنَّه يكفينا شاهداً على قِدَم هذا الاصطلاح، مع كون عبد المطَّلب من عباد الله الموحِّدين وأهل الحنيفيَّة البيضاء والأكثر كما مرَّ.

وقد مرَّ ما رواه البخاري والجامع الصَّحيح وكتاب الأنبياء وابن الأثير في النِّهاية مادَّة (بدا) (أنَّ ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا لهم أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً إلخ)(3).

وفسَّره ابن حجر العسقلاني في فتح الباري بقوله - عن بدا - أي سبق في علم الله فأراد إظهاره وليس المراد أنَّه ظهر له بعد أن كان خافياً، لأنَّ ذلك محال فيحقِّ الله تعالى(4).

وروى ابن حنبل في مسنده أنَّ رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قال (يجمع الله عزَّ وجل الأمم في صعيد يوم القيامة فإذا بدا لله عزَّ وجل أن يصدع بين خلقه مثل لكل ما كانوا

ص: 149


1- الكافي ج1 ص447 ح24.
2- الملل والنحل 2: 239.
3- راجع ص131 - 132.
4- فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج 6 ص579 ح3464.

يعبدون الخ)(1).

وروى الطَّيالسي وأحمد في مسنده وابن سعد في طبقاته والتَّرمذي فقال الطَّيالسي بإيجاز قال، (قال: رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ إنَّ الله أرى آدم ذريَّته فرأى رجلاً أزهراً ساطعاً نوره، قال: يا ربِّ من هذا، قال: هذا ابنك داود، قال: يا ربَّ فما عمره، قال: ستُّون سنة، قال: يا رب زد في عمره، قال: لا إلاَّ أن تزيده من عمرك، قال: وما عمري، قال: ألف سنة، قال: آدم فقد وهبت له أربعين سنة من عمري، فلما حضره الموت وجاءته الملائكة قال: قد بقي من عمري أربعون سنة، قالوا إنَّك قد وهبتها لداوود)(2).

وأقول هذه الرِّواية يظهر منها البداء عمليَّاً وإن لم يأت لفظه.

وروى صاحب كنز العمَّال وصاحب الدر المنثور عن علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنَّه (سأل رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عن هذه الآية [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ](3) فقال له "لأقرُّ عينيك بتفسيرها ولأقرُّ عين أمَّتي بتفسيرها، الصَّدقة على وجهها وبر الوالدين واصطناع المعروف يحوِّل الشَّقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السُّوء")(4)، وهذا من البداء العملي كالرِّواية السابقة .

وروى السَّيوطي في الدر المنثور أنَّه أخرج عبد بن حميد وبن جرير وبن المنذر

ص: 150


1- مسند أحمد ابن حنبل المجلد الرابع ح 19152.
2- مسند الطيالسي : 350 ح2692، ومسند أحمد 1 : 251 و 298 و 371، طبقات ابن سعد 1 : 7 -- 9 ق 1 ط أوربا. وسنن الترمذي 11 : 196-197 بتفسير سورة الأعراف. وفي البحار 4 : 102-103 عن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ باختلاف يسير في اللَّفظ.
3- سورة الرعد / آية 39.
4- جامع الأحاديث لجلال الدين السيوطي ح 32785 عن كنز العمال 4444، الدر المنثور 4 : 661.

عن عمر بن الخطاب أنَّه قال وهو يطوف في البيت (اللَّهمَّ إن كنت كتبت عليَّ شقاوة أو ذنباً فأمحه فإنَّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب فاجعله سعادة ومغفرة)(1)، وهذه الرِّواية بداء عملي كما مرَّ.

وقد نقل صاحب كتاب نقض الوشيعة أنَّ هذا الرَّأي رأي ابن مسعود وأبي وائل وقتادة كذلك.

وروى السَّيوطي عن الحاكم صاحب المستدرك عن ابن عباس وصحَّحه وكذاالذَّهبي أنَّه قال: (لا ينفع الحذر من القدر ولكن الله يمحو بالدُّعاء ما يشاء من القدر)(2).

وأقول: هو من حبر الأمَّة اعتراف بالبداء عمليَّاً.

وفي صحيح مسلم عن أنس ابن مالك قال: سمعت رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يقول: (من سرَّه أن يبسط عليه رزقه أو يُنافي في أثره فليصل رحمه)(3).

وقد قال النَّووي في شرح الحديث:-

(وأمَّا التَّأخير في الأجل ففيه سؤال مشهور وهو أنَّ الآجال والأرزاق مقدَّرة لا تزيد ولا تنقص [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] وأجاب العلماء بأجوبة الصَّحيح:-

منها أن هذه الزِّيادة بالبركة في عمره والتَّوفيق للطَّاعات وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة وصيانتها عن الضِّياع في غير ذلك.

والثَّاني: أنَّه بالنِّسبة إلى ما يظهر من الملائكة وفي اللَّوح المحفوظ ونحو ذلك - في

ص: 151


1- الدر المنثور في التفسير بالمأثور الجزء الثامن تفسير سورة الرعد تفسير قوله تعالى يمحو الله ما يشاء ص471.
2- المصدر السَّابق ص47، مستدرك الحاكم: 2 / 350.
3- صحيح مسلم ح4767.ج

قضيَّة آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ في حفيده داود عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فيظهر في اللَّوح أنَّ عمره ستُّون سنة إلاَّ أن يصل رحمه فإن وصلها زيد له أربعون وقد علم الله سبحانه وتعالى ما سيقع له من ذلك وهو من معنى قوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ] فيه النِّسبة إلى علم الله تعالى وما سبق به قدرة ولا زيادة بل هي مستحيلة، وبالنِّسبة إلى ما ظهر للمخلوقين نتصوَّر الزِّيادة وهو مراد الحديث)(1).

وهذا الَّذي ذكره النَّووي هو البداء بعينه وإن لم يظهر من لفظه.

وهذا التَّكيف وارد باستفاضة في كثير من الموارد وكما يقول القائل:

عباراتنا شتَّى وحسنك واحد ***** وكل إلى هذا الجمال يشير

وهذه الرِّوايات والأرَّاء من العامَّة ومن طرقهم هي الَّتي يقول ويعتقد بها الإماميَّة تماماً، فلا مجال إذن للمهاترات والتَّشنيعات.

وإن كان في جعبة المشنِّعين شيء فليفكِّروا في حلِّ مشاكلهم ويستعينوا بمن صبر عليهم من علمائنا واحتضن مذاهبهم لإصلاحهم من سلفنا الصَّالح من أئمَّتنا الأطهار عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وليوحِّدوا صفوفهم بالوئام معنا إن أحبُّوا الخير لأنفسهم ضدَّ العدو المتوحِّد ضدَّ جميعنا والمسلمون مذاهب.

السَّابع: أقسام القضاء ومتى يقع البداء منها عند الشِّيعة الإماميَّة

القضاء الإلهي على ما ذكره العلماء الأجلاَّء على أنحاء ثلاثة:--

الأوَّل: قضاء الله الَّذي لم يُطلع عليه أحداً من عباده، وهو العلم المخزونالَّذي اختصَّ به لنفسه.

وهذا لا يمكن أن يقر به البداء أبداً، وإنما ينشأ منه كما نصت عليه روايات أهل

ص: 152


1- صحيح مسلم بشرح النووي: 16 / 114.

البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

حيث روى الشَّيخ الصَّدوق قدس سره في العيون بإسناده عن الحسن بن محمد النَّوفلي أنَّ الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال لسليمان المرزوي : رويت عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنَّه قال: (إنَّ لله عزَّ وجل علمين علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه إلاَّ هو من ذلك يكون البداء وعلماً علَّمه ملائكته ورسله فالعلماء من أهل بيت نبيِّك يعلمون)(1).

وهذا لا يعني أنَّه يقر به البداء وإنَّما ينشأ منه كما سيتَّضح.

وروى صاحب البحار قدس سره في باب البداء أنَّه روى الشَّيخ محمَّد بن الحسن الصفَّار في بصائر الدَّرجات بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: (إنَّ لله علمين علم مكنون مخزون لا يعلمه إلاَّ هو من ذلك يكون البداء وعلم علَّمه ملائكته ورسله وأنبياءه ونحن نعلمه)(2).

أقول: وهكذا الأمر كالرِّواية الأولى لا يقر به البداء وإنَّما ينشأ منه.

الثَّاني: قضاء الله الَّذي علَّمه نبيه صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وملائكته بأنَّه سيقع حتماً، وهذا لا شكَّ أيضاً في عدم وقوع البداء فيه وإن لم ينشأ منه كالقسم الأوَّل، وهو موقع الإخبار بالمغيَّبات كما في رواية العياشي عن عمرو بن الحمق، وهذا القضاء والَّذي بعده أشار إليهما تعالى بقوله [عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا](3).

وقال الصَّدوق قدس سره في عيون أخبار الرِّضا -- إضافة إلى الرِّواية المتقدِّمة عنه قدس سره -- (أنَّ عليَّاً كان يقول العلم علمان، فعلم علَّمه الله ملائكته ورسله، فما علَّمه ملائكته

ص: 153


1- عيون أخبار الرضا باب 13 والبحار : باب البداء والنسخ ج 2 ص 132.
2- بحار الأنوار باب البداء والنسخ ج 2 ص 136 ط كمباني ، ورواه الشيخ الكليني عن أبي بصير أيضا، الوافي باب البداء ج 1 ص 113.
3- البيان في تفسير القرآن ص 394.

ورسله فإنَّه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه، يقدِّم منه ما يشاء ويؤخِّر ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء)(1).

وهذه الرِّواية لم يكن في ظاهرها إلاَّ حالة نشوء البداء من العلم الخاص لا طروه عليه.

وروي في البحار عن العيَّاشي عن الفضل قال سمعت أبا جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ يقول:- (من الأمور أمور محتومة جائية لا محالة، ومن الأمور أمور موقوفة عند الله، يقدِّم منها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء لم يطلع على ذلك أحداً - يعني الموقوفة علىالصَّدقات وصلة الأرحام ونحو ذلك - فأمَّا ما جاءت به الرُّسل فهي كائنة لا يكذب نفسه ولا نبيُّه ولا ملائكته)(2).

وأقول: من ذلك إنباء المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بالحوادث المستقبليَّة لأنَّه لا يكذب نبيَّه وملائكته وهي كثيرة جدَّاً.

الثَّالث: قضاء الله الَّذي أخبر نبيَّه وملائكته بوقوعه في الخارج إلاَّ أنَّه موقوف على أن لا تتعلَّق مشيئة الله بخلافه، وهذا القسم هو الَّذي يقع فيه البداء بآية المحو والإثبات وبآية كون الأمر لله من قبل ومن بعد، ودلَّت على ذلك روايات كثيرة.

منها ما في تفسير علي بن إبراهيم والبحار عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: (إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والرُّوح والكتبة إلى سماء الدُّنيا فيكتبون ما يكتبون من قضاء الله تعالى في تلك السنة، فإذا أراد الله أن يقدم شيئاً أو يؤخِّره أو ينقص شيئاً أمر الملك أن يمحو ما يشاء ثمَّ أثبت الَّذي أراده.

قلت وكل شيء هو عند الله مثبت في كتاب؟

ص: 154


1- عيون أخبار الرضا باب 13 وبحار الأنوار: باب البداء والنسخ ج 2 ص 132.
2- بحار الأنوار: باب البداء والنسخ ج 2 ص 133.

قال: نعم.

قلت: فأي شيء يكون بعده.

قال: سبحان الله ثمَّ يحدث الله أيضاً ما يشاء تبارك وتعالى)(1).

ومنها ما في التَّفسير نفسه والبحار عن عبد الله بن مسكان عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في تفسير قوله تعالى [فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ]:-

(أي يقدِّر الله كل أمر من الحق ومن الباطل وما يكون في تلك السنَّة وله فيه البداء والمشيئة يقدِّم ما يشاء ويؤخِّر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض ويزيد منها ما يشاء وينقص ما يشاء)(2).

ومنها ما في كتاب الاحتجاج وآمالي الصَّدوق والتَّوحيد عن الأصبغ عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنَّه قال: (لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه الآية [يمحو الله الخ])(3).

ومنها ما في تفسير العياشي والبحار عن زرارة عن أبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: (كان علي بن الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ يقول لولا آية في كتاب الله لحدَّثتكم بما يكون إلى يوم القيامة، فقلت: أي آية، قال: قول الله يمحو الله الخ)(4).

ومنها ما في قرب الإسناد والبحار عن البيزنطي عن الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: (قال أبوعبد الله وأبو جعفر وعلي بن الحسين والحسين بن علي وعلي بن أبي طالب عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لولا آية في كتاب الله لحدثتكم بما يكون إلى أن تقوم السَّاعة يمحو آيته)(5).

ص: 155


1- بحار الأنوار: باب البداء والنسخ ج 2 ص 133.
2- المصدر السَّابق ص134.
3- الاحتجاج للطبرسي ص 137 المطبعة المرتضوية - النجف الأشرف.
4- بحار الأنوار باب البداء والنسخ ج 2 ص 139.
5- المصدر السَّابق ص 132.

إلى غير ذلك ممَّا يدل على القضاء الموقوف على الصَّدقات وبر الوالدين وصلة الأرحام والدُّعاء، وموقوف على أن لا تتعلَّق مشيئة الله بخلافه وعلى وزن قوله تعالى [وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ](1).

الثَّامن: ثمرة الاعتقاد بالبداء

إنَّ البحث عن البداء هل يختص بما يجوز الاعتقاد به ويبيحه حسب؟

أم يمكن أن يزيد عن هذا إلى ما به الرُّجحان والأكثر؟

فنقول في الجواب: إنَّ الرِّوايات والأدلَّة السَّابقة لمَّا قالت بمثل قولهم (ما عُبد الله بمثل البداء)(2) ونحوه، ومن ضمن العبادة ما هو الواجب وما هو الأقل منه وهو المستحب، لا ما هو الأقل وهو مجرَّد الجواز، وإنَّما القول بمجرَّد الجواز كان في بعض مجالات النِّقاش للنَّقض على الخصم المشهِّر بالشِّيعة الملتزمين بالبداء الصَّحيح، لإخضاعه إلى أقل النِّسب وهو مجرَّد القول بإمكان البداء ثمَّ جرُّه إلى الأكثر بما مرَّ.

فلابدَّ إذن في الواقع من أنَّ المقصود هو الرَّاجح وبكلا درجتيه، لا ذلك المجرَّد من الرُّجحان، ونظراً لوجود ثمار وفوائد للاعتقاد به إذا فسَّرناه بما لا يستلزم أقل نسبة من الجهل إلى الله تعالى، وليس فيه ما ينافي عظمته وقدس ذاته فلابدَّ من ذكرها أو شيء منها.

ومنها: ثمرة الاعتراف الصَّريح بأنَّ العالم تحت سلطانه وقدرته ممَّا ينبغي ذكره عند الحاجة إلى هذا البحث هو ما في ثمرة الاعتقاد بالبداء في حدوثه وبقاءه.

ومنها: الاعتقاد بإنَّ إرادته نافذة في الأشياء أزلاً وأبداً وكما قال [وَمَا تَشَاؤُونَ

ص: 156


1- سورة التكوير / آية 29.
2- الكافي 1 / 113 ح 1.

إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ](1).

ومنها ثمرة اتِّضاح الفارق بين العلم الإلهي وعلم المخلوقين لعدم وصول علم الله إلى الجهل والنَّدامة ونحوهما.

ومنها ثمرة إيجاب البداء انقطاع العبد إليه في كل المعايير.

ومنها توفيقه للطَّاعة وإبعاده عن المعصية بسبب الانقطاع والإخلاص إليه.

وفي فرض هذه الثِّمار وأنَّها توصل إلى ما به الرُّجحان وإلى ما يوصل إلى براءة الذمَّة من الواجب فلابدَّ إذن من كون هذه الثِّمار لا تفارق حالة الرُّجحان وإلى أعلى مراتبه كما أشرنا.

التَّاسع: نتيجة البحث وخلاصة الكلام عن البداء

وبعد تتمَّة الكلام عن هذا الموضوع يتبيَّن لكل من ألقى السَّمع وهو شهيد أنَّ البداء للنَّاس ممكن وثابت بسبب تغيُّر معلوماتهم وتبدُّلها من رأي إلى رأي، وبسبب انتقال الذِّهن من الجهل إلى العلم ومن العلميَّة إلى الأعلميَّة أو من حالة المساواة بين المقامين أو من حسن الاختيار السَّابق إلى سوء النَّتيجة، لكون النَّاس كثيراً ما تسوء اختياراتهم.

ومن ذلك تتبدَّل الأحكام المرتَّبة شرعاً على المواضيع المختلفة.

وبذلك يتبيَّن اشتراك البداء لله تعالى مع البداء للنَّاس ولكن على وزن ما يناسبه كما اتَّضح من قوله تعالى[وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ](2).

وكذلك يتبيَّن أنَّ البداء لله تعالى ممكن وثابت، كذلك لنفس سبب ما يرتبط

ص: 157


1- سورة التكوير / آية 29.ج
2- سورة الزمر / آية 47.

بالنَّاس من حالة حسن الاختيار وسوءه.

بل حتَّى ممَّا يختص به من علمه الَّذي ما علَّمه ملائكته وأنبياءه ورسله حينما يريد تغيير بعض الأمور وتبديلها أو إبداء شيء لم يطلعهم عليه كالسَّاعة وغيرها.

وقد يتجاوز ذلك مرحلة الثُّبوت الممكن إلى الرَّاجح المستحب والواجب ولو بالعنوان الثَّانوي حسب ما تقتضيه حكمته ومن دون أن يكون عن جهل، لأنَّه عالم بكل شيء حتَّى لو انتفى موضوع العلميَّة الفعلي.

لأنَّ علمه في ذلك إن لم يكن فعليَّاً لبعض مقتضيات عدم الإيجاد أو الإظهار يكون حينئذ بالقوَّة لأنَّه تعالى يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.

ص: 158

الفصل الخامس

مشكلة الجبر والتَّفويض في آيات الأحكام والسنَّة الشَّريفة

وفيه مباحث:-

الأوَّل: سبب تدوين هذا البحث

أ / من المعلوم والمألوف صحيحاً في مورده في كون بحث الجبر والتَّفويض لا يذكر إلاَّ في أصول العقائد وعلم الكلام.

ولمَّا كانت الأحكام الإلهيَّة الشَّرعيَّة هي الَّتي يجب أن تكون المطابقة للعدالة الإلهيَّة في جميع الأمور حلالها وحرامها.

كذلك في أمور العقائد وأمور التَّكوين أيضاً، على خلاف رغبة من انحرف وشذَّ وتطرَّف عن الفطرة السَّليمة والمنهجيَّة المستقيمة ممَّن أتحفهم الله تعالى - بعد العقل وبعثة الأنبياء وإرسال الرُّسل وخيرة الأئمَّة والأوصياء - بخيرة الكتب السَّماويَّة والألواح.

في حين هم أهل مبادئها عقيدة وعملاً والأحق بها ليخضعوا لها، لكونهم خصُّوا بها كاليهود والنَّصارى والمجوس وغيرهم ممَّن سبقهم.

لكن لم يستخدموا عقولهم بما يصل إلى الحد المعقول واتَّجهوا إلى محاربة أنبياءهم ورسلهم وأسباطهم وحاربوا كتبهم وحرَّفوها.

وبالأخص المجوس حينما قتلوا نبيَّهم وأحرقوا كتابهم عداءاً وحماقة بجهالة وتطرُّفاً بضلالة.

وازداد اليهود فجعلوا أنفسهم الشَّعب المختار.

ص: 159

والتزم النَّصارى برهبانيَّتهم الَّتي ابتدعوها وشرَّق الآخرون وغرَّبوا بمثل هذا وذاك وذلك ونحو زائد على ما هنالك.

بل ما اقتصر على هذا المستوى ممَّن غيَّر وفات وبقيت آثارهم - الَّتي كانت من سيئات المخلَّفات التي تأسَّست منها أنواع الكفر والإلحاد والجاهليات وإلى هذا الحين - تعاني منها الشُّعوب المعاصرة والمستقبليَّة حتَّى الَّتي تحضَّرت سطحيَّاً بحضارة الإسلام العظيم.

فسرى هذا الدَّاء العضال من حالتي التَّفريط والإفراط والتَّحجُّر والانفلات في كثير ممَّن أتحفهم الله تعالى بديننا الخاتم -- وخير الأديان وخاتم المرسلين وسيِّد الأنبياء وبقرآنهم العظيم تحفة العالم الَّذي حفظه لهم بالعناية الفائقة وكما قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ](1) وحفظ سنَّتهمبالعترة المطهَّرة كما في حديث الثَّقلين المتواتر بين الفريقين -- مع شدَّة محاربة المنافقين لها -- الَّذي منه قول النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والمأكَّد بالتَّوصية به مرَّات (وإنَّهما - الكتاب والعترة - لن يفترقا حتَّى يردا علي الحوض)(2) -- بعد إتحافهم بذلك العقل السَّديد، وللأسف الشَّديد.

إذ كانوا بسبب تلك السَّوابق وسطحيَّة إسلامهم أو إيمانهم ممَّن تلاقفتهم الأهواء وأخذتهم الرِّيح الحمراء والصَّفراء يميناً وشمالاً، بسبب ما جبلوا عليه من آثار تلك الجاهليَّة الأولى والمدِّ الإسرائيلي والغزو الرُّومي أو الدَّاخل فيهم بترحاب جاهلي فيهم بخبث نواياهم ونفاقهم.

ص: 160


1- سورة الحجر / آية 9.
2- ينابيع المودة -- القندوزي الحنفي -- ص 15 من طرق شتى، وأخرج ص 16 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59 )، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).ج

أو تفضيل رؤوس متطرِّفي المسلمين لهذا التَّطرُّف أو ذاك على اتِّباع هدي الثَّقلين، حتَّى لو أدَّى ذلك التَّطرُّف إلى تعاسة حظوظهم وصاروا بذلك عبيد الغزاة من كفرة الشَّرق والغرب أو عبيد أفكارهم.

باعتبار أنَّ هدي الثَّقلين هو النَّمط الأوسط والآخذ للأمور على يد وليِّ أمرها في شدائدها وغيرها على المحجَّة البيضاء باعتراف شخص من ألدِّ الأعداء.

مع علم الجميع بانتصار الإسلام آنذاك في شرق الأرض وغربها وانهيار عروش كسرى وقيصر والآخرين.

وما ذلك إلاَّ لتلك المعادات للنَّمط الأوسط العادل وخوفاً من نفعه العظيم لهم حماقة ومكابرة وعناداً حتَّى قال قائلهم (حسبنا كتاب الله)(1)، حتَّى حاربوا السنَّة -- وبالأخص الَّتي عن طريق العترة المطهَّرة -- وقال الآخر عن النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ حينما كان يريد تكرار الإيصاء بالثَّقلين قبيل وفاته أو قتله كتابة (دعوه إنَّه ليهجر)(2)، وتلاه حرَّاق المصاحف(3).

فصاروا وللأسف الأشد فرقتين من ذلك الشذوذ المتنوع:-

فرقة تقول بالجبر نستجير بالله تعالى.

وفرقة تقول بالتَّفويض.

وهي تشبه ما كان جارياً قبل الإسلام تأثُّراً بشبهات القديم، أو اقتصاراً على ما يحكِّمون عقولهم المنحرفة في أمورهم فيه من كتاب الله وحده أو اختلاقاً من عند أنفسهم لأنفسهم لروايات ترضيهم وحدهم بما لا أصل له.

ص: 161


1- صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عني.
2- المصدر السَّابق، صحيح مسلم في باب ترك الوصية ج5ص76.
3- تفسير القرطبي, باب ذكر جمع القرآن، البيان في تفسير القرآن: 277.

إمَّا لكونها من الإسرائيليَّات لكونها لم تصلح أن تكون مرفوعة إلى النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لتغلغل الإسرائيليِّين كثيراً أو من غيرها ممَّا عرف.

إذ مؤداه كان إلى الرَّهبنة والتَّصوف المنحرف.

فخوفاً على آيات الأحكام من أن يستفاد منها الاستفادة النَّاقصة - الَّتي هي إمَّا الجبر أو التفويض حسب، ومن دون متابعة كل ما يستلزم فيه الإيصال إلى العدالة والوسطيَّة المطلوبة وعلى هدي الثَّقلين من نفس الكتاب بعضه مع بعض، لكونه قد يفسِّر بعضه بعضاً ومن الكتاب مع متواتر السنَّة عن أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ أو من تلك السنَّة مع الكتاب مع مصاحبة العقل الفطري السَّليم على ما سيأتي توضيحه.

فلابدَّ -- لمواصلة المسيرة على خطِّ العدالة تلك وكما أرادته كتب السَّماء الأصليَّة والَّتي جامعها وخاتمها قرآننا العظيم الجامع المانع - من محاولة إيضاح ثبوت هذا الخطِّ الوسط الَّذي لا جبر فيه ولا تفويض.

وذلك حسب مداركه الصَّحيحة المعقولة والمنقولة رغم إصرار المتطرِّفينعلى تطرُّفهم عنايةً بأهم أموره في المقام وهي الأحكام الشَّرعيَّة من آياتها الأصوليَّة لآيات قواعدها الفقهيَّة إلى آياتها الشَّرعيَّة الفرعيَّة وبمعونة السنَّة الشَّريفة عن العترة المطهَّرة وممَّا أمكن الأخذ به من الموثَّقات من الطُّرق الأخرى حتَّى ممَّا لا يصح إلاَّ أن يكون كعوامل مساعدة لذلك مع بقيَّة ما يعتمد عليه من الَّتي أوضحت لنا الكثير من الغوامض القرآنيَّة ومنها التَّقارب أو التَّقريب.

ب / وكذلك لمَّا كانت مشكلة الجبر والتَّفويض مؤثِّرة آثرها البالغ على الحالة الاختياريَّة المنظَّمة الوسطى المرادة للإسلام المعتدل قديماً وحديثاً، وعلى الفكر البشري الموزون في طاعاته المطلوب أداءها ومعاصيه المطلوب اجتنابها في دار التَّكليف الإلهي الدُّنيويَّة هذه والَّتي لا يمكن أن تدرك ثمار هذه الطَّاعات أو يتوقَّى من مضار تلك المعاصي دنيا وآخرة إلاَّ بتجنُّب الاعتقاد بالجبر الكامل والتَّفويض

ص: 162

الكامل قبل ذلك لمضار التَّفريط والإفراط في ناحيتي التَّطرُّف المحظور ممَّا سيتَّضح أكثر ممَّا يستدعي الخوض في هذا الموضوع لتنقيحه من هذا التَّطرُّف.

لأنَّ من مضار الجبر حين الاعتقاد به هو جعل الإنسان نفسه مجبوراً إمَّا على الطَّاعة في مقامها، أو على المعصية في مقامها وإلى حدِّ ما يوصل إلى عدم وجود معنى للثَّواب أو لا معنى للعقاب باستحقاق عقلي أو شرعي بينما الدُّنيا الَّتي لا تخفى على ذوي الألباب من أهل المعقول والمنقول هي دار امتحان بالعمل إمَّا بحسن العمل أو بسوءه.

إضافة إلى أهميَّة شكر المفيض والمنعم تعالى عقلاً ونقلاً، لضرورة الاعتقاد بيوم القيامة والحساب فيه بعد الموت عند كافَّة المسلمين كما سيتَّضح أكثر.

ومن مضار التَّفويض هو جعل الإنسان نفسه حرَّاً طليقاً مفوَّضاً له كل شيء من أفعال الطَّاعات والمعاصي.

لأنَّ الله قد قدَّره على كل شيء بما يوصله إلى أن لا مسؤوليَّة عليه في شيء ولا محاسبة تدور على بال أحد وإن فعل خسيسَ الأفاعيل.

بينما أنَّ الطَّاعات والمعاصي متفاوتة في الكمِّ والكيف شدَّة وخفَّة ومدى الضَّرر من عدمه.

وإدراك العقول قبل تصريحات الشَّريعة المقدَّسة لتلك التَّفاوتات ثابت كذلك، لتفاوت المسؤوليَّة على أساس هذا المدى أو ذاك والنَّاس ليسوا كالبهائم لا يخفى عليهم هذان الأمران المتناقضان ومضامينهما المختلفة شدَّة وخفَّة وبالأخص يوم القيامة والحساب إذا كانت قد خفيت عليهم بأقل تقصير أو عدمت المحاسبة والقضاء العادل في الدُّنيا بسبب عدم توفُّر دولة الحق الإسلاميَّة في أكثر أوقاتها وكما سيتَّضح أيضاً.

فلابدَّ من اتِّخاذ حالة ما يكشف الغبار والضبابيَّة المنحوسة عن هذهالحالة

ص: 163

الشَّرعيَّة الوسطى الَّتي ما بين التَّطرفيِّين ببيان شيء مناسب من القضيَّة الكلاميَّة المناسبة ولو بشيء أوسع يسيراً ممَّا مرَّ من الإشارات في البحوث الماضية لكفايته في مقامنا من مورد الحاجة وكما أراده قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا](1) وكما قصده الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (لا جبر ولا تفويض بل منزلة بين المنزلتين)(2)، واتِّخاذ شيء من الإشارة الأصوليَّة أيضاً لمعرفة كيفيَّة واجب التَّصدِّي الاستنباطي عند وقوع مثل هذه الأمور كما في ورود بعض آيات التَّكليف الَّتي ظاهرها الجبر عند أصحابه مثلاً إذا وردت أمامنا ونحن أهل النَّمط الأوسط.

فلابدَّ إذن من أن نسعى إلى الوصول إلى ما يدل على ما يقابل ذلك ويرده من الأدلَّة كتاباً وسنَّة وأدلَّة أخرى اعتماداً على كمال الشَّريعة وعدالتها وكفاءة أدلَّتها للوصول إلى ذلك النَّمط الأوسط المراد.

وهكذا لابدَّ من أن نعرف تكليفنا الشَّرعي الاستنباطي إذا ورد نص يستظهر منه التَّخيير المطلق من قبل أهل التَّفويض بسعينا الحثيث لمعرفة ما يقابله من الرَّد باستفراغ وسعنا لما يطابق هذا النَّمط، لمعرفتنا السَّابقة بكمال الشَّرع في كتابه الكريم وسنَّته الشَّريفة عن طريق العترة المطهَّرة مع الأدلَّة المعتبرة الأخرى المعروفة في مواقعها ممَّا سيأتي.

الثَّاني: مناشئ الجبر والتَّفويض العامَّة والخاصَّة والأخص

أ / لا شكَّ في أنَّ الغزو الفلسفي العالمي غير المتقيِّد بديانات السَّماء والمرتبط بما تستنتجه العقول من محاورها وقواعدها المنطقيَّة الَّتي رتَّبها الفلاسفة والَّذي سبق الدِّين الإسلامي في تصرُّفاته وعاصر الدِّيانات السَّماويَّة السَّابقة.

ص: 164


1- سورة البقرة / آية 143.
2- بحار الأنوار 5 : 17 ح 28.

بل سبقها أو سبق بعضها ولم يتقيِّد فكره بها كما لم يتقيَّد بالإسلام عن معاصرته له وإن أذعن في نتائجه الفلسفيَّة أو بعضها من قبل بعض أجياله وطبقاته بالتَّوحيد وببعض الأمور المطابقة والمقبولة في عقائدنا تفصيلاً أو إجمالاً.

أو ما كان يمكنه أن يؤثِّر أثره المعارض بتمام من هذا الغزو في الفكر والعقل المعاصر للإسلام والمسلمين والمتأثِّر بنشاطهما وثورتهما العارمة عقيدة وعملاً من البداية إلاَّ في بعض الحالات أو على بعض الطَّبقات وإن لم يطلق عليه غزو.

لأنَّه قد يكون مفروضاً في واقعه بما فرضه المتأثِّرون بذلك الفكر على أنفسهم، ليكون بديلاً عن الفكر السَّماوي الإسلامي الَّذي صدع به النَّبي محمَّد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، على الأقل عناداً له ولدعوته، حتَّى من قبل بعض المسلمين الَّذين دخلوا في الإسلام العظيم خائفين جبناً من سلطانه الأمين، أو طامعين كالمنافقين بعد ما يئسوا من بقاء قدرتهم على ممارسة طقوس جاهليَّتهم الحمقاء، أو بقوا متأرجحين بين انتمائهم الدِّيني السَّطحي نفاقاً أو جهلاً عن الخوف والطَّمع، وبين تأثُّرهم الفلسفي المجرَّد من قيم وروحيَّة الإعجاز الإلهي العظيم والمرتَّب بقواعد وضوابط وضعها البشر المحدود في قدراته مهما برع وتنوَّع والَّذي من فروعه بقايا التَّطرُّف السَّماوي اليهودي والنَّصراني الَّذي تمَّ به تحريف كتابي الملَّتين وضياع القيم العامَّة بين الأمم أو شتاتها.

ممَّا أحوج الأمر كثيراًَ إلى بزوغ شمس الإسلام وإعادة الكرَّة الإنقاذيَّة الإلهيَّة لحفظ العالم بأحسن النِّظام حتَّى امتدَّ هذا الغزو المعارض أو هذه المعاصرة المؤثِّرة أو الانقياد والتَّأثُّر مسبِّباً انتشار الفلسفة اليونانيَّة المشهورة، حيث فرضت واقعها على أوساطنا الإسلاميَّة وعلى عقول من ذكرناهم سابقاً ولاحقاً لما مرَّ من الأسباب مع شدَّة الرَّقابة الإسلاميَّة الَّتي ذكرناها وأشرنا إلى نجاحاتها المهمَّة.

ولكن بما لا يمكن أن تقبل عللها بهذا الانتشار مطابقة لمعلولاتها بصورة كافية في أمور عقائدنا الإسلامية الصحيحة التامة فضلاً عن أمور شريعتنا السامية الحساسة

ص: 165

بأصالتها.

لأنَّ هذه الفلسفة في وضعها البشري لقواعدها وإن تظافر على ضبطها الملايين لمحدوديَّتهم ولا محدوديَّة الخالق المشرِّع بإعجازاته تراها قد زحفت بالنَّتيجة غير الوافية من كلِّ الجهات إلى مالا تقبله كافَّة العقول بتعقُّل مقبول.

إضافة إلى ما قد حرَّفته سابقاً تلك الدِّيانات السَّابقة من كتبها الَّتي أصبحت من نتائج تحريفاتها إمَّا الجبر أو التَّفويض حتَّى أصبحت طبقات هاتين الفكرتين من الدَّاخل والخارج جنود هدم للنَّمط المعتدل قبل الإسلام وبعده.

فأثَّر هذا وذاك وذلك شيئاً كبيراً من التَّطابق المضرِّ، وبالأخص فيزماننا الإسلامي الأوَّل في بعض أساليب الدَّعوة الإسلاميَّة الصَّافية المتكاملة في نجاحها الَّذي كان قد مهَّد له النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وسعى معه الأئمَّة الأطهار عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وبقيَّة الأخيار وبخير السُّبل الَّتي أنجح بها زرع الإيمان الكامل في كثير من أنصاره وأنصار أهل بيته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وإن قلُّوا من حيث ما كان يريده ويأمله.

بل حصل هذا التَّأثُّر واحتدم كثيراً حتَّى حين قلب الفلسفة اليونانيَّة إلى الإسلاميَّة لكثرة النِّزاعات واشتداد الشُّبهات على المطلب المراد عقيدة وعملاً حتَّى كثرت وجوه المسلمين المتطرِّفين ممَّن مرَّ ذكرهم ممَّن عرفوا بالمنافقين القدامى وبعدهم جاء جماعة عرفوا بالأشاعرة وأضرابهم ممَّن سبقهم من الأسلاف الَّذين أصرُّوا على بقاءهم مجبِّرة وحتَّى يومنا هذا وممَّن قابلهم ومنهم فرقة أخرى وهم الَّذين أصرَّوا على التَّفويض حتَّى هذا الحين وهم المعتزلة.

حتَّى تألَّفت عند قلب الفلسفة إلى الإسلاميَّة بسبب ذلك مدرستان كاملتان لهما نفوذهما وقد سبقتا، وبهذا يظهر المنشأ العام الَّذي يجب الوقاية من مخاطره ويجب التَّخطيط العلمي لدفعه.

ب / وبعد الشُّروع في قلب الفلسفة اليونانيَّة إلى الإسلاميَّة وتطوُّر بحوثها مع

ص: 166

وجود من أشرنا إلى ذكرهم من زعماء المدرستين الإسلاميَّتين من المتطرِّفين وغيرهم من أمثالهم في تطرُّفات أخرى، وخوف أهل الدِّين الحريصين من بقيَّة المسلمين على الحق الإلهي العادل بمثاليَّته، لئلاَّ يضيع ويهدر بدون اشتراك في خوض غمار هذا المضمار للسَّعي في تصفيته وأهم أنصار مدرسة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الخاصَّة بهم ولهم وهي مجالسهم الخاصَّة والعامرة بأئمَّة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ - توسَّعت دائرة المشاجرة الفكريَّة والمشاحنة العلميَّة.

فقالت الأشاعرة شيئاً والخوارج آخر والمعتزلة شيئاً آخر.

وكان مورد النِّزاع فيما بينهم بادياً آنذاك تحت منبر أبي الحسن البصري الأشعري حول مسألة أنَّ مرتكب المعصية الكبيرة هل هو كافر أو مسلم أو غير ذلك؟

وبسبب عدم ضبط قوانين الاحتجاج الصَّحيح عقلاً ونقلاً عند غير أهل البيت وضعف الدِّين أو عدمه ولكن مع تلابس الشُّبهات الَّتي جعلت ما ليس في كونه من العلل علَّة وجعلت ما كان من العلل ليس بعلَّة.

فقال: الخوارج أنَّ مرتكب الكبيرة كافر.

وقال أبو الحسن إنَّه ليس بمسلم ولا كافر.

وقال المعتزلة: إنَّ مقتضى العدالة الإلهيَّة إنَّ مرتكبها مسلم ولكنَّه عاصي، لعدم إنكاره الشَّهادتين وبهما بقاء الإسلام وحقن الدِّماء، وتركوا جلسة أبي الحسن بزعامة واصل بن عطاء صانعين لأنفسهم جلسة خاصَّة، وعندهاصرَّح أبو الحسن بعبارته (لقد اعتزلنا واصل وجماعته)(1)، ولذلك سمُّوا بالمعتزلة.

وتفاقمت المشاكل واشتدَّ النِّزاع وإلى حدِّ التَّجاوز عن خط العدالة حتَّى ممَّن كان يقول بها سابقاً حتَّى وصل الأمر إلى نشوء مدرستي الجبر والتَّفويض.

ص: 167


1- الملل والنحل ج1 ص52.

لكون المعتزلة وإن حاموا عن العدل لكنَّهم أفرطوا في أمره وبعدم مقبوليَّة أهل الاثنين الحدِّ الوسط الآتي والمفروض قبوله يتبيَّن

المنشأ الخاص.

ج / وبعد اتِّضاح الانقسام إلى الجبر والعدل بعد نبذ فكرة الخوارج من قبل الجميع ومعرفة أنَّ المجبِّرة هم الأشاعرة وأبرزهم بعد الأشعري جهم بن صفوان، وأهل العدل هم المعتزلة في مقابلهم وهم جماعة واصل وبعد تبيُّن أنَّ الإماميَّة في الواقعيَّة الأدق هم أهل هذا العدل قبل ذلك فاصطلح على الاثنين وهم المعتزلة والإماميَّة بالعدليَّة إلاَّ أنَّ إفراط المعتزلة في العدل والى حد القول بالتفويض واعتدال أهل العدل الواقعيين والى حد القول بالمنزلة بين المنزلتين انقسم الكل إلى ثلاثة مذاهب وهم المجبرة والمفوضة والأمامية وبهذا يتم المنشأ الأخص.

الثَّالث: أدلة المجبرة على القول بالجبر بعد بيان أصل فكرتهم وردها

أمَّا قول الأشاعرة قادة الجبر نقلاً عن شرح القوشجي لتجريد الاعتقاد ومن أبرزهم بعد أبي الحسن جهم بن صفوان كما سبق.

فهو أنَّه (لا حكم للعقل في حسن الأفعال وقبحها وليس الحسن والقبح عائدين إلى أمر حقيقي حاصل فعلاً قبل ورود بيان الشَّارع، بل إنَّ ما حسَّنه الشَّارع فهو حسن وما قبَّحه فهو قبيح وبكامل السُّلطان، فلو عكس الشَّارع القضيَّة فحسن ما قبَّحه وقبح ما حسَّنه لم يكن ممتنعاً في نظرهم وانقلب الأمر فصار القبيح حسناً والحسن قبيحاً، لأنَّ الاعتبار بيده ومثَّلوا لذلك بالنَّسخ من الحرمة إلى الوجوب ومن الوجوب إلى الحرمة)(1).

وبسبب ذلك نقلوا أنَّ الله هو الموجد لكل أفعالنا حسنها وقبيحها.

ص: 168


1- راجع: شرح المقاصد 4: 284؛ شرح التجريد للقوشجيّ: 337.

وإذا كان في هذا شيء من الإجمال فببيان أقرب عن هؤلاء المجبِّرة.

وهو أنَّهم قد ذهبوا إلى أنَّ الله هو الفاعل لأفعالنا نحن المخلوقين كما كان قد خلقنا، سواء كانت خيراً أم شرَّاً من دون أن يكون للمخلوقين أي اختيار في صدور الفعل أو تركه مع سبق عدم إمكان التَّحسين والتَّقبيح العقلييَّن حتَّى يتم فيهم الاختيار الكامل.

وإنَّما كان تقبُّلهم لهذه الأمور اكتسابيَّاً لما يخلقه الله فيهم ويبيِّنه في شرعه لهم ويطبِّقه فيهم بتيسير لا تخيير كامل فيه، وأنَّ القدرة الَّتي فيهم وإن كانت لا يمكن إنكارها فيهم أيضاً إلاَّ أنَّها مجملة غير مؤثِّرة باستقلال إرادي تام، وإنَّما الأمر كله للشَّارع وهو الله تعالى كما مرَّ.

وبذلك يكون قد أجبرهم على فعل المعاصي ومع ذلك يعاقبهم ويعذِّبهم عليها، وأجبرهم على فعل الطَّاعات ومع ذلك يثيبهم عليها، وذلك لأنَّهم يعتبرون هذه الأفعال في الحقيقة منه تعالى، وان الخلق ملكه يفعل فيه ما يشاء، وإنَّما تنسب إليهم على سبيل المجاز، لأنَّهم محلُّها لتلك القدرة المجملة الَّتي فيهم.

وممَّا استدلُّوا به قول الله تعالى [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ](1) وتفسيره على نهجهم هو (أنَّ الله خلقكم وخلق أعمالكم).

ومرجع ذلك كلُّه عندهم إلى إنكار السَّببيَّة الطَّبيعيَّة بين الأشياء حسبما يؤدِّي إليه كلامهم، وأنَّ الله عندهم هو المسبِّب الطِّبيعي الحقيقي ولا مسبِّب سواه وإن جاء الفعل بمباشرة من عبيده.

إذ ظنُّوا واتَّخذوا ظنَّهم بل وهمهم يقيناً بأنَّ ذلك هو مقتضى كونه خالق كل شيء على ما استوضحوه واهمين من ظواهر كثير من الآيات الدَّالَّة على ذلك بهذه البساطة المستعجلة عندهم، وإن تفاوتت التَّصدِّيات والأوصاف المناسبة بين الخالق

ص: 169


1- سورة الصافات / آية 96.

والمخلوق كل بحسبه.

وثمَّ إنَّه بمجموع ما مرَّ من بيانهم الأوَّل المجمل في بدايته وبما قرَّبنا به فكرتهم بالبيان الآخر قد تظهر مشكلة أخرى، وهي مشكلة الجبر التَّكويني مع الجبر التَّشريعي بسواء كما مرَّ في استشهادهم بالآية الماضية.

إضافة إلى ما يمكن أن يتذرَّع به بعضهم ممَّا قد يستظهرونه من قوله تعالى كذلك [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ](1)، إلى غير ذلك من محاولاتهم.

فلابدَّ حينئذ من الإجابة والرَّد على ما تذرَّعوا به من الأوهام أوَّلاً وبيان بعض ما يترتَّب على القول بذلك من المضار ثانياً.

فنقول أوَّلاً: إنَّ التَّحسين والتَّقبيح العقليَّين موجودان ولهما أدلَّتهما الثَّابتة كما في المستقلاَّت العقليَّة من حسن الإحسان وقبح الظلم.

وآيات القرآن الكريم ومعها السنَّة الشَّريفة عن العترة المطهَّرة وغيرهاطافحة في مصدريهما بمدح الإحسان وفاعله وذم الظلم ومرتكبه إذا قام بذلك العبد.

فكيف بالله خالق العقل في الإنسان ومكرمه به وجاعله فيه أوَّل الرُّسل له قبل إرسال الرُّسل وبعثة الأنبياء باطنيَّاً، والكل يعلم ببعض الإجمالات في آيات الأحكام والسنَّة المرتبطة بها وفي غير ذلك ممَّا يضطر العقل لأن يعمل دوره لتشخيص أمر ما يستحدث من القضايا.

فلابدَّ من قبول ما يدركه العقل في الموارد غير المحكمة شرعاً إلاَّ أنَّه بما حدَّد للعقول من التَّصرُّف وبما ساعدت عليه الأدلَّة الإرشاديَّة الكاشفة عن فسح الشَّارع المقدَّس المجال فيه من مقدار الحاجة منه.

إضافة إلى النِّسبة الاختياريَّة الخاصَّة الَّتي يقدر بها هذا الإنسان أن يحسن في اختياره أو يسيئه، كي لا ينسب الظلم إلى الله، والَّذي لابدَّ أن ينشأ من الإصرار

ص: 170


1- سورة الذاريات / آية 56.ج

على القول بالجبر من هؤلاء.

والله هو القائل عن نفسه تجاه دور البشر في عيشه في غمار نعمه [وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ](1) والقائل أيضاً [وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا](2) وغيرهما كثير من أمثالهما.

وقال أيضاً [ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا](3) وقال كذلك [يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ](4) وقال كذلك [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ](5) وإلى آيات كثيرة جدَّاً وفي جميع موارد المسألة الدِّفاعية الرادَّة لهم.

مع ورود نصوص كثيرة جدَّاً من السنَّة كذلك، منها قول النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (جئتكم بالشَّريعة السَّهلة السَّمحة)(6).

ومنها ما روي من أنَّ (العقل ما عبد به الرَّحمن واكتسب به الجنان)(7) مع ورود آيات وروايات ما يوسع المجال في التَّصرف في هذه الدُّنيا كما سيجيء ممَّا يمنح العقل قدرة الاختيار في الفعل أو عدمه أو التَّعجيل به أو تأخيره.

وإلاَّ كيف تمسك هؤلاء المجبِّرة بآرائهم وأصرُّوا عليها وإن لم نتقبَّلها ولم يتقبَّلها

ص: 171


1- سورة آل عمران / آية 182.
2- سورة الكهف / آية 49.
3- سورة البقرة / آية 286.
4- سورة البقرة / آية 185.
5- سورة الحج - سورة 22 - آية 78.
6- الكافي 5:494 باب "كراهية الرهبانيّة وترك الباه" الحديث الأوّل، وفيه "بعثني بالحنيفية السهلة السمحة"، ومسند أحمد بن حنبل 5:266، تفسير القرطبي 19:39، الطبقات الكبرى 1:140 وفيها "بُعثتُ بالحنيفية السمحة".
7- الكافي ج1 باب العقل والجهل ح3.ج

الآخرون ولم يختاروا غيرها كمن اختار الأفكار الأخرى وهم بشر عقلاء مثلهم ومنهم من يريد إحقاق الحق وإبطال الباطل وكلُّهم قد عبَّرعنهم الله تعالى بقوله [كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ](1).

وأهل الصواب لابدَّ أن يكونوا أحد هذه الأحزاب كما في حديث افتراق الأمَّة الَّذي لابدَّ أن تكون في فرقه الفرقة النَّاجية.

وما تمسَّكوا به إلاَّ بصلاحية قوله تعالى الموسع لذلك الضيق المزعوم والمحدود بحدود الوسط وهو [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا](2) وقوله [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ](3) وغيرهما من الأدلَّة.

وإن تمسَّك بهما وبأمثالهما المفوِّضة من غيرنا بما صوُّروه لأنفسهم من التَّطرُّف الآتي ببيانه والرَّد له.

وهؤلاء المجِّبرة إن حبذوا التَّقيد لبعض الشبهات إن أغمضنا عنها جدلاً بالشَّرع فلا أقلَّ لهم من وجوب ملازمتهم حالة الوسط الَّتي نلتزم بها من سيرة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ المتجنِّبة عن حالة التَّفريط وعن حالة الإفراط الآتية وكما في قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا](4).

لأنَّ الجبر من غير تعديل لا يمكن تعقُّله مع ذكريات التَّخيير ونحوها والتَّفويض الآتي لا يمكن تقبُّله كذلك لصالح من يشدِّد ارتباطه بالله.

ولا يجوز نسبة الظلم تكويناً وتشريعاً إلى الله لانتظام الحياة في التَّكوين ونفي الظلم وإثبات العدل في التَّشريع في الكتاب والسنَّة مع توفُّر مصاديق ذلك عند

ص: 172


1- سورة المؤمنون / آية 53.
2- سورة الإنسان / آية 3.
3- سورة البلد / آية 10.ج
4- سورة البقرة / آية 143.

التَّطبيق وجداناً بين المؤمنين وحَسني العقيدة وكما مرَّ وما سيأتي بيانه من الشَّواهد.

فلابد من ايكال عهدة أمور الطَّاعات في هذه الدُّنيا منسوبة إلى المكلَّف نفسه بحسن إرادته ولصالحه وأمور المعاصي فيها منسوبة إليه كذلك بسوء إرادته ومضرَّته.

ولذلك قال تعالى [إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ](1) وقال أيضاً [إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا](2) وقال أيضاً [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ](3) وغيرها من الآيات والأحاديث.

وإذا أصرُّوا على الجبر وعلى ما قرروه من دون تبرير معقول ومنقول فكيف يعالجون ما يعارض أدلَّتهم الجبريَّة من أدلَّة الحالة الوسطيَّة إلاَّ أن ينسبوا إلى الله الظلم في شرعه وهو مستحيل بما مرَّ بيانه.وإذا أرادوا التَّقيُّد بالجبر التَّكويني كذلك فنعمة الإيجاد والنِّظام في الحياة وحبِّها من الجميع في حلوها ومرها ينفي ذلك حتماً، وإلاَّ لما أحبوها مع الآخرين مع كونهم قادرين على إفناءهم أنفسهم باختيارهم أيضاً.

بل حقَّق شذَّاذهم نحر أنفسهم باختيارهم وحقَّق آخرون تفجير أنفسهم لقتل الآخرين حتَّى تمرَّدوا على الجهاد الواجب الأصيل حبَّاً لها ونحوه.

وإذا بهم خلطوه بالتَّشريعي الَّذي نعتبره نحن أهل الوسط منفياً كذلك يكون الإشكال أكثر والعيب أكبر.

لأنَّه تعالى في أمور التَّكوين لا يجوز أن يعاب عليه كالفقر والعمى وبقيَّة أنواع المرض ونقص الأعمار غير المتعمَّدة ونحو ذلك، حينما يتعقَّل الكل أنَّ أسباب ذلك

ص: 173


1- سورة الرعد / آية 11.
2- سورة الإسراء / آية 7.
3- سورة الزلزلة / آية 7 - 8.

كلها من البشر كما مرَّ بيان ذلك في أقسام القضاء من البحوث السَّابقة وأشرنا إلى بعض منه آنفاً وأنَّ الله لا يحمد على مكروه سواه.

بل كل ما يرد من الله شيء من ذلك والبشر كان سببه المباشر فهو محبوب يرجح الصَّبر عليه والسَّعي لإزالة مضارِّه لما نبَّهنا على امكانه ورجحانه.

لأنَّه في الموجود من منافعه الباقية نعمة في واقعها وإن كانت قد تعتبر نعمة خفية لبعض الاعتبارات، فضلاً عن أضداد ذلك من النِّعم الظاهرة الباهرة.

ونحن لمَّا استشهدنا سابقاً بآية جعل الأمَّة وسطاً فإنَّ هذا الجعل التَّكويني ومعه التَّشريعي لابدَّ وأن يصلا سويَّة إلى معنى ذلك الوسط ومعتدل النَّمط مع ما سنكمله من نفي التَّفويض من مستوى هذا التَّكوين الَّذي مثَّلنا له، وإن استزحم وعدالة الله تعالى في شرعه بما تقدَّم مع نفي التَّفويض الَّذي سوف يتم.

وأمَّا تمسُّكهم بقضيَّة النَّسخ للمحرَّم بالواجب والواجب بالمحرَّم وبما ثبَّتناه بما فصَّلناه في محلِّه، فإنَّ الله المشرِّع سبحانه لمَّا يقر الجميع ويعتقدون ببالغ حكمته ومن مقتضيات حكمة هذا الحكيم أنَّه إذا غيَّر شيئاً ممَّا سبق من أحكامه وبدله بما يختلف عنه فلابدَّ من كون هذا التَّغيير والتَّبديل أو ذاك مع تبدُّل الزَّمن لا يخالف مورد تلك الحكمة لمبدئيَّتها الثَّابتة في الحكيم وإن اختلفت لأنَّها ما ناسبت إلاَّ الحكم الجديد.

وقد سبق في البحث عن البداء والنَّسخ قبله ما يفيد في هذا الأمر.

لأنَّ مقامي الاختلاف الحكمي لم يكن شيئاً واحداً ومن مناسبة واحدة في زمانها المتعاقب المختلف كما في الزَّمان الواحد المستحيل، وإلاَّ لأمكن أن يطاع الله من حيث يعصى، وهو ليس كذلك حتماً لجلبه معنى الإيقاع في الظلم الباطل الصَّريح وبما لا معقوليَّة فيه تماماً.

وأمَّا ما استدلُّوا به من قوله تعالى: [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تعْمَلُونَ](1) الَّذي

ص: 174


1- سورة الصافات / آية 96.

يعتقدون به أنَّه يفيدهم في ظاهر ما يبنون عليه بنيانهم الهزيل جدَّاً ومتهاويالأركان قطعاً، على أنَّه تعالى قد خلقهم عابدين من دون أن يكونوا كالشَّاكرين لأنعمه تعالى بحسن اختيارهم أو الواعين في عبادتهم له خوفاً أو طمعاً.

فإنَّه لمَّا كان هذا القول الشَّريف في واقعه المنيف في معرض الرَّد على ما أورد في الآية السَّابقة لها من الشُّبهة، وهي قوله بصيغة الاستفهام الإنكاري لعملهم [قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ](1)، وهو عبادتهم للأصنام الَّتي ينحتونها بأيديهم.

لأنَّهم لو عبدوا تلك الَّتي أوجدوها هم -- كبقيَّة بسائط الأشياء الَّتي تناسبهم حسب مع أنَّ الله هو خالقهم والمفيض عليهم بالنِّعم الوافرة وتتعيَّن عبادته عليهم شكراً لأنعمه -- كيف يقبل منهم ذلك السَّفه في التَّشخيص الاستحقاقي في العبادة وتلك هي الجماد، إلاَّ بأن يخلق لهم كيفيَّة العبادة في شرعه وهو صاحب وجهتها.

فلا مجال لقبول هذا المنحوت الجامد خالقاً كالخالق المباشر الواقعي سبحانه بدون مناسبة.

إضافة إلى أنَّ هذه الآية المفسَّرة بما قبلها تفيدنا في نفي الجبر التَّكويني والتَّشريعي السَّابق بيانه دعماً له ببطلان استدلالهم بالآية.

وأَّما ما يمكن أن يستدل به البعض من قوله تعالى: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ](2) على نوع من الجبر العبادي فلا يمكن تعقُّله قبل التَّقبل لما مضى شرحه.

إضافة إلى دلالة الفعل المضارع آخر الآية وهو كلمة [يَعْبُدُونَ] على الأوسع من زمان الحال وهو الاستقبال كذلك والمفيد للمواسعة ذات العلاقة تمكين المكلَّف بأن يختار الإيجاب أو السَّلب من أمور تكاليفه العباديَّة وهي خلاف المضايقة كما في

ص: 175


1- سورة الصافات / آية 95.
2- سورة الذاريات / آية 56.

دلالة الأمر المرتبط بخصوص الزَّمان الاستقبالي الموسَّع من قوله تعالى [فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ](1) مع ضمِّ تاء المطاوعة المعروفة في إفادة معنى التَّوسعة في الاختيار بصورة أكثر.

وهكذا قوله تعالى [وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ](2) المرتبط بالأمر الاستقبالي الموسَّع، مع إضافة قرينة لمؤدَّى حقيقة المفاعلة في كلمة (سَارِعُواْ) المفيدة للاختيار المبعد للمسألة عن الجبر العبادي من النَّواحي التَّعبيريَّة.

الرَّابع: ذرائع المجبِّرة الواهية وخطورتها

هذا وإنَّ القول بالجبر أوصل القائلين به إلى مضار لا تتحمَّل ولا يمكنهم الاعتذار منها بأي ذريعة قد يتصوَّرها مرتكبوها أو يصورونها للآخرين منافع أواعتذاراً ولكنَّها واهية، وهي:

1 -- إنَّ العقل البشري لا وزن له في الأمور، فلا تحسين ولا تقبيح، فلا مسؤوليَّة عند القول بالجبر، بينما أقل دليل في اختصاره من كتاب الله وهي كثيرة يذكره تعالى في ختام آيات المسؤوليَّة قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]،وهذا اللفظ متعدِّد المصاديق في القرآن العزيز.

ومن ذلك ما يرتبط بآيات الأحكام، وهو الكافي في الرَّد مع الأدلَّة الكثيرة من السنَّة، لأنَّ العقل - وهو تحفة البشر العظيمة - لابدَّ من مصاحبته عند التَّصرُّف في الأمور حتَّى في مورد توفُّر النُّصوص الشَّرعية، إلاَّ أنَّه لا يجوز له الاجتهاد في مقابلها.

ص: 176


1- سورة البقرة / آية 148.ج
2- سورة آل عمران / آية 133.

ولو لم تكن تلك المصاحبة موجودة لكانت تلك التَّصرُّفات غير معقولة، ولما لام بعض البشر بعضهم الآخر فيما يتصرَّفون به من السَّلبيَّات الَّتي حصلت وهي كثيرة جدَّاً.

وقد أشبع الأصوليُّون الكلام حول التَّحسين والتَّقبيح في مقابل غير المجتهدين من المحدِّثين وبالوزن البياني المعتدل، بما ينفع كثيراً في نصرة العدل الكامل، وهو المنزلة بين المنزلتين الآتية، وبالنَّتيجة لو لم نجعل للعقل وزناً لجعلناه كالمفقود وحالة الفقدان حالة عدم تكليف والواقع خلافه فهو ضرر.

2 -- تبرير بعض الضعفاء والكسالى والمتقاعسين عن مهمَّات الأعمال في حياتهم نتائج ضعفهم وكسلهم وتقاعسهم بالجبر، وإن لم يكونوا في الأساس من أهل فكرته تذرُّعاً بهذه التَّبجُّحات الواهية، أي أنَّهم مجبورون على ذلك ولا مفرَّ منه مع علمهم أو علم بعضهم بكونها واهية، لئلاَّ يعاب عليهم قصورهم أو تقصيرهم.

بينما الحث القرآني والسنَّة الشَّريفة والإجماعات والسِّيرة المستمرَّة من زمن المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ والعقل الَّذي يمقت البقاء على الضَّعف والكسل والتَّقاعس عن مهمَّات الحياة إلاَّ بمكافحة هذه النَّواقص مع القدرة على العلاج ولو بالاستعانة بالغير ونحو ذلك أمور وافرة بالشَّواهد والأدلَّة على أهميَّة العمل وبذل النَّشاط في مثل سبيل الكسب للعيال وعلى الجهاد وذمِّ التَّكاسل وأهله ذمَّاً كثيراًَ.

وإنَّ ممَّا يدفع الكسل ويكشف عن القدرة الهائلة في البشر غير المصاب بالإمراض المعوِّقة له هي مواصلة العمل نفسه ولو كلَّفه العمل في بدايته مشقَّة وصعوبة.

لأنَّ العافية تأتي متدرِّجة بعد التَّرك المكسل والمجربات أثبت وجودها بما لا يرد التَّبجّح بعدم القدرة.

3 -- اتِّخاذ البعض القول بالجبر ذريعة للتَّحلل من الالتزامات الشَّريفة والمقبولة،

ص: 177

ولإشباع الرَّغبات الدَّنيئة الرَّخيصة، حتَّى شاع الفساد في البلاد، وبذلك تحقَّقت أمال أهل الفسق والعناد من أشرار العباد.

ومن أهم ما يثبت أركان الخلاص من هذه المضار المفسدة في الأرض هو الحلال الَّذي في مقابلها، وتوفُّر أنواعها بما يسد رغبة الدُّنيوييِّن كذلك بدل ذلك الحرام، وعدم امكان نسخه بما يخالفه مع بقاء الدِّين والشَّريعة الحاكمة بين المسلمين وإن حكم البلاد المفسدون والشُّعور بالمسؤوليَّة الفرديَّة والاجتماعيَّة الثَّابت في أدلَّته وكما ورد [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ](1) وورد في الحديث (كلُّكم راع وكلُّكم مسؤول عنرعيَّته)(2) إلى غير ذلك من الأدلَّة الكثيرة.

وقد قال في مقابل ذلك ما يسد رغبة الدُّنيوييِّن من الحلال [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ](3) وقال [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ](4) وقال [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا](5).

وورد عن الإمام الحسن المجتبى عَلَيْهِ السَّلاَمُ (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً)(6) إلى غير ذلك من النُّصوص.

إضافة إلى أنَّ الآيات والرَّوايات من هذا القبيل هي المشجعِّة للزِّيادة من نعم الله رغبة بكثرتها، بل الموجبة إلى الرَّغبة بكثرة عبادته تعالى وشكر نعمه، وهي خلاف

ص: 178


1- سورة التحريم / آية 6.
2- بحار الأنوار: ج72 ص38 ب35 ضمن ح36.
3- سورة الأعراف / آية 32.
4- سورة آل عمران / آية 14.
5- سورة الكهف / آية 46.
6- من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق، 3/ 156.

الكسل والضَّعف والتَّقاعس الَّذي قد يكثر بسببه هذه الأيام التَّقيُّد بما قد يُسبِّبه علينا الغزو الاستعماري الكافر ناجحاً أو عموم ما كان معادياً لديننا الحنيف.

4.بعض الدَّوافع السِّياسيَّة المقيتة من الأمويين الطلقاء في سلطاتهم الضالَّة الظالمة والمتطرِّفة بالنِّفاق وضرب الأعناق.

الَّتي ابتدأت إسلاميَّاً تقريباً وبصراحة أكثر ممَّا سبق المجريات التَّأريخيَّة المريرة قبيل وفاة النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وبعيدها.

فضلاً عمَّا كان بعدها من أيَّام المشايخ الثَّلاثة الَّتي من مقولاتهم فيها قول الثَّاني -- في شأن مخالفته لخلافة أمير المؤمنينعَلَيْهِ السَّلاَمُ حينما حاربوها وحاربوه لمَّا خافوا على أنفسهم من غضبه الإلهي وسيفه البتَّار -- حينما جرُّوه من حمائله (دعوه إنَّه مُوصَى) أي أنَّه لا يقدر على المخالفة لحكمنا الدُّنيوي.

وقد جنَّدوا لأنفسهم القريب والبعيد وبكل الوسائل جميع وسائل إعلامهم لنشر القول بالجبر، ووضعوا الأحاديث المفتعلة والملفَّقة ومن صحابة مختلقين أو من المأجورين في سبيله، بادِّعاء أنَّ الله جعلنا عليكم أمراء وسلاطين بعد استعمال تلك المخادعات والإغراءات ووسائل الحديد والنَّار لتخدير أعصاب النَّاس وتحذيرهم عوامِّهم وخواصِّهم عن القيام بأيِّ محاولة ثورة معارضة لمملكتهم وسلطانهم.

وهذا من أكبر المخاطر الَّتي أنشأ لها الجبر على المسلمين، ليكون أمثال هؤلاء المنافقين والمطرودين من قبل سيِّد المرسلين صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مفروضين ولو ظاهراً فقط قادة على المسلمين والمؤمنين، ويترك أئمَّة أهل البيت الطَّاهرين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عن أن يقيموا حكم الحق والعدل ويأخذوا مواقعهم الإلهيَّة بين الملايين.

حتَّى بان هذا الأمر ظاهراً كل الظهور في أصول وقواعد علماءهم ممَّن أتى مؤيَّداً لهم ولمن بعدهم من وعَّاظ السَّلاطين ولو بتلفيق عبادات مكذوبة ادُّعيت أنَّها من الأحاديث.

ص: 179

الخامس: أدلَّة المفوِّضة على القول بالتَّفويض وردِّها

استدلَّ المفوِّضة - وهم الفرقة المقابلة للمجبِّرة مقابلة العكس بالنَّتيجة - فقالوا إنَّ الله بعد خلقه للمخلوقين قد فوَّض الأفعال إليهم وأقدرهم عليها ورفع قدرته وقضاءه عنها.

وذلك لأنَّ نسبة الأفعال إليه تعالى مستلزم نسبة النَّقص إليه، لأنَّها أفعال خاصَّة في مقولاتها من هؤلاء البشر، والخالق لا تناسبه هذه في محاسنها ومساوئها، هذا من جهة.

كما أنَّ للموجودات أسبابها الخاصَّة بها من حيث المباشرة وإن انتهت كلُّها إلى مسبِّب الأسباب والسَّبب الأوَّل وهو الله من الجهة الثَّانية.

واستدلَّ هؤلاء بمثل قوله تعالى [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ](1)، وقوله كذلك [إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا](2) ونحوهما.

وقد سبق هؤلاء من سبقهم من اليهود الَّذين قالوا على لسان القرآن الكريم عن عقيدتهم في الله [وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ](3).

أو ما ورد من تعبيرهم العادي عن الله أنَّه خلق الخلق ثمَّ فلت الأمر من يده بما يزيد في نسبة التَّحدي لشأن الله تعالى بنسبة العجز إليه في السَّيطرة بعد الخلق.

إلاَّ أنَّ هؤلاء المفوِّضة من المسلمين لمَّا كانوا يرتبطون بالإسلام وبعض قيوده قالوا بأنَّه تعالى خلقنا وأقدرنا على فعل كل شيء بما يقلِّل من نسبة هذا العجز إليه.

لكنَّهم مع ذلك تجاوزا عن هذا الَّذي يعتبرونه قليلاً مصحَّحاً أو معقولاً إلى

ص: 180


1- سورة البلد / آية 10.ج
2- سورة الإنسان / آية 3.
3- سورة المائدة / آية 64.

الأخذ بالقياس وتفاعلوا معه تفاعل الاعتبار المخل، أي حتَّى لو تجاوز عن خط النُّصوص الشَّرعيَّة وصار اجتهاداً في مقابلها لإطلاق التَّحسين والتَّقبيح العقلييَّن في نظرهم وإن قالوا بالعدل قبال المجبِّرة كما سيتَّضح غير ذلك.

ونقول في ردِّهم:-

بأنَّ هذا القول على علاَّتة يؤدِّي إلى إخراج الله عن سلطانه وإن كان بإقدار منه لخلقه في الجملة لكن لا كما يتصوَّره اليهود من التَّحدي الأشد، لكونه تعجيزاً له ويداه مبسوطتان كما ورد في جوابه لليهود وقد أبقته صريحاً آياته القرآنيَّة الكثيرة.

ولكون التَّفويض يؤدِّي إلى اشتراك خلقه معه في هذا التَّمكين والإقدار وهم ضعفاء لمحدوديَّتهم من قبل تكوينهم وولادتهم وحين وفاتهم لقوله تعالى [لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا](1) وبصريح آيات أخرى كذلك.

وإذا كان في الجبر ظلم ينسب إلى الله تعالى لعباده ففي التَّفويض إهمال من الله لأمور بريَّته، وهو ظلم من المفوِّضة لحق الله الَّذي لا يرضيه حتماً الفوضى في نعم ما أعطاه من النِّظام.

وكِلتا الحالتين تفريط وإفراط وصِفتا نقص يجب تنزيهه عنهما، لأنَّه الكمال المطلق.

إضافة إلى إمكان القول بأنَّ نتيجة الجبر والتَّفويض سلبيَّاً واحدة.

لأنَّ نتيجة الجبر عند أصحابه عدم جواز معاقبة العبد على أفعاله من المعاصي، لأنَّه مجبور عليها، وهذه المعاقبة تتعارض مع العدالة، وهذا ظلم إذا قلنا باستحقاق العبد بهذه المعصية تلك المعاقبة.

بينما نصوص العقوبة عند المعصية ما أكثرها في القرآن والسنَّة ويعرفها ويقر بها المجبِّرة أنفسهم، إلاَّ أن يعتقدوا بأنَّ الظلم جائز مع العقوبة.

ص: 181


1- سورة الرعد / آية 16.

وأنَّ نتيجة التَّفويض عدم جواز معاقبة العبد على أفعاله أيضاً لو فعل معصية، لأنَّه قد ترك تعالى عبده بعد أن خلقه مفوِّضاً إليه فعل ما يشاء من دون أن يتدخَّل في شيء من أموره وأفعاله وإن أخلَّ العبد بالنِّظام وهو من العبث لأنَّه من الرِّضا بالنِّظام وعدمه.

وعليه فالمعاقبة أيضاً تتعارض مع عدالته، وهم يعتقدون بها فضلاً عن جعل هذا السَّبب إهمالاً، مع أنَّه تعالى يمهل ولا يهمل وكما قال [فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا](1).

إضافة إلى أنَّ آيتي الهداية اللَّتين ظاهرهما الثَّابت بالمتابعةالصَّحيحة ممَّا مضى ذكره كانتا بنحو إراءة الطَّريق لا الإيصال إلى الواقع، كما يزعمه المفوِّضة من التَّفويض الكامل.

مع أنَّهما لو ضممناهما إلى ما يستدل به المجبِّرة من الآيات ومنها ما مضى من قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ](2) لأنتج ذلك الحد الوسط المراد كما سيجيء.

السَّادس: قول الإماميَّة أهل النَّمط الأوسط وأدلَّتهم

وقال الإماميَّة - السَّائرين على خط أهل البيت النَّبوي الطَّاهر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في الاعتدال الاعتقادي التَّكويني والتَّشريعي شركاء المعتزلة في العدل الإلهي لحسن الصدف في أمر التَّقريب المذهبي الإسلامي وإن خالفوهم في أمر التَّفويض كما سلف -

بأنَّ العقل له الحق في أن يدرك حسن الأفعال وقبحها، كما له أن يحكم على

ص: 182


1- سورة الطارق / آية 17.
2- سورة الذاريات / آية 56.

الأشياء وبالأخص العقائد الضروريَّة.

بل حتَّى بعض الشَّرعيات إذا أعوزت الأدلَّة كما في المستقلاَّت العقليَّة من حسن الإحسان وقبح الظلم المدعومة أو المستكشفة بأوضح الأدلَّة اللَّفظيَّة الإرشاديَّة، وكذلك في عمليَّة التَّطبيق للأحكام تمييزاً للحرام عن الحلال بسبب وجود النِّسبة الثَّابتة المعقولة من حسن الاختيار وسوءه.

ولكن بما لا إفراط فيه من إخضاع كل شيء إلى التَّخرُّص العقلي كيفما يكون حتَّى لو صار اجتهاداً في مقابل النُّصوص كما يصل إليه المفوِّضة المعتزلة بالنَّتيجة، وبسبب النِّسبة المحدودة من الجبر الَّذي نعبِّر عنه بالاحاطة الإلهيَّة الرَّقابية في عيشنا التَّشريعي بعد التَّكويني في هذه الدُّنيا قبل يوم القيامة والحساب وانتظاراً لهما.

وقالوا بأنَّ العبد خالق لأفعاله خيرها وشرها مع تلك الرَّقابة الإلهيَّة والاختيار المعتدل فيه اعتزازاً بالعدل الإلهي لنفي الظلم مطلقاً عنه.

وإن كان كل ما حصل ممَّا كان في ظواهره الشدَّة والابتلاء من بعض زحمات الحياة الدُّنيويَّة أو كثيرها هو للامتحان والاختبار، ومما اعتاد عليه الجميع في كونه من سنن الحياة المحتملة.

واتَّفقوا على أنَّ أصول المعرفة وشكر النِّعمة ممَّا يجب الاعتقاد به على أن يكون الالتزام الشَّرعي من أمثال آيات الأحكام وما يعضدها من الأدلَّة الأخرى على النَّهج المطلوب منه بلا تشريع أو ابتداع.

لأنَّ ورود التَّكاليف الَّتي ظاهرها التَّقيُّد ألطاف إلهيَّة على النَّاس أرسلها إلى العباد بتوسُّط النَّبي الصَّادق الأمين صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة الطَّاهرين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من بعده عن الوحي المبين وأحاديث سيِّد المرسلين شرحاً لها وتأكيداً عليها امتحاناً واختباراً لقوله تعالى الماضي [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ](1) بسبب ما أعدَّه الله

ص: 183


1- سورة الأنفال / آية 42.

من العقوبة للعاصين والمثوبة والأجر للمطيعين.

وبهذا التَّحديد المتوسِّط بين الإفراط والتَّفريط يتحقَّق تطبيق ما ذكرناه من قوله تعالى الماضي [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا](1).

وتطبيق النَّص الوارد عن الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ صاحب مدرسة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بعد آبائه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بقوله الَّذي مرَّ ذكره وهو (لا جبر ولا تفويض بل منزلة بين المنزلتين)(2)، دحضاً لفكرة الجبر واللاشعور العقلائي وفكرة التَّفويض والإهمال أو الانفلات.

السَّابع: ما يعين على تعقُّل وتقبُّل الوسط العقائدي والشَّرعي المطلوب

وممَّا يعين على تعقُّل وتقبُّل النَّمط الأوسط العقائدي والشَّرعي المطلوب النَّاشئ من مدرسة الإماميَّة الإثنا عشريَّة هو أمور عقليَّة وأمور نقليَّة.

الأولى: الأمور العقليَّة، ونوجزها بالأمور التَّالية:-

أوَّلاً: إنَّ كل عاقل لا محالة يميِّز بين الأفعال الاختياريَّة وغيرها فينطلق من وحي عقله في الأولى وينقبض في الثَّانية، إلاَّ أنَّه يرى نفسه مختاراً في جميع هذه الأمور من الأفعال والتَّصرفات الممكنة لا كما يتصوَّره المفوِّضة وإحساسه بذلك وجداني، ولذلك فهو مختار وليس مجبوراً على شيء.

ومن ذلك أفعالنا البشريَّة الشَّرعيَّة المرتبطة بالحلال والحرام حتَّى لو صمَّم على فعل شيء فيه بعض الشَّدائد كالمعاصي الَّتي من وراءها عقوبة قد يتحمَّلها وهو مع ذلك يعتقد بكونه عاصياً لا طليقاً بمعنى التَّفويض بلا مسؤوليَّة أو الطَّاعات الَّتي في

ص: 184


1- سورة البقرة / آية 143.
2- بحار الأنوار 5 : 17 ح 28.

طريق الزَّحمات حبَّاً بالمثوبة لما ورد (خير الأمور أحمزها).

على أن يكون هذا الاختيار معقولاً مقبولاً وسطيَّاً.

ثانياً: مدح العقلاء العادل إذا عدل والمحسن إذا أحسن بين النَّاس وذمِّهم الجائر الظَّالم والمسيء لهم، لعلمهم جميعاً مقدرة العادل على الاستمرار بعدله وإحسانه من حسن إرادته، ولذا يكون مدحه بما لا حدود له، ولعلمهم جميعاً مقدرة الظَّالم على ترك الظُّلم والإساءة.

وعليه فلا يستحق مسلوب الإرادة المدح والذَّم بقانون العدالة.

ولذلك يبتعد العقلاء عن أخذ كل قرار إيجابي أو سلبي تجاه هذا المسلوب، ولكنَّهم يذمُّون الفوضائي غير المتوسِّط في اختياره وفي الشَّريعة المقدَّسة تفاصيل فرعيَّة مهمَّة حول من كان مضطرَّاً أو مجبوراً على أفعاله من قِبل الآخرين ليس هذا محلُّها، وسوف تتَّضح.

ثالثاً: إذا قلنا بالجبر فلا داعي للوعد بالمكافئة الحسنة بدل فعل الخير والوعيد بالعقوبة في مقابل الإساءة فيما يدور فيما بيننا، لأنَّ المفروض أنَّ فاعل الخير أو خلافه لم يقم بشيء يستحق عليه ما يناسب عمله عند القول بالجبر.

وسيأتي توضيح هذا الأمر أكثر في الأدلَّة النَّقليَّة.

وإذا قلنا بالحريَّة المطلقة، فما معنى حسن الإحسان وقبح الظلم عند المعتزلة إذا قالوا بالتَّفويض والإهمال ظلم في حق الله تعالى.

رابعاً: عدم جواز التَّكليف بحكم العقل إذا لم يكن الإنسان مختاراً، وقد سبق أن نوَّهنا على وجوب شكر المنعم عقلاً، وهو ما يصحِّح قبول التَّكليف، بل وجوبه.

وقد سبق أن استشهدنا عليه بما يكشفه أو يكون دليلاً عليه وهو قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ](1).

ص: 185


1- سورة الذاريات / آية 56.

إلاَّ أنَّ هذا الاختيار محدود بالضَّوابط المرتبطة بالوسطيَّة غير الفوضائيَّة، لأهميَّة المسؤوليَّة والحساب يوم القيامة، ولكون هذا الحساب من ضروريَّات أصول العقائد.

خامساً: إذا قلنا بالجبر يلزم أن يكون الله في غاية الظُّلم للعباد والجور عليهم، لأنَّه يخلق فينا المعاصي وأنواع الكفر والشِّرك ويأمر بمعاقبتنا، إذا لم نفرِّق بين التَّكوين والتَّشريع ولم نقسِّم الجبر إلى ما لا يصح معه الاختيار وإلى يصح معه وهو حالة الوسطيَّة.

وكذلك لو قلنا بالتَّفويض فإنَّا سوف ننسب إلى الله الإهمال على الأقل.

وكذا سوف ننسب النَّقص في السُّلطان أو انعدامه، لكونه قد أقدرنا على كل شيء، وهو أمر مرت عيوبه.

سادساً: إذا قلنا بالجبر يلزم أن يكون العاصي مطيعاً، لأنَه استجاب لجعل الله له على هذا النَّحو ولم يقدر على التَّخلُّف، وأن يكون المطيع عاصياً، لأنَّهما أطاع من تلقاء نفسه وإنَّما اتَّبع إرادة مكوَّنة.

وأي عاقل يرضى لنفسه اعتقاد الكفر طاعة والإيمان معصية، بينما المعصية لم تأت إلاَّ من النَّفس الأمَّارة بإساءة الاختيار، والطَّاعة لم تأت إلاَّ من النَّفس اللوَّامة أو المطمئنَّة بحسن الاختيار.

وإذا قلنا بالتَّفويض يلزم أن يكون المرتكب للمعاصي غير محاسب ولا مسؤول عمَّا اقترفه منها، لاعتقاده بأنَّ الله هو الَّذي أقدره وحرَّره في هذه الأمور وغيرها.

بينما المعتزلة يحسِّنون ويقبِّحون إلاَّ أنَّهم وللأسف يلتزمون بالتَّفويض.

سابعاً: إذا قلنا بالجبر يلزم منه نسبة السَّفه إلى الله تعالى، لأنَّه بذلك يفعل ما يضادد الحكمة، والفرق بين المعصية والطَّاعة واضح في شرع الله لا يخفى على أحد.

لأنَّ الأشاعرة حينما قالوا بذلك وكانوا قد أعدُّوا أنفسهم من العقلاء - كما لا يخفى حينما أصروا على فكرتهم - وصاروا يقولون إنَّ الله كره الإيمان من الكافر

ص: 186

حينما صيَّره كذلك وأمره بالإيمان، وأراد الكفر من الكافر حينما صيَّره كذلك ونهاه عنه.

بينما العقلاء لا يتعقَّلون غير رجحان أمر الغير بما يحسن فعله وينهونه عمَّا يكرهونه فيه، والله خالق العقل والعقلاء كيف يتقبلون منه هذا السفه بلا استحالته فيه.

وإذا قلنا بالتفويض لا نتصور من ذلك إلا الفوضى وعدم الانضباط المتوسط.

ثامناً: إذا قلنا بالجبر ونسبة الظُّلم إلى الله من جرَّاءه كيف نتعقُّله فيه وهو المعروف في عدله بانتظام الحياة والشَّرع وبانتصافه للمظلوم من الظَّالم في الدُّنيا قبل الآخرة في قانون المحاكم القضائيَّة المتوفِّرة في آيات الأحكام.

وإذا قلنا بالتَّفويض لانتفت المسؤوليَّة ويكون صاحب التَّفويض كشريك لله، والله لا شريك له، فلابدَّ من الوسط.

تاسعاًُ: إذا قلنا بالجبر وقلنا بسببه بعصيان العبد إذا ارتكب المعاصي وأنَّ الله صيَّره هكذا.

ومن تلك المعاصي الكذب وعدم الوفاء بالوعد والعياذ بالله منهما، فمتى نصدِّق بكلام الله وهو أصدق الحديث ومنه آيات الأحكام، ومتى نصدِّق بوعده ووعيده وقد ذكرهما الله مرَّات في كتابه، وهو الَّذي لا يخلف الميعاد كما قالته آياته مرَّات كذلك، ولانتفت الفائدة من إرسال الرُّسل وبعثة الأنبياء لو يعارضهم النَّاس بالتَّكذيب.

والعكس هو الصَّحيح وغيره الباطل بأتم الحجج والمعاجز والكرامات ونبيُّنا صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ هو الصادق الأمين.

وإذا قلنا بالتَّفويض لانتفت الحاجة إلى الأحكام وتفاصيلها، فلابدَّ من الوسط.عاشراً: إذا قلنا بالجبر فإنَّ به خيالات الإفحام للأنبياء والرُّسل والأسباط حينما

ص: 187

يبلِّغون أقوامهم بالدَّعوة إلى الله ودينه ورسالته ووحيه وآخر الأديان ديننا الحنيف فيجيبهم الكفَّار بخيالاتهم وخيلائهم بعدم قدرتهم على الإيمان بتلك الدَّعوة، لأنَّ الله خلقهم هكذا على ما يريده هؤلاء.

بينما هذا الإفحام لا وجود له في جميع أدوار النبوَّات والرِّسالات إلاَّ حالات العناد والمغالطات والمحاربات الرَّعناء وبأشنع الحماقات.

بل العكس هو الصَّحيح وبأقوم الحجج والبراهين الباهرات.

وإذا قلنا بالتَّفويض فلا يصح منَّا نفي المسؤوليَّة، وبذلك فلابدَّ من عدمه واللجوء إلى النَّمط الأوسط.

حادي عشر: لو كان الأمر كما يريده المجبِّرة لصار التَّكليف تكليفاً بما لا يطاق، وهو قبيح عقلاً.

وقد أرشد إلى هذا المعنى قوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا](1)، وقوله [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ](2)، وقوله [يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ](3) وغير ذلك.

وبعدم تعقُّل هذا الأمر فلا جبر، ولكنَّه الوسع ونفي الحرج واليسر في هذه النُّصوص وغيرها، ولكنَّه ليست بمعنى التَّفويض الَّذي يريده الآخرون، فلابدَّ من معنى التَّوسُّط.

الثَّانية: الأمور النَّقليَّة:-

وهي الَّتي تعيننا على الأخذ بخصوص المعنى الوسط وهو المنزلة بين المنزلتين، فهي على قسمين من الكتاب ومن السنَّة.

ص: 188


1- سورة البقرة / آية 286.
2- سورة الحج / آية 78.
3- سورة البقرة / آية 185.ج

أمَّا الأول: وهو الكتاب، ففي أمور:-

الأوَّل: الآيات الدَّالَّة على مدح المؤمن لإيمانه وذمِّ الكافر لكفره والوعد بالثَّواب على الطَّاعة والوعيد بالعقاب على المعصية.

كقوله تعالى في مورد المدح [وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى](1)، وقوله [إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا](2)، وقوله [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ](3)، وقوله [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ](4).وقوله في مورد الذَّم [فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا](5)، وقوله [فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ](6)، وقوله [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ](7)، وقوله [فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِم ْسَاهُونَ](8)، فلابدَّ بذلك وغيره من دحر شبهتي الجبر والتَّفويض وبقاء المنزلة بين المنزلتين.

الثَّاني: الآيات الدَّالَّة على الجزاء لحسن الأفعال كقوله تعالى [هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلاَّ الْإِحْسَانُ](9) وقوله [مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا](10)، وقوله

ص: 189


1- سورة النجم / آية 37.
2- سورة الإسراء / آية 3.
3- سورة التوبة / آية 114.
4- سورة القلم / آية 4.
5- سورة مريم / آية 37.
6- سورة البقرة / آية 79.
7- سورة المسد / آية 1.
8- سورة البقرة / آية 79.
9- سورة الرحمن / آية 60.
10- سورة الأنعام / آية 160.

[إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ](1)، وقوله [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ](2)، وقوله [لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ](3).

وعلى الجزاء لسوء الأفعال كقوله تعالى [وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا](4)، وقوله [وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ](5)، وقوله [وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا](6)، وقوله [وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ](7).

وبذلك لا مجال إلاَّ بالتَّفصيل في أمر الجبر والتَّفويض بما يتوسَّط.

الثَّالث: الآيات الدَّالَّة على أفعال العباد مستندة إليهم وصادرة عنهم كقوله تعالى [وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى](8)، وقوله [لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى](9)، وقوله [الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ](10)، وقوله [فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ](11)، وقوله [إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ](12)،وقوله [ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ

ص: 190


1- سورة الإسراء / آية 7.
2- سورة الزلزلة / آية 7 - 8.
3- سورة الصافات / آية 61.
4- سورة الأنعام / آية 160.
5- سورة الزلزلة / آية 8.
6- سورة الإسراء / آية 7.
7- سورة البقرة / آية 286.
8- سورة النجم / آية 40.
9- سورة طه / آية 15.
10- سورة غافر / آية 17.
11- سورة البقرة / آية 79.
12- سورة الرعد / آية 11.

حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ](1)، وقوله [بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا](2)، وقوله [فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ](3)، وقوله [مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ](4)، وقوله [كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ](5).

وإذا ثبت الرَّبط بالفاعل المباشر كما في هذه الآيات ونحوها فلا يمكن تعقُّل وتقبُّل أن يكون ذلك الفعل محسوباً على الغير إذا كان معصية لقوله تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى](6)، هذا بالنِّسبة إلى ما بين البشر أنفسهم.

وأمَّا بالنِّسبة إلى مسبِّب الأسباب فقد ذكرنا أنَّه لم تحسب عليه هذه الأمور حتماً، لأنَّه خالق الشَّرع والتَّعاليم فقط، وأمَّا محسوبيَّة التَّطبيق فهو مع المباشر لها.

نعم قد يكون فعل الطَّاعة إذا قام به شخص وكان آخر يدين هذا الشَّخص ككون المطيع في داره آخذاً لها بنحو الغصب فإنَّه يكون ثواب طاعته لذلك الدَّائن كما أثبتته الأدلَّة.

والأدلَّة الماضية لا شكَّ أنَّ فيها تمام الإشارة إلى العقوبة بعد المحاسبة إن كانت هناك حكومة شرعيَّة مطبقة على ما يرام في الدُّنيا.

ولو لم يكن كذلك لعدم ضبط الحكم وقواعده أو انفلات العاصي فلابدَّ من تعيُّن ذلك يوم القيامة على ما سيجيء.

الرَّابع: الآيات الذَّامَّة واللائمة على كفر الكافرين ومعصية العاصين، لكونهم

ص: 191


1- سورة الأنفال / آية 53.
2- سورة يوسف / آية 18.
3- سورة المائدة / آية 30.
4- سورة النساء / آية 123.
5- سورة الطور / آية 21.
6- سورة الأنعام / آية 164.

يقدرون على ترك الكفر والمعاصي كقوله تعالى [كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ](1)، وقوله [وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ](2)، وقوله [فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ](3)، وقوله [فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ](4).

فلابدَّ -- مع قدرة الكفرة والعصاة على الإقلاع عمَّا هم عليه، ونتيجة الآيات هذه -- من القول بعدم صحَّة الجبر إلاَّ أنَّه بلا فوضى التَّفويض.

الخامس: الآيات الدَّالَّة على الإنكار كقوله تعالى [لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّبِالْبَاطِلِ](5)، وقوله [لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ](6)، وقوله [لِمَ تَكْفُرُونَ](7) وغير ذلك.

ففي حال كون الله هو فاعل اللَّبس والصَّد والكفر فيهم كيف يستنكر منهم ذلك إذا لم يكونوا قادرين على الإقلاع منها، فلابدَّ من الاختيار بلا فوضى.

السَّادس: الآيات الدَّالَّة على الامتحان والاختبار كقوله تعالى [ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ](8)، وقوله [لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً](9)، ويلحق بها قوله تعالى [وَسَارِعُواْ]، وقوله [اسْتَبِقُواْ] وغيرهما.

ص: 192


1- سورة البقرة / آية 28.
2- سورة النساء / آية 39.
3- سورة المدثر / آية 49.
4- سورة الانشقاق / آية 20.
5- سورة آل عمران / آية 71.
6- سورة آل عمران / آية 99.
7- سورة آل عمران / آية 70.
8- سورة الأنفال / آية 42.
9- سورة هود / آية 7.

ففي حال عدم قدرة العبد الذَّاتيَّة - على اقتحام ساحة الامتحان والاختبار في هذه الدُّنيا والوجدان الشَّائع والذَّائع الَّذي لا يختلف فيه اثنان هو قابليَّة المصارعة وفعليَّتها التَّامَّة في هذه السَّاحة - كيف يبيِّن الله أمرهما في آياته إذن، فلابدَّ من الاختيار بدون فوضى.

السَّابع: الآيات الدَّالَّة على العفو كقوله تعالى [وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ](1)، وقوله [وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ](2)، وقوله [عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ](3)، وقوله تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى](4).

والعفو والغفران في القرآن دليل على ثبوت الذَّنب على مقترفه أوَّلاً، لأنَّهما لا يصحَّان إلاَّ عن المذنب وهو مباشر الذَّنب أو من يلحق به من مغريه من أمثاله لا خالق المذنب وهو منزِّل هذه الآيات أو تارك الأولى إذا كان من الأنبياء، وبذلك ينفي الجبر وبالمسؤوليَّة حال القول بمطلق التَّخيير بنفي التَّفويض.

الثَّامن: الآيات الدَّالَّة على أنَّه تعالى خيَّر عباده في أفعالهم بين إيجادها وعدمه في هذه الدُّنيا وجعلها متَّصلة بمشيئتهم، كقوله تعالى [فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ](5)، وقوله [اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ](6) وإن كان في مورد التَّهديد.

وقوله [لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ](7)، وقوله [فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ

ص: 193


1- سورة آل عمران آية 31.
2- سورة النساء / آية 48.
3- سورة التوبة / آية 43.
4- سورة طه / آية 82.
5- سورة الكهف / آية 29.
6- سورة فصلت / آية 40.
7- سورة التكوير / آية 28.

مَآبًا](1)وغيرها.

وهذه وأمثالها خير دليل على وجود الاختيار في العباد فلا جبر، ومع وجود تفريق أهل المعقول بين حالتي حسن الاختيار وسوءه ينتفي مطلقه، وهو رأى المفوِّضة، ولا يبقى إلاَّ الوسط.

وأمَّا آيات الرَّبط بمشيئة الله تعالى الَّتي لا يمكن نكرانها كقوله تعالى [وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ](2) وغيره.

فلا يمكن في باب وجوب التَّدقيق في العقيدة وتسديدها وتحسينها إلاَّ أن يكون في أمر التَّكوين والإيجاد مع التَّشريع وكذلك في النَّسخ والبداء لا في تسيير العبد المختار في تطبيق الأحكام وعدمه ولا في إطلاق سراحه على أي نحو يشتهيه العبد من دون محاسبة، لأجل أهميَّة النَّمط الأوسط.

التَّاسع: الآيات الدَّالَّة على أنَّ الله تعالى أمر عباده بالمسارعة إلى فعل الطَّاعة كقوله [وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ](3)، وقوله [فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ](4)، وقوله [وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ](5).

وغيرها من أدلَّة ما يدل على المواسعة في الأداء للتَّكاليف الشَّرعيَّة كالصَّلوات الموسَّعة بأوقاتها وغير ذلك، حتَّى المضيَّقة الَّتي ثبت بعد كون العبد مخيَّراً بين فعلها وعدمه وهي واجبة عليه أنَّه هو الَّذي آخرها إلى هذا الوقت الضيق، فإنَّها لا تمت بالجبر بأي صلة مع نفي التَّفويض كذلك بما أوضحناه، وهو غير حالة الاختبار

ص: 194


1- سورة النبأ / آية 39.
2- سورة التكوير / آية 29.
3- سورة آل عمران / آية 133.
4- سورة البقرة / آية 148.
5- سورة الواقعة / آية 11.

والامتحان الماضي في آياتها المشابهة لهذا التَّاسع.

العاشر: الآيات الدَّالَّة على اعتراف الكافر والعصاة باستناد أفعالهم إليهم كقوله تعالى [وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ](1) إلى قوله [أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ](2)، وقوله [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ](3)، وقوله [كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ](4)، وقوله [فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ](5).فإنَّ هذه الآيات خير دليل على ما أجراه الكفَّار والعصاة من سوء العقائد والأعمال من سوء اختيارهم إلاَّ أنَّهم لو خالفوها بالعكس الدَّقيق لساروا على النَّمط الأوسط.

الحادي عشر: الآيات الدَّالَّة على التَّبشير والإنذار كقوله تعالى [بَشِيرًا وَنَذِيرًا](6)، وقوله [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا](7).

وغيرهما ممَّا يدل على وجود الحلال والحرام في شرع الله في هذه الدُّنيا وارتباط كل منهما بما يطابق الطَّاعة في الأوَّل والمعصية في الثَّاني، وهو ممَّا يعرف الإنسان بمحبوبيَّة الأوَّل ومبغوضيَّة الثَّاني، ولو لم يكن من مقدور العبد إمكانيَّة الالتزام

ص: 195


1- سورة سبأ / آية 31.
2- سورة سبأ / آية 32.
3- سورة المدثر / آية 42.
4- سورة الملك / آية 8.
5- سورة الأعراف / آية 39.
6- سورة البقرة / آية 119.
7- سورة النساء / آية 165.

بالأوَّل والإقلاع عن الثَّاني لما كلَّف الله نبيه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بتبليغه الأمَّة على هذا النَّحو.

الثَّاني عشر: الآيات الدَّالَّة على كون القرآن وأهمِّها آيات الأحكام حجَّة على العباد بعد إرسال الرُّسل وبعثة الأنبياء كقوله تعالى [لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ](1) وغيره.

وأيُّ حجَّة لو قلنا بالجبر بعد احتجاج أهل الكفر والمعاصي على الله بقولهم بما معناه (كيف تأمرنا بالإيمان أو الطَّاعة وقد خلقت فينا ضدَّهما).

وأيُّ حجَّة لو قلنا بالتَّفويض بعد احتجاج هذا العنصر كذلك يحتج عليه تعالى بقوله كيف تأمرنا بخصوص الإيمان أو الطَّاعة وأنت الَّذي أقدرتنا على كليهما بمطلق الاختيار.

فلابدَّ من القول بالنَّمط الأوسط تخليصاً من هاتين الفكرتين الباطلتين بما مضى ذكره.

وأمَّا الدَّليل النَّقلي الثَّاني، وهو السنَّة، فنلخِّصها في أمور:-

الأوَّل: ما عن حقِّ اليقين عن الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (النَّاس في القدر على ثلاثة أوجه: رجل زعم أنَّ الله تعالى أجبر النَّاس على المعاصي فهذا قد ظلم الله في حكمه فهو كافر، ورجل يزعم أنَّ الأمر مفوَّض إليهم فهذا قد وهن الله في سلطانه فهو كافر، ورجل يقول أنَّ الله كلَّف العباد ما يطيقون ولم يكلِّفهم مالا يطيقون وإذا أحسن حمد الله وإذا أساء استغفر الله فهو مسلم بالغ)(2).

أقول: وهذا الوجه الأخير هو التَّابع للنَّمط الأوسط.

الثَّاني: ما عن تصحيح الاعتقاد للمفيد قدس سره أنَّه سأل أبو حنيفة الإمام موسى الكاظم عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن أفعال العباد ممَّن هي: قال: (إنَّ أفعال العباد لا تخلو من ثلاثةمنازل،

ص: 196


1- سورة الأحزاب / آية 45.
2- بحار الأنوار : ج5 ص9 ب1 ح14.

إمَّا أن تكون من الله تعالى خاصَّة، أو منه ومن العبد على وجه الاشتراك فيها، أو من العبد خاصَّة.

فلو كانت من الله تعالى خاصَّة لكان أولى بالحمد على حسنها والذَّم على قبحها ولم يتخلَّق بغيره حمد ولا لوم فيها.

ولو كانت من الله ومن العبد لكان الحمد لهما معاً فيها والذَّم عليهما جميعاً فيها.

وإذا بطل هذان الوجهان ثبت أنَّها من الخلق، فإن عاقبهم الله تعالى على حبِّنا يتهم بها فله ذلك وإن عفى عنهم فهو أهل التَّقوى وأهل المغفرة)(1).

أقول: وهذا المنزل الأخير هو المقصود في المراد الأوسط.

الثَّالث: ما عن الميزان أنَّه سُئل أبو الحسن الثَّالث عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن أفعال العباد أهي مخلوقة لله تعالى؟ فقال: (لو كان خالقاً لها لما تبرأ منها وقد قال سبحانه [أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ] ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنَّما تبرأ من شركهم وقبائحهم)(2).

الرَّابع: ما عن حقِّ اليقين أيضاً عن الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين)(3).

الخامس: عن استقصاء النَّظر في القضاء والقدر، سأل أبو حنيفة الإمام الكاظم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ممَّن المعصية؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ ("المعصية إمَّا من العبد أو من ربِّه تعالى أو منهما.

فإن كانت من الله تعالى فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده الضَّعيف ويأخذه بما لم يفعله، وإن كانت المعصية منهما فهو الشَّريك القوي، والقوي أولى بانصاف

ص: 197


1- تصحيح الاعتقاد: ص 13.
2- تصحيح الاعتقاد للمفيد، ص187، 188، بحار الأنوار 5 : 20.ج
3- بحار الأنوار 5 : 17 ح 28.

عبده الضَّعيف.

وإن كانت من العبد فعليه وقع الأمر وإليه يوجَّه المدح والذَّم، وهو أحق بالثَّواب والعقاب"

فقال أبو حنيفة: [ذريَّة بعضها من بعض])(1).

السَّادس: عن استقصاء النَّظر الماضي عن أصبغ بن نباتة قال : قام إلى علي بن أبي طالب عَلَيْهِ السَّلاَمُ شيخ بعد انصرافه من صفين، فقال : أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره؟

قال علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ: والذي فلق الحبة وبرئ النسمة ما وطئنا موطئاً ولا هبطنا وادياً ولا علونا تلعة إلاَّ بقضاء وقدر.

فقال الشَّيخ: عند الله احتسب عناي، ما أرى لي من الأجر شيئاً.

فقال له: مه ! أيها الشَّيخ، بل الله أعظم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون وفيمنصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في حال من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين.

فقال الشيخ وكيف والقضاء والقدر ساقنا؟

فقال: ويحك ظننت قضاء لازماً وقدراً حتماً، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي، ولم يأت لائمَّة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ولا المسيء أولى بالذم من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب، وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها.

إنَّ الله تعالى أمر تخييراً ونهى تحذيراً وكلف يسراً، ولم يكلف عسراً ولم يعص مغلوباً ولم يطع مكرهاً ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثاً ولم يخلق السماوات

ص: 198


1- الاحتجاج للطبرسي 2: 387 - 388، وبحار الأنوار 48: 106.ج

والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النَّار.

فقال الشَّيخ: وما القضاء والقدر اللَّذان ما سرنا إلاَّ بهما.

قال: هو الأمر من الله تعالى والحكم، ثمَّ تلا قوله وقضى ربَّك ألا تعبدوا إلا إيَّاه فنهض الشَّيخ مسروراً وهو يقول:-

أنت الإمام الَّذي نرجو بطاعته * يوم النُّشور من الرحمن رضوانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً * جزاك ربَّك عنَّا فيه إحسانا)(1).

أقول: وهذا عين النَّمط الأوسط مع بيان بعض الحِكم والأسرار.

السَّابع: ما رواه الشَّيخ أبو علي في كتاب الاحتجاج عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ وقد سُئل عن القضاء والقدر فقال: (لا تقولوا وكَّلهم الله إلى أنفسهم فتوهنوه، ولا تقولوا أجبرهم فتظلموه، ولكن قولوا الخير بتوفيق الله والشَّر بخذلان الله، وكل سابق في علم الله)(2).

الثَّامن: ممَّا ورد من الرِّوايات الَّتي تحث على اتِّخاذ النَّمط الأوسط في كل الأمور بعد ما مضى من الآيات، ومنها مورد ما بين الجبر والتَّفويض كما في القول المأثور (أَمْراً بَيْنَ أَمْرَينً وَخَيْرُ الأُمُورً أَوَسَاطًهَا)(3)، وقول الإمام الحسن عَلَيْهِ السَّلاَمُ (اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً)(4).

وهذا ما يستلزم الجمع بين الأمرين الشَّريفين للوصول إلى الحدِّ الوسط المطلوب، وبذلك نحارب الرَّهبنة المقيتة والتَّصوُّف المنحرف والجبر الموجب للكفر،

ص: 199


1- نقله الصدوق في عيون أخبار الرضا: 1 / 139، والبحار: 5 / 75 عن الشافي.
2- احتجاج الطبرسي 1: 311; البحار 5: 95.
3- رواه البيهقي في السنن الكبرى (3/273): بإسناده عن عمرو بن الْحارث، قال عمرو: بَلَغَنًي أَنَّ رَسُولَ اللهً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قال: (أَمْراً بَيْنَ أَمْرَينً وَخَيْرُ الأُمُورً أَوَسَاطًهَا).ج
4- من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق، 3/ 156.ج

ونحارب حالة مطلق الاختيار بلا أن يحد بالمسؤوليَّة كالانغماس في ملاذ الدُّنيا إلى حدِّ ترك الآخرة والفوضى والإباحيَّة والعلمانيَّة ونحو ذلك، كما في رواية أبي علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار... قال: (رأيت أبا عبدالله عَلَيْهِ السَّلاَمُ وعليهقميص غليظ خشن تحت ثيابه، وفوقها جبّة صوف، وفوقها قميص غليظ، فمسستها، فقلت: إنّ الناس يكرهون لباس الصوف، فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: "كلا، كان أبي محمد بن علي عَلَيْهِمُا اَلسَّلاَمُ يلبسها، وكان علي بن الحسين عَلَيْهِمُا اَلسَّلاَمُ يلبسها، وكانوا عَلَيْهِمُا اَلسَّلاَمُ يلبسون أغلظ ثيابهم إذا قاموا إلى الصَّلاة, ونحن نفعل ذلك)(1).

وقد روي أنَّ يهوديَّاً رأى الإمام الحسن عَلَيْهِ السَّلاَمُ في ثياب حسنة أنَّ أباك على عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان يلبس الصوف الخشن وكان ثوبه كثير الرقع، قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان في زمان أبي الفقراء كثر، والآن اغتنى الناس، ثمَّ قال له الإمام هذا لكم وأشار إلى عباءته ورفع العباءة فوجد اليهودي ثياب من الصوف الخشن، وقال هذا لي.

وعلى هذا الأساس قول الشَّاعر:-

وما أحسن الدِّين والدُّنيا إذا اجتمعا *** إلى غير ذلك من الرِّوايات .

الثَّامن: نتيجة البحث وعمليَّة المعالجة لأمور آيات الأحكام

عند وقوع ما يشكل أمره

بعد ما مرَّ تفصيله كثيراً عن مشكلة الجبر والتَّفويض فنتيجة البحث عنهما وعن ردِّهما بالأساليب المتعدِّدة مثل ما يؤدِّيانه من المخاطر الاعتقاديَّة والشَّرعيَّة وإلى حدِّ إيصالهما إلى الكفر بالأدلَّة العقليَّة والنَّقلية من الكتاب ومن السنَّة كانت بإيصال

ص: 200


1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 6، ص 450.

الأمر إلى المنزلة بين المنزلتين.

وهو الموافق لما يطمئن به من الأدلَّة العقليَّة والنَّقليَّة عن القرآن وعن السنَّة من طريق أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كذلك.

لكون أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُهم مدرسة النَّمط الأوسط هذه، وإن اشتركوا مع المعتزلة مسبقاً في العدل الإلهي ضدَّ الأشاعرة والخوارج، إلاَّ أنَّهم فارقوهم حينما أفرطوا وقالوا بالتَّفويض ونحوه.

وبعد ذلك لو حصل للفقيه ما يشغل فكره - حينما يتابع آيات الأحكام ومعها السنَّة المرتبطة بالفقه للبحث والاستنباط ممَّا ظاهره لأوَّل وهلة شيء من الجبر افتراضاً على رأي المجبِّرة من بعض الأدلَّة المزعومة -

فلابدَّ من أن يجعل أمام عينه أدلَّة التَّخيير الَّتي يستدل بها المفوِّضة على رأيهم أيضاً، ليجمع بين الدَّليلين ما يفيد ذلك النَّمط الأوسط.

وكذلك لو حصل له ما يشغل فكره بأدلَّة التَّخيير الَّتي يستدل بها أهل التَّفويض على رأيهم كذلك.

فلابدَّ من أن يجعل أمام عينه ما يضاد مطلق التَّخيير للابديَّة الوصول إلى طريق الوسط العقائدي والتَّكليف الشَّرعي، لعدم إمكان البقاء على خصوص ما يثبت تمام المسؤوليَّة بدون تخيير، ولا على خصوص ما يثبت التَّخيير بدون مسؤوليَّة ومراقبة ولا إمكانيَّة التَّخلِّي عن الاثنين.

وعليه أيضاً اتِّخاذ الوسط الجامع بين الاثنين لاستحالة التَّناقض بين الآيات.

لأنَّ كلا الطَّرفين المتطرِّفين يقولان بصحَّة ورود الآيات الَّتي تمسك بها كل منهما وإمكانيَّة تحقُّق الموِّحد المعنوي من الفريقين واستحالة رضا الشَّارع في البقاء على حيرة من الأمر، لئلا يكون للنَّاس على الله من حجَّة.

وعلى هذا الأساس ونحوه يجب أن يديم الفقيه أمر بحثه واستنباطه.

ص: 201

وقد اهتمَّ أصوليُّوا الفقهاء في أمر الأدلَّة الَّتي قد يظهر من بعضها حينما يضم بعضها إلى بعض حالة التَّناقض أو ما يشبهه في هذا المقام المبحوث عنه وغيره.

ومن أهمِّه حالات ما يجري بين آيات الأحكام نفسها أو ما بينها وبين السنَّة مع الحاجة التَّامَّة إلى كل من هذه النُّصوص وعدم وجود دليل ثالث معوِّض.

فولَّدوا هم وأهل الدِّراية والحديث قاعدة يلتجأ إليها في موارد الحاجة وهي (الجمع مهما أمكن أولى من الطَّرح).

ومن ذلك ما تعطيه الأدلَّة الإرشاديَّة الَّتي قد يؤمن بها حتَّى العامَّة لو خلُّوا وطباعهم.

وقد تزداد هذه الأولويَّة إلى حد وجوب عدم التَّهاون فيها، لصحَّة هذه الأدلَّة ومشهوريَّة العمل بها وترتُّب كثير من المسائل الفرعيَّة المهمَّة عليها.

ص: 202

الفصل الخامس: الفرق بين حجيَّة ظواهر القرآن

ومدى الحاجة إلى ظواهر السنَّة في نفسها لنفسها وللقرآن

إنَّ حجيَّة ظواهر القرآن ثابتة على أساس أدلَّة ذلك الآتية بعد أن كان القرآن قطعي الصدور ظنِّي الدِّلالة في نوعه، وهو ممَّا يحوجنا على الأكثر إلى القول بالظهور والبناء عليه كما مرَّ وقلَّة النصوص فيه، ولو قيل بأنَّ الظن كيف يُبنى عليه؟

فإنَّا نقول إنَّ الظنون على قسمين:-

الأول/ ما نُهي عن العمل به، وهو غير مقصودنا في العمل أو كان مقصوداً ولكنَّه في مورد التَّقيَّة وهي أيضاً لا يبنى عليها إلاَّ في مواردها الخاصَّة لا في بقيَّة الأحوال الاعتياديَّة.

الثاني/ وهو الظن المعتبر، وهو مقصودنا، أو غير المعتبر في نفسه لكنَّه مع قرائن أخرى منضمَّة إليه تجعله معتبراً، وإذا كان عند الشَّك في المكلَّف به تأتي أصالة الاشتغال، لأنَّ اشتغال الذمَّة اليقيني يستدعى الفراغ اليقيني، فكيف إذن بمفاد هذا الظن المعتبر أو ما يشبهه.

وأمَّا السنَّة المعروفة بكونها ظنيَّة الصدور قطعيَّة الدِّلالة فلا فائدة في الحديث عن حجيَّة ظواهرها نوعاً لو لم يكن المراد من ألفاظها قطعيَّاً بعد ظنيَّة الصدور المعتبرة أو الظنيَّتين المعتبرتين صدوراً ودلالة، لمحذور الظنيَّة المركَّبة من كونها كذلك في الصدور والدِّلالة وبالنَّحو الضعيف، إلاَّ إذا قلنا بأقوائيَّة الظنيَّة في صدورها وضعف قطعيَّة الدِّلالة بما يبرز حالة الظهور في لفظها ولم يكن مصدر فقهي آخر غير هذا فلا مانع من الأخذ به وهو له وجوده وإن قل.

نعم يبقى كونها قطعيَّة الدِّلالة كما في بعض المعتبرات وغير المحمولة على التَّقية، فلا حاجة لنا في الكلام عن حجيَّة الظواهر فيها، لأنَّ المقطوع به هنا كالنَّص.

ص: 203

المقام الثَّاني

ما يختص بالكتاب الكريم (القرآن الشَّريف)

وفيه تمهيدان وفصلان:-

التَّمهيد الأوَّل

ركنيَّة كتاب الله تعالى في علم الأصول

قد مرَّت الإشارة عن هذه الرُّكنيَّة في الجزء الأوَّل من المبادئ، وهي هنا تُعد لازمة البيان أصوليَّاً بما يناسبها حول كتاب الله تعالى عموماً وآيات أحكامه العقائديَّة الأصوليَّةوفرعيَّاتها وآيات أحكامه للأصول الفقهيَّة والقواعد الفقهيَّة وفرعيَّات مسائل تلك الفقهيَّات الكليَّة كناية عن الفقه العام خصوصاً، أو عن ما تحمله آيات أحكامه المتعلِّقة بالفقه الشَّرعي قواعد وأحكام كليَّة وجزئيَّة دون غير ذلك بصفة أخص.

هذه الرُّكنيَّة المهمَّة جدَّاً كأوَّل ما يجب أن يُعتمد عليه في هذا القرآن العظيم من ركني مباحث الألفاظ أو أهم الدَّليلين اللَّفظييَّن للخوض في خصوص بحوثه المتميِّزة عن الرُّكن الثَّاني الآتي وهو السنَّة وبحوثها دون الكلام عنهما مشتركاً غير ما سبق في قبال الدَّليلين اللبِّيين الخاص بيانهما في الجزء الرَّابع الآتي ل- (مساعي الوصول).

فلم يكن القرآن الكريم يوماً حسب العقيدة الحقَّة بيننا فيه كلِّه أو بعضه أو أبعاضه من آياته العظيمة المعطاء من لدن ذي الرَّحمة الواسعة -- مهما تباعدت بعض جوانبها وحصصها الموضوعيَّة لكل علم من علومه الوافرة والمتعدِّدة بتعدُّد حاجة

ص: 204

كل البشر لو أراد التَّكامل بتكامل المهتدين إلى جوانب العيش الرَّغيد وإطاعة الخالق تعالى شكراً لأنعمه عن بعض من جوانبها ووجهاتها الاصطلاحيَّة الخاصَّة بكل منها حيث تدعو الحاجة إليها كلاًّ أو بعضاً --

بمعزل عمَّا لو أريد الكلام عن علاقة خصوص علم الأصول بخصوص آيات الأحكام البارزة كثيراً جدَّاً في هذا العلم أو ما هو الأعم من آيات الأحكام الفرعيَّة للفقه الأصولي الشَّريف أو الأحكام الكليَّة للفقه الضَّروري أو النَّظري أو الأعم من ذلك كآيات القواعد الفقهيَّة أو الأصوليَّة.

لأهميَّة فهم أنَّ هذا القرآن العزيز وبكل ما فيه من شؤون الحياة الشَّريفة للنَّشأتين.

أنَّها لم تخرج يوماً أو بعض يوم بالمباشرة أو التَّسبيب عن أحكام الشَّرع الشَّامل للجميع لو أهتدى أهل البصائر إلى الحق وشكر أنعمه تعالى وكما قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ](1)، وحول عموم واطلاق ما أتحفنا الله تعالى به من كتابه الرُّكن الأركن من حيث العموم الشَّامل لما نريد حيث قال تعالى [مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ](2)، وقال أيضاً [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ](3)، وغيرهما.

ومن أهم ذلك ما خصصناه بالذِّكر في بحث ركنيَّة الكتاب ومن آيات ما يرتبط بالتَّفقُّه عن الأصول قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ

ص: 205


1- سورة الذاريات / آية 56.
2- سورة الأنعام / آية 38.
3- سورة النحل / آية 89.

يَحْذَرُونَ](1)، وبما تطمئن به كل نفس مطمئنَّة بأقوائيَّة حجيَّة هذا القرآن الآتية فيما يخص الحجيَّة بطبقاتها من البحوث بعد هذا الجزء.

وهو الأسمى في ركنيَّته على الأركان الباقية وهي (السنَّة والإجماع والعقل) بتواتره وغيره من المطمئنَّات وكما سيأتي الكلام عن بقيَّة ما يجب ذكره من بحوث الحجج آتياً، وكما قال تعالى في هذا الأمر [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ](2) وبكمال الاستدلال بآياته الخاصَّة من النُّصوص والمحكمات في المقام الخاص والأكثر.

ولذلك لابدَّ أن ينظر في تلك الآيات عند تلاوتها بعد تعلُّمها المتقن الأوَّل ابتداءاً عند الماهرين من القرَّاء الحاوين لقواعد ذلك الأدبيَّة النَّاعمة والخشنة.

بالتَّأمُّل والإمعان عن الخبرة المطلوبة من طلاَّب العلم الأفاضل.

وإن كان هذا النُّظر قد يتفاوت بحسب تفاوت الطبقات العلميَّة وبتفاوت بعض أبعاض هذا الرُّكن العظيم عن بعضها الآخر لبعض الاعتبارات الخاصَّة في قلَّة الإصابة للهدف أو الكثرة أو الأكثر وبسبب تعدُّد الطُّرق الأصوليَّة الموصلة أو ما يفوقها من الحذاقة الذَّاتيَّةالقدسيَّة من محرزاتها الاعتباريَّة المحترمة عند الخوض في كل مسألة أصوليَّة عند تطابقها مع كل القدرات لتسهيل أمر الاستنباط الصَّحيح للفقاهة النَّاجحة.

ليكون هذا الرُّكن كما عرف في إمكان انفراده في حلِّ الأمور الخاصَّة به أو بمعونة تفسير القرآن بالقرآن أو بمعونة اشتراك الرِّوايات معه تأويلاً لمعرفة قوَّة المؤوَّل من معاني آياته إن أمكن من طرق أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ المعتبرة، أو حتَّى الأكثر من الإجماع والعقل، وكذا الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل الآتية في محلِّها

ص: 206


1- سورة التوبة / آية 122.
2- سورة البقرة / آية 2.

لمعرفة بقيَّة المعاني.

وللحكمة الَّتي انتبه إليها الفطاحل من علماءنا نتيجة للحاجة الماسَّة ومن بعض ما أشارت إليه مؤشِّرات كلمات الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من الحاجة إلى ما يتناسب مع البعد كثيراً عن زمن الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وحواريهم وما تسبَّب منه من تبعثر الأصول الأربعمائة وغير ذلك.

جاء دور التَّوسُّع من قبل الأصوليِّين منهم بما يزيد كثيراً على عناوين أصولهم، وتوسَّعنا نحن هنا معهم على ديدنهم للفوز معهم بما فازوا أو يفوزون به إن حالفنا التَّوفيق معهم إلى شيء من ذلك.

وعند ظهور الفوائد من هذه التَّوسعة لابدَّ وأن يكون الفوز محرزاً بالدَّرجة الأولى بهذا الرُّكن لشموليَّته وسعته، سواء كانت آياته من النُّصوص والمحكمات أو المجملات والمتشابهات كما سيتَّضح، وكما سلف ذكره في الجزء الأوَّل.

فهو الَّذي لابدَّ وأن يرجع إليه عند الحيرة في نصوصه ومحكماته الفقهيَّة عن تلك الأصول إن اتَّضحت فوائدها بالعنوان الأوَّلي، وكذلك ما كان بالعنوان الثَّانوي لو لم يبد إلاَّ الحكم الظَّاهري أو الأضعف ممَّا يمكن قبوله لو صدَّت القدرة عن الحكم الواقعي إن لم يتمكَّن من الأخذ حتَّى بذلك الظاهر على ما سيجيء ذكره من جواز الأخذ بأضعف ما يمكن أن يحتج به.

ومن ذلك بعض حالات تفسير القرآن بالقرآن أو حتَّى ما يمكن تسميته من الأحكام بما تحت العنوان الثَّالث رتبة دانية إن أمكن وصحَّ الاستدلال به عند بعض الانسدادات لجوءاً إلى إرشاديَّات بعض الآيات للعقول كي يتصرَّف في الأمر المشكل كما في بعض أبواب الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل.

وممَّا يمكن أن يلحق بالعناوين الأوليَّة والثَّانويَّة ما أفاده القرآن الكريم من آيات أحكامه بمعونة السنَّة تأويلاً أو تفسيراً عن طريق الإتِّباع لما أصَّله النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأهل بيته

ص: 207

الأطهار والأئمَّة الأبرار عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من مثل حديث الثَّقلين ونحوه قولاً وفعلاً وتقريراً تأويلاً وتفسيراً لإقامة الحجَّة وإتمام المحجَّة القرآنيَّة الكاملة بذلك عن خصوص طريقهم لأنَّه تعالى كما قال [لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ](1)، ولأنَّ بقيَّة المدارك سائرة في مناهجها تحت ظلِّه.

ثمَّ قد أوضح تعالى مرجعيَّته لهذا الرُّكن بالمباشرة الواضحة ومع التَّسبيب الهام في مجملاته من السنَّة وما ورثه أهل البيت الطَّاهر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عن علم النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً](2).

وأكَّد هذا تعالى أيضاً بما يُعطي حتماً صدق هذا الأمر مقابل المخالفين لو طبِّق كما في الآية آنفة الذِّكر وكما يطابق التَّفسير والتَّأويل الصَّحيحين بقوله تعالى الآخر [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً](3).

لكون النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وصفوته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ هم القرآن النَّاطق وكما أثبتته بحوث القواعد الحقَّة الَّتي ليس هنا محلها.

وأنَّ هذه الآية الشَّريفة الثَّانية الَّتي تلك الآية الَّتي سبقتها تكون داخلة حتماً في النَّتيجة المضمونة النَّجاح كما مرَّ عند كل استنباط أصولي مستقيم وكما عُرف صحيحاً عن أهل بيت العصمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وعن صادقهم عَلَيْهِ السَّلاَمُ قوله (إنَّما علينا أن نلقي

ص: 208


1- سورة فصلت / آية 42.
2- سورة النساء / آية 59.
3- سورة النساء / آية 83.

إليكم الأصول وعليكم أن تفرِّعوا)(1) وعن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ (علينا إلقاء الأصول وعليكم التَّفريع)(2).

وعلى فرض ادِّعاء بعض الجهلاء والمخالفين والمنافقين بأنَّ بعض الآيات الَّتي مرَّت ترتبط بعهود الأنبياء السَّابقين فكيف يُراد منها ما يرتبط بأمور ما عرضه لنا نبيُّنا صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأهل بيته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ حول شؤون فقه الإسلام وأصوله؟

فإنَّه لابدَّ وأن يرد ذلك بأمرين غير خفيَّين على أهل التَّتبُّع والإنصاف:-

أحدهما: كون شرائع السَّماء واحدة في طرقها وجواهرها مع مضامين ركننا الأركن، وسيِّد وحي الله واحد على جميع الرُّسل وسيِّدهم الخاتم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.

ثانيهما: أنَّ مفاد كل وارد في القرآن الكريم لا يُخصِّص المورد، ولأنَّ أسباب نزول الآيات الواردة عن القديم للاستشهاد بها ما كانت ولن تكون إلاَّ لتحقيق مسبِّباتها في ظل الإسلام، ومن ذلك كشف الآية الثَّانية للمراد من الأولى.

وعلى هذا لابدَّ من التَّهيؤ لوضع العناوين المناسبة لمقام قرآن الأصول والفقه وما يتفرَّع عنه من بحوث مناسبة معتادة أم غير معتادة قد كشفته حقائق الأصول.

فإنَّ شأنيَّة هذه الرُّكنيَّة تتكوَّن في أمور مهمَّة، وهي ذات عناوين جسيمة، منها (الكلام عن فضل القرآن الكريم) ومختصر الإشادة به قرآنيَّاً آيات باهرات، ومن السنَّة الشَّريفة خيرة الرِّوايات المتواترات والمعتبرات، ليذكر الباقي في أمور الحجيَّة وطبقاتها مستقبلاً.

ففي ضمن ما تفيده أدلَّة الإشادة هو أهميَّة حثِّها البالغ على قراءة آياته وتعلُّمها والتَّدبُّر لمعانيها العالية الَّتي لن تغترب عن ذهن كل عربي أصيل أو متعلِّم طبيعي ناجح في تعلُّمه لفقه آيات أحكامه الأصيلة الَّتي نزلت نصوصها وظواهرها العظيمة

ص: 209


1- وسائل الشِّيعة: ج18 ص41 باب 6 ح 51.
2- وسائل الشِّيعة: ج18 ص41 باب 6 ح 52.

على مستواها المألوف والمعروف والأعلى كثيراً من نسق ضبطها وتأليفها الإلهي الرِّسالي الهادي للآخرين، الَّذي لابدَّ أن تظهر ثماره عند التَّعلُّم لذوي الذَّكاء التَّعليمي من جدِّيَّته وما يحقِّق فوائدها من الشُّروط.

فضلاً عن من تفتَّحت لأجله أذهان الآخرين من الأذكياء المفرطين طبيعيَّاً لا تعليميَّاً لهذا التَّدبُّر ولجميع ما تتنوَّر القلوب به من أنوار دروب الهدايات الأخرى غير المحتسبة، سواء وجوه المضامين السَّبعة إن تعدَّدت على مستوى القراءات أو السَّبعين على ما فصِّل في محلِّه للمقام الخاص به.

قال تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا](1) وقال أيضاً [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا](2)، وقال أيضاً [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ](3)، وقال أيضاً [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ](4)، وقال أيضاً [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ](5)، وقال أيضاً [أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ](6)، وقال أيضاً [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ](7)، وقال أيضاً [فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ](8)..

ص: 210


1- سورة النساء / آية 82.
2- سورة محمد / آية 24.
3- سورة الأعراف / آية 204.
4- سورة ص / آية 29.
5- سورة البقرة / آية 121.
6- سورة المؤمنون / آية 68.
7- سورة القمر/ آية 17.
8- سورة الدخان/ آية 58.

وفي الحديث عن ابن عبَّاس عن النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنه قال: (أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه)(1).

وعن أبي عبد الرحمن السَّلمي قال: (حدثنا من كان يقرئنا من الصحابة أنَّهم كانوا يأخذون من رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتَّى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل)(2).

وعن عثمان وابن مسعود وأبي: (أنَّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتَّى يتعلموا ما فيها من العمل فيعلمهم القرآن والعمل جميعا)(3).

وقال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ (ألا أُخبركم بالفقيه؟ من لم يقنِّط النَّاس من رحمة الله, ولميؤمنهم من عذاب الله, ولم يؤيسهم من روحِ الله, ولم يرخِّص في معاصي الله, ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره, ألا لا خير في علم ليس فيه تفهُّم, ألا لا خيرَ في قراءة ليس فيها تدبُّر, ألا لا خيرَ في عبادةٍ ليس فيها تفقُّه، ألا لا خير في نسك لا ورع فيه)(4).

وعن الإمام علي بن الحسين قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ (آيات القرآن خزائن، فكلَّما فتحت خزانة، فينبغي لك أن تنظر ما فيها)(5).

وعن الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: (إنَّ هذا القرآن فيه منار الهُدى ومصابيح الدُّجى فليجْل جال بصره ويفتح للضياءِ نظره فإنَّ التفكّر حياة قلب البصير، كما

ص: 211


1- بحار الأنوار: 92 / 106، البا ب: 9، الحديث: 1.
2- تفسير القرطبي: 1 / 6.
3- أصول الكافي- الشيخ الكليني - كتاب فضل القرآن.
4- نفس المصدر ج1 ص36.
5- نفس المصدر ج2 ص609، الحديث: 2.

يمشي المستنير في الظلمات بالنُّور)(1).

وفي الحديث عن أَبي عبد الله جعفر بن محمَّد الصَّادق صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في قوله تعالى [الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ] قَالَ: (يرتلون آياته ويتفهَّمون معانيه ويعملون بأَحكامه ويرجون وعده ويخشون عذابه و يتمثَّلون قِصَصه ويَعتبرونَ أَمثاله ويَأْتونَ أَوامره ويَجتنبون نواهيه ما هو واللهِ بحفظِ آياته وسرد حروفه وتلاوة سوره ودَرس أَعشاره وأَخماسه حفظوا حروفه وأَضاعوا حدوده وإنَّما هو تَدبُّر آياته يقول الله تعالى كتاب أَنزلناه إليك مبارك ليدَّبروا آياته)(2).

وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ أيضاً يقول: (قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قَائِده وإمامه يحل حيث حَلَّ ثقله وينزل حيث كان منزله)(3).

إلى غير هذا من المنبِّهات من الكتاب والسنَّة العامَّة والخاصَّة لأهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الَّتي أعطت وتعطي بقرارها المتلائم لفظاً ومعنى كل طالب علم حوزوي مطبِّق له تماماً في بدايات تحصيله العلمي ضماناً محرزاً لنجاحه التَّام في اجتهاداته الكاملة فيه فقهاً وأصولاً ونحوهما.

كيف وإمامنا أمير المؤمنين علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ صاحب المبادرات القصوى هو والزَّهراء عَلَيْهِ السَّلاَمُ وبقيَّة أبناءهما الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في دقَّة تطبيقاتهم لهذه الأمور عن الله ورسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من نعومة أظفارهم.

ولذلك كان لهم الفوز في قصب السَّبق في تمام أموره فاستحقُّوا درجات أن يعطونا تعاليم هذه الأمور، ولذا كان من تلك التَّوجيهات الشَّريفة ما قاله أمير المؤمنين "سلام الله عليه" (لقد علَّمني رسول الله ألف باب من الحلال والحرام، ومما

ص: 212


1- أصول الكافي - الشيخ الكليني - ج2 ص600.
2- مجموعة ورام: ج2 ص237.
3- نهج البلاغة: في خطبة له عَلَيْهِ السَّلاَمُ في بيان صفة المتقين وصفات الفسَّاق.

كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، كل باب منها يفتح ألف باب)(1) وقيل (ألف ألف باب حتى علمت علم المناياوالبلايا وفصل الخطاب)(2).

ولذا كان بسبب تطبيق إرشاداتهم ونصائحهم من سائر الأمَّة ومن كل المذاهب من بكَّر في نضوجه العلمي وبتفوَّق باهر فيه دون سنِّ البلوغ وهم في كثرة والحمد لله من أتباع أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

ص: 213


1- تأريخ ابن عساكر: ج2 ص483 - 484، تحت رقم : 1012، ط2، والجويني في فرائد السمطين 1 : 101 / 70، والمتقي في كنز العمال 13 : 114 / 36372، والحافظ المغربي في (فتح الملك العلي) : 48.
2- الخصال ج2 ص173 و 174.

التَّمهيد الثَّاني

دستوريَّة القرآن الكريم لكل شؤون الحياة

ومنها التَّعاليم الفقهيَّة الشَّرعيَّة

لا شكَّ ولا ريب لكل مسلم ومؤمن واع بل حتَّى غيرهما من الوعاة الصَّادقين من أهل التتبُّع والإنصاف من الأخوة العامَّة بأنَّ القرآن الكريم المنزل على نبيِّنا صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بتواتره الإعجازي محفوظ من كل شائبة وبأفصح وأبلغ ما نطق به العرب من قريش.

قد جاء حاوياً تحف الحياة الإسلاميَّة العامَّة والخاصَّة مع تمام الإنسانيَّة المثلى معرباً عن جميع ما حوته الكتب السَّماويَّة السَّابقة أبان صدقها وسلامتها الأساسيَّة عن لسان الوحي المبين آنذاك للأنبياء السَّابقين ومحسِّنات إضافيَّة حتَّى مع إجماله ومحفوظيَّته عن الخاتم الصَّادق الأمين صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بما لم تحفظ به البقيَّة السَّابقة بمثل حفظه.

ممَّا سبَّب القول بنسخ التَّمسُّك بوجوب العمل بمنهجيَّة الدِّيانات السَّابقة وإن كانت سماويَّة، بل بحرمته، دون التَّمسُّك بإسلامنا العظيم، لقوله تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ](1)، وقوله تعالى [أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ](2) وقوله تعالى [إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ](3) وغيره.

ولا شكَّ أن هذه الدستوريَّة للقرآن ومرجعيَّته للحياة الإسلامية بصورة عامَّة -- بما فيها اهتمامه بشؤون السيَّاسة والحكم ومفاهيمها المتعدِّدة من الولاية والخلافة

ص: 214


1- سورة آل عمران / آية 19.
2- سورة آل عمران / آية 83.
3- سورة يوسف / آية 40.

والتَّمكين من الأرض والشُّورى وتحديد شكليَّة الدَّولة المسلمة وطبيعة عملها ووضع أسسها ومقاصدها -- مشمولة بالهداية الربَّانيَّة.

ولأنَّها المحكمة والصَّالحة الَّتي تتجلى في مثل قول الله عزَّ وجل [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا * وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ](1).

وقوله تعالى [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ](2).

وقوله تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً](3).

وذلك لمعالجته من نفسه بدون أي قدرة من أحد مهما أوتي من قابليَّة أو فعليَّة على إيجاد أي تعارض أو تناقض في نفسه من نفسه لسلامته الذَّاتيَّة وعصمته السَّماويَّة على ما سيجيء بيانه قريباً جدَّاً، كشرح الآيات بالآيات أو الآيات بالمعتبر من الرِّوايات النَّبويَّة الشَّريفة عن الثِّقل الثَّاني الآتي من العترة المطهَّرة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ تفسيراً وتأويلاً في الحديث المتواتر بين الفريقين المعروف بحديث الثَّقلين، ضدَّ من ابتدع بقول

ص: 215


1- سورة المائدة / آية 48، 49، 50.
2- سورة الجاثية / آية 18، 19، 20.
3- سورة النساء / آية 105.

(حسبنا كتاب الله)(1)، ليقيس ويستحسن من رأيه حتَّى مع الفارق ونحو ذلك.

إذ بهما علاج أمور الأوامر والنَّواهي والعام والخاص والمطلق والمقيَّد والمجمل والمبيَّن والنَّص والظاهر والمنطوق والمفهوم والمحكم والمتشابه والنَّاسخ والمنسوخ وغير ذلك ممَّا مرَّ ذكره.

وعن طريقهما تمَّ حفظ هذا القرآن ليكون دستوراً وافياً حتَّى صدق هذا الحفظ بقوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ](2).

وتوضيح ذلك أيضاً من حديث الثَّقلين المشار إليه في لفظه المعتبر بقول النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ( وإنَّهما - القرآن والعترة - لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(3).وخير شاهد على ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين "سلام الله عليه" أنَّه (لمَّا بعث عبد الله بن عبَّاس للاحتجاج على الخوارج قال له عَلَيْهِ السَّلاَمُ "لا تخاصمهم بالقرآن فإنَّ القرآن حمَّال أوجه، ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنَّة، فإنَّهم لن يجدوا عنها محيصا")(4).

وبما لا خيار في مخالفة هذه الدُّستوريَّة للعالم كلِّه زماناً ومكاناً ضدَّ كل وضع وابتداع وحداثة واختراع، ولم تغب معالمه العظيمة بعد عصر النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة الحفظة الكرام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ حتَّى عن حواريهم الأشراف ومنهم النوَّاب الأربعة في الغيبة

ص: 216


1- صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عني.ج
2- سورة الحجر / آية 9.
3- القندوزي الحنفي في ينابيع المودَّة ص 15 من طرق شتى، وأخرج ص 16 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786).
4- نهج البلاغة: 3/ 136، وعزاه السُّيوطي في الإتقان إلى طبقات ابن سعد. راجع الإتقان في علوم القرآن ج1/ص409 إلى ص417.

الصغرى وحتَّى الفقهاء العظماء في الغيبة الكبرى للإمام المفدَّى المنتظر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ.

وأهم ما ينبغي التَّنبيه عليه والإشارة إليه حول هذه الدُّستوريَّة هو ما فيه من قيم إسلاميَّة ذاتية عظيمة، مع مضغوطيَّاته الإيجازيَّة الإعجازيَّة بالنَّحو الَّذي لا يحل رموزها إلاَّ النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وعترته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

وهي في الحقيقة قيم إنسانية تدل عليها فطرة الله التي فطر الناس عليها قبل أن تتلوث تلك الفطرة بالملوثات العقائديَّة والأخلاقية المستوردة والمبثوثة من خيانة الدَّاخل ومحاربات الخارج، يقول الله عزَّ وجل [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ](1).

إضافة إلى الأمور الفقهيَّة الشَّرعيَّة للأحكام التَّكليفيَّة بعد العقائديَّة وما يلحق بها من بقيَّة تصرُّفات الحياة الأخرى دينيَّة ودنيويَّة.

ولن ننسى ما هو غير خفي على المتتبِّع والمطلِّع على عظمة الكتب السَّماويَّة بصورة عامَّة والقرآن الكريم بصورة خاصَّة أن نذكر ونستشهد بما نقل مترجماً عن إقرار واعتراف مجموعة غير قليلة من علماء الغرب في بيان أهميَّة هذا الكتاب الإلهي العريق ولو كان في كثير منها بعض الإجمال، إضافة إلى ما سبق ذكره من مدح الوليد ابن المغيرة (لع) بما يفي.

ردَّاً على كل من يحاول المقارنة أو المفاضلة بينه (الكتاب الشَّريف) وبين الدَّساتير الوضعيَّة من البشر الَّتي جُلُّ اهتمامه هو ما يخدم المصالح الظاهريَّة الجوفاء الَّتي من المستحيل أن تستوعب جميع مصالح النَّاس وشؤونهم الحياتيَّة الخاصَّة والعامَّة.

ص: 217


1- سورة الروم / آية 30، 31، 32.ج

أو لرد كل من يُشكِّك في قدرة هذا الدُّستور العظيم (القرآن الكريم) على تنظيم جميع شؤون الحياة، والَّذين منهم:-

1 -- ألبرت أينشتاين ((1879--1955م)) (ليس القرآن كتاب جبر ولا هندسة و لاحساب، بل هو مجموعة من قوانين الَّتي تهدي النَّاس إلى صراط مستقيم صراط الَّذي عجر الكبار الفلاسفة عن تعيينه).

أقول: هذا القول صحيح في أواخره، ولكن صاحبه أخطأ في تشخيص جامعيَّة القرآن لما سبقها من بقيَّة العلوم.

2 -- ويل دورانت ((ولد في سنة 1885)) (إنَّ السُّلوك الدِّيني في القرآن يشمل السُّلوك الدُّنيوي أيضاً وجميع الأمور قد جاءت من قبل الله عن طريق الوحي يحتوي قوانين من الأدب والصحَّة والزَّواج والطَّلاق والمعاشرة مع الأبناء والحيوانات والعبيد والتِّجارة والسِّياسة والرِّبا والدَّين والعقود والوصايا والصناعة والثروة والجزاء والحرب والسلم.

إنَّ القرآن يعطي عقائد سهلة بعيدة عن الإبهام في النُّفوس البسيطة ويحرِّرهم من العادات المذمومة كعبادة الأصنام والكهانة.

هو القرآن الَّذي يحكم أصول نظام المجتمع والوحدة الاجتماعية بين المسلمين).

أقول: حتَّى لغير المسلمين بإعجازيَّاته السَّماويَّة ووضعيَّاً مأذوناً فيه بما لا يمتنع شرعاً من العقل المستقل، فضلاً عن غيره، لهدايتهم إلى الحق ولو إنسانيَّاً.

3 - نابليون بونابارت ((1769 -- 1821م)) (إنَّ القرآن وحده يضمن سعادة البشر، إنَّني آمل في المستقبل القريب أن أجعل جميع العلماء والمثقفين من جميع أنحاء العالم أن يتَّحدوا على نظام واحد فقط على أساس أصول القرآن الكريم الَّذي هو حقيقة أصليَّة والَّذي يقود النَّاس إلى السَّعادة.

أقول: كما بشَّرت به الكتب السَّماويَّة السَّابقة توراة وإنجيلاً وبقيَّة الصُّحف

ص: 218

والألواح.

4 - قال غوته الشاعر الألماني ((1832)) (إنَّ الرُّهبان الغافلين عن الله حرمونا وأبعدونا عن فهم حقائق القرآن وعظمة من جاء به على مرَّ الزَّمان، لكن على أثر التَّقدُّم العلمي عن قريب يتوجَّه النَّاس إلى هذا الكتاب ويكون محوراً لأفكار الجميع).

أقول: لجامعيَّته العلميَّة كما في نقضنا على الشَّاهد الأوَّل بعدمها مع بقاء الحاجة إلى الرَّوحانيَّة المثلى بين يدي الله بدل الرَّهبانيَّة المبتدعة وبدل التَّجرُّد اليهودي غير المنضبط.

5 - دكتور ماركس ((1818 -- 1883م)) (القرآن يحتوي على جميع الرِّسالات الإلهيَّة الموجودة في الكتب المقدَّسة الَّتي جاءت بشكل عام إلى جميع الأمم أن في القرآن آيات حول طلب العلم والتَّفكُّر والتَّدرس ولابدَّ عليَّ أن اعترف أنَّ هذا الكتاب قد صحَّح كثيراً من اشتباهات البشر).

أقول: وصحَّة هذا القول منوطة بحالة اشتباهات البشر المذكورة حتَّى مع القول المزعوم بسلامة تلك الكتب السَّماويَّة القديمة ككثير من إنجيل برنابا فضلاً عن تحريف أكثرها وخرَّاب الكنائس والتَّلوث بالتَّثليث والتَّمكين من الغزو الاستعماري لبلاد الاعتدال الإسلامي وإشاعة الفوضى المخرِّبة له ونحو ذلك.

إلى غير ذلك من الكثير من المقولات الَّتي تعبِّر عن اهتمامات المفكرِّين في منهجيَّةهذه الرِّسالة السَّماوية الجليلة لحياة البشريَّة بصورة عامَّة.

لذا كان لزاماً على أصولُّيي وفقهاء مذاهب الأمَّة الإسلاميَّة الكرام جعل هذا الدُّستور هو الرُّكن الأوَّل للأركان الأربعة المتعارفة في الاستدلال على التَّفاصيل الَّتي بينَّا ما مضى منها ونبيَّن ما يأتي بمعونة الرُّكن الثَّاني وغيره وتفريعاتها الأصوليَّة المتعارفة عند الأصوليِّين وعند خبراء الفقهاء المجتهدين بإذن الله تعالى.

ص: 219

ونحن قد ذكرنا هذا المطلب عنواناً ومعنوناً بداية لشيء من التَّوسُع الأصولي لأمور خصوص دليليَّة هذا الرُّكن الأوَّل وآيات أحكامه حتَّى نهاية ما أردناه من ذلك وهو المسمَّى بالدَّليل اللَّفظي.

ومن بعده الرُّكن الثَّاني وهو الدَّليل اللَّفظي الآتي أيضاً وهو السنَّة وما يتبعها من تفريعات في هذا الجزء وإلى الرَّابع الآتي عن الدَّليلين اللبِّيين.

ونحن على ضوء هذه الأساسيَّات حاولنا -- وعلى نهج ما قد يغاير الأسلوب الأكاديمي، لأهميَّته الحوزويَّة في دقَّته لابتدائه من العلَّة إلى المعلول عكس الأكاديمي المعروف بسطحيَّته -- تدوين ما يؤسِّس صحَّة التَّفريع للدُّستور العراقي وغيره ممَّا يرضي الآخرين إقليميَّاً إن اهتدوا والأوسع عند الحاجة.

بما يطابق شرع الله استدلالاً ونتيجة للحاجة الماسَّة إلى ذلك بعد الخلاص من العهد الطَّاغوتي الماضي في العام الثَّالث الماضي بعد الألفين لترجِّي الوصول بذلك منَّا أو من خير ما كتبه الآخرون عن مثل ما أردنا من تقديم واجب الخدمات إلى نصرة المستضعفين فيه وفي غيره دينيَّاً وولائيَّاً وإنسانيَّاً .

لقوَّة ما تنطبق عليه الحجَّة القانونيَّة الموافقة لشرعيَّات كتاب الله ورسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وإلهيَّات أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وإنسانيَّاتهم الَّتي جعل بعضها ناموساً ومثلاً يضرب به حتَّى في هيئة الأمم المتَّحدة الحاليَّة الَّتي علَّقت على أروقتها ما ورد مأثوراً عن مولى الموحِّدين والإنسانيِّين "سلام الله عليه" في وصيَّته لمالك الأشتر "رضوان الله عليه" (النَّاس صنفان إمَّا أخ لك في الدِّين أو نظير لك في الخلق).

أقول: إن سمح في تطبيقه كما يرام.

وقد طبع بعض ما كتبناه سابقاً كمسودَّة للدُّستور تنضيديَّاً لمضامينه، وبقي الباقي مخطوطاً ينتظر الفرصة السَّانحة لطباعته الكاملة.

ولأجله ولأجل ما شابهه استفادة وأداءاً وتطبيقيَّاً في نجاحه تكون جميع

ص: 220

التَّدوينات المغايرة للقوانين الإسلاميَّة المدَّعاة جوهريَّاً وشكليَّاً وإن تشبَّثت ببعض الإنسانيَّات والحريَّات المزِّيفة بدعارتها كالفرنسيَّة باسم الحريَّة أو الاتِّحاد الخانق إفراطاً أو تفريطاً كالبريطاني ودعاياته المزيَّفة بمكيدة النَّظريَّة السِّياسيَّة المعروفة (فرِّق تسد) وغيرهما من عناوين الخداع الماكر للشُّعوب سياسيَّاً وحزبيَّاً من التَّيارات المتطرِّفة الأخرى مع تيًّارات الوهابيَّة وأشباهها.

فهي مخالفة للعدالة بجميع أنواعها لأنَّ مدارك تدوينها وضعيَّة ملاكها العقل المستقل المرتبط بالأهواء النَّفسيَّة والنَّزعات الشَّيطانيَّة التَّكالبيَّة على غنائم الآمنين.نسأل الله تعالى أن يحقِّق ما نرتجيه بتكاتف الشُّرفاء من المسلمين والمؤمنين والإنسانيِّين من ذوي غايات الاعتدال والإنصاف، للسَّير على منهجيَّة جميع أوامره وترك نواهيه، على ضوء ما حاولناه وحاوله النَّاجحون في حسن أساليبهم من خصوص ما ينتظر التَّطبيق العملي لا القولي أو ألمكتوب في القراطيس فقط بما تتفِّق عليه ثوابت الاثنين إيجابيَّاً، لاجتناب المطامع الشَّخصيَّة ولو بالَّذي يتيسَّر إنجاحه إلى أن يظهر الإمام المنتظر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ.

ص: 221

الفصل الأوَّل

الاحتجاج بالكتاب الكريم من آياته

على مدِّعي الانسداد الكبير للأحكام جهلاً عقلاً وشرعاً

مقدِّمة:-

لمَّا كانت علميَّة القرآن الكريم وبالأخص آيات أحكامه العامَّة والخاصَّة والأخص هي الَّتي يعتمد عليها في الواقع الشَّرعي دستوريَّاً دون شيء آخر من المدارك الأخرى الثَّلاثة إلاَّ بأن تكون خاضعة وتابعة لها.

فقد ظهر في التَّأريخ العلمي الإسلامي من بين جميع المدارس والمذاهب الإسلاميَّة الخمسة والأكثر سنيَّة وشيعيَّة أو في خط أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بما يسمَّى ب- (الانفتاح الكبير) وما يسمَّى ب- (الانسداد الكبير) وبينهما القول بالتَّوسعة أو التَّضييق المتوسِّط بين الحالتين.

بما قد يتفاوت عند التَّحقُّق بما عند كل من هذه المذاهب على ما صحَّ أو يصح الأخذ به من الأصول والقواعد المعروفة على النِّسبة المؤكَّدة الصَّافية ممَّا بين الانفتاح والانسداد علماً وعلميَّاً نصوصاً وظواهر من كافَّة جوانب المدرك وهو الأركن الأوَّل وما يتبعه ويخضع له من الأركان الثَّلاثة الباقية، لمعرفة المقدار الحق المتبَّع عند الجميع إن أمكن التَّوصُّل أو على أساس من الإصلاحيَّات الموصلة لإنجاح التَّقريب أو التَّقارب، لتكون النَّتيجة الاجتهاديَّة الموحِّدة أو القريبة جهد الإمكان، إضافة إلى الثَّوابت المعلومة عند الجميع.

هي أفضل ما يحصل التَّوصُّل إليه عند الجميع نوعاً.

ص: 222

على أمل أن نتمِّم بقيَّة ما يتبع هذا البحث المهم من البحوث المهمَّة أيضاً والنَّافعة جدَّاً في الجزء الرَّابع بعد الفراغ من أمور المدركين اللبيِّين، فنقول:-

ليس لمدِّعي الانسداد الكبير علماً وعلميَّاً ونحوهما من المعتبرات الاستناديَّة الاصطلاحيَّة من جهلة العلمانيِّين ووضَّاعي القوانين الغريبة والبعيدين كل المبعد عن نفائس القرآن الكريم -- خزانة الحجج والإعجازيَّات -- إلاَّ المكابرة الحمقاء والشَّطط الخارق تشريقاً وتغريباً في أجواء حضيض الجهالة ما داموا في عنادهم --- ضدَّ استفراغ الوسع الشَّريف -- أعداء ما جهلوا، وإن ادَّعوا الإسلام أو بعضهم جهلاً أو لفَّقوا بينه وبين غيره من الأفكار التَّحرِّريَّة الضَّالَّة أو ادَّعوا الانتماء إلى دستوريَّة كتابه سطحيَّاً ليفسِّروه بما تشاؤه تصوُّراتهم المختلفة كثيراً عن جواهر وحي السَّماء الموحى بها إلى الرَّسول الصَّادق الأمين صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والمبعوث لهذه الأمَّة المرحومة الَّتي ضيِّعت للأسف أكثرها نفسها بين المنافقين الَّذين كانوا معه إلاَّ بعد تبليغه في غدير خم بفحوى خلافة أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ صاحب الولاية العظمى وحده دون المعارضين والمختومة بقوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا](1).

فليس لهم أي مجال لادِّعاء هذا الانسداد ما دامت سعة عبائر آياته أو سعة آفاقها ومضامينها وإن ضاقت ألفاظها بالإجمال الحكيم.

وكذا طرق الاستفادة المتعدِّدة أدبيَّاً وعلميَّاً غير خفيَّة بالدَّرجة الأولى عن الَّذين خوطبوا به في ديارهم من ديار وحي الله و (صاحب الدَّار أدرى بما فيها) وبالدَّرجة التَّالية البضعة الطَّاهرة عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأبناءها الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ والدَّرجة الَّتي تليها من تعلَّم منهم من حواريهم كل ذوي الدَّرجات التَّالية.

بينما الآخرون من المخالفين ممَّن عاصرهم واستقى من جاهليَّات المخالفة

ص: 223


1- سورة المائدة / آية 3.

والأفكار المشَّوشة عن أمثالهم.

وكذا من جاء بعدهم حتَّى اليوم فأقل ما يوصفون به ممَّا ابتلوا به أنَّهم (أعداء ما جهلوا).

وبالأخص إن خلطوا في نقاشهم في تقييماتهم الفكريَّة للأمور بين العقل المقيَّد بموازين خير المعقول وما لا يُعاب عليه في الشَّرع وبين العقل المتحرِّر من كلِّ تقيُّد ديني وإنساني ونحوهما كموازين بعض عقول الفلاسفة غير المتقيِّدين بالدِّين والقيم الإنسانيَّة أو حتَّى السَّفسطائيِّين ممَّن شذُّوا وإن تسطَّحوا بشعار الإسلام ديناً لهم كعادة اعتادوا عليها أو للتَّغطية على شذوذهم.

إلاَّ أنَّهم ببعدهم الذَّاتي والدَّقيق عن خير المعقول المطابق للحكمة والشَّرع مباشرة أو تسبيباً تشوشت سيرتهم سطحاً وذاتاً بالشُّبهات مع الأسف إلى أنَّ كان الزَّيف والانحراف بالنَّتيجة. نصيبهم

وقد كان لنا كلام ينفع كثيراً لتوضيح المقام وفسح ما يمكن فسحه لهم من المجال في بعض مقامات دورة الأصول هذه، بحيث كان جوهرها الفرق بين الدقَّة العرفيَّةالشَّرعيَّة وقربها الكثير من الجانب المقبول.

وبين الدقَّة الفلسفيَّة واختلافها العلمي عن حقيقة الحكمة وبعدها أيضاً عن المقبول مع ذكر بعض أسباب ذلك.

وممَّا يثبت عدم الرِّضا بادِّعاء الانسداد الكبير شرعاً وإن لم يكن دالاًّ من نفسه لوحده على الانفتاح الكامل أو حتَّى الكبير.

هو قوله تعالى الصَّريح الماضي ذكره في كتابه الكريم [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ](1).

وقد تبيَّن ممَّا بثَّه علماء الأدب نحواً وصرفاً وبلاغة على ضوء هذه الآية وأمثالها

ص: 224


1- سورة النحل / آية 89.

من القواعد المشتركة المتَّبعة لصالح لغة العرب والبيان القرآني تفسيراً وتأويلاً عن هذا القول الكريم من حالة الإجمال في العبارة مع سعة المعاني في نفس الوقت وبقرينة ما أفادته الآية الكريمة الماضية الَّتي بلَّغ بها النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في حجَّة الوداع.

حيث دلَّ على كلِّ ما تتطلَّبه الحياة تكويناً وتشريعاً عقيدة وعملاً ومعاملة وبما ينفي قطعاً الانسداد الكامل لمسلِّميَّة ما أفادنا به خاتم الأنبياء والمرسلين صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من الآثار التَّثقيفيَّة للأمَّة وبما ملأ الخافقين ومنها التَّواتر القرآني وغيره.

بل حتَّى الانسداد الكبير المذكور في عنوان البحث عن الحجيَّة والأكثر في بعض الأحيان، إلاَّ إذا ضاقت آفاق العلم من جهابذة السَّلف تقصيراً عن أن يتوسَّعوا في مجالات التَّوسُّع الَّذي كان من واقع وظيفتهم الأصوليَّة.

بل من وظائفهم الَّتي ما بان منها إلاَّ تلك الموسوعات الضَّخمة الَّتي شرحت لنا ولغيرنا تلك المجملات عن الأسس المشار إليها.

فجزا الله تعالى سلفنا الصَّالح عنَّا خير الجزاء.

إذ دون عدم إمكانه من مجالاته المتنوِّعة حتَّى عرف عن قدرات فقهاءنا الفائقة أنَّه (ما خفي على فقيه طريق) قوَّة وممارسة فعليَّة خرط القتاد.

ومن ذلك تفسير القرآن بالقرآن كما أشرنا أكثر من مرَّة وتوجيه غامضه بموضَّحه.

وكذلك توسيع معنى التَّبيان الإنشائي دون خصوص مجرَّد الإخباري من (كلِّ شيء) للآية ولو عن طريق ما لا ربط فيه ظاهراً بين الإجمال والتَّبيين لهذه الآية الثَّانية وغيرهما ممَّا سُمِّي أدبيَّاً بطريق السِّياق الَّذي تعلَّمنا نماذجه القيِّمة من فراسات مولانا أمير المؤمنين وأبناءه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ اللا محدودة، حتَّى قال أبو الأوصياء عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن خلوته بالنَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ممَّا مرَّ ذكره حين دعاه إليه ليُسارَّه ليلة وفاته (لقد علَّمني رسول الله ألف باب من الحلال والحرام، ومما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، كل باب منها يفتح

ص: 225

ألف باب)(1)وقيل (ألف ألف باب حتى علمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب)(2).

ولا غرو عن مقامه القرآني العظيم حينما عرف مشهوراً بين الأحبَّة والأعداء وعلى ما فاهت به ألسنة جميعهم أنَّه (القرآن النَّاطق)(3).

كيف وهو جامعه كما نزل من البداية والنِّهاية والَّذي نزل في حقِّه (ثلث القرآن).

ولا مبالغة أيضاً حينما اشتهر، بل تواتر عنه -- حتَّى أمام أعداءه بشهاداتهم الكثيرة في حقِّه بعد وفاة النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كما كان يوم الغدير قبلها -- أنَّه كان مرجع الكل في الكل، ممَّن نكث البيعة وممَّن بقى على بيعته ولم يُرتِّب الأثر عليها، أو رتَّبه حتَّى على مضض بالغ، أو البعض ممَّن ينتظرون الخلاص بالهداية من التَّزلزل، أو كما عليه المنافقون.

حتَّى عرف عنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ من لواعج أشجانه وتحرُّقه على ما أصاب الأمَّة من تمرُّدات المنافقين وما بقي من خمول الكثيرين عن الاستفادة من خزانة وحي الله بعد الحث الشَّديد كتاباً وسنَّة ونحوهما على طلب العلم بترجيِّه أن يطلبوه منه ومن أبناءه الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وبالأخص حينما كانوا من خير السُّعداء تحت ظلِّه إن سلكوا مسلك ما كان يحبه فيهم أن يكونوا عليه.

ص: 226


1- تاريخ ابن عساكر: ج2 ص483 - 484، تحت رقم : 1012، ط2، والجويني في فرائد السمطين 1 : 101 / 70، والمتقي في كنز العمال 13 : 114 / 36372، والحافظ المغربي في (فتح الملك العلي) : 48.
2- الخصال 2 : 173 و 174.
3- فقد ورد أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ قوله (هذا كتاب الله الصَّامت وأنا كتاب الله النَّاطق)، أصول الكافي ج1/ ص61.

قوله مرَّات على منبر وعظه (سلوني قبل أن تفقدوني)(1).

وعُرف قوله أيضاً بعد علمه بقساوة من عاداه معه وضدَّه وضدَّ أبناءه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وحتَّى ضدَّ أنفسهم المحتاجة للعلم، حتَّى لو سبَّب حبِّهم للبعد عنه حبِّهم للجهل مع تلك الحاجة وهو أعلم النَّاس بعد رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بحقائق التَّأويل إلى أن تمنَّى قائلاً (لوددت أنِّي لم أركم ولم أعرفكم، معرفة والله جرَّت ندماً، وأعقبت سدماً، قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرَّعتموني نغب التهمام أنفاساً)(2).

بل بالتَّأمُّل الإضافي في الآية الثَّانية المذكورة ومطابقة الكليَّة الَّتي فيها لبعض الكواشف القرآنية الأخرى.

يتبيَّن وبوضوح أنَّ من أوليات وأولويَّات ما يتضمَّنه عمومها وإطلاقها هو حجيَّة الأوامر والنَّواهي الأحكاميَّة، وكذا توابعها من السُّنن الَّتي كشف عنها مثل قوله تعالى الآخر وهو الثَّالث وهو [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا](3)، بعد التَّفريق الأصولي في الآية الثَّانية بين مادَّة الإخبار وفعَّاليَّته كما أشرنا، ومادَّة الإنشاء وفعَّاليَّته كما أشرنا كذلك.

لانكشاف ما يعطيه الإنشاء بعد اتِّضاحه من قرينته الضمنيَّة بسبب الكواشف مع ضمِّ الآية الثَّالثة إلى الثَّانية.إذ هي مثلها في إفاضة العموم والإطلاق مع شيء عن ابتعادها عن خصوص مادَّة الإخبار الَّتي في الثَّانية من الَّتي لا تحمل حكماً من موضوعات العلوم الأخرى.

فتشترك حجيَّة الثَّانية العامَّة والمطلقة مع الثَّالثة الَّتي فيها تخصيص واضح وتقييد

ص: 227


1- كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال -- المتقي الهندي -- ج 14 ح 612.
2- نهج البلاغة -- خطب الإمام علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ ج1 ص70.
3- سورة الحشر / آية 7.ج

ثابت بعد ثبوت وإثبات صحَّة الاستفادة من العام المطلق مع ما يشاركه من الآية الثَّالثة.

مع اتِّساع وجوب الأخذ بما قد يزيد على كلام الله تعالى من الحجيَّة من نفس كلام الله، وهو ما معناه ما آتاكم به النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من عند الله متواتراً لا من خصوص المصاحف وحدها.

وبالأخص إذا أضفنا إلى المقام قوله تعالى الرَّابع [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ](1) الوارد في باب أمور الطَّاعات عموماً وإطلاقاً .

مع إضافة التَّوسعة لجانب أن تكون الحجيَّة ثابتة الوجوب على المؤمنين بإطاعة ولي الأمر المنصوص عليه من الله في يوم الغدير مع أبناءه الحجج عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

وكذلك لو أضفنا قوله تعالى الخامس وهو [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ](2) الوارد في باب خصوص ترك المعاصي وبالجمع بين الآيتين الأخيرتين يحصل الانسجام بين الأوامر والنَّواهي كما في الآية الثَّالثة إذا كانت هناك إلهيَّاً نكتة تراد لم نفهمها في الشَّرع صراحة بمثل الأخذ بالإشارات.

بناءاً على أهميَّة ما أشرنا إليه وما سيجيء في النِّهاية من كشف الآيات بالآيات إذا كانت مواضيعها وما يرتبط بها أوَّليَّاً محدودة بحدود المجملات.

وبالأخص لو لم تكن موَّفقين بالمثول في زماننا بين يدي النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من بعده للاستفادة من تفصيلاتهم الرَّافعة للإجمال مباشرة، وإن اقتدر أدبيَّاً في غيبتهم مع غيبة ولي الأمر الحالي على فهم بعض التَّفاصيل دون كلِّها

ص: 228


1- سورة النساء / آية 59.
2- سورة التحريم / آية 6.ج

وقتيَّاً إلى أن يأتي دور التَّفاصيل الكاملة على ضوء ما يأتي من البحث التَّفصيلي عن مثبتات صحَّة الاحتجاج بالسنَّة أيَّام الغيبة الكبرى وبما يصح التَّصرُّف الاجتهادي فيه ممَّا اشترك منها متقناً بين الكتاب والسنَّة أو السنَّة وحدها على ما يأتي في أمورها الخاصَّة.

وبناءاً أيضاً على أن آيات القرآن لم يكن إعجازها للحجيَّة محصوراً بما كتب ونقش كما أشرنا مع شرافة ذلك اللَّفظي لجهاتها المعلومة.

بل مع فعاليَّة الإعجاز بالتَّبليغ به من قبل النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأوصياء المعصومين من قبله لموضوعيَّة في نفس التَّبليغ، كما أثبتته آيات كثيرة.

ابتداءاً من آية التَّبليغ بحادثة الغدير الهامَّة جدَّاً وإلزام النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بها وإلزام خلفائه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الشَّرعيِّين بمواصلة التَّبليغ أيضاً، لإظهار حجيَّة من يجب التَّبليغ به ومن بعده الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في ذلك، لئلاَّ تخلو الأرض من الحجَّة وهي الآية السَّادسة وهي قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَالنَّاسِ](1).

وانتهاءاً ببقيَّة الآيات الَّتي نشروها بين الأمَّة لإلمامهم العظيم والواسع بما حواه أمير المؤمنين وأبناؤه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عن النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كما مرَّ ذكره من كلِّ ما يبيِّن الإجمال ويوضِّح الغموض تفسيراً وتأويلاً، سواء وافق القواعد الأدبيَّة المعلنة أو كان لنكتة يعلم سرَّها في النَّتيجة كالسِّياقات المشار إليها والمسجَّل فضل الانبهار بها لصالح أمير المؤمنين علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ أمام الشَّيخ الأوَّل والشَّيخ الثَّاني لما أبتليا بالتَّجاوزات على العلم الصَّحيح ونختار من بينها حادثتين:-

أولاهما: حادثة التَّعرُّف في النَّتيجة على مقدار أقل الحمل الشَّرعي الَّتي أبتلي بها الشَّيخ الثَّاني، وإن لم يكن مألوفاً عند غير المتفقِّهين من أمثاله، لكون مدَّته

ص: 229


1- سورة المائدة / آية 67.

المألوفة تسعة أشهر وغيرها ستَّة.

إذ في قوله تعالى السَّابع [وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ](1) الَّذي تراد منه مدَّة الرِّضاع مع الحمل وهي أربعة وعشرون شهراً لا يمكن أن تراد مدَّة أقل الحمل وهي الأشهر الستَّة إلاَّ بالرُّجوع إلى قوله تعالى في آية أخرى [وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا](2).

لأنَّ بالجمع بين القولين الكريمين لابدَّ أن يكون الصَّافي بالنَّتيجة وإن لم يكن مألوفاً أشهراً ستَّة.

وهذه العمليَّة الاستنتاجيَّة مبتنية على ما يسمَّى بدلالة الإشارة ومن صنف السِّياقات وصاحب الفوز فيها حلال المشكلات وهو أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

وحكمة عدم مألوفيَّة المدَّة الأقل الَّتي أوصل الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ الأمَّة إليها أو أنَّه كشفها لها لإنقاذ بعض الحوامل من تهمة الزِّنا.

ولهذا ارتدع الشَّيخ الثَّاني عن أن يقيم الحد في رئاسته على صاحبة القضيَّة المتهمَّة في مدَّة حملها بعد أن أثنى على الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ بما يجعل مرجعيَّة هذا له دون الثَّاني.

وثانيهما: وهو حول قول الله تعالى الثَّامن [وَفَاكِهَةً وَأَبًّا](3) الَّذي حيَّر الشَّيخ الأوَّل في رئاسته في كلمته تعالى الأخيرة أمام أعلم النَّاس بعد النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ حتَّى كاد الأوَّل أن يعترض على وضع هذه الكلمة في هذا المقام [وأبَّا].

وبعد أن عرَّفه أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ بأن ما بعدها يرفع الغموض الَّذي يعتريها وهي إضافة قوله تعالى [مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ](4) ارتفع غمَّه مع مدح الولي الأعظم

ص: 230


1- سورة لقمان / آية 14.ج
2- سورة الأحقاف / آية 15.
3- سورة عبس / آية 31.
4- سورة النازعات / آية 33.

والثَّناء عليه بما يثبت مرجعيَّة الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ على الشَّيخ الأول كذلك.

وهكذا بقيَّة الأئمَّة من أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بما أتحفوا الأمَّة بفائق قدراتهم المذهلة للعقول حول غوامض القرآن الكريم في كافَّة العلوم والمعارف أقوالاً وأفعالاً وتقريراتوبما ثبتَّهم أنَّهم حجج الله على العالمين، ولكن دون أن يقدِّموا لزعامتهم الأصيلة، لكونهم الحكماء النَّافذين كما فرضهم الله على الأمَّة.

ولتكون الحجَّة البالغة قائمة ودائمة على ما ذكرناه على بطلان الانسداد الكامل حتماً، لتبقى الأمَّة محتاجة إلى فتح الأبواب مشرعة بهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

وكذا الانسداد الكبير وما يزيد لوفرة الإمدادات الإلهيَّة المتنوِّعة الَّتي مضت الإشارة إلى شيء منها وما سيأتي من الكثير.

لأنَّ في أطروحتنا هذه أنَّنا في وسط الطَّريق من مختلف العلاجيَّات حتَّى بما يختارونه من لسان السنَّة المغاير للقرآني بعض الشَّيء ظاهراً والمفهم في نفس الوقت عند الأدباء بما ينسجم مع الآيات على ما سيجيء كذلك.

بل حتَّى بعض الانسدادات الأقل لما ذكرناه وأكَّدنا عليه في بحوثنا الماضية أكثر من مرَّة وغيرها وإن حصل من الكوارث الطَّبيعيَّة والمعادية الكثيرة دينيَّة وطائفيَّة وإنسانيَّة وسياسيَّة، وهو ما قد ظنَّه أو يظنُّه الظَّانون ومنهم العلمانيُّون ونحوهم ليبيحوا لأنفسهم الاجتهاد في مقابل النُّصوص والأدلَّة المعتبرة الأخرى.

ومن يفترض الإجمال البالغ وأمثاله بما بين الدَّفتين، وبالأخص في زماننا من عهد الغيبة الكبرى وبُعده عن عهد المعاصرة لزمن النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كثيراً وما نسب إليهم من عظيم الإفادات.

كيف يمكن الاحتفاظ بها سالمة آنذالك في أذهان خيار الصَّحابة والتَّابعين وتابعي التَّابعين ومن نطلق عليهم ب- (حواري الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) وهلمَّ جرَّا.

وما بينهم الوضَّاع والملفِّق والمنافق والحِبر اليهودي والزِّنديق من حيث يخفى

ص: 231

ومن حيث لا يخفى، إلى أن تصل المعلومة إلينا مع جميعهم سالمة كذلك؟

فإنَّه يقال في مقابل هذا بأنَّ الإجمال القرآني المذكور مع تواتر ألفاظه المعلومة ليس ناشئاً في أصله من اختلاط النَّقلة الكاذبين أو الملفِّقين بالصَّادقين في تدوين الآيات في الجمع القرآني.

وإنَّما لحكمة خاصَّة بخلق القرآن على هذه الصُّورة إذا لم يكن السَّبب من التَّقديم والتَّأخير في آياته المغايرة لهذه الصُّورة في بعض أو كثير الآيات والَّتي عرف تدوينها على يد أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ وكما نزلت على النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من البداية إلى النِّهاية مع عدم مخالفتها الجوهريَّة لأصل آيات ما بين الدَّفتين المبارك لو كان هذا التَّقديم والتَّأخير المغاير في الصُّورة فقط أو بعضه يساعد على رفع بعض الإجمالات.

وهو ليس بغريب عن قاعدة ما مرَّ ذكره من تطبيقها أكثر من مرَّة ومرَّة بين المفسِّرين المهمِّين من تفسير القرآن بالقرآن واتَّبعناها مرَّات في بحثنا هذا، وإن لم يكن بعضها من خصوص حالة التَّقديم والتَّأخير، إلاَّ إذا لم يوافق هذا التَّقديم والتَّأخير المغاير وأمثاله مذاقات الكذبة والملفِّقين والطَّائفيِّين الَّذين حاولوا ويحاولون تغيير مسار المعاني القرآنيَّة الأصيلة.

ويقال أيضاً بأنَّ الإجمال المذكور لم يكن وحده في الميدان حتَّى ينبَّه على المزيد منأخذ الحذر من أساليب المخاطر المعادية المتعدِّدة في الطَّريق وإن كان الاحتياط حسناً على كل حال.

فإنَّ في ضمن الكتاب الكريم قواعد خاصَّة متَّبعة قابلة لأن تكون آياته مقياساً لتصحيح ما فاهت به ألسنة من أخذ عن النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأهل بيته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بعض المفاهيم القرآنيَّة غير المنضبطة أو المشكوك في نقلها كما في بعض القراءات المتفاوتة والمسبِّبة لتغيُّر بعض تلك المفاهيم غير المتلائمة مع ما كان الأصح منها في أسباب النُّزول المختلفة أو بين الصَّحيح وغيره.

ص: 232

ومن هؤلاء النَّقلة بعض رجال الأمويِّين والمنافقين الَّذين سبَّبوا تغيير الحقائق بالرَّشاوى وأمثالها حتَّى سبق في علم الله ما يحوج إلى جعل مثل قاعدة قوله تعالى [فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً](1) مرجعاً للتَّقييم من عدمه مع ترجيح الرَّبط للتَّقوية بالقول القرآني الرَّابع الماضي.

إضافة إلى ما قد يُستفاد من قوله تعالى [وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً](2)، الَّذي يوضِّح المقصود من أولياء الأمور وهم الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بعد النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في المرجعيَّة الظَّاهريَّة والباطنيَّة سياق الآية الماضية ارتباطاً بتفسير القرآن بالقرآن، وهو ما يعني كون شأن مرجعيَّة أولي الأمر يتَّضح بجلاء ونجاح عند استنباط المختصِّين لها عن مداركها.

إضافة إلى ما بقي من الأحاديث المناسبة لهذا المورد السَّالمة من الكذب والتَّلفيق والمعارضة لظواهر الكتاب أو بواطنه وعن الفريقين وكما وعد الله عباده، ولا خلف لوعده في حفظ ما يكفينا من المصادر ولو على الإجمال الَّذي نقوله الآن ونبحث عن غيره فيما يأتي من لسان الدَّليل الثَّاني اللَّفظي وهو السنَّة.

حيث جاء في القرآن الكريم قوله تعالى العاشر [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ](3)، وهو الَّذي به ديمومة مرجعيَّة عموم الذِّكر القرآني وإطلاقه باطناً وظاهراً بالحجيَّة وبمقايسته للأمور ونحوها ممَّا سُطِّر في الأصول الأصيلة وفي فعَّاليَّة السنَّة الشَّريفة المشابهة.

ص: 233


1- سورة النساء / آية 59.ج
2- سورة النساء / آية 83.
3- سورة الحجر / آية 9.

لما للذِّكر القرآني من المحفوظيَّة وغيرها كما مرَّ عنها في قوله تعالى الماضي والرَّابع المثبت لها ما للذِّكر القرآني نفسه، سواء عن طريق الاحتجاج القرآني أو عن طريق الاحتجاج بالسنَّة الآتي بإذن الله في إجماليَّاته أو تفاصيله المكملِّة.

وهذه المحفوظيَّة للكتاب والسنَّة وعن الكتاب والسنَّة وللإجمال والتَّبيين جاءت مؤكِّدة ومعها بقيَّة بركاتها بقول النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ المتواتر بين الفريقين وهو (إنِّي مخلِّف فيكمالثَّقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً وأنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(1).

ولختم ما علينا بيانه من الكلام عن الاحتجاج بالكتاب الكريم من آياته على مدِّعي الانسداد الكبير أو حتَّى الأقل المسبِّب لتطاول الوضَّاعين ونحوهم، وما يعاكسه من حالات الانفتاح درجات الرِّفعة أو دركات الضِّعة من ناحية العقل والشَّرع مع الابتلاءات التَّأريخيَّة في طريقها الطَّويل العريض.

لابدَّ من تكثيف العناية بكل ما تمَّ الوصول إليه من الحجج المخطوطة والملفوظة نصوصاً وظواهر ومضامين معنويَّة ومفهومة عقلاً ونقلاً شرعيَّاً أدلَّة وقواعد في المختصرات الماضية وما مرَّ من الإشارات إلى ما سيأتي التَّفصيل له أو بعضه في مجالاته من الآيات والأخبار وما حملته من الحجج البشريَّة الرَّبانيَّة كالنَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ مع البضعة الطَّاهرة للنَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بالاعتزاز بهم.

واعتبار شأنهم وشؤون الحجج الَّتي سبقتها حججاً يستند إليها بعد الله تعالى، لئلاَّ تسيخ الأرض بأهلها بدونهم.

لأنَّ عظمة شأنها وضرورة وجودها في كل زمان ومكان ومن ذلك زمن الغيبة

ص: 234


1- الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59)، وأبو يعلى في مسنده ( 117) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).

الكبرى هذه فإنَّ الأرض الآن عامرة بوجود الحجَّة المنتظر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ وإن كان غائباً لما قدَّر الله تعالى له من الوقت.

ومن شاء التَّوسُّع في الاطِّلاع على شيء من بركات وجوده عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ فليراجع كلامنا عن ليلة القدر وسورتها المرتبطتين بصاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ في كتابنا (مختصر أحكام الصَّوم).

لما لعلاقاته بالرُّوح الأمين الَّذي ينزل كل ليلة قدر ويعطيه مقادير الأرزاق والأعمار للنَّاس من أزمنة إمامته عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ وللسَنة كلِّها، كما كان ينزل فيها في أزمنة النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة السَّابقين ومن سبقهم من أزمنة الأنبياء والرُّسل الماضين.

فتمام البركة في بحثنا إذن يعود إلى بركات حجيَّة صاحب الرِّسالة بعد الله تعالى وما أرسل من أجله.

وميزانيَّة ديمومة هذه البركات عن عدمها هو ديمومة الانقياد والطَّاعة، وهو تطبيق كامل الأوامر واجتناب كامل النَّواهي، ومع انتفاء امتثال ما يجب لابدَّ أن تكون الإضاعة لكيان الحجج، فتنتفي البركات.

ولهذا وأمثاله قال تعالى قوله الحادي عشر لبركات حجيَّة جميع الأنبياء والمرسلين وآخرهم وسيِّدهم الخاتم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ [وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً](1).

ونبيُّنا صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مع أوصياءه الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من أهل البيت لم يقصِّروا في واجباتهم تجاهأنفسهم والأمَّة مع الضغوط القصوى الَّتي قاسوها من الأعداء من أجل إيجاد موانع التَّبليغ بالرِّسالة على ما يرام.

وقال تعالى أيضاً في قوله الثَّاني عشر الَّذي فيه تشخيص شأن الحجيَّة الخاتمة فيه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وفي الأئمَّة الاثني عشر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وهو قوله [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ](2)،

ص: 235


1- سورة الإسراء / آية 15.
2- سورة الأنفال / آية 33.

أي لما قاساه النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ونقباؤه الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من مآسي ومتاعب لإيصال الرِّسالة وإلى حدِّ أنَّهم ما كانوا من أعداءهم إلاَّ بين مقتول أو مسموم.

ولأجل الرَّأفة بهذه الأمَّة المرحومة كثيراً واختلاف الكثيرين منهم عن الأعداء الحقيقيِّين من مثل حكَّام الجور.

جاءت التَّسهيلات الإلهيَّة لطرح بركات الحجج بما كان أيسر ممَّا يُقوِّي عليه كل إنسان عاصي لينجو من هلكات معاصيه بمثل قول الله تعالى الثَّالث عشر وهو [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى](1).

ويؤكِّده بما يتلاءم مع المقام أكثر قوله عزَّ وجل الرَّابع عشر [وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ](2).

وغير ذلك من الفرص المفتوحة للنَّجاة والفوز مدركيَّاً وعمليَّاً.

فالحجَّة إذن بكل مصاديقها واعتباراتها الَّتي عرفها الفقيه والأصولي من خلال بحوثه واستدلالاته النَّاجحة عند الله تعالى في قوانينه المتَّبعة ثبوتاً وإثباتاً أمر مقدَّس لا مفرَّ من التَّقيُّد به عقيدة وعملاً.

ص: 236


1- سورة طه / آية 82.
2- سورة الأنفال / آية 33.ج

الفصل الثَّاني

حجيَّة الظهور في القرآن وآيات أحكامه

مقدِّمة:-

لم يكن بحثنا عن حجيَّة الظهور هنا تكراراً لما مرَّ ذكره في فهرست الجزء الأوَّل لضرورة الكلام عن بعض الأمور الأوليَّة.

ولا إهمالاً أو تكراراً لما لابدَّ من أن يأتي ذكره من الحديث عن بحث الحجج وأنواعها وطبقاتها في الجزء الرَّابع بعد الانتهاء فيه من الدَّليلين اللُّبيَّين للَّذي نذكره الآن.

ولمجرَّد تشخيص الفرق بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري قبل الارتقاء لمقام الحجيَّة، وإن كان في ذلك فائدة تشخيص الفرق بينه وبين ما أوردناه في الجزء الثَّاني من مباحث الألفاظ حول المفاهيم بتفوَّق الظَّاهري عليها غالباً، فضلاً عن الأظهر.

وإنَّما حجيَّة الظهور هنا حول خصوص آيات الذِّكر الحكيم عموماً وخصوصاً من آيات الفقه العام وأخصَّاً ما يتعلَّق بآيات الأحكام أصولاً وفقهاً.

لغرض تثبيت سعة آفاق القرآن الاستدلاليَّة بعد قلَّة النُّصوص أو عدم القدرة الكافية لغير المعصومين من فقهاء الأمَّة إبان الغيبة الكبرى هذه.

وبالأخص أيَّام بُعد الإسناد كهذه الأيَّام لتكثير مصاديقها بواسطة التَّأويليات من الآيات لا للكلام عن سعة ما مرَّ ذكره ممَّا يثبت في الجملة الوافية عدم انسداد العلم والعلمي الكبيرين من نفس الكتاب الكريم وخاصَّة توابعه الذَّاكرة لأموره ممَّا طرحناه.

لئلاَّ يجرأ العلمانيُّون وأهل البدع بأنواع عبثهم بألفاظ أحكام الوحي الإلهي،

ص: 237

لسدِّ علمها وعلميَّاتها وملحقاتهما على أذهاننا وإنَّما عن طريق وضع إضافة بحجيَّة الظهور من نفس كتاب الله وخاصَّة هذه التَّوابع.

ولذا نجعل هذا البحث مع أهميَّته كمكمِّل لبحث منع هذا الانسداد المزعوم وكلاهما كمقدِّمة لما يأتي من بحث الحجج الَّتي لابدَّ أن تسبِّب ببركة سعة رحمة الله مع حسن النَّوايا صحَّة ما قاله السَّلف الصَّالح من علماءنا ومن حالفهم من المنصفين في الجملة الوافية (ما خفي على فقيه طريق).

ويتم الكلام في المقام بأمور:-

الأوَّل/ في معنى الحجَّة والحجيَّة

إنَّ معنى الحجَّة في اللُّغة: هو كل شيء يصلح أن يحتج به على الغير وذلك بأن يكون به الظفر على الغير عند الخصومة معه والظفر على الغير على نحوين :

1 - إمَّا بإسكاته وقطع عذره وباطله.

2 - وإمَّا بأن يلجئه على عذر صاحب الحجة فتكون الحجة معذرة لدى الغير والحجة هي الدليل والبرهان.وقال الأزهري : إنَّما سميت حجة لأنَّها تُحَج أي تقصد لأن القصد لها واليها وكذلك معنى المحجَّة أي محجَّة الطريق وهي المقصد والمسلك§َّة.

يعطينا من بديهي إنتاجه نتيجة وهي (العالم حادث) الَّذي تعتبر حجيَّة المبرهن بها هو نفس الشَّكل الأولَّ مثلاً، ومن هنا تحصل الحجَّة المنطقيَّة.

وأمَّا ما لا يوصل إلى المجهول التَّصديقي من الأشياء المركَّبة كقولنا ( النَّار حارَّة) -- والَّذي لم يكن في تركيبه نافعاً كأحد الأشكال للاحتياج في فهمه والتَّصديق بمعناه إلى الإحساس به بإحدى الحواس المناسبة كحاسَّة اللمس مثلاً بمجرَّد الإخبار أو بالتَّصديق الوجداني عادة لا بالأعمق والمنطق -- لا ينظر إلى هذا المعنى.

وإنَّما نظره إلى الحجَّة بما يوصل إلى المجهول التَّصديقي بما مثَّلنا له أوَّلاً.

ومن الأمثلة الفقهيَّة (هذا ما أفتى به المفتي وكل ما أفتى به المفتي واجب في حقِّي فهذا واجب في حقِّي)، وأغلب استنباطات الفقهاء مبنيَّة على الظهور في كتاب الله كما سيجيء بيانه في الأمر الثَّامن.

وأمَّا معناها في الأصول: فهو المعلوم التَّصديقي الخاص من حيث أنَّه يوصل إلى مجهول تصديقي خاص شرعي، كالأوامر المراد فهم معناها شرعاً حينما ورد من لسان الشَّرع القرآني الَّذي يراد فهمه في أنَّه يدل على الوجوب أو الاستحباب حسب ما يراد من القرائن الخاصَّة في ذلك.

وأمَّا معنى الحجيَّة فهو اصطلاح خاص يراد منه ما يُستثمر من الحجَّة كمعنى دليليَّة الدَّليل أو بتعبير آخر أنَّ الحجيَّة كاسم المصدر الَّذي يُراد منه نتيجة الحدث والقوَّة الحكميَّة الَّتي بها يجوز أو يجب العمل بالظواهر بينما المصدر هو ما يحمل نفس الحدث.

الثَّاني / الفرق بين معاني النَّص والظَّاهر والمضمر

لا شكَّ أنَّ في التَّعبير القرآني - وبالأخص فيما يدور حول المطالب الأصوليَّة المعتنى بها في فهم عبائر النُّصوص الواردة باتِّخاذها مستمسكاً يُؤمِّن لقابضه حجيَّة

ص: 239

ما تفيده تلك النُّصوص والَّتي اهتُّموا بها في آيات الأحكام بصفة أكثر من غيرها، لأهميَّة التَّدقيق فيها، لكونها ظنيَّة في دلالاتها نوعاً.

بخلاف السنَّة الَّتي تبرز فيها حالات القطعيَّة في دلالات مضامينها بصفة أكثر، ولمحاولة معرفة أكثر ما يمكن فهمه من الفقه المعروف في سعته.

بل حتَّى عبائر السنَّة الشَّريفة في بعض الأحوال وبالأخص المعتبر منها، بل حتَّى غير المعتبر في نفسه إذا ضمَّ إليه قرائن تحوجنا إلى التَّدقيق المنتج فيتحقَّق اعتباره.

إلاَّ أنَّ المقام الآن حول خصوص ما في القرآن لما سيجيء تعليله - نص وظاهر ومضمر، والنَّص هو (نفس ما يُراد من اللَّفظ دون غيره لا ما في الظاهر ولا ما في الباطن بحيث لا يتحمَّل خلافه أو كان الظاهر أو ما في الباطن الأعمق محتملاً إلاَّ أنَّه لا قصد لهذين المحتملين في مقابل النَّص لعدم قدرتهما على مناهضة هذا النَّص).

والظَّاهر (ما أُريد منه المعنى في الظاهر فقط مع احتمال أن يكون هناك مراد آخر في الواقع لكنَّه لم يظهر مثل ظهور الظاهر).

إلاَّ أنَّ المعنى الظاهري قوي بقرائنه لا كالنَّص (والمحتمل ضعيف وهو المضمر).فإذا دلَّ عليه دليل وحصل التَّفوُّق بسببه فاز المتفوِّق وجعل أظهر وترك الآخر وإذا تساوى الاثنان تساقطا في أمور التَّعارض أو يختار احدهما إذا كان كلاهما يحقِّق الواجب أو يبرئ الذمَّة وهو مفصَّل في محالِّ بحوثه.

الثَّالث / كون الظواهر من مباحث الألفاظ

وحجيِّتها من مباحث الحجة

إنَّ البحث عن ظواهر القرآن هو بحث لغوي قد يستعان على فهمها من القواعد الأدبيَّة لكن في مقام استخدام الطرق الأصوليَّة الخاصَّة من مباحث الألفاظ المرتبطة

ص: 240

بالكتاب والسنَّة.

ولذا اعتبر اطلاق اللفظ القرآني أو عموم اللفظ كألفاظ السنَّة أو أي لفظ عربي يراد فهم معناه من هذا الإطلاق أنَّه قد يراد منه النَّص، وقد يُراد منه الظاهر.

إضافة إلى ما قد يعرض اللفظ من الطوارئ الأخرى كالاختصاص والاشتراك أو الحقيقة أو المجاز ونحو ذلك كما سيجيء قريباً، وإن استعين على فهم حقيقة المراد من نلك الطوارئ بتخريجات عقليَّة ذات نتائج بديهيَّة كما مرَّ بيانه من الاستعانة بالشَّكل الأوَّل.

وإنَّ البحث عن حجيَّة الظواهر داخل في بحوث الحجَّة من علم الأصول، كما مرَّ تفصيل شيء أو بعض شيء من ذلك في الأمر الأوَّل، وسيأتي الأكثر عنها في الجزء الرَّابع.

الرَّابع/ عدم الفرق في الظاهر القرآني في آيات أحكامه

بين كونه حقيقة أو مجازاً ومختصَّاً أو مشتركاً ونحو ذلك

فإنَّ الظاهر قد يكون معرضاً للحقيقة والمجاز، كما لو ورد لفظ شرعي يأمر بالصَّلاة فإنَّه تارة يدل على الفريضة اليوميَّة وعلى معناها الحقيقي بقرائنها.

وتارة يدل على معنى الدُّعاء وهو المجاز مع قرينته المجازيَّة بحسب الظاهر.

وقد يكون معرضاً للاختصاص والاشتراك، كما لو دلَّ لفظ شرعي يدل باختصاصه بحسب الظاهر من لفظ( زكِّ) بحسب قرينته على وجوب زكاة المال، كما أنَّه لو دلَّ اللفظ بدون قرينة لكان دالاًّ على مشترك بينها وبين زكاة الفطرة أو عموم التَّزكية .

وقد يكون معرضاً للإطلاق والتَّقييد في ظاهره كما لو جاء لفظ فيه أمر كالأمر

ص: 241

بطلب العلم ففي إطلاقه يراد منه كل علم وفي تقييده يراد منه خصوص العلم الَّذي قيَّده صاحب الشَّرع.

وقد يكون معرضاً للعموم والخصوص، كما لو جاء دليل يأمر بموالاة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

فمع قرينة أهل بيت النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كما هو المتعارف لا يراد غيرهم، وبفرض دون القرينة أصلاً يراد عموم موارد الأرحام لسائر النَّاس في محبَّتهم وصلاتهم.

وقد يكون الأمر معرضاً للإجمال والتَّبيين، كالأمر المجمل الآني بالصَّلاة في الظاهر القرآني من حيث الأوقات، والأمر المفصَّل الَّذي يأتي من آية أخرى مفصَّلة أو من السنَّة في ذلك.

وقد يكون معرضاً للانتقال والارتجال، كما لو جاء لفظ يحتمل الأمرين فمع قرينة النَّقل كالصَّلاة ذات الأركان الخاصَّة في عهدنا الإسلامي لا يراد غيرها بعد نقلها عن معنى الدُّعاء، ومع عدم القرينة يمكن تفسيرها بذات الأركان أيضاً لكن بمعنى الحقيقة الشَّرعيَّة لا المتشرِّعيَّة بناءاً عليه.

وقد يكون معرضاً للاشتراك والمجاز في بعض الألفاظ لغويَّاً، ففي ذلك لا يؤخذ إلاَّبالمجاز لأنَّه أولى.

وهذا العروض في الظواهر لم يكن منحصراً فيها دون أن يكون في النُّصوص كذلك، فإنَّ النُّصوص القرآنيَّة كذلك على قلَّتها ولكن بما أنَّ بحثنا عن مورد الابتلاء الأكثر وهو الظواهر كنَّا قد بحثنا البحث لأجله.

الخامس / الحاجة إلى البحث عن الحجيَّة في الظهور القرآني

أختلف في ظهور الظواهر اللَّفظيَّة:-

فمنهم من يعتبره أنَّه هو الغالب في فهم المعاني اللَّفظيَّة ارتباطاً بأهل الذَّوق،

ص: 242

اعتماداً على كل حالة فيها انتفاء الضِّد وهو النَّص في المقام من باب معرفة الأشياء بأضدادها.

وقد تصبح سرعة الفهم في هذا الأمر إلى حد ما يشبه البديهيَّات، ومن ذلك ما ظهر من بعض الآيات الَّتي استشهدنا بها على فهم الظاهر من دون حاجة إلى تعليل على مطلبه بحجَّة أو دليل.

ومن هذه النَّاحية يمكن لأمثال هؤلاء أن يقولوا بعدم الدَّاعي إلى الكلام عن الحجيَّة وهذا هو قول أوَّل.

ومنهم: من لم يعتبر الظهور أصلاً ولا يتذوَّقه، إلاَّ ما قامت عليه الأدلَّة من الكتاب على الكتاب، ومن السنَّة على الكتاب، أو نحو ذلك من أنواع التَّرابط الدَّليلي لتيسُّر ذلك، على قاعدة (نحن مع الدَّليل نميل معه حيث يميل) واعتقاداً بهذا.

ولذا قد يقول القائل لهذا القول بأنَّه لا فائدة من الكلام عن الحجيَّة كذلك، وهم مجموعة من المحدِّثين.

لكن على أساس اعتبارهم هذه الاستفادات من القرآن بأنَّها استفادات من نوع النُّصوص لا الظواهر وهذا قول ثانٍ.

وهو وإن لم يكن مقبولاً كما سيأتي لأهميَّة الظواهر، إلاَّ أنَّه أهون من قول (حسبنا كتاب الله)(1) الماضي ردُّه سابقاً.

ومنهم: الحد الوسط ما بين القولين، وهو القول الثَّالث القائل بالظهور وجداناً، وكأنَّه بديهي وبالدَّليل لكن دون أن يصير نصَّاً كذلك.

لأنَّ الحاجة إلى الدَّليل هنا من جهة كون الظاهر في حالاته أضعف من قوَّة

ص: 243


1- صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عنِّي.

النَّص الواقعي لو خلِّي الشَّيء على طبيعته لو كان النَّص موجوداً كثيراً.

فلذلك يحتاج إثباته إلى الدَّليل، ومتى ما كان الدَّليل موجوداً تكون حالة النَّصيَّة مفقودة أو مخفيَّة.

بل إنَّ حالة البداهة أو ما يشابهها ممَّا مرَّ في القول الأوَّل من هذه الأقوال الثَّلاثة هو أوَّل الدَّليل على المقصود.

إذن فصار الظاهر هو المحتاج إلى الدَّليل وفي حالة وجوده تثبت حجيَّته لو لم يبدُ النَّص المخالف.

ومن هنا وهو الاختلاف في مفاد الظهور تتم الحاجة إلى هذا البحث، وإن كان بالمقدار الَّذي دلَّت عليه الأدلَّة من القرآن ومن السنَّة ومن القواعد الأدبيَّة المتَّبعة لغة وصرفاً ونحواً وبياناً خدمة لآيات الأحكام، لكونها موقع الحاجة الضَّروريَّة.

بل للاختلاف على أصل موضوع الظواهر كما سيتَّضح في الأمور الآتية ومنها الثَّاني عشر.

وإن حاول أن يستدل هؤلاء المحدِّثون على مدَّعاهم بأنَّ الكتاب والسنَّة في حديثالثَّقلين هما شيء واحد بقرينة قول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في آخره ( وإنَّهما - القرآن والعترة - لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(1).

وبسبب ذلك وباتِّباع تطبيق السنَّة الواردة عن العترة في جميع كتب المحدِّثين الشِّيعيَّة على آيات الأحكام لا يفهم من هذه الآيات إلاَّ النُّصوص لا الظواهر.

لأجبناهم بأنَّ القرآن لو خلِّي وحده وطبيعته لابدَّ وأن تكون نصوصه قليلة كما

ص: 244


1- القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 15 من طرق شتى . وأخرج ص 16 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59 )، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).

أثبته الأدب وكتب التَّفسير وكثير من الرِّوايات الشَّريفة، وإن كان الكتاب وما أفادته العترة المطَّهرة في جوهرهما واحد.

ولا شكَّ أيضاً بأنَّ أحاديث السنَّة والجوامع الأربعة الأولى والمجامع الأخيرة لم تجمع ليعمل بجميعها، لخضوعها للتَّمحيص والتَّقسيم ولو إجمالاً، كما اعترف بذلك الكثير من الفقهاء المجتهدين من المحدِّثين أنفسهم مع غيرهم.

ومن هذا وذاك لو أريدت المقارنة بين الكتاب والعترة ليبقيا مجتمعين إلى يوم القيامة كما يريده النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لا كما قد يفسَّر لأولئك المحدِّثين غير المدقِّقين.

فلابدَّ من أن يكون ذلك إذن تامَّاً على أساس الاجتهاد في أمور الأحكام، لاختلاف الرِّوايات بين المقبول وغيره كما وضح في محلِّه.

والاجتهاد أيضاً خاضع للصَّواب والخطأ، فلابدَّ إذن من أن يكون الحكم الإلهي القرآني في نوعه مفهوماً على أساس الظاهر لا النَّص الَّذي لم يبرز مضادَّاً له.

السَّادس / إثبات حجيَّة ظواهر القرآن لبعضه لا كلِّه

من المعلوم والبديهي أن كلاًّ من الأنبياء والمرسلين لابدَّ وأن يأتي بلسان قومه ومنهم نبيُّنا المرسل الخاتم صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، الَّذي كان قومه فصحاء قريش.

فلابدَّ أيضاً وأن يفهم أولئك القوم كلامه المنزل من عند الله من أحكام ما يجب عليهم وما يحرم، ولتحدِّيه إيَّاهم بإعجازه حينما تمرَّدوا عليه وحاربوه أو تحضيراً لهم بذلك لو يتمرَّدون عليه ويحاربونه.

ولذلك أسلم وآمن من أولئك النَّاس في زمن نبيِّنا صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ومنهم بعض من قريش بما أنزل إليهم لتبليغ جميع الأمَّة على يده صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وإن قلُّوا وحاربه الأكثرون.

في حين انتشر الإسلام ودستوره بحمد الله بما ملأ الخافقين طولاً وعرضاً وزماناً ومكاناً ببركة تلك المعاجز الخارقة وبالصَّبر والتَّضحيات وطيب أخلاق النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ

ص: 245

وحسن سياسته وببركة نصوص الآيات وإن قلَّت وظواهرها، وظهرت معانيه الباهرة وبما أنار الدروب للبشريَّة جميعاً بمعجزاته ليفهموه لا ليجهلوه.

اللَّهم إلاَّ إنَّ هذا الفهم كان منه ما هو السَّريع جدَّاً في طبعه لسريع الانتباه ومنه ما هو السَّريع بالنِّسبة إلى الأقل في ذلك الانتباه للمنته أو البطيء لبعض المتأمِّلين:--

فالأوَّل: ما كان نصَّاً، وهو لسهولة أمر فهم المعاني به لا يحتاج منَّا إلى الكلام عن الظواهر في بابه، لأنَّ الظواهر غير النصوص.

والثَّاني: ما كان ظاهراً، وهو مورد بحثنا.

والظاهر أيضاً قد يتفاوت فيه فيما بين من كان مرتبطاً بمقدِّمات الحكمة وبين من لم يرتبط بها.

نعم هناك غموض في بعض الآيات ووضوح في البعض الآخر بسبب الذكاء المفرط ولكنَّه قليل لم تُبنَ له قاعدة ليبنى عليها من هذه القلَّة، ولم يورد النبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وحياً من عندهممَّا كلَّم به قومه ليفهمه كل أحد، بل إنَّه من عند الله.

فلا شكَّ إذن بأنَّ كلام الله ولو بإجماله منه ما يمكن فهمه ولو بواسطة نبيِّنا صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أو أوصياءه من أئمَّتنا عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وبالأوامر والنَّواهي الواضحة من آيات الأحكام ومنه ما كان، بفهم بالقواعد الأدبيَّة وتطبيقها.

فحصل فهم بعضه بالنُّصوص وحصل فهم بعضه الآخر بالظواهر.

إضافة إلى بعض المجازات القرآنية الَّتي لا ظاهر لها، لأنَّها لو يبنى على ظواهرها الحقيقيَّة لكان معناها التَّجسيم لله تعالى عن ذلك علوَّاً كبيراً كوجه الله ويده ونحوهما ممَّا لابدَّ من حمله على ما يناسب المعاني المجازيَّة المناسبة له ونحو ذلك ممَّا أبعده علماؤنا عن عالم البناء على الظواهر.

وهذا من أدلَّة ما كان فهمه في الجملة لا في التَّفصيل.

ص: 246

السَّابع/ الفرق بين حجيَّة القراءات وحجيَّة الظواهر القرآنيَّة

إنَّ حجيَّة القراءات كما مرَّ بيانه هو ما اتَّفق عليه من القراءات من الرِّوايات المتواترة في اعتبارها، والَّتي قد يظهر من بعضها كون لفظه نصَّاً لا ظاهراً، ولابدَّ في هذا من كون الحجيَّة فيه مرتبطة بطبيعتها الدِّلاليَّة.

وقد يظهر من بعضها على نفس الأساس المتواتر كذلك في كون لفظه ظاهراً في دلالته لا نصَّاً، فتكون الحجيَّة في القراءة مشابهة لما نحن نبحث فيه في الظواهر القرآنيَّة إذا لم تكن معارضة لحالة النَّص أو مخالفة له.

كما لو كانت تلك القِّراءة الثَّانية لنفس الآية الواحدة محمولة على التَّقيَّة كنصب (أرجلكم) في آية الوضوء عطفاً على البعيد الممنوع في أصله أدبيَّاً وهو (وجوهكم) من قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ](1).

أو كانت غير معارضة، كما لو كانت القراءة في قوله تعالى من آية اجتناب النِّساء في المحيض [حَتَّى يَطْهُرْنَ](2) بتسكين الطاء هي المتَّبعة ولا تعارضها القراءة الثَّانية الَّتي هي بتشديد الطاء والمراد منها إضافة الغُسل وإن كانت أحوط.

ولكنَّ الظاهر قد أمكن دعمه بالسنَّة المقويَّة لذلك الظاهر فجعله يفيد كما يفيده النَّص على القراءة الأولى.

وأمَّا حجيَّة ظواهر القرآن فهي في خصوص ما يظهر لا ما يكون نصَّاً ولأنَّ القِراءات منها ما لم يؤخذ به.

ص: 247


1- سورة المائدة / آية 6.
2- البقرة آية 222.

الثَّامن/ الفرق بين الظواهر والظاهريَّة

إنَّ العمل بالظواهر القرآنيَّة يُبنى عليه عند الحاجة الماسَّة، وهي حالة اليأس من تحصيل النُّصوص.

والنُّصوص وإن كانت هي المأخوذ بها في أسس الدِّلالات المعتبرة لأقوائيَّتها إلاَّ أنَّها محدودة بحدود المنصوصات وهي قليلة في بابها.

فعند ذلك اليأس لابدَّ من الأخذ بالظواهر بتوضيح الكتاب بالكتاب إن أمكن، فمع الاستعانة بالسنَّة في حالات كثيرة وبقيَّة الأدلَّة من الأدبيَّات وغيرها في مواردها، ومن السنَّة المعتبرة ما يبرز مع الكتاب كالنَّص في الظهور.

ومع اليأس من النصوص الَّتي في السنَّة أيضاً لابدَّ من الأخذ بالظواهر الَّتي تبرز فيها وإن كانت هذه في السنَّة أقل ممَّا في الكتاب لتسليم أمر التَّكليف الشَّرعي عن هذاالطريق، لئلاَّ ينسد باب العلم بالنُّصوص القليلة وهو المحوج إلى الإبراء وإن كان من الظواهر.

وأمَّا الظاهريَّة فهم الَّذين ساءت عقائدهم فأخذوا بالظَّواهر القرآنيَّة، فجعلوا لله تعالى وجهاً ويداً وجوارح وجسماً ونحو ذلك، ومنهم بعض الحنابلة المجسِّمة ومن أتى بعدهم من التَّيميَّة والوهابيَّة.

وقد ساءت تصرُّفاتهم الفقهيَّة الاستنباطيَّة كذلك، حتَّى أخذوا يتوسَّعون بالأخذ بالظَّواهر حتَّى في مجال الظنون والاحتمالات الوهميَّة إنَّ صح التَّعبير، لإصرارهم على عدم الأخذ بالسنَّة من جهة اعتماداً على قواعد أسلافهم الأوائل الَّذين قالوا بوقاحتهم (حسبنا كتاب الله)(1) لمحاربتهم للسنَّة ولتدوينها، ولمحاربتهم

ص: 248


1- صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عنِّي.

لكون النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أوصى بالثَّقلين الكتاب والعترة.

علماً بأنَّ العِترة هي موطن السنَّة المعتبرة والأضمن من تصحيح روايات بقيَّة الرُّواة، لأنَّهم الَّذين نزل الوحي في بيوتهم وهم الأدرى بما فيها كما مرَّ توضيحه.

وأنَّهم من جهة أخرى وضعوا صحابة لا أصل لهم واختلقوا أحاديث أو لفَّقوا أخرى أو حذفوا أو قطعوا أخريات حتَّى ضاقت على بعض الأبرياء منهم السُّبل بما صنعه أسلافهم.

إضافة إلى الكوارث الطَّبيعيَّة وغيرها فما قدرهم هذا الأمر على الاستفادة من السنَّة المزعومة عندهم استفادتهم الطَّبيعيَّة كما يريدون أمام قدرات جهابذتنا الفقهاء والأصوليين.

بل استعملوا هذه الاستنباطات من خارج ما يريده الظاهر القرآني في واقعه، ولذلك كثر عندهم القياس الممنوع عندنا، ومنه القياس مع الفارق والاستحسان ونحو ذلك.

التَّاسع / نماذج ممَّا يدل على إمكان فهم كلام الله من كلام الله نفسه

ومن ذلك المستفاد من الظواهر، ومن ذلك ما يدل على وجوب أو لزوم العمل بما في القرآن والأخذ بما يفهم من ظواهره إن لم تكن نصوص لتزاحمها.

من ذلك قوله تعالى [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا](1) ممَّا مرَّ ذكره، والتدبر لا يكون إلا للظواهر نوعاً وغيرها، ولو لم تكن الظواهر داخلة لما قال تعالى [أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا]، لأغلبيَّتها، وإن لم يمتنع كشف النُّصوص وبعض المفاهيم.

ص: 249


1- سورة 24/ آية 47.

لأوضحيَّة النُّصوص عن أن تكون القلوب عادة مقفلة عنها.

ومن ذلك قوله [وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ](1) أي بالأمثال الَّتي قد تضرب ولا يقاس عليها لدعم ذلك الظاهر أو إيضاحه بالمثل، لا كأسرعيَّة فهم النُّصوص.

ومنه قوله تعالى [وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)](2)، والمبين هنا بمعنى الموضِّح للمجمل.

إمَّا من التَّبيين وهو الإيضاح لكل ما لم يظهر ولو للآخرين.

أو الإبانة وهو القطع، وهو الَّذي كتب معناه وإن كان مقطوعاً به كالنَّص للمعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، ومنه قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ](3).ومنه قوله تعالى مخاطباً نبيَّه الكريم [فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ](4)، لأنَّه كما قال عن نفسه صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (أنا أفصح من نطق بالضَّاد بيد أنِّي من قريش واسترضعت في بني سعد)(5) ليتَّضح ما كان مبهماً عليهم بوضوح العبارة بفصاحة لسانه صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ومنه الظواهر للآخرين.

ومنه قوله تعالى [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ](6)، والتِّيسير هو توسيع نطاق الإفادة سواء بالنُّصوص أو الظواهر، وهي أكثر الميسور للأمَّة في مثل

ص: 250


1- سورة 27/ آية 39.
2- سورة 26/ آية 195.
3- سورة 138/ آية 3.
4- سورة 44/ آية 58.
5- المزهر للسُّيوطي، ج1، ص209، ومغني اللَّبيب ج1 باب "بيد".
6- سورة 17/ آية 54.

البُعد عن أهل العصمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، ومنه قوله [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً](1).

إذ أنَّ الاختلاف القليل المحتمل إضافة إلى أنَّه ربَّما لا يضر فهو ممَّا قد يستوضح به الظواهر، وعليه أمكن حمل قول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (اختلاف أمَّتي رحمة)(2).

بناءاً على الأخذ به إن فُسِّر باستيضاح المعاني إلى ما هو الظاهر أو الأظهر عند تخالف أبناء الأمَّة على النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أو ما يشبه هذا بعده من الأفكار المتضاربة حول أمثال معاني المدارك القرآنية، فأوصلت اجتهادات المجتهدين بحق إلى ما هو الأوفق ظاهراً أو أظهراً إلى ما يراد.

إلى غير ذلك وهو كثير.

العاشر / الشَّواهد الأخرى

الدَّالَّة على حجيَّة ظواهر القرآن وفهم العرب لمعانيه

إنَّ من تلك الشَّواهد أمور عمليَّة أو تأثرية بإعجاب حتَّى من أعداء النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ نذكر منها، ولو إضافة إلى ما ذكرناه في الجزء الأوَّل من عربيَّة القرآن، وفي هذا الجزء ممَّا سبق للتَّقوية أكثر:-

أ. ما مرَّ ذكره في دلائل الإعجاز من الاعتراف بعظمة هذا القرآن من أقوال أعداءه الَّذين منهم الوليد بن المغيرة "لع"، وهو المعروف في فطرته العربية الفصيحة

ص: 251


1- سورة 82/ آية 4.
2- سلسلة الأحاديث الضعيفة ج1 ص 140، الأسرار المرفوعة ص 50 ، الجامع لأحكام القرآن ( تفسير القرطبي ) ج4 ص 151 ، الجامع الصغير للسيوطي ص 24 ، المقاصد الحسنة للسَّخاوي ص 26.

البليغة، ولو لم يحصل عنده فهم لظواهره لم يعترف.

فقد اعترف بقوله عندما سأله أبو جهل عن القرآن (فما أقول فيه فو الله ما منكم رجل أعلم في الأشعار منِّي ولا أعلم برجزه منِّي ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الَّذي يقول شيئاً من هذا والله إنَّ لقوله لحلاوة وإنَّه ليحطم ما تحته وإنَّه ليعلو ولا يعلى)(1).

وممَّا قاله فيه على بعض روايات أخرى (والله لقد سمعت منه كلاماً ما هو من كلام الإنس ومن كلام الجن وإنَّ له لحلاوة وإنَّ عليه لطلاوة وإنَّ أعلاه لمثمر وإنَّ أسفله لمغدق وإنَّه ليعلوا ولا يعلى عليه وما يقول هذا بشر)(2).

ب. إسلام الكثيرين من المشركين واليهود والنَّصارى وغيرهم من أهل الفصاحةوالبلاغة قديماً وحديثاً، وبما لا يمكن حصرهم وإحصاؤهم من الملايين، وإنَّ ممَّا تأثَّروا به حتماً في ذلك هو فهمهم لظواهر آياته.

ولو قيل بأنَّ منهم من أسلم متأثِّراً بالإعلام أو الإغراء أو التَّلقين بالإسلام السَّطحي أو كان طامعاً أو مدسوساً كبعض المستشرقين وغير ذلك؟

فإنَّا نقول بأنَّ المتأثِّرين بالظواهر لا ينبغي أن نستهين بالَّذين أسلموا منهم عن إيمان وهداية تامَّة، لأنَّ مثل هذا المستوى لم يختص بمن لا يعرف إلاَّ النُّصوص.

على أنَّ النُّصوص قليلة وعلى أنَّها قد لا توصل في بعض الأحوال إلاَّ لمجرَّد ذلك الإسلام السَّطحي أو المزيَّف ممَّن أسلم، لعدم دخول الإيمان في القلب حالة فهم تلك النُّصوص إلاَّ في حالات خاصَّة، ولدخول الإيمان فيه عن طريق الظواهر وما أكثر حالاتها من ذلك.

ص: 252


1- تفسير الطبري 12/309 وتفسير عبد الرزاق 2/ 1328.
2- نفس المصدرين السابقين، و روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني -- شهاب الدين محمود ابن عبدالله الحسيني الألوسي -- في تفسير آية [فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ].

ج-. ذكر الأصولييِّن بحث الظواهر في مقرَّراتهم وكتبهم ومحرَّراتهم من زمن الارتباط بالفن الأصولي وبدو الحاجة إليه زمن الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وحتَّى هذا الحين وتمَّ ذلك في الأصول الَّتي للخاصَّة والعامَّة وفيما يخص ظواهر الكتاب، وهو محل كلامنا في هذا البحث.

ولولا اعترافهم بذلك في محالِّه لما دوَّنوه ولو إجمالاً، فنتج بذلك القول بحجيَّة الظواهر.

ولذلك أيضاً فرَّقوا في أصولهم في التَّعارض الَّذي قد يحصل بين الظواهر والمحتملات الضعيفة وقدَّموا الظواهر على المحتملات لعدم وجود ما هو أقوى فعلاً منها.

د. إنَّ القرآن نزل حجَّة للرسالة على أعدائها، وإنَّ النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قد تحدَّى البشر على أن يأتوا ولو بسورة من مثله كما مرَّ ما يبرهن على هذا في دلائل الإعجاز وإنَّ عدم القدرة على الإتيان لا يلازمه عدم الفهم.

ومعنى هذا أنَّ العرب كانت تفهم معاني القرآن من ظواهره، لأنَّه قد نزل على طبق لغتهم، كما قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ](1) وهم الفحول في بابها من ألفاظ الآدميين وهو الأمي ما بينهم، فأكبروها نصوصاً وظواهر.

ولو كان القرآن من قبيل الأحاجي والألغاز في هذا التَّحدي لم تصح مطالبتهم بمعارضته فيما فعله معارضوه المعاندون من أهل الطَّيش والغرور الخاسرين ولم يثبت لآخرين منهم لهم إعجازه كما مرَّ من كلام الوليد وغير ذلك ممَّا لم نذكره.

لأنَّهم لم يستطيعوا فهمه إذا كان لفظه من الألغاز ونحوها، وهو المنافي للغرض من إنزال القرآن ودعوة البشر إلى الإيمان له علماً وعملاً إذا كان كذلك.

ه-. الرِّوايات الواردة وبتضافر مهم في أمر الأمَّة بالتَّمسك بالكتاب والعترة

ص: 253


1- سورة إبراهيم / آية 4.ج

الَّذين تركهما النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في الأمَّة لأن يحفظهما المسلمون وأن يعتبروا بهما ويسيروا على نهجهما دوماً، لأنَّ أحدهما يدعم الآخر في كل الميادين ومحنهما، وهما حصيلة أتعابالنَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، ولذا قال عنهما (وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(1)، وما هذه التَّوصيات للأمَّة بجميع فصائلها إلاَّ لأنَّ من عبارات القرآن ما هو مفهوم ظاهري لهم بالمباشرة أو بالتَّسبيب أو كليهما.

و. الرِّوايات المتواترة الَّتي أمرت بعرض الأخبار على الكتاب عند الشَّك في صحَّة بعض تلك الأخبار لمعرفة مدى صحَّتها من عدمها، لكون الكتاب فيه الميزانيَّة التَّامَّة لهذه الأمور، وإنَّ ما خالف الكتاب منها يضرب عرض الجدار أو أنَّه باطل أو أنَّه زخرف أو أنَّه منهي عن قبوله أو أنَّ الأئمَّة لم تقله.

وهذه الرِّوايات صريحة في حجيَّة ظواهر الكتاب ولو لم تكن الظواهر موجودة لما صحَّ كون القرآن مقياساً شرعيَّاً في التَّصحيح.

ز. استدلالات الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ على جملة من الأحكام الشَّرعيَّة وغيرها بالآيات القرآنيَّة، وهم يعلمون أنَّ هذا لابدَّ وأن يفهمه المخاطبون من قبلهم وأنَّه يصل من بعد المخاطبين الأوَّل إلى الأوسع.

وكيف يخاطبون من لم يفهم هذه الأدلَّة في نصوصها إن كانت النُّصوص موفورة وفي ظواهرها إن لم تكن وهي الأكثر، ومن هذه الرِّوايات:-

الرَّواية الَّتي رواها الصَّدوق قدس سره بإسناده عن زرارة قال:

(قلت لأبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ ألا تخبرني من أين علمت وقلت : إنَّ المسح ببعض

ص: 254


1- القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 15 من طرق شتى . وأخرج ص 16 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59 )، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).

الرَّأس وبعض الرِّجلين؟.

فضحك فقال: يا زرارة قاله رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ونزل به الكتاب من الله عزّ وجلّ، لأنَّ الله عزَّ وجل قال [فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ]، فعرفنا أنَّ الوجه كلَّه ينبغي أن يغسل.

ثمَّ قال [وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ] فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنَّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين.

ثمَّ فصّل بين الكلام فقال [وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ] فعرفنا حين قال [بِرُؤُوسِكُمْ] أنَّ المسح ببعض الرَّأس لمكان الباء.

ثمَّ وصل الرِّجلين بالرَّأس كما وصل اليدين بالوجه فقال: [وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ] فعرفنا حين وصلهما بالرَّأس أنَّ المسح على بعضهما، ثم فسّر ذلك رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ للناس فضيَّعوه)(1).

ومنها: قول الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ في نهي الدَّوانيقي عن قبول خبر النمَّام أنَّه فاسق، وقدقال الله تعالى [إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا](2) ، لبروز المعنى الظاهري للمخاطب.

لكون النَّميمة من الفسق بلا خلاف، ولعلَّه لا يؤخذ برواية النَّمَّام لخصوصيَّة في النَّميمة الَّتي لها مواردها، وإن كان صادقاً في الخير الَّذي قاله ممَّا لم يكن متضمِّناً معنى النَّميمة عدا أخبار الثِّقات وإن لم يكونوا عدولاً من غير النَّمَّامين.

ومنها: قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء اعتذاراً بأنَّه لم يكن شيئاً أتاه برجله، أما سمعت قول الله عزَّ وجل [إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ

ص: 255


1- وسائل الشِّيعة ج1: 412/ أبواب الوضوء ب23 ح1، الفقيه ج1: 56 / 212.ج والآية من سورة المائدة / آية 6.ج
2- وسائل الشِّيعة ج8: 619، ب164 من أبواب أحكام العشرة، ح10. والآية من سورة الحجرات / آية 6.

أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً](1).

للظاهر الواضح في أنَّ الجالس المستمع للغناء لا يعيق وصوله إلى الذَّنب عدم كونه يأتي الغناء برجله من الأوَّل إذا صادفه الغناء حين جلوسه في بيت الخلاء وبقي على هذا الاستماع مستأنساً بما يسمع.

ومنها: قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ لابنه إسماعيل فإذا شهد عندك المؤمنون فصدِّقهم، مستدلاً بقول الله عز وجل[يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ](2) لوضوح الظاهر منه.

ومنها: قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ في تحليل نكاح العبد للمطلَّقة ثلاثاً أنَّه (زوج) قال الله عزَّ وجلَّ [حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ](3) بسبب الإطلاق الَّذي لا بفرِّق بين الحر والعبد.

لا أن يكون ذلك على نحو التَّجحيش الَّذي لم يكن عن عقد شرعي وعليه فمن بعد ذلك العقد لابدَّ من وجود الطَّلاق أوَّلاً لتحل للأوَّل إن شاءت أن تقبله بزواج جديد بعد نهاية عدَّة الطَّلاق.

ومنها: قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ في أنَّ المطلَّقة ثلاثاً لا تحل بالعقد المنقطع إنَّ الله تعالى قال [فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا](4).

أي أنَّه بعد طلاق الزَّوج المحلِّل إيَّاها فلا مانع من عودة العلاقة بالعقد الجديد،

ص: 256


1- وسائل الشِّيعة ج2: 957، ب18 من أبواب الأغسال المسنونة، ح 1.ج والآية من سورة الإسراء / آية 36.ج
2- وسائل الشِّيعة ج13: 230، ب 6 من أحكام الوديعة، ح1. والآية من سورة التوبة / آية 61.
3- وسائل الشِّيعة ج15: 370، ب12 من أبواب أقسام الطلاق، ح 1.ج والآية من سورة البقرة / آية 230.
4- وسائل الشِّيعة ج15: 369، ب 9 من أبواب أقسام الطلاق، ح4.ج والآية من سورة البقرة / آية 230.

أمَّا العقد المنقطع فلا، لأنَّه لا طلاق فيه فلا رجوع فيه كما تريده الآية.

بل يحتاج بعد انتهاء المدَّة إلى عقد دائم جديد، سواء من نفس هذا الَّذي عقد عليها بالمنقطع أو غيره حتَّى يجوز الرُّجوع إلى الأوَّل بالعقد الجديد أيضاً وبقرينة [فَإِن طَلَّقَهَا] وإن كان المنقطع يعد زواجاً شرعيَّاً في بابه.وكذا لا يصح التَّحليل بما يصل الانفصال فيه بعد ذلك إلى حالة الفسخ لا الطلاق.

ومنها: رواية عبد الأعلى، قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ في حكم من عثر، فوقع ظفره، فجعل على إصبعه مرارة "إن هذا وشبهه يعرف من كتاب الله [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ](1)، ثمَّ قال امسح عليه"، أي على ما يطابق الميسور، لظهور أمره لكل متأمِّل بعد الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالإحالة.

ومنها: استدلاله عَلَيْهِ السَّلاَمُ على حليَّة بعض النِّساء بقوله تعالى [وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ](2) ، لظهور حليَّة كل ما عدا ما حُرِّم صريحاً في الكتاب أو الكتاب والسنَّة كبنت أخت الزَّوجة أو بنت أخيها إذا كان بموافقة الخالة أو العمَّة أو كانت أخت الزَّوجة بعد طلاق نفس الزَّوجة أو وفاتها وغير ذلك.

ومنها: استدلاله عَلَيْهِ السَّلاَمُ على عدم جواز نكاح العبد من قبل نفسه بدون إذن مولاه بقوله تعالى [عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ](3)، للظهور الثَّابت في هذا.

ص: 257


1- وسائل الشِّيعة ج1: 327، ب39 من أبواب الوضوء، ح5.ج والآية من سورة الحج / آية 78.
2- وسائل الشِّيعة ج14: 377، ب 30 من أبواب م يحرم بالمصاهرة، ح11. والآية من سورة النساء / آية 24.ج
3- وسائل الشِّيعة ج15: 341، ب43 من أبواب مقدمات الطلاق، ح2. والآية من سورة النحل / آية 75.ج

ومنها: استدلاله عَلَيْهِ السَّلاَمُ على حليَّة بعض الحيوانات بقوله تعالى [قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ](1)، أي فيما عدا ما صُرِّح به في الحرمة قبل ذلك ممَّا في الكتاب ومن بعده بتلك الحرمة، لكمال ظهور الحليَّة بعد تلك التَّصريحات من الكتاب والسنَّة، لفراغ الباقي من أي تصريح مشابه.

إلاَّ أنَّه ورد الاحتياط في اللحوم فيبقى الباقي مستدلاًّ عليه بقوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ ( كل شيء لك حلال حتَّى تعلم أنَّ حرام بعينه)(2).

وهناك أمور كثيرة أخرى من الاستدلالات على مثل هذا الأمر تفرَّقت في كتب الرِّوايات والموسوعات الفقهية اعرضنا عنها للاختصار.

الحادي عشر/ الفرق بين المفاهيم والظواهر

قد عنون الأصوليُّون لكل موضوع بحثاً خاصَّاً، ولكل حجِّة مستقلَّة لابدَّ من خلال هذا أن يتصوَّر الإنسان أنَّ كلاًّ منهما له أبعاده المستقلَّة، وإن حصل ملتقى بينهما جملة أو تفصيلاً حسب التّتبع.

لكن قد يبدو للباحث المتأمِّل عدم الفرق ما بينهما في بعض الوجوه أو كلِّها ولواختلف أسلوب كل منهما كقول من يقول حول هذا في شعره.

عباراتنا شتَّى وحسنك واحد *** وكل إلى هذا الجمال يشير

حينما يلتقي تعريف كل منهما من حيث النَّتيجة بالآخر.

فإذا قالوا مثلاً عن الظاهر بعد تعريفه بأنَّه متى ما لم يكن في اللَّفظ نصيَّة على

ص: 258


1- وسائل الشِّيعة ج16: 324، ب4 من أبواب كراهة لحوم الخيل والبغال، ح6.ج والآية من سورة الأنعام / آية 145.
2- وسائل الشيعة ج17، ص89، أبواب ما يكتسب به، ب4، ح4، ط آل البيت.ج

شيء فلابدَّ من أن يكون الدَّور بعده للظاهر ولو بإعمال الأدلَّة الَّتي تعيَّن على ذلك.

وأنَّهم إذا قالوا عن المفهوم بعد تعريفه بأنَّه متى ما لم يكن للفظ منطوق فإنَّ الدور بعد ذلك لابدَّ وأن يكون للمفهوم، وهو الَّذي يفهم من وراء اللَّفظ.

إلاَّ أنَّ الظواهر قد تبدو لأوَّل وهلة للنَّاظر قريبة من معنى مفهوم الموافقة، لا مفهوم المخالفة، لاختفائه ولو في الجملة عن طبيعة المعنى الظاهري الَّذي قد يكون فيه نسبة بعد عن الالتواء البياني الَّذي في مفهوم المخالفة بين النَّص والظاهر في التَّعريف البسيط إن لم يدقَّق فيه.

كما في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ](1) إن اعتبرنا المفهوم الصَّحيح هو (العادل).

كما لا نحتاج إلى تبيُّن عند مجيئه بخبر لأنَّ العادل هو الظاهر الموافق لبراءة الذمَّة في عدم التَّبيُّن في خبره إذا أخبر بشيء.

وأمَّا مفهوم المخالفة الَّذي معناه (عدم مجيء الفاسق بشيء) والَّذي قد يدخل في هذا العدم (مجهول الحال) أيضاً فهو أخفى من أن يكون ظاهراً أو أنَّ الظاهر الماضي أظهر من حال المجهول إن ظهر من حكمه شيء.

ولذا قد يتورَّع في تصديقه وبالأخص في آخر الزَّمان زمن كثرة الفتن المناسبة لإساءة الظن، لكن حينما يكون الظاهر قد يظهر من خصوص إعمال الدَّليل الدَّقيق لا البسيط.

فقد يلتقي مع مفهوم المخالفة كذلك مع ذلك الدَّليل المقوى المشار إليه سابقاً كظواهر المسلمين في أسواقهم وفي ذوات المسلمين المأثور معناها في بعض الأدعية الَّتي منها (اللَّهم إنَّا لا نعلم منه إلاَّ خيراً وأنت أعلم به منَّا).

ص: 259


1- سورة الحجرات آية 6.

وروايات الحمل على الصحَّة الَّتي منها (احمل أخاك على سبعين محملاً)(1).

إلاَّ إنَّ هذا لا يُنال فيه التَّطابق إلاَّ في الأزمنة المناسبة والَّتي تقل فيها الفتن والشُّبهات الَّتي تحرم فيها إساءة الظن.

ومن ذلك ما لو حملنا عدم خبر الفاسق على العادل فقط لعدم وجود الواسطة بناء على ذلك.

الثَّاني عشر/ كيف يتم الظهور مع مقدِّمات الحكمة

إنَّه قد يُتصوَّر بأنَّ الظهور لا يتم في اللَّفظ إذا يستعان بقرينة أو بمساعدة لفظ شارحأو دليل مفهومي كما مرَّ بيانه في المقارنة بين الظاهر والمفهوم.

ولكن هذا لا يمكن المساعدة عليه وإن كان بعض الاستدلالات الملتوية قد يستفاد بسببها التَّفريق ما بين الظاهر والأظهر، لأنَّ بتطبيق أمر مقدِّمات الحكمة على الموضوع يسهل الأمر لا محالة.

فمقدِّمات الحكمة -- مع ذكرها سابقاً نعيدها الآن للحاجة إلى تكرارها -- هي:-

1 - إمكان الإطلاق والتَّقييد بأن يكون متعلَّق الحكم أو موضوعه قبل فرض تعلُّق الحكم به قابلاً للانقسام، وبذلك يتم ظهور الشَّيء.

2 - عدم نصب قرينة على التَّقيد لا متَّصلة ولا منفصلة، لأنَّه مع القرينة المتَّصلة لا ينعقد ظهور للكلام إلاَّ في المقيَّد، ومع المنفصلة ينعقد له ظهور في الإطلاق، ولكنَّه

ص: 260


1- وهو من الأحاديث المشهورة كما في الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، ج15 ص353، وبهذا النص ليس له وجود في كتب الحديث بعد الفحص عنه في مظانه. نعم في البحار ج 15 قسم العشرة ص 170 من الطبع القديم عن مصباح الشريعة عن أبي بن كعب: (إذا رأيتم أحد إخوانكم في خصلة تستنكرونها منه فتأولوا لها سبعين تأويلا).

يسقط عن الحجيَّة لقيام القرينة عليه مقدَّماً.

3 - أن يكون المتكلِّم في مقام البيان بجدِّية، وهنا يراد كلام الله أو المعصوم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لا في مقام التَّشريع، لأنَّ الجدِّية في البيان واضحة.

وأمَّا في مقام التِّشريع فليست واضحة، لأنَّه قد يشرَّع الشَّيء ولم يُرَد السرعة في الأداء كالتَّخيير في الصَّوم بينه وبين الفدية في بداية التَّشريع وهو الَّذي نسخ بعد ذلك وبقي الصَّوم وحده.

وكخصوصيَّات التَّشريع الَّتي منها ما يجب أيَّام وجود المعصوم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كصلاة الجمعة والعيدين وولاية الفقيه والجهاد على الرأي المشهور في بعض هذه الأمور أو كلِّها.

الثَّالث عشر / ما أورده المخالفون

من أدلَّة إسقاط حجيَّة ظواهر الكتاب وما ردُّوا به

قد مرَّ في الأمر الثَّالث أنَّ من الأقوال الثَّلاثة هو مخالفة جماعة من المحدِّثين، وإن كانوا منَّا نحن الإماميَّة غير المجتهدين، فأنكروا حجيَّة ظواهر الكتاب، ومنعوا عن العمل بالظَّاهر، لإجمال الكتاب، اعتماداً منهم على ما رووه من الأحاديث الشَّريفة، وما جمعوه أو جمع لهم في المجامع المعروفة.

بناءاً عندهم على عدم الحاجة إلى علم الرِّجال، أو كونه غير ميمون لمضار الجرح والتَّعديل حتَّى في غير المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، إلاَّ من ذمِّهم المعصومون عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بصراحة.

وقولهم بعدم الحاجة إلى التَّقسيم في الرِّوايات للانفتاح العلمي الكامل عندهم بسبب كثرة تلك الرِّوايات لأنَّها نصوص عندهم.

ص: 261

وعلى هذا الأساس تكون الخطابات الإلهيَّة الفقهيَّة مقترنة مع السنَّة بأجمعها نصوصاً، ولذلك قال صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في آخر حديث الثَّقلين عبارته المشهورة (وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(1)، واستدلوا على ذلك أيضاً بأمور:-

أحدها: اختصاص فهم القرآن فيمن خُوطب به كالَّذين آمنوا وهم الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُلأنَّهم المبلِّغون بعد النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، كما في رواية عن الإمام الحسن المجتبى عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنَّه متى ما سمع آية مطلعها [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] يقول بعد ذلك (لبَّيك اللَّهم لَّبيك)(2).

وما في مرسلة شعيب بن أنس عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنَّه قال لأبي حنيفة (أنت فقيه أهل العراق؟ قال نعم قال فبأي شيء تفتيهم قال بكتاب الله وسنَّة نبيِّه صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ يا أبا حنيفة لقد ادَّعيت علماً - ويلك - ما جعل الله ذلك إلاَّ عند أهل الكتاب الَّذين أنزل عليهم ويلكما هو إلاَّ عند الخاص من ذريَّة نبيِّنا صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وما ورثك الله تعالى من كتابه حرفاً)(3).

وما في رواية زيد الشَّحام قال دخل قتادة على أبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ فقال له (أنت فقيه أهل البصرة فقال هكذا يزعمون، فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ بلغني أنَّك تُفسِّر القرآن، قال نعم.

إلى أن قال يا قتادة إن كنت قد فسَّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت

ص: 262


1- القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 15 من طرق شتى . وأخرج ص 16 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59 )، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).
2- الأمالي - الشيخ الصدوق - ص244.
3- بحار الأنوار : 2 / 293، الباب 34 ، الحديث : 13، وراجع: البيان في تفسير القرآن: 184.

وأهلكت، وإن كنت قد فسَّرته من الرِّجال فقد هلكت وأهلكت، يا قتادة - ويحك - إنَّما يعرف القرآن من خُوطب به)(1).

فهذه الرِّوايات وأمثالها يتبيَّن بل يتَّضح للعيان الَّذي لا احتمال آخر فيه عدم جواز البناء على ما يظهر لهذا أو ذاك.

فلا مجال للحجيَّة المدَّعاة في الظهور فيه ما دام حصر الفهم لواقع الوحي معيَّناً في طبقة المعصومينعَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ومن نزل الوحي في بيوتهم.

بل إنَّ الظاهر لم يكن حتَّى عندهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لأنَّ الَّذي عندهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من المعاني هو المقصود الواقعي لا الظاهري كما يتوهَّم فلا ظهور.

وإذا قيل بأنَّ الرِّوايات ضعيفة في بعضها؟

فإنَّه يقال بأنَّ المضمون متَّفق عليه بين روايات عديدة تشكِّل القوَّة الَّتي لا يجوز التَّطاول فيها على من حظوا بالخطاب.

والجواب عن هذا الدَّليل: بأنَّ المراد من فهم القرآن في كلام الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ حق الفهم هو فهم القرآن عند أهله الخاصِّين لا كأبي حنيفة المعوج في سليقته، ولأنَّه من وعَّاظ السَّلاطين ومن المتَّهمين في إدخال الغرائب في شرع الله بقياساته الباطلة.

ويظهر هذا من توبيخ الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ له.

لأنَّ الأئمَّة هم الورثة لهذه المعاني لقوله تعالى [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا](2)، علماً بأنَّ الكتاب يراد منه خصوص أحكام الشَّريعة المرادة مثل قوله تعالى [فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ](3) الَّذي يراد منه ذلك.

وهو لا يعني عدم فهم غير الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من الموالين لهم والمنضبطين في سيرتهم

ص: 263


1- فروع الكافي ج8 ص 311 ب8 ، ح485، وراجع : البيان في تفسير القرآن: 184.ج
2- سورة فاطر / آية 32.ج
3- سورة البينة / آية 3.

معهم من تلك الآيات من نصوصها وظواهرها كما أوضحنا ذلك في الأمر العاشر، وهو ما يعني أيضاً بأنَّ ما عدا الكتاب - المراد منه آيات الأحكام - من الآيات الأخرى أو السنَّة وإن قلَّت باق على ظهوره.

إلاَّ أنَّ هذا الظهور وهو المقبول حينما لم يوجد نص على شيء لن يكون من تخرَّص هذا أو ذاك من عند نفسه بلا ركون إلى أدلَّة شرعيَّة تُعين على وجود شرعي لهذا الظهور فالظهور باق في كلِّ شيء من مواقعه وإن كان مجملاً في بعض الأمور.

وثمَّ إنَّ المقصود من الأمور الَّتي يراد منها فهم الشَّيء حقَّ فهمه ليس هو كل ما في القرآن، لأجل وجود غيرها من الواضحات ممَّا عدا النُّصوص كالواضحات الَّتي يفهمها أبو حنيفة وغيره كمعنى قوله تعالى [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ](1) وغيره الكثير ممَّا لا يمكن أن يؤثِّر فيه أثره المخالف هو أو غيره لافتضاحهم بسرعة إن فعلوا شيئاً من هذا القبيل وإن فعلوا الكثير ممَّا يفضحهم.إضافة إلى أنَّ الخطابات بمطلع الآيات وهي [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وإن اختصَّ بها الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ إلاَّ أنَّ هذا الاختصاص إنَّما كان بالمرتبة الأولى لا بالمراتب الَّتي تحصل بعدها من بقيَّة المكلَّفين المثقَّفين ببراءة وإيمان لإمكان أن تفهم المراتب الَّتي بعدهم - ممَّن يحوى القواعد الأدبيَّة - تلك الظواهر بسبب تطبيقها كما مرَّ في الأمر العاشر.

إضافة إلى أنَّ التَّقسيم في أمور المرويَّات ورجالها لم يكن فيمن ينبغي أو يجب حمله منهم على الصحَّة من إماراتها وإنَّما فيمن اتَّفق المحقِّقون على رفضهم ورفض الرِّوايات المعرض عنها حتَّى من قبل المحدِّثين الآخرين المجتهدين وبذلك يظهر الشَّأن للظواهر وأهميَّتها بسبب الاجتهاد كما أوضحناه في الأمر الرَّابع.

ص: 264


1- سورة الإخلاص آية 1.

ثانيها: النَّهي عن التَّفسير بالرَّأي:-

فقد كثر النَّهي عن التَّفسير للقرآن بالرَّأي، بالإضافة إلى ما ورد في القرآن نفسه من حصر ذلك بالله تعالى في قوله [وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ](1) وإنَّ الرَّاسخين يعلمون بذلك كما علَّمهم الله.

بناءاً على أنَّ التَّأويل هو التَّفسير وعلى ما في روايات متواترة بين الفريقين، ومنها ما مرَّ الكلام عليه وغيره ومنه (من فسَّر القرآن برأيه أكبَّه الله على منخريه في نار جهنَّم) وغيره.

والجواب: إنَّ التَّفسير هو (كشف القناع عن شيء كان مستوراً) فلا يكون منه حمل اللَّفظ على ظاهره لأنَّه ليس بمستور حتَّى يكشف.

ولو فرضنا تنزُّلاً أنَّه تفسير فليس هو تفسير بالرأي حتَّى يحرم لما مرَّ من أنَّه قد يستعان عليه ببعض الأدلَّة أو من معرفة الشَّيء بضدِّه كما مرَّ في الأمر الرَّابع لوضوحه وعدم طغيان ما عداه عليه انتصاراً لحجيَّة الظاهر.

ثالثها: غموض معاني القرآن

فلا شكَّ أنَّ معانيه هي جوهر العلم وحقيقة المعرفة وكنوز الفكر العظيمة، وقد ورد في العلم (أعطه كلَّك يعطك بعضه)، بل إنَّ أمر أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الَّذين نزل الوحي في بيوتهم الَّتي أذن الله أن ترفع كما ورد عنهم (صعب مستصعب)، فكيف بدستورهم العظيم وإن كانوا هم لسانه الأقوم.

بل إنَّ كتب السَّلف الصَّالح في بعض أو كثير منها قد لا يفهمها إلاَّ العلماء الأكابر أو الأقلُّون منهم، فكيف بما كان مدركهم الأعظم ومستمسكهم الأقوم القرآن الأكرم، وهو الَّذي يضعِّف فكرة القول بالظواهر أو يمحوها.

ص: 265


1- سورة آل عمران / آية 7.

والجواب: بأنَّ هذا الأمر وإن كان - في غوامضه وفي بعض آياته وبكثرة - كنوز لا تفهم إلاَّ بشروح وإيضاحات من النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كما لا يخفى عمَّا أوضحته كتب التَّفسير المهمَّة والَّتي منها المصنَّفات عن آيات الإحكام إلاَّ أنَّه ليس معنى ذلك أنَّ القرآنكلَّه على هذا النَّحو.

فإنَّ ما عدا غريب القرآن على فرض كثرته هناك الكثير ممَّا يمكن استيضاح أمره ممَّن له خلفيَّة علميَّة في الأدبيَّات وعلوم العربيَّة من سائر العارفين.

إضافة إلى وجود الأوضح من ذلك أيضاً والَّتي عبَّرنا عنها في أنَّها كالبديهيَّات في سرعة التَّوجُّه إليها عند استحضار مقدِّمات الحكمة أو حسن السَّليقة الفطريَّة والذَّوق السَّليم وممَّا يعرف ظهوره من القرائن الحاليَّة والمقاليَّة، وهو ما يطلق عليه بالظواهر.

وغريب القرآن مستوضح من مصادره الشَّرعيَّة ومنها اللغويَّة عند الحاجة، وعلم الأصول قد تكفَّل هذه الأمور بضوابط مهمَّة وناجحة فلا صعوبة ولا استصعاب إلاَّ عند الجهل والابتعاد عن خط أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

رابعها: العلم بإرادة خلاف الظاهر

لمَّا كانت بعض الألفاظ لم تبرز فيها نصيَّتها المطلوبة فقد يأتي على رأي من يرى الظهور اللَّفظي دون هذا الظهور.

إلاَّ أنَّ هذا لم يثبت كذلك، بسبب وجود قرائن على خلاف الظاهر ولو بالعلم الإجمالي كورود المخصِّصات لعمومات القرآن والمقيِّدات لإطلاقاته، وإنَّ بعض ظواهر القرآن غير مراد قطعاً، وهذه كلُّها غير معلومة بعينها ليتوقَّف فيها بخصوصها.

وبالنَّتيجة إنَّ جميع الظواهر ونحوها مجمل بالعرض، كما كان العلم بإرادة الخلاف مجملاً بالذَّات، فلا يجوز أن يعمل بها حذراً من الوقوع فيما يخالف الواقع، وإن كان ذلك الإجمال العرضي لا أصالة فيه فلا يبقى للظاهر مجال ، هكذا قالوا.

ص: 266

والجواب: إنَّ هذا العلم الإجمالي المانع عن الأخذ بالظواهر إنَّما يكون كذلك إذا أريد العمل بها قبل الفحص عن المراد.

وأمَّا إذا كان بعد الفحص والحصول على المقدار الَّذي علم المكلَّف بوجوده إجمالاً بين الظواهر فلا شكَّ أنَّه ينحل ذلك العلم الإجمالي ويسقط عن منع الظواهر، فتبقى الظواهر على طبيعتها.

ويدخل هذا الأمر في السنَّة كذلك وإن استقلَّها بعضهم في هذا الأمر لأنَ أكثرها تعد نصوصاً لا ظواهر عندهم كما مرَّ بيانه.

مع لزوم التَّفريق بين حالة قرب الإسناد عن بُعده مع لزوم الفرق بين قرب الإسناد عن بُعده.

خامسها: المنع عن إتِّباع المتشابه

فقد منع تعالى العمل بالمتشابه في قوله تعالى [آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ](1).

والمتشابه منه ما هو الظاهر كذلك، بخلاف المحكمات ولا أقل من احتمال شمولهللمنع فيه للظاهر فيسقط الظاهر عن الاعتبار، لأنَّه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، وبهذا البيان جاء الإشكال.

والجواب: إنَّ لفظ المتشابه واضح في أنَّه للَّفظ وجهان من المعاني أو أكثر كالمشترك اللفظي، وهذا التَّعدُّد متساوي في كل فرد من أفراده في الاعتبار.

فإذا أطلق اللَّفظ المتشابه احتمل أن يراد منه كل من معانيه كلفظ جون الَّذي يُراد منه الأبيض والأسود من العبيد الَّذي لا يختلف عن مراد المطالب به للخدمة.

وكذلك القرء الَّذي يشمل حالة وجود دم الحيض في الحائض وحالة وجود

ص: 267


1- سورة آل عمران / آية 7.

نقائها منه أيَّام استمرار العادة عندها لغرض استثناء حالة من اليأس منها.

ولذلك لو أريد تشخيص أحد المعنيين من هذا المشترك يحتاج إلى التَّوقف عند ذلك إلى أن تأتي القرينة المعيِّنة المراد، فإذا أتت على واحد منها اختصَّ اللَّفظ به دون الباقي وبذلك يرجع الظهور إلى طبيعته والعمل به عند الحاجة الماسَّة.

سادسها: وقوع التَّحريف في القرآن

فقد وقع التَّحريف في القرآن وقد ورد ذلك على كافَّة الألسنة من الفريقين، وهذا ما يظهر مضرَّاً بالظواهر كثيراً سواء التَّحريف بالنِّقاط والحركات وبالحروف والكلمات وبالآيات زيادة ونقيصة وبالتَّقديم والتَّأخير لتغيُّر المعاني فلم ينفع القول بالظواهر فهي ساقطة، وعلى هذا كان نقل الإشكال.

والجواب: إنَّ أنواع التَّحريف المدَّعى متفاوتة، فمنها ما لم يسمَّ بالتَّحريف واقعاً فهو ممَّا لا يضر كالتَّقديم والتَّأخير وكالحركات والحروف الَّتي لا تغيِّر المعنى ولا توصله إلى المخل الخطير.

وكما مر في أمر القراءات المعتبرة الَّتي قد لا تضر على تعدُّدها.

وكما في نسخ الحكم دون التِّلاوة، لعدم فقد المعنى بالمرَّة بعد ذلك النَّسخ حذراً من الإخلال بالإعجاز القرآني والإخلال بالخزانة العظمى في جميع المجالات منه.

وكالمفسَّر أيضاً بتخصيص العموم الأزماني.

وأمَّا فيما يدَّعى من اعتبار أسلافنا العظام أو بعضهم للتَّحريف فإنَّه محمول على ما وجَّهناه أو على ما حاوله بعض أسلاف المخالفين، وإن لم يرسم في الموجود بين الدَّفتين، وفي مثل هذا يبقى الظهور على تمام المجال فيه.

وأمَّا في غير ذلك ومنه القراءات غير المعتبرة أو المضرَّة بالمعاني الصَّحيحة وما صرَّحت به المصادر السنيَّة ممَّا يرفض منها.

فإنَّهم إن أصرُّوا على شيء خطير أو ادُّعوا بهتاناً ضدَّ مذهب أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ،

ص: 268

فإنَّه بما أنَّه لا قيمة لما ادَّعوه ولما بهتوا به المؤمنين وسادتهم وكما هو المعروف كثيراً وبما لا يتناسب مع مقصودهم الواقعي.

حيث افتروا علينا وعلى أئمَّتنا عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بأنَّا نقول كلمات بأنَّها من الوحي وهم نفوها ولم يفرقوا بين وحي التَّنزيل ووحي التَّأويل والقران يقول [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ](1).

إضافة إلى ما نستعين به على تقوية ذلك بالسنَّة الصَّحيحة الَّتي حاربوها وما حواه حديث الثَّقلين - الكتاب والعترة - المتواتر بين الفريقين حيث قال صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في آخره (وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)(2).

إضافة إلى ما ورد عن سلفنا الصَّالح قولهم (يكفينا ما بين الدَّفتين)، وبذلك لم يكن التَّحريف موجوداً.

فإذا انتقى التَّحريف فلا منع من الظهور وبقاء حجيَّته وإن لم يصرُّوا أو بعضهم على شيء خطير، فالأمر سهل يسير، كما في جمع أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ للقرآن على نهج أسباب النزول النُّجوميَّة.

الرَّابع عشر/ الظاهر والأظهر

بعد ثبوت الظواهر في طبيعتها كما مرَّ، وبعد تتبُّع الأمثلة وقرائنها فهناك ما يفيد ثبوت شيء آخر زائد على الظواهر، وهو الأظهر منها.

ص: 269


1- سورة الحجر / آية 9.
2- القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 15 من طرق شتى . وأخرج ص 16 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59 )، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).

كالفرق في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ](1) من أنَّ (العادل) في المفهوم الظاهري المسمَّى بمفهوم الموافقة لهذه الآية أظهر من قولنا (إن لم يجئكم فاسق) المسمَّى بمفهوم المخالفة إذا ظهر معناه وهو المجهول الَّذي قد يختفي فيه العادل.

وقد يكون المحتمل هو المضمر وإذا دلَّ عليه الدَّليل يكون ظاهراً والظاهر يكون أظهر إن كانت دلائله أقوى، والأمثلة كثيرة سيَّالة في مقامات عديدة.

الخامس عشر/ في نماذج من الأمثلة الأخرى

المناسبة لبعض الظواهر المعلومةوقد أستفيد من بعض العبارات القرآنيَّة بصراحة كظواهر، لذا اخترنا ذكر بعضها كتطبيق من جانبنا، للتَّوسُّع العملي للتَّذكير والإفادة.

فإنَّ من ذلك ما في آية الوضوء وهي قوله تعالى [وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ](2) فإنَّ المراد منه - بعطف الأرجل على القريب وهو (رؤوسكم) - المسح لا الغَسل بحكم الظاهر لا ما يريده البعض من العطف على البعيد وهو (وجوهكم) لكونه خلاف الظاهر وبعيداً نحويَّاً عند أهل النَّظر.

وكالرَّمل المراد من مطلق الصَّعيد في آية التَّيمُّم الَّتي تقول [فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً](3).

وكالصَّلوات الخمس بأجمعها في آية [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ

ص: 270


1- الحجرات آية 6.
2- المائدة آية 6.
3- المائدة آية 6.

الْوُسْطَى](1) لأنَّ الوسطى مجهولة فيما بينها، فينبغي الاهتمام بالجميع لأدراك الوسطى تماماً.

وكالصَّوم المراد من قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ](2) ظاهراً أنَّه صوم شهر رمضان، ولو بمعونة آيات وروايات أخرى لا غيره، وإن كان قد يكون مطلوباً شرعاً إذا أريد من أدلَّته.

وكزكاة الأموال المرادة في كل آيات [وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ](3) المتعدِّدة ولو بمعونة أدلَّ أخرى.

وأمَّا ما في قوله تعالى [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى](4) فظاهرها زكاة الفطر لا زكاة المال للتَّقدُّم والتَّأخر في ذكر الزَّكاة في الآيتين.

وكالغنائم المطلقة الَّتي لا تختص بالغنائم الحربيَّة حسب التَّفسير اللُّغوي عند الحيرة والشَّك كما قاله الفيروز آبادي في قاموسه، وكذلك المفسِّرون من أمثاله معنا.

لا الَّتي يبني عليها العامَّة من المقيِّدة بالحربيَّة في فقههم كما في آية الخمس وهي قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ](5).

وكالحج الواجب في العمر مرَّة واحدة وإن أريد مطلق الحج في بعض الوجوه

ص: 271


1- البقرة آية 238.
2- البقرة آية 183.ج
3- البقرة آية 43.ج
4- الأعلى آية 14.
5- الأنفال آية 41.

من قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً](1) لأنَّ المطلق أخفى من الظاهر وإذا كان المطلق ظاهراً فالواجب أظهر بحسب أدلَّة أظهريَّته.

السَّادس عشر/ تعارض الأدلَّة القرآنيَّة في نفسها ومع غيرها

بعد البناء على ما أكَّدنا عليه سابقاً تحت عناوين متعدِّدة من البحوث الماضية من عصمة كلام الله تعالى وكلام رسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، وكذا الأئمَّة "صلوات الله عليهم أجمعين" تبعاً لمرجعيَّة القرآن ودستوريَّته وما يلحق به.

وبعد التَّأملات العلميَّة والمتابعات الميدانيَّة خلفاً عن سلف ظهر الكثير من حالات ما ظاهره التَّعارض بين النَّص والظاهر، وبين الأظهر والظاهر، وبين الظاهر والمضمر، ممَّا بين القرآن بعضه مع بعض، وبين القرآن والسنَّة، وبين السنَّة والسنَّة تفسيراً لآيات الأحكام، والتَّعارض بين الظاهر والإمارة وبين الأصل العملي تعبيراً في كل منهما عن المضمون القرآني في مقابل ما مرَّ ذكره في آخر الجزء الأوَّل ولو في الجملة من بحثتعارض الأحوال.

وهذه الأمور تبغي الحل، وبالأخص لو كانت من مباحث الحجَّة، وإن اشتركت بين اللَّفظيَّات واللبيَّات الآتية، لا خصوص مباحث الألفاظ كي يقتصر فيها في بعض أحوالها أو كثيرها على الأمور الأدبيَّة ولا يمكن تركها ما دام العلم منفتحاً ومصادر التَّشريع ميسورة وإن لم يكن اليسر تامَّاً في كل مجالاته وانفتاح العلم على مصراعيه بسبب الانسداد الصَّغير المعروف أو المتوسِّط، لئلاَّ تعطَّل الأحكام أو تغطى المصادر المخالفة لمذهب الحق عليه.

لعدم وجود أي تناقض شرعي كامل في مصادرنا في واقعه حسب عقائدنا الحقَّة

ص: 272


1- آل عمران آية 97.

إلاَّ بحالات تعارض ظاهري كانت لها علاماتها المعروفة في الزَّعم أو الاشتباه وثمَّ الجواب عنهما.

وهذه الأنواع من حالات التَّعارض قد تبدو من حالات التَّفاوت بين كتب التَّفسير الشِّيعيَّة والسنيَّة وبين كتب الأخبار المتعلِّقة بآيات الأحكام في مجامع الفريقين وحالات التَّفاوت الأصولي بين مقرَّرات الفريقين كذلك.

بل بين ما قد يحصل من التَّفاوت العلمي بين المحدِّثين والأصوليين أو بين عموم المجتهدين من فقهاء الشِّيعة الإماميَّة في بعض الفرعيَّات النَّاتجة ممَّا يحصل من ظواهر التَّعارض في الأدلَّة بما بينهم من الجزئيَّات الاجتهاديَّة.

فلابدَّ إن أردنا إجراء العلاج التَّدقيقي من اتِّخاذ أمور مهمَّة يفرز بها عند الوصول إلى الحق ما يستفاد منه بالنَّتيجة عمَّا لا يمكن أن يستفاد منه أو يجب الإعراض عنه.

وقد مرَّ الكلام فيما مضى من الأمور عمَّا بين النَّص والظاهر مع شيء من الأمثلة.

وكذا ما بين الأظهر والظاهر، والظاهر والمضمر، وشيء من الكلام أيضاً عمَّا بين القرآن والقرآن والقرآن والسنَّة وما بين السنَّة والسنَّة للصالح القرآني وآيات أحكامه لمرجعيَّته ودستوريَّته.

بقي الكلام عن التَّعارض بين الظاهر أو الإمارة والأصل العملي، فللإفادة الأكثر فيما مضى وما يأتي لنوجز الفكرة بعمومها قبل التَّفكير في علاج الأخير ثمَّ بيانه بعد ذلك.

فتارة قد يوجد التَّعارض في نطاق الدَّليل اللَّفظي بين كلامين صادرين من الله تعالى أو الله ورسوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أو الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

وأخرى بين دليل لفظي عن المعصوم ودليل من نوع آخر كالبرهاني

ص: 273

والاستقرائي، وفي كل من التَّارتين حالات:-

أمَّا الأولى وهي معارضة لفظ للفظ فحالاتها:-

الأولى/ استحالة أن يوجد كلامان تامَّان للمعصوم يكشف كل منهما بصورة قطعيَّة عن نوع من الحكم الشَّرعي مثلاً يختلف عن الَّذي يكشف عنه الكلام الآخر من نفس الموضوع.

ونقصد بالمعصوم هنا كل ما لا يعتريه الخطأ لعصمته، ككلام الله تعالى وكلام رسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وكلام أهل العصمة بالإمامة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

لأنَّه يوقع الأمر في التَّناقض المستحيل في صدوره من المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ مثلاً، كوجوب الصَّلاة وحرمتها أو الصَّوم وحرمته أو الحج وحرمته ونحو ذلك في موضوع واحد مع كمال الشُّروط.

الثَّانية/ قد يكون أحد الكلامين الصَّادرين عن المعصوم صريحاً وقطعيَّاً ويدل الآخر بمجرَّد ظهوره على ما ينافي المنصوص الصَّريح لذلك الكلام وقد مرَّ توضيحه.

ونضيف إيضاحاً أكثر مثالاً، وهو ما لو رأينا حديثاً نبويَّاً يقول بصراحة مثلاً (يجوز للصَّائم أن يرتمس في الماء حال صومه) ويقول في لفظ آخر ما ظاهره الحرمة وهو (لا ترتمس في الماء وأنت صائم) باعتبار أنَّ الحرمة أقرب المعاني إلى صيغة النَّهي -- وإناحتمل حملها على الكراهة -- فينشأ التَّعارض بين صراحة النَّص وبين الظاهر.

فيقدِّم النَّص على الظاهر بناءاً على هذه النَّتيجة وإن عدَّ مكروهاً عند القائل بذلك، إلاَّ إذا كان النَّص من السنَّة المعرض عنها واللفظ الظاهر معمولاً به فيقدِّم الثَّاني على الأوَّل وهو أن يترك الارتماس ولو احتياطاً.

الثَّالثة/ قد يكون موضوع الحكم في أحد اللفظين أخص وأضيق دائرة من الآخر كما بين العموم والخصوص المطلق.

ومثاله: ما لو جاء دليل يدل على تعميم حرمة الرِّبا وهو ما لفظه (الرِّبا حرام)

ص: 274

وفي اللَّفظ الآخر ما يدل على تضييق هذا الحكم بمثل لفظ ( الرِّبا بين الوالد وولده ليس بحرام).

وفي هذه الحالة نقدِّم الثَّاني على الأوَّل إن كان كلا اللَّفظين نصَّين أو ظاهرين أو الثَّاني أظهر.

وأمَّا في حالة كون الأوَّل نصَّاً والثَّاني ظاهراً أظهر أو الثَّاني ظاهراً فعلينا تطبيق الأوَّل ولو للاحتياط.

الرَّابعة/ وقد يكون أحد اللَّفظين دالاُّ على ثبوت حكم لموضوع والآخر ينفي ذلك الحكم في حالة معيَّنة تنفي ذلك الموضوع كما لو قال اللَّفظ الأوَّل (الحج واجب على المستطيع) وقال الآخر في مقابله (المدين ليس مستطيعاً) فيؤخذ بالثَّاني ويسمَّى حاكماً ولا يؤخذ بالأوَّل ويسمَّى محكوماً.

وذلك فيما لو كان كلا اللَّفظين نصَّين أو ظاهرين أو كانا ظاهرين والثَّاني أظهراً والأوَّل ظاهراً والثَّاني نصَّاً.

الخامسة/ ما إذا لم يكن في أحد اللفظين كلام صريح قطعي ولا ما يصلح أن يكون قرينة تفسيريَّة للآخر ومخصِّصة له أو مقيِّدة لإطلاقه أو حاكمة عليه فلا يجوز العمل بأي واحد منهما لأنَّهما بمستوى واحد.

كما لو دلَّ دليل وجوب الصَّلاة في الدار المغصوبة، ودليل حرمتها في نفس الدَّار -- إلاَّ في حالة واحدة وهي ضيق الوقت والصَّلاة حال الخروج من الدَّار -- فينتفي الوجوب أو الحرمة بالمعنى المطلق، لإمكان أن تكون حالة الالتقاء بما يؤدِّي حالة أداء الواجب ونفي الحرمة.

وفي هذا الاستثناء ما يرتبط بالعام والخاص من وجه بين الدَّليلين.

وأمَّا التَّارة الثَّانية:-

وهي معارضة اللَّفظ للدَّليل الثَّاني من الاستقرائي والبرهاني من النَّوع الآخر

ص: 275

وهو ما ينبغي أن ينبَّه عليه لعدم بيانه سابقاً، فحلُّه كذلك في حالات:-

الأولى/ فيما إذا جاء نص ثابت من المعصوم وفي قباله دليل برهاني أو استقرائي قطعي فلابدَّ من تقديم نص المعصوم لضعف كل ما يقابله مهما كان.

ولذا اعتبر فقهاء الشَّريعة عدم قبول تخريجات العقول في مقابل نصوص الشَّريعة الثَّابتة، وأدلَّة الأصول العمليَّة لم تتَّخذ أصوليَّاً إلاَّ في حالة عدم وجود النُّصوص اللفظيَّة الشَّرعيَّة.الثَّانية/ إذا وجد تعارض بين دليل لفظي ظاهري ودليل آخر ليس لفظيَّاً ولا قطعيَّاً، فلابدَّ من تقديم الدَّليل اللَّفظي في ظاهره، لأنَّه حجَّة كذلك دون غير اللَّفظي، لأنَّه ليس بحجَّة ما دام لا يؤدِّي إلى القطع كالظاهر.

كالَّذي يدل على أنَّ الجاهل بأحكام الزَّكاة ليس معذوراً، وهو المشهور.

وممَّن صرَّح بعدم معذوريَّة الجاهل إلاَّ في مواضع مخصوصة، كحكمي الجهر والاخفات، والقصر والإتمام، الشهيدان عَلَيْهِا السَّلاَمُ في مواضع من مصنّفاتهما(1).

وفي قباله ممَّن خالف في ذلك جمع من متأخري المتأخرين بقولهم بمعذوريَّة الجاهل في جملة من الأحكام إلاَّ مواضع مخصوصة، وهو ما بنى عليه جملة من العلماء منهم المولى الأردبيلي قدس سره، وتلميذه السيّد صاحب (المدارك) قدس سره، والمحدّث الكاشاني قدس سره، والمحدّث الأمين الأستر آبادي قدس سره، والمحدث العلاَّمة السيّد نعمة اللّه الجزائري قدس سره، والعلاَّمة الشَّيخ سلمان بن عبد اللّه البحراني قدس سره والمحدِّث الشَّيخ يوسف البحراني قدس سره(2).

الثَّالثة/ إذا عارض دليل لفظي غير ظاهر أو ضعيف دليلاً عقليَّاً برهانيَّاً أو استقرائيَّاً تامَّاً فلابدَّ من تقديم العقلي على اللَّفظي.

ص: 276


1- الألفيّة في الصلاة اليوميّة: 22- 23، روض الجنان: 248.
2- الدُّرر النَّجفية من الملتقطات اليوسفية ج1 - الشيخ يوسف البحراني - ص77.

لأنَّ العقلي يؤدِّي إلى العلم الشَّرعي واللَّفظي غير الصَّريح عاجز كرواية ضعيفة تقول بارتفاع التَّكليف عن الجاهل مطلقاً حتَّى لو كان مقصِّراً ودليل عقلي يقول باشتغال الذمَّة، لأنَّ من الجهل هو الجهل بالمكلَّف به.

فلابدَّ من اتِّباع الثَّاني وإن كان احتياطاً، وبالأخص إذا كان الدَّليل العقلي غير مستقل.

السَّابع عشر/ المقارنة بين حالة النَّص والظاهر

وبين حالة الحكم الواقعي وحالة الحكم الظاهري

قد يدور في الأذهان ما يمكن حصوله في هذه المقارنة، وهو أنَّ كل نص لفظي لابدَّ وأن يطرأ عليه الحكم الواقعي.

كوجوب الصَّلاة ووجوب الصَّوم والحج ونحو ذلك حينما يجيء من الأدلَّة الثَّابتة الصَّريحة بذلك من الكتاب والسنَّة، ما لم يكن ذلك النَّص مشتبهاً في نصيَّته كبعض الآيات، أو بعض نصوص السنَّة المحمولة على التقيَّة وإن بقي النَّص فيها على حاله.

وهكذا الظاهر في حقيقته إذا جاء من المصدرين الشَّريفين وإن احتمل خلاف الواقع من ثبوت هذا الحكم في ظاهره إذا كان ذلك الحكم ثابتاً من هذه الظواهر للشَّيء بما هو في نفسه فعل من الأفعال كهذه الأمثلة:-

فالوجوب ثابت للصَّلاة مثلاً بما هي صلاة في نفسها وبما هي فعل من الأفعال مع قطع النَّظر عن أي شيء آخر غير ذلك، وهكذا في بقيَّة أنواع الوجوب.

وأمَّا إذا كان الحكم ثابتاً للشَّيء بما هو مجهول حكمه الواقعي، كما في حالة اختلاف الفقهاء في حرمة النَّظر إلى وجه المرأة الأجنبيَّة، أو وجوب الإقامة قبل

ص: 277

الصَّلاة، حتَّى إذا كانت هناك بعض ألفاظ من الكتاب أو السنَّة.

لكنَّها لم تفِ بالمقصود الخاص لهذين الأمرين اجتهاداً.

فحصل هذا الحكم عن طريق الأدلَّة الفقاهتيَّة، كالأدلَّة العقليَّة القاضية بمثل الاحتياط أو الاشتغال أو البرائة، أو عدم الاعتناء بالشَّك الحاصل بعد عدم وجود الدَّليل الاجتهادي الدَّال على الحكم الواقعي.

فعند حصول الشَّك من بعد ذلك، بأن لا يعلم الفقيه حرمة النَّظر إلى وجه الأجنبيَّة، أو وجوب الإقامة قبل الصَّلاة، ولئلاَّ يكون متحيِّراً في ذلك.

فلابدَّ من وجود حكم آخر ولو كان عقليَّاً والسَّير على نهجه، كوجوب الاحتياط وغيره من الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل(1).

ولو قيل كيف يتساوى النَّص والظاهر القرآنيين في كون كليهما يطرأ عليهما الحكم الواقعي، مع أنَّ النَّص لا يحتمل الخلاف والظاهر يحتمله، ومع أنَّ الظاهر أيضاً لا يتناسب في ظاهره إلاَّ مع الحكم الظاهري لفظاً إن صحَّ التَّعبير؟

فإنَّا نقول: بأنَّ المراد من ظاهر الألفاظ كتاباً وسنَّة لا يتناسب مع الأصول العمليَّة إلاَّفي حالات كما أشرنا، ولذا يقدَّم عليها مع وجوده عند المعارضة كما مرَّ بيانه.

وإنَّ ما يسمَّى بالحكم الظاهري لا يمكن أن يلازمه دليليَّة الألفاظ وإن كانت منشئاً لأصوله العمليَّة، كمقوِّم الاحتياط الَّذي منه قولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (احتط لدينك)، وكمقوِّم الاستصحاب المعروف وهو (أبقِ ما كان على ما كان) وغيرهما.

وثمَّ أنَّ الحكم الواقعي مع الظاهر اللَّفظي وإن احتمل خلافه فإنَّه قد يتصادف تطابقهما ما دام الخلاف غير مقطوع به.

كما أنَّ النَّصيَّة الَّتي في الكتاب في بعض الحالات قد تكون مشتبهاً في تشخيصها.

ص: 278


1- راجع أصول المظفر قدس سره ج1 ص6.جج

وكذلك النَّصيَّة المدَّعاة في السنَّة المرتبطة بالكتاب قد تسبِّب ظنيَّة الصدور فيها عدم التَّطابق كذلك.

فتبيَّن إذن إمكان تساوي الألفاظ من الأدلَّة الاجتهاديَّة في حملها للأحكام الواقعيَّة بين النُّصوص والظواهر وإنَّ الأحكام الظاهريَّة حاصلة من الأصول العمليَّة المسمَّاة بالأدلَّة الفقاهتيَّة.

الثَّامن عشر/ الكلام عن أصالة الظهور

فبعد أن تمَّ الكلام عن حجيَّة الظهور وتماميَّتها - بأدلَّة عديدة وبيان الحاجة الفعليَّة إلى الظهور والبناء عليه في أغلب الحالات الاستدلاليَّة كتاباً وسنَّة - كان لزاماً علينا بيان ما ترقَّى إليه الأصوليون من أمر هذا الظهور.

فقد وصلوا إلى أمر مهم في تتبُّعاتهم حوله فجعلوا له أصالة يُبنى عليها عند الشَّك.

ومورد هذه الأصالة هو ما إذا كان اللَّفظ ظاهراً في معنى خاص لا على وجه خصوص النَّص فيه والَّذي لا يحتمل معه الخلاف.

بل حتَّى لو كان يحتمل إرادة خلاف الظاهر منه كما مرَّ من التَّفريق بين الظاهر والمضمر المحتمل.

فإنَّ الأصل حينئذ أن يحمل الكلام عند ورود الشَّك على الظاهر لا المضمر المحتمل كبقيَّة الأصالات الأخرى المعروفة - مثل أصالة عدم التَّقدير وأصالة الإطلاق وأصالة العموم وأصالة الحقيقة - حينما يرد شك في التَّقدير والتَّقييد والتَّخصيص والمجاز.

بل إنَّ جميع هذه الأصول الأخرى في الحقيقة هو نفس مأدَّى أصالة الظهور في مورد احتمال ما كان محتملاً وهو خفي، وهكذا في بقيَّة الأصول.

ص: 279

فلو عبَّرنا بدلاً عن كل من هذه الأصول بأصالة الظهور كان التَّعبير صحيحاً مؤدِّياً للغرض بتمامه، بل كلُّها يرجع اعتبارها إلى اعتبار أصالة الظهور.

فليس عندنا في الحقيقة إلاَّ أصل واحد وهو أصالة الظهور، وبذلك تكون هذه الأصالة أوسع ممَّا لو اقتصرنا عليها وحدها.

ومن أدلَّة ذلك أنَّه لو كان الكلام ظاهراً في المجاز مثلاً عكس المثال السَّابق من أدلَّة ذلك واحتمل إرادة الحقيقة وشكَّ في إرادتها فقد انعكس الأمر وكان الأصل من اللفظ هو المجاز لظهوره فيه بغلبة الظهور المجازي على احتمال الحقيقة لضعفها بالشَّك.

وهو دليل على أنَّ الأصل هو الظهور وهكذا بقيَّة الأصالات الأخرى الماضية.

التَّاسع عشر / ومن هذه الأمور النَّتيجة النِّهائيَّة

وخلاصة البحث الماضي بهذه الأسطر

فإنَّ نتيجة ما ذكرناه - وخلاصته التي لا تحتاج إلى برهان إضافي بعد الذي بيَّناه من الأمور الماضية عن ظواهر الكتاب الكريم والَّتي أهمُّها ما يتعلَّق بآيات الإحكام لا عمومالظواهر الَّتي قد تمنع كما فيما يتعلَّق بأمور العقائد في الله تعالى كالوجه واليد والعرش والكرسي واللَّوح والقلم، إلاَّ أن تحمل على الظواهر المجازيَّة ونحو ذلك في الخالق تعالى -.

هي أنَّ البناء على الظواهر - لو لم تكن النُّصوص وإن قلَّت ثابتة فيها - واجب أو ثابت بالرجحان المطلق.

ومن ضروريَّاته أنَّ تركه يسبِّب انغلاق باب العلم كثيراً في حين أنَّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة فضلاً عن عدمه.

ولأنَّ الشَّرع قد أوجب علينا أموراً يوميَّة وفوريَّة لا تقبل الانتظار، وإنَّ التَّأمل

ص: 280

في أطول مدَّة تزيد على حالة الاستظهار بهذه الطَّريقة لابدَّ وأن يسبِّب تأخير البيان مضارَّاً لا تطاق عن وقت الحاجة.

فلابدَّ من القول بحجيَّة الظهور في هذا الوقت الخاص.

وستتَّضح بعض أمور أخرى في الكلام عن أمور السنَّة والأمور اللُّبيَّة وأمور الحجَّة وبحوثها.

وهذا كلُّه مبني على القول بالتَّخطئة إماميَّاً، دون التَّصويب، لأنَّا أتباع الأدلَّة المعتبرة نميل معها حيث تميل.

ص: 281

الفصل الثَّالث

تعداد آيات الأحكام ومقاييس عدم حصرها بعدد معيَّن

وفيه مواضيع:-

الأوَّل/ ليس كل ما شاع من العدد له واقع

قد اشتهر بل شاع في بعض المصادر والأوساط العلميَّة بأنَّ آيات الأحكام عددها خمسمائة آية.

ولكن نوقش ذلك بالتِّكرار الموجود في تلك الآيات، سواء كان التِّكرار مزيَّداً للعدد أو مُنقصاً أو مبقياً على المقدار نفسه وبالمتداخل القابل للانحلال منها إلى آيات أو مضامين آيات في المعنى.

سواء كان هذا الانحلال من آية واحدة تحمل مضمونين أو أكثر أو آيتين ظاهرهما التَّداخل المؤدِّي إلى معنى واحد.

وبعد التَّأمُّل والتَّوسُّع في المراجعة قد يصل الأمر إلى أن يحصل بعد الانحلال معنيان من الآيتين، كما في الالتقاء الموحَّد بين العموم والخصوص من وجه والانفصال من جهتين، أو العموم والخصوص المطلق.

ومن ذلك ما ذكره بعض الأفاضل من أنَّ بعض هذه الآيات ما يتعلَّق بالعنوان الفقهي وذكر له عدداً منحصراً به وهو (348) آية كالطَّهارة والصَّلاة والزَّكاة ونحو ذلك.

وبعضها ما يتعلَّق بالمعنون الفقهي وذكر له عدداً منحصراً به وهو (467) آية،

ص: 282

كأمور الوضوء والتَّيمُّم والغُسل من الجنابة والحيض ونحو ذلك في الطَّهارة وأمور الاتِّجاه إلى القبلة والأوقات الخاصَّة وحالات الرُّكوع والسُّجود ونحو ذلك في الصَّلاة وهكذا.

وتوضيحه بمعنى أنَّ عنوان الطَّهارة مثلاً له من هذه الآيات (12)، آية ولكن ما حواه ممَّا تحته من المعنونات (18) آية .

وهكذا في بقيَّة العناوين والمعنونات الأخرى ولعلَّه مما يحصل من نتيجة التَّداخل مع تجنُّب التَّأكيديَّات من المكرَّرات اللَّفظيَّة وغيرها ما قد يصل إلى خمسمائة آية.

لكن يبدو الأمر مشكلاً بحسب الدِّقة كذلك.

إلاَّ أن نقول بالمعنى التَّقريبي، وهو لا يعطي الضبط الكامل، إذ قد يزيد في العدد ولو قليلاً ولا ينقص.

مع أنَّ بعض أو كثير من المكرَّرات تابعة لسياقات كل منها المخالفة إجمالاً لكل منها.

ولكن نحن بدورنا نحاول جهد الإمكان أن نستقري كل ما يظهر لنا به علاقة بالأمور الفقهيَّة - منطوقيَّة بحسب النَّص والظاهر ومفهوميه بما تعارف الأخذ به من مفهومي الشَّرط والغاية، مع دعم القرآن بالقرآن ودعم القرآن بالسنَّة المعتبرة.

لأنَّا لسنا ممَّن يقول (حسبنا كتاب الله)(1) والحمد لله، إلاَّ بالركون إلى العترة معه، ودعم القرآن بالإجماع والسِّيرة والعقل الخاضع لدقائق الشَّرع بالأدلَّة الإرشاديَّة.

كما في قوله تعالى [فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ](2) إرشاداً منه تعالى إلى ما

ص: 283


1- صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عني.
2- سورة النساء / آية 15.

يستقر في عقول العقلاء من أهميَّة رعاية المصالح الدُنيويَّة ودفع مفاسدها، ولحسن الإحسان وقبح الظلم الموصلين إلى قبول المستقلاَّت العقليَّة في مقامها الخاص.

لمحاولة الوصول إلى العدد الصَّحيح أو ما يقاربه عن طريق التَّدقيق في بحوثنا الفقهيَّة الآتية من دورتنا هذه إذا حالفنا الحظ، ولو من مختلف ما يصل بأيدينا من المصادر المناسبة وحتَّى المراجع الحديثة الَّتي لا تخرج عن طور مدارك الجميع المعتبرة حتَّى فيما ورد منها في بعض القصص القرآنيَّة الَّتي قد يعتبرها البعض بعيدة عن حملها للأحكام.

بينما الأمر ليس كذلك في كل مجال، لأنَّها قد تحمل أحكاماً قد تكون ممضاة في كياننا الشَّرعي وفي سنَّة نبينا صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وبالإجماع والسِّيرة وبالعقل.

كما في قصَّة بني إسرائيل لمَّا أعلنوا التَّمرُّد والإفساد في الأرض الَّتي بعدها كتب الله عليهم حكم القصاص على الجنايات كالسِّن بالسِّن والعين بالعين وغيرهما وقد أمضاه تعالى في شرعنا كما قال [وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَنلَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ](1).

وحتَّى المنسوخ المتقن في نسخه مع بقاء آيته، لكون النَّسخ جزيَّئاً في واقعه، لتبقى الآية باقية على حجيَّتها ولو ببعض المعنى كما سيتَّضح.

بل حتَّى المكرَّرات، لكون التِّكرار وإن كان من معانيه التَّأكيد الَّذي لا يكثر العدد في كثير منه، لأنَّ منه ما سيتَّضح التَّعرُّف عليه في بحوث هذا المدخل من دورتنا الفقهيَّة الآتية، من جهة كون بعضها ملحقاً بمضامين قرآنيَّة متفاوتة ممَّا قبلها أو بعدها تبعد جانب خصوص التَّأكيد فيزيد العدد كما سيتَّضح.

علماً بأنَّ الأحكام المقصودة في حمل الآيات لها هي الأحكام التَّكليفيَّة ولو

ص: 284


1- سورة المائدة / آية 45.

كانت معها الوضعيَّة لزاد العدد كذلك كما سيأتي على ما أثبتته أسباب النُّزول الصَّحيحة.

وعليه فهذه الشُّهرة أو الإشاعة بهذا العدد الخاص أو ما يقاربه للآيات مع هذه الاحتمالات وغيرها ممَّا سيأتي توضيحه قد لا تكون لها مصداقيَّة مضمونة بالدِّقة الكاملة وبالتَّحقيق الدَّقيق لكل آية وآية وبالمدرك المدروس لها تماماً وكما أورده المناقشون.

بل إنَّ هذه المناقشات كانت أيضاً في كثير منها ذات إجمال في نتيجتها لا توصلنا إلى عدد معين إلاَّ بعد استغراق البحوث العلميَّة والعمليَّة في سبيل ذلك، وهذا ليس بالسَّهل اليسير دائماً قبل تمام الاستغراق.

وعلى أي حال، فسواء كان العدد المدَّعى وهو الخمسمائة آية من حيث الدِّقة المحتملة، حسبما وصل إليه بعض الفطاحل القدامى قدس سره من معرفتهم لعدد تلك الآيات من نفس تلك الآيات المدَّعاة، أو من ضمِّ بعضها إلى البعض الآخر كما فيما بين العناوين والمعنونات ، أو من خواصِّها المعلومة من السنَّة الشَّريفة.

أو نحو ذلك ممَّا قد يكون لم يصل إلينا بعض تلك المصادر بضبط مقنع أو لم تتوفَّر لدينا حتَّى مع سعينا الحثيث، وإنَّما وصلنا منها النَّتائج فقط، وهم - بطبع إكبارنا لهم - لا يمكن تكذيبهم، وإن كانوا معنا من المخطِّئة.

فإنَّ الإشكال في إصابتهم للهدف باق لما أشرنا إليه في بداية الحديث، ومن حيث ما اعتبره الآخرون من كون السَّبب هو التِّكرار المفيد للكثرة في بعض الحالات والتَّداخل لو أمكن الانحلال منه إلى مضامين متعدِّدة يختلف بعضها عن بعض ولو بمعونة من السنَّة مثلاً، أو ما يتفاوت فيه العدد قلَّة وكثرة عن الفرق بين عدد العنوان عن عدد المعنون حينما لا يحصل من ذلك تصحيح للخمسمائة آية وحدها كما اشتهر وشاع من حيث النَّتيجة.

ص: 285

بل قد يزيد في العدد إلى ما هو الأكثر ولو في الجملة المعقولة المقبولة.

إضافة إلى أنَّه قد ورد في مقابل هذا التَّحديد بسند معتبر عن الإمام الجواد عَلَيْهِ السَّلاَمُ (القرآن أربعة أرباع ربع فينا وربع في عدِّونا وربع فرائض وأحكام وربع قصصوأمثال)(1).

وقريب منه روي عن أبي جعفر الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ أيضاً، وقبله عن النبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أيضاً.

بل وثمَّة روايات أخرى كما عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال سمعت أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ يقول (نزل القرآن أثلاثاً : ثلث فينا وفي عدوّنا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام)(2)، لكن جميع ما ورد هنا لم يتشخَّص العدد دقيقاً.

الثَّاني/ سؤال غريب ليس له جواب شافي

وممَّا مرَّ ذكره قد يرد سؤال غريب ناشئ عن رواية الإمام الجواد عَلَيْهِ السَّلاَمُ لا جواب له، إلاَّ العكس أو البقاء على الإجمال الَّذي سبق وإن نبَّهنا عليه أعلاه، وهو الَّذي لا يكون المستوضح أمر العدد فيه ثابتاً إلاَّ بعد انتهاء دورتنا الفقهيَّة هذه عن آيات الأحكام بأجمعها بإذن الله

وهذا السؤال هو أنَّ عدد آيات القرآن الكريم بأجمعها إذا كان - كما لا يخفى - ستَّة آلاف آية وستُّمائة وستَّة وستِّين آية.

فكيف ينسجم مع عدد الخمسمائة آية والخمسمائة لا تناسب لها مع ربع هذا

ص: 286


1- الكافي: ج2، ص459 وتفسير البرهان: ج1، ص21 وتفسير الصافي ج1 ص24، ومصابيح الأنوار ج2 ص294، وعدة رسائل للمفيد (المسائل السروية) ص225، وتفسير العياشي ج1 ص9 وفي هامشه عن البحار ج19 ص30.
2- تفسير العياشي ص8.

المقدار (بضمِّ الرَّاء) الَّذي لابدَّ وأن يصل إلى الأكثر من ثلاثة أضعافها؟

وعند الإنصاف أكثر:-

فإمَّا أن نقول بناءاً على صحَّة هذه الرِّواية سنداً ومتناً كما لا يخفى بنقصان الموجود من آيات الأحكام إذا لم يكن غير الخمسمائة آية فرضاً موجوداً وهو الَّذي يستدعي القول بالنُّقصان، كما ادَّعاه بعض الصَّحابة وبعض نسوة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كالثَّاني والمرأة وغيرهما، كما هو مدَّون في كتب القوم فراجع.

وهو مرفوض عندنا جملة وتفصيلاً، لتواتر ما بين الدَّفتين في صحَّته وكماله بين أيدينا.

وإذا كان هناك نقص افتراضاً لا يقدر أحد على ادِّعائه للتَّواتر المعروف وكما ورد عن سلفنا الصَّالح قولهم ((يكفينا ما بين الدَّفتين)) وإن كانت مواريث النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والعترة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كاملة عند صاحب العصر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ.

فالرُّكون إلى السنَّة عن العترة هو الَّذي يشفي العليل ويروي الغليل في بيان المقاصد الخفيَّة والأسرار القرآنيَّة.

أو أن نقول وندَّعى زيادات في كونها آيات في الأحكام لم تضم إلى كتاب الله كذلك، كالوحي غير القرآني وإن كان نافعاً جدَّاً أو داخلاً في بعض أسرار التَّأويل.

وهو ممنوع للسَّبب نفسه جملة وتفصيلاً كما مرَّ تحقيقه في الكلام عن جمع القرآن وزيادته ونقصانه، وإن ما احتملتاه مع تمام صحَّته لا يزيد على المحدود.

أو نقول بعدم فهم المقصود من هذه الآيات - عن هذه الرِّواية كما يتناسب ومحتواها الواقعي بما يفرز العدد الصَّحيح - حقَّ الفهم، إلاَّ بالتَّوجيه غير المخجل بضوابط ما بين الدَّفَّتين.

وإن ظهر بعضها بمظهر عدم كونها من آيات الأحكام كما في القصص أو ما عرف بالمفهوم المعتبر في الأصول كالشَّرط والغاية من ذلك إذا أريد على إطلاقه

ص: 287

حينما نوقش في المفهوم بكونه لم يكن كالمنطوق في الاعتبار.

أو أنَّه قد لا يكون مشهوراً في ضمِّه، أو كان ممَّا ضمَّت إليه السنَّة الشَّريفة الَّتي أوصى بها النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في الأخذ بها من الثِّقل الثَّاني في حديث الثَّقلين الَّذين حاربهما المخالفون والمنقلبون على أعقابهم ممَّا قد ناقشنا فيه سابقاً ولاحقاً.

وهذا الوجه الثَّالث هو ممَّا يتناسب مع القول بأنَّ عدد الخمسمائة آية غير مضبوط تحقيقاً.

ولوجود بعض المخالفين لهذا وكما مرَّ التَّلميح لذلك، أو شيء منه في مطلع البحث وهو القريب في تعقلُّه وتقبُّله.

لكن لا على أساس خصوص ما هو الأقل منها، بل إنَّ الأقرب هو الخمسمائة فما فوق، لعدم العثور على مدرك العدد المحدَّد بتمامه، مع ضعف احتمال الأقل في قبال شهرة الخمسمائة وإشاعتها مع ما نذكره الآن من الاحتمالات المكثِّرة في العدد.

وبالأخص لو لم نلتزم بكون الخمسمائة إذا بقينا عليها - في عناوينها ومعنوناتهاالفقهيَّة الَّتي توصَّل إليها بعض الأفاضل إلى أن يكون المجموع ثمانمائة وخمسة عشر لا تزيد عليها - كآيات جامعة قابلة للانحلال إلى آيات أو مضامين آيات.

وبالأخص أيضاً إذا استندنا فيها إلى السنَّة عن العترة المطهَّرة في تشخيص مصاديق بعض معنونات العناوين الَّتي لم تتَّضح من نفس القرآن إلاَّ بالسنَّة أو تشخيص المعنونات تشخيصاً كاملاً بعد ما حصل تشخيص قرآني إجمالي عن طريق السنَّة أو حتَّى تشخيص بعض العناوين الفقهيَّة من السنَّة ولكن معنوناتها كانت مذكورة في القرآن الكريم.

كما في عنوان الدِّية المذكورة في القرآن وهي قوله تعالى [فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ](1)، وكان المعنون مثلاً في السنَّة وإن لم يزد العدد بذلك في أصل الموعود من

ص: 288


1- سورة النساء / آية 92.

العنوان.

وكما في الآية المنسوخة وناسخها مثلاً من السنَّة المعتبرة المتواترة.

لأنَّ آيتي الدِّية والآية المنسوخة لم يكن يتداخل معهما شيء من المعنونات الَّتي في القرآن نفسه لعدم وجود شيء يناسبه وهذا ما قد يساعد على الزِّيادة الإضافيَّة ويصير مقياساً لها.

ولذلك ادَّعى بعض أعلامنا اعتماداً على بعض المدارك أنَّ الإمام الغائب عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ إذا ظهر ظهرت منه أمور فقهيَّة لم تكن مألوفة من قبل، وكأنَّه يأتي بدين جديد ويجابهه علماء السُّوء في حينه بقولهم (ارجع من حيث أتيت حسبنا كتاب الله)(1) فيقاومهم.

ولهذا ولأمثاله عرف عن العلم ومنه سيِّد العلوم وهو الفقه بعد العقائد (أعطه كلَّك يعطك بعضه)، وهو ما يتساوى مع مبدأ التَّخطئة في نظرنا نحن الإماميَّة كما أسلفنا.

ولعلَّ من الَّذي يحتمل فيه العثور على الزِّيادة من عدد الآيات المطلوبة هو البناء على ما جمعه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عَلَيْهِ السَّلاَمُ - لا على خصوص ما جمع فيما بين الدَّفتين الحالي - وهو ما تسلسل من الوحي في نزوله تسلسلاً بحسب المناسبات، لأنَّه أوفى بالمقصود وإن كانا واحداً في الأصل.

وهذا المجموع من قبل أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ وبخطِّه الشَّريف هو إن لم نوفَّق لرؤيته لكونه محفوظاً عند المولى صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ.

فإنَّنا إذا تمسَّكنا بروايات أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الَّتي لابدَّ وأن ترعى في مضامينها المقاصد الحقيقيَّة لآيات الأحكام وما يتناسب منها والتَّسلسل الطَّبيعي والَّذي لا

ص: 289


1- صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عنِّي.

علاقة له بالتَّحريف في شيء ولو بحسب الظاهر واستفرغنا وسعنا في سبيل تحصيل تلك المدارك ونتائجها.

فلا شكَّ حينئذ في إمكان تحصيل النِّسبة العدديَّة الَّتي لا تتقيَّد بالخمسمائة أيضاً، بل قد تزيد عليها وتصل إلى ما يتناسب والرُّبع الخاص بالأحكام والفرائض ممَّا يوفَّق لهالمجتهدون المحقِّقون نتيجة لاستفراغ وسعهم في هذا السَّبيل مع براءة الذمَّة عمَّا لم يظهر لنا غيره إن كان.

أو أن توجَّه كلمة الرُّبع في الرِّواية لأعلى المعنى الحقيقي العددي الدَّقيق، بل على المعنى المجازي أو الحقيقي الَّذي قد يتسامح في إفراده خارجاً في القلَّة والكثرة.

أو أنَّ الفرائض والأحكام الَّتي تتناسب مع ربع القرآن الدَّقيق قد تكون أصولاً فقهيَّة وقواعد خاصَّة بالفقه وفقهيَّات ذات أحكام تكليفيَّة ووضعيَّة وقضايا كليَّة وجزئية في أسباب نزولها.

إلاَّ أنَّها لعلَّها عمِّمت بسبب نصوص وأدلَّة أخرى مع ما احتملناه من أحكام القصص والمفاهيم.

وبهذا المعنى الأخر قد يتوسَّع المقصود ويقترب المنشود من مدلول الرِّواية وهو بالتَّأكيد يبتعد عن خصوص الخمسمائة آية في الزِّيادة بصورة أوضح من ذي قبل.

وأمَّا إذا لم يُبنَ على هذه الرِّواية لبعض الدَّواعي فلم تبق الخمسمائة هي المرادة كذلك لما مضى ولما سيجيء وحدها، إلاَّ إذا جاء دليل أخر يساعد عليها خاصَّة وهو لم يكن.

وبالأخص لو بنينا على رواية الثُّلث الَّتي ذكرناها بعد وهي الأدهى والأشد في أهميَّة عدم الحد بخصوص الخمسمائة مع صحَّة رواية الأرباع في دواعي أخرى.

فلابدَّ من اللُّجوء إلى التَّوجيهات الوجيهة الَّتي ذكرنا بعضها أو أكثرها ممَّا يعطي المجال في المقياسيَّة الَّتي لا تجعل البقاء على الخمسمائة ثابتاً.

ص: 290

الثَّالث/ سؤال آخر تأكيدي نجيب عليه

ثمَّ إنَّه ينبغي أن يطرح للتَّأكيد سؤال أخر - كما وعدنا لنجيب عليه حول نفس الموضوع - وهو هل أنَّ تكرار بعض آيات الحكم الشَّرعي يزيد في نسبة عددها على إطلاقه حينما لم يكن أحد أسباب تحديدها في خصوص الخمسمائة؟

فنقول: لا شكَّ في أنَّ كل تكرار لفظي في القرآن الكريم، ومنه آيات الأحكام إن وجد في تشابهه الحرفي بدقَّة أو بما يقرب منه أو المعنوي بحيث لا يتغيَّر معناه عمَّا سبقه وبلا أن يدخله المعنى التَّأكيدي على الأقل فهو لغو مرفوض في كل العلوم الأدبيَّة والمنطقيَّة والأصوليَّة، وهو بعيد عن إعجاز ما بين الدَّفتين واختلاف السِّياقات.

إضافة إلى عدم ثبوت الزِّيادة المسلَّم بطلانها فيه، وبالأخص فيما نعنيه من الآيات، وهي واللَّغو ممنوعان في العموم والخصوص القرآني، لثبوت وأهميَّة إعجازهما المسلَّم والمتَّفق عليه والَّذي لابدَّ منه عقلاً ونقلاً والَّذي يضر به هذان الأمران.

وعليه فإذا كان فيه تكرار قد أعدَّ للتَّأكيد مثلاً وكما يرام في أحد مداليله ومنه ما لو لم يكن حرفيَّاً لفظيَّاً بتلك الدِّقة في التَّشابه الَّذي لا يغيِّر المعنى كما هو مشهود به في بعض الآيات كالتِّكرار الموجود في بعض آيات الصَّوم وهي قوله تعالى [وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ](1) المسبوق بما يشبهه وهو قوله تعالى [فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ](2).

فإنَّه مع نفيه اللَّغويَّة والزِّيادة السَّابق ذكرها لا يضيف شيئاً على الخمسمائة آية إن لم تكن منها وإن كان التَّشابه في بعض الحروف أو كان لا تشابه في اللَّفظ وبما

ص: 291


1- سورة البقرة / آية 185.
2- سورة البقرة / آية 184.ج

يغيِّر المعنى بين السَّابق واللاحق، لأنَّ (اختلاف اللَّفظ يدل على اختلاف المعنى) ولو في بعض الحروف أو من حيث التَّغيير المفهومي.

فإنَّه ممَّا لا ينفي الزِّيادة المحتملة ولو المقاربة منها للخمسمائة آية، وإن أدُّعي التِّكرار والتَّشابه بعض الشَّيء بسبب العلاقة بالآيتين الماضيتين كما سيأتي.

كما فيما بين قوله تعالى [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ](1) وهو المعروف بنسخه بما يأتي والَّذي يكون معناه بناءاً على النَّسخ (وعلى القادرين على الصَّوم إذا لم يلتزموا به أن يعطوا الفدية بدلاً عنه وإن يصوموا ولا يدفعوا الفدية).

وبين قوله تعالى بعد ذلك [فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ](2).

لأنَّ الآية الأولى فيها ضمان ما كان منسوخاً إسلاميَّاً في صدر الإسلام، وهو التَّخيير بين الصَّوم والفدية، لعدم التَّعوُّد على الصَّوم آنذاك باستثناء المريض الَّذي لا يقدر عليهوالمسافر القاطع للمسافة المعروفة قديماً وحديثاً والثَّانية فيها ضمان ما بعد النَّسخ وهو تعيُّن الصَّوم على المكلَّف بلا بديل من الفدية.

حيث جعلت بعد ذلك على المريض الَّذي استمرَّ به المرض إلى شهر رمضان الثَّاني من دون قدرة على القضاء، ونحو ذلك.

وإنَّما قلنا بإمكان أن تزيد نسبة الخمسمائة آية في مثل حالة النَّسخ هذه كي يجعل أحد المقاييس الآتية للتَّعرُّف على الزِّيادة في العدد.

لأنَّ مبنانا فيه على النَّسخ الجزئي لا الكلِّي الَّذي يبطل الآية السَّابقة في كل معنى تحمله كما مرَّ، باعتبار أنَّ هذا يخل بالإعجاز المسلَّم مع كون القرآن حمَّال وجوه، وهو من نوع تخصيص العام في الأصول.

ص: 292


1- سورة البقرة / آية 184.ج
2- سورة البقرة / آية 185.ج

إضافة إلى أنَّ الآية المنسوخة بعد النَّسخ لا تخلو من بعض معاني أخرى ولو بمعونة السنَّة الشَّريفة وغيرها من الأدلَّة.

إضافة أيضاً إلى أنَّ التِّكرار الَّذي ذكرناه سابقاً في الآيتين السَّابقتين وهما قوله [فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ](1) السَّابق للآية المنسوخة.

وقوله [وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ](2) اللاحق للآية النَّاسخة والَّذي جعلناه تكراراً مؤكَّداً.

قد يحتمل فيه - بضمِّ كل من الآيتين إلى كل من المنسوخ والنَّاسخ مع تفسير النَّسخ بالجزئي لا الكلِّي - أنَّ كلاًّ منهما - مع ما ضُمَّ إليه - يحمل معنى فقهيَّاً - ولو بمعونة الأدلَّة الأخرى - يختلف عن المعنى الآخر.

وهو ممَّا قد يزيد في نسبة الخمسمائة آية أو الأكثر ويجعل مقياساً آخر لذلك.

ومن ذلك كل تكرار لفظي مسبوق أو ملحوق بما يغيِّر المعنى ويجعله متفاوتاً، وإن كان بحسب ظاهره مرتبطاً بالتِّكرار المؤكَّد.

لأن قاعدة كل تكرار مؤكَّد لم تثبت دوماً مادامت المعاني الشَّريفة الأخرى محتملة، وبالأخص إذا احتيج إليها في آيات الأحكام واستخرجت من جرَّاء التَّبحُّر الفقهي - المتنوِّع في مداخله ومخارجه - أو التَّفسيري المتداخل مع الفقه أو الأصول - أو الأدبي - المرتبط جدَّاً بذلك - أمور تنفي ذلك التَّأكيد أو تبقيه مع ضمِّ بعض المعاني الأخرى.

فالآية الأولى وهي [فَمَن كَانَ مِنكُم] جاءت لتأسيس المعذرَّية من التَّكليف بعد الفسخ وانتهاء فترة التَّخيير، وصارت الفدية لمن يستمر به المرض إلى رمضان الثَّاني كما مضى.

ص: 293


1- سورة البقرة / آية 185.
2- سورة البقرة / آية 184.ج

والآية الثَّانية جاءت لتجديد المعذريَّة بعد تعميم التَّكليف لغرض بيان فلسفة المعذريَّة، بدليل قوله تعالى بعد ذلك [يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ](1).

ولطالما بحث الباحثون ودقَّق المدقِّقون فقهاً وأصولاً ونحو ذلك في المواقع العلميَّةالمختلفة واقتضى التَّطويل العلمي عندهم نقضاً وإبراماً حكماً وموضوعاً في سبيل تحقيق ما يصبون نحوه، وإن اقتضى تكرارهم الاستدلالي ما فيه بعض التَّشابه من تلك المواقع العلميَّة المختلفة - كالآية الواحدة أو الرِّواية الواحدة أو أي مدرك مقبول أخر واحد وارداً على أكثر من مطلب ومطلب.

لأنَّ تلك الآية أو الرِّواية أو غيرهما قد تكون واسعة المجال قابلة لأن يستفاد منها في أكثر من مجال، فحين وجود هكذا آية منطبقة على أكثر من معنى لا يمكن أن يقال عنها أنَّها قابلة للتِّكرار التَّأكيدي الَّذي لا يقبل منه ذلك دوماً فقط.

إلاَّ إذا كان لفظاً متشابهاً في كل حروفه بلا تقيُّد بأي ناحية لفظيَّة سابقة أو لاحقة مغيِّرة لأحد المتكرِّرين عن الآخر، أو كان التَّشابه في بعض حروفه أو كثيرها أو أكثرها أو أجمعها وكان فيما بين المكرِّرين ترادف معنوي موحَّد.

بناءاً على أنَّ اختلاف اللَّفظ قد لا يغيِّر المعنى، وإن كنَّا لا نأنس به إلاَّ إذا ثبت بدليل قطعي.

كما قد يظهر من بعض النُّصوص الَّتي ظاهرها التِّكرار أيضاً حتَّى اللَّفظي منها وبما تعارف القول بأنَّه للتَّأكيد فقط، إلاَّ أنَّه يمنع اعتباره في ذلك أدبيَّاً مثل كثرة التِّكرار المماثل بلا وجه وجيه، غير التِّكرار العادي الَّذي يمكن تقبُّله للتَّأكيد في بعض الحالات ممَّا مرَّ ذكره آنفاً.

كآيات الصَّلاة والزَّكاة كقوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ](2) الَّتي

ص: 294


1- سورة البقرة / آية 185.
2- سورة البقرة / آية 43.ج

تصل بكثرتها إلى حدِّ متعدِّد كثيراً.

فإنَّها إذا ربطت في بعضها على ما يناسب الدقَّة المطابقة للواقع المخالف للظاهر المذكور بما بعدها.

فإنَّها سوف تحمل - لو قارنَّاها بأمثالها الَّتي يكون ما بعدها أيضاً مغايراً لما بعد تلك - معنى مغايراً لما يرتبط بما بين خصوص المتماثل التَّأكيدي، لاختلاف المقامات والموارد.

فضلاً عمَّا لو يقع تقديم وتأخير ما بين الصَّلاة والزَّكاة مثلاً، كما في آية أخرى عكس الآيات المتماثلة السَّابقة الذِّكر، فيسبِّب ذلك التَّغاير الحكمي كذلك لما سبق كما في قوله تعالى [قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (87) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى](1) وإن حصل التَّشابه بين هذه الآية وبين الآيات السَّابقة في بعض الأمور.

فإنَّ هذه الآية لما تقدَّمت الزَّكاة منها على الصَّلاة فإنَّه يراد من الزَّكاة فيها هو زكاة الفطرة ومن الصَّلاة صلاة العيد بقرينة كون مشروعيَّة دفع الزَّكاة قبل صلاة العيد ولو بمعونة أدلَّة إضافيَّة.

وأنَّ تلك الآيات السَّابقة يراد من الصَّلاة فيها هي الصَّلاة اليوميَّة ومن الزَّكاة زكاة الأموال، ولذا تأخَّرت في الذِّكر عنها لأنَّ الصَّلاة عمود الدِّين وأهم أركانه.

وهذه الكثرة في التِّكرار بما وجَّهناه يحصل مقياس آخر في إمكان تكثير العدد.إلى غير ذلك من أنواع التِّكرار الكثير الَّذي لم يقبل إلاَّ بالتَّوجيه الشَّرعي.

ص: 295


1- سورة الأعلى / آية 14.

الرَّابع/ إجابة توضيحيَّة على سؤال آخر

تتضمَّن بعض المقاييس النَّافعة الأخرى

وللتَّوضيح الأكثر لنطرح سؤالاً آخر مناسباً للإجابة عليه وهو:

هل أنَّ التَّداخل في بعض الآيات -- كأية واحدة تحمل مطلبين أو أكثر في آن واحد بسبب الاشتراك اللَّفظي، أو غيره كما فيما بين المنطوق والمفهوم، أو بسبب تعدُّد القراءات إذا أمكن انحلاله إلى أكثر من معنى وحكم ولو بمعونة بعض الأدلَّة الأخرى -

يؤثِّر في كميَّة الآيات وإن كان ضمن آية واحدة فيكثِّرها أو لابدَّ من بقاءها ولو بحسب

الظاهر على ذلك الموحَّد العنواني من القدر المعروف في الآية الواحدة وإن احتملت أكثر من معنى واحد؟

وعلى الأخص فيما لو كانت الواحدة منها قابلة للتَّبعيض والتَّقطيع على ألفاظ يحمل كل منها معنى متفاوتاً عن الآخر؟

وهكذا فيما لو كان هذا التداخل المعنوي قابلاً للانحلال إلى أكثر من معنى فيما لو كان بين أكثر من آية وان احتمل التكرار التأكيدي فيها ولو اعتماداً على كون القرآن بين بعض آياته يفسِّر بعضه بعضاً؟

فنقول لسرد أحد المقاييس الأخرى: إنَّ مثل اللَّفظ المشترك المرتبط بآيات الأحكام كلفظ القرء المراد به الطُّهر من الحيض، والمراد منه أيضاً نفس الحيض حسب قرينة كلِّ منهما، ومنه ما في الآية الواحدة الَّتي يمكن أن يكون اشتراكها اللفظي في معنيين إذا كان كلا المعنيين أمراً فقهيَّاً.

وقامت القرينة الخاصَّة المسمَّاة بمعيِّنة المراد لكل منهما، بما يتفاوت أحدهما عن الآخر ولو بمعونة الأدلَّة الصَّحيحة الأخرى.

ص: 296

وهكذا لو كان لأكثر من المعنيين مع توفُّر القرائن المتفاوتة لصالح كل منها ممَّا يناسبها، سواء كانت القرائن من نفس الكتاب الكريم أو السنَّة أو الإجماع أو السِّيرة المستمرَّة وبقيَّة الأدلَّة كالحلول الأدبيَّة المتَّفق عليها بين الفقهاء والمفسِّرين لغوامض التَّعابير القرآنيَّة، وإن لم يكن الانطباق على الجميع في آن واحد.

فلابدَّ -- بناءاً على أنَّ القرآن حمَّال وجوه كما هو الصَّحيح والمبيَّن في محلِّه من هذا المدخل وأنَّ الآية الواحدة قد تدل على أكثر من معنى وإن كان سبب نزولها التَّأريخي محمولاً على خصوص أحد معانيها أو أهمِّها لما أوضحناه من التَّوجيه في بحث أسباب النُّزول ولما هو محقَّق في محلِّه من أنَّ الاتِّحاد في القراءة المتَّفق عليها مثلاً إذا تفاوت المبنى الصَّرفي للفظته القرآنيَّة الواحدة على مبنيين ككلمة الأمر في قوله تعالى [لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ](1) الَّتي يمكن أن نجمعها على أوامر وأمور، علماً بأنَّ الجمع الأوَّل في خصوص الفقهيَّات والثَّاني الَّذي بمعنى عموم الأشياء الَّتي في ضمنها الفقهيَّات قد يؤثِّر أثره بتعدُّد المعنى الفقهي --

من أن يسبِّب ذلك ما يشبه تعدُّد الآية المتفاوت بالتَّالي ويجعل مقياساً للتَّعدُّد المكثر في العدد وإن كانت هي تلك الآية الواحدة المفترضة أوَّلاً.

وذلك إذا جعلنا الآية هي الدَّليل على الحكم الشَّرعي المتنوِّع بسبب تعدُّد وجوهها وبما يجعل اللفظ متكيِّفاً تكيُّف الاختلاف والتَّفاوت الحكمي باختلاف تلك الوجوه بلا تناقض مخل بالإعجاز كما مرَّ، وهو الانحلال الَّذي أشرنا إليه في السؤال بحيث يجوز أن تجعل الآية الواحدة دليلاً متعدِّداً على كل معنى تحمله مستقلاً عن الآخر كل مع قرينته.

ومن تلك المقاييس ما يتفاوت فيه المنطوق عن المفهوم باستفادة واضحة في استقلال أحدهما عن الآخران ثبت كما في قوله تعالى [إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا

ص: 297


1- سورة الروم / آية 4.ج

أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ](1) كوجوب التَّبيُّن في خبر الفاسق وعدمه في خبر العادل في مفهوم الموافقة والتَّوقُّف أو الاحتياط في مفهوم المخالفة وهو مفهوم (إن لم يجئكم فاسق) الَّذي لم تعلم عدالته ولم يكن فاسقاً وهو المجهول إذا بنينا على المعنى الوسط.

وهكذا يحتمل من المقاييس ما يحتمل فيه من الآيات المنفردة إمكان حمل اللَّفظ معنى الحقيقة والمجاز في آن واحد، بأن يكون للحقيقة إذا لم تكن هناك قرينة صارفة عنها وإن يكون للمجاز مع وجودها -- بناءاً على صحَّة التَّعدُّد الخاص في كونه على الوجه المتفاوت بالاعتبار -- كالأمر في الصَّلاة الَّذي يراد منه حقيقة اليوميَّة ومجازاً صلاة الأموات ولو بواسطة السنَّة.

وهكذا من تلك المقاييس كل لفظ قابل لأن يحمل أكثر من معنى كما بين المطلق والمقيَّد، وكان يستفاد منه التَّعدُّد الحكمي ولو من الأدلَّة الإضافيَّة الممكنة، كالأمر بالصَّلاة المثبت للوجوب على المكلَّف ولو قبل حلول وقتها حتَّى لو كان غير متطِّهر، وبقاء هذاالأمر مثبتاً للوجوب مع قيد الطَّهارة حين دخول الوقت والأداء ولو بمعونة دليل إضافي كقولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (لا صلاة إلاَّ بطهور)(2).

وهكذا ما بين المجمل والمبيَّن، كوجوب الصَّلاة من دليله الَّذي يحمل المعنيين، كأصل الوجوب على المكلَّف الَّذي ذكر في القرآن احتواؤها على القراءة والرُّكوع والسجود والقنوت والتَّسبيح ونحو ذلك على إجماله، وكالوجوب مع التَّفاصيل في الرَّكعات ونحوها من الكيفيَّة الَّتي فصَّلها النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وكما قال ( صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي)(3).

ص: 298


1- سورة الحجرات / آية 6.
2- كتاب وسائل الشيعة ج 1 ص 365 أبواب الوضوء ب 1 ح 1.
3- عوالي اللئالي: ج1، ص197، ذيل ح8، تفسير الرازي ج2 ص164.ج

أمَّا إذا لم يكن الأمر في الآية الواحدة قابلاً للتَّعدُّد بالدَّليل الموحَّد المتقن بحسب اعتباره على أساس الواحد الَّذي لا يعُلم غيره أو المجتهد في أمره.

فلابدَّ من أن يكون المحمول للآية هو خصوص ذلك المعنى الواحد لعدم إمكان تعدُّد اعتبار الآية الواحدة بأكثر ممَّا تدل عليه أو ما تمَّ الاجتهاد فيه منه.

وممَّا قد يثبت المقاييس الأكثر ضبطاً بالمثال في المقام ما اشتهر في أمر القراءات في الآية الواحدة، وهي وإن كانت كثيرة ولكن الصَّحيح منها هو السَّبعة المعروفة، ولكنَّها قليلة النَّفع إذا لم تختلف معاني كلٍّ منها أو بعضها.

وقد يكون اختلاف القراءة من نوع آخر مؤثِّر بالمعنى بسبب الاختلاف كما سبق ذكر بعض أمثلة ذلك.

وفي المقام كما في آية الحيض وهي قوله تعالى منها [وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ](1).

فإن صحَّ فيه تسكين الطَّاء وفتحها مع تشديدها، فإنَّه مع التَّسكين يكون الحكم فيها جواز المواقعة للزَّوجة بمجرَّد النَّقاء من الدَّم وإن لم تغتسل من حدث حيضها على كراهيَّة في ذلك.

ومع التَّشديد يكون الحكم فيها استحباب الاغتسال بعد النَّقاء لو أريدت المواقعة.

وبهذين الحكمين لا محالة بتعدَّد الحكم وتعدَّد الوجه في الآية الواحدة وبما يبرهن كذلك على كون تعدُّد المدركيَّة فيها في آن واحد، لعدم التَّزاحم بين المكروه والمستحب مثل التَّزاحم الَّذي يكون ما بين المحرَّم والواجب في آن واحد، لمنعه في الأخير إلاَّ بالحل الاضطراري المرخَّص به شرعاً في مقاماته الخاصَّة.

بينما لو جاءت على الآية قراءة صحيحة وقراءة مرفوضة، وسبب ذلك هذا

ص: 299


1- سورة البقرة / آية 222.

التَّزاحم المضر شرعاً.

فلابدَّ من توحُّد الحكم المطابق للحكمة في الآية وجعلها مدركاً واحداً لا أكثر ولو بنحو الاحتياط الوجوبي لبعض الفقهاء بالاغتسال عند النَّقاء من الحيض لو أريدت المواقعة بسبب قوَّة التشديد وضعف التسكين إذا بني على ذلك بوجه وجيه.ومن تلك المقاييس كون الآية الواحدة قابلة لتقطيعها إلى فقرات يستفاد من كل منها حكم شرعي يتفاوت عمَّا تحمله الأخريات وأقل شيء هو الحكمان من الآية الواحدة إذا تألَّفت من فقرتين.

ونظير ذلك في السنَّة الشَّريفة المنقولة عن أهل البيت عَلَيْهِ السَّلاَمُ في الكتب الأربعة بطولها حينما حوت عبائرها ما يمكن في أحاديثها التَّقطيع كما أوضحه وبوَّبه من ذلك عمليَّاً الحر العاملي قدس سره في وسائله من تلك الكتب على أبواب الفقه ممَّا لم يفعله الآخرون تقريباً.

ففي الآيات الكريمة بناءاً على عدم حجيَّة كيفيَّة التَّرتيب المعروف في المصحف العثماني مع التَّواتر المسلَّم بما بين دفَّتيه وعدم الضَّير في التَّقديم والتَّأخير وبالأخص لو كان مناسباً لحالات النُّزول المناسب، كما في المصحف الَّذي جمعه أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ أو ما قد يقرب منه، وهو الَّذي جمعه أحد الصَّحابة الآخرين.

لكون الضَّير والمنع منحصراً بالإزادة والتَّنقيص فقط لو أمكن تقطيع فقراتها أو بعضها واستفادة الأحكام المتعدِّدة ولو بضميمة من القران من الآيات الأخرى المناسبة أو السنَّة أو نحوهما ممَّا يساعد على ذلك من دون طرؤ أي خلل مضر وكما مرَّ فيما صنَّفه صاحب الوسائل.

فإنَّها قد تكون أيضاً ممَّا يوسِّع في مقياس التَّعدُّد، وبالأخص ما لو اعتبرنا إمكانيَّة جعل الباري جزء الآية أية كذلك كما هو محقَّق في محلِّه من بعض بحوثنا المناسبة.

وكذلك نقول من المقاييس: أنَّ مثل آيتين أو أكثر إذا حملتا أو حملت معنى

ص: 300

يكاد أن يكون واحداً بحسب ظاهره كالمشترك المعنوي، أو بما قد يسمَّى في بعض الاعتبارات بالمترادف ممَّا بين النصَّين مثلاً، لأنَّ القرآن قد يفسَِّر بعضه بعضاً إذا أمكن انحلالهما ولو على خلاف الظاهر أو الأكثر منهما عن ذلك التَّوحد الظَّاهري لبعض الوجوه، بناءاً على أنَّ (اختلاف اللَّفظ يدل على اختلاف المعنى) كما هو الصَّحيح ولو في خصوص الإجمال وله أدلَّته المعروفة، كما في حالة ما بين الكثير من النُّصوص المتعدِّدة من نسبة العموم والخصوص المطلق ونسبة العموم والخصوص من وجه لا في خصوص باب التَّساوي الكامل الَّذي لا يتعدَّد فيه المعنى، أو يوضِّح فيه أحد النصَّين مثلاً النَّص الآخر للمعنى الواحد الَّذي لم نجعله وحده الثَّابت في الميدان إلاَّ بموضِّحه ما دام التَّناقص التَّام غير موجود في المقام.

فلابدَّ حينئذ عند هذا الانحلال ولو بمعونة الأدلَّة الأخرى من جعل كل آية مستقلَّة عن غيرها.

وبذلك يظهر مقياس ما يساعد على زيادة العدد دون حالة التَّساوي الكامل الَّذي لا يفهم منه إلاَّ حالة أمثال التِّكرار التَّأكيدي أو ما يوضِّح النَّصَّان بعضهما من البعض الآخر.

الخامس/ ما هو المراد الحقيقي من آيات الأحكام

من المعلوم أنَّه لم يثبت بدليل قطعي بأنَّ آيات الأحكام هي خصوص الآيات المعدَّة لأن يستنبط منها الحكم الشَّرعي من نصِّها أو ظاهرها أو منطوقها أو مفهومها أو خاصِّها أو عامِّها أو مطلقها أو مقيِّدها أو مجملها أو مبيِّنها أو ناسخها أو منسوخها أو من حالة الورود أو الحكومة أو نحو ذلك ممَّا تفنَّن فيه الأصوليُّون من الطرق المعدَّة لمعرفة الحكم الشَّرعي والمقصود في التَّطبيق غيرها.

وبذلك لابدَّ وأن تكون شاملة لآيات التَّطبيق الشَّرعي عبادات ومعاملات ونحو

ص: 301

ذلك من الفقهيَّات، كالأوامر والنَّواهي الَّتي لا تخفى على كلِّ أحد في كلِّ ما تعطيه، وكالبسملة المستفادة من آية التَّذكية لأنَّ تكون واجبة بها، وهي موجودة في القرآن.

وكالفاتحة والسور المقروءة في الصَّلاة وجوباً أو لزوماً، وهي كلُّها موجودة في القرآن كذلك ومعها البسملة.

وإن استدلَّ أو أكمل الاستدلال عليها في القرآن ممَّا سيأتي، وغير ذلك إن كان.

ولكن لمَّا كان إثبات الزَّوائد على الخمسمائة آية - محور البحث - تحقيقاً يحتاج إلى الاستقراء التَّدقيقي الكامل وإلى آخر الدَّورة الفقهيَّة بإذن الله وتوفيقه - وإن ذكرنا كثيراً من المقاييس الدَّاخليَّة الَّتي تحتمل أو تظن بسببها الزِّيادة، بل إنَّ بعضها من المهمَّات في ذلك إلاَّ أنَّها علميَّاً ينبغي أن تبقى على الاحتمال ومن باب الأولى آيات وسور التَّطبيق المباشر -

إضافة إلى حالة الاهتمام منَّا إلى أمر الاستقراء لكلِّ ما مضى تحقيقاً للأمانة العلميَة مع التَّشكيك في الخمسمائة المذكور.

فلابدَّ لنا من الكلام عن آيات التَّطبيق المباشر وسوره والبسملة وغيرها ولو فيالجملة، إن كان لم يظهر منَّا وافياً في هذه العجالة باستطراده تحت عنوان (مقياس إلحاقي).

السَّادس/ مقياس إلحاقي قابل للنَّفع في المقام

ممَّا ينبغي إلحاقه بهذه المقاييس وإن لم يكن أساسيَّاً في بعض الأمور أمر البسملة، فإنَّ البعض حين تشكيكه فيها في أنَّها هل كانت من القرآن أم لا؟

واتِّضاح ثبوتها في أنَّها منه بلا أيِّ إمكان لأي تشكيك في ذلك بالأدلَّة المتقنة المتوفِّرة في محلِّها وثبوت جزئيَّتها من الفاتحة ووجوب قراءتها في كل سورة عند الصَّلاة اليوميَّة وغيرها ما عدا سورة التَّوبة باستثناء قراءة سور العزائم الأربع في

ص: 302

الصَّلاة الواجبة وإن كان منها البسملة لسبب ليس هذا محلُّه.

فإنَّ البسملة الَّتي مع الفاتحة مثلاً، وإن لم تكن هي من خصوص آيات الأحكام الَّتي يراد منها الاجتهاد فيها أو الاستنباط منها لأحكام الفقه، بل وهكذا السُّور الأخرى.

إلاَّ أنَّها من الآيات الملازمة للأحكام، إذا وسَّعنا كلمة الحكم الشَّرعي إلى ما هو الأعم من حالة الاستنباط والاجتهاد في النُّصوص، وهو عمليَّة التَّطبيق والأداء لما يجب، وهو القراءة والتِّلاوة لها مثلاً وإن استدلَّ على ذلك بقول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب)(1)، وهي الَّتي جزؤها البسملة بالأدلَّة الخاصَّة الأخرى لناحية ما أشرنا إليه من التَّعميم وبالرِّضا بهذا القدر لا شكَّ بتوسُّع تلك الأعداد الإضافيَّة من الآيات والسُّور إلى ما هو الأزيد ممَّا ذكرناه.

لكون الفاتحة مثلاً أو غيرها من السُّور مرادة إرادة وجوبيَّة في قراءتها في الصَّلاة اليومية الَّتي هي أهم ركن في فروع الدِّين وفي غيرها من الواجبات، كما في صلاة الجمعة وصلاة الآيات.

وهكذا في الحج الَّذي من أركانه الطَّواف الَّذي لا يكمِّله ركناً مقبولاً إلا صلاة ركعتيه، لما ورد من أنَّ (الطَّواف صلاة)(2) ومن ذلك وجوب الفاتحة في كل من الرَّكعتين وفي السُّورة الَّتي بعدها.

إضافة إلى ما قد تكون البسملة مع الفاتحة أو غيرها من السُّور المقروءة في هذه الصَّلوات غير مختصَّة بالواجبة.

بل كل الصَّلوات حتَّى المستحبَّات المروية بتعاليمها منها تكون لازمة ولا تصح مشروعيَّتها إلاَّ مع تلك البسملة والفاتحة، حذراً من التَّشريع المحرَّم المغاير لذلك، مع

ص: 303


1- مستدرك الوسائل ج4 ص158 / أبواب القراءة ب 1 ح 5.ج
2- سنن البيهقي ج5 : 85 ، 87.جج

أهميَّة التَّأمُّل في قراءة القرآن النَّاجح في إيجاد انشراح الذِّهن وتنوُّره بسبب تلك البسملة وبالأخص من قبل الفقهاء في حالات الاجتهاد والخوض في الاستنباط لآيات الأحكام أثناء هذا التَّطبيق والأداء.

بل إنَّ الاهتمام بأمر البسملة هذه في قراءتها الحكميَّة التَّكليفيَّة الواجبة عند ذبح الذَّبائح لتذكيتها المتوقِّفة عليها والَّتي يرتبط بها الحكم الوضعي كذلك، وهو صيرورتها ميتة لو لم تقرأ البسملة عليها حين الذَّبح، ممَّا يجعلها مزيدة للعدد على أساس التَّعميم الَّذي ذكرناه وإن كانت آية الاستدلال عليها بآية أخرى تخصُّها في ذلك وهي قوله تعالى [وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ](1).

وهكذا في مقامات مستحبَّة أخرى كثيرة، ومنها قراءتها للتَّبرُّك عند الشُّروع بكل شيء وكما في الحديث الشَّريف وهو (كل حديث ذي بال لم يُبدأ ببسم الله فهو أبتر)(2)،وإنَّ الجهر بها من علامات المؤمن كما عن الإمام الحسن العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ (علامات المؤمن خمسة صلاة الإحدى والخمسين وزيارة الأربعين والتَّختُّم باليمين وتعفير الجبين والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم)(3).

ومن أهمِّ تلك البدايات هي المطالب الدِّينيَّة العلميَّة والبحوث الفقهيَّة ونحوها والَّتي من أسرار أهميَّة قراءة هذه البسملة في بدايتها، إضافة إلى بركة تلاوتها.

وبالأخص لو سبقت بالاستعاذة من الشَّيطان الرَّجيم، لدفع الشَّيطان وشرح الذِّهن والصَّدر.

ص: 304


1- سورة الأنعام / آية 121.
2- أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (496) و (497)، وأخرجه أحمد في مسنده (14/329/8712)، وأبو داود في سننه (5/111/4840)، وابن أبي شيبة في المصنف (9/116/ 27219).ج
3- بحار الأنوار/ ج101 ص106 رواية 17 ب14.

وللتَّعمُّق الفكري النَّاجح والمنتج للاستنباط الصَّحيح والمبرئ للذمَّة بأداء وتطبيق أحكامه وبالوصول إلى هذه النَّاحية الأخيرة وتقبُّلها قبولاً حسناً.

نكون قد وصلنا إلى إمكان تعقُّل دخول البسملة في لوازم آيات الأحكام أو نفسها بالمعنى التَّوسُّعي كما مرَّ بيانه ولو إلحاقاً.

وقد يرتضى أمر كثرة أعدادها مع السُّور الأخرى المتفاوتة في مضامينها والَّتي قد لا يخلو كل منها عن بعض الأحكام الشَّرعيَّة المختلف كل منها عن البواقي في السور الأخرى.

سواء الأحكام المفصَّلة أو المجملة أو المذكور بالإشارة ولو كان أكثرها من نوع التِّكرار التِّأكيدي إذا بنينا هذا التَّوسُّع أو الإلحاق عليه ولو بالاستعانة بأدلَّة موضِّحة أخرى.

السَّابع/ خلاصة البحث

وخلاصة البحث ونتيجته تتحقَّق بأمور ختامها النَّتيجة، علماً بأنَّ الأمور هي ممَّا يساعد على عدم جعل المقياس في الأعداد هو خصوص الخمسمائة آية، وهي:

1 - التِّكرار الكثير من آيات الأحكام غير المرتبط بخصوص المعنى التَّأكيدي، لكونه في نفسه -- بدون معنى إضافي آخر له مثابته -- معيباً في الأدبيَّات في الغالب.

وهو المرتبط بالمتماثل في النصَّين أو الأكثر بجميع الحروف إذا التحق كل من ذلك بما بعده ممَّا لابدَّ أن يغيِّر مفاده ولو في المعنى كالخطابات الكثيرة المتشابهة أو غيرها من المتشابهات الكثيرة في الألفاظ القرآنيَّة المتفاوت كل منها مع تلك المتماثلة في معناها بما ارتبطت به بما بعدها مثلاً، بحيث تجعل كل متماثل بسبب هذا الالتحاق متفاوتاً مع ما يماثله في الحكم الشَّرعي، لكي يذهب الخلل التِّكراري الأدبي، وإن احتاج إلى القرينة الموِّضحِّة كالتَّقديم والتَّأخير.

ص: 305

بحيث لو لم يكن هذا العلاج لصار معيباً فيه أدبيَّاً والقرآن معجز خالد كما في آيات تعدُّد الصَّلاة والزَّكاة، فضلاً عمَّا لو صار تقديم وتأخير في مضامين بعض من ذلك المكرَّر كآية زكاة الفطرة والصَّلاة الَّتي بعدها ممَّا مرَّ التَّمثيل له.

2 - التِّكرار الاعتيادي كالمكرَّر مرَّتين فقط والَّذي قد يفيد أكثره تكراراً تأكيديَّاً إذا دلَّ دليل على عدم شيء من هذا التَّأكيد واضحاً كما مرَّ من بعض الاحتمالات المغايرة إذا جلعنا الأكثريَّة قرينة مفضَّلة أدبيَّاً على مجرَّد الاحتمال الضَّعيف مع عدم وجود حجَّة أقوى.

3 - التَّشابه اللَّفظي بين النُّصوص المتعدِّدة في بعض الحروف أو كثيرها أو أكثرها أو حتَّى الَّذي لا تشابه فيه من حيث اللَّفظ، ولكن قد يتقارب النصَّان أو الأكثر حتَّى في المعنى بما يظهر منه الاختلاف ولو بسبب أدلَّة أخرى، كما في المشترك المعنوي في مثل العموم والخصوص المطلق والَّذي من وجه، والَّذي قد تزداد بعض مصاديقه حتَّى على الخمسمائة آية.إلاَّ إذا كان قد ضبط بعض مصاديقه صاحب اقتراح العدد من الأعلام قدس سره، وهو ما لم يثبت لدينا عنه من حساباته التَّدقيقيَّة في التَّطبيق.

4 - ما قد يتوسَّع من العدد بسبب ما يخص العنوان وما يخص المعنون من الآيات الَّتي لو اجتمعت لزادت في ظاهرها على الخمسمائة إن لم نقل بتداخل كل منهما في الآخر تداخلاً مقلِّصاً للآيات ليصل إلى حد خصوص الخمسمائة أو ما يقاربها، لعدم ضمان ذلك بالشَّيء المسلَّم، وبالأخص لو استعين بسنَّة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وعترته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في استيضاح بعض المعنونات أو بعض العناوين، ولذلك تعد هذه الخمسمائة إن بقينا عليها كجامعة لما يزيد، وبما لا يمنع منه عليها إن دلَّ الدَّليل عليها، وهي العدد الأقل المسلَّم به على الأكثر.

5 - ما يرتبط بالمشترك اللَّفظي من اللَّفظ الواحد والَّذي قد ينحل إلى معنيين أو

ص: 306

أكثر حسب القرينة الخاصَّة بما قد يوسِّع العدد بالوجه المختلف، وبما لا يخضع لخصوص الخمسمائة.

6 - ما يرتبط من ذلك في اللَّفظ القرآني الواحد الحامل لما فيه الحقيقة والمجاز، كالأمر بالصَّلاة الَّذي يراد منه حقيقة اليوميَّة ومجازاً صلاة الأموات ولو بواسطة السنَّة.

أو عموم الأدعية الرَّاجح شرعاً قراءتها من المصاديق اللُّغويَّة الأخرى وإن كانت شرعيَّتها واجبة تحت ظلِّ الإمام عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ كقنوت صلاة العيد أو حتَّى المستحب الَّذي لا ينبغي تركه في التَّنصيص كقنوت الصَّلوات.

7 - ما يرتبط من ذلك بالأمر القرآني القابل لأن ينطبق على المجمل، وهو أصل وجوب الصَّلاة على المكلَّف في تكبيرها وقراءتها وركوعها وسجودها وقنوتها وتسبيحها وعلى المبيَّن وهو عدد الرَّكعات وبقيَّة التَّفاصيل للكيفيَّة بواسطة السنَّة بانحلال هذا الإجمال إلى هذا المقدار من الاشتقاقات وإلى ما يزيد كثيراً في الأداء والقضاء وغير ذلك ممَّا لم يحصر بالخمسمائة آية.

8 - ما يرتبط من ذلك بالأمر القرآني القابل لأن ينطبق على المطلق، وهو وجوب أصل الصَّلاة على المكلَّف وإن لم يكن الوقت داخلاً ولم يكن متطِّهراً وعلى المقيَّد حين الدخول وهو التَّطهر قبل ذلك، ممَّا يمكن أن تتوسَّع بذلك الدَّائرة.

9 - ما يرتبط من ذلك في اللَّفظ النصِّي الواحد الحامل للمنطوق والمفهوم في آن واحد، ممَّا يمكن أن يحل كل معنى تكليفي في محلِّ المناسب من ذلك المنطوق والمفهوم القابل للأخذ به.

10 - ما يرتبط باللَّفظ الواحد الَّذي تتعدَّد فيه القراءة المغيَّرة للمعنى ممَّا سبق التَّمثيل له، وفي مثل هذا أيضاً ما تتوسَّع به الدَّائرة.

11 - ما سبق بيانه من الإشارات الجوابيَّة عن رواية الأرباع الأربعة الصَّحيحة

ص: 307

الَّتي أحدها ما يخصُّ الأحكام والفرائض لو أخذ به أخذاً حقيقيَّاً إن اعتمدت، فضلاً عن رواية الأثلاث، ممَّا لم تتأكَّد منه مقادير خصوص الخمسمائة آية ليبنى عليها دون الزِّيادات.

12 - ما يستفاد من سيرة الأنبياء والرُّسل الماضين في قصصهم من الثَّوابت الممضاة والمؤكَّدة في شرعنا ولو في بعضها.13 - ما مرَّ الكلام عنه في أمور النَّسخ الَّذي لا يرفع كل ما في الآية المنسوخة مع لزوم بقاء تلاوتها وكان الباقي متفاوتا ولو بعض الشَّيء عن النَّاسخ كما مرَّ وهو ما عبَّرنا عن النَّاسخ فيه بتخصيص العام.

14 - ما قد يستفاد من بعض الأحكام من تفسير القرآن بالقرآن ولو خالف التَّرتيب العثماني أو ما يربط بالنُّصوص الأخرى فتتوسَّع بسبب ذلك هذه المدارك.

15 - ما قد يستفاد من حالة التَّبعيض للآية الواحدة ذات الفقرات المتعدِّدة الَّتي يحمل كل منها حكماً مغايراً للأخر بلا تناقص كما فيما بين صدر الآية ووسطها وذيلها.

16 - ما قد يستفاد من بعض الآيات المختلفة اختلاف الحكم التَّكليفي عن الوضعي من الأحكام، لما دلَّت عليه آياته الَّتي من جملتها قوله تعالى [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ](1) وقوله تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى](2) وقوله تعالى [وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ](3) وقوله تعالى [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ](4)، إلى غير ذلك.

ص: 308


1- سورة المائدة / آية 27.
2- سورة طه / آية 82.
3- سورة الأعراف / آية 139.
4- سورة آل عمران / آية 85.

17 - ما قد يستفاد من تلك الآيات القواعد الأصوليَّة والقواعد الفقهيَّة إن عمَّمنا كلمة الأحكام لها لما يشمل الأصول والقواعد.

وتفاصيل الفوارق بين هذه الأمور أو بعضها مبيَّن في موسوعتنا هذه في مواقعها المناسبة.

18 - ما يمكن أن يستفاد من اللَّفظة الواحدة في القراءة الواحدة إذا اختلف مبناها الصَّرفي بين أمرين كما في كلمة الأمر الَّتي قد تجمع على أوامر وعلى أمور كقوله تعالى [لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ](1) إذا لم يقصد منها خصوص التَّكوين.

وقد ساعدت السنَّة على ذلك ممَّا مضت الإشارة إليه ولو في خصوص ما يجمع على أوامر ممَّا يراد منه خدمة القضايا الأصوليَّة اللفظيَّة حينما لم يؤلف كونه من تلك الآيات، وهو ما يزيد على الخمسمائة آية إذا كان غرض العالم المحدِّد لرقمها أنَّه يقصد منه خصوص الأحكام لا الأصول والقواعد.

19 - ما يمكن أن يستفاد من الأدلَّة الإرشاديَّة بعض الأحكام الَّتي تقول بها العقول في خصوص مستقِّلاتها إذا لم تتوفَّر الأدلَّة الأصيلة في التَّشريع كما في بعض مستحدثات المسائل هذه الأيَّام إذا أمكن انخراطها في ضمن آيات الأحكام بالصِّفة الأعم.

20 - ما يمكن الاستفادة منه بالإلحاق كما في أمر البسملة وما يوصل بها من السُّور وبالأخص سور آيات الأحكام أو خصوص تلك الآيات.

فهذه الأمور وقد يكون غيرها لم يخطر ببالنا الآن كلُّها قد تساعد على عدم محدوديَّةعدد آيات الأحكام في الخمسمائة آية وإن كان تحصيلها من قبل الواصلين إليها لم يكن بالشَّيء السَّهل اليسير.

وعليه فالنتيجة وكما مرَّ بيانه في أثناء البحث بكون العدد الكامل لا يمكن

ص: 309


1- سورة الروم / آية 4.

إحرازه إلاَّ بعد نهاية الدَّورة الفقهيَّة التي نحن بصدد البحث العلمي فيها، ونسال الله تعالى التَّوفيق لإتمامها.

ص: 310

المقام الثَّالث

ما يختص ببحوث الدَّليل اللَّفظي الثَّاني

السنَّة بعد آيات الأحكام وما يتعلَّق بها

وفيه فصول:--

الفصل الأوَّل

ركنيَّة السنَّة بعد كتاب الله تعالى

وهي تتم بأمور:-

الأوَّل/ أهميَّة أصل السنَّة

وأهميَّة الكلام عنها لآيات الأحكام

لم تكن السنَّة في يوم من أيَّام الإسلام العزيز - كالَّذي تلاحمت لأجله مع الآيات لأكثر قضاياه الشَّرعية الفقهيَّة المهمَّة في مصادرها الإلهيَّة كتاباً وسنَّة وغيرهما واستقرَّت عليه في معدنها الصَّافي، ثمَّ استفرغت من معينها وعيونها الكبرى المعطاء العزيزة وهم النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وعترته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ تلاحم الجوهر الموحَّد --

منعزلة ومستقلَّة لوحدها في التَّشريع، إلاَّ في قضايا محترمة تفهم من خلال عرضنا لها ممَّا يأتي وغيره.

كما لم يكن الكتاب الكريم مستقِّلاً ومنعزلاً عنها انعزال من قال (حسبنا كتاب

ص: 311

الله)(1) وحارب العترة والسنَّة الَّتي حملتها وحارب تدوينها، لشبهة ولَّدها من عند نفسه نفاقاً وانقلاباً على الأعقاب.

وهي الخوف من اختلاط السنَّة بالكتاب كما أراده النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في عترته، حرباً لوصيَّة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في الآل عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، ودفعاً لخلاف الأحكام الرَّشيدة الأصيلة، ومحاربة لثقل حديث الثَّقلين (الكتاب والعترة) على قلوب كل منافق ومنقلب على عقبيه.

ولذلك - ولحاجة القرآن في آيات أحكامه، في باب توضيح الغوامض، وتبيين المجملات منها، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وبيان النَّاسخ من المنسوخ، وتعيين المشتركات اللَّفظيَّة، وتفهيم المشتركات المعنويَّة، وتشخيص الحقائق من المجازات، وفي أمور العلاجات في باب التَّعارض وغير ذلك.إلى هذا العِدل العظيم بعد الكتاب الكريم، وهو السنَّة في صحاحها ومعتبراتها ومقبولاتها في ميدان العمل، حتَّى الرِّوايات المحمولة على التَّقيَّة في خصوص مواردها والمرفوضة عندنا في مورد الاختيار، ولكنَّها مقبولة لأنَّها مؤيَّدة لرواياتنا في بعضها، ولو لتكون مقرِّبة في باب التَّقريب المذهبي لخفض عنف المخالفين معنا، أو ملزمة لأهل الخلاف بقاعدة الإلزام في البعض الآخر لو جاملناهم ورتَّبوا الأثر على ذلك برضاهم ولو مؤقَّتاً --

أعددنا هذا البحث لذكر بعض معالم السنَّة المهمَّة من حيث الصُّدور وأسانيده الكليَّة في رجاله وخصوصيَّاتهم، ومن حيث المتن والدِّلالة وقواعدهما ولو بإجمال.

ص: 312


1- صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عنِّي.

الثَّاني / معنى السنَّة لغة واصطلاحاً

ومن المعلوم أن السنَّة في اللُّغة هي: الطَّريق، والصَّراط، والجادَّة، والمسلك، والمنهج(1).

ويراد منها سنَّة الطَّريق مثلاً، وجمعها سنن كذلك هي الطرق والمسالك، ويقال لفلان امض على سُنَّتك أي على مسلكك، سواء كان هذا المسلك محموداً أم مذموماً ما لم يرد تخصيص في ذلك، واستفيد ذلك أيضاً من حديث النبي عَلَيْهِ السَّلاَمُ (من سنّ سنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجره شيء، ومن سنّ سنَّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من وزره شيء)(2).

واصطلاحاً شرعيَّاً: هو كل ما جاء عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قولاً أو فعلاً أو تقريراً، من مضامين الأحاديث الشَّريفة أو المنسوبة إليه صحيحاً، بواسطة الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ومن نقل عنهم، ممَّا يشمل كل أمور الشَّريعة والدِّين على سعتهما.

ويلحق بالشَّريعة السِّيرة والسُّلوك والأخلاق وكل ما يناط بالأحكام التَّكليفيَّة من أمور الحياة، والَّتي لا تخرج أبداً عن عالم الوجوب والتَّحريم والاستحباب والكراهة والإباحة والأحكام الوضعيَّة الشَّاملة للصحَّة والفساد والقبول والرَّفض، والَّتي لابدَّ وأن يكون منها العقائد الحقَّة الَّتي هي أساس قبول العبادات، بناءاً على أنَّ كل شيء في الحياة مرتبط بالأحكام الخمسة الماضية وبالوضعيَّة التي بعدها.

فتوحيد الله مثلاً واجب كالصَّلاة الواجبة والشِّرك محرَّم ومرفوض، كما أنَّ الصَّلاة بعدم الإخلاص في النيَّة أو الشِّرك أو الرِّياء أو مجرَّد تركها عمداً محرَّمة وتمرُّد

ص: 313


1- لسان العرب -- ابن منظور -- ج13 ص226.
2- ثواب الأعمال: ص132 باب ثواب من سن سنة هدى، ومكارم الأخلاق ص454.

مرفوض.

بل إنَّ جزئيَّات العقائد تابعة للأحكام الفقهيَّة على ما مرَّ وسيتَّضح في مقاماتها.

وبحديث الثَّقلين الكتاب والعترة - وحديث (أنا مدينة العلم وعلي بابها)(1) وحديث (يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنَّه لا نبي بعدي)(2) وحديث (علي أعلمكم وعلي أقضاكم)(3) وغير ذلك -

عدَّت السنَّة في أحاديثها وتطبيقاتها ثابتة عن أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بعد النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ومن أوصى بهم لا غيرهم من حيث المبدأ، لأنَّهم (من أهل بيت زقُّوا العلم زقَّاً)(4)، كما اعترف بها عدوهم الألد يزيد الطاغية "لع" بقوله في الإمام السجاد عَلَيْهِ السَّلاَمُ ذلك، ولأنَّهم أهل بيتنزل الوحي في بيوتهم، وغير ذلك من المضامين الكثيرة المشابهة.

وقد ورد على لسان العرب في أمثالهم أنَّ (صاحب الدَّار أدرى بما فيه)، ومصداقه والمقصود منه أولاده الَّذين نزلت في حقِّهم آية التَّطهير مع النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وهم علي والحسنان وأمَّهما الزَّهراء عَلَيْهِا السَّلاَمُ من أهل الكساء دون نساء النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.

ويلحق بهم الأئمَّة التِّسعة من ولد الحسين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كما أثبتت ذلك الأدلَّة الخاصَّة فيهم.

وكل من روى بحق وصدق عنهم من خيرة الرواة من المرويَّات لابدَّ أن ينشر بصدق وحق ما نقول به منها، وكذب ما يخالفه الأعداء منها.

بل قد توسَّعت لفظة السنَّة في اصطلاحها، بعد ثبوت الامتداد الرَّصين لأئمَّة

ص: 314


1- فيض القدير، ج 3: ص 46، كنز العمال، ج 5: ص 600، المعجم الكبير للطبراني ج11 صفحة 65.ج
2- مسند أحمد - 3/67، صحيح البخاري 6/ 3، صحيح مسلم 15/ 175.
3- الحميدي في كتاب الجمع بين الصحيحين في خلافة عمر بن الخطاب.
4- بحار الأنوار ج45 ص 138 ب 39 ح1.

أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ مع الزَّهراء عَلَيْهِا السَّلاَمُ في نقل الأحاديث النَّبويَّة الشَّريفة عند الإماميَّة وعلماءهم حتَّى اليوم لأن يطلق عليها نفس الاسم، حينما ترد عن جميع هؤلاء حتَّى لو نقلوا الأحاديث بألفاظهم الشَّريفة وعملية النَّقل إن صحَّت من رواتهم مع ضوابط القبول لبُعد الزَّمن عن وقت الصدور الأساسي فهو منهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ أصح، لعدم مخالفتها لجواهر ما عن النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.

وبالأخص حينما لا تعارض فيها مع الكتاب لو عرضت عليه كما دلَّت عليه رواياته وكلام الإمام إمام الكلام.

وعليه فيكون كل ما ورد عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من طريق أئمَّة أهل البيت الهداة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ مع تطبيق شروط علمي الرِّجال والدِّراية والحديث هو من سنَّة النَّبي الواسعة.

بل لم يقتصر الأمر على خصوص هذا المورد، بل حصل التَّوسع في كون السنَّة سنَّة نبويَّة شريفة أصوليَّاً بكل ما صحَّ عن المعصومين الأربعة عشر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ إلى صاحب الأمر الإمام الثَّاني عشر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في أقوالهم وأفعالهم وتقاريرهم.

الثَّالث / مصاديق السنَّة الثَّلاثة في عرف الإماميَّة

وهي:- كما هو معلوم وكما بيَّنَّا سابقاً أكثر من مرَّة

1 - قول المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ

2 - فعله عَلَيْهِ السَّلاَمُ

3 - تقريره عَلَيْهِ السَّلاَمُ

فقد بحث الأصوليون قديماً وحديثاً عن هذه الأمور الثَّلاثة، وبثُّوا أركان قبولها وجعلها أمراً مشخِّصاً للسنَّة حينما تصح الأقوال والأفعال والتَّقارير عنهم دون غيرهم، واستشهدوا بروايات كثيرة وفي مواقع مختلفة ثابتة عنهم، سواء وردت عن الرِّواة الممدوحين من قبلهم واتَّضح ذلك لنا بعد ذلك أيضاً.

ص: 315

أم جاءت عن رواة عرفناهم من الثَّوابت الرِّجاليَّة وقواعد علم الدِّراية والحديث أهلاً للقبول.

والمراد من قول المعصوم هو الحديث بنصِّه الأصيل كقول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي)(1) و (خذوا عنِّي مناسككم)(2) أو ما كان منقولاً بالمعنى بلفظ آخر يؤدِّي نفس المعنى بدون تغيير لجوهره.

والمراد من فعله هو نفس أداء النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الصَّلاة بمثل الصَّلاة خلفه أو ما يأتي به من أفعال الحج بنفسه ونحو ذلك، وكذلك متابعة بقيَّة المعصومين بما يفعلونه من الأعمال العباديَّة والنَّهج على مسلكهم.والمراد من التَّقرير هو ما لو أُجري الفعل العبادي مثلاً من قبل المؤمنين أمام أحد المعصومين ولم يُرفض من قبلهم.

الرَّابع / هل أنَّ كل ما ورد من أهل التَّسنُّن والمخالفين

يُعد من السنَّة عندنا؟

لا شكَّ ولا ريب بعد محاولة طمس آثار السنَّة الشَّريفة حقداً على العترة وعلى ما أوصى به النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في حديث الثَّقلين وغيره -- وبالأخص المضامين القرآنيَّة المشيدة بمقام العترة في مثل قوله تعالى على لسان نبيه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ [قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا

ص: 316


1- غوالي اللئالي ج1 ص197 الفصل التاسع ح8. والغوالي ج3 ص85 باب الصلاة.
2- أخرجه مسلم (2/ 943، رقم 1297). واللفظ للبيهقي في السنن الكبرى (5/ 204، رقم 9542)، ولفظ مسلم: "لتأْخذوا مناسككم فإنَّي لا أدري لعلِّي لا أحج بعد حجتي هذه".

الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى](1) حرصاً منه 2 على أخذ السنَّة من القربى --

من قبل المتآمرين على الخلاقة الإلهيَّة، لكون السنَّة إن أخذت من أهلها وطبِّقت بسلام لمَّا فلت أمر الخلافة الإلهيَّة من أيدي أولي القربى.

وبعد منع كل من يدِّون المحفوظ من السنَّة - بعد وفاة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ومحاربته أو تهديده ومعاقبته ومن كل الطبقات وأوعز المنع جهاراً إلى المشايخ الثَّلاثة ومن تعاون معهم وخيف على السنَّة الأصيلة من الاندثار.

حرص كثيرون على التَّدوين ولو سرَّاً، فنقل الكثير عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ومن مختلف الطَّبقات ثقات وغير ثقات.

وهو ممَّا يعطي الأمل في صدق بعضها ولو من حيث المضمون، ويعطى الظن واليقين بكذب البعض الآخر، أو بتغيير المعنى من أثر الجهالة وعدم الضبط.

إضافة إلى ما أضيف إلى هذا المجال من الصَّحابة المختلفين أو الوضَّاعين وغيرهم، كما لفَّقه أبو هريرة الَّذي لم تتح صحبته للنَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ رغم فترتها القليلة التَّفرُّغ للأخذ منه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والجلوس بين يديه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مثلما كان متفرِّغاً للسَّابقين في الإسلام في مكَّة المكرَّمة تفرُّغاً تامَّاً، بسبب أنَّ إسلامه كان متأخِّراً وابتدأ حين مجيئه مع وفد اليمن للنَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.

وكانت فترة صحبته له صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مزدحمة بالأحداث كفتح مكَّة والغزوات المختلفة الَّتي تلتها، كحنين وتبوك والطَّائف وغيرها، بالإضافة إلى حجَّة الوداع.

ثمَّ لم يحفظ منه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مباشرة طوال تلك الفترة المتقطعِّة الَّتي لم تصل إلى السَّنتين إلاَّ النَّزر القليل، وقيل فقط الآذان، حيث لم يأتي بالأحاديث الكثيرة، إلاَّ بالنَّقل الباطل عن أستاذه كعب الأحبار التَّابعي إن كان مسلماً في واقعه.

فكيف يروى الصَّحابي من هذا النَّوع عن التَّابعي من مثل كعب

ص: 317


1- سورة الشورى / آية 23.

الملوَّث؟(1)

ومن هذا وأمثاله كثرت الشُّكوك فحصل التَّورع الشَّرعي من السَّلف الصَّالح من نوع هذه الرِّوايات، حتَّى لو كانت بعض الرِّوايات من الثِّقات أو كانت معانيها مقبولة عند العرض على الكتاب، فلم يجعلوها دليلاً أساسيَّاً بعد الكتاب إلاَّ أن يرتضي بها الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

لكن بما أنَّ الواقع الإيجابي لا ينبغي نكرانه لصالح الألفاظ أو المضامين الإيجابيَّة من بعض هذه الرِّوايات ومن باب قوله تعالى [وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ](2) لا داعي لنكرانها بالمرَّة حتَّى لو أخذت مؤيَّدة أو مفيدة في مقام الأخذ بقاعدة الإلزام للمخالفين لإخضاعهم للتَّوحُّد أمام العدو الواحد ونحو ذلك.

وبناءاً على هذا فلا مانع من جعل هذه الرِّوايات الإيجابيَّة من السنَّة بالمصطلح التَّسنُّني كما في مفاد قاعدة الإلزام أو بالمصطلح اللغوي العام، وأمَّا بمصطلحنا الأصوليالخاص والشَّديد في ضوابطه فلا يمكن إلاَّ بجر المضمون الإيجابي لصالح رواياتنا الواردة من طرقنا لا ما جاء بغضاً من طرقهم ومنسوباً إليهم وترك الباقي في مزابل الموضوعات.

ص: 318


1- راجع ما صدر وما كتب عن حياته من الكتب المهمَّة (أضواء على السنة المحمدية)، و(شيخ المضيرة) لمؤلِّفهما محمود أبو ريَّة، و (السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث) للشَّيخ محمد الغزالي و (أبو هريرة وأحاديثه في الميزان) للدكتور نور الدين أبو لحية.
2- سورة الأعراف / آية 85.

الخامس / المقارنة بين رواية

(خذوا ما رووا ودعوا ما رأوا)(1)

ورواية (دعوا ما وافق القوم فإنَّ الرُّشد في خلافهم)(2).

لا شكَّ في أنَّ علماءنا أخذوا بروايات العامَّة والَّتي جاءت من طرقهم خاصَّة، لكن ليس بأجمعها، وإنَّما بروايات الثِّقات الَّذين لا يكذبون كما أشرنا في المطلب الثَّالث لو كانت مؤيَّدة، أو ما دلَّت القرائن على صدق بعضهم ولو صدفة.

بل ازداد أخذهم من ذلك حتَّى لو كانت بعض الرِّوايات مختلقة ونحو ذلك، أو من مختلقين وضَّاعين ولكن مضامين هذه الرِّوايات أو بعضها معتقد بها عند العامَّة وكانت من حيث النَّتيجة توافق مذهب أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لجمع الشَّمل وإنجاح عملية التَّقريب بين المذاهب من الأغراض الثَّانويَّة، أو لا توافق مذهبنا في حالاتها أو بعضها ولكن يراد منا إلزام العامَّة بقاعدة الإلزام، وهي نتيجة قول الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم)(3).

كمسألة الطَّلاق بالثَّلاث في المجلس الواحد الَّذي نعتبره بدعيَّاً حينما كانت الزَّوجة شيعيَّة تحت المخالف الَّذي طلَّقها وأريد الخلاص من سيطرته الظالمة عليها، فبهذا الطلاق في نظر العامَّة تحرم عليه حتَّى تنكح زوجاً غيره، فإن خرجت من حبالته كانت حرَّة مطلَّقة في مذهبنا وإن كانت في مذهب من طلَّقها حرة بالتَّجحيش ثمَّ العود إلى الأوَّل والمحرَّم عليها عندنا.

حيث أنَّ التَّحليل الَّذي عندنا كان بالزَّواج الطَّبيعي بعد الطلاق لا بالتَّجحيش وحريَّتها بادية بطلاقهم بالإطلاق من هذا العمل إن شاءت ممَّا كان عليها من ذلك.

ص: 319


1- وسائل الشيعة ج18 ص ص 103 ، الحديث 13.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص112.ج
3- وسائل الشيعة: ج26 ص158 ب4 ح32712.

وعلى فرض طلاق هذا الثَّاني لها أو موته فلها الحريَّة الكاملة أيضاً في الزَّواج من أيِّ مؤمن تشاء لا ممَّن كان مخالفاً ناصبيَّاً أو حتَّى من عدمه من بقيَّة المسلمين.

بل مقتضى الأمر في رواية المقارنة الأولى الواردة عن الإمام العسكري عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الدَّال على الوجوب -- حينما لم يدل دليل على الأقل منه -- يفيد وجوب الأخذ بما ذكرناه وحرمة تركه حينما تمس الحاجة إلى ذلك.

بحيث يصيب الأمَّة ضرر بعدم الالتزام بما ذكرناه من جهة جمع الشَّمل الإسلامي أمام العدو المشترك، ومن جهة إجراء قاعدة الإلزام، لا في أن تكون هذه الاستفادات كاستفاداتنا الطَّبيعيَّة العباديَّة كما تريده رواياتنا الأصيلة.

ولعلَّ من بعض ما ذكرناه الآن يكون داخلاً في قاعدة (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح) إذا أريد منها تعميم هذه الأرجحيَّة حتَّى في هذه المصاديق الإضافيَّة كما هو المحتمل.

هذا كلُّه في مجرَّد الأخذ بالرِّوايات المأخوذة من طرقهم لا فيما اجتهدوا في معانيهمنها وأخذوا منها بما يرضيهم ممَّا يشدد في أزمات الخلاف فيما بيننا وبينهم.

وقد أيَّدنا في هذا من أكابر رجال سلف العامَّة الأول في ذلك عبد الله بن عمر في قضيَّة المتعة المشروعة في زمن رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والمستمرَّة في مشروعيَّتها من الكتاب والسنَّة والسِّيرة والَّتي حرَّمها أبوه بقوله (متعتان حلالتان كانتا على عهد رسول الله وأنَّا أحرِّمهما وأعاقب عليهما)(1).

حيث قال ابن عمر بعد هذا الَّذي حدث من أبيه ضدَّ ما شرَّعه الله ورسوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ معلَّقاً عليه بقوله المنسوب له من كتب العامَّة والخاصَّة (أرأيت إن كان أبي قد نهى عنها وسنَّها رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ نترك السنَّة ونتبِّع أبي)(2).

ص: 320


1- تفسير الفخر الرازي الكبير ج 10 ص 50 الطبعة الثالثة.
2- مسند أحمد ج 2 ص 95 - 104 و ج 4 ص 4 -36.ج

وكما في رواية أن (يحي بن اكثم القاضي قال لشيخ بالبصرة كان يتمتع، عمن أخذت المتعة؟ فقال : عن عمر، فقال: له كيف وهو أشد الناس نهيا عنها؟ فقال: إن الخبر الصَّحيح جاء عنه أنَّه صعد المنبر وقال: إنَّ الله ورسوله أحلا لكم متعتين وأنا أحرِّمهما وأعاقب عليهما، فقبلنا شهادته وروايته عن رسول اللهصَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ولم نقبل تحريمه لها من قبل نفسه)(1).

وغير ذلك الكثير من المؤيِّدات.

اللَّهم إلاَّ في حالات مثل ما لو وافقت اجتهاداتهم وآراءهم آراءنا الشَّرعيَّة الأصيلة كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، فيما لو اتَّفقنا معاً في النَّتيجة وفي أمور المستثنيات المذكورة في أمور جمع الشَّمل والتَّقريب وقاعدة الإلزام من موارد الوفاق لا الخلاف، وإن لم تكن نصوص رواياتهم الخاصَّة بهم دالَّة منهم على كل ذلك إلاَّ بتوجيهاتنا.

وقد أيَّد ذلك من رواياتنا الخاصَّة في أمور عرض الرِّوايات الَّتي يراد معرفة صحَّتها من عدمها ولو من حيث المبدأ على كتاب الله تعالى ما يمكن أن يقبل من تلك الآراء عند ذلك العرض.

ومن ذلك حالات تعلُّقهم بالمعنى اجتهاداً وبذلك تكون عبارة (دعوا) ليس على إطلاقها.

ويمكن أن يكون المراد من الأمر بالأخذ بما رووا هو حالة الأخذ للرَّد أو المناقشة الهدَّامة لرواياتهم المخالفة جهاراً سنداً ومتناً ودلالة وبما لا يمكن فيه جمع الشَّمل أصلاً.

بل يزيد في المشاحنة والخصومة، بل ويزيد على الوضع الإسلامي الأصيل بمثل

ص: 321


1- تفسير الفخر الرازي الكبير ج 10 ص 50 الطبعة الثالثة، جواهر الكلام نقلا عن حفاظ السنة ج 30 ص 148 وما بعدها.ج

ما يلتزم به وعَّاظ السَّلاطين من الفقهيَّات الباطلة واجتهادات أصحابها العاطلة والمعربة عن مداركها الباطلة، والَّتي منها ما كان يقوله أبو حنيفة (قال علي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وأنا أقول خلافاً لقوله)(1).وحُكي عنه أنَّه (كان يقول خالفت جعفر بن محمد في جميع أقواله وفتاواه، ولم يبق إلا حالة السجود، فما أدري أنه يغمض عينيه أو يفتحها حتى أذهب إلى خلافه وأفتى الناس بنقيض فعله)(2).

إلى غير ذلك من أمثال ما يشوِّش أو حتَّى ما يشوِّه عصمة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وآله الطاهرين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ويقلب فضائلهم الأصيلة والَّتي لا تبارى في اعتبارها واشتهارها إلى رذائل.

ويقلب رذائل أعدائهم المنافقين والمفضوحين إلى فضائل كما صنعه الأمويون وغيرهم، بسبب بذل طائل الأموال والإغراءات الثِّقال عداءاً لأصل الإسلام.

إلى أن أوردوا من طرقهم كذلك ما افتروا به على الإسلام والمسلمين وعن بعض أئمَّتنا عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كذباً وزوراً، كنسبتهم شرب الخمر إلى أمير المؤمنين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ أو أنَّ سكينة بنت الحسين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ تنادم الشُّعراء.

وغير ذلك من الكثير والجم الغفير ممَّا اعتنى به الأعداء وروَّجوا له نصرة لجاهليتهم، والَّتي يحاك لها اليوم بالعلمانيَّة وأمثالها أو بما يحارب خطَّ أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ على الأقل.

فإنَّ الأخذ بما رووا فضلاً عما رأوا باطلاً كذلك - في مثل ما مرَّ ذكره من الأمثلة الأخيرة - بدون مناقشة وردٍّ ولو للشُّبهات البسيطة - مقوم لباطلهم ومؤثِّر على حقوقنا المضيِّعة عند الأعداء.

ص: 322


1- الكشكول للشَّيخ يوسف البحراني 3/46.
2- نفس المصدر السَّابق.ج

وهو معناه سكوت عند الحاجة إلى الكلام المدافع عن هذا الحق، والسَّاكت عن الحق عند توفُّر الأدلَّة والمقدرة على دفعه شيطان أخرس ودفع للأباطيل لأن تنتشر.

وكيف يعرف الحق من الباطل من دون أخذ لروايات القوم للاطِّلاع عليها لمعرفة ما هو الصَّحيح المؤيِّد ولو في الجملة ليستفاد منه وما هو الباطل ليرفض.

وقد ورد عند الجميع (من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده وإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)(1)، كما ورد أيضاً (إن تركتم الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر سلَّط الله عليكم شراركم ثمَّ تدعون فلا يستجاب لكم)(2) وغير ذلك.

وممَّا يدل على تأكُّد الرَّد أو وجوبه عبارة الحديث الثَّاني الوارد عن الإمام الصَّادق عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وهو (دعوا ما وافق القوم فإنَّ الرُّشد في خلافهم)(3)، أي في اجتهاداتهم المخالفة للمشروع أو عن الرِّوايات المرفوضة عندنا معها إجمالاً.

وأمَّا ما يتعلَّق بهذه الرِّواية الأخيرة عن الإمام الصَّادق عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لغرض معرفته بصورة أدق وللتَّدقيق في أمر المقارنة الجامعة ومداها وأمر المانعة ومداها ببعض التَّفصيل.فنقول: بأنَّ قول الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ هذا في فقرته الأولى منه يراد من ظاهرها هو النَّهي عن الأخذ بآرائهم، إمَّا لاجتهاداتهم في مقابل النُّصوص وقياسات واستحسانات باطلة، أو مبنيَّة على روايات لا صحَّة لها سنداً ودلالة.

وأمَّا الفقرة الثَّانية: فقد يراد منها معنى الرُّشد في مخالفتهم لنا، لوضوح الحق

ص: 323


1- ميزان الحكمة، ج 3، ص 1950.
2- رواه المسلم في (الإيمان) باب كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.
3- وسائل الشِّيعة: ج18 باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث19، الكافي ج1 ص23، وفي رواية أخرى (ما خالف العامَّة ففيه الرَّشاد).ج

المبين من طرقنا حتماً، لكثرة عوامل ذلك.

وإن حاول جميع الأعداء أو أكثرهم أو الكثير منهم طمس حقٍّنا وإتلاف الكثير من مصادرنا، إضافة إلى الكوارث الطَّبيعيَّة المدمِّرة طوال قروننا الإسلاميَّة المجيدة نصرة للدِّين وأهله من غير أن تحتسب.

وقد قال الشَّافعي تعبيراً عن هذا الحق النَّاجح والمتفوِّق على كل ما يريده الأعداء من حججهم الواهية بأنَّه قد (أخفى أعداء علي عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ فضائله بغضاً وحسداً وأحباءه خوفاً وطمعاً ثمَّ ظهر ما بين ذين وذين ما ملأ الخافقين)(1).

بل إنَّ ما أشاد بالدِّين الحق والمسلك الشَّرعي المدقَّق وعن صاحب الكمال المطلق والإمام الأوَّل المصدَّق وأبناءه فقهاء الأمَّة أولي الصِّدق ومن لسان الأعداء والمخالفين ومن طرقهم ومن الصَّدر الأوَّل ما هو أوفى وأوفق وكما قال الشاعر:

ومناقب شهد العدو بفضلها *** والفضل ما شهدت به الأعداء(2)

وبسبب ذلك اهتدى الكثيرون جدَّاً والى هذا الحين وإلى ما شاء الله ممَّا سيأتي.

وقد يُراد من (الرُّشد في خلافهم) هو الخلاف الواقع فيما بينهم، كالخلاف الواقع بين المذاهب الأربعة مع الزَّيديَّة وغيرهم وهو كثير.

وقد ساعد هذا الخلاف فيما بينهم على نصرة مذهب أهل البيت عَلَيْهِ السَّلاَمُ بصورة أكثر، بل أفادنا ذلك في أن حصل من أقوال بعض هذه المذاهب عن طريق تطاحنهم في الاستدلالات ما أنتج تفوُّق ما يريده مذهبنا ولو من حيث النَّتيجة.

كحرمة التَّكفير في الفرائض عند المالكيَّة، ووجوب حيَّ على خير العمل عند

ص: 324


1- الإمامة في ضوء الكتاب والسنة لمهدي السماوي ص129 ط 1977، مشارق أنوار اليقين، الحافظ البرسي، مؤسسة الأعلمي ط 1419، تحقيق السيد علي عاشور ص171.ج
2- للشَّاعر الفارقي، راجع تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار -- ابن بطوطة -- ج1 ص30.

الزَّيديَّة، والخمس في غير الغنائم الحربيَّة وغير ذلك.

وعلى هذا يحمل ما ورد عن العامَّة من الحديث النَّبوي القائل (اختلاف أمَّتي رحمة)(1) في بعض معانيه، لكون الحق لابدَّ أن يبرز منتصراً بين تلك الاختلافات ممَّا مرَّ ذكره وغيره.

وبهذين التَّوجيهين لرواية الإمام الصَّادق عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ إن أريد الرُّشد في مخالفتهم لنا أو فيما بينهم وكان حصول ما بينهم ضدَّنا في الأخبار الَّتي رووها.فلابدَّ من أن يكون ما في رواية العسكري عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من قوله عن بني فضَّال (خذوا ما رووا ودعوا ما رأوا)(2) مع عبارة النَّص الثَّاني.

هو عدم إمكان الجمع، إلاَّ فيما استثنياه في الحديث عن النَّص الأوَّل.

وكما أيَّد ذلك القاعدة المعروفة (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح) وما أجمع عليه أصحابنا من الأخذ بالموثَّقات الواردة عنهم.

ومن ذلك ما حصل من تخالف المذاهب فيما بينهم في أنواع الأدلَّة اللَّفظيَّة المتعدِّدة الَّتي صادف أن يكون منها ما وافقنا ولو في توجيه ما استثنيناه، وعليه يكون إمكان الجمع بين الرَّوايتين جزئيَّاً.

وأمَّا إن أريد من (الرُّشد في خلافهم) هو مخالفتنا لآرائهم واجتهاداتهم - حينما كانت آراؤهم وجهالتهم عناديَّة لنا، لخبث نواياهم أو ضغط سلاطينهم الجائرين عليهم.

فانَّه لابدَّ وأن يتم الكلام بأنَّ عبارة (ودعوا ما رأوا) في الرِّواية الأولى و(الرُّشد في خلافهم) وهو الرِّواية الثَّانية قد تطابقا بمعنى موحَّد، وهو النَّهي -- وما يؤدِّي إليه --

ص: 325


1- سلسلة الأحاديث الضعيفة ج1 ص 140، الأسرار المرفوعة ص 50، الجامع لأحكام القرآن ( تفسير القرطبي ) ج4 ص 151 ، الجامع الصغير للسيوطي ص 24.
2- كتاب الغيبة: 240، الطبعة الثانية.ج

عن الأخذ بآرائهم.

كما استشهدنا به من مخالفات أبي حنيفة، وبقيَّة المخالفات من أمثاله الَّتي يبنون عليها من مؤدَّى الرِّوايات القبيحة الَّتي لا تتناسب مع مقام النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووصيِّه وباقي أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ أو الموجِّهة من غيرها بسوء اجتهاداتهم.

يبقى الأمر بأخذ مرويَّاتهم بما في صدر الرِّواية الأولى مفصَّلاً بما ذكرناه.

السَّادس / هل من معاني

(اختلاف أمَّتي رحمة)(1)

هو خصوص ما يقع بيننا وبين العامَّة من الاختلاف؟

أم حتَّى ما بيننا نحن الإماميَّة؟

إنَّ هذه الرِّواية الواردة عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بواسطة القوم من أهل الخلاف -- بناءاً على صحَّتها أو صحَّة مضمونها الَّذي قد يوافق بعض مضامين رواياتنا ممَّا يدور فيما بيننا، وبالأخص إذا حملنا رواية الإمام الصَّادق عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الماضية وهي (الرُّشد في خلافهم)(2) -- بمعنى الاختلاف ودون الَّذي يدور فيما بيننا ولو في غالبه إن لم نبالغ مع كوننا مخطِّئة.

وأنَّ معنى الرُّشد الَّذي يشملنا من حالات الرَّحمة الَّتي تتَّسع لنا، وغير ذلك

ص: 326


1- سلسلة الأحاديث الضعيفة ج1 ص 140، الأسرار المرفوعة ص 50 ، الجامع لأحكام القرآن ( تفسير القرطبي ) ج4 ص 151 ، الجامع الصغير للسيوطي ص 24 ، المقاصد الحسنة للسَّخاوي ص 26.
2- وسائل الشِّيعة: ج18 باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث19، الكافي ج1 ص23، وفي رواية أخرى (ما خالف العامَّة ففيه الرَّشاد).

من القرائن.

قد يراد منها ما يقع بيننا وبين القوم من المناقشات المؤدِّية إلى استبصارهم عند انكشاف الحقِّ لهم.

أو بمعنى اختلافهم العنادي عنَّا والَّذي قد يؤدِّي بعد الهداية إلى الانصياع إلى الحق والى الاستبصار باتِّضاح أموره لمن ألقى السَّمع وهو شهيد، حينما يكون ذلك التَّفاوت في نقل الرِّوايات.

وهو الأقرب من معنى ما يقع بيننا نحن الإماميَّة، لضعف هذه الحالة ما بيننا.

لكن لا يمتنع ذلك من صدق هذه الرَّحمة بهذا الاختلاف بما يقع بيننا إذا يزداد بسببه شدَّ الأواصر أكثر، وبالأخص إذا فُسِّر بمعنى آخر وهو كون الاختلاف بمعنى تخالف الأمَّة على النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بمعنى الرَّواح والمجيء عليه.

لأنَّ بهذا الاختلاف إليه صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لابدَّ وأن تتوحَّد الرِّوايات وأن لا يؤخذ إلاَّ بما صحَّ منها.

ولكن يا ترى هل حصل بالنَّتيجة هذا التَّوحُّد كاملاً حتَّى تصل الرَّحمة كاملة للجميع؟

لكن للأسف لم يحصل إلاَّ النَّزر اليسير وبمعنى خصوص ما وقع بيننا وبين العامة أكثر، لا ما قد يقع بين بعض الإماميَّة أنفسهم ممَّا لا ينبغي أن يُعبأ به إلاَّ للوصول إلى ما تتجلَّى به الحقائق أكثر.

وأمَّا في كون ما بقي من التَّفاوت ما بيننا وبين العامَّة في الآراء والاجتهادات غير الهادية.

فلا يمكن قبول ذلك مطلقاً في أن يكون معنى لهذه الرِّواية، ما دامت أدلَّة أهل الخلاف ضعيفة واجتهادات في مقابل النُّصوص.

ولأنَّ الرَّحمة لا تشمل حالات العناد وكما سلف في الرِّوايتين عن العسكري

ص: 327

عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وجدِّه الصادق عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وسيأتي تفصيل الكلام في خاتمة هذا الجزء.

السَّابع / هل إنَّ ما يعرض على الكتاب ويخالفه من الرِّوايات

في ترك العمل به خاص بما كذب على النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ؟

أم حتَّى الَّتي وردت عندنا وعند غيرنا ولم تفهم؟

لم يكن كل ما ترفضه آيات أحكام الكتاب الكريم (القرآن الشَّريف) بحسب الظاهر خاصَّاً بما كذب به على النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ دون ما لم يفهم من الرِّوايات حتَّى لو كان صحيحاً في سنده عندنا أو موثوقاً به عندنا من رواياتهم.

إضافة إلى أنَّ بعض ما كذب به بحسب الظاهر هو صادق في واقعه لوجود الاشتباه في التَّطبيق على نحو الكذب.

ولذلك نجد أنَّ ما كذب به لو عرض على الكتاب يكون مرفوضاً في نوعه ولا يمنع في بعض الأحوال من حالة عدم رفضه تماماً لما ذكرناه من حالة الاشتباه في تطبيق الكذب وإن كان قاصد الكذب آثماً في الواقع.لإمكان أن يتوصَّل بالتَّالي إلى الرَّأي المطابق للواقع.

وكذلك نجد الرِّوايات الأخرى - الَّتي لم نفهم المقصود منها وإن صحَّ سندها في بعضها - ما يرفضه الكتاب في بعض الحالات، ومن ذلك روايات التَّقيَّة كحالات الاختيار وفي بعضها الآخر ما يقبله كحالات الاضطرار أو ما لا يرفضه، للتَّأمُّل في أمر الوجه الَّذي يتناسب مع الرَّفض أو عدمه.

الثَّامن / هل إن أخذنا بروايات العامَّة للتَّعبُّد أم لا تعبُّد بها؟

من المعلوم أنَّ أخذنا بروايات العامَّة ليس للتَّعبُّد بها مطلقاً، لأنَّ العمل بها لو

ص: 328

كان مضمونها يغاير مضامين أدلَّتنا فسوف يؤدِّي إلى كون عملنا متناقضاً مع رواياتهم إن قمنا بالمفهومين.

أو باطلاً إن قمنا بما يخالف الصَّحيح حسب موازيننا، وهو ما تؤدِّيه رواياتهم نوعاً لا كلاًّ.

أو صحيحاً وهو ما تؤدِّيه رواياتنا وبعض رواياتهم غير المشخَّصة إلاَّ بالتَّفحُّص.

وبذلك يكون العمل برواياتهم لا داعي له تعبُّديَّاً.

وعليه فلابدَّ من اتِّخاذ وجه وجيه للعمل على طبق هذه الرِّوايات الإضافيَّة عند الحاجة الماسَّة وكما سلف بيان بعض أسباب العمل بها.

فإنَّ الحاجة الدَّاعية إلى اعتبار هذه الرِّوايات والعمل على طبقها وإن صحَّت عند العامَّة ولم تصح عندنا، أو وثِّق بها عندنا مع غزارة أو وضوح أدلَّتنا بالنِّسبة إلى عملنا، أو صحَّت عندنا ولكنَّها محمولة على التَّقيَّة، لا لأجلنا وإنَّما كان ذلك لأجل العامَّة فقط بينهم وأمامهم.

لتوسعة الفقه الجامع لأكبر عدد ممكن من المسلمين على اختلاف مذاهبهم كحالة التَّقريب وبما أشرنا إليه من حالات تطبيق قاعدة الإلزام.

التَّاسع / هل نعمل بكل الصِّحاح؟ وهل نترك كل الضِّعاف؟

لابدَّ وأن يركَّز في حالة العمل الاستدلالي عند الحاجة على قواعد مرتَّبة على أصول الحديث وقواعد الرِّجال.

فليس كل صحيح في سنده يمكن البناء عليه، لكون بعض حالاته لا يجوز الأخذ به، لأنَّه ممَّا أعرض عنه الأصحاب، وبعضها الآخر لا يعمل به إلاَّ في حالة التَّقيَّة.

وتبقى الحالات الأخرى يعمل بها في حالتين:-

أوَّلاهما: صحيح، ولكنَّه من أخبار الآحاد، وهو ما يطلق عليه بالأعلائي في

ص: 329

بعض حالاته، أو ما كان من الأدون، إلاَّ أنَّه محفوف ببعض القرائن الأخرى المقوِّية.

فإذا كانا من هذا القبيل فيمكن البناء عليهما في موردهما، وإلاَّ فلا يبنى عليهما للظن الضَّعيف في خبر الواحد المجرَّد ممَّا اشترطناه فيه في مقابل الأقوى منهما ممَّا سيأتي ذكره.

وثانيهما: الخبر المتواتر، وهو دليل مجرى العمل الشَّرعي الاعتيادي، وإن كان قليلاً أيَّام بُعد الإسناد مع توفُّره.

وليس كل خبر ضعيف يجب تركه أو الإعراض عنه، لكون بعض حالاته يمكن العمل به إذا كان محفوفاً بالقرائن المقوِّية له كما مرَّ ذكره، وبعضها ما لا يمكن العمل به أو يجب تركه وهو ما لم تحفَّه القرائن المقوِّية ممَّا سيأتي ذكره.

وبهذا التَّقييد المذكور نقدر أن نعرف القاعدة المطلوبة، وهي كل رواية صحيحة غير معرض عنها ولم تكن جارية في خصوص مقام التَّقيَّة حتَّى لو كانت من أخبار الآحاد غير الأعلائيَّة إذا حُفَّ بها من القرائن المقوِّية أو كانت أعلائيَّة معتبرةلابدَّ وأن يعمل بها، لو لم يشك في مضمونها فضلاً عن المتواترة.

العاشر / لماذا يُعد علم الرِّجال غير ميمون

في البحث فيه والالتزام بنتائجه؟

إنَّما يُعد علم الرِّجال غير ميمون بسبب بُعد الزَّمن عن المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وكثرة الوسائط الَّتي تسبِّب الجهل بالأشخاص وقلَّة المصادر وضعف المعرفة وضعف التَّدين أو ما يشبهه، ممَّا يُسبِّب سطحيَّة تشخيص حالات الجرح والتَّعديل بدون ورع.

ومن خلال هذا البُعد المتنوِّع تسبَّب البُعد عمَّن يراد معرفتهم في حالة الجهل بحالهم من حيث الجرح أو التَّعديل، فاختفت الحقائق أو ما أمكن الوصول إلى أشخاصها قبولاَّ بهم أو رفضا لهم بحق، لكون من أجمع على وثاقته أو عدالته أو

ص: 330

أجمع على وجود الخلل في دينه وإيمانه وصدقه لا كلام لنا في أمره قبولاً أو رفضاً.

ومن ذلك ما صرَّح الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عنهم بالمدح أو الذم، وصح نسبة ذلك عن الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

ومنه من كان قريباً من عصرنا وعرفناه بالدقَّة الشَّرعية.

يبقى المجهول في أمره مع قلَّة المصادر أو تلفها بسبب الكوارث الطَّبيعيَّة وغيرها وغير ذلك ممَّا مرَّ ذكره.

وكون بعض الحالات ممَّا يستدعى الحمل على الصحَّة أو الاحتياط على الأقل ممَّا بين المؤمنين، وهو ما يتناسب مع رواية (احمل أخاك المؤمن على سبعين محمل)(1).

أمَّا بعض الحالات الأخرى كحالات الخلط فقد تشير إليها قول رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (احترسوا من النَّاس بسوء الظَّن)(2).

وقول أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ أيضاً (إذا استولى الصَّلاح على الزَّمان وأهله ثمَّ أساء رجل الظَّن برجل لم تظهر منه حوبة فقد ظلم، وإذا استولى الفساد على الزَّمان وأهله فأحسن رجل الظَّن برجل فقد غرر)(3).

وقول الإمام علي الهادي عَلَيْهِ السَّلاَمُ أيضاً (إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن يظن بأحد سوءاً حتَّى يعلم ذلك منه، وإذا كان زمان الجور أغلب فيه من العدل، فليس لأحد أن يظن بأحد خيراً ما لم يعلم ذلك منه)(4).

وكذلك القول المشهور أو الحكمة المعروفة (إذا فسد الزَّمان وأهله فسوء الظن

ص: 331


1- الحدائق الناضرة / الشيخ يوسف البحراني، ج 18، ص312.
2- ميزان الحكمة ج2 ص1787، البحار: 77 / 158 / 142 وص 211.
3- نهج البلاغة: الحكمة 114.
4- ميزان الحكمة ج2 ص1787 وأعلام الدين: 312.

من حسن الفطن).

وإن كان عدم رجحان سرعة البت بالذَّم -- أو مجرَّد رجحان الحمل على الصحَّة -- لا يعطينا بتَّاً بصدق ما يقال من الأخبار.

فلابدَّ من التَّورع في هذه الأمور كثيراً ومع عدمه يصل الأمر إلى عدم الاعتداد به.

لكن لابدَّ للحق من أن يقال في أنَّ علم الرِّجال قد يحتاج إليه مع التَّدين والدِّقة والضَّبط والحاجة الماسَّة لتدقيق بعض أمور الكتب الأربعة، لأنَّها ما وضعت لأن يعمل بجميعها، وإنَّما وضعت للحفظ من الضِّياع على الأقل مع جلالة قدرها، لكونها عن خصوص الإماميَّة.

على أن يحقَّق في أمورها بعد ذلك في مجهود آخر، سواء من الواضعين للمنقولات الشَّريفة وهم المحمَّدون الثَّلاثة قدس سره أو ممَّن يأتي من بعدهم.

وقد دلَّت الأدلَّة الأربعة على حرمة العمل بالظن، وأنَّه لا يجوز نسبة أيُّ حكم له تعالى ما لم يثبت ذلك بدليل قطعي أو بما ينتهي إلى الدَّليل القطعي كما قال تعالى [قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ](1) وقال أيضاً [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ](2)، وقال أيضاً[وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً](3).

إضافة إلى كثير وغفير من الرِّوايات العلاجيَّة والتَّوجيهيَّة للحواري وخيار الرُّواة، الَّتي منها ما في صحيح أبي بصير (قال قلت لأبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنَّة نبيه فننظر فيها فقال "أما أنَّك إن أصبت لم

ص: 332


1- سورة يونس / آية 59.ج
2- سورة الإسراء / آية 36.ج
3- سورة يونس / آية 36.

تؤجر وإن أخطأت كذبت على الله")(1).

وغير ذلك من الرِّوايات، وكلُّها تدل على عدم جواز أيِّ تصدِّي لأي دليل محتمل ولم يتقن أمره إلاَّ بعد التَّثبت منه في السَّند والدِّلالة للتَّشويش الَّذي حصل وللاختلاق للأصحاب وللرِّوايات الَّتي وضعهما الأعداء وللخلل الَّذي منيت به كثير من الرِّوايات الواردة في كتبنا عنهم.

الحادي عشر / هل يُعد المدح والذَّم لرجال السَّند منحصراً

قد يتبادر إلى الذَّهن أنَّ الذم والمدح هل هو في خصوص ورودهما من الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ أو عنه بالمباشرة لمعاصرته لمن يروي عنه؟ أم يشمل ما نعرفه نحن أيضاً من تطبيقات قواعد عامَّة لذلك حتَّى في مجال بُعد الزَّمن عن المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فيما يتعلَّق بخصوصيَّات الممدوحين والمذمومين ممَّا يستحقُّونه شرعاً لمعاصرتنا لهم لتكون القواعد واحدة أو متشابهة؟

فنقول: لا يمكن أن يكون أمر المدح أو الذَّم الطَّبيعيين لرجال السنَّة منحصراً في التَّشخيص لها من قبل الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ فقط.

بل يشملنا نحن كذلك فيما نعرفه عمَّن يروي عنا أو نروي عنهم.

بل يشمل كل مصادر الجرح والتَّعديل المصيبة للهدف والمتقنة له حتَّى في الوسائط الَّتي بين عصري الإمام وعصرنا، حتَّى لو احتطنا في أمر ما بين العصرين ممَّا مرَّ ذكره إذا حصلت تلك الإصابة وذلك الإتقان في تطبيق القواعد العلميَّة والاستقصاءات الميدانيَّة حول الأشخاص مدحاً أو ذمَّاً وصادف حصول ذلك بواسطة التَّسهيلات الإلهيَّة.

ص: 333


1- الكافي 1: 56، الوسائل في باب - 6 - من أبواب صفات القاضي.ج

بل حتَّى بعض ما يرد عن الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ حول رواته ومن يأخذ عنه فإنَّه يجب التَّأكُّد منه والتَّثبُّت في أمره لئلا يقع الإنسان في مطبَّات مشكلة، لكثرة الأعداء ومكثري الشُّبهات من أعداء الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، إضافة إلى بُعدنا عن زمن الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ المؤثِّر في الغالب لهذا الأمر كما مرَّ بيانه.

بل حتَّى في بعض ما يكون معاصراً لنا كذلك، لما يقع من الإشكالات وما يخفى علينا من بعض الواقعيَّات من باب أولى.

ولكوننا لم نكن معصومين فلابدَّ من التَّأكُّد في الدَّور الأوَّل وهو عصر الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ والعصر الوسط وعصرنا بمستوى يتناسب مع كل حالة تقتضيه للخروج من حالة الظنون المضرِّة والَّتي لا تبرئ الذمَّة بالاجتهاد والتَّخرص من دون استفراغ وسع عن غير أهليَّة.

الثَّاني عشر / السنَّة والبدعة

قد أشرنا في بداية الحديث عن المقام الثَّالث هذا وهو السنَّة الشَّريفة وعن معنى(السنَّة) لغويَّاً إلى حديث النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (من استنَّ بسنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن استنَّ بسنَّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)(1).

كما وضحَّنا ما ينبغي الكلام عنه أيضاً عن معناها اصطلاحاً، وبقي الكلام عن بعض التَّفاصيل الَّتي تتعلَّق بالكلام عن تفريقها عن موضوع البدعة.

فنقول: إنَّ المقصود من السنَّة في عرفنا التَّشريعي الإسلامي هو كل ما سنَّه رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ للأمَّة، استفادة من مضامين وحي الله القرآنيَّة ووحيه التَّأويليَّة

ص: 334


1- جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج 14 - ص 27، 1926 (16) عن الاختصاص 251.

وغيرهما من الأحاديث القدسيَّة دون غير ذلك، حيث قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى](1) وقال أيضاً [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا](2) وقال أيضاً [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ](3).

إلى غير ذلك من الآيات، وتضاف إليها الأحاديث الشَّريفة الَّتي تأمر وتنصح الأمَّة جمعاء بالاستنان بسنَّة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.

والَّتي بعد التَّأمل قليلاً في الآيات والرِّوايات الخاصَّة في المقام تتجلَّى لنا أهميَّة الأخذ بجميع ما صحَّ عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من سنَّته قولاً وفعلاً وتقريراً كما مرَّ بيانه سابقاً، لا خصوص الأقوال أو الأقوال والأفعال.

بل حتَّى كل ما سكت عنه النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من غير إنكار على فعل قام به المسلم، وهو المسمَّى بالتَّقرير.

واستمرَّ هذا الاصطلاح وارداً عن كل قول أو فعل أو تقرير من أحد الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

بدليل آية المباهلة الَّتي أدخلت وعبَّرت عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ تجاه رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بنفس واحدة في قوله تعالى [وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ](4) وقول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في حق علي عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (علي مع القرآن والقرآن مع علي)(5) وقوله (علي أعلمكم و علي

ص: 335


1- سورة النجم / آية 3 - 5.
2- سورة الحشر / آية 7.
3- سورة الأحزاب / آية 21.
4- سورة آل عمران / آية 61.
5- سورة النور / آية 36.

أقضاكم)(1) وقوله (أنا مدينة العلم وعلي بابها)(2).

وبدليل قول أمير المؤمنين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ليلة وفاة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لمَّا سارَّه النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ تحت الكساء (لقد علَّمني رسول الله ألف باب من الحلال والحرام، ومما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، كل باب منها يفتح ألف باب)(3) وقيل (ألف ألف باب حتى علمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب)(4).

وبدليل أقوال النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الكثيرة مسبقاً في أمير المؤمنين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وفي أولاده عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، ممَّا يدل على أنَّهم جميعاً القران النَّاطق، وبما يشمل الجميع مع الزَّهراء عَلَيْهِا السَّلاَمُ.

ومن ذلك ما في حديث الثَّقلين (إنِّي مخلِّف فيكم الثَّقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتيما إن تمسَّكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً وأنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(5)، لأنَّ العترة هي خزانة وحي الله وبيوتها البيوت الَّتي [أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ](6) وكما معروف على لسان العرب في أمثالهم أنَّ (صاحب الدَّار أدرى بما في الدَّار).

ص: 336


1- الحميدي في كتاب الجمع بين الصحيحين في خلافة عمر بن الخطاب.
2- فيض القدير، ج 3: ص 46، كنز العمال، ج 5: ص 600، المعجم الكبير للطبراني ج11 صفحة 65.
3- تاريخ ابن عساكر: ج2 ص483 - 484، تحت رقم : 1012، ط2، والجويني في (فرائد السمطين) ج1: 101 / 70، والمتقي في (كنز العمال) ج13 ص114 ح 36372، والحافظ المغربي في (فتح الملك العلي) ص48.ج
4- الخصال 2 : 173 و 174.
5- الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59)، وأبو يعلى في مسنده ( 117) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).
6- سورة النور / آية 36.

وهكذا ما في قوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عنهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ جميعاً (أوَّلنا محمَّد وآخرنا محمَّد وأوسطنا محمَّد بل كلُّنا محمِّد فلا تفرِّقوا بيننا)(1).

وغير ذلك ممَّا يدل على أنَّ ما يؤخذ عنهم جميعاً من الأقوال والأفعال والتَّقارير هو السنَّة النَّبويَّة كذلك.

وبهذا التَّحديد في النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وآله عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لا يمكن أن يعتبر من السنَّة ما نسب إلى الغير مهما كان، حتَّى لو صحَّ من بعض الأقوال عند البعض عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ممَّا قد يفيد الاحتمال في مقابل ما ذكرناه من الأدلَّة الباهرة، كما أشرنا إلى شيء من ذلك من الرِّوايات الموثَّقة عنده.

فإنَّه حينما يكون شيء من ذلك فإنَّما نقول عنه -- حينما لا ينافي كتاب الله وروايات النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وآله عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الواردة من طرقنا -- بأنَّه حديث نبوي وعهدته على راويه.

لا سنَّة نبويَّة صادرة عن فلان الصَّحابي أو التَّابعي بالدقَّة وهكذا، ولذلك اشتهر عندنا استضعاف هكذا نبويَّات إلاَّ ما حقِّق فيها.

لأنَّ عمليَّة البناء الشَّرعي لا تتم كاملة عنهم لأنَّهم مهما وثقوا فهم مجرَّد وسائط ليس إلاَّ والحجج هم الأئمَّة الأطهار.

نعم صدرت هناك ومن أسلاف السَّلفيين تعصُّبات وتزمُّتات ضدَّ خط أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، لمحاولة تصحيح هذه النِّسبة إلى رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عن طريق جعل بعض الصَّحابة أو من بعدهم هم محور النَّقل والاقتداء معاً.

فجعلوا الكثير من الرِّوايات المزيَّفة روايات عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وفي مقابل ما يصح عن أهل البيت الطَّاهر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، لتغيير المعالم الإسلاميَّة الأصيلة مع أكابر أسلافهم الَّذين حاربوا تدوين السنَّة الأصيلة وكتابتها بالحجج الواهيَّة، وهي زعمهم الخوف

ص: 337


1- بحار الأنوار ج25 ص363 ح23.

من تلابس السنَّة بالكتاب مع ادِّعاء بعضهم نقصان الكتاب والعياذ بالله ممَّا سبق ذكره.

بل إنَّهم استأنسوا وتحزَّبوا لما أراده الشَّيخان كقول الخليفة الأوَّل (إنَّ النَّبي لا يورِّث)(1) لردِّ الزَّهراء عَلَيْهِا السَّلاَمُ حين مطالبتها بإرثها من أبيها من فدك والعوالي وغير ذلك، وأهم منها إرث الإمامة والخلافة الَّتي لبعلها علي أمير المؤمنين وأولاده المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُحينما انقلب القوم على أعقابهم إلاَّ خُلَّص الأصحاب واغتصبوها.

في حين أنَّ هذه الرِّواية وهذ الخبر آحادي لا أثر له ولا قيمة فيه في مقابل نصوص الميراث القرآنيَّة.

وكذلك قول الخليفة الثَّاني في متعة الحج والنِّساء (وأنَّا أحرِّمهما وأعاقب عليهما)(2).

وقوله أيضاً بتراويح النَّوافل الرَّمضانية جماعات، في حين أنَّ النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لم يفعل ذلك ولا أهل بيته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ولا خلَّص أصحابه.

ولمَّا فرَّق الحسنان عَلَيْهِ السَّلاَمُ جموع المصلِّين لهذه النَّوافل صاحوا تحزُّباً للخليفة الثَّاني عند باب المسجد مستنكرين (وا سنَّة عمراه)(3) دفاعاً عنها.

فهذه الأخيرة وأمثالها من الكثير والجم الغفير من الأقوال والأفعال والتَّقارير الَّتي عن المشايخ الثَّلاثة، والَّتي منها أيضاً ما فعله الخليفة الثَّالث من إعطاء مروان (الوزغ) خُمس أفريقيا، وهو حمل أربعين بعيراً صداقاً لزواجه من ابنته.

وهكذا ما فعله الأمويون حينما أخليت الأجواء لهم من أمثال الوضع والدَّس

ص: 338


1- مسند أحمد ابن حنبل ج 1 ص198.
2- تفسير الفخر الرازي الكبير ج 10 ص 50 الطبعة الثالثة.
3- شرح نهج البلاغة ج12 ص283، جامع احاديث الشيعة8: 147، باب7، ح4 وح6.ج

والاختلاق، بما لا يمكن أن يطاق حتَّى فضح أولئك الأوائل والأواخر وحي الله وما أثبتته حجج الله من الحجج الدَّامغة بآياتهم السَّاطعة.

ومع ذلك أخذ أولئك النَّواصب والمتعصِّبون من المتقدِّمين ومن المتأخِّرين يقولون تذرعاً لهم عنهم بأنَّهم (اجتهدوا فأخطأوا).

وغير ذلك من الأعذار الواهية الَّتي لا تصلح أن تكون مع سبق الإصرار والتَّرك بالإعراض وعدم الاعتذار، كما دلَّت عليه الكثير من القرائن إلاَّ من نوع البدع المخالفة للسنَّة.

أمَّا البدعة:--

فبعد ما مرَّ بيانه تكون في مقابل السنَّة النَّبويَّة الأصيلة والواردة بواسطة أئمَّتنا عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وما ألحق بذلك من النَّبويَّات الَّتي رواتها مجرَّد وسائط، لا مذاهب يًتحزَّب لهم، وإن اجتهدوا في مقابل النُّصوص والظواهر الشَّريفة.

ويدخل في ذلك كل تلفيق واختلاق وتشويش وإغلاق متعمَّد بسبب النَّقل بالمعنى، أو قلب للحقائق وتغيير في الأسماء لمن يستحق المناقب وجعلها فيمن يحبُّون وعدمها فيمن يكرهون.

ومن ذلك قلب الحقائق في بعض أسباب النُّزول المفترات، والَّتي منها ما يرتبط بآيات الأحكام تحريفاً.

فإنَّ كل ذلك وغيره مع وجود الأدلَّة الصَّحيحة من معدنها الأصيل في مقابلها يعد اجتهاداً باطلاً وابتداعاً محرَّماً تحرِّمه الأدلَّة الدَّامغة الصَّريحة والواضحة والَّتي منها قوله تعالى [ما آتاكم الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا](1) وقول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (مَنْ قالَ في الْقُرآن بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّا مقْعَدَهُ مِنَ النّار)(2) وقوله (حلال محمَّد حلال

ص: 339


1- سورة الحشر /آية 7.
2- تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن": 1/32، وفي تفسير "مجمع البيان": 1/9.ججج

إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)(1) وقوله (من افتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه)(2).

أقول: فإذا كان المبتدع بهذا الوزن من المذمَّة فكيف يتحزَّب له ويُقتدى به بإصرار وعناد إذا لم يرد من ذلك إرجاع الأمَّة إلى الجاهليَّة الأولى وأحزابها.

نعم قد يُراد من الرِّواية الماضية في العنوان من قسمها الأوَّل (من سنَّ سنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء)(3) هو تطبيق قواعدنا الشَّرعية بالأفعال وتطبيق أصولنا الثَّابتة بالفروع، والَّتي أهمُّها ما لم يكن من الشَّرعيَّات مألوفاً في بعض المجتمعات والمدن الَّتي صار فيها مألوفاً كبعض الواجباتالمهجورة أو المتقاعس عنها ثمَّ صارت مألوفة.

وهكذا بعض المستحبَّات وبعض حالات الشَّعائر الدِّينيَّة المغفول عنها، وبالخصوص في آخر الزَّمان الَّذي صار فيه المعروف منكراً والمنكر معروفاً، لا من أتى بشيء لم يأت به الإسلام أساساً لأنَّه من البدع.

وقد يراد من هذه السنَّة هو ما أشيع فعله وصار نافعاً للفرد وللمجتمع ممَّا كان مباحاً في أصله ولم يكن عباديَّاً في مشروعيَّته كالمصنوعات النَّافعة من السيَّارات والطائرات وبقيَّة وسائط النَّقل السريعة والكهرباء والطب الحديث وغير ذلك ممَّا لا يعد ويحصى في هذا الزَّمن إذا قصد من ذلك الإنسانيَّة والقربة الإلهيَّة إذا كان الإنسان مسلماً ومؤمناً بالآخرة ولم يكن في ذلك ضرر متعمَّد من جانب آخر.

بل إنَّه داخل في بعض العمومات والإطلاقات المشجِّعة على ذلك وإلاَّ فأجره يكون مجرَّد صيت الدنيا، ولعلَّ كلا الأمرين مرادان إذا سبق التَّوفيق إلهيَّاً لهما.

ص: 340


1- أصول الكافي ج1 ص 58، بصائر الدرجات: ص 148 ب 31 ح 7.ج
2- الوسائل - باب 4 - من أبواب صفات القاضي - حديث 1.ج
3- جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج 14 - ص 27.

وأمَّا ما في القسم الثَّاني وهو [مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا](1) وقولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (ومن استن بسنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غيران ينقص من أوزارهم شيء)(2) لسبق الرَّحمة الإلهيَّة حتَّى في مثل هذه ليرى العبد المجرم مدى رأفته تعالى بعباده حتَّى في هذه الحالة لأنَّه لا يحرمه الله بجرم غيره وإن تأثَّر بفعله، لأنَّه هو الَّذي ورَّطه، وما مصاديق هذا الأمر إلاَّ بالبدع أمثالها على خصوص مبتدعيها دون من تأثَّر بهم لاحتمال ندامته.

الثَّالث عشر / لماذا تسمَّى العامَّة بأهل السنَّة؟

بعد الَّذي ذكرناه عن المتعصِّبين من مسلمي العامَّة ولو بالإشارة إلى قرائن اعتزازهم بهذه التَّسمية وإن عرفوا عن تصرُّفاتهم أو تصرُّفات المتعصِّبين من أسلافهم من الدَّس والوضع والتَّلفيق وإن كان واقعه معاداة للعترة الطَّاهرة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في حديث الثَّقلين وإن لم يرتض المنصفون من بقيَّة أسلافهم هذا أو بعضه.

فإنَّ الصَّحيح أن يقال عنهم أنَّهم إذا حملوا هذه الصِّفة هم (أهل التَّسنُّن).

وهل نحن أهل العترة في مقابل ذلك ومعها السنة للصِّراع في حديث الثَّقلين بين عترتي وسنَّتي بعمومها وإطلاقها؟

أم أنَّهم أهل السنَّة الواردة من طرقهم ورجالهم الأوائل الَّذين منعوا كتابتها وإن صحَّت؟

أو ما سنَّه لهم الخليفة الثَّاني ولم يقبلوا ما يرويه الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ؟

ص: 341


1- سورة غافر / آية 40.
2- جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج 14 - ص 27، 1926 (16) عن الاختصاص 251.

فإنَّ ما يظهر للإجابة من نوع العامَّة وأهل التَّسنُّن هو أنَّهم في الظاهر أتباع سنَّة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، وإن كان هذا الظهور غير ثابت من جميعهم، بسبب كثرتهم المتفاوتة وتعدُّد فرقهم واختلاف النَّواصب عن اللَّينين منهم.

على أنَّ ظاهر اللَّينين لم يثبت عنهم أنَّهم يقصدون كونهم أهل السنَّة حتَّى الَّتي ترد عن الأئمَّة المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وإن كان بعض ما يروونه من طرقهم فيه اسم بعض أئمَّتنا عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، لأنَّه من يفتِّش فقهيَّاتهم من جميع المذاهب الأربعة، ليجد الكثير والغفير ممَّا يخالف مسائلنا الأصيلة وأئمتنا عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لم يقولوا إلاَّ حكماً واحداً.

يبقى النَّواصب ومن لفَّ لفَّهم قد لا يفهمون سوى السنَّة النَّبويَّة من المبتدعات والملفَّقات وما نقل بالمعنى البعيد، وما قاله بعض الصَّحابة من مشايخهم من الاجتهادات في مقابل النُّصوص مع ما ندر من النَّبويَّات الَّتي فيها مجال أو بعض مجال للتَّأييد ونحوه.

وبهذا الَّذي ذكرناه في نوعه يكون بانتسابنا إلى العترة في المقابل ومعه السنَّة الشَّريفة بالطبع لما أحدثه المخالفون من الصِّراع والتَّحزُّب سبباً في تَّسمية السنةالمخالفة وإن لم نقصد نحن المقابلة في ذلك للمعاداة المفقودة من جانبنا لا كما قد يتصوَّرون أو يُصوَّر لهم، وممَّا كشف عن تخربِّهم المعادي هو إصرار الكثير منهم على أنَّ حديث الثَّقلين لا يقول إلاَّ (سنَّتي) لا (عترتي أهل بيتي).

ومن هؤلاء المؤيِّدون لمنع صحابتهم الأوائل تدوين السنَّة، وجعل السنَّة هي ما نسب إلى النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من طرقهم ولو باجتهاد الخليفة الثَّاني.

مع أنَّ الثَّابت في كتبهم ولصحة في السنَّد عندهم هو ما عندنا إلاَّ ما أصرَّ عليه النَّواصب وأمثالهم.

وقد لان الكثير من أهل اللِّين والإنصاف ومن ألحق بهم بعد معرفة عدم صحَّة فقرة (سنَّتي) في الحديث فاعترفوا بما عندنا.

ص: 342

الرَّابع عشر / علاقة السنَّة بآيات الأحكام

بناءاً على أنَّ السنَّة الشَّريفة -- من قول المعصوم وفعله وتقريره من النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ مع الزَّهراء عَلَيْهِا السَّلاَمُ الَّتي هي مثال المرأة المسلمة والمؤمنة في عموم الأشياء -- المرتبطة بالأحكام التَّكليفيَّة الخمسة والوضعيَّة المرتبطة بالصحَّة والفساد والقبول والرَّفض.

لابدَّ أن تكون مرتبطة بآيات الأحكام حتَّى الأحكام الاعتقاديَّة والأخلاقيَّة، وخصوص السِّيرة النَّبويَّة وسيرة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الخاصَّة بهم وبمضمونها، لأجل أمرين:--

1 -- حاجة آيات الأحكام إلى السنَّة المتقنة لحل أمور المجملات من تلك الآيات والمتشابهات منها وحالات النَّسخ الَّتي فيها، وهكذا أمور تخصيص العام وتقييد الإطلاق الَّذي فيها ونحو ذلك.

2 -- حاجة السنَّة إلى الآيات في مسائل الإشكال والتَّردُّد في أمور ألفاظ ومطالب السنَّة عند عرضها على الكتاب لحل ذلك.

وشدَّة العلاقة هذه تبيَّنت من تأكيد النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ على هذا التَّرابط وانتشار أمره وإلى حدِّ أن صار حديث الثَّقلين متواتراً بين الفريقين وأخضع الكثير من أهل التَّسنُّن إلى الاعتقاد بكلمة (عترتي أهل بيتي) بدل ما لفَّقوه من كلمة (سنَّتي) بعد الاطِّلاع الصَّحيح على واقع الرَّاوي والرِّواية.

وكذللك من عبارة (وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(1) الأخيرة في

ص: 343


1- القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 15 من طرق شتى، وأخرجها في ص 16 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (ح 3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59 )، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم.ج

الحديث.

ومن تأكيد النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ على ذلك بإرادته ليلة وفاته أن يؤتى له بدواة وكتف ليكتب هذا الحديث، لئلاَّ يحاول من يحاول الانقلاب على الأعقاب طمس هذه الحقيقة المهمَّة.

ولذا ورد الرَّفض من الثَّاني حيث قال (دعوه إنَّه يهجر)(1).

إضافة إلى النُّصوص الكثيرة جدَّاً كتاباً وسنَّة ممَّا يؤكِّد على هذه العلاقة بين الكتاب والسنَّة في العموم والخصوص.

الخامس عشر / صفات الرَّاوي

إنَّ الحرص المستمر من سلفنا الصَّالح -- من زمن المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ حتَّى الآن من الرِّوايات والسِّيرة المستمرَّة، وعلى نهج التَّخطيطات العلميَّة، البنَّاءة للواقع الشَّرعي،الهدَّامة للباطل المخالف، والمحافظة على الأقل على الموجود من الآثار الشَّريفة، لئلا تضيع أو لتبقى سالمة من الَّتي وضعوها في علم الرِّجال وعلم الدِّراية والحديث تجاه الرِّوايات المحدَّدة، لتوضيح آيات الأحكام ودعم معانيها باللفظ النَّبوي والإمامي الأوضح والأصرح --

قد أدَّى لأن يعطي هذا السَّلف لخير الخلف النَّصائح المهمَّة، لتحقيق المآرب الشَّريفة في العلمين المنيفين، والَّذي توجد في مجموعهما ما يرتبط بصفات الرَّاوي.

وبعد تقسيم الأخبار إلى متواترة وغيرها كانت الصِّفات المرادة في الاثنين حتماً.

ص: 344


1- صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عني، صحيح مسلم في باب ترك الوصية ج5 ص76.

أمَّا في التَّواتر وهي المطلوبة الآن مع قلَّته، وهي شروط ثلاثة تخص المخبرين، واثنان تخص السَّامعين:--

أمَّا الأولى: وهي ما يخص المخبرين فثلاثة، وهي:--

فالأوَّل منها: أن يبلغ المخبرون حدَّاً في كثرتهم واختلاف أزمانهم وأماكنهم بنحو يمتنع فيه تواطؤهم عادة على الكذب.

الثَّاني: أن يستند علمهم إلى الوجدان والحس، فإنَّ علمهم مثل معلومة حدوث العالم المستنتج من الشَّكل الأوَّل، وإن كان علمهم بديهي الإنتاج، ولكنَّه في مقامنا المنقول لا يفيد قطعاً إلاَّ بما يطمئننا سنداً ومضموناً.

الثَّالث: استواء الطَّرفين المخبرين والواسطة الَّتي بينهما، أعني بلوغ جميع طبقات المخبرين في الأوَّل والآخر والوسط.

وأمَّا الثَّاني: وهي ما يخص السَّامعين فهما اثنان:-

أوَّلهما: ألاَّ يكونوا عالمين بما أخبروا عنه سابقاً اضطراراً، لأنَّه من قبيل تحصيل الحاصل، للفرق بين رؤية الحادثة وبين الإخبار عنها للغو.

الثَّاني: أن لا يكون السَّامع قد سبق بشبهة أو تقليد قد يؤدِّيان أو أحدهما إلى اعتقاد نفي موجب الخبر، لأنَّ مبنى التَّواتر وأهميَّة الأخذ به هو عدم الاصطدام بما يضادُّه، وهو رأي محترم لعلم الهدى قدس سره.

وكل ذلك مبني على شرط أساسي وهو العدالة أو عدم الفسق، لأنَّ الفسق نوعاً لا يؤمن به حالات التَّحرج عن الكذب إلاَّ في الموثَّق.

وإنَّ علماء الرِّجال قد استفادوا ممَّا ورد وصحَّ وروده عمَّا يناسب المقام أدلَّة كافية تثبت ذلك، مثل قوله تعالى [إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ](1).

ص: 345


1- سورة الحجرات / آية 6.

وغير ذلك من الرِّوايات إشارة أو تصريحاً وعما أتقنوه مبرئاً للذمَّة لتصحيح ما يأتي عنهم من الرِّوايات معزَّزاً من عدمه حول صفات الرَّاوي من المدح والذَّم، ومن ذلك الأعدليَّة والأفقهيَّة والأوثقيَّة الواردة في مقبولة عمر ابن حنظلة حيث قال عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر)(1).

وعلى هذا الأساس جاءت صفات الرَّاوي المعضودة مدحاً وذماً لمن لم يتَّصف بهذه الصِّفات أو أساسيَّاتها إذا اعتبرنا أنَّ رواة الأحاديث المعتبرين هم الفقهاء، والفقهاء هم رواة الأحاديث، وأمَّا الصِّفات الَّتي قد تراد عند الحاجة إلى أخبار الآحاد فهي الَّتي سوف تأتي في الأمر السَّادس عشر.

السَّادس عشر / صفات الرِّواية

صفات الرِّواية هي المتواترة، ومنها ما بين الفريقين والمستفيضة والمشهورة.

ومنها ما بين الفريقين والمعتبرة والضعيفة المجبورة بعمل الأصحاب ورواية الآحاد الأعلائيَّة والمحفوفة بالقرائن والموثَّقة أو المقبولة والعاميَّة والمرفوعة والمقطوعة والمعرض عنها والمحمولة على التَّقيَّة وإن كان كل منهما صحيحاً في نفسه والآحاد غير المعمول بها والضَّعيفة كذلك والنَّبويَّة.

وقد استفادوا عند متابعة الرِّوايات فعرفوا أنَّ من أهم صفاتها هي الشهرة الرِّوائية وهي المشهورة بين عدَّة رواة، وقد تكون منها المستفيضة ولكن قد لا يعتد بها إلاَّ بإحدى القرائن المقويَّة للمعتبرة.

ص: 346


1- وسائل الشيعة / 27 / 106 / باب 9 وجوب الجمع بين الأحاديث المختلفة.

السَّابع عشر / لماذا التَّقسيم

إلى الصَّحيح والحسن والضَّعيف والموثَّق

لم يكن التَّقسيم لخصوص ما ورد من طرقنا ورجالنا (رحم الله الماضين وحفظ الباقين) ولغير طرقنا وغير رجالنا من الأخوَّة العامَّة، وإن نشأ عندنا بين الأصولييِّن والأخبارييِّن شدَّة كما سبق و سيأتي موجزه.

وإنَّما للأعم من ذلك، لأجل معرفة مدى ما يمكن الالتزام به من الرِّوايات، والَّتي منها الموثَّقات والنَّبويَّات المشهورة والمؤيَّدة، والَّتي يمكن أن يجري بسببها عمليَّة التَّقريب أو ردع التَّزمت ضدَّنا على الأقل، وهو من مشاريع ألطاف ومحبوبيَّة المقارنة الفقهيَّة أمام العدو المشترك.

وأمَّا ما نحتاج إليه من ذلك من رواياتنا في مجموع كتبنا ومصادرنا القديمة والحديثة فقد قال نوع المحدِّثين بعدم الرِّضا بالتَّقسيم لوجوب الأخذ بكل ما ورد وبالأخص ما في كتاب الكافي.

وقال الأصوليون ومجتهدوا المحدِّثين بوجوب التَّقسيم للفروقات الكثيرة في الرِّواية والرَّاوي وبما لا يقبل الإنكار ولو الإجمالي للاستفادة من بعض الاستثناءات الخاصَّة.

وممَّا يؤيِّده ويساعد عليه كثير من المحدثين المجتهدين قولهم بأنَّه بما مضمونه (ما جمعت الكتب الجوامع من قبل أصحابها ليعمل بها وإنَّما جمعت لئلا تضيع وتدثر).

وهو ما معناه أنَّه يمكن أن يكون لمن يأتي من العلماء فيما بعد الحق في اختيار المعتبر من غيره في نظره بسبب التَّفاوت في الرُّواة والرِّوايات.

وبذلك لا داعي إلى الإكثار من النِّزاع فيما بنينا حول التَّقسيم وعدمه للزوم

ص: 347

التَّقسيم.

وبناءاً على ما ذكرناه من صفات الرُّواة وصفات الرِّوايات فلابدَّ من أن تكون أقسام الرِّوايات المأخوذ بها - على إطلاق الأخذ الَّذي معناه الأعم من المتعبَّد به وهو المنحصر في طرقنا المعتبرة ومن غير المتعبد به تعبداً كاملاً وهو المأخوذ من طرق العامَّة وإن أيد بعضه رواياتنا ونفع في عمليَّة التَّقريب أو نفع في مشروع تطبيق قاعدة الإلزام لحصر المتعبَّد به من ذلك في خصوص الموثَّقات من رواياتهم ولم يشك في أمرها وبالأخص المحفوفة بالقرائن من المرتبطة بشؤون الشَّريعة الفقهيَّة وحصره في النَّبويَّات الأخلاقيَّة المعروضة على الكتاب والسنَّة الَّتي من طرقنا ولم تخالفها والمشهورات المتَّفق عليها بين الفريقين -

هي: أنَّ الرِّوايات تنقسم إلى قسمين:--

أوَّلهما: الوارد من طرقنا فقط.

الثَّاني: هو الوارد من طرق العامة فقط

وكل من الطَّريقين المختلفين إمَّا أن يكون أحدهما يوافق الآخر، أو يخالفه.

والموافق من الطَّريقين إمَّا أن يكون مشهوراً، أو غير مشهور.

وكل من الاثنين إمَّا أن يكون الَّذي من طريقنا مشهوراً عندنا غير مشهور عندالعامَّة، أو غير مشهور عندنا مشهوراً عند العامة.

وهكذا الَّذي من طريق العامَّة، والعمدة في ذلك مدى الاعتبار من عدمه.

فالمعتبر عندنا: لا يختلف فيه الأمر بين كونه مشهوراً أم لا إذا كان مطابقاً للقواعد الآتية.

والمعتبر عند العامَّة: قد يكون موافقاً لمسلكنا من حيث النَّتيجة، وقد لا يوافقنا من حيث الطَّريق، سواء كان مشهوراً أم لا، ولكن قد يستفاد منه عندنا في بعض حالات التَّقريب، أو تطبيق قاعدة الإلزام عليهم.

ص: 348

وأمَّا المخالف فقد يكون مخالفاً بالكليَّة واقعاً، وإن أُيَّد من رواياتنا الصَّحيحة المحمولة على التَّقيَّة.

فإنَّ هذا النَّوع لا يجوز العمل بتأييده عندنا اختياراً إلاَّ في مورد التَّقيَّة فقط، وقد يكون التَّخالف في الجملة كما في حالة العموم والخصوص المطلق والعموم والخصوص من وجه نبينا وبينهم، فلا يعمل إلاَّ بما وافق حالة الاختيار من حالاتهما السَّانحة.

وأمَّا خصوص الوارد من طرقنا فإمَّا أن يكون خبراً متواتراً أو خبراً آحاديَّاً.

والمتواتر قد يلحق به المتواتر بالمعنى والمستفيض مع شرطه.

والآحاد قد يكون أعلائيَّاً، وقد لا يكون، وكل منهما قد يكون محفوفاً بالقرائن، وقد لا يكون.

وبسط الكلام أو بعضه لابدَّ وأن يكون بعد تعريف كل من المتواتر والآحاد فنقول:

أوَّلاً: الخبر المتواتر

إنَّ معنى الخبر المتواتر: هو كما مرَّ خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه، ولا ريب في إمكانه ووقوعه في طرقنا مع دقَّة ضوابطه، وإن لم يكن كثير منه جدَّاً ما يعني الفقيه، لانحصار الأمر بتوفُّره.

وقد ناقش البعض من أهل الملل الفاسدة على ما حكي عنهم بإشكالات واهية، يُعد التَّداول بها تأييداً للبهت والمكابرة ضدَّ أهم الحقائق الثَّابتة الماضية، أو ترويجاً لمزالق الأفهام المؤثِّرة على الحقائق، بل باعثاً على السُّخرية لكل حقائق التَّأريخ الماضي بعدم وجود مصاديق المتواترات.

ولكنَّا نجد العلم الضروري بالبلاد النَّائية والأمم الخالية منَّا غالباً كما نجد العلم بالمحسوسات، ولا فرق بينهما فيما يعود إلى الجزم، وما ذلك إلاَّ بالأخبار المتواترة

ص: 349

قطعاً عن عوالمها وحالاتها وبما لا مجال لإنكاره.

وقد جرَّبنا الكثير من هذه الحالات -- وحالنا حال الآلاف والملايين من الآخرين -- في أسفارنا الَّتي طبَّقناها لتلك البلدان النَّائية التي آمنَّا بها قبل سفرنا إليها، بسبب تواتر العلم بها وبأخبارها، كإيمان المتيقَّن بالمحسوسات، وبعد تطبيق سفرنا إليها ما تبيَّن منه غير ذلك التَّطابق.

وهكذا أخبار خير الخلف عن خير السَّلف وبالكثرة المعتبرة المؤثِّرة.

إلاَّ أنَّه لأجل الضبط الأهم ولخطورة أمور الشَّريعة لئلاَّ تدلُّهم قد بينَّا أنَّهم قد اعتبرواشروطاً في الرَّاوي المخبر وهي ثلاثة، واثنان في السَّامع، إذا توفَّرت تسدِّد الأمر المطمئن وتبيَّن سخف أي مستشكل عليه، وقد مر الكلام عنها سابقاً بما لا يحوج إلى التَّفصيل أكثر.

ويلحق بالخبر المتواتر ما تواتر في المعنى، إذ قد تكثر الأخبار وتختلف في الألفاظ، ولكن يشتمل كل منها على معنى مشترك بينها بجهة التَّضمن والالتزام، فيحصل العلم بذلك القدر المشترك، ويسمَّى المتواتر من جهة المعنى.

كتواتر ما أنتج جمع القرآن بين الدَّفتين ووقائع أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ النَّاجحة في حروبه المتعدِّدة في غزوة بدر وأُحد وحنين وغيرها، لتضمُّن الأخبار على اختلافها نفس معنى الحدثين المهمِّين، وبالالتزام استفيدت حجيَّة القرآن وشجاعة أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

ثانياً: الآحاد، وهو ما جاء في سلسلة الإخبار به من طريق واحد، وهو ما سيأتي توضيحه في الفصل الثَّالث آخر ما نحتاجه في الكلام عن بحوث السنَّة من هذا الجزء الثَّالث -- من مباحث الألفاظ --.

ص: 350

الثَّامن عشر / أسباب التَّعارض في الأخبار

قد بيَّنا سابقاً أنَّ لسان آيات الأحكام لم تكن بحاجة إلى الكلام عن أسباب التَّعارض -- الَّذي قد يمر على البال -- فيما بين جملها الَّتي لا وجود لأي تعارض في واقعه حولها وحول غيرها لإعجازيَّات كلام الله تعالى حول المطلب الفقهي الَّذي لابدَّ أن يكون واحداً كبقيَّة آياته ومعانيها الأخرى، ليصير الحق واحداً في مقابل الباطل الَّذي يعاكسه، بمثل ما تدعو له تلك الحاجة فعلاً إلى بيانها، فيما لو وجد بين الأخبار الفقهيَّة المتعارضة أصوليَّاً على الأقل.

لأنَّ آيات الأحكام قطعيَّة الصدور ومحكمة المعاني الَّتي لا يتفاوت بعضها مع بعض، لإمكان إرجاع متشابهاتها إلى محكماتها وإن أجملت، لإمكان إزالة الإجمال الَّذي فيها إلى المبيِّنات ونحو ذلك، ومن ظنيَّات معانيها لا يُعبأ بها إلاَّ بعلاجها ببعض الأخبار.

فلا تعارض من هذه النَّاحية حتَّى تذكر الأسباب أو شيء منها باتِّساع.

لكن يحتاج إلى التَّأمُّل الجيِّد في موارد الحساسيَّات المحتملة ولو بالاستعانة بآيات أخرى موضِّحة أو روايات معتبرة كاشفة عن السَّداد الإلهي المعهود ثبوته في عقائدنا المسلَّمة حول ذلك.

وأمَّا القول بأنَّ المشكل لم يكن هو في الصدور، وإنَّما موجب التَّعارض هو في الدَّلالات، لأنَّها ظنيَّة لا قطع فيها؟

فإنَّه لابدَّ وأن يجاب عنه بأنَّ الظنيَّة على نحوين:--

أحدهما: ما لم يُبنَ عليه للنَّهي عن الأخذ به فلا داعي لذكر الأسباب النَّاتجة من التَّعارض الحاصل عن طريقه هناك، لعدم اعتباره بسبب الظنون الَّتي لا يُبنى عليها.

ص: 351

ثانيهما: ما كان مقبولاً ومعتبراً سواء جاء من نفس الآيات الكاشفة عن الآيات الأخرى، أو من السنَّة المعتبرة الَّتي تعضد مضامين الآيات الظنيَّة العلميَّة لتقوِّي تلك الظنيَّة العلميَّة لتشكِّل العلم للحكم الواقعي أو الحكم الظاهري المحتاج إليه حالة فقد الواقعي.

وهذه ممَّا يندر عند أهل التَّحقيق والتَّدقيق حصول التَّعارض بسببها مع وجود هذا النَّحو الثَّاني.

ولذلك كان حديث الثَّقلين المشهور بين الفريقين القائل في آخره (وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(1) بناءاً على أنَّ العِدل للكتاب هو روايات العترة الصَّحيحة.

وبذلك لم يكن تعارضاً معتدَّاً به مطلقاً وإنَّما التَّعارض المحتمل في مقامه هو ما يؤدِّي إلى التَّزاحم المحرج بين الصَّحيح الاعتيادي وغيره حتَّى الموافق للتَّقيَّة وهذا لميكن مهمَّاً.

للفرق بين الإحراج عند الاضطرار بوجوب الالتزام به دون الاختيار لعدم الإحراج فيه.

فلابدَّ أن يبقى التَّركيز على خصوص الأخبار ليتعرَّف على أسباب التَّعارض فيما بينها، لكونها ظنيَّة الصدور واتِّساع أسباب هذه الظَّنيَّة بما أشرنا.

كالإضافة إلى تعدُّد درجات الظُّنون بين ما يُعتبر وما لا يُعتبر وعدم إحراز القطعيَّة في معانيها لانخفاض ما دون المقطوع به منها إلى ما قد يُعتبر على مضض وإلى

ص: 352


1- القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 15 من طرق شتى . وأخرج ص 16 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59 )، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).

ما لا يُعتبر.

وعليه فنقول:--

إنَّ التَّعارض فيما بين الأخبار لكثرتها والتَّفاوت في أسانيد نقلها واختلاف ألفاظها ونحو ذلك ممَّا له أسبابه العديدة:--

أحدها: ما كان اللَّفظ فيما بين الاثنين واحداً، ولكن السنَّة متفاوتة بين المقبول وغيره بحسب صناعة علم الرِّجال، ولكن هذا ممَّا لم يحرج الفقيه كثيراً، لأنَّه يعتبر مبناه هو المقبول لا غيره وغير المقبول يعد مؤيِّداً، وبالأخص من ذلك الثِّقة.

ثانيها: ما كان اللَّفظ متعدِّداً ومختلفاً وكان السَّند يتفاوت كذلك بين المقبول وغيره بحسب صناعة علم الرِّجال، إلاَّ أنَّ هذا الاختلاف في لفظي الروايتين له حالتان يتفاوت الأمر من جهتهما.

فإن كان الاختلاف اللَّفظي لا يضر بالمعنى الموحَّد فيما بينهما حسب الموازين الأدبيَّة العربيَّة والبيانيَّة وكان بينهما عدم فرق في المعنى، فلابدَّ من العمل بهما كما في أمر السَّبب الأوَّل.

وإن كان الاختلاف اللفظي بينهما مضرِّاً بالتَّوحُّد -- بحيث يكون أحدهما مبيحاً والآخر محرَّماً -- فلابدَّ في هذا من البناء على مقبول السَّند لا غيره، وإن كان غير المقبول يبنى عليه في مورد التَّقيَّة لأنَّ الضَّرورة تقدَّر بقدرها.

ثالثها: إذا كان الخبران متفاوتين معاً بلا مجال للتَّوحُّد وكان سند كل منهما مقبولاً فهذا له حالتان:--

الحالة الأولى: إذا أمكن الجمع ما بينهما من دون ضرر للاستفادة منهما جهد الإمكان، حسب قاعدة (الجمع مهما أمكن أولى من الطَّرح) كما سيجيء في هذه الحالة.

كما لو كان بين الاثنين حالة اختيار وحالة تقيَّة - كما أشرنا في آخر السَّبب الثَّاني

ص: 353

- وعرف مورد التَّقية فيبنى عليه في خصوص موردها ويبنى على حالة الاختيار في جميع الموارد لو لم يحصل التَّزاحم مع التَّقيَّة في الجو الاجتماعي الواحد.

ولكن المشكل إذا لم يعرف خصوص مورد التَّقية عن غيره فيما بين الأمرين ممَّا بين زمانين ومجتمعين.

إلاَّ أنَّ المهوِّن للخطب هو إتِّباع ما خالف العامَّة من الاثنين في مرحلة الاختيار دوماً إذا عرف ولم يضرُّه من العامَّة ضرر.وكما لو كان بين الخبرين عموم وخصوص مطلق أو عموم وخصوص من وجه فإنَّه لابدَّ وأن يبنى من ذلك على خصوص مورد الالتقاء، ما لم يكن مورد الالتقاء موافقاً للتَّقيَّة لأنَّه لا يبنى عليه إلاَّ في خصوص مواردها كحالات لزوم الإتِّقاء.

الحالة الثَّانية: فيما إذا لم يمكن الجمع ما بين الخبرين للتَّعاند لكون أحدهما يبيح والآخر يحرم فلابدَّ في المقام من ملاحظة التَّفريق بين ما وافق العامَّة وتركه وما خالفها والعمل به وأمر التَّفريق بين حالة التَّقية عن غيرها كما مرَّ واتِّباع حالة قاعدة (دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة)(1) في مقام ذلك.

إلاَّ أنَّ البعض ذكر إمكان الجمع في المقام كالالتزام بصلاة الجمعة لا بنحو تشريع وجوبها وصلاة الظهر، لاحتمال بقاء الظهر على الأصالة عند صلاتها حال صلاة الجمعة بعد ذلك إذا كان أحد الخبرين يقول بحرمتها والآخر يقول بخلافه، ولو بأن تُصلَّى الجمعة بنحو استحبابي على قول.

رابعها: إذا كان الخبران متفاوتين في المضمون وأمكن الجمع بينهماوكان أحد طريقهما أقوى والآخر ضعيف مقوَّى بعمل الأصحاب ونحوه أو كان ممَّا اجتمعت في المضمون روايات ضعيفة عديدة في كل منها ولكنَّها تشكِّل قوَّة معتبرة وهذا أمر هيِّن.

خامسها: إذا كان الخبران منقولين بالمعنى وفي هذا حالتان:-

ص: 354


1- كفاية الأصول : 214.

إمَّا أن يتوافقا أو يتفاوتا.

وهذا التَّفاوت إمَّا أن يكون فيه إمكان جمع أو لا.

ومع إمكان الجمع وصحَّة النِّسبة أو قبولها فالأمر سهل وإلاَّ فلا.

سادسها: إذا كان الخبران فيهما أو في أحدهما تحريف أو تلفيق أو اختلاق، فإن كان فيهما معاً ذلك فيرفض الكل.

وإذا كان في أحدهما ذلك دون الآخر أخذ بالآخر إذا كان مقبولاً في سنده ودلالته ويرفض الثَّاني، إلاَّ إذا كان مضمونه يؤيِّد الأوَّل، فإنَّه يلحق بمداركنا لكنَّه ليس لنا وإنَّما للعامَّة في قضيَّة التَّقريب المذهبي مع كونه مؤيَّداً لما يقول به البعض منَّا.

أو أنَّه من الموثِّقات المأخوذ بها في بابها عندنا إذا حُفَّ بالقرائن وله مصداقية شرعيَّة بمثل إمكان عدم التَّعاند، وسيأتي تفصيل علاجه في باب التَّعادل والتَّراجيح.

التَّاسع عشر / ورود استضعاف النَّبوياَّت

قد مرَّ أيضاً أنَّ الأحاديث الَّتي تفاوتت نوعاً وبدَّقة في بعضها سواء الَّتي من بعض طرقنا غير المدروسة أو طرق العامَّة، هي بسبب الوضع والتَّلفيق والنَّقل بالمعنى غير المساوي بتمام لكلام النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وكون بعض طرقنا من غير الإماميَّة الكاملين، إضافة إلى عموم أو نوع طرق العامَّة في أكثر الحالات دون المأخوذ بها عندنا منها في اشتراكها بين الطَّريقين.

وإذا كان بعض طرقنا تحتاج إلى تهديب وتدقيق فكيف بطرق العامَّة، وخصوصاً في الفقهيَّات، فمن الأولى أن يتقن أمرها طريقاً ودلالة لتلتحق بالموثِّقات من رواياتهم.

وبالأخص فيما يتعلَّق بسيرة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأهل بيته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الَّتي قد تثار من خلالها عن طرقهم الشُّبهات على نزاهتهم وعصمتهم، دون اعتذار الأعداء بمثل ضم النَّبي

ص: 355

صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والآل عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في سيرتهم إلى ما يشبه سيرة الجاهليَّة الَّتي كان هؤلاء الأعداء سائرين على نهجها بنفاقهم لجعل أكاذيبهم عنهم حاملة لهم عليها.

ولذلك ورد عندنا القول باستضعاف النَّبويَّات، وهي الواردة من طرق غير الإماميَّة عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كما مرَّ من الإشارة إلى بعض الأسباب، وكذا ما اختلط منها.

ولذلك وغيره نجد المشايخ الثَّلاثة في عهودهم بعد وفاة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنَّهم كانوا يحاربون من يدوِّن أحاديث النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الأصيلة.

لكن نحن وإن كنَّا ننتفع بمثل بعض الحالات من هذا القبيل في دعم مسألة الاستضعاف إلاَّ عن طرقنا عن أئمَّتنا عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الَّذين أوَّلهم إمامنا أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ ومعه الزهراء المعصومة والحسنان عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في ذلك الوقت وآخرهم الحجَّة المنتظر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ.

ولكنَّ أكثر هذا المنع - وإن نفعنا بعضه في الجملة لما مرَّ - كان لمحاربة ما يدعم المنقول عن العترة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من بعض هذه النَّبويَّات من رواتها الواردة عن بعض أنصار أميرالمؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ، لتصريح الخليفة الأوَّل بكلمة (حسبنا كتاب الله)(1) واجتهاد الخليفة الثَّاني كثيراً في مقابل النُّصوص وتصرف الخليفة الثَّالث كذلك بما يشبه من سبقه.

ولذلك ما هان على المشايخ الثَّلاثة وأنصارهم اشتهار بعض النَّبويَّات الأخرى بين الفريقين ممَّا لم يدخل في المستضعفة.

ومن هذا وذاك وذلك فنحن لا نأخذ إلاَّ من المنَّقحات الَّتي من طرقنا ومن الموثَّقات حتَّى لو كانت من طرق غيرنا، وبالأخص الَّتي لا تصطدم مع الكتاب والسنَّة الَّتي من طرقنا والمحفوفة ببعض القرائن المطمئنَّة الأخرى.

ص: 356


1- صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عني.ج

على أنَّنا قد نأخذ من بعض الرِّوايات الأخرى المؤيِّدة لنفع عملية التَّقريب ولو في الجملة كما سلف.

وكذلك في الرِّوايات المخالفة لسيرتنا المستمدَّة من سلفنا الصَّالح ولكنَّها نافعة في قضيَّة تطبيق قاعدة الإلزام على بعض العامَّة، كالطَّلاق بالثَّلاث في المجلس الواحد لتخليص امرأة مؤمنة من مطلِّقها العامي ونحو ذلك ممَّا ذكره.

العشرون / قاعدة (الجمع مهما أمكن أولى من الطَّرح)

إنَّ هذا المطلب مهم جدَّاً فيما وقع بين رواياتنا المتعارضة تعارضاً لا تباين فيه كالعام والخاص من وجه والعام والخاص المطلق، وبالأخص لو كانت قوَّة في سند المتعارضين مع هذه الانسدادات الَّتي قد تهدِّد أمن العلم الشَّرعي الأصيل والَّتي قد تلجئ إلى الأخذ ببعض الأصول في غير موعد جواز الأخذ بها مع وجود المجال لاستفراغ الوسع بصفتها المبرئة للذمَّة.

وبالأخص أيضاً حالة وجود المؤشِّرات الكثيرة على وجود إمكان تحصيل آثار في الرِّوايات لحل المشكل الشَّرعي، كالأقوال المهمَّة المنسوبة إلى أساطين علماءنا وعمل الأصحاب وبعض الإجماعات، وغير ذلك ممَّا لا يبقى العذر عن هذه المتابعة.

بل إنَّ هذه الأهميَّة لم تكن خاصَّة في رواياتنا، بل إنَّها شاملة حتَّى في أمر روايات القوم، لغرض السَّعي إلى توحيد الكلمة الإسلاميَّة، لتثير نسبة الفقه المشترك الكبير فيما بيننا وبين العامَّة.

بل كثرة هذه الأهميَّة وازدياد الحاجة إليها قد لا يمنع الأولويَّة فيها القول بالوجوب علينا وعليهم، أو علينا لو لم يسعوا سعي الخير للتَّقاعس الموجود عند الكثير منهم، أو لانسداد باب العلم الاجتهادي الرَّصين عندهم نوعاً، لتقليدهم المذاهب الأربعة وكثرة الأخطاء وضعف المباني عند من فتح باب الاجتهاد لنفسه

ص: 357

منهم دون مشاركة الباقين له في ذلك على الأساس الصَّحيح.

ولذلك خرج منهم التيميُّون والوهابيُّون وغيرهم وما أبقوا للخط المستقيم في جملته باقية، فضلاً عن وجوب ذلك على الغيارى والعقلاء اللينين منهم، لغرض جمع الشَّمل الَّذي ذكرناه لا الَّذي يؤثِّره المتزمتون منهم في ذلك من تكبير شقَّة الخلاف.

وقد ورد من طرقنا الكثير من الرِّوايات الَّتي تثبت وجوب الجمع بين الأحاديث المختلفة.

كقول أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ (إذا أتاكم عنَّا حديثان مختلفان، فخذوا بما وافق منهما القرآن، فإن لم تجدوا لهما شاهداً من القرآن، فخذوا بالمجمع عليه، فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه، فإن كان فيه اختلاف وتساوت الأحاديث فيه، فخذوا بأبعدهما من قول العامَّة)(1).

وما رواه ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللئالي، عن العلاَّمة، مرفوعاً إلىزرارة: قال: سألت أبا جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان، فبأيِّهما آخذ؟

فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك و دع الشاذّ النادر.

فقلت: يا سيّدي، إنّهما معا مشهوران مأثوران عنكم.

فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك، فقلت: إنّهما معاً عدلان مرضيّان موثّقان، فقال: انظر ما وافق منهما العامّة فاتركه وخذ بما خالف، فإنّ الحقّ فيما خالفهم.

قلت: ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين، فكيف أصنع؟.

قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك، واترك الآخر.

ص: 358


1- مستدرك الوسائل: 17/ 306 باب وجوب الجمع بين الأحاديث، حديث 11.

قلت: إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له، فكيف أصنع؟ فقال: إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به، ودع الآخر)(1).

وما رواه الصَّدوق بإسناده عن أبي الحسن الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، في حديث طويل، قال فيه:--

(فما ورد عليكم من حديثين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً، فاتَّبعوا ما وافق الكتاب، و ما لم يكن في الكتاب فاعرضوهما على سنن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، فما كان في السنَّة موجوداً منهيَّاً عنه، نهي حرام أو مأموراً به عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أمر إلزام، فاتَّبعوا ما وافق نهي النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأمره، فما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة ثمّ كان الخبر خلافه، فذلك رخصة في ما عافه رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، أو كرهه و لم يحرّمه، و ذلك الَّذي يسع الأخذ بهما جميعاً وبأيِّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتِّباع والردُّ إلى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردُّوا إلينا علمه، فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيها بآرائكم، وعليكم بالكفٍّ والتثبُّت والوقوف، وأنتم طالبون باحثون حتَّى يأتيكم البيان من عندنا)(2).

وما عن رسالة القطب الرَّاوندي، بسنده الصحيح عن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ:--

(إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، و ما خالف كتاب الله فذروه، فان لم تجدوه في كتاب الله، فاعرضوهما على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم فذروه، و ما خالف أخبارهم فخذوه)(3).

ص: 359


1- غوالي اللئالي: ج 4 ص 133 ح 229، بحار الانوار: ج 2 ص 245 ب 29 ح 57.
2- عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 21 ح 45 (بالمعنى)، وسائل الشيعة: ج 27 ص 115 ب 9 ح 33354.
3- وسائل الشيعة: ج 27 ص 118 ب 9 ح 33362.

وما بسنده أيضا عن الحسين بن السري، قال أبو عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ :--

(إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم)(1).

وما بسنده أيضا عن الحسن بن الجهم في حديث، قلت له -- يعني: العبد الصالح عَلَيْهِ السَّلاَمُ:--(يروى عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ شيء، و يروى عنه أيضا خلاف ذلك، فبأيّهما نأخذ؟ قال: خذ ما خالف القوم، وما وافق القوم فاجتنبه)(2).

وما بسنده أيضا عن محمد بن عبد الله: قال: قلت للرّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ:

(كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ قال: إذا ورد عليكم خبران مختلفان، فانظروا ما خالف منهما العامّة فخذوه، و انظروا ما يوافق أخبارهم فذروه)(3).

وما عن الاحتجاج بسنده عن سماعة بن مهران، قال: قلت لأبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ:--

(يرد علينا حديثان، واحد يأمرنا بالأخذ به و الآخر ينهانا.

قال: لا تعمل بواحد منهما حتَّى تلقى صاحبك فتسأل، قلت: لابدَّ أن نعمل بواحد منهما، قال: خذ بما خالف العامَّة)(4).

إلى غير ذلك من الرِّوايات العديدة، وسيأتي ما ينفع كثيراً في آخر الجزء الرَّابع.

ص: 360


1- وسائل الشيعة: ج 27 ص 118 ب 9 ح 33363.
2- وسائل الشيعة: ج 27 ص 118 ب 9 ح 33364، بحار الانوار: ج 2 ص 235 ب 29 ح 18.
3- وسائل الشيعة: ج 27 ص 119 ب 9 ح 33367 (بالمعنى)، بحار الانوار: ج 2 ص 235 ب 29 ح 19.
4- الاحتجاج: ص 357، وسائل الشيعة: ج 27 ص 122 ب 9 ح 33375، بحار الانوار: ج 2 ص 224 ب 29 ح 1.

الحادي والعشرون / ضعف السَّند وجبره بعمل الأصحاب

قد يكون في مقابل عدم العمل بأخبار الآحاد عندنا من جهة ظنيَّة هذه الأخبار بالظنيَّة المخيفة في مقابل نصوص القران ومحكماته في نفسه وفي المتواترات الَّتي تعطي القطع أو اليقين من معالم الشَّريعة وبالأخص غير المستفيضة وغير الأعلائيَّة المحفوفة بالقرائن وفي غيره.

تمام العمل بالرِّوايات الضعيفة من طرقنا حينما تكون مجبورة بعمل الأصحاب بسبب الشُّهرة العمليَّة قديماً وحديثاً، وهي المعروفة بالسِّيرة المستمرَّة.

لا الشهرة الرِّوائيَّة، لكونها قد تشتهر بين الرُّواة وتذكر في الجوامع المدوَّنة ولكنَّها معرض عنها، وقد تكون صحيحة ويعرض عنها الأصحاب لكونها محمولة على التَّقيَّة ولم يأت موردهما.

ولا الشُّهرة الفتوائيَّة، لأنَّها قد تزيد وهي قليلة فيما سبقها، وقد تقل وهي مشهورة قبل ذلك، لأنَّها مبنيَّة على الاجتهاد وهو يحتمل الخطأ والصَّواب.

لا كالمصدر الَّذي يرجع إليه من الرِّوايات والسِّيرة العمليَّة المحترمة بين الأصحاب.

وليست هي بأفضل من اجماعات الشَّيخ الَّتي أعرضوا عنها بسبب التَّحقيق الَّذي ابتدأ به المحقِّق الحلي رحمه الله.

وقد يكون من ذلك نفس أخبار الآحاد الَّتي تستضعف لو دعمت بعمل الأصحاب.

ص: 361

الثَّاني والعشرون / الفرق بين الثِّقل الأكبر (القرآن) والثِّقل الأصغر (السنَّة)

وبين كونه هو عدلها وهي عدله والتَّوجيه مع إمكانه إن صحَّ دليل الطَّرفين

لا شكَّ بأنَّ السنَّة المنقولة في أساسها عن النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بواسطة العترة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وإن صحَّ إطلاقها بالمعنى اللُّغوي الَّذي يحوي في جملته شيئاً من معناها الاصطلاحي.

أو حتَّى الاصطلاحي الَّذي اعتبره أصوليُّونا تبعاً لعدم المانع من أن تقبله العترة المطهَّرة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بضمِّ المأخوذ به من النَّبويَّات المأخوذ بها عند الجميع ممَّا ورد من طرق الأخوة العامَّة وورد عندنا أو لم تتصادم مع ثوابتنا ومن الموثَّقات من مصاديق آية النَّبأ بعد التَّبيُّن من وثاقة الرَّاوي الفاسق حين صدقه.

هي عدل للكتاب في الاعتبار بالاحتجاج المساوي له في الأحكام الواقعيَّة لو توفَّرا معاً في ذلك أو الظَّاهريَّة كذلك.

أو اختلفا وكان الأقوى بمؤهَّلات القوَّة في الكتاب كالواقعي فهو المقدَّم على ما في السنَّة إذا ما حملت خصوص الظَّاهري المخالف.

أو كان الأقوى بمؤهِّلات القوَّة في السنَّة كالحكم الواقعي إذا خالف الظَّاهري المخالف للكتاب فهو المقدَّم.

وهذا كلُّه لا ينافي كون الكتاب بكلِّه هو الثِّقل الأكبر، والسنَّة بالمأخوذ بها بين ما تقول به العترة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وما ترتضيه من الآخرين هو الثِّقل الأصغر.

وسيتَّضح هذا الأمر نوعاً بنحو أوسع ممَّا نلخِّصه الآن في الكلام الآتي عن الاحتجاج بالسنَّة من الكتاب والسنَّة على منع الانسداد الكبير والأقل فضلاً عن الأكثر، وما سيأتي في الكلام عن الحُجج ومقاماتها في القسم الأخير تقريباً من الجزء الرَّابع.

ص: 362

الثَّالث والعشرون / نتيجة البحث

إنَّ السنَّة الشَّريفة وما ألحق بها ممَّا يؤيِّدها من النَّبويَّات المشهورة وما أورده الثِّقات لضروريَّة ومهمَّة لآيات الأحكام.

لأهميَّة الفقه وأهميَّة التَّدقيق فيه بسبب سعته ودقَّة مطالبه وتنوُّع فروعه وممَّا لا يمكن أن ندرك جميع أموره على سعة مضامين الآيات، وأنَّها خزائن لا يعلم مداها إلاَّ الله والرَّاسخون في العلم من النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وآله المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بالاستفادة من هذه السنَّة الشَّريفة عن طرقهم وما ألحق بها باعتزاز وإن تعدَّدت مصادر التَّشريع، فحصرت في الكتاب والسنَّة والإجماع والعقل من الأصول العمليَّة الأربعة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل.

فالسنَّة هي المصدر الثَّاني بعد الآيات في المنزلة، بل جعل بعضهم الإجماع من السنَّة، لأنَّ حجيَّة الإجماع بوجود الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ في المجمعين، بل جعل بعضهم الاستصحاب من السنَّة، لأنَّ مدركه سنَّة.

فلابدَّ من التَّعرُّض حين استعراضنا في هذه الموسوعة لمطالب آيات الأحكام وبحوثها لأي مطلب نحتاج إليه منها، ولأنَّا لا نريد أن نذكر الفقه مع خصوص هذه الآيات وإن أتت بما أجملته وعرضته من المجملات لرغبتنا المسبقة ممَّا مرَّ بمحاولة الاستيعاب لما أمكننا وما تيسَّرت لنا مصادره، والله وليَّ التوفيق.

ص: 363

الفصل الثَّاني

الاحتجاج بالسنَّة من الكتاب والسنَّة

وفيه مواضيع:-

الأوَّل/ بطلان الانسداد الكبير والأقل فضلاً عن الأكثر

بعد الفراغ من استقرار الكلام الماضي على مرجعيَّة كلام الله تعالى الخاصَّة ببحوث المدرك الشَّرعي الأوَّل من الأربع المعروفة، لتبيين مجملات آياته الأخرى ونحوها ومرجعيَّته أيضاً في تصحيح ما يمكن الأخذ به من السنَّة عند الشَّك في أسانيدها ودلالاتها تفسيراً وتأويلاً عن طرق مرجعيَّته المعتمدة، لتوسعة المدارك كمَّاً وكيفاً، لنقض قول من يزعم بالانسداد العلمي الشَّرعي الكبير، بل حتَّى الأقل من الكبير، فضلاً عن الأكثر، فيتطاول القائلون بكل ذلك ويعبثوا بالأحكام بدل الاستعانة بالأدَّلة الشَّريفة بالقياسات الباطلة والاستحسانات والوضع ضدَّ الشَّرع.

لابدَّ من التَّحوُّل عند الوصول إلى ما يخص المصدر الثَّاني من تلك المدارك المعروفة وهي السنَّة فيما يُراد لها من البحوث ومنها بعد التَّأكُّد من وجود الكثير والجم الغفير من أحاديثها ورواياتها الحاكية لأقوال وأفعال وتقارير المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ والَّتي اعتبرت حججاً للتَّمسُّك بها بالمباشرة في أسانيدها العامرة ومضامينها العالية ولو بقرائن الوثوق أو بواسطة تقوية مرجعيَّة القرآن وطرقه لها.

للاستفادة من هذه السنَّة القوية أو المقوَّاة كمرجعيَّة ثانية أو ثانويَّة في رتبتها نسبة إلى كتاب الله.

بل حتَّى أوليَّة بالنِّسبة إليه في بعض الحالات العارضة، لكثرة تفصيلاتها الدِّلاليَّة

ص: 364

القطعيَّة، مع كونها ظنيَّة الصُّدور حالة التَّمسُّك بالقوي من ظنونها والتَّجنُّب عن ضعافها، بسبب المقويَّات المذكورة لها لإجماليات كلام الله الكثيرة، وكونه ظنِّي الدِّلالة إلاَّ بمثل هذه السنَّة، ولاستفادة ما يؤكِّد بطلان زعم الانسداد الكبير، بل حتَّى الأقل، فضلاُ عن الأكثر.

وللبدء بما يمكن الاستفادة من مرجعيَّتها الخاصَّة بعد الكتاب أن يستوضح بواسطتها غوامض القرآن ومجملاته.

فإنَّ مثل حثِّ النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الكثير على الأخذ بحديث الثَّقلين المتواتر بين الفريقين وغيره، بالجمع الدَّائم بين الكتاب والسنَّة وعلى المصاحبة التَّفاعليَّة، ليحل بعضهما مشاكل ما يتعكَّر منه فهم مضامين البعض الآخر وإلى حدِّ أن تبقى أعالي مضامين كل منهما -- وبما تتسِّع له كل حاجات الأمَّة لتلبية مطالبها -- محفوظة وتحت ظلِّ ولي العصر المنتظر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ الحافظ لها حتَّى يردا على رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الحوض.

ولهذا نجد تركيز علماء الأمَّة وفقهاء الفقه العام والفقه الخاص -- وبقيَّة أمور التَّديُّن الأخرى في الحوزات المعتمدة لدى الإماميَّة ومن يحذو حذوهم -- على استغلال أخبار السنَّة الشَّريفة.

لسعة رواياتها وكثرة مضامينها الإيجابيَّة بعد ضبطها في كافَّة ما تحتاجه من الضَّبط السَّندي والقواعد الدِّلاليَّة، لتصول وتجول بحيويَّاتها في بحوث بحار علومها، لخدمة كتاب الله تعالى الموضِّحة وشبه المأسِّسة لتفصيل جزئيَّات الفقهيَّات الخاصَّة بأكثر من قيامهم بخدمة خصوص ما ينبغي التَّركيز على الكتاب نفسه الممكنة من آيات أحكامه العامَّة والخاصَّة من غير الجزئيَّات.

وهذا وإن كان مهمَّاً توسُّعيَّاً وتنقيحيَّاً في نفسه لمكانه بيد المحصِّلين، إلاَّ أنَّه بعد مرور حالة التَّركيز المتيسِّرة هذه على السنَّة وأحاديثها بأكثر من الكتاب المضغوط في تركيزاته الشَّريفة الخاصَّة به مع مرور الزَّمان.

ص: 365

حتَّى كادت الأذهان أن تضعف في عميق ما ينبغي أن تحيط به عن خصوص معالم آيات الكتاب الخاصَّة الأخص من الجزئيَّات غير المحدودة من مثل مستحدثات المسائل الكثيرة اليوم، وبنحو ما لا يمكن تحمُّله من ظهور الفرق من ضعف العلم بالكتاب، بسبب التَّقاعس عمَّا يمكن التَّوسُّع فيه، وكأنَّه نحو من أنحاء الهجران له.

أو بنحو الاكتفاء بما كتبه الشَّيخ الجزائري قدس سره في قلائد درره وغيره من علماء التَّفصيل في هذا الباب ممَّا بين المتوسِّط أو الكثير المحتاج إلى مهمَّات استحدثت من الأكثر.

وبين السَّطحي كالَّذي جمعه الشَّيخ كاشف الغطاء قدس سره من آيات الأحكام الخاصَّة، وما كتبه علماء التَّفسير من المبعثرات من البحوث المختصرة عن تلك الآيات وغيرها.

ولذلك كانت مساعينا في أصولنا هذه بمحاولة الجمع في بحوثها لخدمة ما يحتاجه المدركان ولو ببعض نماذج خاصَّة توسُّعيَّة مشجِّعة عن آيات الأحكام أشرنا إليها بالذِّكر ليسعى القادرون الأفاضل للتَّوغُّل النَّافع اليوم بما قد تُسد به الخِلَّة منه ولو الجملة.

وكذلك لخدمة توصيات النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الكثيرة بالعمل على ضوء حديث الثَّقلين ونحوهمع عدم جواز التَّقصير في حقِّ ما تحتاجه السنَّة من التَّوسُّعات الخاصَّة بها، لإظهار التَّوسعة الأنجح عن المدركين اللَّفظين وبمعيَّة ما يصح من أمور المدارك اللُّبيَّة.

كي لا يتطاول من يتطاول على شأنيَّة شرع الله بادِّعاء الانسداد الكبير في مداركه كما نوَّهنا وكرَّرنا، وإن حصل ما حصل من الكوارث الطَّبيعيَّة والمحاربة الكثيرة، بسبب ضغوط دول النِّفاق والانقلاب على الأعقاب والأمويِّين والعبَّاسيِّين وغيرهم مع دول الكفر، بل حتَّى ادِّعاء الانسداد الأقل في التَّمادي المعادي عن الأكبر.

ص: 366

لإمكان القول بالانفتاح العلمي المتوسِّط بدل الانسداد، حتَّى الأقل من الكبير، لتعدُّد الطُّرق الفقهائيَّة المنقذة من التَّورُّط بمخاطره المتحجَّج بها لممارسات فقهائنا العريقة المعطية للأمل الكبير من مسالك حل المشاكل، لئلاًّ يتطاول المتساهلون حتَّى على ادِّعاء الانسداد الكامل.

ما دام فقهائنا وأصوليُّونا المتضلِّعون بأيديهم هذه الملكات بالطُّرق المتعدِّدة المشار إليها وإن ضيَّق أعداؤنا الخنَّاق على مصادرنا كثيراً.

بل بالإمكان القول وبدون الحاجة إلى المبالغة بتوفُّر ما يزيد على المتوسِّط من الآمال المنقذة.

بل إن المشكل الأشكل الدَّاعي لتوجُّه الحريصين الخاصِّين على بذل الهِمم البالغة معنا، لمكافحة المحاربين للمسلك الإمامي من بقيَّة المذاهب الأخرى.

حيث أنَّ مصاديق الانسدادات -- وبالأخص الَّتي من طرقهم -- عندهم كثيرة حتَّى واقعاً.

فأبو حنيفة بنى فقهيَّاته على أحاديث قليلة جدَّاً، وجميع الباقي الكثير بناه على القياسات والاستحسانات.

نعم نحن لا نبني على الانفتاح الكامل بمجرَّد ادِّعاء بعض من يُحسب حتَّى علينا ممَّن دأبه الأخذ بالغث والسَّمين من الأدلَّة، إمَّا لضعف أُفقه في الاصطلاحيَّات من عدم اكتراثه بها مذهبيَّاً، وهم قلَّة شبه المنتهية ببركة هداية المجتهدين لهم منهم وغيرهم.

أو عدم كفاءته العلميَّة فيها ليبرِّر لنفسه صحَّة تطبيقها ولو باطلاً، أو كونه من العوام.

فإنَّ في طريق هذا المسلك من التَّطبيقات الضَّعيفة -- لو تركت بسذاجة أو بًعد عن التَّعمُّق الاصطلاحي وبالأخص في مقام التَّعرُّف على آيات الأحكام عن كلا

ص: 367

المدركين -- فإنَّ هناك عقبات كؤود لا تدرك حالة الخلاص من مخاطرها إلاَّ بشقِّ الأنفس.

وممَّا ساعد على تثبيت مشروعيَّة المرجعيَّة للسنَّة الشَّريفة -- بعد الفراغ من واجب تنقيح مجالاتها المحتاجة إليه حتَّى لبعض حالات كتاب الله على ما سيتَّضح من بعض آيات القرآن نفسه -- هو قوله تعالى [ما آتاكم الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا](1) من حيث العموم والإطلاق بمرجعيَّة القرآن للقرآن ممَّا مرَّ، وللسنَّة كما سبق، ومرجعيَّة السنَّة للقرآن مع تيسيرها أمر إيضاح القرآن للقرآن كذلك كحلقة وصل، ومرجعيَّة السنَّة للسنَّة.وممَّا يُساعد على هذا التَّثبيت وبما يزيد على الأخذ من كتاب الله من خصوص رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وسيرته العطرة دون الآخرين بمشروعيَّة مرجعيَّتها من أولي الأمر من بعده حسب توصياته صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الكثيرة بهم، لكونهم حفظة أحاديث سنَّته صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وبقرينة بقيَّة الآية المثبِّتة لمرجعيَّة النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ومرجعيَّة آله الأطهار عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بلساني القرآن والسنَّة تبعاً للسِّياق القرآني كآية الولاية وغيرها.

وممَّا يؤكِّد على عموم الحجيَّة وإطلاقها في مرجعيَّة السنَّة من لساني النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وآله عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عن القرآن والسنَّة معاً وبقيَّة تضاعيفهما المعنويَّة وفي كافة المجالات هو حديث الثَّقلين الَّذي مرَّ بيانه.

وبعد التَّأكُّد من تمام حجيَّة السنَّة المنقَّحة في مجالاتها اللَّفظيَّة والمعنويَّة إماميَّاً والموثِّقات لها وتبيُّن مرجعيَّتها بما مضى ذكره.

لابدَّ أن ينتج من هذا كم وكيف ما حوته كتب الأحاديث الأربعة الأولى والأخيرة وما ألحق بها من الرِّوايات الشَّريفة المعمول بها بعد تصفيتها على ضوء ما يلزم تطبيقه من قواعد الحديث الأربع في حقِّها.

ص: 368


1- سورة الحشر /آية 7.

ليؤخذ بكل ما يعمل به ويترك الباقي كالمهجورات والمعرض عنها والمعمول بها حال التَّقيَّة إذا كان الظرف ظرفاً اختياريَّاً وما خالفنا ووافق العامَّة.

وبذلك يكون الباقي مع ما اعتراه من الكوارث الطَّبيعيَّة والمعادية لو لم تُضف إليه مساعي بعض المقلِّصين لها تسرُّعاً بحجج ضعفها تزلُّفاً للأعداء بقصد أو بدون قصد، مع أنَّها مجبورة بعمل الأصحاب ونحو ذلك، حاوياً بركات لا يُستهان بها وإلى حد أن يزيد على نسبة النِّصف من الانفتاح.

وإن قيل بقلَّة المرويَّات المقبولة؟

أجيبوا: ومن منطلق القوَّة تجربيَّاً بقول العلماء المجرِّبين (إنَّنا كثيراً ما نصحِّح الأسانيد بالمتون)(1).

وإن قيل بأنَّها ظنيَّة الأسانيد؟

فأجيبوا بما قاله المخضرمون من العلماء بقولهم (ما خفي على فقيه طريق).

ومن محقِّقات البركات للتَّوسعة هو الجمع بين المتعارضين من حالتي العموم والخصوص من وجه من حالة التَّلاقي، ومن ذلك ما قد يُستفاد لها من السِّياقات.

ومن ذلك أيضاً التَّواترات المعنويَّة، واستعمال الضِّعاف المجبورة بعمل الأصحاب كما أشرنا.

ولهذا وغيره لا مجال لأي وضع غير شرعي أو كتابة بتجرُّد بتحرُّر كامل لبعض الدَّساتير الظَّالمة للشُّعوب المسلمة كما سبق ذكره في الكلام عن دستوريَّة القرآن.

وعلى فرض صحَّة وجود شيء من مصاديق الانسداد الكبير لو لم يكن ما هو الأقل، فضلاً عمَّا لو كان الأكثر من الكبير موجوداً إذا قبلنا جدلاً بعض حالات التَّقليص المدَّعى، ولو لأجل خصوص البناء عليها والاعتبار لها ولو بعد حين وإن كانت واردة كما أشرنامن طرق الإماميَّة المحترمة.

ص: 369


1- الفردوس الأعلى ص 51.

وإنَّما لحفظها فيها لينظر في أمورها ويُحقِّق في طرفها الرِّجاليَّة واللِّسانيَّة وعن مباشرة أو قرب الإسناد أو بُعد فيه، وبنقل النَّص عن الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ أو بنقل المعنى عنه وعلاقتها بآيات الكتاب ومقاييسه وبقيَّة السنَّة المعتبرة الَّتي يمكن القياس عليها كالكتاب ومعرفة التَّفاوت النَّظري حولها بين قدامى الأصحاب والَّذين أتوا رواة عنهم أو يأتون بعد ذلك عمَّن سبقهم.

ولو افترض أيضاً بكونها لم تكن من قبيل ما كان مألوفاً في البناء عليها في الواجبات والمحرَّمات بأن كانت يؤخذ بها على أنَّها من خصوص ما يتعلَّق بالمستحبَّات والمكروهات وهي المرتبطة بأدلَّة التَّسامح في أدلَّة السُّنن ونحو ذلك.

ممَّا سبَّب فجوة في حدوث عسر شديد، أو عذر أكيد من عدم وجود قدرة فعليَّة على الاعتماد استدلاليَّاً في المقامات الجدِّيَّة، أو بمعونة العقل غير المستقل كالتَّابع للأدلَّة الإرشاديَّة أو المحتاج إلى الرَّبط بالسِّياقات في أبوابها المقرَّرة والَّتي قد تتوسَّع.

وبالأخص في التَّطورات الصِّناعيَّة الحديثة المتكثِّرة كمعلومات الكومبيوترات وفروعها العديدة العجيبة والَّتي قد لا تتسِّع لمستحدثاتها من المسائل آفاق هذه الرِّوايات في أذهان غير المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من بقيَّة المجتهدين لا من حيث مصادرها ولا من حيث متون الكثير من مضامينها أو بعضها.

فضلاً عمَّا لو قبلنا سعة وعمق ما أحدثته الكوارث الطَّبيعيَّة والمعادية في التَّأريخ الماضي من النَّقص الكثير في الأدلَّة الَّتي يحتمل أن تسد الحاجة الحاليَّة أو بعضها.

ولأجل هذا عُدَّ الاستناد في عرفنا الفقهي العام والخاص شرعيَّاً ضروريَّاً، بأن يُحكم أصوليُّوا الفقه السَّيطرة على هذا الموقف لخدمة الشَّرع بمحاولة دؤوب، لتوليد طريق أو قاعدة تُساعد على حلِّ هذه المشكلة بما يوافقه أو لا يردع عنه، كي لا يتجرَّأ الوضَّاعون باتِّخاذ حلولهم المتكِّئة على تخريجات العقل المستقل في غير الأمور البديهيَّة، حتَّى لو لم يمض لهم الشِّرع بقبول قرارات أهل هذه العقول اضطراراً أو

ص: 370

اختياراً.

وبأن مثلاً صدفة نجاح الاتِّخاذ الأصولي ولو بمستوى هذا الوزن من الافتراض، ولو بمثل اتِّخاذ بعض أهل الأصول عزل تلك الأدلَّة المدَّعاة عندهم بكونها أدلَّة.

عن أن تكون كذلك حال افتراض الانسداد الكبير أو الأكبر ممَّا كان قد قُلِّص منها من هذا أو ذاك ونحو ذلك، وجعل مكانه في هذا النَّجاح ما سُمِّي من روايات السنَّة الشَّريفة بالصِّحاح، وإن تجرَّدت ولم تكن محفوفة بشيء من القرائن أو مجبورة بعمل الأصحاب ولم تبرهن على صحَّة الأخذ بها اعتياديَّاً أدلَّة قوَّة كأخبار الآحاد المصاحبة للدَّعائم الإضافيَّة كتاباً وسنَّة ونحو ذلك ولو بحجَّة الاضطرار إليها شريطة مصداقيَّة بقاء هذا الانسداد الكبير أو الأكبر.

في حين أنَّنا ننكره حسب افتراضنا وإن كانت التَّجارب غير بعيدة عن أيدينا مع الآخرين.

وإن كانت بعض هذه البدائل من الرِّوايات شبيهة بتلك المقلِّصات في تلك الانسداداتأو هي نفسها غفلة عنها، فما هو دور المقلِّص أو المؤيِّد له مع الحاجة إليها افتراضاً وكان بإمكاننا دعمها ببعض القرائن والمقويَّات.

فلأنَّنا سبق وأن قلنا بأنَّه مع وفرة ما ذكرناه من بركات الأدلَّة العديدة وفروعها المتعدِّدة بالانسداد المتوسِّط.

بل لا وجود حتَّى لبعض الكبير معه فضلاً عن الأقل عنهما لتلك الطرق الميسورة بيد الفقهاء الماهرين بنحو الاستدلال اللِّمي أو الإنِّي.

حيث ما كان منَّا هذا الشِّق الآخر المغاير للمتوسِّط ونحوه إلاَّ بالنَّحو الافتراضي إلى أن جاء دوره الأنسب.

كما أوصلناه في الأزمنة الأخيرة هذه إلى احتماليَّة إمكان أن تكون لهذا الافتراض مصداقيَّة لسنا مبالغين إذا قبلنا قول من قال بفكرة البحث والنَّظر في شأن

ص: 371

بعض الأدلَّة حتَّى الضَّعيفة إذا احتيج إليها اليوم.

الثَّاني/ شيء من الكلام عن التَّعبُّد بأخبار الآحاد

ولكثرة القائلين بإمكان أن تكون معالجة بعض هذه الأدلَّة ومنها بعض أخبار الآحاد المسمَّاة بالصِّحاح لقبولها -- وإن تجرَّدت من القرائن -- قال بعض الأصوليِّين بضرورة التَّعبُّد بالعمل بها استناداً إلى توجيهات ارتآها أصحابها.

لكن لا يمكن قبوله إلاَّ على أساس تصفياتها من أن تعارض ثوابت آيات الأحكام وثوابت روايات السنَّة المحكمة الأقوى منها في المقابلة أو المساوية في ذلك ليتساقطا للجوء إلى ما هو الأقوى.

وبعد تصفياتها من كونها من روايات التَّقيَّة المحتاج إليها، حتَّى لو كانت من أخبار الآحاد المجرَّدة إن كانت في موارد الاختيار دون مواقعها من حالات الاضطرار.

وبعد إعياء الفقيه الأصولي المتضلِّع في كافَّة الطرق الشَّرعيَّة الَّتي كان ناجحاً فيها لحل مشاكله المعضلة هذه وانحصار حل الأمور غير الاعتياديَّة في هذه الأخبار.

وبالأخص حالة حلول الشَّك المستلزم لمعرفة الحكم في نفس المكلَّف به دون ما كان في أساس التَّكليف مع هذا الانسداد الكبير المفترض.

وإن استدلَّ المتعبِّد بها معتقداً بنجاحه في ذلك وأفتى عن طريقها في جميع المراحل المحتمل نجاح الإفتاء فيها عنده حال الانسداد الكبير المحتاج إليها فيه لو لم تتعارض معها الثَّوابت القرآنيَّة الأقوى منها بواسطة الاستدلال القرآني المتعارف كآية النَّبأ عن طريق المفهوم الموافق والمنتج عكس ما قالته الآية وهو (إن جاءكم عادل).

فقد رددناه كما هو محرَّر في محلِّه من الحديث عن أخبار الآحاد وحول الكلام عن الحجَّة إذا قلبناه إلى مفهوم المخالفة، وهو ما ينتج معنى (إن لم يجئكم فاسق)،

ص: 372

وهو المؤدَّي إلى المعنى المجهول، وهو المردَّد بين العادل والَّذي لم يُعلم حاله من العدالة أو الجهالة.

وبذلك يكون قرارنا إلى التَّوقُّف الَّذي لا يؤدِّي إلاَّ إلى القول بالعمل بأخبار الآحاد المحفوفة بالقرائن.

أو أنَّه في خصوص هذا النَّوع الافتراضي من الانسداد الكبير ونحوه إن كان مع تجرُّدها وبتعيُّن الحاجة الماسة إلى الالتزام بالاحتياط دون الفتوى المذكورة.

وإن استدل المتعبِّد بها عن طريق القول بتواتر السنَّة على الأخذ بما تقوله أخبار الآحاد وإن تجرَّدت.

فيمكن ردُّه بالعمل بها مع القرائن وإن كانت خارجيَّة.

وفي الآونة الأخيرة مع الانسداد المذكور والحاجة الماسَّة مع التَّجرُّدات كافَّة لا مانع من إجراءها بالعمل بالاحتياط دون الإفتاء.

وإن استند المتعبَّد بها مع هذا الانسداد وهذه الحاجة على الإجماع المدَّعى أيضاً.

فهو وإن قبلناه -- في موقع القبول بالنِّسبة إلى أخبار الآحاد الموثوق بها في رجالها وغير ذلك إلاَّ أنَّها حالة التَّجرُّد من القرائن -- يحتاج الإفتاء على ضوئها إلى جرأة شرعيَّة.

لذا وللخلاص من مشغوليَّة الذمَّة عند التَّصدِّي إلى التَّشريع بدون مدرك اعتيادي يمكن العمل بالنَّحو الاحتياطي دون الأكثر.

وإن استند المتعبِّد بها على السِّيرة العقلائيَّة مع احتمال تفاوتها بين القديم والحديث وما حدَّدناه في موضوع القضيَّة وما بين الأخبار المحفوفة وبين غيرها وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال .

فلابدَّ من البقاء على الاحتياط الوجوبي أيضاً دون الأكثر، ولذا عرف بين

ص: 373

فقهاءنا الورعين بالإلتزام بالاحتياط الوجوبي توُّرعاً بالدِّماء واللُّحوم والأعراض والأموال المعتد بها، وما نحن فيه لم يخرج بالكليَّة عن هذه الأمور.

وقد توسُّعنا في هذا الأمر في الكلام عن أخبار الآحاد الآتية قريباً في الفصل الثَّالث، وموارد الحجَّة المعتبرة في الجزء الرَّابع، ومورد تحكيم العقل غير المستقل تطبيقاً لقاعدة الاشتغال إذا كان الشَّك في المكلَّف به في الجزء الأخير للأصول.

الثَّالث/ الفرق بين الانفتاح والانسداد من مراتب الاثنين مع نتائج كل منها في

الأوامر علميَّاً بين المراتب من كل منهما مع العمل قبولاً ورفضاً

لا شكَّ بأنَّ القول بالانفتاح العلمي لمدارك التَّشريع الإسلامي الأصيل وتفرُّعاته وملحقاته في الأزمنة الأولى غير المعقَّدة -- وإن كان الانسداد الكبير آنف الذِّكر في عنوان البحث الحالي أخطر منه في بعض الأمور إذا كانت بعض آثاره بادية من تلك الأدوار.

ولذا قدَّمنا محاولة الاستدلال على بطلان الانسداد الكبير والأقل إذا أريد منه اللُّجوء إلى تصحيح القياسات الممنوعة ونحوها ممَّا مرَّ ذكره وكما سيتَّضح أكثر عن الاثنينفضلاً عن الأكثر.

فلم يكن مألوفاً جدَّاً وطبيعيَّاً عمليَّاً وفي كافَّة جوانبه أو أغلبها إلاَّ في الصَّدر الأوَّل وعهد الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عدا ما منعت عنه أمور التَّقيَّة وبعض تطرُّفات الآخرين.

ولكن حالة الانفتاح هذه ازدادت مع تحلِّيها بالجانب البحثي العلمي بعد مدرسة الإمامين الباقرين عَلَيْهِمُا اَلسَّلاَمُ وبما حدَّداه عن أموره من التَّصرُّفات المقبولة آنذاك.

وبالأخص عند تعدُّد المذاهب الأخرى لبقيَّة المسلمين بسبب شبهاتها وكثرة مخالفاتها لمصادر الإماميَّة وعُرفت أجوبتها السَّديدة من قبل أئمَّتنا عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عليها، حينما

ص: 374

تلمَّذ علماؤنا دراسيَّاً على مثل الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ مباشرة وبالواسطة، وبانت آثار التَّوسُّع في هذا الانفتاح ممَّا حفظ لفظاً ومعنى، أو عرف معنى ونقل المعنى بلفظ مطابق أو مقارب آخر صُحِّحت بعض مرويَّاته اصطلاحيَّاً لصالح الخط الإمامي.

وكتب مثل الأصول الأربعمائة من قبل حواري الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وجمع في الغيبة الصُّغرى وبدايات الكبرى كذلك جوامع وخزائن شريفة منها ومن غيرها.

حتَّى بان ذلك رسميَّاً في الجوامع الأربعة الأولى للمحمَّدين الثَّلاثة قدس سره في الغيبة الكبرى وفي اعتزاز إمامي بها وبما جاء بعدها من المجامع الأربعة الأخيرة وغيرها ولو للحرص على حماية ما أمكن الاحتفاظ به ممَّا ضاع أو ضُيِّع من تلك الأصول الأربعمائة مع الَّذي منع من تدوينه المانعون ممَّا سبق ولم يُعثر على بعضه.

ولكن هذا الانفتاح كان آنذاك وبعده منتشراً على أساسين:--

الأساس الأوَّل: عند أهل العلم مع قرب الإسناد وقلَّة احتمال ضعف المرويَّات وسهولة فهم العبائر المتداولة عند أهلها وضبط المصطلحات وكثرة القرائن على عدم خفاء ذلك الفهم.

ولأجل هذا عرف من توجيهات الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بصحَّة الأخذ بروايات ما حفظ من معاني أحاديث الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وإن نقلت بالمعنى المضبوط المعروف بين أهل قرائن الوثاقة والوثوق.

حتَّى عرف بأنَّ كتاب النِّهاية للشَّيخ الطُّوسي قدس سره وغيره لآخرين كان فتوائيَّاً جامعاً لتلك الرِّوايات، أو فقل بعض معانيها مع حذف فواصلها المذكورة في الرِّوايات.

وإن كان بسبب سهولة هذا الفهم أو ذاك عند أولئك الأقدمين كانت قلَّة أو بساطة في الاجتهاد الَّذي لا يحتاج إلى ما هو الأكثر منه في حينه حتَّى جاء هذا الدَّور الأصولي في أزمنتنا عند بدو التَّعقيدات.

ص: 375

الأساس الثَّاني: ما ألتزم به بعض عوام المحدِّثين وأتباعهم من الاعتقاد والتَّعبُّد بالأخذ بكل ما يظهر لهم من تلك الرِّوايات بسطحيَّة تامَّة، وعلى الأخص في مثل كتاب الكافي الشَّريف، حتَّى لو شاكت أمور فهمها على بعض أذكياءهم دون أن يقبلوا التَّقليد للمجتهد الاصطلاحي أو يخضعوا لحجَّته المتعلِّقة بلزوم اتِّباع بعض قواعد الرِّجال والحديث وما اتَّفق عليه المجتهدون من أتباع باقي القواعد الأصوليَّة.

إلى أن ازداد هذا الانشقاق بين الأساسين الماضيين حتَّى مع ازدياد الحاجة إلى النظر والاجتهاد الخاصَّين واللازمين اصطلاحاً في مثل المستحدثات على الأقل.

بل وفي اختلاط الرِّوايات ببعض أضداد دخيلة أو ملفَّقة معها من هنا وهناك أو شبيهة بها ممَّا يصعب فهمه، وإن وجدت في بعض مصادرنا نحن الإماميَّة ولم تكن من نوع النُّصوص الصَّريحة في معانيها الَّتي لم يتعارف كونها ممَّا يصح أن يجتهد فيها.

وبالخصوص في مثل أزمنتنا الَّتي فيها بُعد في الإسناد مع الكوارث الطَّبيعيَّة والمعادية الَّتي حلَّت على مصادر الحق من تراثيَّاتنا وتراثيَّات الآخرين النَّاصرة لحقوقنا.

وهذا الحديث قد أشرنا إلى شيء عنه في الجزء الأوَّل من كتابنا هذا (مساعيالوصول) وبما يخص أمر الأساس الثَّاني.

وللإشارة إلى نصرة الأصول واجتهاد المجتهدين وإن كانوا في أساسهم من المحدِّثين على عوامهم الَّذين قد تحرَّرت أفكار الكثيرين منهم والحمد لله بمساعي المصلحين من مجتهديهم لهم فخضعوا للاجتهاد والتَّقليد عند الحاجة إلى كل منهما.

وقد تضائل الانفتاح الَّذي كان عندنا بمعناه الأوَّل بسبب الحوادث المانعة أو المحجمة حتَّى سُمِّيت بداياته بالانسداد كأوَّل بدايات دركاته من بدايات ما سبق من التضاؤل.

ثمَّ ازدادت حالاته كلَّما كثرت الموانع والحُجب، ولذلك بان التَّوسُّع في

ص: 376

الأصول.

ولا شكَّ أيضاً بأنَّ القول بالانسداد من مؤشِّرات التَّصدِّي المعادي الأوَّل سلفيَّاً كإتلاف الأحاديث الشَّريفة ومحاربة تدوينها في بداية عهد الخلفاء الثَّلاثة على ما شهدت بذلك كتبهم المعروفة بالصِّحاح الستَّة وغيرها كما مرَّ، بحجَّة الخوف من أن يكون وجودها لو بقيت أو سمح بتدوينها بديلاً موضِّحاً لبعض الآيات المحفوظة بين الدَّفَّتين (القرآن الكريم)، والَّتي لا تختلف عنها حتَّى ما جمعه أمير المؤمنين الإمام علي "سلام الله عليه" -- أيَّام عُزلته حينما تركوه أيَّام خلافتهم الَّتي أرادوها -- من الآيات المطابقة لمعاني أسباب النزول، وقد رفضوه أيضاً.

بل حتَّى مع غض النَّظر عند اختلاق أحاديث تلو أحاديث لم يقلها النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ حتَّى لو قال بعضها ثمَّ لًفِّقت بما لم يقله منها.

حتَّى رفض الخليفة الثَّاني جهاراً أمام من حضر عند النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ليلة وفاته -- ما أراده صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من الكتابة الموثَّقة لصالح مستقبل الأمَّة المخيف من عبث المنافقين وأضرابهم بعد رحيله -- بقوله عنه (دعوه إنَّه ليهجر)(1).

وحرق الخليفة الثَّالث ما جمع من المصاحف والإبقاء على واحد مع ما أحدثه جمعه من الأمويِّين أو قبلهم أو لفَّقوه من الإسرائيليَّات ونحوها مع بذل طائل الأموال لتغيير الحقائق.

لم يجيء دور البحث حول هذا الانسداد -- بعد الانفتاح الأصيل المذكور -- موضوعيَّاً سلباً وإيجاباً جملة وتفصيلاً وبمفاجئة عند حدوث الكوارث والتَّصدِّيات المعادية للنَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وصفوة آله عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

ممَّا حثَّ القرآن والسنَّة كثيراً على وجوب حفظ ذمار الأمَّة بوجوب العناية بشأنهما العظيم، رغم الإيغال الشَّديد من أعدائهم بالتَّآمر عليهم قتلاً وسُمَّاً

ص: 377


1- صحيح مسلم في باب ترك الوصية ج5ص76.

ومطاردة واعتقالات.

مع مؤشِّرات الخوف السَّابق من أفاعيل المنافقين واليهود من الدَّس والاختلاق بمثل إشارة آية الانقلاب على الأعقاب وغيرها.

بما سبَّب تأكيد النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ على دحر المعادات ومقدِّماتها باتِّباع حديث الثَّقلين وغيره وتنصيب أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ وصيَّاً له وخليفة من بعده في أكثر من مورد وبالأخص يوم الغدير على رؤوس الأشهاد.

وقوله بما يدل على خوفه الدَّائم من عموم الأعداء وخصومهم (لقد بًدئَ الإسلامغريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الَّذين يصلحون إذا فسد النَّاس")(1) وغيره ظاهراً.

إلاَّ في بدايات بُعد الإسناد المباشر عن الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وحواريهم المباشرين لهم كزمن التَّوسُّع في كتابة الأصول والتَّفصيل في الدِّراية والحديث وكثافة الحرص على سلامة ما بقي من صحيح كل منسوب إلى النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بواسطة الأئمَّة مع الزَّهراء عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من الرِّوايات دون الآخرين، إلاَّ في بعض المستثنيات بعد الأحداث المُرَّة الَّتي مرَّت، وهو ما شجَّع كثيراً على جمع المجامع الأربعة الأخيرة.

ثمَّ توسَّع الكلام عن الانسداد بحيث كلَّما دُقِّق في علم الأصول والتَّطبيقات الفقهيَّة العامَّة والخاصَّة في جميع ما يتعلَّق في الدِّين عقيدة وعملاً وأخلاقاً.

ونحو ذلك كلَّما عمرت حوزات أهل بيت النُّبوَّة وتعمَّقت في علميَّاتها في العالم الإسلامي، بسبب ما يصل إلى الأعاظم من غيارى رجالها من أخبار توسُّع وصول الحوادث الكارثيَّة الَّتي مرَّ ذكرها من مصادرها وما سلم من بعض ما قد ينسجم وبقيَّة مصادر المذاهب الأخرى.

ص: 378


1- كمال الدين وتمام النعمة -- الشيخ الصدوق -- ص 201، كما روته العامَّة في كتبهم كصحيح مسلم (208).ج

ولكن بعد التَّدقيق المنصف ظهرت أقوال متفاوتة عن هذا الانسداد بين واقعي وبين مبالغ فيه من غيره كمَّاً وكيفاً ممَّا يُلجأ الباحث إلى إضافة المزيد من السَّعي الجاد لمتابعة ما بقي من المصادر ليتم البناء عليها لأصالتها دون غيرها كي لا يشرع الباحث من عند نفسه بدون داع علمي.

وعلى كلٍّ فقد ظهر بعض ما قد سبَّب الحاجة إلى الخوض عن مجمل هذا الانسداد ولو بنسبته القليلة المسلمة والمعتز بها عند الجميع لوفرة البركة المفروض أن تكون معادلة لها من الانفتاح الطَّبيعي الَّذي ذكرناه سابقاً والَّذي سمَّيناه بالأساس الأوَّل دون الثَّاني الَّذي في قباله اجتهاد المجتهدين والمجوِّزين لتقليد كل عامي لم يبلغ رتبة الاجتهاد ودون الانفتاح الَّذي يراه بعض المذاهب الأخرى كالَّذي تعبَّد بالأخذ بمرويَّاته من الغث والسَّمين والموضوع والملفَّق أو لم يمنع من بقاءها في ضمن المفتوح منها عندهم ومنهم الحنابلة.

ولأجل هذا وأمثاله اشتبكت المفاهيم عند أصوليهم وفقهائهم، ولعلَّه لأجل هذا ونحوه انغلق باب الاجتهاد عندهم فترة طويلة جدَّاً أو تلاعبت بأفكار بعضهم التَّكتُّلات الحزبيَّة المتشدِّدة ومنها التَّيميَّة والوهابيَّة.

مع ما كان قد حلَّ فيما بين بعضهم من آخرين مع البعض الآخر من التَّنافسات العدائيَّة وغيرها إلى أن ضاقت الأمور وكاد أن يتَّسع الخرق على الرَّاقع.

فضلاً عن إلحاح دعاة التَّقريب -- للخلاص من مخاطر ضياع الحق بسبب طول هذه الأزمات وعرضها -- بين المذاهب الخمسة.

إلى أن هدى الله تعالى المنصفين منهم وبالأخص من استبصر من غير القليلين منهمإلى هدى جادَّة الصَّواب عند الاضطرار مع الاختيار من تلقاء أنفس آخرين وإلى محاولات ترميم ما يخص الوضع الإسلامي العام ولو بلمِّ الشَّمل من التَّبعثر.

وإلى حدِّ التَّصريح من ذوي الإنصاف مع بالغ التَّأكيدات بوجوب إعادة النَّظر

ص: 379

في التَّأريخ الَّذي وضَّعه أو شوَّشه الأمويُّون ومن عاصرهم وتلاهم ضدَّ السِّيرة النَّبويَّة الطَّاهرة.

بل صرَّح علماء الأزهر اليوم -- بعد استقرارهم السَّابق على رسميَّة وشرعيَّة الانتماء إلى المذهب الخامس أستاذ أئمَّة المذاهب الأخرى وهو الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ -- إلى أهميَّة فتح باب الاجتهاد من جديد.

وإن كنَّا نتمنَّى أن كان ويكون على الأسس الصَّحيحة وبما أراده المستبصرون والمنصفون معهم وبما يعم الجميع على كلمة سواء، وببركات تطبيق كافَّة القواعد المناسبة لموضوع أي مناسبة ابتلائيَّة، بل واستكشاف حكمها كما يريده الله تعالى في شرعه ورسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ويحفظه الأئمَّة الهداة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من بعده مع استفراغ الوسع كلَّما اقتضت الحاجة الماسَّة إلى تمامه للأخذ به أو إتمامه لتطبيقه.

فالمعادات المؤلمة الَّتي حصلت بين بعض المذاهب مع الحاجة إلى جمع الشِّمل وتقوية الحجَّة المثلى ضدَّ عدو الجميع هي أهم الكوارث الَّتي سبَّبت وتُسبِّب هذه النِّسبة الضئيلة في بدايتها من الانسداد.

والأنكى منه بعض أسباب شخصيَّة -- حصلت من نسب مختلفة منها من معادات شخصيَّة ضدَّ مذهب معيَّن، لانتسابه إلى مسلك الحق بأي عنوان كان، أو لمجرَّد احتكار تراث مهم معيَّن ناتج عن شُح مطاع، ولو ضدَّ من أؤتمن للدَّفع إلى معيَّن نوعاً أو شخصاً أو ليختص به للانتفاع به منه --

فحصل التَّفاوت الزَّائد على النِّسبة الواقعيَّة المذكورة حال تداخل نسب حالات الانفتاح العلمي المعادل لنسبة الانسداد الابتدائيَّة، مع تفاوته معها في الزِّيادة والنَّقيصة، بسبب تفاوت حالات تلك المعادات بين الشِّدَّة والخفَّة.

وهكذا كلَّما تقدَّمت الأيَّام والسِّنين والأعوام وتعقَّدت الأمور في الغيبة الكبرى هذه بالصِّفة الأكثر وبعد الإسناد وازدياد الانسداد.

ص: 380

فكان ممَّا لابدَّ أن يكون الانفتاح العلمي المعادل له مشابهاً بالنَّحو العكسي، وهو ما يُسبِّب ضعفه النِّسبي.

ولأجل إحراز الدقَّة العلميَّة الأصوليَّة الأكثر في ذلك لابدَّ من الخوض الإضافي في سبيله ولو افتراضاً احتماليَّاً عقلائيَّاً، لاستكشاف ما هو الأحق بين الانسداد الكبير المدَّعى، رغم كثرة الشَّدائد المسبِّبة لأمثاله، والانفتاح الأقل المعادل له عادة قبل ثبوت هذا الانسداد.

مع وجوب التَّفريق العادل علميَّاً بين أهل التَّمذهب بالانفتاح من العوام من دون تثبُّت في واقعيَّته وبين أهل الاجتهاد الواقعيِّين الَّذين لا يخلطون بين الغث والسَّمين وبين من يدَّعي الاجتهاد ويقيس ويستحسن ونحو ذلك مدَّعياً الانسداد الكبير مع إمكان حلِّ هذهالأمور أصوليَّاً شرعيَّاً حتَّى مع قلَّة الانفتاح المعادلة لكثرة الانسداد المدَّعى إذا كانت قلَّة الانفتاح في خصوص ما ورد عن أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عن المعتبرات وهي وافية في نفسها والمعالجة من غيرها فنيَّاً اجتهاديَّاً وفقاهتيَّاً وكثرة الانسداد المراد منها ما كان مسبِّباً من المعادات لخط أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الَّذي أكثر حالات ادِّعائه أنَّه لا واقع له ولا يكسر طوق إحكام سيطرة أعاظم الفقهاء الأتقياء عليه.

وبالأخص لو كانت مع رواياتهم موثِّقات يأخذ بها الإماميَّة للعامَّة، وهو الَّذي لأجله قد يترك العامَّة موثِّقاتهم المعتبرة عند الإماميَّة تعصُّباً ويلتزمون حال ادِّعائهم بالانسداد الكبير مفضِّلين أن يكون مكانه القياسات والاستحسانات ونحوهما ضدَّ آثار أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وهم لا يعلمون وما أوقعهم في هذا الشَّرك إلاَّ عنادهم المعادي.

ومن أهل الانسدادات الكبيرة في سيرة العامَّة وللأسف ما أعتقد به -- وعمل به بعضهم على ما عرف من ترجمته -- أبو حنيفة المذكور حاله المضاد، وإن كان زيدي العقيدة وشهد بحق تلمذته على يد الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ في سنتيها ومعه من سار على

ص: 381

نهجه.

وهذا واضح في أنَّه من تحريضات المعادات الأخرى للإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ من العبَّاسيِّين لأبي حنيفة.

ومن أهل الانفتاحات عند العامَّة تمذهبيَّاً -- وإن لم يكن كاملاً أو كبيراً أو حتَّى الأقل وإن كان معادلاً عكسيَّاً لقول أبي حنيفة وجماعته -- هم الحنابلة.

ومع ذلك منهم من كان يستعمل القياس ونحوه في مستحدثات الأمور في بعض الأحوال، لأنَّهم لم يكن تمذهبهم كسيرة بعض الانفتاحيِّين من عوام الإماميَّة المحسوبين عليهم.

وإن لم نرتض مسلكهم العملي لو لم يُقلِّدوا الأجلاَّء من مجتهديهم أو مجتهدي الأصوليِّين مع كون أكثر رواياتهم المنفتحين عليها قابلة للانتفاع بها في ميدان اجتهادات الإماميَّة الصَّحيحة وبالنَّحو المحترم في أجمعها ما دامت في نوعها واردة عن الإماميَّة.

وإن أستثني بعضها فينا أو جاز النَّظر معنويَّاً في بعضها الآخر ونحو ذلك.

إضافة إلى عدم مشابهة روايات انفتاح الحنابلة وأمثالهم من العامَّة في أغلبها، لجمعها الكثير بين الغث والسَّمين، وبسبب كثرة الوضع والاختلاق الأموي وما سبقه والإسرائيلي مع كثرة التَّلفيقات فيها.

وكذلك كثرة روايات أبي هريرة المحسوب على الصَّحابة وهو الَّذي لم يحفظ من صحبته سوى روايات قليلة جداًً وبقيَّة رواياته الكثيرة عن كعب الأحبار وهو يظهر تابعيَّته وإن أيَّده بعض العامَّة من خواص أصحابه.

وإضافة إلى عدم مشابهة ضوابط رواياتهم في صحاحهم وغيرها من الرِّجاليَّة وقواعد أحاديثها الدِّرائيَّة لضوابطنا في دقَّتها.

مع احترامنا لكل ما تطابق من باقي رواياتهم من الموثَّقات والتَّضمُّنيَّات الَّتي

ص: 382

كثيراً ما يستفاد منها في باب التَّقريب وجمع الشِّمل بين المذاهب ولو في الجملة المهمَّة، لدحرالنِّسبة الأكبر من الخطورة أمام العدو الواحد وضدَّ الجميع ولو في خصوص النَّتائج الإلتقائيَّة، لو لم تتكافأ أدلَّتنا مع أدلَّتهم أو أساليبنا مع أساليبهم.

وعمدة الحديث العلمي عن الانسداد والانفتاح بمراتب كل منهما المقبولة في التَّقابل المعقول شرعاً بينهما والَّذي أشغل الفكر الوسطى للإماميِّين كثيراً، لترتُّب كم وكيف القدرة الاستنباطيَّة للفقيه المعتمد على أساسيَّات الأصول المدركيَّة غير البعيدة ولو جزئيَّاً، بل أقرب القربيَّة إلى ما لابدَّ أن يصل إلى جوهر وحي الله في نهاية المطاف العلمي والعملي.

ومعهم الكثيرون ممَّن ساروا على نهجهم في البحوث كفقهاء عهدي التَّسنُّن ثمَّ التَّشيُّع.

ومن قال -- ممَّن بقى على حاله السَّابق -- بوجوب إعادة النَّظر في التَّأريخ وأمور الرِّجال والحديث بإنصاف، لظهور كثرة التَّناقضات عنده وعند غيره، فضلاً عمَّن استبصر وبقي مصرِّاً على ما اتَّخذه الأصوليُّون منَّا من دروب التَّوسّع الاستدلالي لفظيَّاً ولُبيَّاً ونحوهما بلا قياس ونحوه.

فإذا ما أردنا حسم قضيَّة الفرق بين حالات الانسداد والانفتاح الواقعيِّين، أو حتَّى الظَّاهريِّين عند العجز عن احتواء بعض الواقعيَّات في أزمنتنا الحاليَّة من الغيبة الكبرى، بعد الابتعاد عن التَّمذهبيِّين الَّذي أشرنا إلى بعض مصاديقهم، لخروجهم عن الأوزان العلميَّة العمليَّة الشَّرعيَّة المبرئة للذِّمَّة سعة وضيقاً.

مع إعراضنا حتَّى عن ما التزم به بعض عوام الإماميَّة من قولهم بالانفتاح الكبير أو الكامل وإن ضبط العلماء أكثر المرويات خوفاً من تصرُّفات هؤلاء العوام بما لم يعلم به إلاَّ المجتهدون من أخطاءهم.

هو أهميَّة تمحيص ما يحتاج من الرِّوايات إليها كما مرَّ أكثر من مرَّة.

ص: 383

إضافة إلى ما ركَّزنا عليه سابقاً إماميَّاً من عدم الرِّضا بادِّعاء الانسداد الكبير ولو إشارة، فضلاً عن الأكثر، إذا كان هذا ممَّا قد يوصلنا إلى الالتجاء إلى استعمال القياسات مع الفوارق في توجيهات الأمور ونحو ذلك.

وما يعادل هذا من الانفتاح القليل الَّذي لا يفي ولا يكفي، وبالأخص بعد محاولة بعض من لم يستوعب ذهنه منَّا بقيَّة ما كان مفتوحاً للفقيه الَّذي لا يخفى عليه طريق، بمثل قبول البناء على الوثوق، وما خفي على من لم يتابع كسلاً وتقاعساً منافذ ما جعله الله في قوله القرآني [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ](1) وغيره دون أن يستفرغ

وسعه.

ومع ذلك يقوم بتقليص ما أمكن الأخذ به من الانفتاحات الأكثر من هذا القليل المدَّعى بتعادله للانسداد الكبير والأكثر وما قد لا يمتنع عن إمكان القول بالانسداد الوسطي الَّذي يعادله الانفتاح الأكثر من القليل الماضي، مع مشجِّعات ما يُعطي من الأمل الإيجابي لصالح هذا الانفتاح عند الأخذ بالعلاجيَّات المهمَّة الواردة مؤكَّداً عن الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ إذا حلَّ توهُّم زائد بالانسداد.وبالأخص عند نجاح القول بكفاءة الأصول وقواعدها الصِّناعيَّة وتلائمها مع هذه النِّسبة الوسطيَّة ووصولها إلى حد براءة ذمَّة العباد المكلَّفين في جميع المجالات دون ابتداع أحد غير ما يلائم وحي الله بعيداً عن القياسات والاستحسانات وسدِّ الذَّرائع.

أمَّا القول بالحاجة إلى لزوم الأخذ بما يزيد على الانفتاح الوسطي الَّذي قد يتعادل معه إمكان القول بالانسداد القليل فهو الَّذي قد يُسبِّب كون زماننا المتأخِّر شبيهاً بالزَّمن المتقدِّم، وهو ما أشرنا إليه من زمن بُعد الإسناد هذا في زماننا المختلف عن قربه الماضي، وهو ما قد يختلف فيه حتَّى في نوعيَّة الاجتهاد بين زماننا وزمن

ص: 384


1- سورة النحل / آية 89.

الماضي بين دقَّة الحالي وخفَّة الماضي، وما قد يُسبِّب نوعيَّة امكان الأخذ بأخبار الآحاد وصحَّته، كهذا الزَّمان بناءاُ عليه بشرط أو بدون شرط من اشتهار عدمه كالزَّمن الماضي الَّذي تكثر فيه المتواترات ويندر فيه الآحاد.

الرَّابع: من أدلَّة ما يمكن منه عدم اعتبار خبر الواحد

عند العلماء إلاَّ مشروطاً

وقبل الخوض في صلب موضوعه لابدَّ لنا من بيان مقدِّمتين:-

المقدِّمة الأولى:-

لعلَّ الاختصار الماضي عمَّا ذكرناه من مرجوحيَّة القول بالتَّعبُّد بأخبار الآحاد المجرَّدة مع ضعفها بالنَّحو الاستطرادي السَّريع.

ولفرض إنهاء البحث الماضي ببقاياه غير كاف في عمليَّة ترجيح الاعتماد على أخبار الآحاد المقصودة بالقرائن إلاَّ بشيء من التَّفصيل عن حال ما يلزم ذكره من القرائن معها ما دام احتمال العثور على شيء منها ممكناً بالسَّعي حتَّى بما قد يبالغ به من بعض الانسدادات المحتمل كونها غير مدروسة، ليُعاد ذكر هذه المرجوحيَّة وأرجحيَّة الرَّبط بالقرائن ونحوها بما هو أقرب للتَّقوى في نهاية البحث.

المقدِّمة الثَّانية:-

إن الحديث عن الخبر الواحد عموماً قبل الشُّروع بالكلام عن العنوان أعلاه بالصِّفة العامَّة لدى علماء عموم المسلمين الَّتي تستحق أن يطلق عليها في أخبار الفقهيَّات لديهم بالخاصَّة.

ص: 385

وقبل الشُّروع بما يرتبط بأخبارها لدى علماءنا الإماميَّة الَّتي تستحق أن يطلق عليها بالأخص.

لابدَّ أن يدخلنا ذلك العام في مطلب شائك صعب المنال عمَّا نحن نريد الوصول إليه من أخبار أمور الفقهيَّات الخاصَّة وإن دخلت فيها بعض أخبار فقهيَّات الأخوة العامَّة المقبولة، فضلاً عن تلك الأخص من أخبار فقهيَّاتنا الإماميَّة المحقَّقة في الكثير منها إن لم نقل في الأكثر بعد قدسيَّة جميع ما ورد منها عن الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

لكون أخبار الآحاد العامَّة الَّتي أهم مصاديقها التَّأريخيَّات والَّتي تُعد كثيراً في مشهوراتها إن لم نقل الأكثر بحاجة إلى الغربلة وتجديد النَّظر.

فكيف بأخبار آحادها والَّتي تُعد أصدق محمل تُحمل عليه كل المنقولات حتَّى الخاصَّة والأخص أنَّها تحتمل الصِّدق والكذب، بل وكذلك حتَّى أخبار فقهيَّات عموم المسلمين المحتاجة إلى غربلة مرويَّات ما لم يطمئن به الإماميَّة.

فلم يبق إذن إلاَّ ما هو الأقرب إلى القبول من مرويَّات الفقه الإمامي من الَّذي حقَّقأكثره ومعه المقبول من روايات المأخوذ به من مرويَّات العامَّة ممَّا يصلح أن يكون العنوان الماضي باقياً على شموله له، لما يبتغيه أهل التَّحقيق والتَّقوى للوصول إلى ما فيه براءة الذِّمَّة الأكثر.

وبعد بيان هاتين المقدِّمتين نقول:-

إنَّ لعدم اعتبار خبر الواحد المجرَّد عند العلماء قديماً أدلَّة مهمَّة وإن صحَّت سلسلة اعتباره بمرور الزَّمن إجمالاً أو تفصيلاً عند الآخرين بما قد يكون منها ما يأتي الحديث عنه ومن مضامينه ممَّا لابدَّ من المرور عليها، للخلاص في النَّتيجة عن كلتا الحالتين إلى معنى موحَّد منتج، وهي أمور:--

الأمر الأوَّل: التَّأكيد على أهميَّة اعتبار البيِّنة الشَّرعيَّة بها على ما نصَّ عليه كثيراً كتاباً وسنَّة كإمارة تثبت بها حجيِّتها من تلك الموارد في مقابل العدل الواحد،

ص: 386

بل دون قبوله وحده، فضلاً عن حالة عدم ضمان عدالة هذا الواحد لو تحمَّل الشَّهادة وأخبر بها وحده وإن لم يثبت كذبه ولم تقوِّمه قرينة من القرائن بها على ما سيجيء.

وللتَّأكيد على هذا وغيره دون ما عداها بسبب الأدلَّة المتنوِّعة كتاباً وسنَّة، بل وسيرة باسم (قاعدة البيِّنة) ومن موارد الحاجة اشتراطاً وتحمُّلاً واجباً في إيقاع الطلاق.

ولتثبيت الإدِّعاء في المحاكم الشَّرعيَّة وقضايا الادعاء لتثبيت الأهلَّة واستحباب الإشهاد في الزَّواج ووجوب الأدلاء به عند الحاجة اللازمة إليه لدع الإشكال.

وبعد ثبوت هذا الأمر ووجود مقتضياته وثبوت منع نقائض العمل به وهو الأخذ بالبيِّنة دون مجرَّد الخبر الواحد.

يمكن القول أيضاً بعدم صحَّة الأخذ بالخبر الواحد حتَّى في باب نقل الرِّوايات والعمل بمضامين محتوياتها، وإن صحَّ وحده سنداً بصفة قويَّة من النِّسب، دون أن يكون ذلك قرينة من القرائن المشروطة لها ووجود الحاجات الماسَّة إليه في الموارد العديدة.

على ما سيأتي بيان مرِّجحات العمل به، ولو بسبب وجود شيء من الإشكالات في الاعتداد به على الأقل في مقابل أدلَّة اعتبارات البيِّنة الأقوى جدَّاً من مواردها الَّتي لا تناهض، ما لم يحف بالخبر الواحد من قرائن التَّوثيق ومؤهِّلات التَّصديق الآتية.

ومن مرشِّحات تقديم البيِّنة على الخبر المجرَّد وإن كان عادلاً قوله تعالى [لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ](1)، إذا لم يكن للبيِّنة معنى آخر غير الشَّاهدين العادلين أو الشَّاهد العادل ومعه قرائنه المعادلة

ص: 387


1- سورة البينة / آية 1.

من التَّقييم الشَّرعي من المقامات كالشَّاهد واليمين.

ومن ذلك قوله تعالى [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ](1)، إلى غير هذين النَّصين المباركين من الكتاب وما يعاضدهما من نصوص ومضامين السنَّة المؤكَّدة حول البيِّنة الشَّرعيَّة الَّتي تقوم بها الحجج الشَّريفة.

وعلى فرض الحاجة إلى الخضوع لتفسيرها أو تأويلها بالَّذي كان أوسع منالشَّاهدين العادلين أو الأكثر من العادل الواحد المقرون بقرائن المعادلة فلا تقل تلك البيِّنة عمليَّاً عند الأتقياء من فقهاء الأمَّة وأصوليِّيها عن محاولاتهم المستمرَّة جهد الإمكان على تثبيت حججهم الاستنباطيَّة للأحكام المساوية لها في الاعتبار كالنُّصوص والظواهر المرتبطة بالظُّنون الخاصَّة والتَّواتر والشِّياع المفيد للعلم والشُّهرة العمليَّة والسِّيرة العمليَّة المستمرِّة من زمن المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ والإجماع الإمامي ونحو ذلك من بعض القواعد.

وبناءاً على أنَّ بعض حالات إثبات الشَّيء قد ينفي ما عداه ولو منازلة للخصم المصر على الأخذ بخبر الواحد من الَّذي لم تظهر مع حالته قرينة العدالة أو التَّوثيق الشَّخصي أو وثوق القضية الرِّوائيَّة كليَّاً، سواء كان منَّا إماميَّاً أو من الآخرين.

وعلى الأخص كثيراً لو كان الاستدلال بأمثاله حتَّى في مقابل النُّصوص الصَّريحة الَّتي لا يختلف فيها اثنان من أبناء الأمَّة المعتادين على ثوابتهم الإسلاميَّة العامَّة فضلاً عن المتفوِّقين عليهم بالعلم والمعرفة.

كما في قضيَّة ادِّعاء الخليفة الأوَّل لردِّ الصدِّيقة الزَّهراء عَلَيْهِ السَّلاَمُ عند مطالبتها أمام عموم الصَّحابة والمسلمين في المسجد النَّبوي بُعيد وفاة أبيها صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ إرجاع ما كان تحت يدها من فدك والعوالي بعد ما أخذهما منها بعد ما انفضَّت جلسة السَّقيفة، وأمير المؤمنين "سلام الله عليه" مشغول بتجهيز ابن عمِّه رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.

ص: 388


1- سورة الأنفال / آية 42.

حيث قلب مطالبتها له بإرجاعه ما كان تحت يدها من فدك والعوالي وتحت تصرُّفها من عهد أبيها صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بدعواه أنَّ هذين لاحق لكِ فيهما بأن يكونا من المواريث.

فأوقع نفسه في مأزق آخر كبير -- وهو انتزاع ما في يدها ممَّا كان لها وتحت تصُّرفها -- بادِّعائه خبره المجرَّد المعروف ضدَّ الزَّهراء عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن أبيها صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بقوله (نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث ما تركناه صدقة)(1).

بينما النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ما قال إلاَّ ما صدر من الوحي في آيات المواريث العامَّة والمطلقة والخاصَّة بين ذراريهم، بما لا مناقشة فيه.

بل قد صدعت بالدِّفاع عن حقِّها الشَّريف مستشهدة بهذه الآيات وغيرها في خطبتها العظيمة أمام الجميع بما لا مجال للنِّقاش في مقابله.

ولتبيُّن الحق والحقيقة ومن مصادر الفريقين لم يغب عن أذهان الكثيرين من المنصفين وجوب نصرتهما في مجالي العقيدة والشَّرع من غير الإماميَّة.

حتَّى ازداد التَّعلُّق الاستدلالي واعتزازاً بالميسور من الأدلَّة القويَّة آنذاك واستمر التَّمسُّك بها ومن أعاليها المتواترات وما يقرب منها وإلى عهد السيِّد المرتضى قدس سره ومن ينهج نهجه من بعده حتَّى صارت الشُّهرة للعمل بها لوفرتها وبعدم الأخذ بأخبار الآحاد.

إلاَّ أنَّه ومن باب قوله تعالى [وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ](2)، وتطوُّر الأحداث بين القديم والحديث من الكوارث الطَّبيعيَّة والحروب المعادية نوعيَّة وشخصيَّة واختفاء دقائقالأمور العلميَّة، ممَّا سبَّب بعض الانسدادات الَّتي أوجدت وجوب النَّظر، إن لم نقل وجوب إعادته من جديد، حتَّى فيما قد يزيد على أخبار الآحاد المجرَّدة من بعض ما حُفَّ منها ببعض القرائن إن ساعد الدَّليل المتقن على

ص: 389


1- مسند أحمد بن حنبل 2/463.
2- سورة الأعراف / آية 85.

الأخذ بما هو أوسع منها، بسبب تلك الانسدادات ومع عدم تساوي الآحاد المجرَّدة بالمحفوفة في مساعدة الأدلَّة.

لابدَّ من أن نبقى على ما ساعدت عليه، فنقول:-

أنَّه عُدَّ عند المشهور أنَّ امكان استفادة الأخذ بخبر الواحد ممنوع من آية النَّبأ وهي قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا](1) ولو بنحوه الإجمالي في مقابل التَّحقيق.

إلاَّ أنَّه عُدَّ امكان الأخذ المحدود بحدود الشَّفافيَّة لغرض التَّوسُّع عند الانسدادات، لصالح تسنيدات فقهنا العظيم غير المحدود بتشعُّبات بحور مسائله، لو أعيت قدرات أصوله الفائقة عن إيجاد قواعد خاصَّة له من مثل نفس هذه الآية، ولو من قول الفاسق المذكور في الآية مع التَّبيُّن في منطوقها وظهور صدقه في نبأه المصاحب للوثاقة به، كقرينة مانعة عن الغفلة والنَّوم والسَّهو والنِّسيان في الإخباريَّة، وإن كان مغايراً لخبر العادل غير المذكور إلاَّ مفهوماً لو تطرأ عليه الغفلة ونحوها.

أو مغايراً لغير الفاسق الدَّاخل في المفهوم العام المخالف حتَّى الشَّامل للعادل وإن فضل ظاهراً على الفاسق غير المتبيَّن أمره، لولا دخوله في المفهوم والفاسق في المنطوق المتبيَّن مع ضمان عدم غفلته ونحوها.

وهو شموله للمتوقِّف فيه مفهوماً أنَّه عادل أو غيره، وإن كان هذا الأخير أشد على القضايا المحتاجة للتَّوثيق من الجهة العامَّة وغير ذلك.

ونخص بالذِّكر بالصِّفة الأكثر خبر الفرد العدل الواحد إذا عرضته العوارض من الغفلة ونحوها مع ما مضى ذكره من حاله ليخرج المستفيض الَّذي قد يزيد على الاثنين من البيِّنة الَّتي أقلُّها اثنان حينما كانوا عدولاً.

لأنَّ البيِّنة إن تأكَّدت أدلَّتها كما أشرنا في كونها للمقام لها موضوعيَّتها الخاصَّة

ص: 390


1- سورة الحجرات / آية 6.ج

بها فلا معنى للأخذ بالأقل من الاثنين إلاَّ بموارد مستثناة خارجة بالنَّص والدَّليل الخاص عن قاعدتها كخبر الَّذي لا يكذب في عموم القضايا ممَّا مرَّ ذكره ومن مصاديقها قبول أذانه لتوقيت الفرائض الخاصَّة وقبول وثاقة صاحب اليد وقبول عزل الوكيل بوصول خبر العزل به من لدن الثِّقة المرسل لذلك.

ووصول خبر الوصيَّة به من مظان ذلك ونحوها، وقد تثبتت هذه المصاديق عن أدلَّتها في الفقه.

وعليه فيصح الأخذ بالخبر المستفيض وإن لم يكن أفراده من مقوِّمات البيِّنات اكتفاءاً بوثاقة أفراده.

إضافة إلى أنَّ بعض أفراده قد يدخل في المشاع إن تمَّ قبولها ولو من حيث خصوص الوثاقة دون العدالة.ومن ذلك إذا أفاد العلم دون الظَّن كما في قضيَّة الأهلَّة وغيرها.

ومن مؤكِّدات وجوب الاهتمام بالبيِّنات الشَّرعيَّة لتطبيقها في مواردها الخاصَّة بما يشتمل على شاهدي العدل على الأقل ولتشييد قاعديَّتها.

ومن ذلك محاولة التَّعرُّف عن طريق الحديث عنه أنَّ إثبات ذلك هل يمكن منه نفي ما عداه أم لا؟ هو قوله تعالى [وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ](1)

ليُرى صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عن هذا الطَّريق امكان معرفة قيمة هذه القاعدة من عدمها سلباً أو إيجاباً من هذه الآية وما يشبهها من الكتاب والسنَّة.

فهي ونظائرها من الأدلَّة في ظاهر صيغتها الأمريَّة الواضحة من الأمر بالاستشهاد بالشَّهيدين وجوب التَّعبُّد بالتَّحميل بالأخذ بهما عند الحاجة في موردهما الشَّرعي الخاص في مثل القضاء وأمام كاتب العدل ونحوهما للتَّحمُّل إدلاءاً منهما وإخباراً بمفادهما دون الأقل.

ص: 391


1- سورة البقرة / آية 282.

وهو مثل الاكتفاء بالشَّاهد العادل الواحد لو جاء معهما الاطمئنان بالتَّطابق الرَّافع للشَّك بالخلاف، ما لم يكونا في معرض طرؤ السَّهو والنِّسيان عليهما، فضلاً عن العادل الواحد على ما عُبِّر به في لسان الآخرين، على ما حكي هذا عن القاضي وظاهر عبارة الكاتب والشَّيخ قدس سره.

وإن قيل بعدم التَّصريح في الأدلَّة بعدالة الشَّاهدين كما في ظاهر الآية.

فيجاب: بما يأتي من ذكر الآيات الصَّريحة بذلك والكاشفة عمَّا سبق ذكره من صحَّة تسديد تفسير القرآن بالقرآن.

وممَّا يؤكِّد إرادة العلم الشَّرعي بوجوب التَّعبُّد بإقامة الشَّهادة الكاملة لموضوعيَّة تامَّة لتمام الشَّاهدين العادلين لينفي ذلك العدل الواحد الَّذي بقبوله لا يتم إلاَّ الأخذ بالظِّن العام مع طرؤ غفلاته وسهوه ونسيانه أثناء الحدث، وكما مرَّ من الكلام عن آية النَّبأ.

والأخذ بالظَّن العام ممنوع كمَّاً وكيفاً تحقيقاً في قوله تعالى [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ](1)، وما الَّذي فيه النَّهي عن حالة التَّوصُّل إلى ما به عدم العلم إلاَّ الوصول إلى الجهل أو بعض متاهاته ومنه الظُّنون الممنوعة الواردة في قوله تعالى [وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً](2).

وعلى هذا إن قيل أنَّه قد يرتكز في أذهان العقلاء من كلِّ مذهب وملَّة أنَّ الحجيَّة في المقام عند الحاجة في القضايا الاجتماعيَّة إلى إقامة الشَّهادات والبيِّنات بين الفرق الاجتماعيَّة المتفاوتة في المذاهب والملل.

هي الحجيَّة العقلائيَّة دون التَّعبُّد بالشَّهادة الكاملة.

فإنَّه يُقال: لا مجال للأخذ بما يُدَّعى ويترك التَّعبُّد، لأنَّ هذه الحجيَّة لا قيمة لها

ص: 392


1- سورة الإسراء / آية 36.
2- سورة يونس / آية 36.

إذا كان وزن العدالة في الشَّاهدين مختلفاً فيه بين الأقوام والأديان والمذاهب بما قد يصل إلىما به بعض التَّسامح.

ولكن الحق الإلهي واحد لا تعدُّد فيه لقوله تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ](1) وقوله [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ](2) وغيرهما.

حتَّى على فرض أن يتعاون المتطِّرفون أو ما يقرب منهم فيما لو قيل أنَّ بينهم توهُّماً وهو أنَّ العدالة لها معنى واحد بين جميع العقلاء وهو موضوعها، سواء تعدَّد مصداقها أو تفرَّد بين جميعهم.

فإنَّ الاختلاف الدِّيني أو المذهبي فيما بين المتطرِّفين ونحوهم لابدَّ أن يبقى غير موَّحد لتعقُّلاتهم المبنيَّة على غير دين الله الواحد لينجز لهم أنَّهم لو تخرَّبوا على ما قيل، وهو قبول شهادة العدل الواحد الَّذي حدَّدوا معناه على مستوى ما بدا ما فيهم سابقاً من الاختلاف بالنَّحو الحزبي.

فلا وزن إذن لغير التَّعبُّد المولوي ما دامت موضوعيَّة ذلك في لسان الشَّرع كهذه الآية غير البعيد عن المولويَّة فيها، بل هي نفسها وبصيغة الأمر المعروفة بدلالتها على الوجوب دون أن تكون خصوص الآية للإرشاد وبابتعاد عن كون دور العقل واصلاً إلى صيرورة تصرُّفاته مستقلَّة دون خضوعه للشَّرع وأوامره قابلة للإحتجاج بها مع الآيات الإرشاديَّة.

وما أدعي من ضعف هذا الرَّأي أيضاً بما قيل في مقابل ذلك من السِّيرة والإجماع، ودعوى القطع المخالف بما ارتكز في نفوس رهط من السَّلف الصَّالح من العلم العادي بالبيِّنة لا التَّعبُّدي المذكور.

ص: 393


1- سورة آل عمران / آية 19.
2- سورة آل عمران / آية 85.

لا يمكن الرِّضا به بمثل تعقُّل ما يتفاوت من معنى العدالة إلاَّ بمعناها الشَّرعي ودون الأخذ بالشَّاهد العادل الواحد مع العلم من تفاوت اعتبار العلم عندنا بين كون العدل الواحد جزء للبيِّنة لا غير.

وبين كون الشَّاهد الثِّقة المؤتمن الَّذي لا يكذب ليؤخذ بخبره دون ما سبقه.

ويتبع عدم قبول السِّيرة بهذا المعنى أمر الإجماع المخالف أيضاً، وكذا القطع معها بالقطع المخالف فلا انسداد في الاعتراض المقابل.

ومن أدلَّة اعتبار البيِّنة دون اعتبار الفرد الواحد المجرَّد من قرينة الوثوق به كما مرَّ وكما سيأتي مع التَّنصيص على عدالة الشَّاهدين ككاشف عن حقيقة ما أريد ممَّا مرَّ ذكره من النُّصوص بناءاً على قاعدة تفسير القرآن بالقرآن قوله تعالى [وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ](1) بالأمر بالتَّحميل للتَّحمُّل بالإخبار عند الحاجة إلى ذلك.

ويؤيِّده مؤكَّداً قوله تعالى الآخر [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ](2) بنحو التَّحمُّل للأخباربالنَّتيجة ووجوبه لضبط الأمور الشَّرعيَّة بها عن طريق شاهدي العدل.

وقد جاء في القرآن الكريم ما فيه شيء يتعلَّق بالمقام ولو لم يكن بالنَّحو المباشر بنحو من المدح للنَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بأنَّه كما يقول تعالى عنه [يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ](3).

وهو أنَّ إيمانه لصالحهم في حال تكثُّرهم الجمعي دون انفراد بعضهم عن بعض، إذ لو انفرد بعضهم عن بعضهم بالنَّحو الانفرادي من تلقاء أنفسهم لمَّا كان صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مريداً

ص: 394


1- سورة الطلاق / آية 2.
2- سورة المائدة / آية 106.
3- سورة التوبة / آية 61.

من قدسيَّة ذاته إلاَّ بالجمع ومصالح الجميع، لا كل فرد فرد وإن كانت مصالح الأفراد غير ممحاة ما دامت موضوعيَّة تصديق جميع المؤمنين به صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ موجودة.

لأنَّ الجميع أقرب إلى تعظيم الشَّعائر وأنتج إلى ما به الوثوق وأكد إلى ناحية حصول التَّصديق ومن هذه الصِّفة يعرف سر ما ترمي إليه هذه الآية.

ونظير هذا ما تؤكِّد عليه آية الاعتصام بحبل الله وغيرها من الآيات والأحاديث الشَّريفة الأخرى.

ومن مضامين ذلك أمور الشَّهادات وكما يستفاد اعتبارها من معتبرة مسعدة ابن صدقة عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: سمعته يقول (كل شيء لك حلال حتَّى تعلم أنَّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك لعله حر قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهرا، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة)(1).

وهو ما يحضر ذلك في الموضوعات والحوادث المحتملة في العالم حتَّى يستبين الواقع أو ما يعادله وهو قيام البيِّنة.

وكذا ما ورد في الجبن كاشفاً عن المقصود من البيِّنة بقوله عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (كل شيء لك حلال حتَّى يجيئك شاهدان يشهدان بأنَّ فيه ميتة)(2).

ومثله جملة من الأخبار تحمل نفس المعنى وهي كقرائن حافَّة بهذا الخبر يشد بعضها بعضاً فإمَّا ببيِّنة شرعيَّة كما مرَّ أو خبر واحد محفوف بقرائن التَّوثيق للنَّاقل أو الوثوق في القضيَّة على ما سيجيء.

الأمر الثَّاني: ما ظاهره من الأدلَّة عدم اعتبار الأقل من نسبة التَّواتر حتَّى بما

ص: 395


1- وسائل الشيعة ج17، ص89، أبواب ما يكتسب به، ب4، ح4، ط آل البيت.
2- الوسائل، ج 17، ص 91، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2.

زاد عن خبر الواحد إلاَّ إجمالاً وإن لم يساو التَّواتر فيه كما في قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ](1).

لأنَّ الواحد من طلاَّب العلم إذا رجع إلى أهله بعد تفرُّغه الدَّائم أو بين حين وآخر أيَّام التَّحصيل بأحكام دينهم بإنذارهم ليحذروا ممَّا لم يأخذوا به من تبليغاته وتوجيهاته السَّابقة لهم أو لم يطبِّقوه ممَّا علَّموه منه من المفروض كلِّها أو بعضها عليهم --وبالأخص إذا كان وضعه عندهم في معرض الشَّك فيه كالعادة في كثير من قضايا الواحد المرسل للتَّبليغ الَّذي لم تتأكَّد عدالته إلاَّ عن طريق التَّفحُّص عن مصاحبة أقرانه الوافدين مثله معه لأداء وظيفة التَّبليغ الجماعي المشابه لما يقوم به صاحبهم، ليكون مقبولاً في صحبتهم له أو مع ضمِّ عادل آخر إن كان الأوَّل عادلاً لإتمام البيِّنة كما في قاعدتها.

أو كان فاسقاً مع التَّبيُّن الَّذي لا يرفع وجوب الابتعاد عن تصديقه وعن خبره، لكونه الثِّقة الَّذي لا يكذب كما ذكرته آية النَّبأ في منطوقها المقدَّم على المفهوم وإن كان من العامَّة من جهة وثاقته أو كونه ذا عهدين في حياته بالتَّسنُّن والتَّشيُّع وكان ثقة في كليهما أو منصوصاً من الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ بوثاقته.

على ما سيجيء ذكر من نصَّ عليهم بذلك من الحواري ومنهم النوَّاب الأربعة وأصحاب الإجماع وأهل المراسيل المعتمدة بين الجميع والَّذين حُفَّت بقضاياهم درجة الوثوق أو المرويَّات عن درجة الاستفاضة إلاَّ ما لا يقل عن عدد التَّواتر المتبَّع حسب دليله --

فإن ثبت من شواهد التَّصديق الجازم تماميَّة مصداقيَّة توجيهات هذا الرَّاجع

ص: 396


1- سورة التوبة / آية 122.

الواحد إلى أهله من صحَّة توجيهات الآخرين من الرَّاجعين إلى أهليهم معه وبتطابق كامل في المعلومات الواصلة إلى ذوي كلِّ الطلاَّب وعلى مستوى التَّواتر ونحوه، ممَّا يُحقِّق الإشاعة المفيدة للعلم دون الظِّن ما لم يمنع عن مصداقيَّته آية النَّفر الماضية.

كما ذكرنا عن بعض حالات الاستفاضة لو جاء معها الاطمئنان العرفي الرَّافع للشِّك بما يقبل التَّواتر وبعض حالات الاستفاضة في كونهما من رعيل واحد.

أو ما قبلناه من نفس المخبر الواحد إذا حُفَّ بالقرائن ما لم يكن مجرَّداً عن شيء منها أو كون ذلك الواحد صاحب يد قوَّمته الأدلَّة المهمَّة الخاصَّة أو غيره من المصاديق المأخوذ بها حتَّى مع انفراد أصحابها لأدلَّتها الخاصَّة المذكورة في مواقعها.

ثمَّ إنَّ اعتبار التَّواتر في الآية المذكورة كما في غيرها ممَّا يأتي قريباً مهم جدَّاً من حيث كونه محتاجاً إليه في موارد غير محدودة إذا صادف وقوع الشَّك في بعضها فإنَّه لا يرتفع شرعاً إلاَّ بتحقُّقه لموضوعيَّة مطمئنَّة في عدده الخاص كما في مسألة الأهلَّة والإخبار برؤيتها أوَّل الشَّهر أو آخره لمعرفة الهلال الثَّاني صياماً وإفطاراً أو حجَّاً ومواعيد اقتصاديَّة وديون وعادات النِّساء وعددهن.

فإنَّه لابدَّ من هذا الثُّبوت بأمور شرعيَّة ستَّة يُعدُّ التَّواتر والشِّياع المفيد للعلم منها محل تفصيلها في الفقه.

ومن الآيات الواردة في شأن التَّواتر قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ](1).

أقول: إنَّ الكتمان لما أنزل الله تعالى من التَّوجيهات الإلهيَّة للعباد بعد العلم بها إجمالاً أو تفصيلاً من كلِّ مكلَّف شرعاً بالتَّبليغ بها مباشرة أو تسبيباً من الأنبياء والرُّسلوالأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ومن دونهم من سائر المؤمنين والمسلمين وعظاً وإرشادات وإن

ص: 397


1- سورة البقرة / آية 159.

كان محرَّماً على الجميع وعلى كلِّ فرد فرد حالة التَّقصير والتَّقاعس عن أداء واجب تعليم الجهلة لحاجتهم الماسَّة إلى تلك التَّوجيهات والتَّعاليم الإلهيَّة وحسب القضايا ومقاماتها في الحالتين.

وإن استثني أهل العصمة من بينهم بحتميَّة عدم تقصيرهم في أداء كل ما وجب عليهم من ذلك وما بقي إلاَّ سائر أهل العلم من المؤمنين والمسلمين ممَّن دونهم إذا قصَّروا فيما كلَّفوا به من ذلك جملة أو تفصيلاً.

ولكن ليس معنى ذلك كون تحريم الكتمان على الفرد أن لا يحتاج إلى ثان في مقام اشتراط العدالة فيه وقد حصلت لإكمال البيِّنة بالعادل الثَّاني معه لتقوم الحجَّة الشَّرعيَّة في مقامات اشتراطها على الأقل وإلاَّ فلا أو نحو ذلك ممَّا مرَّ وما سيأتي ذكره للطَّالب والمطالع الكريم.

ولذا عبَّر تعالى في هذه الآية بما قد يزيد على الفرد بقوله (يكتمون) وهو أقل الجمع اللُّغوي على الأقل والَّذي لا يمنع عن أكثره كذلك.

بل حتَّى إذا ازدادوا مهما بلغوا ومن مصاديق ذلك ما به شدَّة المسؤوليَّة عليهم إن وصلوا إلى حدِّ التَّواتر واحتيج إليهم بإدلائهم بمعلوماتهم أو القسامات وغيرها كما دلَّت عليه آيات تغليظ أخرى عليهم وعلى أمثالهم من العصاة والمتمرِّدين كقوله تعالى [وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ](1) ونحوه.

بل دون أن يكون معنى لإرادة الشَّخص الواحد من كاتمي الحق في مقام هذه الآية إلاَّ أن يتمِّم بما يجب أن يكون ليستفاد من مدلولاته مع غيره وإن تضاعف عليه الإثم أضعافاً مضاعفة كإبليس "لعنه الله" كاسم جنس في قضيَّته القياسيَّة الباطلة ضدَّ أبي البشر آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ لكونه يمثِّل جميع الأبالسة مع كل من جنَّده وأمثاله.

أو لا حقَّ لهذا الواحد أن يشهد وحده أو حتَّى لو كان معه غيره مع عدالتهما.

ص: 398


1- سورة المؤمنون / آية 70.

بل حتَّى ما لو زادوا كذلك إلى الثَّلاثة لوجوب كتمان شهادتهم احتراماً لشرف العوائل الَّذي يجب حفظه ولو تطبيقيَّاً، لكون الله تعالى يحب السَّاترين إذا لم يكن عدد الشُّهود كافياً لشهود الزِّنا الأربعة المحدودة في شرع الله ولو من الجهة الظَّاهريَّة، وإلاَّ يجب أن يجلد الباقون للفرية تكريماً لنواميسهم حذراً من أن يفتضحوا.

وهل من تلك الآيات الواردة في شأن التَّواتر قوله تعالى [فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ](1).

مع تماميَّة وضوحها في وجوب التَّلقِّي من أهل الذِّكر بصيغة الأمر من قبل المأمورين ليكلِّفوا بمسؤوليَّة العطاء أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر للآخرين تبعاً لأدلَّة ذلك.

ومن أهمِّ مصاديق ذلك وما به النَّفع الكثير الحتمي لرفع الجهالة وحيرة الضَّلالة هونسبة الآخذ التَّواتري والعطاء المماثل؟

ثمَّ أقول: فإن كان المراد من أهل الذِّكر هم الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بعد النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ فلا نقاش في حجيَّة قول الفرد منهم، لأنَّ كلاًّ منهم يُعدَّ أمَّة حسب تقييم الأدلَّة الخاصَّة في علم الكلام بهم.

فضلاً عن حجيَّة قول الأكثر كحجيَّة نقل ما حملته العترة كلُّهم أو بعضهم ممَّن يزيدوا عن الفرد الواحد منهم ممَّا حمله حديث الثَّقلين وأمثاله من الرِّوايات النَّاقلة عن الأكثر من الواحد منهم إذا دلَّت على ذلك دلائل صدقه.

وإن كانوا هم أصحابهم وحواريهم والرُّواة عنهم من غير المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فالجمع هو المقصود كما حملته الآية إن كانوا هم المسؤولين على أن يكون معنى أهل الذِّكر فيها بالمستوى الأخفض من أهل العصمة وهم الَّذين تعلَّموا منهم مباشرة أو بالواسطة والأقل يبقى محتاجاً إلى تقوية خاصَّة لا محالة ومنه الواحد مع كونه المحفوف

ص: 399


1- سورة النحل / آية 43.

بقرائن التَّوثيق.

لأنَّ الواحد مقوِّم العدد، ولأنَّه من أهل الذِّكر بمعناه الثَّانوي والدَّاخل في الكلِّي البدلي على ما سيتَّضح أمره من الرِّوايات العلاجيَّة كرواية (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم)(1).

وإن كان الاثنان غير عادلين فيحتاجان إلى المطمئن وهو وثاقة كلِّ منهما، ومع ذلك يكونان من أهل الذِّكر بالمعنى الثَّانوي أيضاً.

وأمَّا العدل الواحد لو لم يطمئن به بسبب النِّسيان والغفلة ونحوهما، فضلاً عن غيره فقد مضى شيء عنه.

وسيأتي توضيح أمرهما ممَّا مرَّ حول آية النَّبأ وما قد يأتي لو لم تعضده، لكونه داخلاً في المفهوم والفاسق الثِّقة في المنطوق.

وأمَّا قبول ذلك اعتماداً على ما مضى ذكره من مثل قبول أذان الثِّقة وقبول قول صاحب اليد وعزل الوكيل بوصول خبر العزل به وثبوت الوصيَّة به على أساس من تبعيَّتها للأدلَّة الخاصَّة الآتي لكلِّ منها شيء يخصُّه بصراحة.

فإن بين كلِّ منها وبين العدل الواحد من القياس الواضح الَّذي لم تضمن مقبوليَّته العلميَّة مع الفوارق الواضحة ما لا يخفى أمره.

وإضافة إلى أنَّ خبر الثِّقة بينه وبين العدل الواحد عموم من وجه.

إذ يمكن أن يكون المقبول هو الثِّقة وإن لم يكن عادلاً، بينما العادل قد لا يكون مقبولاً حسب متابعة الأدلَّة الخاصَّة بالثِّقة بعد تبيُّن وثاقته المطمئنَّة كما في ظاهر آية النَّبأ المرتبطة بالفاسق فقط منطوقاً دون العادل الواحد الدَّاخل بالمفهوم لو عارضه ما هو أقوى منه لو كان يعرض العادل نسيان ونوم واشتباه ونحوها.

فإنَّ ما دلَّ على اعتبار خبر الثِّقة لا يشمل خبر هذا العدل الواحد مع نسيانه

ص: 400


1- كمال الدين ج2 ص483 ب 45 ح4، الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج2 ص 283.

واشتباهه على ما سيأتي.

وإن كان في مقابل ذلك قد يجتمع العدل الواحد لو حُفَّ ببعض قرائن التَّوثيق، وهوما يتساوى مع البيِّنة في الاعتبار ومع الفاسق الثِّقة أيضاً.

بينما الفاسق لو بان عدم الوثوق به من خلال التبيُّن الَّذي ذكرته آية النَّبأ في المنطوق يكون ضعيفاً أمامهما.

نعم إنَّ حجيَّة البيِّنة وشاهدي العدل بما مرَّ ذكره في الأمر الأوَّل والتَّواتر بما مرَّ ذكره في هذا الأمر الثَّاني بأدلَّة كلٍّ منهما وقول الثِّقة المطمئن به، سواء كان فاسقاً أو عادلاً وإن كان وحده ممَّا مضى ذكر شيء منهما وما سيجيء في الأمر الثَّالث قد تكون وبما قد يزيد بعض الشَّيء في الممدوحين من قبل أحد الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ولا أقل من أن يتساووا مع من أجرينا ذكرهم.

كما في رواية محمد بن قولويه قال:- (عن سعد بن عبد الله، عن أحمد ابن محمد بن عيسى، عن عبد الله بن محمد الحجال، عن العلاء بن رزين، عن عبد الله بن أبي يعفور ((قال: قلت لأبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ إنَّه ليس كل ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجئ الرَّجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه.

فقال: ما يمنعك من محمَّد بن مسلم الثَّقفي، فإنَّه سمع من أبي، وكان عنده وجيهاً)))(1).

و عنه أيضاً (عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى عن عبد الله بن محمَّد الحجال عن يونس بن يعقوب قال: ((كنَّا عند أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: أما لكم من مفزع أما لكم من مستراح تستريحون إليه ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النَّضري؟)))(2).

ص: 401


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج27 - ص144.
2- رجال الكشِّي ج1 ص337.

أقول: كل هذا مبني على اطمئناننا بما استدللنا عليه من التَّوثيق الشَّخصي المصرَّح به من قبل الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ للرُّواة وإن انفردوا بسبب وضوح القرائن.

وممَّا ورد حول هذا الأمر وبنحو يشمل معنى المروي المتواتر والمستفيض والجمع المنطقي كالاثنين، بل حتَّى الفرد الواحد بسبب دخوله في عموم الرُّواة، لأنَّه أحد أفراد العموم الشَّامل له في التَّشخيص ممَّا يقصده الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

ما رواه الشَّيخ في كتاب الغيبة عن جماعة عن جعفر ابن محمّد ابن قولويه وأبي طالب الزِّراري وغيرهما كلُّهم عن محمد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب قال: (سألت "النَّائب" محمد بن عثمان العمري ~ أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي فورد التَّوقيع بخط مولانا صاحب الزَّمان عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ:

أمَّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبَّتك، ووقاك من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا..... إلى أن قال:-

وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنَّهم حجتي عليكم وأنا حجَّةالله)(1).

أقول: هذا وما سبقه نماذج ممَّا ورد في توثيق الأشخاص الرُّواة من قبل الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ خصوصاً وعموماً.

ولنجعل رواية الشَّيخ قدس سره في كتابه أخيرة لنكتفي بها عن الإطالة على أن تكون روابط الوثوق والوثاقة الحاصلة بالمطمئنات محوَّلة فعلاً إلى خصوص الأزمنة الأولى من أيَّام قرب الإسناد لسهولة تصحيحها بما تثبته الآثار المتقنة عند أهلها ومن دون تصريح بالمنع عن الأخذ من راوي واحد بعينه.

وممَّا ورد في شأن التَّسنيد لما يُسبِّب قبول أذان المؤذِّن الثِّقة وإن كان منفرداً في أذانه لمنع قياس الأخذ من العادل الواحد به بسبب الفارق بينهما إلاَّ مع مكمِّل البيِّنة

ص: 402


1- الغيبة للشيخ الطوسي / 176، الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج2 ص283.

بالعادل الثَّاني أو القرينة المطمئنَّة بعدم غفلته عمَّا يوثق به في باب الإخبار ما عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال :-

(«لما هبط جبرئيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالأذان على رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كان رأسه في حجر علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ فأذن جبرئيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأقام.

فلمَّا انتبه رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قال: يا علي، سمعت؟

قال: نعم.

قال: حفظت؟

قال: نعم.

قال: ادع بلالاً فعلّمه، فدعا علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ بلالاً فعلّمه«)(1).

وصحيحة ذريح المحاربي قال (قال لي أبو عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ"صل الجمعة بأذان هؤلاء فإنَّهم أشد شيء مواظبة على الوقت")(2).

أقول: بناءاً على ما سبق وما يأتي من مقبوليَّة قول الثِّقة حتَّى لو كان من العامَّة على ما أثبتته منطوقيَّة آية النَّبأ، مع ضمان مصادفة دخول وقتهم مع وقتنا يوم الجمعة.

وصحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ -- في حديث -- (قال : لا تنتظر بأَذانك وإقامتك إلاَّ دخول وقت الصَّلاة، واحدر إقامتك حدراً.

قال: وكان لرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مؤذِّنان، أحدهما بلال، والآخر ابن أمّ مكتوم، وكان ابن أمّ مكتوم أعمى، وكان يؤذِّن قبل الصُّبح، وكان بلال يؤذِّن بعد الصُّبح.

فقال النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: إنَّ ابن أمّ مكتوم يؤذِّن بليلٍ، فإذا سمعتم أَذانه فكلوا واشربوا

ص: 403


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 3 باب (بدء الأذان والإقامة وفضلهما وثوابهما) ص 302 ح2 من لا يحضره الفقيه - الصدوق القمِّي - ج1 ص282 ح865.
2- الوسائل ج5 ص378 / أبواب الأذان والإقامة ب 3 ح 1.

حتَّى تسمعوا أَذان بلال)(1).

وقد أخرجها أيضاً في الوسائل بتمامها في كتاب الصوم بزيادة هذا الذيل: (فقال النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: (إذا سمعتم صوت بلال فدعوا الطعام والشَّراب فقد أصبحتم)(2).

كما غيَّرتِ العامَّة هذا الحديث وعكسته عن جهته بغضاً لبلال، وقالوا : إنَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قال:--

(إنَّ بلالاً يؤذِّن بليلٍ ، فإذا سمعتم أَذانه فكلُّوا واشربوا حتَّى تسمعوا أذان ابن أمّ مكتوم)(3).

أقول: هذه الرِّواية واضحة الدلالة على اعتبار أذان بلال العارف الثِّقة وكونه حجَّة على دخول الوقت مطلقاً ومنه الصَّباح في الصَّلاة والصِّيام بما لا يقاس عليه غيره.

وعن محمد بن علي بن محبوب عن محمد بن الحسين عن محمد بن عبد الله بن زرارة عن عيسى بن عبد الله الهاشمي، عن أبيه، عن جده، عن علي عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ قال (المؤذِّن مؤتمن، والإمام ضامن)(4).

أقول: في أذان المؤذِّن الواحد إذا كان عادلاً في الوقت المقرِّر الشَّرعي على ما في هذه الرِّوايات لو تطابقت على نهج القبول الشَّرعي ما هو إلاَّ لمقبوليَّته الصَّريحة فيها لا لما قد يستفاد أمره من آية النَّبأ من حيث المفهوم ولخصوصيَّة عند الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ

ص: 404


1- وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص389، أبواب الأذان والإقامة، باب8، ح1، 2، ط آل البيت.ج
2- الوسائل ج10: ص111 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب42 ح1.ج
3- صحيح البخاري: 1/ 210 الحديث 623، صحيح مسلم: 2/ 630 الحديث 37.ج
4- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج5 - ص378.

بالأذان من العادل وغيره إذا كان ثقة ودون أن يقاس العادل الواحد على أي مؤذِّن ثقة في هذه الرِّوايات إذا تجرَّد.

وأمَّا صحيحة ذريح الماضية فإن كانت الإشارة فيها من الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ إلى المسموع الواحد المنسوب إليهم مع وثاقته في نظر الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ فأذانه هو المطابق يوم الجمعة وإلاَّ فهو الَّذي قد تفسِّره الرِّوايات الأخرى عند المطابقة أيضاً كما كان في عهد رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأيَّام خلافة أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ إن لم تكن الرِّواية في عهد الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ وتعدُّد المذاهب محمولة على التقيَّة ولو بالصَّلاة معهم مسايرة ثمَّ صلاة الظُّهر بعد قيامهم للجمعة.

وممَّا ورد في شأن تسنيد قبول ذي اليد صحيحة أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الفأرة تقع في السِّمن أو في الزَّيت فتموت فيه فقال: ((إن كان جامدا فتطرحها وما حولها ويؤكل ما بقي، وإن كان ذائبا فأسرج به وأعلمهم إذا بعته)))(1).

أقول: حيث دلَّت كلمة (وأعلمهم) على وجوب الإعلام الإضافي إلى تكليفه الملازم، لكونه صاحب اليد المؤتمن على ما حدث تحت نظره ليد المشتري على القضية وتوابعها دلالة تامَّة لئلاَّ يتصرَّف بما يحرم.

ومثله: ما ورد عن عبد الله بن جعفر في (قرب الإسناد) عن محمد بن الوليد، عن عبد الله بن بكير قال: (سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن رجل أعار رجلاً ثوباً فصلَّى فيه وهو لايصلِّي فيه.

قال: لا يعلمه.

قال: قلت: فإن أعلمه؟

ص: 405


1- وسائل الشِّيعة: ج 12 ص 66 باب 6 من أبواب ما يكتسب به ح 2.

قال: يعيد)(1).

أقول: لأنَّ المعلِّم صاحب يد وهو أدرى بما كان تحت يده أنَّه هل كان ممَّا كان يصلح أن يصلَّى فيه أم لا؟ كما لو كان مغصوباً ونحوه.

و كصحيح معاوية بن عمار عن أبى عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ في حديث -- (قلت فرجل من غير أهل المعرفة ممَّن لا نعرفه يشربه على الثُّلث، ولا يستحلُّه على النِّصف يخبرنا أن عنده بُختجاً (أي عصيراً) على الثُّلث، قد ذهب ثلثاه، و بقي ثلثه يشرب منه؟

قال: نعم)(2).

وما ورد أيضاً في متفرِّقات الأبواب من القول بطهارة ما يؤخذ من يد المسلم مثل ما ورد في الحجَّام وأنَّه مؤتمن على تطهير موضع الحجامة(3).

أقول: وهذه الرِّوايات ناهضة بما كان أقوى من خبر العادل مع وحدته من حيث ذاته، حتَّى لو كان مدرك ذلك أخبار ضعيفة، لكونها قد يؤخذ بها إذا كانت مجبورة بعمل الأصحاب على ما سيتَّضح.

أو كانت جملة روايات فيها استفاضة مع صحاح يشد بعضها بعضاً، حتَّى أنَّ جزء البيِّنة قد يطرأ عليه ما يقدِّم قول الثِّقة عليه مطلقاً إذا نسي ونحو ذلك ولم ينسَ الثِّقة إذا كان صاحب يد.

فلا يصح الأخذ بخبر العادل الواحد قياساً على قوَّة مدارك صاحب اليد من دون قرينة توثيقيَّة له، أو جمعه بعادل آخر ينقل نفس خبره لفظاً أو معنى يتم انطباقهما، على ما يتمِّم لهما حجيَّة ذلك.

وممَّا ورد في شأن قول عزل الوكيل بعدم نفوذ وكالته رواية هشام بن سالم عن

ص: 406


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج3 - ص488.جج
2- وسائل الشيعة ج 17 ص 234 في الباب 7 من الأشربة المحرمة ح 4.
3- وسائل الشيعة باب 50 من أبواب النجاسات ، و 56.

أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ في رجل وكَّل آخر على وكالة في أمر من الأمور وأشهد له بذلك شاهدين، فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر فقال: اشهدوا أنِّي قد عزلت فلاناً عن الوكالة، فقال:--

(إن كان الوكيل أمضى الأمر الَّذي وكَّل فيه قبل العزل فإنَّ الأمر واقع ماض على ما أمضاه الوكيل، كره الموكِّل أم رضى.

قلت: فإنَّ الوكيل أمضى الأمر قبل أن يعلم العزل أو يبلغه أن قد عزل عن الوكالة فالأمر على ما أمضاه؟

قال: نعم.

قلت له: فإن بلغه العزل قبل أن يمضى الأمر ثم ذهب حتى أمضاه لم يكن ذلك بشيء؟قال: نعم إن الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس فأمره ماض أبدا، والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه بالعزل عن الوكالة).

أقول: وبهذا وأمثاله مع البناء عليه لا يصح أن يقاس عليه الاعتماد على خبر العدل الواحد أو يساويه دون ما يوثِّقه شيء آخر أو يضاف إليه ما يكمِّل البيِّنة.

وممَّا ورد في شأن تثبيت الوصيَّة بخبر الثِّقة ما عن إسحاق بن عمَّار، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال:- (سألته عن رجل كانت له عندي دنانير وكان مريضاً.

فقال لي: إن حدث بي حدث فأعط فلاناً عشرين ديناراً، وأعط أخي بقيَّة الدَّنانير، فمات ولم أشهد موته فأتاني رجل مسلم صادق.

فقال لي: إنَّه أمرني أن أقول لك: انظر الدَّنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي فتصدَّق منها بعشرة دنانير أقسمها في المسلمين ولم يعلم أخوه أنَّ له عندي شيئاً، فقال: أرى أن تصدَّق منها بعشرة دنانير كما قال)(1).

ص: 407


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 7 ص65.

أقول: وبهذه الموارد الأربعة الَّتي ذكرنا بعض أدلَّتها، مع كون كلِّ منها خارجة بالنَّص عمَّا حدَّدناه من أدلَّة البيِّنة، وأدلَّة التَّواتر، وأدلَّة الأخذ من الثِّقة وإن كان فاسقاً عن مثل آية النَّبأ بعد التَّبيُّن، وعدم صلاحيَّة كونها مقياساً لتقويم حجيَّة خبر الواحد العادل المجرَّد وإن كان يسهو ويغفل وينسى وينام.

إلاَّ أنَّها تفيد فائدة كعوامل مساعدة بذكر الوثاقة الَّتي اعتبرت في أدلتها، كما تقتضيه من ذلك آية النَّبأ للفاسق الثِّقة مع العدل الواحد المجرَّد الثِّقة في تساوي ما بينهما، ولو بجامع نسبة العموم والخصوص من وجه، مع عدم قبول تصديق خبر الفاسق بعد التَّبيُّن الفاشل من الآية، وعدم قبول تصديق خبر العدل الواحد بعد تبيُّن عدم الوثوق به من الآية أيضاً، إلاَّ مع إضافة العدل الآخر إليه.

الأمر الثَّالث: وهو تخصيص الكلام على مبنى ما قد يُقال (إثبات الشَّيء لا ينفي ما عداه)، وهو الَّذي يمكن تصحيح ثبوته على أساس من الإجمال دون التَّفصيل الكامل، وهو ما يعني بقاء الحاجة التَّامَّة في قضايا كثيرة إلى الحديث عن خصوص الخبر الواحد لانعقاد الأمل وطيداً بالعثور على الضَّالَّة المنشودة فيما بين عهدي يسر الأدلَّة العالية أيَّام الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ قديماً وما يقرب منها.

وعسرها كهذه الأيَّام إلاَّ ما بقي من القليل الَّذي قد لا يكفي مع سعة الفقه المعهودة.

فإنَّ البيِّنة وقيود اعتبار حجيَّتها بخصوص الشَّاهدين العادلين وإن أمكن السَّعي الآن لتحصيل مصاديق كثيرة منها، لسدِّ حاجة الفقيه، إلاَّ أنَّها في مقامات خاصَّة من الفقه دون بواقيه مع سعته العظمى.

بينما أخبار التَّواتر الأشد منها في المقام لقلَّتها في الأزمنة الحاضرة وإن كثرت في السَّابق أو أنَّ كثيراً منها اليوم بعد أن وصلتنا بسبب الفارق الزَّمني واعتراض الحوادث الفتَّاكة عفويَّة وعدائيَّة.

ص: 408

وصلتنا ملحقة بأخبار الآحاد ونحوها، ممَّا صارت محوجة إلى التَّأمُّل والتَّدقيقالفنِّيين دراية ورجالاً في سبيلهما.

فأصبحنا بين هذا وذاك وغيرهما بأمس الحاجة إلى النَّظر من جديد في نوع الخبر الواحد النَّاقل لمثل البيِّنات والمتواترات لا عن خصوص الخبر الواحد وحده، وهو موكول إلى محلِّه من أصولنا وغيره.

ص: 409

خاتمة جزء مباحث الألفاظ

الأصول ومعالجة بعض النُّصوص المختلف فيها

بين الفريقين وما شابه ذلك

المدخل الأوَّل

بعد أن أنهينا ما أوردناه من مواضيع ما يخص ركنيَّة السنَّة المتمثِّلة بما يخص الواردات عن العترة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وما يتناسب معها من غيرها وما يحتاج إلى الدِّراسة والنَّظر من ذلك الغير والملفَّقات أو الموضوعات والآراء الخاصَّة على اختصار كلِّ منها نوعا.

أحببنا أن ننبِّه بهذه الخاتمة الجامعة لشتاتها، ولمحاولة ما به الحث على جمع شمل عموم المسلمين.

وبالأخص أهل المروءة والإنصاف منهم ممَّن يحب أن يعتز بالبقاء على الثَّوابت المشتركة المهمَّة حاقنة للدِّماء ومحقِّقة للألفة والمحبَّة وطاردة للعدو المحارب للجميع وفاسحة لمجال المناقشة الموضوعيَّة التَّعاونيَّة البريئة الهدَّامة للفرقة والبنَّاءة للوحدة حول بقاء الأمور الممكنة لنصرة الحق والحقيقة مع الاحترام المتبادل بين الجميع.

المدخل الثَّاني

إن من الأمور المهمَّة الَّتي ينبغي التَّعرُّض لها بحثاً ونقاشاً لتسديد السنَّة الواردة عن العترة المطهَّرة عند إمكانهما، أو الأعم من الجهة الرِّجاليَّة أو الحديثيَّة دلالة ودراية -- ومنها الرِّوايات المنسوبة إلى النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عن بعض الصَّحابة من غير العترة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ -- إن لم تنسجم مع قواعدها كما يرام إجمالاُ وتفصيلاً واقعاً، أو حتَّى ظاهراً أو

ص: 410

احتيج إلى التَّأمُّل فيها، إن أمكن الجمع أو التَّصحيح، لصالح الجميع، أو لخصوص صالح الإماميَّة للتَّقريب أو التَّقارب مع صالح الآخرين.

أو لخصوص صالح الآخرين لتقريبهم بالنَّحو الأكثر، مع ما لو أمكنت الاستفادة للإماميَّة في أجوائهم كما في بعض العوامل المساعدة منه، لتقوية مسلكهم في نظر الآخرين، أو عدم شدَّتهم عليهم، أو للتَّقريب على قاعدة الإلزام.

حتَّى شاع النَّقض والإبرام العلمي بينهم أو الجدل المنطقي الَّذي قد يؤدِّي إلى إمكان الاستفادة منه بالتَّالي عن مثل عرض ما أشكل أمره من بعض الرِّوايات على الكتاب الكريم وثوابته المعروفة.

أو السنَّة المتقنة بالعترة ورواياتها العلاجيَّة عند التَّعارض ونحوه.

أو روايات عموم المسلمين الَّتي لم تخرج منها العترة، وهي المشتركات عند صحَّة التَّوجيه بذلك وبيد أكفَّاء الصِّناعة العلاجيَّة، إن وفِّقوا للقيام النَّاجح بهذا الأمر مع بُعد الزَّمن عن زمن الصَّدر الإسلامي.

وفي حالة عدم إمكان التَّوجيه بالجمع ونحوه، فالأمر فيها لابدَّ وأن يصل إلى الهجر وعدم الاعتبار -

هي روايات قد توجد في بعض الكتب الخاصَّة أو العامَّة أو تطفح على بعض السنَّة منها السنَّة أهل الفضل الخواص أو أهل الثِّقافة العامَّة.

وإن كنَّا قد اخترنا بعض الرِّوايات المنسوبة للأخوة العامَّة لبيان شيء أو بعض شيء ممَّا يتناسب من الحديث عمَّا بيننا وبينهم للتَّقريب والتَّقارب.

ونختار الآن منها في الخاتمة عند التَّوسُّع الآتي أو بعضه ممَّا هو أوسع ممَّا مضى ذكره في (اختلاف أمَّتي رحمة)(1) بالدَّرجة الأولى.

ص: 411


1- 140، الأسرار المرفوعة ص 50 ، الجامع لأحكام القرآن ( تفسير القرطبي ) ج4 ص 151 ، الجامع الصغير للسيوطي ص 24 ، المقاصد الحسنة للسَّخاوي ص 26.

أو حديث (أصحابي كالنُّجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (1) بالدَّرجة الأقل.أو حديث (يد الله مع الجماعة)(2) ولو بنحو من الإشارة خوف الإطالة الأكثر.

إلاَّ أنَّ المقصود هو الاكتفاء بنماذج نسأل الله أن تكون معبِّرة عن كل حديث ورواية أشكل أمرها ليطلب حلَّه على ضوء ما بينَّاه ونبيِّنه أو تترك حين تسبيب

ص: 412


1- قال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (ج1 / ص144 و145) : موضوع. ورواه ابن عبد البر في (جامع العلم) (2 / 91) قال ابن عبد البر : هذا إسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث بن غصين مجهول.ج ورواه ابن حزم في (الأحكام) (6 / 82) من طريق سلام بن سليم قال حدثنا : الحارث بن غصين، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن (جابر) مرفوعاًً به، وقال ابن حزم : هذه رواية ساقطة. فقد روى عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قال: ما وجدتم في كتاب الله عزّ وجلّ فالعمل لكم به لا عذر لكم في تركه، ومالم يكن في كتاب الله عزّ وجلّ وكانت في سنّة مني فلا عذر لكم في ترك سنّتي، وما لم يكن فيه سنّة مني فما قال أصحابي فقولوا، فإنّما مثل أصحابي فيكم كمثل النّجوم، بأيّها أخذ اهتدي وبأىّ أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة.ج قيل: يا رسول الله ومن أصحابك؟ قال: أهل بيتي. (رواه الصّدوق رحمة الله في معاني الأخبار ص 156، قال: حدّثني محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن محمّد بن الحسن الصفّار، عن الحسن بن موسى الخشاب، عن غياث ابن كلوب، عن إِسحاق بن عمار، عن جعفر بن محمّد عن آبائه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، قال: قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ما وجدتم...، ورواه الصفار رحمه الله في بصائر الدرجات 1/11. ونقله في بحار الأنوار 2/220 والاحتجاج، 2، 259).
2- رواه الترمذي (2167).

المشاكل على الأمَّة مع تقديم أخلاق المحبَّة والاحترام على مسبِّبات إثارة الفتن.

والبحث حول الحديث الَّذي نختاره الآن عموماً مع الإشارة إلى مصادر ضعفه عند الإماميَّة وعند العامَّة ما ذكرناه وسنذكره الآن وهو الأوَّل تحت الخط وأسفل الصَّفحة ومن بعده الاثنين الأخرين.

لكون الأحاديث الضِّعاف والمشكلة والمتعارضة لا يمكن الإعراض عنها أو هجرها وإسقاطها بمجرَّد ادِّعاء هذا عنها وبكل بساطة.

وعلى الأخص لو قلنا بالوثوق لا بخصوص وثاقة الرَّاوي وهي الضِّعاف المجبورة بعمل الأصحاب وإن استقلَّت المدرسة القابلة الأخرى وشاع أمرها في الآونة الأخيرة، وهي الَّتي نهج عليها السيِّد الأستاذ السيِّد الخوئي عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

وهي خصوص وثاقة الرَّاوي معارضة للمسألة المشهورة قديماً.

وسوف يأتي التَّعرُّض لبحث المقامين واختيار ما تساعد عليه الأدلَّة في حينه بإذن الله وتوفيقه

والبحث أيضاً حول هذا الحديث الأوَّل وما بعده نذكره كميزان للجميع في القبول أو الرَّفض وعلى ضوء بعض العلاجيَّات ويتبعه بعض آخر ولو بنحو الإشارة كنموذج للتَّطبيق العملي تجربيَّاً، وهو يستدعي بيان ثلاثة مطالب:-

المطلب الأوَّل

مقدِّمة البحث

إنَّ أهميَّة طرح هذا البحث في هذه الموسوعة الأصوليَّة - قسم السنَّة ومباحث الألفاظ - يظهر بعد تقديم مقدِّمات، ثلاث وهي:

أوَّلاً: إنَّ كثرة المضاربات الفكريَّة والمناقشات المذهبيَّة - بين المذاهب الإسلاميَّة

ص: 413

وفرقها المتعدِّدة الَّتي سبَّبها أعداء الدِّين الواحد والحقيقة الواحدة طول التَّأريخ وعرضهمن الخارج وخونة الدَّاخل، حتَّى أوصل ذلك في شدَّته بأن يكفِّر بعضهم بعضاً -

قد أثَّرت أثرها في المجتمع الإسلامي الواحد ذي الكفاءات الدَّامغة في كثرة جوامع الكلم وأمور التَّوحُّد، الَّتي لو فكَّر الغيور بأدنى تأمُّل في شأنها لابدَّ وأن يصل إلى أنَّ هذه الكفاءة لا يجوز أن يسمح في أمرها ساعة واحدة لأن توصل الأمَّة الواحدة لأن تتفرَّق هذا التَّفرُّق المهلك والمشتِّت.

ومن ذلك الآراء الفقهيَّة الَّتي لا شكَّ في أنَّ أساسيَّاتها موحَّدة غالباً مهما حصل تفاوت في الجزئيَّات حتَّى في أزمنتنا هذه وغرابة الباقي.

ثانياً: إنَّ اختيارنا في هذا الموضوع الأصولي العام بمقارنته بحديث (اختلاف أمَّتي رحمة) مثلاُ لم يكن كما مرَّ لخصوص هذا الحديث وإن لم يكن ثابتاً عندنا بخصوصيَّته اللفظيَّة.

وإنَّما لمضمون هذه الهيكليَّة المرويَّة في كتب إخواننا العامَّة بأكثر من حديث وحديث ولو في بعض التَّشابه ولو ظاهراً.

ومثل ذلك أنَّهم قد يروون (أصحابي كالنُّجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) إذا كان المبنى عندهم هو ما يؤدِّي إلى جواز الاقتداء بأيِّ شخص منهم، حتَّى لو تفاوتوا في العقيدة - كالمنافقين - وفي العمل كالمجتهدين في مقابل النصوص، كترك ولاية أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ ومتعة الحج ومتعة النِّساء و (حيَّ على خير العمل) و الالتزام ب- (الصَّلاة خير من النَّوم) ونحو ذلك.

كما أنَّ في مضمون حديثنا الحالي الأوَّل ربَّما يكون وحدة النَّتيجة المذهبيَّة مع التَّبعثر الواضح فيها لو ضَّم إلى الثَّاني مثلاً إن صدق التَّشابه الظاهري ولو في الجملة.

وهذا في نفسه خطر جدَّا ما لم يمكن التَّوجيه الصَّحيح أو تسقط هذه الرِّواية

ص: 414

وأمثالها عن الاعتبار.

وعلى أساس ما يجمع الحديثين على مستوى القول بالتَّصويب - الآتي بيانه بالمنع - ولو بالبيان المختصر لما مرَّ بيانه سابقاً.

لنبيِّن الأمر الصَّحيح من معنى اختلاف الأمَّة في حديث عنوان بحثنا هذا على فرض صحَّته حتَّى عندنا ولو من حيث المعنى.

هو وما يروونه من الحديث الآخر وأمثاله.

مع إمكان الحمل على الصَّحيح منهما ممَّا يزيل العموميَّة الَّتي قد تدخل التَّصويب من جهة المقارنة مع الفقه العظيم في شأنه وأدلَّته العظيمة الَّتي لا تتناسب مع هذا التَّصويب الآتي والموقع في شرك التَّناقض الخطر.

والَّذي لو عمل التَّناقض فيه عمله لأدَّى إلى إمكان القول بأنَّ المشرِّع تعالى له الحق في أن يفعل كل شيء حتَّى ما يستحيل عليه في تكوينه وتشريعه.

بينما ما نريده نحن الآن في التَّصحيح هو أن لا يعطي إلاَّ قرائن الحمل على ما يؤدِّى إلى الحكم الواحد وإن كان بين المختلفين بعض حالات الاختلاف عند إمكان التَّلاقي على إجماله وبه لا يترك للود قضيَّة.ثالثاً: بعد فرض صحَّة الحديث -- ولو في الجملة وخضوع الخصم لإمكان تصحيح أو دفع الشبهات العالقة في الأذهان في أي بحث واقعي وموضوعي بالقرائن ولو من أحاديث أخرى صحيحة، أو أصح فضلاً عن الآيات الَّتي لابدَّ من إرجاع أي حديث يعسر فهمه إليها، لكونها المرجع وذات الأصالة في نصوص الله ومحكماته وظواهره أو بعضها --

فإنَّ الاختلاف في الرَّأي قد يقع للتَّفاوتات في النَّظر عند كل أحد وفي كل أمر لم يصل إلى حد القطع واليقين، وحسب مستوى الاطلاع الشخصي الثَّقافي للأشياء بالاجتهاد الاصطلاحي، وحسب ما يؤدِّيه اللَّفظ المسموع من المقابل والمقروء في

ص: 415

المكتوب.

ومن ذلك الأحاديث الواردة مع غضِّ النظر عن صحَّة سندها وعدمه إن لم يؤثِّر ذلك عليها شيئاً سلبيَّاً على المعنى الصَّحيح المجمل، أو نقلها بالمعنى كتصرُّف بعض الرُّواة، ممَّا قد يسبِّب التَّأثير عليه، وإن صح الأساس حتَّى في نظر من كان أعلم من غيره من سعاة التَّدقيق.

سواء كان ذلك في الأمور الاعتقاديَّة الكاشفة عن المعقول الَّذي هو مدركها نوعاً، أو كانت من نصوص فرعيَّاتها من الفقه العام، أو غيرها من العلوم والمعارف الأخرى الَّتي أهمُّها وأخطرها - في مجال التَّشريع الإلهي الَّذي لا يصح التَّجاوز عنه وعليه ولا يجوز - هو الفقه، لكون أهم مصادره الكتاب والسنَّة الشَّريفة.

وهذه حقيقة لها مجالها الواسع من المصاديق ومن أقدم العصور، وحتَّى هذا الحين.

ولهذا كثرت الملل والنِّحل والمذاهب والمشارب حتَّى تجاوز أمر الاختلاف إلى حدِّ الجدل الفارغ، وحب ذلك وإلى حدِّ الفوضى عناداً في بعض الأمور.

حتَّى صحَّت المبالغة بالقول (ما من مسألة في الكون إلاَّ ووقع الخلاف فيها)، على الإجمال، وكما ورد في القرآن الكريم [كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ](1)، وقال أيضاً [قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ](2)، أي لكون الدُّنيا دار ابتلاء والآخرة دار امتحان وحساب.

ومن هذا المنطلق قال أحد الشُّعراء:--

نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راضٍ والرَّأي مختلفٌ(3)

ص: 416


1- / آية 32.ج
2- / آية 84.
3- هذا البيت من المنسرح لقيس بن الخطيم.

ولكن لم يكن هذا النَّوع من الاختلاف هنا مشروعاً بهذا النَّحو إلى هذا الحد وبدوام، كما يزعمه الزَّاعمون ويهواه هواة التَّفرقة والفوضى عقلاً ونقلاً، أو نقلاً وعقلاً وبالنَّحو الَّذي يتقيَّد به كل العقلاء، حتَّى لو لم يخلوا وطباعهم وحسن فطرتهم.

إلاَّ ما لو رأى من استفرغ وسعه من ذوي النَّظر والاجتهاد - الطَّبيعيين السَّديدين حسب التَّجربة العلميَّة المتينة رأياً في غير ما اتَّفق عليه عقلاً ونقلاً بين العقلاء والمسلمين والمؤمنين - قد يخالف رأي الآخرين من ذوي الآراء الأخرى.أو ما يخالفه الآخرون فيه، وعلى نهج القواعد الأصوليَّة المتَّفق عليها أيضاً في كل علم حسبما يختص به من المبادئ والأدلَّة والقواعد.

وعلى أساس ما إذا لو ساعد الدَّليل أي دليل صحيح كان على شيء من الأشياء ومن أي قبيل يكون كذلك للوصول إلى الحق ببراءة تامَّة وعلى قصد التَّوحد في النَّتيجة لو أمكن، فضلاً عن أهميَّة القصد القربي السَّابق.

ومن ذلك مصادفة الإتِّفاق أو الوفاق الاصطلاحيِّين بين بعض رجالنا وبعض رجال الأخوة العامَّة.

أو أساس إن لم يمكن أن يتوصَّل إلى تلك النَّتيجة الموحَّدة، أو المصطلح الطَّريقي الواحد، بمثل عدم مساعدة الدَّليل الَّذي للآخر عند كلِّ من القبيلين لقام كل منهم بالقصد إليها وتبنيِّها وإلقاء مسؤوليَّة عدم الوصول إليها على كلِّ من سبَّب التَّفرقة.

فإنَّه حينئذ لا مانع من البقاء على هذا الاختلاف لأجل الوصول إلى الحق والحقيقة المنشودة المتصوَّرة، على ما سيأتي تبيُّنه بوضوح عند ذكر الاحتمالات قريباً أكثر مع ضبط الأعصاب عن أن تتعصَّب، بل بجعل الاحترام المتبادل حالاًّ محلَّها.

أمَّا لو حصل عناد وإصرار على الخلاف للاختلاف لا للائتلاف من الجميع -- والعياذ بالله، وهو ما لا نبتغيه حتَّى ولو من حيث القصد الصَّحيح منَّا باطناً في بداية

ص: 417

البحث من حيث تصوَّرنا السَّليم علميَّاً أو منصفي الآخرين، أو توهَّماً كالبناء على روايات (الرُّشد في خلافهم)(1) إن طبِّقت عموماً واطلاقاً، أي على خلاف أهل الخلاف من العامَّة، لعدم تناسب موقع هذا الأسلوب من الوجهة الظاهريَّة ترجيحاً للتَّقيَّة على ما سيتَّضح في الفقه من مقتضياتها، لأنَّ الضَّرورة تقدَّدر بقدرها --

فلن يكون ذلك مقبولاً لا عقلاً ولا نقلاً من مواقعها دائماً، لأهميَّة التَّريُّث في الأمور وخطورة التَّسرُّع في العناد والصراع للخلاص من حصول العداواة أو زيادتها.

وأمَّا لو حصل اختلاف في اليقينيَّات والضَّروريَّات المتوِّهمة بدون تركيز على قاعدة عادلة كما يقول القائل:-

وكل يدَّعى وصلاً بليلى *** وليلى لا تقر لهم بذاكا

فهذا أدهى وأمر ومن أي طرف من الأطراف حصل.

فضلاً عمَّا لو كان من جميع من يشكل أمر بعض العباد كفئات وأحزاب المنقلبين على الأعقاب والنَّاكثين والقاسطين والمارقين وأمثالهم في تعاملهم ضدَّ أهل الحق.

فهذا لم يكن بمجموعه مقبولاً كذلك، بلا مجال للمتابعة أو النِّقاش.

بل حالهم أسوء حالاً ممَّن يريد التَّعامل معهم في أخبارهم من حالات الظن الَّذي يستهجن العمل به، سواء في الاعتقاديَّات كالضَّروريَّات منها مثل الأصول الخمسة وهي (التَّوحيد والعدل والنبوَّة والإمامة والمعاد يوم القيامة).

أم في الفقهيَّات كالضَّروريَّات واليقينيَّات الفقهيَّة كالأركان الدِّينيَّة الخمسة وهي (الصَّلاة والزَّكاة والحج والصَّوم والولاية) والفروع العشرة المجمع عليها من حيث

ص: 418


1- وسائل الشيعة: ج26 ص158 ب4 ح32712، الكافي ج1 ص8، وفي رواية أخرى (ما خالف العامَّة ففيه الرَّشاد).

الأساس لدى الإماميَّة وهي (الصَّلاة والصِّيام والحج والزَّكاة والخمس والجهاد والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والتَّولِّي والتَّبرِّي) وإن اختلف في فروع هذه الفروع بين المذاهب.

لأنَّ منه لابدَّ وأن تكون الأمور المتَّفق عليها بين الجميع هي ممَّا لم يختلف فيه اثنان من المسلمين.

فمن أتقن توحيد الله بالبداهة ونحوها أو اعتقاده بوجوب الصَّلاة ضرورة لا يمكن أن يعارضه يقين آخر في مقابله في كل من المقامين.

وقد أثبتت الموانع الإلهيَّة والشَّرعيَّة وجودها في الأدلَّة الكثيرة جدَّاً فمنعت التَّفرقة والاختلاف كقوله تعالى [وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا](1) وقوله [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ](2).

وكقول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في حديث افتراق الأمَّة المشهور (وستفترق أمَّتي من بعدي ثلاث وسبعون فرقة، فرقة ناجية والباقون في النَّار)(3)، للإشارة بهذا الحديث بسوء اختيار الأمَّة لما عدا مسلك الفرقة النَّاجية.

وأخرج عن سعيد بن يحيى بإسناده عن عاصم عن أبي ذر عن عبد الله بن مسعود قال:-- (تمارينا في سورة من القرآن فقلنا خمس وثلاثون أو ستة وثلاثون آية.

قال فانطلقنا إلى رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ فوجدنا عليَّاً يناجيه.

قال فقلنا إنَّما اختلفنا في القراءة قال فاحمرَّ وجه رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وقال إنَّما هلك من كان قبلكم باختلافهم بينهم.

ص: 419


1- / آية 13.
2- / آية 103.
3- سنن أبي داود 3/896، صحيح الجامع الصغير للسيوطي 1/156 ، مشكاة المصابيح 1/61، الدر المنثور 2/286.

قال ثمَّ أسرَّ إلى علي شيئاً فقال لنا علي إنَّ رسول الله يأمركم أن تقرؤوا كما عًُلِّمتم)(1)، وغير ذلك الكثير.

فتعيَّن أنَه يكون إمكان أو وقوع الخلاف فيما دون مرتبة العلم اليقيني أو الظن المعتبر هو الَّذي وُفِّق لإدراك المتَّفق والمجمع عليه من الجميع مع معرفة طريق الاجتهاد الصَّحيح ونزاهة القصد المحقَّق في الأصول.

بل قد يكون الاختلاف في هذه الظنيَّات واقعاً لا من جهة المطلب الواقعي في الحكم.وإنَّما هو من جهة الظاهر بسبب تفاوت الأدلَّة واختلافها في تشخيص النَّص أو الظاهر والمنطوق أو المفهوم، أو تفاوتها من حيث الدِّلالة أو من حيث السَّند وبين تواتر الأدلَّة سنداً أو آحادها المجبورة والمحفوفة بالقرائن أو آحادها.

بناءاً على الأخذ بها واختلافها لا لوحدها إن صحَّت سنديَّاً في أعاليها أو صحَّت في الجملة على ما سيجيء الكلام حول التَّعبُّد في مجالها.

وإنَّما الضَّير فيها لكونها قد زجَّ في ضمن موجودها الشُّبهات كروايات الزَّنادقة والإسرائيليَّات افتراءاً لجميعها أو تلفيقاً بين الصَّحيح والسَّقيم وغير ذلك من الموضوعات الَّتي قد تشوِّش بال المتقنين من المحقِّقين.

فضلاً عن غيرهم وفي جميع المجالات الاعتقاديَّة والعلميَّة الأخرى الَّتي أهمُّها الفقهيَّة وأصولها وبالأخص في حين الغيبة الكبرى الَّتي ملئت أيَّامها بالمشاكل على رؤوس أهل العلم "رحم الله الماضين وسدَّد الباقين" من الكوارث الطَّبيعيَّة وغير الطَّبيعيَّة على الأصول والأدلَّة المتنوِّعة ونقدر أن نظم معهم بعض الليِّنين من روَّاد

ص: 420


1- تفسير ابن كثير ج1 ص 127، زوائد المسند (1/5، 106)، ورواه أحمد (3992، 3993)، والطَّبري في تفسيره (1/12)، وأبو يعلى (8/5057)، وابن حبان (1783)، والحاكم في صحيحه (2/223، 224).

الحقيقة.

وإن كان بعضهم من غير الإماميَّة - ممَّن لم يتزمَّت بالخلاف للاختلاف كما مرَّ، ومع ذلك وعن طريق الاجتهاد الصَّحيح أو ما يقرب منه من حيث النَّتيجة من كل فضلاء المسلمين أو غيرهم ولو عن الطُّرق العاميَّة من الآخرين لمحاولة الجمع بين الفريقين من حالات التَّقريب -

قد ظهر منهم ما به الوفاق أو حسن الاتِّفاق على نتيجة واحدة في كثير من الفروع ومنها الفقهيَّة للمسلمين جميعاً أو نوعاً أو كمذهب مستقل مسالم أو أكثر مع مذهب أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

ولكن مع الأسف قد كثر أهل الباطل، بل ازدادوا وقلَّ روَّاد الحق، بل ندروا حتَّى أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً وبوضع يرثى له، ويقابله عدو نوعي واحد شرس متكاتف بين كل شعوبه على باطله من جرَّاء الصِّراع الدَّاخلي والعناد فيه وإن استورد المدرك المثير لذلك من الزَّنادقة والوضَّاعيين والإسرائيليين كما مرَّت الإشارة إليه.

ولذلك فضَّل الباري تعالى هذا الأمر، أعني النِّقاش البنَّاء للوئام والالتئام، والهدَّام للخصام بين أكبر عدد من الأنام، بأحسن الأساليب الأخلاقيَّة حتَّى مع روَّاد الخلاف المعاندين وأهل الكفر الحاقدين المحدودة بحدود العزَّة للمؤمنين وعدم الإذلال لمقام أنفسهم، وشدَّد على كل متزمَّت حاقد بقوله في سورة الكافرون [قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)](1).

ولأجل كون الاختلاف قد يكون من جهة الأدلَّة كما مرَّ، فلابدَّ من أن يكون الحق واحداً في باطنها لا يتعدَّد وإن حصل ذلك التَّعدُّد البريء في الرَّأي فالمصيب له

ص: 421


1- / آية 1.ج

أجران والمخطئ له أجر واحد على ما أفادته الأدلَّة أيضاً.وقال بذلك الإمامي وأقرَّ بعض غيره به من بقيَّة المذاهب، على أن لا يكون الكل هو حكم الله في الواقعة الواحدة وفي الواقع ما إذا تعدَّد وتجاوز الرَّأي الواحد إلى رأيَّين حتَّى بناءاً على المستفاد الظاهري من الأدلَّة.

لكون الظاهر لو كان هو ذلك الدَّليل النَّصي الَّذي قد يفيد اليقين فلا قيمة له ما دام في قباله شيء آخر مثله مضادَّاً له أو العكس، وهو النَّص الَّذي يقابله الظَّاهر.

ولذلك لا قيمة لما يراه المصوِّبة حينما يقولون بتعدُّد حكم الله في الواقعة مع التَّعارض في القضيَّة الواحدة لو لم تتعدَّد جوانبها، كما بين العموم والخصوص من وجه أو العموم والخصوص المطلق، والحق هو ذلك الملتقى إن حصل من العمومين.

بل يوعز ذلك إن حصل تفاوت إلى اشتباههم في أحد الرَّأيين إن كان ثانيهما صحيحاً تامَّاً دون غيره.

ثمَّ إنَّه قد يتصوَّر البعض من الأخوة العامَّة أحقيَّة التَّصويب، وعلى الأكثر في خصوص المجال الفقهي لو لم يخالفونا كثيراً في العقائد، وعلى ما لم يثبت له أي مدرك أصولي.

ما دام الحق لابدَّ أن يكون واحداً لا يتكثَّر عند الله ورسوله لو حصل اختلاف فيه في رأيهم الَّذي يرونه ضدَّ المذهب الحق الَّذي يراه المخطِّئة، الَّذين يقولون بأنَّ المجتهد قد يصيب وقد يخطئ عند تعدُّد الآراء وهم نحن الإماميَّة.

لا في كل ما تعدَّد من الآراء في حديث اختلاف الأمَّة المذكور وأمثاله.

مع أنَّ الحق على خلافه، لأنَّه من المصادرة أن يكون مدَّعى الإصابة يجعل رأيه هو محلُّها بلا أن يثبت لها دليلها، والمصادرة معناها جعل الدَّعوى عين الدَّليل، والمناقضة بما يقابله من الآراء المستدل عليها بأدلَّتها.

ولذلك كان لأبي حنيفة في سابق ما ذكرناه عنه من المخالفات العناديَّة الكثيرة

ص: 422

جدَّاً لأستاذه الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وإن كان بتحريض طاغوت عصره العبَّاسي عن طريق القياسات التَّمثيليَّة الباطلة، وعلى أساس خصوص مباني أحاديث قليلة.

ولذلك ورد عن الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ قولهم عن أمثال هؤلاء وحينما يلتزمون بهذه الأساليب بإصرار (الرُّشد في خلافهم)(1) كما مرَّ.

ولذلك فلابدَّ من التَّدقيق في أمر ما يناسب الصَّحيح، لإحرازه ولإفرازه عمَّا لا يناسبه في محوريَّة هذا الحديث، الَّذي قد يقبله أهل الحق بما يتنافى مع مقرَّرات أهل الخلاف، لكون أهل الحق مع أهل الرُّشد دائماً وإن فسِّروا الحق ويفسِّره الآخرون بما يشتهون.

ص: 423


1- وسائل الشيعة: ج26 ص158 ب4 ح32712، الكافي ج1 ص8، وفي رواية أخرى (ما خالف العامَّة ففيه الرَّشاد).

المطلب الثَّاني

موارد إمكان اتِّفاق هذا الحديث وأمثاله

مع الأدلَّة الصَّحيحة الأخرى من عدمه

وبعد تكامل هذه المقدِّمات الثَّلاث ولو مختصراً نقول:

بناءاً على ثبوت هذه الرِّواية الشَّريفة عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ السَّابقة (اختلاف أمَّتي رحمة)، لكونها قد تكون من النَّبويَّات الَّتي لم تُرو عن طرق أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ إلاَّ ضعيفة، أو إن رواها بعض أصحابنا من خصوص طرق العامَّة كما هم كذلك.

بل حتَّى مع عدم ثبوتها كذلك كما مرَّ ذكره، إلاَّ من جانب واحد وضعيف.

ولكن لأنَّه ربَّما ورد في بعض النُّصوص الصَّحيحة ولو في الجملة وبلسان مختلف، ما قد يبيِّن بعض مضامين ما تحمله هذه الرِّواية إن لم نقل كل مضامينها، ممَّا قد يصحِّح الحمل على التَّوافق المضموني حتَّى بين الخاصَّة والعامَّة.

لكون الصَّحيحة قد تكون بألفاظ أخرى، فضلاً عمَّا لو كانت أقرب لألفاظ هذه الرِّواية.

وقد تصدق بعض النُّصوص لمضامينها العالية المرتبطة بإمكان توجيه هذه الرِّواية ولأدلَّة مقوِّمة أخرى، وإن لم تكن تلك النُّصوص في صحَّة سنديَّة تامَّة.

لإمكان الأخذ بها بنحو العوامل المساعدة والمؤيِّدة، أو كانت صحيحة ولكنَّها منقولة بالمعنى الَّذي لا يخل بالمضامين العالية، كما سيتَّضح الآن.

لبيان ما يمكن تحصيله من مضامين التَّوافق مع بعض الأدلَّة الأخرى الَّتي من طرقنا أو الطرق العامَّة المتِّفقة ولو في الجملة للتَّقريب.

فلابدَّ من محاولة التَّعرُّف على موارد إمكان اتِّفاق هذا الحديث مع الأدلَّة

ص: 424

الصَّحيحة الأخرى، كمحتملات نفرضها للغربلة الفكريَّة أو العلميَّة للأخذ بما أتقن أمره منها في المجال الفقهي العائد للأصول الحقَّة أو المشتركة، وما أتقن أمره من العقائديَّات الفرعيَّة العامَّة مع الفرعيَّة الفقهيَّة.

وهي المسمَّاة بالفقه العام ممَّا قد يكون هذا محلُّه من الأصول وما أتقن أمره من الصَّحيح في المجالات الأخرى وتُرك وهُجر الباقي ما لم يتقن أمره ويخالف القواعد رجاليَّاً ودراية في علم الحديث، لأهميَّة الحفاظ على قوَّة السنَّة الشَّريفة لفظاً ومعنى وما مرَّ من ذكر الحديث الأوَّل وما بعده، إلاَّ مثالاً للغربلة المشار إليها، وهي أمور:-

أوَّلاً: إنَّ كون الاختلاف رحمة ثابت في معناه بخصوص ما يرغب به أو يريده النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الَّذي بعث رحمة للعالمين في قوله الواحد حكماً على كل مسألة وكل حادثة تتناسب معه وتنضوي تحته عن وحي الله تعالى بلا تعدُّد في الزَّمان الواحد، إلاَّ ما كان في الزَّمن المتعدِّد كحالة النَّسخ الجزئي في بعض الآيات.

كجواز دفع الفدية بدلاً عن الصَّوم تخييراً بينهما في حال الصحَّة والاختيار في بداية تشريعه ثمَّ نسخت تلك الحالة بعد التعوُّد على الصَّوم وغير ذلك، وهذا ليس من مطلبنا حتماً.

وإنَّما هو خصوص ثبوت الحكم الواحد في الواقعة الواحدة في الزَّمان الواحد.

وقد أثبتته الأدلَّة الكثيرة من الكتاب والسنَّة وإن تعدَّدت الآراء الاجتهاديَّة في جوانبها الدَّليليَّة والاستدلاليَّة على النَّحو الَّذي لا يؤثِّر على ذلك الحكم الواحد بالنَّتيجة.

كحكم الوجوب على الشَّيء الَّذي دلَّ دليله الصَّحيح في نظر مجتهد ودلَّ دليل صحيح آخر عليه في نظر مجتهد آخر، وإن التقى الرَّأيان في الجملة أو لم يلتقيا مطلقاً بدون أن يصِّحح كلا الرَّأيين.

وهكذا إذا أمكن تعدُّد الأكثر عليه من الأدلَّة الصَّحيحة في بابها عند أهلها.

ص: 425

ويلحق بذلك إمكانيَّة الأخذ بمثل تعدُّد أدلَّة التَّقريب المذهبي وإن كان أحد الدَّليلين غير مقبول عند الطَّرف المقابل.

وهكذا الأمر في مجال حكم الحرمة كما سيتَّضح أكثر.

كوجوب الصَّلاة اليوميَّة الَّتي لم يكن في مقابله عدم الوجوب أبداً على المكلَّفين والمكلَّفات في أدلَّة ذلك الواضحة غير المحتاجة إلى السَّرد والبيان.

وهكذا حرمة شرب الخمرة الَّتي لم تتغيَّر في أدلَّتها أيضاً أبداً بما لا داعي أيضاً، لسرد أدلَّته أكثر وكما حدَّد جميع مصاديق الأحكام الشَّرعيَّة في قوله تعالى [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا](1) وقوله [وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً](2).

وهكذا في قول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (حلال محمَّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يومالقيامة)(3) وغيرها.

ثانياً: بل يمكن الرِّضا في اختلاف القول الواحد المفروض بين مجتهدين مثلاً وكل يقول قولاً ينسبه إلى النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كالواجب والمستحب ولكن يقصد كل منهما أنَّ النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ما قال إلاَّ قوله دون قول غيره المخالف له.

مضافاً إلى ما يمكن في ذلك من إيصال هذا الخلاف إلى أن ينتج الوفاق بين الاثنين على الحكم الواحد، وهو القول بالرُّجحان بالمعنى الأعم، وهو المطلوب أيضاً إذا طبَّق الاثنان الواجب والمستحب.

وهو كثير المصاديق من دون أن يعترض أحد المجتهدين على الآخر فيما توصَّل إليه.

لأنَّ كلاًّ منهما له رأيه، لكن لا بنحو التَّصويب الَّذي لا يساعد عليه سوى رواية

ص: 426


1- / آية 187.
2- / آية 62.
3- أصول من الكافي ج1 ص 58، بصائر الدرجات: ص 148 ب 31 ح 7.

العامَّة دونما الَّتي تروى من طرقنا عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، وهي (أصحابي كالنُّجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم)(1).

وهي الَّتي يراد من (أصحابي) في الحديث (أهل بيتي) وإن استضعفت عندنا انسجاماً مع كثرة الأحاديث المادحة لأهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

بل يلحق بذلك بعض حالات التَّقريب الإيجابي بيننا وبين المذاهب الأخرى وإن أوصلت الحالات إلى إخضاعهم إلى صحيح ما نقوله بقاعدة الإلزام.

بل إنَّ لزوم البناء على الحكم الواحد في الواقعة الواحدة كما أشرنا ثابت حتَّى فيما لو لم يكن الجمع بين الرَّأيين الاجتهادييِّن المختلف فيهما ممكناً ولو في الجملة.

كما إذا حصل تضاد كالقول بوجوب الجمعة في الغيبة الكبرى والقول بحرمتها لو لم يكن غيرهما محتملاً، فإنَّ في ما بين هذين لا يمكن الجمع بينهما.

ومع ذلك لابدَّ من اعتبار القول الواحد من هذين الحكمين دون الآخر.

وفي ذلك أيضاً أدلَّة كثيرة نفصِّلها في المضامين الاستدلاليَّة في أحكام الموسوعة الآتية إنشاء الله تعالى وإن كان لا يعيب أحد المجتهدين على الآخر فيما أدَّى إليه اجتهاده.

بناءاً على صحَّة اجتهاد كل من الرَّأيين من الوجهة الصِّناعيَّة، لعدم إمكان التَّوسُّع من قبلهما أكثر ممَّا حصل على أساس من استفراغ الوسع في سبيله لكن لا على أساس القول بالتَّصويب الممنوع عندنا كما مرَّ.

ثالثاً: وقد يكون ذلك الاختلاف مدعاة للأجر والثَّواب إذا فُسِّر الحديث بمعنى أنَّ الاختلاف يُراد منه التَّخالف على النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.

أي كثرة الورود عليه والرَّواح والمجيء إليه، للاستفادة من محضره الأعظم

ص: 427


1- سلسلة الأحاديث الضعيفة (ج1 / ص144و145)، ورواه ابن عبد البر في (جامع العلم) (2 / 91).ج

والنَّظر إلى وجهه الأكرم والسُّؤال منه عن أمور ما ينفع من أمور الدُّنيا والدِّين ولما يحبُّه اللهويرضاه من ذلك المعدن الصَّافي، اغتناماً للفرص، وهو شرف ما أعظمه من شرف وما مثله من المناهل من مغترف لو استغل على ما يرام ويستهدف.

وقد يكون هذا المعنى ثابتاً كذلك، فيما لو حصل التَّخالف من الأمَّة عند خليفة النَّبي عَلَيْهِ السَّلاَمُ وهو نفس رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وخليفته في ليلة المبيت على الفراش عند الهجرة وفي آية المباهلة والغدير وغيرها.

وهكذا بقية الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، بل حتَّى نوَّابهم الخاصُّون، بل العامُّون في الغيبة الكبرى هذه، للزوم استمرار الوظيفة الإلهيَّة الشَّرعيَّة بما وظِّفوا له وعدم جواز قطعها في الإفادة والاستفادة، على ما هو مكثور من الأدلَّة الواضحة الَّتي لا تحتاج إلى السَّرد والبيان أكثر.

وبقرينة كون قول النبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في (اختلاف أمَّتي رحمة) عنوان البحث لم يذكر فيه (اختلاف أمَّتي عليَّ رحمة)، ليكون الأمر خاصَّاً به ظاهراً دون الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فلا مجال للتَّوهُّم فيه من أحد.

بل حتَّى في هذا المعنى كان النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يحوِّل بعض التَّوجيهات على أصحابه وأهمُّهم أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فيصح العموم والإطلاق إذن لما بيَّنَّاه.

وهذا المعنى وهو التَّخالف الَّذي ذكرناه يعتبر وجهاً وجيهاً عند الشِّيعة الإماميَّة.

بل قد يقدَّم هذا القول على بقيَّة الوجوه الأخرى، لما فيها من المجال الواسع في المناقشة المخالفة دون هذا الوجه وممَّا يتناسب مع هذا الوجه كون الاختلاف قد حصل على النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من أوطان مختلفة.

وهو وارد في الأدلَّة كثيراً جدَّاً بالحثِّ على الاستفادة والتَّزوُّد منهم، ليعم النَّفع الدِّيني في أكبر عدد ممكن من النَّاس من أكثر عدد من زعماء الأمَّة، وإن جاء ما يؤدِّي هذا المعنى بألفاظ متفاوتة.

ص: 428

ولذلك استعملت كلمة الجمع في آية النَّفر وهي [وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ](1) دون استعمال الأفراد لعدم وجود الحجيَّة فيه إلاَّ مع القرينة المؤكِّدة.

رابعاً: لابدَّ من التَّفريق بين الخلاف الَّذي فسَّرناه في الأمر الثَّالث، وبين التَّخالف الَّذي يراد منه الخلاف للاختلاف بمعنى التَّشاحن والصِّراع العنادي، وإن كان مبتنياً على أساس من شبهة استدلاليَّة خالية من مرونة النِّقاش البريء.

فإنَّ ذلك قد جعلناه فيما لا يمكن إرادته في الحديث الشَّريف وأمثاله.

نعم يمكن أن يراد هذا المعنى واستمراره بين أهل الحل والعقد، للسبب النَّزيه إذا احتمل مجال العثور على معنى يتحف رائدي الحق والحقيقة من جرَّاء مواصلة التَّحقيق والتَّدقيق النَّظري والجدلي للوصول إلى النَّتيجة الحقَّة الموحَّدة إذا أمضيت ولو إرشاداً من الشَّرع.

لا ما إذا كان الخلاف للاختلاف، ولو في وسط الطَّريق لمجهوليَّة معنى الخلاف.

فضلاً عن الاختلاف الأوضح في عدم إرادته من الحديث بالمعنى الثَّاني، لأنَّه كثيراً مايكون منه مبدئيَّة مخالفة الحق المقيتة أو بقاء الخلاف بين فرق المسلمين للتَّشاحن، لا للتَّوحُّد والمؤاخاة مهما تكثَّرت جوامع الشَّمل الإسلامي بين الجميع.

ولذا ورد في صحاحنا لردِّ المخالفين لنا بعِداء أيَّاً كانت نسبته لو قالوا ضدَّ الأحكام الحقَّة حكماً على نهج القياس مع الفارق وغير ذلك من قواعدهم الأصوليَّة المردودة حديث (الرُّشد في خلافهم)(2).

ولأنَّ النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لابدَّ وأن يحمل قصده على أصح المعاني القريبة جدَّاً من مضامين الكتاب والسنَّة الصَّحيحة.

ص: 429


1- سورة التوبة / آية 122.
2- وسائل الشيعة: ج26 ص158 ب4 ح32712، الكافي ج1 ص8، وفي رواية أخرى (ما خالف العامَّة ففيه الرَّشاد).

وفي مثل هذا الحديث وإن أريد حمله على معنى الخلاف للاختلاف في بعض من المعنى بما صحَّحناه، وليس للمعنى الثَّالث ولا لما استدركناه.

فضعف سنده وضعف معناه جدَّاً فيما لا يصح كما في قصد الخلاف للتَّشاحن المقيت لابدَّ وأن يؤثِّر أثراً صريحاً بعدم جواز الأخذ به.

ومن أمثلة عدم الصحَّة كذلك كون خليفتين شرعاً في آن واحد عن الأساس الواحد، فلم يكن مقبولاً ألبتَّة لقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً](1) وهو الخليفة الواحد بصفة أكثر، لئلاَّ يتطاحن الاثنان عن ذلك الأساس، وهو ما يطابق حقيقة الجاعل للخليفة تعالى في وحدانيَّته الَّتي قال عنها تعالى [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا](2).

ولهذا نصَّب النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ خليفة واحداً في غدير خم وغيره بعد نبوءته ورسالته، وهو علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ وإلى آخر سلسلة الأئمَّة الاثني عشر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ واحداً بعد واحد إلى آخر الزَّمان، لئلاَّ تسيخ الأرض لو خلت يوماً من الحجَّة.

ومن هذه النَّاحية أيضاً لا يصح تقليد أكثر من فقيه في زمن الغيبة هذه في مسألة واحدة أو مسائل فرعيَّة من موضوع واحد، وإن صحَّ التَّعدُّد بمثل التَّقليد في العبادات لشخص يختص بها أكثر خبره من غيره فيها وفي المعاملات لآخر مختص بها كذلك، لاختلاف الموضوع على تفصيل مسهب فقهي في محلِّه.

خامساً: ويمكن أن يكون الحمل على الخلاف للاختلاف بالمعنى الثَّاني كالاستدراك الَّذي ذكرناه، ولكن بنحو اختلافه جدلاً منطقيَّاً كما أشرنا في المعنى الرَّابع وفي أي علم ومنه الفقه، لشحَّذ الذهن وتنقيحه إلى حيث محاولة الوصول إلى المعاني الصَّحيحة المطابقة للواقع أو الظاهر المعمول به في المستقبل.

ص: 430


1- سورة البقرة / آية 30.
2- سورة الأنبياء / آية 22.

وهذه الحالة لا يمكن الأخذ بها إلاَّ في موقع الدِّراسة التَّعليميَّة أو للامتحان، لا للبناء على كل ما ينتج رأساً كما أشرنا دون أن يكون للجدل الفارغ، وهو لا لهذا ولا لذلك، لكن لابدَّ أن ينتهي بتطويقه عمليَّاً بالمبيح الشَّرعي كما مرَّ في الرَّابع.سادساً: ومن أدلَّة عدم صحَّة هذا الحديث هو فيما لو قصد منه كون الرَّحمة في الاختلاف لا للائتلاف، مع كون الحق لابدَّ من أن يكون واحداً لا يتعدَّد كما مرَّ باعتبار جميع حالات الاختلاف والأخذ بها.

وهو ما يدل عليه حديث افتراق الأمَّة المشهور بين الفريقين وهو قول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (افترقت أمَّة أخي موسى إحدى وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النَّار، وافترقت أمَّة أخي عيسى إلى اثنين وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النَّار، وستفترق أمَّتي من بعدي ثلاث وسبعون فرقة، فرقة ناجية والباقون في النَّار)(1)، وهو ما يشمل كافَّة الاختلافات الفكريَّة عقائديَّة وشرعيَّة مذهبيَّة إسلاميَّة وغيرها.

ولكن يمكن فيه أن يكون الاختلاف رحمة باعتبار آخر، لا للإصرار عليه مستمرَّاً، وإن توزَّع الحق ضائعاً بين الفرق الثَّلاث والسَّبعين، من دون إمكان الظفر به موحَّداً بين الجميع.

بل لأنَّه شيء قد وقع وأنه يجب السَّعي الحثيث لكشف ذلك الحق الواحد والالتزام به.

لأنَّ الافتراق إلى هذا الحد الممنوع قلَّ عدده أو كثر هو المحفِّز لوجوب السَّعي ولا يمكن وصول ما عدا الواحد المقبول فيه إلى الهلاك ونار الآخرة، إلاَّ لأنَّ الحق واحد لا يكثر عدده ولا يمكن الآخذ بما عداه كما مرَّ عند توفُّر أدلَّته.

سابعاً: ويمكن أن يكون من المعاني المحتملة هو أنَّه لولا الاختلاف في الرَّأي

ص: 431


1- سنن أبي داود 3/896، صحيح الجامع الصغير للسيوطي 1/156 ، مشكاة المصابيح 1/61، الدر المنثور 2/286.ج

والعمل لكان النَّاس كلُّهم على نهج واحد.

فإن كان حسناً لسقط التَّكليف عن البحث والتَّنقيب الواجب، إذ الواقع خلافه مع أنَّ بُعد زمننا عن زمن صدور الأدلَّة يناهض استقرارها في الألفاظ والمفاهيم.

وهو ما يُسبِّب عدم العثور التَّام على الضَّالَّة المنشودة لضياع بعض المصادر أو التَّشويش فيها ونحوهما، إذ الواقع خلافه ما دامت الضَّالَّة لم يعثر عليها.

وإن كان كلّه سيَِّئاً لنزل البلاء وصُبَّ على العالم أجمع.

وقد يشير إلى هذا المعنى قوله تعالى [وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا](1)، أي لا لبقاء الاختلاف لعدم وجود موضوعيَّة فيه دائمة.

ثامناً: ويمكن أن يكون الاختلاف بمعنى التَّفاوت في الأدلَّة مع الوصول إلى نتيجة موحَّدة، لسعة تلك الأدلَّة عند العلماء كما مرَّ سابقاً في المقدِّمات.

إمَّا من جهة تعدُّد الرِّوايات، بحيث يعتمد على بعضها بعض منهم، ويعتمد على البعض الآخر منها بعض آخر كذلك، والكل يعطي نتيجة واحدة كالتَّكافؤ في المعنى أو السَّند أو كلاهما ونحو ذلك.

أو كان الدَّليل مثلاً واحداً كبعض الآيات أو الرِّوايات أو غيرها من الأدلَّة.والعلماء قد يختلفون في كيفيَّة الاستدلال المتعدِّدة من ذلك الدَّليل الواحد لتعدُّد حيثيَّاته، لكن في اختلافهم المذكور نتيجة الحكم الإيجابي الصَّحيح الواحد أو السَّلبي الصَّحيح الواحد، أو كان النِّزاع لفظيَّاً بين المختلفين.

بحيث أنَّه لابدَّ من أن يكون النَّاتج واحداً كما سلف أو أن يكون بين المختلفين في الدَّليل الواحد الواسع في مآخذه الاستدلاليَّة أو الأكثر من الدَّليل الواحد تفاوت العموم والخصوص بين ما يكون من وجه وبين ما يكون مطلقاً، وهو الَّذي يبقى حتماً مجالاً موحَّداً ولو في الجملة الجزئيَّة بين المتخاصمين.

ص: 432


1- سورة الحجرات / آية 13.

وهكذا وإلى حدِّ لا ينفي وجود الرَّحمة الإلهيَّة بشآبيبها الشَّاملة للأمَّة إذا حصل عندها مثل ذلك.

وقد يتفرَّع من هذا المنتج الموحَّد ولو في الجملة ما بين المتخالفين فيما لو اختلفت القراءات فيما يكتبه المجتهدون في بحوثهم وتقاريرهم العلميَّة أو يبينونه في محاضراتهم لتلامذتهم وفيهم المجتهدون كذلك، فقرأها أو سمعها الآخرون وظهر عندهم نظر آخر يختلف عما أبداه أو يبديه المؤسِّسون.

وبالأخص فيما لو كانت العبارات أو الألفاظ حمَّالة وجوه وتشعُّبات كالحديث الَّذي أدخلناه في البحث كالمثال مع غيره.

وكان فكر التَّلامذة مثلاً لوذعيَّاً شفَّافاً كثير التَّخرُج إلى ما هو الصَّحيح مع حسن القصد عند الجميع، كالَّذي يوصل الجميع إلى المعنى الموحَّد، لا من سبق ذكرهم من أهل العناد.

فقد يركِّز المجتهد من هؤلاء على شيء في مطلبه ويجعل له دليله المتين في نظره، ويأتي الآخر حينما لاحظ ما يكتبه أو يقوله ذلك المجتهد الأوَّل فقد ينقدح في ذهنه شيء أحسن ممَّا عند الأوَّل في نظر ذلك الثَّاني.

وقد تكون كلتا القراءتين يراد منهما إيجاب واحد أو يختلف أحدهما عن الآخر باعتبار مع اجتماعهما في الجملة كما مرَّ.

وهكذا قد تتوسَّع القراءات وإلى حد ما قد يختلف كل من القراءتين أو الأكثر، والى حدِّ ما لا تنتفي فيه الرَّحمة مع إحراز المقاصد الصَّحيحة لدى جميع الأطراف ولو بانتظار ظهور صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ، لتصحيح المسيرة الفكريَّة، أو لاتِّحاف أفكارنا بالاجماعات الاصطلاحيَّة برأيه الشَّريف.

تاسعاً: ويمكن أن يكون حصول مشاكل الاختلاف بين علماء الأمَّة من نحو الابتلاء وهو رحمة في بابها وبالسِّعة المطلوبة وعلى نحو ما قد ورد (إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ

ص: 433

مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ)(1).

ليكون الإنسان مشمولاً بالرَّحمات الإلهيَّة باستحقاق تام بسبب حصول كثرة المعاناة وبذل الجهد الشَّرعي البريء باستفراغ الوسع وأمثاله مع حسن القصد.فإنَّه قد يخرج بالنّور المبين من بين تلك الآراء المختلفة وانكشاف حقِّه بالعلم اليقين وإلى محدوده الأوجه ظاهراً بعد تلك الصِّراعات والاختلافات الَّتي حصلت، وإن لم تصادف الواقع وعلى طبق الخبر الوارد عن العامَّة (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر)(2).

علماً بأنَّ هذه الاختلافات قد لا تكون محتسبة أيضاً، كما في حالة الإصابة عند انكشافها.

فإذا فوجئ بها وأبدى الباحث فائق همَّته وحصل الخير على يديه كان مثاباً حتماً بما يستحقُّه ولو كان في البداية بلا رغبة به كحاله ما قد ورد في شأنه (ربَّما يثاب المرء رغماً على نفسه)، لأنَّ المهم حسن قصده في البداية وإن لم يحتسب النَّتيجة.

عاشراً: ويمكن أن يكون حصول مشاكل الاختلاف هذه للامتحان العام والاختبار الدّنيوي، كما في قوله تعالى [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ](3)، وكما في قوله أيضاً [لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً](4)، وقوله كذلك [الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ](5) وغيرها، وهي كثيرة

ص: 434


1- ابن ماجه 4031، وأبو يَعْلَى 4253، والبيهقي "شعب الإيمان" ج7 ص144/9783.
2- مسند أحمد 4: 198 حديث عمرو بن العاص.
3- سورة الأنفال / آية 42.
4- سورة هود / آية 7.
5- سورة العنكبوت / آية 2.ج

ومعها السنَّة كذلك.

لأنَّ الحياة لن تكون حياة عزيزة غالية دينيَّاً بحق إلاَّ بالجهاد والمثابرة بإخلاص وعلم، وأنَّها حياة لا لهذه الحياة الدَّانية فقط وإن أبيح منها ما أبيح بل للآخرة العالية معها أو لخصوصها، والَّتي تنوِّر دروبها وكل آفاقها بالخدمة الصَّحيحة للعلم والعمل الصَّحيح الصَّالح حتَّى لو حصلت أعظم الاختلافات وأشدِّها وفي كل المجالات وأشكل الشُّبهات وإن لم يقصد منها ما يضر.

لكون الحق لابدَّ وأن تطلع شمسه أو يبزغ نور قمرها بيد الأكفَّاء المخلصين حتَّى لو وصل عنف الاختلاف إلى أشدِّه عصياناً على أهل الحق.

فإنَّها وإن اشتدَّت وبأشد أنواع العناء فصار الشَّعب الواحد شعوباً والقبيلة الكبرى الواحدة قبائل متعدِّدة بالامتحان وسوء أعمال النَّاس ونحو ذلك.

فلابدَّ وأن تظهر الحقائق يوماً من الأيَّام ولو بعد حين على يد من ذكرناهم من المخلصين ممَّن هداهم الله واختارهم لجمع الشَّمل وصناعة المستحيل، ولو على رأي بعض أهل الكسل والخمول ممَّن لم يرض به المجاهدون بحق كالأنبياء والرُّسل والأئمَّة وحواريهم وأعلام الأمَّة الَّذين بذلوا كل غال ونفيس لهم، لإسعادها وإعادتها أمَّة واحدة مرحومة كما قصده النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في حديثه من الرَّحمة، وكما يكشف عنه قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِأَتْقَاكُمْ](1).

وغيره من أدلَّة الجوامع للشَّمل حتَّى لو حصل ذلك الخير على أساس خسارة المعاندين والمتعصِّبين لما سبَّبوه.

وقد تكون الآية الماضية لسعة آفاقها راجعة إلى المعنى الثَّامن، لمعرفة ما في الحديث المذكور في العقائد والشَّرعيَّات الفقهيَّة ليكونوا متَّحدين أصولاً وفروعاً من

ص: 435


1- سورة الحجرات / آية 13.

سعي أنفسهم بذلك، لأنَّه واجب في حقِّهم وحقِّ غيرهم وإن كان أمر الابتلاء هنا لها أقرب وكي يبطل قول المجبِّرة.

هذا إذا كان الاختلاف مدعاة للتَّوحُّد وحاثَّاً عليه ولو من خصوص العقلاء الغيارى الحريصين عليه، وهم الأقلون، وإنَّ روَّاد الخلاف للاختلاف هم الأكثرون كما نصَّت بعض النُّصوص.

وأمَّا إذا لم يكن الاختلاف مدعاة أو نحو ذلك للتَّوحد في النَّتيجة ولو لكثرة أنصار السُّوء أو أكثريَّتهم كما مرَّ -- أعاذنا الله منهم -- ممَّن يمكنهم توجيه ما كان من الصَّحيح غير صحيح كذباً وزوراً وبالعكس، حتَّى لو كانت الأدلَّة صحيحة وإن تفاوتت بما يمكن أو لا يمنع من جمع شملها على نتيجة موحَّدة علميَّاً.

فلم تكن الرَّحمة هنا في الحديث بارزة ولو يسيراً للنَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وأنصارهما من الأمَّة وبأضخم نسبها وإلى آخر الدُّنيا بالانتصار على الأعداء المختلفين من تلك الأمَّة إذا كانت جميع صور الأداء باطلة.

بل النِّقمة هي بارزة مكانها حتماً عليهم، كحلول غضب الله على أعداءه حينما أساءوا التَّصرف تلو التَّصرف ضدَّ أولياءه، ممَّا قلَّب الأمور إلى حدِّ انقلاب مصاديق الأمَّة المرحومة إلى (أمَّة السُّوء)(1) على حدِّ تعبير إمامنا الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ يوم عاشوراء في خطابه لأعدائه المصرِّين على مقاتلته وأصحابه نصرة ليزيد الكفر والنِّفاق والفسق والفجور آنذاك.

وذلك الأثر من سوابقه، وهو الاختلاف العمدي ضدَّ بيعة الغدير الَّتي أرسى دعائمها النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أو ممَّا يسمَّى عند الأعداء بالإجماع.

وهو المرفوض عند أهل الحق، لكونه خالف النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والمنصوص عليه في البيعة وبقيَّة الصَّفوة.

ص: 436


1- الفتوح -- ابن أعثم -- ج5 ص118.

ولأنَّه إجماع ادّعي افتراءاً ضدَّ تصريحات النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ المادحة لأهل بيته الطَّاهر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وإلى حدِّ جعله إيَّاهم وما يحملون الثِّقل الثَّاني بعد القرآن الأوَّل.

وكذلك الانحرافات الَّتي تلت تلك، إلاَّ على أنَّ الرَّحمة في الحديث تكون بمعنى فضيحة الأعداء المخالفين للكتاب والسنَّة المودعة عند العترة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وللإجماع الصَّحيح ولو كان مؤلَّفاً من علي وفاطمة والحسن والحسين وسلمان وأبي ذر وعمَّار والمقداد ونحوهم منالقليلين الَّذين مدحهم الله في قوله تعالى [وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ](1) وقوله [وَقَلِيلٌ مَا هُمْ](2) ونحوهما.

لأنَّ الاختلاف لو حصل في العقائد والأحكام وأظهر المحقِّقون والمدقِّقون حقائقهم العلميَّة الصَّحيحة في ذلك فلابدَّ من ظهور زيف المبطلين بعد ذلك من أكاذيبهم وشبهاتهم الباطلة الَّتي قد تشبه الحق وليست من الحق.

ولذا ورد قوله تعالى فيما يخالف كلام الحديث الشَّريف على ما صحَّ فيه من التَّوجيهات الَّتي ذكرناها ونذكرها لتصحيحه حفاظاً منه على بيان حكم المطلب المخالف [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً](3).

وذلك فيما لو كان المقصود من الاختلاف في حديثه قليلاً أو حتَّى الكثير الَّذي يسهِّل الوصول إلى دحره ووضوح الحق الواحد فيه.

وإن قيل بأنَّ هذه الآية الأخيرة من بعض ما تحمله من الاختلاف، فهل يمكن أن يكون ما عند الله أيضاً في بعض المقامات؟

لأنَّا لم يظهر لنا من حديث الاختلاف من عمومه وإطلاقه خصوص حالة القلَّة، بل قد تكون في ذلك كثرة بحيث سرعان ما يتوصَّل فيها إلى الحق والرّجوع إليه كما

ص: 437


1- سورة سبأ / آية 13.
2- سورة ص / آية 24.
3- سورة النساء / آية 82.

أشرنا سابقاً.

ومن ذلك ما قد يقع كثيراً بين أهل الفضل والأقل منهم من المعتدلين والمخلصين.

وبالأخص ما لو كانت الكثرة في الاختلاف لا بنحو الكثرة العدديَّة في المذاهب مثل ما ذكرناه في كثرتها المتمثِّلة في حديث اختلاف الأمَّة إلى ثلاثة وسبعين السَّابق ذكره.

حيث إنَّ الكثرة المرغوبة من أراء العقلاء والمتديِّنين لا تميل، إلاَّ إلى تلك الفرقة الواحدة النَّاجية والكثرة العدديَّة من الفرق هي المعرض عنها.

بل لا يقبل منها، إلاَّ الكثرة بالمشادَّة العلميَّة ضدَّ العدديَّة وإن قلَّ عدد أنصار النَّاجية أو أن يقصد ممَّا عند غير الله.

هل يمكن أن يكون هو النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ إذا أمكن أن يكون عنده صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ذلك وإن لم يوص به، لأنَّ علم الله أوسع من علم النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لا علمه الخاص بالنِّسبة إلى الله.

أو لأنَّ علم النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ منه ما كان لابتلاء النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بأمَّته في مثل ذلك وعلى أساس أنَّ ظاهر الآية هذه قد يكون في غير موضع الغضب الإلهي.

لاحتمال أن يكون الأمر الاختلافي في سنَّة الرَّسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، لكون السنَّة قد يظهر منها ما لم يكن ظاهراً من الكتاب، ولذلك صار مرجعاً للسنَّة فيما طرأ عليها من المشاكل.

إذ قد يكون من الاختلاف ما كان كثيراً منه في الحديث النَّبوي.

بينما ما ورد في الكتاب لم يكن في صدوره ذلك أو يقل بناء عليه مثل ما عرف منذلك في السنَّة من الاختلاف؟

فنقول: في ذلك بأنَّه لا يمكن هذا، وهو أن يجعل ممَّا كان عند الله ممَّا لو كان قليلاً وفي بعض المقامات حسب مفهوم المخالفة، إلاَّ بنحو عمليَّة إرادة افتضاح المعاندين

ص: 438

من المخالفين للحق والحاقدين عليه حينما أفلج النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ حججهم وأكذب أحدوثتهم ومنهم من ظهر في آخر الزَّمان وحاربوا وكفَّروا كل المذاهب الخمسة المتآخية في كثير من الأمور إن لم نقل أكثرها لو توحَّدت أو من يرتجى منهم ذلك بدون شك، وحينما لا يلبِّي الحق برغباتهم اللا دينيَّة والخارجة عن الصَّدد الشَّرعي.

ولذا يجب التَّفريق بين الأمَّة المرحومة الَّتي يريدها النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في حديثه وأمثاله وبين أمَّة السُّوء النَّاشئة عنها من ذوي الارتداد والنِّفاق ونحوهما، لأنَّ الآية في مورد الرَّد لمن لم يأخذ من عند الله لا غير.

على أن لا يكون ما عند النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ حسب ما نعتقد به هو من غير ما عند الله، لأنَّ كل ما عند النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ هو ممَّا عنده تعالى لقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى](1).

وإن كانت الرِّواية الشَّريفة بناءاً على اعتبارها -- وكذا غيرها لو بنينا عليها -- قد تشمل الأمَّة بالرَّحمة الَّتي ترتبط بكل ما وجَّهناه على أساس عدم وجود أمَّة السُّوء فيها أو أنَّها موجودة فيها، لكونها مشمولة بالرَّحمة أيضاً إن اهتدت وانصاعت وتركت الاختلاف أو أنَّها مشمولة بذلك أيضاً حبَّاً في هدايتها بعد ندامتها.

إضافة إلى إمكان كون القلَّة المضرَّة في الاختلاف أيضاً ما كان أو يكون إلاَّ مع شدَّة التَّشاحن المفرِّقة الَّتي لا يريدها الشَّرع حتماً فتبقى القلَّة الأخرى غير المضرَّة والَّتي قد يحملها الحديث بنحو خال من المعارضة وهي حالة الاختلاف المشمولة بالرَّحمة.

فلا يمكن إذن إثارة هذا الإشكال في كلِّ حالة إلاَّ بما استثنيناه ولم تقصد النَّبي في الآية، لأنَّ مصبَّها ولو ظاهراً كان فيما لا يرضي الله خاصَّة، لأنَّها في موقع إشهاد ذوي الحجى لو يراقبوا الأمر بإنصاف حينما يكثر الخلاف للاختلاف الممنوع أو يزرع

ص: 439


1- سورة النجم / آية 3.

ليبقى كفتن آخر الزَّمان، مع أنَّ ما عند غير الله وأنصاره هو باطل في نوعه بل كلُّه وإن قلَّ عدده أو قلَّ كيف الاختلاف فيه على ما يفهم من الآية.

لإمكان أن يقلَّ خطره في بعض الحالات كما في الموضوعات والمبتدعات، فضلاً عمَّا لو كان ممَّا قد يكثر فيه الاختلاف ولا يمكن احتوائه ولو بمعونة قوَّة المعادين من أهل الظلم والبطش ومنهم أهل الكفر المدعومين من بلدانهم الحاقدة والمحاربة الغازية والمحاربة المتصدِّية لكل تحرك تصحيحي أو بحث علمي موضوعي منهجي من أهل الحق، لما كان أو يكون من كتب التَّوراة والأناجيل المحرَّفة وغيرهما من كتب الضلال الأخرى الَّتي في قبالها القرآن المحفوظ في صدوره ممَّا بين الدَّفتين.

وإن حاول المغرضون من الدَّاخل والخارج زرع الشُّكوك والأوهام في مضامينهالشَّريفة المسدَّدة بنقل العترة المباركة مهما طال الزَّمن وكثر العدو وقلَّ النَّاصر كالسَّلفييِّن والوهابييِّن والمستشرقين من أهل الكفر إضافة إلى زنادقة القديم وسليمان رشدي الجديد ونحوهم.

حادي عشر: ويمكن أن يوجِّه الحديث بالرَّحمة فيه مع القول بضعف سنده بما يمكن الاستفادة منه في مجال الأخذ به وعن طريقه وغيره من أمثاله في السُّنن من المستحبَّات والمكروهات حينما نقدر أن نجير ضعف سنده بروايات قاعدة (من بلغه ثواب على عمل)(1) وقاعدة التَّسامح في أدلَّة السُّنن لما كان قد يصنعه الاختلاف فضلاً عن كثرته من الضَّعف حتَّى في هذا الحديث.

لكون الاختلاف فيه رحمة، حتَّى فيما لم يجب أو لم يحرم من المباحات الَّتي يحل التَّنافس فيها لشحذ الذِّهن على ما سيجيء قريباً.

ولكن إمكان العمل - على ضوءه كدليل للأخريات من الرِّوايات المختلف في مضامينها - لا يتم في السُّنن إلاَّ فيما لا يمكن احتواء الخلاف والوصول إلى الحق

ص: 440


1- ثواب الأعمال - 1/160.

الصَّحيح الَّذي قد يكون بمفاد تلك الرِّوايات في الواجب إلاَّ به.

إمَّا مع إمكان الوصول إلى الحق وضرب الآراء الباطلة عرض الحائط مثلاً فيمكن استفادة ما تدل عليه تلك الرِّوايات من حقيقة مداليلها الواضحة إمَّا الواجبة أو المحرَّمة أو المستحبَّة أو المكروهة.

وكذا في خصوص ما لو كان الحديث صحيحاً في نفسه أو صحَّحته أدلَّة أخرى لا ترتبط بخصوص فوائد أمور السنن وحدها.

ثاني عشر: ويمكن أن يراد من هذا الحديث إثارة الخلاف والاختلاف إن كان في مسألة أو مسائل، أو أمكن إيجاده فيها لتهييج القرائح النيِّرة بما فيها من علميَّات دفينة نافعة، حتَّى تظهر الحجج من خلال ذلك، وهي تشبه حالة الامتحان الماضية بعض الشَّيء لكن لا بنحو الدقَّة.

وعلى ذلك يمكن الاستدلال بقوله تعالى العام المطلق [وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا](1) لاعتبار أنَّ تعدُّد الشعوب قد يكون من تعدُّد المذاهب أو الأفكار الأخرى ولو كانت في حينها ولم تظهر الآن.

ولذلك قال تعالى بعدها مباشرة [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ](2) للإشارة إلى أنَّ غير الأكرم لا يغمط حقُّه في حالاته المعتدلة بتمام.

وأوضح منه قول أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في غرر الحكم (اضربوا بعض الرَّأي ببعض يتولَّد منه الصَّواب)(3) على أساس أنَّ الرَّأي هو مجمع الاختلاف والقابل للتَّفكيك والتَّفريع.

أو أنَّه كما قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في مقام آخر (العلم نقطة كثّرها الجاهلون،

ص: 441


1- سورة الحجرات / آية 13.
2- سورة الحجرات / آية 13.ج
3- غرر الحكم : 2567.

والألف وحدة عرفها الراسخون)(1).

وكذلك قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ في البحار (من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ)(2)، ومن ذلك تتبيَّن الرَّحمة في الاختلاف، ولو إلى آخر العمر وهو من محبَّذات الانتساب إلى طلب العلم الحوزوي الشَّريف وفيه ما يشبه بعض مضامين المعنى الرَّابع.

وقد يتحقَّق النَّفع الأكثر عند اللِّقاء أو التَّلاقي الوجداني الَّذي كثيراً ما يتوصَّل منه إلى ما يتحقَّق به التَّراحم ولو في الجملة، لأنَّ الإنسان مدني بالطَّبع.

بل إنَّ النَّاس [بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ](3) كما قال تعالى ما لم يتشبَّهوا بالبهائم والعجماوات ومع نزاهة المقاصد جازت التَّنافسات كما قال تعالى [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ](4).

المطلب الثَّالث / خلاصة المطلب مع نتيجته

قد تبيَّن في أكثر من موقع وبالأخص من ما مضى أنَّ بعض النُّصوص الَّتي ينسبها بعض الرُّواة إلى النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لم تكن صحيحة ولا تنسجم.

بل تتعارض مع غيرها حتَّى على مباني أصحاب الكتب الَّتي ترويها من النَّاحية الرِّجاليَّة.

لكن ربَّما يمكن أن توجَّه وتعالج ويُستفاد منها بما يتلائم مع قواعد الإماميَّة الأصوليَّة، وقد بينَّا بعضها والوجوه الَّتي يمكن أن تعالج بها.

ص: 442


1- ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي جلد :1 ص213.
2- بحار الأنوار، العلامة المجلسي ج2، ص29، شرح ابن أبي الحديد 18 / 404.
3- سورة المائدة / آية 51.
4- سورة المطففين / آية 26.ج

وبناءاً على كل الوجوه الَّتي ذكرناها وممَّا يدعو إلى الألفة والوصول إلى الحق الواحد أو الموحَّد، ولو تعدَّدت جوانبه بين المجتهدين بحق، دون المعنى المستنكر منها.

بناءاً على التَّخطئة لا التَّصويب مع صحَّة الرِّواية عند اعتبارها أو عضدها بما يجبرها ولو من حيث المعنى إن لم تصح سنداً ونحو ذلك، وإن تمَّ التَّركيز عليها في البدايات.

على أنَّ الاختلاف بمعنى التَّخالف وهو التَّكاثر في المراجعة، أو ما كان الاختلاف في الحديث لا للاختلاف بل للإئتلاف ولكنَّه للجمع المتعارف كما في الآية، دون الجمع التَّبرُّعي.

ولذلك كان اهتمام الشَّرع جادَّاً بوضع المشوِّقات للجمع المذكور مع الملزمات وما تفرضه الواجبات لتحقيق هذا الهدف، كما في صلاة الفرائض جماعة وفي صلاة الجمعة الجامعة وصلاة العيد كذلك على أقل التَّقادير أدائيَّاً.وهكذا الاستسقاء وأداء فريضة الحج مع الملايين، والصَّوم كذلك عند مجيء وقت إفطار الصَّائمين بين جميعهم، سواء اجتمعوا على مائدة واحدة في متَّسع من الأرض، أو بين جميعهم في الوقت الموحَّد وإن فصلت بين مختلف عوائلهم جدران البيوت ونحوها.

وكذلك صلة الأرحام وتشييع الجنائز وعيادة المريض وزيارة المؤمنين بعضهم لبعض في الأعياد والتَّجمعات في كل مظاهر الخير النَّافع للتَّعاون ونحوه والجهاد جماعة لا فرادى في موارده.

وهكذا ممَّا تكثر مصاديقه ممَّا يأتي بيانه في مضامين موسوعتنا الفقهيَّة مستقبلاً.

فإنَّه قد يكون قول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في حديثه الماضي المعروض هو وأمثاله، لبسط التَّفاوض العلمي حوله في هذا البحث من قبيل الإخبار بما يقع في المستقبل من الفتن وكثرة الملل والنِّحل حتَّى الجديدة منها ساءت أم حسنت وارداً بأكثر ممَّا كان يحتمل

ص: 443

أنَّه إخبار عمَّا كان يحصل في زمانه.

لضعف هذا الاحتمال ولو من حيث مجاملة المنافقين الَّتي لا دوام لها ومن كان في قلوبهم مرض من أهل زمانه، أو نيَّة تآمر وتمرُّد من يأتي بعده ولو ظاهراً سياسيَّاً، لما قد لا يؤدِّي إلاَّ لتبرير مواقفهم التَّمرُّديَّة ونحو ذلك.

لأنَّ الملتقى لابدَّ وأن يكون إلى الاتِّحاد بعد ما حصل من المشاكل، مع براءة من يختلف نظره في نصوص استفاداته وكانت هذه المستهدفات له ولو كانت بحسب الظاهر.

لاحتمال الخطأ عندنا وعند غيرنا اعتماداً في أغلب الأمور على تأكُّد مجيء دولة آل محمَّد عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، والَّتي لابدَّ وأن يصار إليها تحت راية صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ الَّذي لابدَّ وأن تتوحَّد الكلمة عنده وأمامه بدون نفاق أو مجاملة وقتيَّة أو تمرُّد من أحد ولو في مجرَّد النيَّة.

لأنَّه منه الحكم الفصل بعد الأئمَّة السَّابقين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من بعد ذلك الصَّبر الطَّويل، ولكسب رضاه نصرة للدِّين الواحد، لأنَّه الَّذي يظهر وينهض أخيراً لأجله وينتقل به الحكم الشَّرعي من حالة الاكتفاء في بعض الأمور له بالظَّاهر أيام الغيبة الكبرى إلى توحده في جميعها بالحكم الواقعي دون غيره تطبيقاً للوعد الإلهي وكما قال تعالى [كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ](1).

وهذا الإخبار لا غرابة منه وهو صرف الرَّحمة وتمامها، فإنَّ الإخبار بالمغيَّبات - من مثل النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ومن عصمه الله من آله عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بالتَّعليم والإلهام الإلهي - ثابت وكثير بإذن الله تعالى كما لا يخفى.

ومن تصريحات ما يشير إلى بالغ هذه الرَّحمة عن آخر الزَّمان قوله تعالى [وَنُرِيدُ

ص: 444


1- سورة المجادلة / آية 21.

أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ](1).

وممَّا قد يفترق حديث (أصحابي كالنُّجوم) عن الحديث الأوَّل هو هذا المعنى بناءاً على إرادة (أصحابي) في هذا الثَّاني هم المختلطون بين المقبول منهم وغيره.وما يقال من إنَّ روايته صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الَّتي تقول (يد الله مع الجماعة)(2) وهي الَّتي ممَّا يرويه العامَّة أيضاً مع مناقشتها الماضية بأنَّه غريب؟

فإنَّه يجاب بأنَّها صحيحة بلا غرابة حتَّى على إطلاقها الَّذي يريدون منه عدم المنع من بقاء الخلاف المرفوض ولو لإيقاع الأعداء في الفضيحة.

أو كونهم اتَّفقوا على الباطل حينما خالفوا النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، وما بقى منهم إلاَّ القليل من أصحابه في بعض حروبه وفي قضيَّة الدَّار وبيعة الغدير الَّتي نقضوها وإجماعاتهم الَّتي وضعوها جبراً لكسرهم الَّذي لا ينجبر.

وفي مقابل النُّصوص الصَّريحة والمشهود عليها بمرأى ومسمع، لم يقبل إلاَّ فيما صحَّحناه من التَّوجيهات لحديث الاختلاف الَّتي لا تبقى للجماعة إذا اجتمعت على شيء، سوى ما بيَّنَّاه من معنى الإجماع الَّذي يحوي في ضمنه الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

وهو ما يحوي الحجَّة الَّتي لا تسبِّب أي اختلاف ولم تكن في مقابل أي نص صحيح.

لأنَّه هو الإجماع الحاوي لصاحب النَّص وهو الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ على ما نفسِّره نحن الإماميَّة في أصول الفقه بما لا يخالف الثَّوابت الإلهيَّة جهد إمكان مساعيهم غير الخارجة عن الطور المصطلح وإن قلَّ العدد.

وإن قالوا بأنَّ المقصود من الجماعة في لسان النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بناءاً على صحَّة الحديث هم أهل السنَّة والجماعة ليفسِّر لهم بما يريدون أو بما لم يمنعوه؟

ص: 445


1- سورة القصص / آية 5.ج
2- رواه الترمذي (2167).ج

فنقول: بأنَّ قصد النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ فيه لم يكن لجهة معيَّنة من المسلمين حتَّى يخرج علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأهله وأصحابه أو عموم من خالف تلك الجماعة من المسلمين كمالك ابن نويرة، لأنَّ الَّنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ نبي الكل، وإن ادَّعوا بأنَّ إجماعهم غير إجماعنا.

لكون إجماعنا لابدَّ فيه من وجود معصوم من الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ فيه كالإمام الغائب عَلَيْهِ السَّلاَمُ وإن قلَّ العدد فهو وإن كان صحيحاً.

لكنَّه لا يمنع من تفادي الخلاف ومحاولة جمع الشَّمل بين الإجماعين ومنه الفقهي، ولو بنحو التَّقريب المذهبي الَّذي ينتهي عنده الكثير من الأمور الخلافيَّة والَّتي أهمُّها الفرعيَّة كما سبق.

وممَّا ينفع في ذلك تطبيق قوله تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ](1) إذا أريد ما ينفع من صغريات الأمور ومن اجتماع فقهاء المذاهب المعنيَّة في مكافحة الاختلاف المضر لهذا التَّقريب، مع تحبيذ حسن القصد لدى الجميع.

مع أحقيَّة إجماعاتنا الواقعيَّة الَّتي تضر بالجماعة لو لم يتبعوا تلك الإجماعات.

هذا شيء يسير من بعض مساعينا العلاجيَّة لما يُروى من الأحاديث الَّتي قد يحاول بعض المتطرِّفين أن يولِّد منها أمر جواز اصطناع الخلاف للخلاف معاداة للآخرين ممَّا لا يرتضيه عاقل أو لتصحيح القول بالتَّصويب حتَّى لو تكثَّرت الأقوال المتضاربة عندهمونحو ذلك.

وما كان قد منعناه من ذلك ممَّا مر فهو لحب التَّوحد والتَّآلف ولو بما قد يحصل من ذلك ولو في الجملة للتَّقريب والتَّقارب ولو على كلمة سواء.

ومع تحسين المقاصد الاجتهاديَّة وتبادل الاحترامات رضينا أيضاً، حتَّى لو أدَّت بعض الأبواب الموصدة إلى شيء من المخالفات الَّتي لا يقدر على تجنُّبها من الدَّليل المتفاوت من ألفاظه أو مضامينها أو من الحالة الاستدلاليَّة أو القدرة الاستيعابيَّة لها

ص: 446


1- سورة الشورى / آية 38.

من جرَّاء كثرة التِّجربة وقلَّتها، نتيجة للبُعد أو التَّباعد وقلَّة المصادر للآخرين ونحو ذلك، والَّتي قد يكون منها ما يمكن فيه فك قيد الجمع بين الآراء المتفاوتة، شريطة عدم التَّنازل عن الحق الثَّابت.

ومن هذا الشَّيء نوع تجربة نقاشيَّة علميَّة يراد التَّدرُّب عليها في باب الدِّراية والحديث الأصوليَّين مع مرجعيَّة ثوابت كتاب الله تعالى.

وعلى الأخوة العامَّة أن يساعدونا ويساعدوا أنفسهم في هذه المساعي للتَّقريب وأمثاله، حرصاً على الانضواء تحت راية الفرقة النَّاجية ولتشملنا تلك الرَّحمة ومن الله تعالى تمام التَّوفيق.

ص: 447

نهاية المطاف

وإلى هنا ينبغي لنا أن نكتفي بهذا القدر من الكلام عمَّا سمَّيناه في هذا الجزء في الباب الخامس المتعلِّق بالمباحث الأخيرة من مباحث الألفاظ لتكون بداية الجزء الرَّابع الآتي من الباب السَّادس المتعلّق بالمباحث اللُّبيَّة وبعده مبحث الحجَّة وطبقاتها وبعدهما مبحث التَّعادل والتَّرجيح.

حسبما تيسَّر لي مع تشتُّت البال وكثر الأشغال مع قصد وجه الله تعالى السَّابق تقرُّباً إليه، ولو لأداء أن لا أكون مقصِّراً تجاه واجب الانتماء إلى الحوزة النِّجفيَّة المطهَّرة منذ نعومة الأظفار.

رجاء أن يكون مقبولاً عنده وبدعوات المولى المعظَّم صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ للتَّأييد والتَّسديد إلى إكمال بقيَّة الأجزاء، ولو كمقدِّمات يؤمل أن تطرح فيها أو بعدها لطلاَّبها بمقدارها البركات، والله ولِّي التَّوفيق.

ليلة السَّابع عشر من شهر ربيع الأوَّل علاء الدِّين الموسوي

لسنة 1442ه- الغريفي

ص: 448

المصادر

1. القران الكريم

2. الاحتجاج / الطَّبرسي

3. الأحكام / ابن حزم

4. الإتقان في علوم القرآن /السيوطي

5. الإمامة في ضوء الكتاب والسنة / مهدي السماوي

6. الأمالي / الشيخ الصدوق

7. الأنوار العلوية / الشَّيخ جعفر النَّقدي

8. الأسرار المرفوعة / نور الدين علي القاري

9. البيان في تفسير القرآن / السيد الخوئي

10. الدر المنثور / السيوطي

11. الجمع بين الصحيحين للحميدي

12. الكشكول / البحراني

13. الدُّرر النَّجفية من الملتقطات اليوسفية / الشيخ يوسف البحراني

14. الوافي / الفيض الكاشاني

15. الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة / البحراني

16. الطبقات الكبرى / الشعراني

17. المبسوط / السرخسي الحنفي

18. المجموع / محيي الدين النووي

19. المزهر / جلال الدين السيوطي

20. الملل والنحل / أبو الفتح الشهرستاني

ص: 449

21. المناقب / ابن شهر آشوب

22. المستدرك / للحاكم النيسابوري

23. المصباح المنير / المقري الفيومي

24. المعجم الكبير للطبراني

25. المصنف ابن أبي شيبة

26. المقاصد الحسنة للسَّخاوي

27. السنَّة / ابن أبي عاصم

28. الفتوح / ابن أعثم

29. الفردوس الأعلى / كاشف الغطاء

30. التحفة السنيَّة (مخطوط) / السيد عبد الله الجزائري

31. التهذيب / الطوسي1.

32. التوحيد / الصدوق

33. الخصال / الصَّدوق

34. الغيبة / الطوسي

35. أجود التَّقريرات تقريرات الشَّيخ النَّائيني للسيِّد الخوئي

36. أمالي / الشيخ الطوسي

37. أعيان الشيعة / السيد محسن الأمين

38. أصول الكافي / الكليني

39. أصول الفقه / الشَّيخ المظفَّر

40. بحار الأنوار / المجلسي

41. بصائر الدرجات / لمحمّد بن الحسن الصفار

42. جامع الأحاديث / جلال الدين السيوطي

43. جامع العلم / ابن عبد البر

ص: 450

44. جامع أحاديث الشيعة / البروجردي

45. جواهر الكلام / الجواهري

46. دروس في علم الأصول / الصدر

47. دعائم الإسلام / القاضي النعمان "ابن حيون" المغربي

48. وسائل الشيعة / الحر العاملي

49. زبدة الأصول / البهائي

50. زوائد المسند

51. طبقات ابن سعد

52. ينابيع المودة / القندوزي الحنفي

53. كمال الدين وتمام النعمة / الشيخ الصدوق

54. كنز العمال / المتقى بن حسام الدين الهندي

55. كشف الغمة / أبي الحسن الإربلي

56. لسان العرب / ابن منظور الأنصاري

57. مبادئ الوصول إلى علم الأصول / العلامة الحلي

58. مجموعة الشَّيخ ورَّام

59. مجمع البيان / الطبرسي

60. مجمع البحرين / الطريحي

61. محاضرات في أصول الفقه /الفياض

62. مكارم الأخلاق / الطبرسي

63. ميزان الحكمة / الرَّيشهري

64. منهاج الأصول / محمد إبراهيم الكرباسي

65. من لا يحضره الفقيه / الصَّدوق

66. منتهى الأصول / البنجوردي

ص: 451

67. منتهى الدراية

68. منتهى المطلب / العلامة الحلي

69. مسند أبي داود الطيالسي

70. مسند أحمد ابن حنبل

71. مستدرك الوسائل / النوري

72. مشارق أنوار اليقين / الحافظ البرسي

73. معالم الدين وملاذ المجتهدين / لابن الشَّهيد الثَّاني

74. مفردات غريب القرآن / الراغب الاصفهانى

75. مصابيح الأنوار

76. مغني اللبيب / ابن هشام

77. نهاية الأفكار / تقريرات أغا ضياء الدين العراقي

78. نهج البلاغة

79. سلسلة الأحاديث الضعيفة / للمحدث الألباني

80. سنن الإمام أحمد

81. سنن أبي داود

82. سنن أبي يعلى

83. سنن ابن ماجه

84. سنن الدارمي

85. سنن الدارقطني

86. سنن الحافظ أبو بكر البيهقي الشافعي

87. سنن النسائي

88. سنن الترمذي

89. عدّة الأصول / الشيخ الطوسي

ص: 452

90. عدة رسائل للمفيد (المسائل السروية)

91. عوالي اللئالي / ابن أبي جمهور الأحسائي

92. عيون أخبار الرِّضا / الصدوق

93. فيض القدير / محمد عبد الرؤوف المناوي

94. فرائد السمطين / الجويني

95. فروع الكافي / الكليني

96. فتح الباري بشرح صحيح البخاري / ابن حجر العسقلاني

97. فتح الملك العلي / الحافظ المغربي

98. صب العذاب على من سب الأصحاب / الآلوسي

99. صحيح الجامع الصغير للسيوطي

100. صحيح البخاري

101. صحيح ابن حبَّان

102. صحيح مسلم

103. رجال الكشِّي

104. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني / الآلوسي

105. رسائل السيد المرتضى

106. شرح أصول الكافي / مولي محمد صالح المازندراني

107. شرح المقاصد /التفتازاني

108. شرح التجريد / القوشجيّ

109. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد

110. شرح صحيح مسلم / النووي

111. تأريخ ابن عساكر

112. تهذيب الأحكام / الطوسي

ص: 453

113. تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار -- ابن بطوطة

114. تفسير الطبري

115. تفسير المراغي

116. تفسير العياشي

117. تفسير الفخر الرازي الكبير

118. تفسير الصافي

119. تفسير القرطبي

120. تفسير الرازي

121. تفسير ابن كثير

122. تفسير عبد الرزاق

123. تصحيح الاعتقاد / الشيخ المفيد

124. ثواب الأعمال / ابن بابويه القمي

125. غرر الحكم / الشيخ عبد الواحدالتميمي الآمدي

ص: 454

1 -كلمة النَّاشر..... 3

2 -تعقيب وتمهيد لما بين جزئي المدارك اللَّفظيَّة للثَّاني الماضي والثَّالث الحالي مع المحتوى الإجمالي لمضامينه

..... 5

3 - الباب الخامس ..... 12

4 -المقام الأوَّل / ما يشترك في آيات الأحكام والسنَّة الشَّريفة..... 12

5 -الفصل الأوَّل / العموم والخصوص..... 12

6 - الأوَّل/ تعريف العام والخاص..... 13

7 - الثَّاني / الحاجة إلى البحث في العموم والخصوص..... 14

8 - الثَّالث / ألفاظ العموم..... 15

9 -الرَّابع / أقسام العام..... 16

10 -الخامس / في الجمع المنكَّر..... 17

11 -السَّادس / في شمول الخطاب للمعدومين..... 18

12 -السَّابع / عوامل التَّخصيص..... 20

13 -الثَّامن / في استعمال العام قبل ورود المخصِّص عليه أو وروده على المخصِّص..... 22

14 -التَّاسع / عمل العام مع الخاص المتِّصل والمنفصل..... 24

15 - العاشر/ هل استعمال العام في المخصَّص حقيقة أم مجاز؟..... 25

16 -الحادي عشر: في جواز التَّخصيص حتَّى يبقى واحد..... 27

17 -الثَّاني عشر / حجيَّة العام المخصِّص في الباقي..... 29

18 -الثَّالث عشر / هل يسري إجمال المخصِّص إلى العام؟..... 30

ص: 455

19 - الرَّابع عشر / في تعقب المخصِّص عامَّاً متعدِّداً..... 34

20 -الخامس عشر / تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده..... 36

21 -السَّادس عشر / تخصيص العام بالمفهوم..... 39

22 -السَّابع عشر / تخصيص الكتاب بخبر الواحد..... 41

23 -الثَّامن عشر / الدَّوران بين التَّخصيص والنَّسخ..... 43

24 -التَّاسع عشر / نتيجة البحث..... 43

25 -الفصل الثَّاني / الإطلاق والتَّقييد في الكتاب وملحقه السنَّة..... 45

26 -الأوَّل / معنى الإطلاق لغة..... 45

27 - الثَّاني / الفوارق بين الإطلاق والتَّقييد وبين العموم والخصوص..... 49

28 -الثَّالث / الحاجة إلى البحث عن الإطلاق والتَّقييد..... 52

29 -الرَّابع / اصطلاح الإطلاق والتَّقييد هل يعطي التَّلازم بينهما ولو إجمالاً أم لا؟..... 54

30 - الخامس / هل يختص الإطلاق في المفردات أم يطرأ على الجمل؟..... 58

31 -السَّادس / الإطلاق والتَّقييد وارتباطهما بالوضع أو بمقدِّمات الحكمة؟..... 60

32 - السَّابع / خصوص مقدِّمات الحكمة وأثرها في المقام..... 65

33 - الثَّامن / أمثلة الإطلاق والتَّقييد..... 70

34 - التَّاسع / نتيجة البحث..... 78

35 - الفرق بين العام والمطلق وهل يجتمعان؟..... 78

36 -الفصل الثَّالث / المجمل والمبيَّن في آيات الأحكام وما يتعلَّق به من السنَّة..... 80

37 -الأوَّل: معنى المجمل والمبيَّن عند اللُّغويين وفي الاصطلاح الأصولي..... 80

38 -الثَّاني: الحاجة إلى بحث المجمل والمبين..... 85

39 - الثَّالث: هل إنَّ الإجمال والتَّبيين يختَّصان بالألفاظ والأقوال فقط؟ أم إنَّهما تشملهما الحالات الفعليَّة فيسريان فيها..... 89

ص: 456

40 - الرَّابع: تقسيم المجمل اللَّفظي إلى مفرد ومركَّب وشيء من أسباب الإجمال فيه..... 91

41 -الخامس: الفوارق العامَّة بين الإجمال وغيره ممَّا مضى..... 96

42 -السَّادس/ مناسبة العلم الإجمالي وقاعدة منجِّزيَّته وفروعه في المقام..... 99

43 -السَّابع / بعض النُّصوص الَّتي وقع الكلام في كونها مجملة أو مبيِّنة..... 103

44 -الثَّامن / لابديَّة رفع الإجمال مع المقدرة عليه..... 118

45 - التَّاسع / كيفيَّة بيان المجمل عند الحاجة إليه..... 120

46 -العاشر / نتيجة البحث..... 123

47 -الفصل الرَّابع / البداء في آيات الأحكام وما يناط بها من السنَّة..... 124

48 - الأوَّل: مورد الحاجة إلى الكلام عن البداء..... 124

49 - الثَّاني: معنى البداء..... 126

50 - الثَّالث: إشكال ورد..... 132

51 - الرَّابع: إشكال آخر ورد..... 136

52 - الخامس: الفرق بين النَّسخ والبداء..... 141

53 - السَّادس: أدلَّة البداء من الكتاب والسنَّة عن الفريقين..... 146

54 - السَّابع: أقسام القضاء ومتى يقع البداء منها عند الشِّيعة الإماميَّة..... 152

55 - الثَّامن: ثمرة الاعتقاد بالبداء..... 156

56 - التَّاسع: نتيجة البحث وخلاصة الكلام عن البداء..... 157

57 - الفصل الخامس / مشكلة الجبر والتَّفويض في آيات الأحكام والسنَّة الشَّريفة..... 159

58 - الأوَّل: سبب تدوين هذا البحث..... 159

59 - الثَّاني: مناشىء الجبر والتَّفويض العامَّة والخاصَّة والأخص..... 164

60 - الثَّالث: أدلة المجبرة على القول بالجبر بعد بيان أصل فكرتهم وردها..... 168

ص: 457

61 - الرَّابع: ذرائع المجبِّرة الواهية وخطورتها..... 176

62 - الخامس: أدلَّة المفوِّضة على القول بالتَّفويض وردِّها..... 180

63 - السَّادس: قول الإماميَّة أهل النَّمط الأوسط وأدلَّتهم..... 182

64 -السَّابع: ما يعين على تعقُّل وتقبُّل الوسط العقائدي والشَّرعي المطلوب..... 184

65 - الثَّامن: نتيجة البحث وعمليَّة المعالجة لأمور آيات الأحكام عند وقوع ما يشكل أمره..... 200

66 - الفصل الخامس: الفرق بين حجيَّة ظواهر القرآن ومدى الحاجة إلى ظواهر السنَّة في نفسها لنفسها وللقرآن..... 203

67 - المقام الثَّاني / ما يختص بالكتاب الكريم (القرآن الشَّريف)..... 204

68 - التَّمهيد الأوَّل / ركنيَّة كتاب الله تعالى في علم الأصول..... 204

69 - التَّمهيد الثَّاني / دستوريَّة القرآن الكريم لكل شؤون الحياة ومنها التَّعاليم الفقهيَّة الشَّرعيَّة..... 214

70 - الفصل الأوَّل / الاحتجاج بالكتاب الكريم من آياته على مدِّعي الانسداد الكبير للأحكام جهلاً عقلاً وشرعاً..... 222

71 - الفصل الثَّاني / حجيَّة الظهور في القرآن وآيات أحكامه..... 237

72 - الأوَّل/ في معنى الحجَّة والحجيَّة..... 238

73 - الثَّاني / الفرق بين معاني النَّص والظَّاهر والمضمر..... 239

74 - الثَّالث / كون الظواهر من مباحث الألفاظ وحجيِّتها من مباحث الحجة..... 240

75 - الرَّابع/ عدم الفرق في الظاهر القرآني في آيات أحكامه بين كونه حقيقة أو مجازاً ومختصَّاً أو مشتركاً ونحو ذلك..... 241

76 - الخامس / الحاجة إلى البحث عن الحجيَّة في الظهور القرآني..... 242

77 - السَّادس / إثبات حجيَّة ظواهر القرآن لبعضه لا كلِّه..... 245

ص: 458

75 - السَّابع/ الفرق بين حجيَّة القراءات وحجيَّة الظواهر القرآنيَّة..... 247

76 - الثَّامن/ الفرق بين الظواهر والظاهرية..... 248

77 - التَّاسع / نماذج ممَّا يدل على إمكان فهم كلام الله من كلام الله نفسه..... 249

78 - العاشر / الشَّواهد الأخرى الدَّالَّة على حجيَّة ظواهر القرآن وفهم العرب لمعانيه..... 251

79 - الحادي عشر/ الفرق بين المفاهيم والظواهر..... 258

80 - الثَّاني عشر/ كيف يتم الظهور مع مقدِّمات الحكمة..... 260

81 - الثَّالث عشر / ما أورده المخالفون من أدلَّة إسقاط حجيَّة ظواهر الكتاب وما ردُّوا به..... 261

82 - الرَّابع عشر/ الظاهر والأظهر..... 269

83 - الخامس عشر/ في نماذج من الأمثلة الأخرى المناسبة لبعض الظواهر المعلومة..... 270

84 - السَّادس عشر/ تعارض الأدلَّة القرآنيَّة في نفسها ومع غيرها..... 272

85- السَّابع عشر/ المقارنة بين حالة النَّص والظاهر وبين حالة الحكم الواقعي وحالة الحكم الظاهري..... 277

86 - الثَّامن عشر/ الكلام عن أصالة الظهور..... 279

87 - التَّاسع عشر / ومن هذه الأمور النَّتيجة النِّهائيَّة وخلاصة البحث الماضي بهذه الأسطر..... 280

88 - الفصل الثَّالث / تعداد آيات الأحكام ومقاييس عدم حصرها بعدد معيَّن..... 282

89 - الأوَّل/ ليس كل ما شاع من العدد له واقع..... 282

90 - الثَّاني/ سؤال غريب ليس له جواب شافي..... 286

91 - الثَّالث/ سؤال آخر تأكيدي نجيب عليه..... 291

92 - الرَّابع/ إجابة توضيحيَّة على سؤال آخر تتضمَّن بعض المقاييس النَّافعة الأخرى..... 296

ص: 459

92 - الخامس/ ما هو المراد الحقيقي من آيات الأحكام..... 301

93 - السَّادس/ مقياس إلحاقي قابل للنَّفع في المقام..... 302

94 - السَّابع/ خلاصة البحث..... 302

95 - المقام الثَّالث / ما يختص ببحوث الدَّليل اللَّفظي الثَّاني السنَّة بعد آيات الأحكام وما يتعلَّق بها..... 311

96 - الفصل الأوَّل / ركنيَّة السنَّة بعد كتاب الله تعالى..... 311

97 - الأوَّل/ أهميَّة أصل السنَّة وأهميَّة الكلام عنها لآيات الأحكام..... 311

98 - الثَّاني / معنى السنَّة لغة واصطلاحاً..... 313

99 - الثَّالث / مصاديق السنَّة الثَّلاثة في عرف الإماميَّة..... 315

100 - الرَّابع / هل أنَّ كل ما ورد من أهل التَّسنُّن والمخالفين يُعد من السنَّة عندنا؟..... 316

101 - الخامس / المقارنة بين رواية (خذوا ما رووا ودعوا ما رأوا) ورواية (دعوا ما وافق القوم فإنَّ الرُّشد في خلافهم)..... 319

102 - السَّادس / هل من معاني (اختلاف أمَّتي رحمة) هو خصوص ما يقع بيننا وبين العامَّة من الاختلاف؟ أم حتَّى

ما بيننا نحن الإماميَّة؟..... 326

103- السَّابع / هل إنَّ ما يعرض على الكتاب ويخالفه من الرِّوايات في ترك العمل به خاص بما كذب على النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ؟ ..... 328

104 - الثَّامن / هل إن أخذنا بروايات العامَّة للتَّعبُّد أم لا تعبُّد بها؟..... 328

105 - التَّاسع / هل نعمل بكل الصِّحاح؟ وهل نترك كل الضِّعاف؟..... 329

106 -العاشر / لماذا يُعد علم الرِّجال غير ميمون في البحث فيه والالتزام بنتائجه؟..... 330

107- الحادي عشر / هل يُعد المدح والذَّم لرجال السَّند منحصراً..... 333

108- الثَّاني عشر / السنَّة والبدعة..... 334

ص: 460

109 - الثَّالث عشر / لماذا تسمَّى العامَّة بأهل السنَّة؟..... 341

110 - الرَّابع عشر / علاقة السنَّة بآيات الأحكام..... 343

111 - الخامس عشر / صفات الرَّاوي..... 344

112 - السَّادس عشر / صفات الرِّواية..... 346

113- السَّابع عشر / لماذا التَّقسيم إلى الصَّحيح والحسن والضَّعيف والموثَّق..... 347

114 - الثَّامن عشر / أسباب التَّعارض في الأخبار..... 351

115 - التَّاسع عشر / ورود استضعاف النَّبوياَّت..... 355

116 - العشرون / قاعدة (الجمع مهما أمكن أولى من الطَّرح)..... 357

117- الحادي والعشرون / ضعف السَّند وجبره بعمل الأصحاب..... 361

118- الثَّاني والعشرون / الفرق بين الثِّقل الأكبر (القرآن) والثِّقل الأصغر (السنَّة) وبين كونه هو عدلها وهي

عدله والتَّوجيه مع إمكانه إن صحَّ دليل الطَّرفين..... 362

119 - الثَّالث والعشرون / نتيجة البحث..... 363

120 - الفصل الثَّاني / الاحتجاج بالسنَّة من الكتاب والسنَّة ..... 364

121 - الأوَّل/ بطلان الانسداد الكبير والأقل فضلاً عن الأكثر..... 364

122- الثَّاني/ شيء من الكلام عن التَّعبُّد بأخبار الآحاد..... 372

123- الثَّالث/ الفرق بين الانفتاح والانسداد من مراتب الاثنين مع نتائج كل منها في الأوامر علميَّاً بين المراتب من

كل منهما مع العمل قبولاً ورفضاً..... 374

124- الرَّابع: من أدلَّة ما يمكن منه عدم اعتبار خبر الواحد عند العلماء إلاَّ مشروطاً..... 385

125- المقدِّمة الأولى..... 385

126- المقدِّمة الثَّانية..... 385

127- خاتمة جزء مباحث الألفاظ / الأصول ومعالجة بعض النُّصوص المختلف فيها بين الفريقين وما شابه ذلك..... 410

ص: 461

128- المدخل الأوَّل..... 410

129- المدخل الثَّاني... ..... 410

130- المطلب الأوَّل / مقدِّمة البحث..... 413

131- المطلب الثَّاني / موارد إمكان اتِّفاق هذا الحديث وأمثاله مع الأدلَّة الصَّحيحة الأخرى من عدمه..... 424

132- المطلب الثَّالث / خلاصة المطلب مع نتيجته..... 442

133- نهاية المطاف..... 448

115 - المصادر..... 449

ص: 462

ص: 463

ص: 464

المجلد 4

هوية الکتاب

تَأليف سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الحاج السيد علاء الدّينَ المُوسَوی الغریفی دامت برکاته

الجزء الرابع

الطبعة الأولى 1442 ه- / 2021م

المتبرع الدیجیتالي : جمعیة المساعدة إمام الزمان (عج) في اصفهان

محرر : خانم شهناز محققیان

ص: 1

اشارة

هوية الكتاب

اسم الكتاب: مساعي الوصول الى الثمرات من الأصول

تالیف: سماحة آية الله العظمى السيد علاء الدين الموسوي الغريفي (دام ظله)

الجزء: الرابع

الناشر: موسسة العلامة الفقيه السید محسین الغریفی الثقافية

الطبعة: الأولى

سنة الطبع: 1442ه- / 2021م

ص: 2

كلمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحیم

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله محمد المصطفى، وآله الطَّاهرين ذوي السُّؤدد والعُلا واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدين والعقبي وبعد:

فهذا هو الجزء الرابع من الكتاب المسمى ب( مساعي الوصول إلى المثمرات من الأصول) لسماحة سيدنا المفدى المرجع الديني الكبير والفقيه النحرير آية الله العظمى السيد علاء الدين الموسوي البحراني الغريفي "دام الظله الوارف "البادئ من الباب السادس والمختص بالمباحث اللبية والذي يبدأ ب- (الإجماع والعقل مع ملحقاتهما، والمثنى بشيء من مباحث الحجة ومراتبها، والمنتهي بمباحث التعادل والترجيح وتعارض الأدلة، بعد استحصال موافقة سماحته "دامت تأييداته" على طباعته ونشره وتقديمه بين المطالع الكريم.

راجين منه ومن الجميع التفضل بالدعاء لنا بالتسديد والتأييد في إكمال نشر جميع أجزاء هذا الكتاب القيم، وجميع ما ينتجه يراعه الشريف وقلمه المنيف.

كما نسأل الله تعالى أن يمتعنا بطول بقائه وفي أتم صحة وعافية، إنَّ الله سمیع مجيب.

الناشر موسسة العلامة الفقيه السید محسین الغریفی الثقافية

ص: 3

ص: 4

المحتوى الإجمالي لمضامين الجزء الرابع

قد جعلنا منهجية بحوث الجزء الرابع من كتابنا (مساعي الوصول إلى المثمرات من الأصول) و مكوناته الرئيسية الابتداء بمقدمتين مهمتين للباب السادس الذي يتعلق ب- (الإجماع اللبي والعقل اللبي) وهما:

الأولى تتمة الأركان الأربعة وهي الدليلان اللبيان (الإجماع والعقل).

الثانية: الحجة الدامغة بين الألفاظ والألباب لعموم وإطلاق الأركان الأربعة.

الباب السادس ويقع في بحثين مهمين:-

الأول: وهو البحث عن الإجماع اللبي وتوابعه من السيرة والشهرة.

الثاني: وهو البحث عن العقل اللبي ودفع ما ألحق به مما عند العامة.

الباب السابع: بحوث الحجة ومراتبها مع بحوث أخرى لأشياء من تفاصيله.

الباب الثامن: وهو البحث عن (التعادل والترجيح أو تعارض الأدلة).

ويقع في بحوث :-

الأول: وفيه تمهيدان:-

التمهيد الأول: حول سبب عدم تأخير الكلام عن هذا البحث إلى الجزء الرابع من الأصول، وتقدّم وتأخر بعض نماذج مما قد يشبهه ولكنها بدون مطابقة تامة.

التمهيد الثاني: عن سبب اختيارنا لعنوان البحث أعلاه وترك ما عبر به القدامى و هو (التعادل والتراجيح ).

الثاني: جواب المقارنة بين ما جاء به القدامى من "التعادل" و بين ما جئنا به نحن أيضاً مثلهم

الثَّالث: جواب المقارنة بين تعبير القدامى بالتعادل وما قلنا به أيضاً وتعبيرنا بالتّعارض واحتمال معنى الإضراب فيه.

ص: 5

الرابع: جواب المقارنة بين مختارنا مع بعض السابقين من لفظ الترجيح بدون الألف وبين اختيار القدامى معها.

الخامس: التعارض في الأدلة وخواصه المميزة له عن التزاحم.

السادس: شروط التعارض الخاصة.

السابع: الفرق بين التعارض والتزاحم.

الثامن: مشخصات التزاحم بخواصه الأكثر وقواعد الترجيح عليه.

التاسع: قواعد الترجيح في بعض حالات التزاحم.

العاشر: خلاصة ما مضى ذكره من القواعد الستّة للتّزاحم .

الحادي عشر: ماذا قال الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره عن الحكومة والورود و المناسبة للمقام

الثاني عشر: ماذا قال المعترضون كالشيخ قدس سره و من سبقه لخصوص الحكومة.

الثالث عشر : ماذا قال السابقون عند تعرضهم لخصوص أمر الورود.

الرابع عشر: ما هي القاعدة في التعارض المستقر هل هي التساقط أم التخيير؟

الخامس عشر: ما المقصود عندهم من كون (الجمع مهما أمكن أولى من الطّرح)؟ وما هي وظيفتنا؟

السادس عشر: انحصار كون القاعدة السابقة في العرف الدلالي دون التبرعي.

السابع عشر : عود الكلام عن التعارض قبل الاستقرار مع العلاجات بما هو ادق

الثامن عشر: أخبار الترجيح في أمور.

التاسع عشر : التفاضل العلمي العملي في مرجحات ما بين الأدلة.

الباب التاسع: الإجتهاد والتقليد في علم الأصول.

ص: 6

الباب السادس : (الإجماع اللبي والعقل اللبي)

اشارة

وقبل الدخول في صلب الكلام عن بحوثهما لابد من مقدمتين مهمتين:-

المقدمة الأولى: (تتمة الأركان الأربعة و هي الدليلان اللبيان الإجماع - والعقل)

بعد أن مر وتم الكلام الميسور في الباب الثالث وفي بداية الجزء الثاني من مباحث الألفاظ لكتابنا الأصولي (المساعي) - والمرتبط في مضامينها بأهم مباحث الحجة الشرعية من الأركان الأربعة المعروفة وهي (الكتاب والسنة والإجماع والعقل)، وأعنى الأولين منها وهما الدليلان اللفظيان (الأول والثاني) منها مما مضى ذكره وتيسر لنا بيانه هناك مع فروعهما الأصولية الماضية منها -

جاء دور الباب الخامس في هذا وهو بداية الجزء الرابع للكلام عن بقية مقومات الحجة الشرعية من كتاب (المساعي)، وهما الركنان الأخيران من تلك الأركان الأربعة، وهما المسميان بالدليلين اللبيين مقابلة لسابقيهما اللفظيين وهما الإجماع والعقل.

وقبل الخوض في تفاصيل كل من هذين اللبيين (الإجماع والعقل) واحدا بعد الآخر لابد من سبقهما بالكلام عن العنوان الآتي، و هو:

ص: 7

المقدمة الثانية :-الحجة الدامغة بين الألفاظ والألباب لعموم وإطلاق الأركان الأربعة

وهي لناحية أهمية ما على عاتق أهل الحل والعقد الأصوليين الفاعلين في عملية تسيير وتيسير أمور المتعلمين وتنشيط مبتدئي الباحثين بالتسهيلات المتعددة لهم ببذل قصارى جهودهم لهم جميعا لفهم مدارك أمور الشريعة وجميع مصطلحاتها والتبصر فيها لأنفسهم، ولكل طبقات الآخرين من الأصوليين طلاباً وباحثين وأرقى.

و للخلاص أيضاً من مسؤولية الخروج عن مألوف ما اختص به أرباب الأدب اللفظي العام، ولدى أهل كل لسان في قواعد كل منهم الأدبية اللغوية من كل لغة مهما تنوعت ، لا لخصوص لساني الكتاب والسنة ولو في بداية الأمر.

لأهمية الحاجة المثلى لوسائل الإفهام والتفهيم والتفهم اللساني أو مطلق العمل البياني وبنحو المباشرة والتسبيب وبواسطة السمع، أو السمع مع البصر، أو حتى لفاقد السمع بمعونة الكتابة على اختلاف أنواعها اللغوية مع الإشارة المفهمة، أو حتى البصر بمعونة حاسة السمع، أو مع اللمس إذا فقد سمعه مع بصره بمثل الكتابة التخريمية والتثقيبية المتعارفة حديثاً للمكفوفين المسمات ب- (البراي)، وبالأخص كثيراً حال التيسر الكامل، أو عند فرض الأمر الواقع بين أهل الأدب العربي الخاص في تنوع طرق الإيصال والاتصال من لغته ألفاظاً وكتابات وإشارات وعقد ونصب وعلامات وهواتف وتسجيلات صوتية ونحو ذلك مما استحدث له إعلامياً واستعلامياً.

إضافة إلى ما قد عرف قديماً وحفظ في القواميس وكتب القواعد النحوية

ص: 8

و الصرفية والتجويدية والمعاني والبيان والبديع من أمور الفصاحة والبلاغة من مقومات الحجة البالغة نصاً و ظاهراً وعلماً مقطوعاً به وظناً علمياً خاصاً موثوقاً به ومنطوقاً ومفهوماً مأخوذاً بهما، وعلى المنهج المنطقي العام من مباحث الألفاظ، وبما لم يخرج منها عن مستوى تمام ما هو المعقول، لكون علم المنطق خادم كل العلوم وبواسطة جميع اللغات.

وأهم تلك العلوم معارف الشريعة المبحوث عن حجيتها الدامغة الآن والأهم من ذلك كله ما كان موافقاً للمنهج الأصولي، بل والأخص في مباحث ألفاظه.

لكون الأصول هذه تُعد المنطق الفقهي الخاص، والأخص في مباحثه اللفظية المرتبطة بالصفة الأقرب إلى المدركين اللفظيين الماضي ذكرهما كتاباً وسنة

فلابد إذن أن لا تكون ألفاظه يوماً منفكة عن عربيتها في قعر بحري تمام معقولي الكتاب والسنة تصوراً وتصديقاً ذهنياً مقطوعاً به أو مظنوناً خاصاً به من مدارك الأحكام اللفظية المشبعة بأعلى اللبيات العقلية المنسجمة تماماً مع الشرع الشريف ومداركه.

ولأجل الخلاص أيضاً من مسؤولية الخروج عن مألوف ما تعارف عليه أرباب أهل الأدب الإضافي العقلائي العام، وبالأخص من ذلك أعني الإضافي الخاص قديماً قبل نشؤ التّجارب اللفظية والممارسة اللغوية.

بل وحتى حديثاً لو تجردنا عما هو أوسع من عالم المعقول اللبي مثل ما عن وسائل الإيضاح المتعارفة واكتفينا بعجائب المواهب المتقنة والتفكرية الصائبة بأدنى تأمل في مواهب الرحمن الإلهية التي في العقول من عالم الكون والفساد أرضاً وسماءاً وبحراً وجواً وكواكب وكل شيء كما في الآيات التي تدعوا إلى التفكر والتدبر فيها وما يعطى بسببهما من الفيوضات الربانية الهائلة.

ومن هؤلاء في طول الزمان وعرضه من فقد قدرته اللسانية وسمعه، ولكنه لم

ص: 9

يفقد مواهبه الذهنية اللُّبيَّة حتى أنقذ نفسه ومحتوياته الفكرية بحسن الإشارة أو الكتابة ونحوهما من حالات تسيير الآخرين الأقدر منه إلى ما يحتاجه المبتلى كلاً أو بعضاً.

ومنهم من فقد بصره ولكنه لم يفقد مواهبه الذهنية اللبية أيضاً حتى اهتدى أو أهتدي له وبمعونته من اتَّخذ له وسيلة اللمس المفهم مع بقية أحاسيسه مع موهبة الحفظ والذكاء الفطري الوقاد مما مر ذكره.

ومن حالات اللمس ما تفهم عن طريقه كافة المعلومات الأخرى المستحدثة، ومن أهمهم من فقد بصره متأخراً بعد أن دبر لنفسه كل أو أغلب أو بعض ما ينفعه من العلم والعمل الصالح، ومنهم من اجتهد ووفق للمرجعية الدينية من ذوي هذه الصفة.

ومنهم من فقد اللغة العربية أو لم يهتد لدقائقها أو اهتدى لبعضها أو لسطحيات هذه اللُّغة فقط واضطر لمعرفة علومه الحوزوية المطلوبة منه بواسطة وسيلته الإستيضاحية المتعارفة لديه من بقية اللغات و لو مؤقتاً إلى أن يهتدى إلى مضامين ركني الكتاب و السنة.

أو كان من قبيل الأبكم الأصم أو الأعمى وتيسرت لديه وسائله المتعارفة لديه حالة طلبه للعلم وإن ضعفت هذه الوسائل عن مثل تلك الإستيضاحية الأصيلة للاعتماد الأفضل والأهم عليها اعتيادياً.

لكن قد يكون بل كثيراً ما يكون الاعتماد على ما فوق الوسائل الاعتيادية المذكورة بمثل الفيوضات الإلهية الحاصلة لمثل هؤلاء من بركات المعاني اللبية غير المحدودة ما دام الإخلاص وحسن النوايا والجدية مثبتة في قلوبهم، وقد نبغ كثير من جهابذة العلم عن هذه الطرق غير المألوفة مما لم يتوقع عادة وصاروا من المراجع المهمين أيضاً.

ص: 10

إضافة إلى أن أهل المواهب الإلهية الذهنية الكاملة عن أسماعهم وألسنتهم وأبصارهم لا يحق لهم هجران معقولياتهم اللبية بإهمال ما أتحفوا به من وسائل أخذهم وعطاءهم في توسعتها والتعمق بها، لأن بهذا الهجران مع كونه قد يكون ناشئاً من عين الغرور والاتكالية على قدرات الآخرين البارعين، وهو من العيب بمكان.

فإن من تمام السعي للنزول لحضيض الجهل الموجب للأخذ من الغير الذين لم يحرز إخلاصهم، بل كثيراً ما يصل تارك التفكر وهاجره وأصلاً إلى ما هو الأشد سيرة البهائم إذا انعدم المرجع الكفوء، أو لم يتيسر له من يسعى لإنقاذه من الأكفاء المحبين.

بل قد يضاف إلى هذا أنَّ استخدام اللّسان والسمع والبصر وغيرها في أمور الاستزادة التفكيرية اللبية المطلوبة مع ما ذكرناه والأهم منه ما لو كان في طلب العلم المقارن للاعتزاز بالنفس وحباً بالتنافس الذي دعا له القرآن والسنّة كما لو قل المخلصون من المراجع -

فلابد أن يعطى حسب العادة التواصلية الدراسية والمثابرة الجدية التي فيها الأضعاف المضاعفة من النورانية التي لا يضاهيها مقدور أحد، حتى من حوى اللّسان والسمع والبصر وعلى أحسن مستوى من الصحة والعافية لو لم يستثمر علومه بمعونتها تماماً لاستقلالية بعض أو كثير عبقريات عن هذه الوسائل، وإن أفادته سطحيا في الطريق

و لذا قد يحاسب إلهياً على نورانيته تلك كل عاقل مقصر، ليحافظ عليها ويرعاها، لأنه قد يكون تاركها كالأبكم الأصم الأعمى أو ما يشبه ذلك ممن يعطل حواسه ولا يرعى أمور لبياته.

وقد خلق الله تعالى العقول قبل خلق آدم علیه السلام وجعلها أول الرسل للإنسان، بل

ص: 11

هي الرسول الباطني، وعن طريقه اهتدى من اهتدى من البشر وقبل ممارسة التداول اللفظي للغات، وبالأخص كثيراً من أوحي إليهم من الأنبياء والملهمين.

بل قيل إن أرسطو طاليس ما وحد الله جل جلاله إلا عن طريق عقله بعد نبي الله آدم وشيت علیهما السلام.

وحيث أن العقل كما في الحديث القدسي المعروف عند الله تعالى أنه به يثيب وبه يعاقب.

فلابد أن يكون كل عاقل من البشر حتى قبل إرسال الرسل وبعثة الأنبياء متمتعاً بهداه الفائق مع كامل أحاسيسه الطبيعة الفطرية، وإن لم يمارسها تماماً كما ينبغي، بل يحب مع الآخرين لنفسه وأهله وللأخرين بالمودة والألفة ودعوتهم للاستقامة النوعية والإذعان المشترك لوحدانية الله وشكر أنعمه بكل مصاديق عبادته على نعم الوجود العامة والخاصة التي من ألزم لوازمها غير المنفكة عدم الاعتداء على الآخرين، وإن سبقته الملائكة في عقولها بحسن الإطاعة - كما حصل من الأول بين هابيل وقابيل وهو جريمة قتل النفس المحترمة مما أشعر القاتل المفسد في الأرض فوراً بالندامة بذنبه العظيم الحاصل من وسوسة إبليس "لعنة الله" عدو القاتل والمقتول وعدو أبيهما آدم علیهما السلام الذي أنزله مع زوجته حواء من جنتهما بحسده الأعمى إلى هذه الدنيا المفسدة الفانية وبندامة الخزي لما رأي القاتل الغراب الذي لم يعقل حينما اهتدى ليدفن ميته .

ولهذا اهتمت الكتب السماوية والألواح الربانية بالاقتضاء التام من الحكم الإلهية لإنقاذ البشرية التي قد يفضل المعصومون من رجالها ونساءها حتّى على ذوات الملائكة القدسية من إغراءات النفس والهوى وإبليس والدنيا الدنيئة بمجيء تلك الألواح والكتب بالشرائع الدينية المحفوفة بالمعاجز الخارقة للعادات للإسراع بتصديقها على أيدي الأنبياء والرسل وأولى العزم المكلفين ببثها ونشرها، لتكون

ص: 12

حاكمة على العقول المستضعفة لو استقلت وحدها في كل شيء عن مبادى السماء العلية والإعجازية.

وآخر تلك الكتب كتاب خاتم الأنبياء والمرسلين المصطفى وهو القرآن العظيم الذي حوى توصيات جميع تلك الألواح المهمة والكتب وتعاليمها وزيادات، لتدول العادلة العظمى في الكرة الأرضية بالدولة الموعودة الخاتمة ولو بتنجيزها على يد الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالی فرجه التلك التعاليم والتوجيهات هو وجوب ولزوم الاهتمام برعاية حقوق العقول والأفئدة والألباب تحت ضلّ تلك الشرائع السماوية، لئلا تسخر لصالح النفوس الإمارة وبقية المغريات التي أقل ما في مخاطرها هو الخلط بين الحسن و القبيح.

وللاهتمام بها قبل كل شيء كثيراً وعلى هذا النحو من النهج جعلت ألفاظ العقول والألباب معتنى بها في آخر الآيات الشريفة كرموز تنبيهية لتدلل على أعلى ما يجب أن تستخدم ألفاظهما من أجله في الحياة تحت الظل القرآني وظل السنة دون أي استغلال خطر عنهما.

و كم من عبقري جهبذ حباه الله تعالى من أعالي هذه الأفكار اللبية ما لم يقدر أن يباريه أي منافس، حتى إذا كان العبقري ممن كان دون العصمة من الأنبياء والأئمة علیهم السلام و كان عي البيان، أو كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وإن لم يعجز قدرة عن تعلمهما، أو كانت تضعف عنده حالاتهما بالاعتماد على تلقيانه من أساتذته المهمين وعلى إخلاصه في حسن القصد وحسن الأخذ وعلى الذكاء والحافظة الجيدين، لقوة قفزاته التفوقية على الاعتياديين، وإن قل أن يثبت لنا التأريخ الصحيح الوافر الواقعي من هذه النماذج للاقتداء بهم في بعض موارد العسرة.

فالأمر سهل في أن تثبته القدرات الإلهية وإن كانت في وفرة فعليتها إعجازية،

ص: 13

فإِنَّ الله تعالى فعل الإعجاز في عموم الأنبياء والمرسلين والأئمة المعصومين علیه السلام.

فصنع تعالى ما فوق هذه المقاييس كإتحاف سيد الكائنات الرسول الأعظم الخاتم صلی الله علیه و آله بإعجازاته المتنوعة و الجمة والنابعة من نقاوة لبياته التي أهلته ليكون المختار لهذه الأمة دنيا وآخرة، وإن ترجمتها دقائق معاني الوحي المبين بما جمع ألفاظ ولبيات ما بين الفضيلتين من المنقول وخير المعقول في القرآن والسنة الشريفة ومن بعده خليفته ومعجزته وباب مدينة علومه أمير المؤمنين علیه السلام في فصاحته وبلاغاته.

وهكذا بقية الصفوة علیهم السلام لينهج بقية السالكين في مثل هذا الطريق المعبد الرباني لیزدان الاستثمار من اللبيات من النمير العذب الوارد عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم و آله علیهم السلام وبما يطابق التعاليم الإسلامية دون غيرها.

وبتكامل الناحيتين اللفظيتين مما مر ذكره من المعاني التي حواهما الكتاب والسنة مع الناحيتين اللبيتين مما أشرنا إليهما بعد ذلك، وهما محل كلامنا في هذا البحث مما سنبدأ بتفصيله كما وضعه الأصوليون في التسلسل العلمي الآتي قبل الأصول العملية وهما (الإجماع والعقل) حينما يشتد بعضهما ببعض حسب العادة الاصطلاحية المتبعة إلا ما قل وشذّ من المواهب الخارقة.

لابد أن تظهر تلك الحجية الدامغة في الشريعة المقدسة وفي جميع الاصطلاحية علماً وعملاً، بل بما لابد أن تفوق أي حجة علمياً إذا استقلت الشريعة وإن دعمت تلك الحجج المستقلة ما يسمى بالدقائق الفلسفية، لأن من مباني الشرعيات العرفيات الخاصة والمتناسبة مع القانون التسهيلي الإرفاقي المناسب لحالات الأمة المتفاوتة بين ذوى القدرة التامة وأهل العسر والحرج.

ومن حالات ذوى العسر والحرج ما يمكن منه أن تفسح الشريعة شيئاً من مجالها لقبول بعض المقررات العلمية المستقلة كالطب والصيدلة عند تشخيص أهل الاختصاص المحكم لبعض المرضى بمثل ترك الصوم أو تقليله في الأيام أو التدني في

ص: 14

الصلاة من الحالة الاعتيادية إلى الحالة الأخفض في الكيفية كالجلوس بدل القيام أو الإيماء بدل الركوع والسجود الاعتياديين ونحو ذلك.

وكذلك في بعض قرارات العلوم الأخرى المستقلة لو أيدها الشرع تجاه انحصار بعض أعمال المكلف الذي لم يقدر إلا على ما قررته مما تحت العناوين الثانوية وقاعدة الميسور بدل حالة الترك الكلّى الاعتيادي.

ولأجل أهمية الخوض في مطالب هذا المقام حيث موارد الحاجة المتعددة في الأصول حول خصوص الأمور اللبية وما يرتب عليه أمر أهمية ذكر ما يتعلق بالشيء لإيضاح ما يحقق معنى الحجة الدامغة.

ومن أجل الابتلاء بتعدد المذاهب الإسلامية وتشتت الآراء الأصولية بسبب تعدد مشاربها وما نشأت عليه وتطرف البعض، بل الكثير منها في المنقول والمعقول والقواعد الأدبية اللغوية والمقاصد اللبية المعتبرة وحباً بالتلاقي العلمي والعملي الثبوتي والإثباتي وبما يلتقى بواقع ما يرضي شرع الله تعالى ورسوله صلی الله علیه و آله بدون وضع وابتداع أو بما تظهره القواعد الأصولية المتفق عليها عند الجميع وإن قلت نسبها بيننا وبينهم لتوحيد الكلمة وكلمة التوحيد وما ينسجم معها، وعلى كلمة سواء ولو على النهج التقريبي دفعاً للتعصب أمام العدو المشترك الواحد -

لابد أن نقول ما يناسب أمر الركنين اللبين من الأركان الأربعة التي تتقوم بجميعها الحجة الأصولية وهما (الإجماع والعقل) كما لا يخفى.

وقبل البدء بتفصيل الكلام عن كل منهما على حده وكان هناك من الحديث ما يمكن أن تتفق النتيجة معه بالنحو المشترك أو المتشابه بينهما فلا بأس بتقديمه قبل التفصيل ولو موجزاً.

ص: 15

هل تأثير موضوعية لبية الإجماع والعقل في الجملة أم بالجملة؟

لابد من التنبيه على الأمر المشترك أو ما يشبهه في تصادف ما عرف بين أهل العلم والمتتبعين من الأصوليين عن أمر الإجماع والعقل وإن عرف من ظاهر أمرهما حسب تصور بعض سطحياً أنهما المكملان للأركان الأربعة المثبتة للحجة الشرعية.

فإنهما بعد التأمل والمتابعة الدقيقة - وإن سبقهما الكتاب والسنة في ضخامة ما تتحقق به الحجة منهما بالأساليب الأصولية المتعدّدة في الألفاظ والمعاني غير المنفكة عن اللَّبيات وبالنحو الأكبر قبل هذين اللبين الخاصين -

فإن المحقق عن هذين اللبيين بعد تأكد تفاوت نظر أهل كل علم وعرف بما يرضيهم ويقنعهم في اجتماعاتهم وبين كافة المجتمعات دينية وغيرها.

وبعد العلم بتفاوت نظر المذاهب المختلفة عما هو مستقر عند أهل البيت علیهم السلام حول إجماعهم المغاير لمعاني الإجماعات الأخرى.

وبعد تأکد تفاوت نظر بقية العلوم ومنها الفلسفة غير المقيدة بالشرع والمنطق المتفاوت عن الأصول الشرعية بأوسعيته، بل حتى التي تسمى بالشَّرعيّة إلا أنها قياسية وتمثيلية في بقية المذاهب غير الإمامية في أساليب تخريجاتهم العقلية حول لبية العقل -

لابد أن يكون مثل هذا الإجماع ومثل هذا العقل منفصلين عن أن يكون لهما موضوعية تامة في الفقه وفي عرض الكتاب والسنة إلا ما اصطلح عليه منها بالأخذ في الفقه عند الإمامية.

فالموضوعية في الفقه في الجملة لا بالجملة وإن كانت لبية كل منهما قابلة لأن تقبل في إثباتها أو تعقل في خصوص عالم الثبوت في ميدان الأمور العامة غير الفقه.

وإن حصل إجمال في عرض هذا المعنى الموجز عن ما اشترك فيه هذان الركنان

ص: 16

اللبيان فسوف يتضح الأمر كثيراً عند التفصيل عن كل منهما.

وبعد هذا النحو من الإيجاز لنبدأ بالكلام عن الأول من اللبيين أو الثالث الأركان وهو مبحث الإجماع.

ص: 17

المبحث الأول / (الإجماع)

وفيه فصول:

الفصل الأول المعنى اللغوي

قد بدا الباحثون في الإجماع أصولياً ولنكتة ظهرت من خلال تعمقهم في البحث أنه كان البحث عن كل ما يقتضيه الحديث عنه لفظياً ولُبياً، للوصول إلى نتيجة تحقيقية مطمئنة، ولو لم يكن بنحو التحديد المنطقي الدقي التام له، لتعذره أو تعسره في أصولنا الصناعية اللازمة للاستدلالات الفقهية المعتبرة شرعاً، لغرض التعرف عليه ولو عن طريق جمع الأفراد ومنع الأغيار مما سيأتي ذكره في البحث إن أمكن الوصول من خلال ذلك إلى كون الإجماع حجة لبية قابلة لأن يتمسك بها أو يستفاد منها مستقلة أو منضمة إلى بقية الحجج الثلاث الأخرى أو بعضها، وإلا فلابد بيان شيء قبل الخوض في المقصود.

وذلك بناءً على أنَّ الإجماع من الأمور العرفية العقلائية العامة في كل عصر وزمان ومصر ودون أن يختص بقوم دون آخرين من أعراب ومدنيين ممن اختبروا الحياة وتخضرموا فيها قروناً وعقوداً وسنين من أميين ومتعلمين، وليس لملة دون أخرى، ولا لعلم وصنعة حرفية دون أخرى، ومن طبيعة التعايش التأريخي القديم الجاهلي وما سبقه وما جاء بعده من الجديد البادي من شروق شمس الإسلام حينما تأسس فكر التدوين اللغوي وكتب ما حفظ من المعاني اللغوية ودونت القواميس على هذا الأساس بكل ما يعنيها -

ص: 18

لم ينعزل المسلمون كمن سبقهم في اللغة العربية العامة مع نبيهم صلی الله علیه و آله والأئمة علیهم السلام و من حولهم وفقهاءهم عن من سبقهم من بقية أهل الملل والنحل وبعض المبادئ السماوية وغيرها ممن حفظوا اللغة العربية وتداولوها وورثونا إياها - في شمول ما جمعه اللغويون في تلك القواميس حول لفظ هذه المفردة وهي (الإجماع) وكل ما حوته من معانيها.

ومنها ما نقصده مما أشرنا إليه أعلاه للنظر فيما جمعته المفردة من تلك المعاني اللغوية العديدة والتدقيق فيما يتناسب مع الهدف المنشود بفصله عما لا يتناسب معه من الأغيار، وهو ما يحتاج في البداية إلى استعراض بعض ما يتيسر ذكره مما قد يتساوى لفظه الآخرين في الذكر تحت المشترك العام وتفاوت بعضها عن بعض معنوياً قليلاً أو أكثر على ما تبرهن عليه القرائن المميزة بعضها عن بعض.

و من ذلك ما في الحديث ( خذ ما اجتمع عليه أصحابك واترك الشاذ الذي ليس بمشهور )(1) وهو ما إذا فسر الإجماع فيه بما يتساوى مع الشهرة، وهو ما لو ظهر منه في العموم اللغوي عدم التعارف على لزوم ربطه بالاصطلاح الآتي ذكره.

ومنه أنه سئل أبو جعفر علیه السلام عن معنى الواحد فقال (إجماع الألسن عليه بالوحدانية)(2) أي لما دعت إليه الفطرة السليمة التي لم تلوثها المغريات المعاكسة بالشرك والعياذ بالله تعالى في باب الاعتقادات الحقة دون الحاجة لينضم هذا الأمر إلى ما سيأتي من المعنى الاصطلاحي.

فضلاً عما لو أدّى هذا القول من الإمام علیه السلام الى عدم منعه من أن يراد أيضاً في باب الأعداد أنه لا يختلف اثنان في أن الواحد أول العدد مع ثبوت وإثبات المصداق

ص: 19


1- المعتبر - المحقق الحلي - ج 1 ص 62 عن أصول الكافي ج 1 كتاب فضل العلم ص 86.
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 ص 118.

الأسمى على وحدانية الله تعالى دون أي شريك.

ومنه مجيء الإجماع بمعنى الاتفاق، ومن أهمية حصول التوحد في الأقوال والآراء بين المجتمعين بنحو تصادفي بحيث لم ير كل منهم الآخر، وبدون تواطؤ منهم على معنى اتفقوا عليه لا في الزمان ولا في المكان، وهو من أهم حالات ما يدعو العقلاء إلى تصديقه.

ومن هذه المصادفة غير العادية أطلق على الإجماع بأنه (العزم)، لشدة عزم كل من يعرف هذه الاتفاقية بالأخذ بكل ما يظهر منها، ولكن تكامل الحجة لا يتم شرعاً مع هذه العمومية إلا بما هو آت من الاتفاق المخصوص دون الاتفاق العام.

ومنه قول الشيخ قدس سره في العدة (ذهب الجمهور الأعظم والسواد الأكثر إلى أن طريق كونه حجة السمع دون العقل، ثم اختلفوا، فذهب داوود وكثير من أصحاب الظاهر إلى أن إجماع الصحابة حجة دون غيرهم من أهل الأعصار، و ذهب مالك ومن تابعه إلى أن الإجماع المراعى هو إجماع أهل المدينة دون غيرهم غير أنه حجة في كل عصرهم، وذهب الباقون إلى أن الإجماع حجة في كل عصر ، ولا يختص ذلك ببعض الصحابة ولا بإجماع أهل المدينة).(1)

أقول: إن الشيخ قدس سره لم يترك رأيه الشريف الإيجابي بعد هذا المنقول إلا بما سيتضح منه ومن غيره، إلا أنَّ هذا المنقول عن العامة وبعض مذاهبهم لابد أن نبقيه في مصاف ما تذكره القواميس اللغوية العامة لخلو معانيها عن المصطلح الإمامي الآتي، وإن دخل في المصطلح الأصولي الخاص عندهم.

وإذا أردنا إخراجه من العموميات اللغوية العامة وإدخاله في الإسلاميات دون إسلاميات الإمامية وأصولها فيمكن أن نطلق عليها بالإجماع أو الاتفاق الخاص ولو

ص: 20


1- عدة الأصول (ط. ق) - الشيخ الطوسي - ج 3 ص 64.

بمعنى الاصطلاح السطحي لهم.

وأما الذي عليه الإمامية فسياتي الاصطلاح التام لهم، بمعنى ما هو الاخص دون الخاص فقط.

ومنه الإجماع الذي اختاره بعض الصحابة الذي أنتجته سقيفة بني ساعدة مخالفة لخلافة أمير المؤمنين علي علیه السلام الشرعية بعد النبي صلی الله علیه و آله المباشرة ومعارضة لبيعة يوم الغدير المتواترة على رؤوس الأشهاد، والذي يمكن أن يكون معبراً عنه فيما نقله الشيخ قدس سره سابقاً في كتابه العدة، وهو وإن أنتج بعد حكم المشايخ الثلاثة اختيارهم لأمير المومنيين الله كونه رابعاً للخلافة في انسجام خلافته الأصيلة هذه الرابعة بعض الشيء مما قد يتصور البعض لأجله مصداقية هذا التعريف الاصطلاحي الآتي.

إلا أنه في الجملة غير الواضحة دون التفصيل اللازم لهذا النوع من الإجماع مع أنَّ هذا التصور المزعوم في واقعه عقيدة وعملاً لا يقل عن كونه وهماً أو إرضاء من ذوي النفوس التواقة لمجاملة الآخرين ولو على حساب المظلومين دوماً من مدققي الإمامية، وهو مما لا يرتضى عقيدة من جهة دقة أدق.

لأن الاصطلاح الآتي من أهم لوازمه البينة بالمعنى الأخص عدم مشروعية خلافه المشايخ الثلاثة قبله صلی الله علیه و آله، و إن كان مرجع الكلِّ في الكلِّ أيام حكمهم كما أهل لذلك لإمامته المسلمة بينهم شاءوا أم أبوا اغتصبوا الخلافة الأولى منه في البداية أم جعلوه رابعاً.

وحجية قوله وفعله وتقريره - في النظر الفقهي والأصولي الآتي له طريقيا مع ما هو الاعمق من الحالة اللبية وكذا الأنبياء والحجج الميامين الأحد عشر علیهم السلام بعد النبي صلی الله علیه و آله وبعد أبيهم علیه السلام - ثابتة ، سواء ثنيت لهم وساده الحكم أم لم تثن.

وإن وردت من أولئك الصحابة بالقول المتواتر لفظاً ومعنى من الفريقين اعترافات عديده جداً، لاحتياجهم إليه واستغنائه عنهم بالحقيقة، وأفضليته في عديد

ص: 21

الأمور عليهم.

ومن أجل هذا وغيره ثبت في الروايات الصحيحة عنه علیه السلام حتى التي من طرق العامة إذا كانت مقبولة ومعمولاً بها كالمرويات الشريفة منهم عنه من طرق الإمامية ما لم تختلف عن ثوابت الإمامية ودون المرويات عن غير الأئمة الباقين من أبناءه علیهم السلام بالنتيجة، لكونها مشروطة بأن تكون في الغالب من طرق الخاصة وهم الإمامية، لكثرة ما حصل من التلاعب من قبل غيرهم بالوضع والدس والتلفيق أيام الدولتين الأموية والعباسية مع المضايقات لأولئك الأئمة علیهم السلام إلا ما قل وندر من روايات الثّقات من العامة عنهم.

ومع ذلك كلّه لا يتحقق بهذا التعريف للإجماع معنى إلا بما وجهناه لا بمستوى ما يتوهم المتوهّم لما مرّ، ولو لاشتراط طلحة والزبير لرضاهما بخلافته مكان الخليفة الثالث، على أن تكون سيرته بعد كتاب الله وسنة رسوله صلی الله علیه و آله على نهج الأول والثاني، أي حتى لو اجتهدا في مقابل النصوص، وهو غير مقبول عند الإمام علیه السلام إلا باجتهاد رأيه الموافق للنصوص.

ولذلك لما ثنيت له تلك الوسادة بعد الخليفة الثالث حاربه الناكثان ومن بعدهما القاسطون والمارقون.

وكذلك بانت نتائج اتجاهات باقي المسلمين من غير الإمامية حتى اليوم بما لم نحسد عليه بمثل قلة الأخذ والتقيد حتى بهذه الخلافة الرابعة إلا ببعض المظاهر السطحية.

بينما الإمامية وأتباعهم التزموا بقوة علاقتهم بالخلافة الأولى وإن لم يضادوا إخوانهم الآخرين إن بقوا متمسكين بإمامته في تلك الرابعة حباً للألفة ورغبة في توسع الأخوة الإسلامية العامة مع رسمية التزامات الفريقين دون تنازل أو تشاحن.

ولعدم سداد ما ذكرناه عن هذا النوع من الإجماع، لعدم كونه مانعاً للأغيار

ص: 22

لابد أن يبقى في محفظة القواميس اللغوية، دون أن يكون اصطلاحياً.

ومنه ما يمكن أن يقترب من المعنى الاصطلاحي للإجماع ولو لبعض من تسرع إلى ذهنه البسيط هذا تلك التصورات ولو من بعض النواحي دون جميعها، بينما الواقع الاصطلاحي التام خلافه، وإن كان هذا النحو من الاقتراب من المعنى المدعى - إن أمكن تعقله في الجملة الثبوتية - لم يتصور إلا عند الإمامية بالنحو الأشد، دون الباقين من عامة المسلمين.

لأن حجية الإجماع عند هؤلاء الإمامية لن يكون لها وجه على ما سيأتي في محلّه القادم إلا بوجود الإمام المعصوم علیهم السلام في ضمن المجمعين، وهو ما لم يعتقد بشيء منه وحده بقية الآخرين من غير الإمامية، وإن أذعنوا ببعض مظاهر أخرى من ذلك تبعاً لما قد يطلقون عليه بإجماع الصحابة المعينين عندهم دون الأئمة الخواص عند الإمامية الإثني عشر علیهم السلام، لو لم تنتف صحبة المولى أمير المؤمنين "سلام الله عليه" عنهم، بل هي البارزة، وهو الإجماع الذي نسميه بإجماع الواجبات الضرورية بين كل المسلمين.

بحيث لا يختلف في أمر وجوب كل منها جميعاً اثنان من المسلمين، إماميهم وغير إماميهم كأصل وجوب الصلاة وأصل وجوب الصوم وأصل وجوب الزكاة وأصل وجوب الحج وغير ذلك، حتى مع اختلاف المبنى عند كل من الفريقين.

لأن مبنى كل منها عند الإمامية هو حجية قول المعصوم علیهم السلام من النبي صلی الله علیه و آله والأمام علیه السلام مع الضرورة الزائدة على الإجماع ، وهو عدم صحة إنكار كل منها.

ومبنى كل منها هو حجية قول الصحابة على ما حدد عندهم، وإن صاحب ذلك شيء من الضرورة غير القابلة للإنكار من أحد منهم حتى لو اقتصرت على مجرد الظواهر المعروفة عنهم نوعاً.

لكن هذا النحو من الاقتراب المشار إليه من المعنى الاصطلاحي للإجماع، الذي

ص: 23

قد يتكون في الحقيقة حتى من إجماعات متعدّدة لكل واجب ضروري مما مر ذكره وحتى من مختلف طرق فرق المسلمين المتعددة مع طرق فرق المسلمين المتعدّدة مع السطحية المتصورة ودقة التعريف الآتي تحت العنوان الاصطلاحي عند الإمامية في أصولهم مع اختلاف مبنى الإمامية عن مبنى غيرهم مما مر ذكره، وبالأخص كثيراً في بعض الفرعيات واختلاط المبنيين في المصداق الواحد الذي ذكرناه وهو إجماع الواجبات الضرورية الذي تظافرت مصاديقه عليها، إضافة إلى تضارب آراء المذاهب الأربعة الأصولية والفقهية فيما بينهم في الفرعيات وبالنَّحو الذي لا يمكن السيطرة عليه إلا في المعنى الموحد الواضح وهو كل الضروريات وما تلائم معها فيه لصالح التوحد المذهبي. وعن مثل ذلك استكشف بعض رجالنا الفقهاء قدس سرهم قوة جانب من جوانب هذا الإجماع من اختفاء نسب أحد المجمعين من رجالنا الإمامية لنكتة غيبته عجل الله تعالی فرجه الشریف

فلابد من أن يقال بعدم وجود مجال لما يشبه التعريف الاصطلاحي للإجماع في هذا المعنى الأخير، فضلاً عن محاولة تمام التعريف.

فإنه مع فرض إمكان ادعاء سطحية جمع الأفراد بين الفريقين فلا مجال لهذا الجمع بنحو الدقة مع عدم إمكان ووقوع منع الأغيار، لما مر ذكره من بعض الأسباب، ولتفاوت مصاديق الواجبات الضرورية المذكورة أعلاه في ثوابتها الفرعية عند الإمامية عما عند غيرهم في باب الأدلة الأصولية، لعدم الاتفاق عليها في ذلك فيما بين مذاهب العامة أنفسهم في الأدلة وتفاوت المدلولات.

إضافة إلى ما مر ذكره من تفاوت أنظارهم في الإجماع على ما بينه الشيخ الطوسي قدس سره في العدة عما اختلفوا فيه.

فلضبط الأدلة عند الإمامية ومنها الإجماع الآتي لابد من عزل هذا المعنى الأخير لصالح خصوص القواميس اللغوية، وإن أدخلناه ما سبقه في الأمور الإسلامية العامة بعد الأعم اللغوي أو الاصطلاحي العام دون الخاص.

ص: 24

الفصل الثاني المعنى الاصطلاحي الخاص

قد أشرنا في السابق وصرحنا أيضاً بعد ذلك بأن الإجماع بما هو إجماع عند الإمامية لا قيمة علمية ،له سواء قل عدده أو توسط في العدد، كما لو أشبهوا عدد التواتر أو استغرقوا الجميع ما لم يكشف عن قول المعصوم علیه السلام، وإن شبهوه في بعض تعابيرهم بأنه كالخبر المتواتر.

فلمجرد تشبيه قوة حجيته بقوة حجية التواتر الجامع القطعية المحققة في كلِّ منهما مع فارق لبية الإجماع - لحمله مجرد رأي الإمام دون لفظه ولفظية المتواتر - ولجامع الكاشفية بين الإجماع والتواتر أيضاً، أي كما أن الخبر المتواتر ليس بنفسه دليلاً على الحكم الشرعي دائماً بل بواسطة القطعية المستفادة من تواتر الخبر.

فكذلك الإجماع اللبي ليس بنفسه هو الحجة المقطوع بها وإن كان هو الكاشف ظاهراً ، وإنما الحجة فيه هو الأمر المنكشف، وهو رأي الإمام المحرز دون الأبعد.

وهكذا الأمر في حجية هذا الإجماع في الذين قل عدد أفرادهم من المجمعين أواستغرقوا في معنى ما يمكن أن يستفاد من معنيي الحجة اللبية.

ولغرض الوصول إلى ما قيمته علمية وعملية متناولة في اليد استدلالياً في مواردها بها لابد من استعراض طرق محتملة وردت في الأصول.

الطريق الأول: الإجماع المسمى بالدخولي

قد جاء في بعض المصادر عن السيد المرتضى علم الهدى قدس سره على ما نقل عنه قوله (إذا كانت علة كون الإجماع حجة كون الإمام فيهم فكل جماعة كثرت أو

ص: 25

قلت كان الإمام في أقوالها فإجماعها حجة)(1)

أقول: وهو ما سموه بطريقة الحس أو الطريقة التضمنية، وهي معروفة عند القدماء ومنهم السيد المرتضى قدس سره ومن سلك مسلكه.

ولذا جاء في العدة للشيخ الطوسي قدس سره أيضاً بعد ما نقلنا أيضاً في الحقل اللغوي بعض آراء العامة حول إجماعهم قولاً (والذي نذهب إليه أن الأمة لا يجوز أن تجتمع على خطأ، وإن ما يجمع عليه لا يكون إلا حجة، لأن عندنا أنه لا يخلو عصر من الأعصار من أمام معصوم حافظ للشرع يكون قوله حجة يجب الرجوع إليه، كما يجب الرجوع إلى قول الرسول صلی الله علیه و آله، و قد دللنا على ذلك في كتابنا " تلخيص الشافي " واستوفينا كلّما يسأل عن من ذلک من الأسئلة، وإذا ثبت ذلك، فمتى أجمعت الأمة عن قول فلابد من كونها حجة لدخول الإمام المعصوم علیه السلام في جملتها(2)

أقول: إنّ التلاؤم فيما قاله السيد المرتضى قدس سره و الشيخ الطوسي قدس سره في معنى الإجماع الدخولي ثابت، وكذا وجود الإمام علیه السلام بين كل المجتمعين، وكذا في النسب الأقل ما دام الإمام علیه السلام هو صاحب الحجية القاطعة دون الخصوصية في العدد قل أو كثر، لأن (إثبات الشيء "وهو الكل" لا ينفي ما عداه) من العدد المتوسط والقليل ما دام الكل مطلقاً في عبارة الشيخ قدس سره إن لم يمتنع النسب الأقل بصراحة للبركة الدائمة و التّامة بدخوله لهذه الأمة ولو تقريراً.

وعلى أي حال لو لم يمتنع وجود احتمال آخر بين القولين الكريمين للعلمين قدس سرهما أن و هو ان يقال بأنَّ في الإجماعات الحاصلة بعد الغيبة الكبرى التي يدور عليها مدار

ص: 26


1- أصول الفقه للمظفر : ج 3 ص 93 عن الذريعة في أصول الشريعة، طبعة جامعة طهران، ج 2 ص 656-603.
2- عدة الأصول (ط.ج) - الشيخ الطوسي - ج 2 ص 602، وراجع تلخيص الشافي ج1 59-102.

الإجماعات الفقهية ما هو ممتنع عادة من ذلك، وإن أمكن ذاتاً، لخطورة ما يتحقق أجله ادعاء رؤية الإمام علیه السلام بعد هذه الغيبة المقتضية للمفسدة، إلا بمعنى ما لو تحقق مثل هذا الإجماع مبتدئاً من زمان ظهور المعصوم علیه السلام واستمر إلى ما بعد هذه الغيبة ناجحاً إلى هذين العلمين وأمثالهما قولاً وفعلاً وتقريراً -

فله وجه قابل للاحتجاج به على أنه من نوع الإجماع الدخولي، وإن انصرف كلام بعض الأعلام إلى ما هو غير هذا المعنى مما هو مشكل جداً، وهو ادعاء أحد بالتشرف بلقاء الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف بعد هذه الغيبة وأخذه حكماً منه ونقله عنه بعنوان الإجماع، لتغير هذا المعنى عما افترضناه من المعنى الصحيح مع تأكد ما ورد من التشديد في تكذيب ادعاء الرؤية في هذه الغيبة.

إضافة إلى أن جعل مثل هذا الإجماع من نوع الاصطلاحي من الأشد إشكالاً.

وخلاصة الأمر بأن الدخول الذي أوضحناه - بما كان هو الممكن في ذاته والمستمر إلى هذه الغيبة مما ابتدأ به من زمن الظهور دون ما عرف توجيهه عن بعض آخرين مع إمكان أن يراد من دخول شخص الإمام دخول رأيه الشريف ولو تقريراً فلا بأس به وهو الصحيح دون أن يُعرف بشخصه بين المجمعين.

وطريق تحصيل ما يفيد من هذا المعنى أما بالإجماع المحصل وهو أن يتقن الفقيه بنفسه تحصيل وجود رأي الإمام علیه السلام بين المجمعين باستقصائهم مستمراً مما كان أيام الحضور إلى أيام الغيبة بتتبع أقوالهم وبالنحو الاتفاقي الذي بينا معناه سابقاً وصادف من بين أقوال أولئك المجمعين من الفقهاء من كان بعضهم مجهولاً في نسبه، بحيث تم له قرائن القديم والحديث ما يطمئنه بأن من بين هذه الآراء الإيجابية الإتفاقية مثلاً رأي الإمام أو أن يتواتر لدى هذا الفقيه من بين بعض الأعصار والأمصار النقل الاتفاقي القطعي الحاوي لهذا الرأي الشريف بين الجمع المتواتر من القديم إلى عهد الغيبة من غير أن يعلم هذا الرأي للإمام بشخصه.

ص: 27

وقد استفاد الأجلة من علماءنا من خلال أهمية كون الجهل في نسب بعض المجمعين لهذا المعنى عدم إضرار مخالفة بعض معلومي النسب لمعنى هذا الإجماع بما لا يغير في جوهر المعنى المحفوظ بين المجمعين من المخالفة.

وهذا النوع من الإجماع مما يجوز أن يتعبد به.

الطّريق الثاني: الإجماع اللطفي

ومن الطرق المحتملة في المقام ليكون الإجماع قابلاً لأن يحتج به في الفقه الإسلامي لدى الإمامية إن كان التمسك به لديهم مع بقية الأدلة المتعارف هو طريق قاعدة اللطف الإلهي.

علماً بأن أساسيات هذه القاعدة في نفسها تكويناً وتشريعاً عقلاً ونقلاً لا شك في ثبوتها وإثباتها في مجال العقائد والإلتزامات الفقهية.

لكون كل عاقل بعد أقل تأمل في مختلف المواهب الرّحمانية لو خُلّي وحسن فطرته السليمة من إغراءات الأبالسة ومخادعات الدنيا الزائفة والنفوس الإمارة والهوى الزائف -

لابد أن يذعن يوماً إلى ألطاف الله الأزلية وفيوضاته الدائمة في جميع مجالات هذه الحياة مادية وروحية، وإن يشعر بالنعم الظاهرة والباطنة وبما يذكره بأهمية شكر المنعم وبمنحه كمال الشعور بالفوز الحتمي عند فعل الطاعات واجتناب كل ما يخالفها اعتزازاً بالسعادة الدائمة في الدارين عند حسن الانتقال من الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية.

وهذا ما تُؤكّد عليه وتؤيده وترشد إليه كل المنقولات المستقيمة والمتواترة في الألفاظ وفي العمق اللطيف في المعاني من مثل كتاب الله وسنة رسوله صلی الله علیه و آله الواردة عن طريق العترة الشريفة قولاً وفعلاً وتقريراً، وبما لا تضر هذه النورانية المشعة

ص: 28

بلطافتها المهداة إلى الأفئدة من اللطيف الخبير.

حتى لو قيل بوجود إجماعات غير مصطلحة من أهل الكفر والإلحاد والضلال والإضلال والفساد والإفساد وإن كثروا لقوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنفُسكُمْ لا يَضُرُكُم مِّن ضَلَّ إذا اهتَدَيتُم»(1)وقوله حول ما لو ازدادوا على المؤمنين «وأكثَرُهُم لِلْحَقِّ كَارِهُونَ »(2)وقوله حول ما لو قل المؤمنون أمامهم «وَ قَلِيلٌ مَا هُم»(3)

لأن الحجة الدامغة هي الأئمة مع أهل الحق وإن قلوا في عددهم بقوة الإيمان والتمسك الديني ونصر الله تعالى لهم بغير احتساب بقوله«كَم مِّن فِئَةٍ قَليلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيَرةً بِإذنِ اللهِ»(4)إلى غير ذلك من الضمانات الإلهية ومعها السنة مما لا يخفى على المتتبع الحريص.

فهذه الأساسيات الثابتة بما أوجزناه ونحوه هي العائدة إلى القاعدة التي جاءت من عناية الله تعالى ولطفه بخلقه وتدبير موجبات كمالهم العقلي والروحي والنفسي تفريقاً للبشر عن البهائم والعجماوات والذي أعده لهم في علمه الأزلي في التكوين المرتبط بإيصال الممكنات إلى الغايات الساميات المعدة لها .

والتشريع المرتبط بإيصال خصوص الإنسان إلى كماله المعنوي ببعث الأنبياء والرسل وإنزال الكتب وإتمام الحجة وإقامة المحجة عليه بالوعد والوعيد ولو على يد من يمثلهم من الأسباط والأئمة والحوارى بأفضل الأدلة وأحسن الأساليب ومع بعض الكرامات.

ص: 29


1- سورة المائدة / آية 105
2- سورة المؤمنون / آية 70.
3- سورة ص / آية 24
4- سورة البقرة / آية 249

وقد حاول بعض الأعلام الأعاظم أن يتجاوز حالات ألطاف هذه القاعدة المهمة كشيخ الطَّائفة الطوسي قدس سره مع بعض من سبقه حسب ما عرف من نقل علم الهدى قدس سره فقال(1) بما مضمونه ومعناه:

بإطلاق معنى اللطف على نحو أنه كما يجب عليه تعالى حيث ألزم نفسه بالسعة في لطفه بعباده مع بقية المخلوقين بتقريب أولئك العباد إلى الطاعة وتبعيدهم عن المعصية وبمختلف الأساليب من ذلك وبما لا ينافي الاختيار.

فإذا حصل إجماع مثلاً على ما لا يرتضيه الله في شرعه من قبل بعض الفقهاء أو كثيرين منهم صدفة فضلاً عن غير ذلك أو ما هو الأشد كما لو تغير نوع المجمعين إلى حيث معنى التطرف والعياذ بالله منه -

كذلك لابد أن يجب عليه تعالى من واقع لطفه وسعته صرفهم عنه أو إلهام ما هو الواقع إليهم عن طريق حجية ولاة الأمور من قبله.

و من ذلك دليل الإجماع اللبي الحاوي للإمام المعصوم علیه السلام في حضوره أو غيبته الحالية باستكشاف رأيه عقلاً من اتفاق عداه من العلماء الموجودين مع عدم ظهور ردع من قبله لهم بأحد وجوه الردع الممكنة خفية أو ظاهرة، أما بظهوره بنفسه في عصره لعلاج الأمر أو بإظهار من يبين الحق في المسألة.

وإلا لزم سقوط التكليف بذلك الحكم المتفاوت أو إخلال الإمام علیه السلام بأعظم ما وجب عليه ونصب لأجله، وهو تبليغ الأحكام الصحيحة المنزلة، وهو من المستحيل.

لكن يمكننا أن نقول بعد هذا: بأن الواجب على الله بعد ذلك اللطف الوافي مع إطلاقه الذي لا نزيد عليه من توسعات بعض المجتهدين، وقد حصل كاملاً وتاماً كما مر بمثل إرسال الرسل وبعثة الأنبياء والكتب وبالأساليب المختلفة على أيدي الأئمة

ص: 30


1- أصول الفقه - المظفر ج 3 ص 114 عن العدة ج 2 ص 639-642.

علیهم السلام والدعاة أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر وبالجهاد بكل ما تقتضيه حكمة اللطف من أنواعه لساناً وقلماً - بل وسناناً - دون أن نستعمل آية قساوة يوماً في تكويناته العادلة ولا تشريعاته المحرجة بل بما يتناسب وتمام ألطافه مع مستوى أعراف الناس المطابقة للمصلحة ودفع المفسدة.

وقد استفاضت الأدلة الإسلامية المتعارفة أصولياً بآيات إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب الجليل على أيدى الأئمة علیهم السلام بعد النبي صلی الله علیه و آله مع الروايات الجمة وبما يملأ أذهان أهل العقول بالآراء المحمودة المتطابقة معها إيجابياً تجاه هذه الألطاف ما دام لم يترك عباده سُدى حينما أمرهم بتحصيل العلم الإلهي كما لم يخلقهم عبثاً.

لكن دون أن يرتضي دوماً لزوم الاحتجاج بالإجماع اللبي حتى إذا لم تتوفر ظرفيته المعقولة والمقبولة كما مر في أمر الإجماع الدخولي.

وعند عدم توفر ما يقتضي حصول هذا الإجماع اللطفي وتوفّر لدى بعض الاذهان مسیس الحاجة إلى بعض الطرق الإصلاحية للاتكاء عليها كما يتكأ على الأدلة فلم يكن بعد ما أدلة مر من إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرَّب إلا باستعانة المؤمنين بإصلاح أنفسهم ومن حولهم لقوله تعالى «إِنَّ اللهَ لا يُغيِّرُ مَا بِقُومِ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم»(1)وهو الجهاد الأكبر وبعد إصلاح النفس يتم إصلاح الآخرين.

ويمكن أن تشترك القدرتان الإصلاحيتان بعد تهذيب النفس كما في هذه الآية بمثل حماية النفس وحماية الأهل من المفسدات في قوله الاخر«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ»(2)

ص: 31


1- سورة الرعد / آية .11.
2- سورة التحريم / آية 6

و مع هذه المساعي المهمة لكل فرد ومجتمع يمكن أن تتجلى بعد ذلك ألطاف الله الواسعة لكل من يريد الشعور بسعتها ما دامت مستمرة بلا حاجة إلى مزيد من نوع آخر لم تتوفر مقتضياته.

فحينئذ يكون احتمال الخطأ في إجماع المجتمعين الذي ذكرناه أيضاً كاحتماله في فتوى فقيه يكون مرجعاً للتقليد في هذه الغيبة التي أبتلي بها المؤمنون بوجوب انتظار الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف وطلب العلم والاجتهاد فيه حتى بابتلائهم في بعض الأحوال بالخطأ والاشتباه ما دام لم يكن عن عمد ، لأنَّ الإمامية هم مخطئة، ولذا ورد عن العامة (إذا) حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر)(1) .

والفقيه المجتهد الجامع للشرائط في هذه الغيبة الكبرى هو الذي أمره سائد في الرجوع إليه بعد تسليم كونه ممن شملته إنابة الأئمة عليهم السلام العامة لهذه الأمة، مع ما احتمل من خطأه في بعض الأمور، فلا محير لأن يطلب إجماع لطفى لا دليل قوي عليه.

الطريق الثالث: الإجماع الحدسي

قد ينشأ الحدس المسمّى والمعتد به بين أكثر المتأخرين بالإجماع الحدسي من اتفاق الرعايا والمرؤوسين وأهمهم فقهاء الإمامية على أن أداء الرئيس والمتبع رأيه وبالأحرى في المقام أنه الإمام علیه السلام.

وكأنَّ هذا الاتفاق الذي مضى معناه في الإجماع الدخولي له موضوعية لتشديد معنى الإجماع هنا مع الاطمئنان بعدم التواطئ بين المتفقين حتى لو كان الحدس يؤدي إلى معنى التخرص الظنّي.

ص: 32


1- مسند أحمر198:4 حديث عمرو بن العاص.

ولكن أشكل على هذا التعريف بأن له وجهاً وجيهاً إذا كان باب المراجعة والمشاورة من المأمومين مع الإمام علیه السلام مفتوحاً بوسائل الاتصال المرضية كما مرَّ في الدخولي بأن تشاوره الرّعيّة وهو يراجعهم أيضاً.

وهو ما قد يستفاد منه حال الحضور والغيبة ما دامت هذه الوسائل مطمئنة.

وأما إذا كان الباب مسدوداً بالمرة وحالت بينها أستار الغيبة فلا وجه لهذا الحدس أصلاً، لمثل وجود اختلاف آخر في مقابل هذا الاتفاق، كالقدامى والمخالفين للمتأخرين، ومنهم من يعتد برأيهم وشأنهم من معلومي النسب ومجهوليه.

ولكون الاتفاق في نفسه لم يكن هو ذات الإجماع، بل مقدمة من مقدماته.

إضافة إلى أن التخرص قد لا يؤدي إلى ما يؤديه القطع المطمئن بالمواصلة بين الحضور والغيبة.

ويمكن أن يورد على هذا الإشكال بأن الانفتاح لم يكن حاصلاً على المصراعين بين القديم حال الحضور والحديث حال الغيبة بالتمام، ولا الانسداد كذلك.

ولكن لا يمكن إنكار انفتاح باب معظم الأحكام الصادرة من الأئمة علیهم السلام، بل كان المعظم في متناولنا وجرت العادة إلى الرجوع إلى مصادرها في زمن الحضور وزمن الغيبة.

وعليه فيكون ذلك من انفتاح باب المراجعة إليهم علیهم السلام والعادة تقضي برضاهم بما اجتمع عليه علماء شيعتهم ورواة أحاديثهم.

ولكن الحق هو الكامن في جملة ما ذكرناه لا بجميع تفاصيله ما دام الاتفاق الخاص واصلاً إلى ما يحقق مصداقية الإجماع الإمامي عليه، وبما تتواصل لأجله قنوات الاتصال بين العهدين وبنحو ما يتحقق به القطع دون التخرص.

إلا أنه غير واضح الإنتاج في الإثبات إلا ما أوضحه الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره بجعله الحدس مقبولاً إذا كان ناشئاً من الحس السابق.

ص: 33

الطريق الرابع: الإجماع التقريري

مما ذكروه من الإجماعات في المقام ما سمّي بطريقة التقرير، وهو أن يتحقق إجماع بين الفقهاء أو البعض منهم ولو من تراكم ظنون من آرائهم الإتفاقية بمرأى ومسمع من الإمام علیه السلام على نحو كاشف قطعاً عن رضاه وموافقته.

وهو الذي يسمى في دليل أهل السنة بالتقرير ما دام قد توفرت شروطه، ولو لم يكشف ذلك عن رضاه وموافقته لردع المجتمعين عما اتفقوا عليه ولو بإلقاء الخلاف

فيما بينهم،کما صرحت بهذا المعنى بعض الروايات التوجيهية من الإمام علیه السلام لبعض حواريه، كما في خبر سالم أبي خديجة، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: (سأل إنسان وأنا حاضر فقال: ربما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلّي العصر، وبعضهم يصلّي الظهر، فقال: أنا أمرتهم بهذا لو صلوا على وقت واحد لعرفوا فأخذ برقابهم)(1)، وسيتضح قريباً ما هو أكثر.

وبعدم الردع منه يكون التقرير دليلاً على احتوائه على حكم الله واقعاً.

بل إن أصل حجية التقرير من المعصوم علیه السلام ثابت في وجوب الأخذ به في مورد الوجوب مثلاً ونحوه كذلك حتى من فرد واحد إذا تصرف بين يدى الإمام علیه السلام بما يعطى رضاه كما هو محرر في محلّه.

فإن كلا المقامين - وهما الإجماع التقريري الكاشف والتقريري أمام الفرد الواحد - لا نزاع في حجية الأخذ بهما في عصر الحضور.

وإنما الكلام في تفصيل دور الإجماع في أيام الغيبة، ولذلك أوردوا هذا النحو من الإجماع للكلام حوله.

ص: 34


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي ج 2 ص 252 ، الكافي ج 3 ص 276 باب 6 ح1.

وأشكل على هذا النحو من الإجماع وبالأخص حينما تكونت أفكار ذويه من الظَّنون مع ربط أمره بالغيبة والفجوة بين العهدين.

إضافة إلى أن هذا إحالة إلى المجهول مع اختلاف المسائل والآراء ومبانيها بين مختلف الأشخاص وإن اتفقوا في النتيجة، لكون الإمام علیه السلام عند صدور التقرير منه بالموافقة - إن ثبتت في مثل زمن الغيبة أيضاً - لابد أن يكون المبنى الشريف لديه هو واحد من بين تلك المباني المختلفة، أو واحد مغاير لجميع مباني أولئك المجمعين، لا أن يكون مقرراً لمبانيهم كلها .

وللحفاظ على أمانة الحق والحقيقة ونقلهما وإن كانت جزئية جداً يمكن أن يورد على هذا الإشكال:

بأنَّ المراد على حصول الاطمئنان النوعي بهذا الإجماع وغيره مما يمكن تصحيحه على الأسس الاصطلاحية المقبولة.

وبما أنه مختلف بحسب المراتب والطبقات فيمكن الاكتفاء بحصول أول مرتبة وطبقة مما يطمئن به من معاني الإجماع والتقرير له من آخر زمن الحضور وأول زمن الغيبة، دون أن يؤخذ بما لم يظن أو أن يشك في علمية بعض الأعلام أو في صحة مبانيهم فهو بهذا المقدار لا بأس به.

وأما الإجماعات المتأخرة في أزمنتنا هذه فهي ضعيفة المأخذ، لبعد اتصالها بالقديم المطمئن به غالباً.

الطَّريق الخامس: الإجماع الكاشف عن الدليل المعتبر

قد يستفاد من اتفاق لا تواطئ فيه بين طبقة من حواري الأئمة علیهم السلام عن دليل معتبر واصل إليهم ولم يصل إلينا.

لأن بناء الأئمة علیه السلام كان على إيداع جملة من الأحكام الواقعية عند خواص

ص: 35

الأصحاب منهم، وهم بدورهم أودعوها عند الطبقة اللاحقة لهم، فوصلت بعد ذلك بطبيعة النقل الائتماني إلى طبقة الغيبة الكبرى فصارت مجمعاً عليها من دون ذكر نفس المدرك ،بالخصوص، كي لا يكون كالمدركي.

وهذا وجه حسن في نفسه من حيث المقتضي وعدم المانع، بل يصلح أن يكون مدركاً أيضاً لاعتبار الشُّهرة التي قد تكون جابرة لبعض الأدلة الضعيفة.

إلا أن هذا يختص بما إذا لم يكن في البين مدرك يصح الاستناد إليه، وهو قليل جداً عند من لا يخفى عليهم أمره تطبيقياً .

الطريق السادس: الإجماع الكاشف عن القاعدة

وهو ما قد يدعى شيء يكشف عن قاعدة معتبرة، سواء كانت عقلائية أو شرعية كالذي ذكر صاحب الجواهر قدس سره في كتاب القضاء، حيث جعله حسب ظنّه وبقوة أنَّه من باب الاتفاق على القواعد الكلية وإن كثرت مصاديقه بين القدماء أو جعلت مدركاً لبعض الأحكام الجزئية(1)

وهذا لا ينهض بقوة للتمسك به وإن تمت عندنا حجية بعض الإجماعات المنقولة كما بيناه في الإجماع الدخولي وكما سيجيء بيانه.

الطريق السابع: الإجماع المنسوب إلى القدماء

و مما لا يمكن الرضا به والإطالة ببيانه هو الإجماعات التي انتسبت إلى السيد المرتضى والشيخ الطوسي والعلامة الحلّي قدس سره بسبب كثرة الأخذ بفتاوى كل منهم،

ص: 36


1- جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام / ج 13 ص 80.

لأن كلاً منهم فقيه عصره حتى من قبل بعض فضلاء تلامذتهم والمنتسبين إليهم وكأن كثرة من ينقل عن هؤلاء الأعاظم الثلاثة من الفتاوى من الأفاضل المحسوبين على كل منهم تعد - موهمة - كثرة إجماع.

قال صاحب الجواهر قدس سره في كتاب الكفارات (وإجماع السيدين كغيره من إجماعات القدماء لا وثوق بالمراد منها على وجه يريح النفس في الفتوى بها بالوجوب والحرمة) (1).

الطريق الثّامن: الإجماع القهري الإنطباقي

وهو ما يشبه السابع الملحق بما لم يعتبر من ذلك، ويزيد في مدة الاعتبار قهراً من شدة الشُّهرة بالانتساب إلى هذا المرجع الأعلى أو ذلك.

ولربما يصل هذا النوع من المجمع عليه خلفاً عن سلف قرناً أو أزيد، ومن مؤشّرات استمرارية الأخذ به عدم وجود رأي مخالف له في الظاهر.

الطَّريق التاسع: الإجماع الإحتفاظي

وهو مما لم يعتبر من ذلك أيضاً، وإن بدأ به الأئمة علیهم السلام في بعض فترات توجيهاتهم الشريفة الحواريهم للحاجة المؤقتة إلى ما سموه بالإجماع الإحتفاظي.

ومنشأ تسميته بذلك هو لتعليم مؤمني الإمامية وحواريهم ليأخذوا بخصوص ما يتلقونه من أئمتهم علیهم السلام تعبداً، وإن سماه الأئمة إجماعاً مؤقتاً بدل ما شاع بين العامة من كثرة تعدد مذاهبهم الخاصة بهم في بداية تحررهم الفكري بعد عهد الانقلاب

ص: 37


1- نفس المصدر ج 33 ص190.

على الأعقاب إلى ما وصل إلى أكثر من تسعين مذهباً على ما عرف في التأريخ.

وبعد أن ضاق ذلك على خواص رجالهم ذرعاً خجلاً ونحوه، فقلصها منهم أحد خلفائهم إلى أربعة وهي الرئيسية المعروفة اليوم لدى الجميع بتلقيها معارفها الأساسية بالمباشرة والواسطة من الإمام الصادق علیه السلام.

ومع ذلك وخوف أن تشتت أذهان الإمامية قديماً كتشتت غيرهم من الآخرين مما ابتلوا به مما يشتت تلك الأذهان المستقيمة من القياسات ونحوها -

تعلم الحواري وحدة الحكم الشرعي من الأئمة علیهم السلام، وإن سمي إجماعاً إحتفاظيًاً مؤقتاً على ما نطقت به بعض الروايات الشريفة وتم الأخذ به بنحو الإجماع سطحياً، لا كما اختلفت به المذاهب الأربعة.

كل ذلك للتنبيه على وحدة المسلك المخضوع إليه من الأربعة، لأنه المنهج الحق لا لمقابلته لها في المذهبية المشاعة.

وبعد أن انتهى دور خطورة حال التشتت المذكور - الذي سببه الآخرون لئلاً يحمل الفكر بعض الشبهات المجلوبة من هنا وهناك وتشويه الأفكار أنوار الصلابة والصمود المستقيم وبما أزاح ظمأها الأئمة علیهم السلام ومكنها من التأمل المنقح في خصوص المعنى الواحد مع دليله بدون ذكر هذا الإجماع -

انتهت حالة الاستمرار عليه، ولأنَّ هذا الاستمرار قد أصبح ضاراً بما يأتي.

الطريق العاشر: الإجماع الاختلافي

وهو أن الاستمرار بما مر ذكره أصبح مضراً من جهة ظلم وبطش حكام الجور الماضيين، ولهذا السبب استجد بعد ذلك نوع آخر من الإجماع وإن كان في حقيقته المؤقت كذلك، لأنَّ التَّقيَّة إن حصلت ظروفها فهي واجبة بمقتضياتها المناسبة وإلاً فالظروف الاختيارية هي الملتزم بها شرعاً دون غيرها.

ص: 38

وهذا الإجماع سموه ب- (الإجماع الاختلافي) كما أشرنا، حيث اختاره الأئمة علیهم السلام بعد أن رأوا أن الذي اختاروه في الماضي أضر بهم وبشيعتهم من جهات غير الجهة الماضية بنحو تستدعي كتمان التصريح بالرأي الإمامي حتى لو انفرد وحده ولا يلاحق به غير الإمام المعروف به.

فكيف لو تم تكاتف جمع من العلماء لصالحه في زمن الحضور، وبذلك تعم الملاحقة لأعلام الشيعة مع إمامهم.

ولأجل هذا انتقل (الإجماع الإحتفاظي) إلى (الإجماع الاختلافي) حيث ورد في خبر أبي خديجة الذي مضى ذكره في الطريق الرابع وهو (الإجماع التقريري) عن أبي عبد الله علیه السلام قال: (سأل إنسان وأنا حاضر فقال: ربما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلّي العصر، وبعضهم يصلّي الظهر، فقال: أنا أمرتهم بهذا لو صلوا على وقت واحد لعرفوا فأخذ برقابهم)(1).

هذه جملة ما تيسر بأيدينا من الإجماعات التي استعرضت أصولياً مما بني عليه وما لم يبن عليه ومما قبل الأخذ به مستمراً ثبوتاً وإثباتاً ومما قبل الأخذ به ثبوتاً فقط ومما أخذ به مؤقتاً وانتهى دوره لدى مصطلح الإمامية دون الآخرين وما رجحناه في نظرنا من ذلك.

وفي حال تردد إجماع بين ما هو معتبر وغير معتبر لا وجه للاعتماد عليه كما هو معلوم ، إلا إذا عينت القرائن الاصطلاحية ما هو المعتبر منه دون غيره

علاقة المعنى اللغوي للإجماع بالمعنى الإصطلاحي

قد وعدنا في بداية الحديث عن الذي ذكرته القواميس اللغوية العربية حول معنى

ص: 39


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي ج 2 ص 252 ، الكافي ج 3 ص 276 باب 6 ح1.

الإجماع لغة بالنحو العام أن نبين نكتة الفرق بين ما ذكرت وبين ما وصلتنا الأحاديث عنه بالنحو الاصطلاحي لدى المسلمين عموماً مما ذكرته القواميس أو بعضها كذلك أو خصوصاً بالنحو الاصطلاحي السطحي أو بالنحو الاصطلاحي الأخص عند الإمامية مما لم تتعرض له تلك القواميس.

وحيث جاء دور هذا الحديث بعد ذلك اللغوي العام لنعرف ما هي النكت بين ما ذكرت وبين المعنى الاصطلاحي العام لعموم ما دار بين الإسلاميين من العام والخاص.

ومن أبرز ما يمكن أن يقال عن صدق تسمية معناه اصطلاحياً - وإن كان عاماً، لاجتماع العام والخاص في ذلك -

هو كون إجماعهم الاصطلاحي ثابتاً على الواجبات الضرورية في خصوص المعنى المصطلح لدى الإمامية، وأما عند غيرهم من المسلمين فهو لغوي.

وكذا ما أجمع عليه العامة في خلافه أمير المؤمنين علیه السلام بالمرتبة الرابعة، وأجمع عليه الخاصة معهم برجوع الأمر الأول إليه بنحو الأخذ بما أجمع عليه أولئك الخاصة من مصطلحهم، وإلا فهو في العام لغوي أيضاً.

فهذه النكتة هي علاقة المصطلح العام والخاص باللغوي العام، علاقة الجزء من الكل، لحمل اللغة ما هو الأعم من كلا المصطلحين مع قدم العلاقة العربية على الاعتزاز بها ولو بهذا النحو من العموم والخصوص.

وبالخصوص أنَّ الرسالات السماوية السابقة وكتبها التي حفظ مضامينها القرآن الكريم كانت قد تعرضت في تعاليمها إلى أمور ما في ديننا الحنيف ولو إجمالاً مثل الفرائض الضرورية التي أشرنا إليها سابقاً أكثر من مرة كالصلاة والصيام والحج والزَّكاة ونحوها، وإن بقي مصداقاً المصطلح العام محسوبين على عموم اللغة، وإن ضعفت فيها هذه العمومية بسبب احتمال وجود بعض تفاوت في هذه الواجبات بين

ص: 40

ما هو القديم السماوي وحديثنا الإسلامي.

وبالأخص كثيراً كثيراً هي علاقة المصطلح الأصولي الخاص عند الإمامية مع اللغة. العامة ومع المصطلح العام المحسوب على بعض عموم اللُّغة

فإنّ النكتة التي علينا تجليتها للباحث الكريم بالنّحو الأكثر هي أنّ هذا الاصطلاح الخاص عند أصولي الإمامية هل هو على نحو الحقيقة العلمية الكاملة؟

لاختلاف معاني أجزاء تعريف إجماعهم وتفاوته عن كل ما سبق من مصاديق عموم اللغة، أو أنَّ بعض ما مضى مما نقلته اللغة من التزامات أهل المبادي السماوية موجود في التزاماتنا أيضاً؟

فنقول بناءً على صدق وجود هذا المعنى الثاني ولو إجمالاً ومجهولية أمر العدم المحض بين القديم السماوي والحديث الإسلامي -

لابد من القول بالحقيقة العرفية الخاصة التي لا تعدم العلاقة بتمامها مع ما يتناسب مع القديم، ولو لتبقى العلاقة الجزئية، ليظهر الفرق بين المصطلح الخاص الإمامي وبين غيره ولو للتعبد به.

الإجماع الإمامي اللبي بين محصل ومنقول

قبل ذكر الكلام عن المحصل والمنقول والإجماع اللبي الإمامي لنذكر مقدّمة تهيئنا للخوض في نقل هذا الإجماع محصلاً ومنقولاً نقلاً تواترياً أو شائعاً ومستفيضاً، و من بعد ذلك وبنحو بحثي مستقل عن المنقول بخبر الواحد.

فحيث أن كل شيء يتم الأخذ به في مقام الاحتجاج به من بحوثنا العلمية هذه لابد أن يكون مستنداً إلى دليل صحيح يدل عليه بمستواه ويقوى به، ليكون محسوباً عندنا من القواعد الكلية أو لوازمها الجزئية ومنها بحث الإجماع اللبي عندنا نحن الإمامية.

ص: 41

وحيث أن المعروف والمألوف عرفاً في هذا الأمر أيضاً في الفقه وفي تابعه الأصول الخادم له أيضاً، لكون خادم الفقه أهم لا بدية الارتباط به، ليتيسر ما يمكن إجراءه من الأدلة الأربعة كتاباً وسنة وإجماعاً وعقلاً، وبما يمكن الأخذ به من فرعيات هذه الأمور الأربعة المقرر الاستفادة منها في الأصول -

لابد من أن يكون علينا التفكير الجدي في هذا المجال هل يمكننا الاستفادة منها في المقام كلاً أم بعضاً أم ماذا؟

وبما أن التسلسل الاعتيادي لم يتيسر الأخذ به على طبيعته للمانع الذي سوف يتضح معناه عند جعل ثاني الأدلة وهو السنة سابقاً سابقة عليها آخر الأدلة الأربعة، مع أنَّ الثالث وهو الإجماع في تسلسله سابق عليها في تعداد الأربعة.

لكون هذا الجزء الرابع هو محور البحث في المقام، لكونه مورد الاستفادة دون الثلاثة السابقة، حيث سنمر عليها ونبين موانع الاستفادة منها لحصر البحث في الأخير، فنقول في الجواب:-

أما الكتاب الكريم فإنه وإن كان فيه أمثال قوله تعالى «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تبيانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ »(1)وغيره، ويدل على العموم والإطلاق كذلك، لأنه لم يكن في الوجود من المعاني الثّمينة والأدلة المتينة إلا وبينته آياته المحكمة الرصينة ظهوراً وإضمارا بالكواشف.

بل وتصدت بعض آياته الشريفة إلى ذكر ما يشمل معنى الإجماع عموماً وإطلاقاً في ظاهر ما يمكن أن يستفاد منه شيء عنه كقوله تعالى «وَاعتَصِموا بِحَبلِ اللَّهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقوا»(2)ونحوه.

ص: 42


1- سورة النحل / آية 89
2- سورة آل عمران / آية 103.

لكنه لا يتحقق معناه الاصطلاحي إلا بما تشمله مضامين القواميس اللغوية العامة أولاً، وإن قربت بعض مضامينها إلى ما يتدنّى كثيراً إلى المضامين العقائدية والفقهية.

ثم إنه بعد ما يحمله من المعنى الإجمالي عن المصطلح - قل أو كثر - لابد أن يتوجه التركيز في دفع هذا الإجمال، وتفصيل الأمر على السنة الشريفة الآتي ذكرها وذكر موارد الحاجة إليها لبيان المراد الواقعي في آخر الأدلة الأربعة.

لما مر من الإشارة تفسيراً أو تأويلاً لما يراد منه الإجماع الإمامي اللبي ومنه معنى كون أمير المؤمنين علیه السلام (حبل الله المتين) في تحقيق درجات المولاة له وللمعصومين من آله عليهم السلام والبراءة من أعداءهم، تمسكاً بحديث الثقلين المتواتر بين الفريقين منضماً إلى الآية، لا أن تكون هذه الآية وحدها دالة على ما تعطيه من العموم والإطلاق.

إلا أن هذا الكتاب الكريم لا يمكن أن يكون دليلاً علمياً وافياً وحده للإجماع المقصود، لأنه ميسور بين أيدينا ومقروء ومفهوم لدينا ما دمنا نملك قدرة تطبيق القواعد الأدبية العربية المتنوعة - بعد تعلمها - على مصاديقها مع حسن السليقة وسلامة الذوق للاستفادة منه بنفسه.

إذ لا يمكن فرض آية منه دلت على هذا الإجماع المخصوص كانت قد خفيت علينا وظهرت للسابقين أيام الأئمة علیهم السلام من ،حواريهم، وإن المقاييس الأدبية بين الجميع واحدة.

وإلا لما عمرت ديار حوزاتنا العلمية الإمامية الحالية وتم التشجيع والحث عليها وعلى الاستمرار فيها بأعلى معاني الأوامر الإلهية والنبوية الحاثة على ذلك شرحاً لغوامض الآيات، ومن السنة الصدر الأول الذين في طليعتهم أمير المؤمنين "سلام الله عليه" ومن بعده أولاده الأئمة علیهم السلام بينه وبينهما أمهم الزهراء علیها السلام.

ففهم القدامى من آية شيئاً خفي علينا وجهها دونهم ليس حجة علينا حتماً لمساواتنا لهم في طبقية الفهم والمتابعة المتشابهة في حسن التلقي، إن لم يكن فينا من

ص: 43

هو الأحسن من بعضهم عن طريق تلك القواعد الأدبية عدا ما خص به الأئمة علیهم السلام كما كان على القدامى اتباعه.

فاجتماع القدامى في ادعاء إجماعهم لو استند إلى فهمهم وحدهم من بعض تلك الآيات - على ما تعطيه من الإجماع الإمامي المصطلح دون الاستعانة بما تقول به السنة في قولها وفعلها وتقريرها مما مر بيانه من معنى الإجماع الدخولي وما يشبهه - لا يكون موجباً للقطع بالحكم الواقعي أو محققاً لقيام الحجة علينا لصالحهم دون وجود الإمام علیه السلام.

فلا ينفع إذن مثل هذا الإجماع إن أدعي عن مثل هذا الطريق.

وأما الإجماع فوضوح أمره تجاه نفسه لدى كل أحد تام الوعي والشعور لا يمكن أن يتصور منه بالبداهة قبول أن يكون الإجماع مدركاً للإجماع نفسه.

لأنّ الشيء المحتاج للتدليل عليه بما كان أعرف منه كيف يكون هو نفسه مع حاجته دليلا لنفسه.

وتعريف الشيء لنفسه من نفسه باطل أيضاً ببطلان الدور الظاهر الصريح، و (فاقد الشيء لا يعطيه) حتى بمستوى شرح الاسم، ولأن (توضيح الواضحات من أشكل المشكلات.)

إذن فلا يصح أن يكون مدرك هذا الإجماع إلا مدركاً آخراً يحويه بكل خصائصه الاصطلاحية كما أشرنا وكما سيجيء.

وأما العقل من هذه الأدلة للإجماع:

فإنّ العقلاء قديماً وحديثاً لما كانت عقولهم الممنوحة لهم من الله تعالى تكريماً - لهم ومن فيوضاته لهم جميعاً بهذا التكريم أن تكون تعقلاتهم للأشياء متساوية تجاه الإجماع اللبي المصطلح بناءً عليه وعلى نهج تحقيق وعلمية -

لابد أن تكون آراءهم أجمعها متطابقة على حجية القول بهذا الإجماع، فهو

ص: 44

كما كان عند القدماء من بعض قضايا معقولة توصلوا بها إلى حكم شرعي بمثل (حسن الإحسان وقبح الظلم) وكانت سابقاً مستوردة إلينا وظهرت لهم أخيراً بمثل دخول الإمام علیه السلام في إجماع شرعي خاص -

كذلك لابد أن نكون نحن مثلهم في ذلك، لمستوى التعقل الواحد بيننا وبينهم إن كان تشخيص الإجماع الإمامي يأتي عن خصوص التعقل الموحد.

فإن لم يكن ذلك عندنا له أثر مقطوع به - للحاجة إلى شيء زائد على ما يقول به العقل والتعقل مما سيأتي بيانه كتصدي الإمام علیه السلام بإلقاء الخلاف بين بعض حواريه ليعلم الحق من بين مختلف آراءه -

فكذلك عند أولئك القدامى لابد أن يكون للإجماع عن هذا الطريق أثر مقطوع به للحاجة إلى ما يثبته.

فما بقي إذن لنا إلا السنة الشريفة، وهي ضالتنا التي أخرناها في الذكر كما نبهنا في السابق، وإن كانت هي الثانية في تسلسل الأدلة الأربعة الطبيعية بعد الكتاب الكريم.

وعليه فلابد من أن يُلقى الضوء الكافي على ما ينبغي أو يلزم ذكره من السنة التي يشخصها ما مر ذكره مراراً من قول المعصوم علیه السلام وفعله وتقريره.

وعن طريق هذه الأمور الشخصية من أساليب وطرق ما استفيد من علمي الرواية والدّ رأيه التي وصلت إلينا وتلقيناهما مما تجهز لنا من بركات مساعي سلفنا الصالح من زمن الحضور إلى هذه الأزمنة والتي حوت جوامعهم ومجامعهم ما لا يمكن القطع بتواصلها بعدمه من الأصول الأربعمائة، بل القطع بوجوده منها ولو في الجملة المؤثرة ظنونا معتبرة وإن تبعثرت -

يمكننا تشخيص ما يتناسب من الأخذ به من تلك المشخصات الثلاثة للسنة لصالح الإجماع اللبي المصطلح من بين المحتملات العشرة المذكورة.

ص: 45

ومن مواردها ما نلقي الضوء لأجله من المنشأ لمصاديق النقل العام للإجماع المصطلح بحثياً.

فمنشأ المحصل في نقله هو سبب تحقيقه فقط، وهو من سرد أقوال الفقهاء بإحصائها نقلاً للنفس والغير تفصيلاً أو نقلها إجمالاً، ولو بالجمع بين المنقول والمحصل بما يتحقق منه المحصل لرأى المعصوم علیه السلام مما بين زمن الحضور والغيبة.

فالمحصل هو عبارة عن أن يطلع الشخص الفقيه على أقوال الفقهاء الواصلة إليه و فتاواهم في المسألة، بحيث يُكشف منها رأي المعصوم علیه السلام.

ولا يعتبر فيه مباشرة الشخص الساعي بنفسه، بل يكفي فيه الاستنابة ممن يثق به عنه، بل يكفي فيه أيضاً أن يكون بعضه منقولاً متواتراً أو مستفيضاً أو بعضه محصلاً كما مر بيانه.

واعتبار هذا المحصل بحجيته أو تمام حجيته - سواء بالمحصل التام أو كل ما يتحقق به من العدد المتضمن دخول رأي المعصوم علیه السلام أو بالملفق بين المحصل في البعض والمضاف إليه نقل أفراد آخرين -

مشروط بما إذا اطمأن المحصل والمنقول إليه مع التلفيق بأن ما كان مطمئناً به لدى المجتمعين هو معتبر لديه أيضاً، حتى لو كان ذلك من بعض القرائن الخارجية المساعدة على حصول هذا الاطمئنان.

وقد أشرنا إلى شيء من هذا المعنى في الإجماع الدخولي.

أما مع عدم حصول الاطمئنان فلا وجه لاعتباره، وإن اعتبره بعض متسامحين في ذلك، لأنَّ اعتبار شيء حجة عند بعض لا تسري تلك الحجية على الآخرين بدون دليل مقوم كافي.

وقد يكون من نقل المسبب وهو رأي المعصوم علیه السلام حدساً كما هو الغالب في الإجماعات المنقولة، ولم نرجحه فيما مضى وحده إلا بنشوء الحدس عن الحس.

ص: 46

أو حساً وهو النادر، مع أخذنا به على ندرته، وبالأخص لو كان النقل تواترياً أو مستفيضاً وشائعاً على ما مر ذكره في الدخولي إن توفّرت مشخصاته.

وأما المنقول آحادياً فقد يدخله رأي المعصوم علیه السلام حساً، فهو وإن كان خاضعاً لشروط الغربلة الروائية وأقسامها كالصحيح والموثق والحسن والضعيف ونحوها وضبط أمره إلى حد الرضا به بمستوى إمكان الأخذ بروايته -

إلا أنَّ الأخذ بها ليتقوم الأخذ بالإجماع عن طريقها فإنه يحتاج إلى كلام مستقل قريبا جدا بعد هذا الكلام.

وعلى كل حال فإن الإجماع المنقول عن مثل التواتر والاستفاضة والشياع معتبر للملازمة العرفية بين اتفاق رواة أحاديث الأئمة علیهم السلام على شيء بعد الفحص والتثبيت والدقة وبين رضا المعصوم علیه السلام به على ما دلت عليه قرائنه، بلا فرق فيه بين عصر الحضور وعصر وعصر الغيبة القريب منه وبقية العصور، حينما كان الاعتبار ثابتاً لدى المنقول إليه بعين وجه اعتباره لدى الناقل.

أما لو لم يكن معتبراً لديه ككون ذلك في نظره فتوى منه لا رأيا للمعصوم علیه السلام، أو كان نظره في وجه الاعتبار مخالفاً لنظر الناقل فلا يعتبر من حيث نقل المسبب حينئذ، وإنما يعتبر من حيث نقل السبب بمقدار ما يكشف عنه لفظ الناقل.

الإجماع المنقول بخبر الواحد

اشارة

إن الكلام في المقام قبل كل شيء ينبغي أن يكون عن خبر الواحد مطلقاً جهتين، لأن الأصوليين تطرقوا إلى ذكره من كليهما.

فالكلام عنه من الجهة الأولى إنما كان للتعرف على أهل هذا الخبر أن الخبر عندهم حجة في ذاته، للتدليل به على شيء من الأشياء أم لا؟

فخاضوا غمار هذه الجهة فبعضهم قالوا بحجيته بمثل إمكان الأخذ بحجيته

ص: 47

ثبوتاً، بل حتى بتحققها إثباتاً.

واستفادوا من تتبعهم هذا أدلة على هذا الأمر من الكتاب الكريم كأية النبأ وغيرها، ومن السنة الشريفة من بعض روايات جعلوها دالة على مرادهم كرواية (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم(1)ورواية (خذوا ما رووا ودعوا ما رأوا)(2) وغيرها بناء على الإطلاق واستفادة من موثقات الآخرين.

ومن الإجماع ما قد رتبوه منه له، ومن العقل كذلك وبما تدعو له الفطرة عقلائياً في نقل الأحداث القديمة من المصادر الموثوقة، ومنها روايات الآحاد للقضايا المهمة ومنها الدينية، بناءً على إمكان وتحقق ذلك بدون قيد أو شرط.

وآخرون نفوا ذلك مطلقاً، واستدلوا على ذلك بأدلتهم الخاصة على نفيه.

كما أن بعضاً من النافين فصلوا، حيث وضعوا شروطاً للخبر كمدلول يمكن الأخذ به لأدلَّته ومنها الإجماع، على أن تكون ويكون ذا مواصفات خاصة، فلن يكون الخبر حجة مطلقاً ولا أدلته الفاقدة للمواصفات ومنها الإجماع لو فقدها كذلك.

وقد سبق منا الحديث حول أصل حجية الخبر الواحد في بحث الدليل الثاني من المصدرين اللفظيين وهو السنة في الجزء الثاني من كتابنا هذا (مساعي الوصول).

ولذلك وبناءً على القول بالنّفي المطلق، وكذلك المشروط للخبر فقد أورد على مطلق الخبر كيف يكون من أدلته الإجماع المحتاج إلى التدقيق في أمره لإحراز أن يكون دليلاً له، وفاقد الشيء بدون تدقيق كيف يكون قابلاً لأن يعطيه.

ص: 48


1- كمال الدين ج 2 ص 483 ب 45 ح4 ، الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 ص 283.
2- وسائل الشيعة ج 18 ص ص 103 ، الحديث 13.

كما أن الإجماع بعد التدقيق فيه وإحراز كماله باحتوائه على مواصفاته الخاصة لن يكون مقوماً لمطلق خبر الواحد قبل توفر جميع مؤهلات قبوله، لعدم تطابق مواصفات الدال والمدلول عليه.

وأما الكلام عنه من الجهة الثانية وهي محاولة التعرف على مجال حجية الإجماع ، بعد ما ذكرناه سابقاً من عدم إمكان الاستدلال على حجيته من الكتاب ومن الإجماع ومن العقل، لما مر من التوضيح وقلنا بحصر الأمر بعد اليأس بخصوص آثار السنة حوله.

وتم منا عن طريق هذه السنة ما يقوم بعض معاني الإجماع دون جميعها، وعن طريق ما يمكن قبوله من ذلك من بعض المحتملات العشرة وترك الباقي ومن صريح المقبولات منها بعد المحصل الذي يناله محصله بتبعيته وإن ندر هي المتواترات والمستفيضات والشائعات التي ينال الإجماع بواسطتها بواسطة واحده أو أكثر، دون مطلق أخبار الآحاد لما ذكرناه من الإشارة إلى حصول الخلل بسبب بعض مناقشات العلماء الهدامة للمرفوض والبنّاءة للمقبول، لإمكان أن تفرض نفسها على ذهن أقل متتبع دقيق، وهي أن يقال لماذا يقبل الاستدلال على الإجماع المطلق؟

وهو بين مقبول ومرفوض بنفس مطلق خبر الواحد، وهو محتاج أيضاً لأن يستدل له بما يثبت له حجيته مع أن (فاقد الشيء لا يعطيه).

وبعد الانتهاء من هذه المقدمة لابد أن نقول ولو باختصار:

حينما كان يطلق الإجماع المنقول بين الأصوليين على أنهم يريدون منه غالباً المنقول بخبر الواحد، وقد يدخل فيه ما إذا كان من نوع خبر الواحد في سلسلته القديمة وإن لم يكن في بعض الطبقات المتأخرة كذلك، كما لو طراءها بعض تواتر أو استفاضة أو شك بأمره بسبب ما حصل من بعض الطوارئ بين احتسابه أنه من خبر الواحد أم لا؟

ص: 49

لأنه لابد أن يحكم عليه بحاجته إلى تثبيت حجيته حينما كان محسوباً من قبل أخبار الآحاد وإنما كان الغالب عندهم هو هذا الخبر ، لكثرة الابتلاء بالاختلاف في أمره، وبالأخص في الآونة الأخيرة التي كثرت فيها أخبار الآحاد وعزّت المتواترات ومعها المستفيضات، وإن الثابت منهما مما حفظ من القديم مع قلته لا خلاف عندهم في الإجماع المدلول عليه بهما دون خبر الواحد، وهو ما أحوج غير الملتزمين به عن هذا الخبر بدل التواتر والاستفاضة إلى التعويض بالضعاف المجبورة بعمل الأصحاب والشهرة العملية.

والحديث في الإجماع عندهم عن طريق خبر الواحد على أقوال:

1 - أنه حجة مطلقاً، لأنه خبر واحد أو ملحق به.

2- أنه ليس حجة مطلقاً، لأنه لا يدخل في أفراد خبر الواحد من جهة كونه حجة ما دامت شروط قبول الاعتماد عليه غير تامة.

3 - التفصيل بين نقل اتفاق الفقهاء أجمعهم إذا حوى قول المعصوم علیه السلام في جميع العصور حدساً وبين نقل ذلك بقاعدة اللطف، فقال الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره ، بحجية الأول وعدم حجية الثاني.

القول الأول: أنه حجة مطلقاً

ذكر القائلون بحجية الإجماع المنقول عن طريق خبر الواحد سواء بواسطة واحدة أو وسائط مع خضوع خبر الواحد إلى شروط الغربلة الروائية الماضي ذكرها، وهي أقل ما يجب أن يتصف خبر الواحد به حتى مثل الضعيف إذا جبر بعمل الأصحاب إذا كان عند معتبريه مساوياً له، ما لم يكن مهجوراً أو معرضاً عنه لسبب من أسباب عدم الأخذ به مما مر ذكره من الكلام عن أصل حجية الخبر الواحد من بحوث السنة في الجزء الثاني من كتابنا (المساعي) إذا ما صح استقرار أصحاب هذا

ص: 50

القول الأول على الأدلة التي ذكروها من الكتاب والسنة على الاحتجاج به على النحو المطلق بدون مناقشة لما ذكروه.

بينما المناقشة واردة على ما تصدوا له من ادعاء القول بالإطلاق وهي:-

أنَّ الآية المعروفة بآية النّبأ إذا استدلوا بها لصالحهم مثلاً فإنها لا تنفعهم في مفهوم المخالفة وهو ما معناه «إن لم يجئكم فاسق» لمجهولية حال الراوي.

بل ولا مفهوم الموافقة الذي يدخل فيه العادل والمجهول.

فعلى فرض كون مخالف الفاسق هو العادل لو لم نأخذ بالمجهول فإن العادل المذكور في الفقه في موارد عديدة ومن كتب فقهية متعددة ولها أدلتها - لا تكمل البيئة الشرعية معه إلا بعادل مثله أو بيمين معه أو قرينة شرعية تعضده.

وبعدم التصريح بذكر لفظ (العادل) في آية النبأ مكان كلمة (الفاسق) لابد أن يكون من معانيه - تبعاً للحكمة الإلهية - تعطيل الأخذ به وبخبره وحده وبدون تبين لعد الته الذاتية من جهة، كونه معرضاً للغفلة والسهو والنسيان والنوم.

بينما الفاسق عند ذكره منطوقاً لابد أن يؤخذ بنقله بعد تبين وثاقته من أمر اختباره، وهو المطابق لأمر التعبد بالأخذ بنقله على ما حدد في الآية الكريمة، وإن كان من نحو الإجماع الكاشف من أمثال هذه الروايات عن الحكم الشرعي، أو كان ذا أثر شرعي أيضاً لتصحيح قصد القربة بتبين هذا النقل المخصوص دون بقية المنقولات الأخرى كالتأريخيات التي لا علاقة لها بالشرع، إلا في بعض المقامات الحساسة التي لم يقبل منها إلا الصحيح مصحوباً بالقربة لنصرة الحق ودحره للمنقول باطلاً من مقاماتها العقائدية ونحوها.

بل حتى الشرعيات المتعلقة بخصوص الفتاوى المحضة المنقولة التي لا تتصدى ولا يتصدى ناقلوها عن السلف المجتهدين لنقل الإجماع الذي يصاغ عن هذا الطريق الدقيق ليؤخذ به كحجة لبيَّة من الأدلة الأربعة المعلومة.

ص: 51

و هناك مناقشات أخرى تعرضنا لذكرها في الموضوع السابق للجزء الثاني تصلح لنفى الإطلاق فلتراجع.

القول الثاني: نفي الحجية مطلقاً

حيث قال أصحاب هذا القول بأنه ليس بحجة مطلقاً، لأنه لا يدخل في أفراد خبر الواحد من جهة كون حجيته، أي مادامت شروط قبول الاعتماد عليه غير تامة.

وهو ما معناه صحة ادعاءهم نفي الحجية مطلقاً للإجماع عن طريق مثل هذا الخبر من جهة خاصة دون أخرى غيرها.

فلابد من أن نبدي المناقشة لقولهم مع شيء من التشقيق الموضح لها، وهو:-

أنه حسبما يتضح من قصدهم المذكور عند سبره أن الخبر الواحد على نحوين:-

أولهما ما لا يصلح أن يكون حجة بسبب عدم توفر شروط الحجية فيه عن طريق هذا الخبر الفاقد لها، وهو ما لا يصلح أن يتعبد به وفي نقله الإجماع، وهو ما أشرنا في الإجابة والمناقشة للقول الأول فيه.

ما وهو ما يعنون به في هذا القول الثاني بالذي لا حجة له مطلقاً، وهو الذي لا يمنع أن نوافقهم عليه بما تم من التحديد، سواء كان هذا النحو من الإجماع منقولاً بهذا الخبر، أو كان هذا الخبر منقولا وحده في عدم اعتباره.

ثانيهما: وهو الذي توفرت فيه شروط اعتباره والاحتجاج به له ولصحة الأخذ بالإجماع عن طريقه و ما أشرنا إليه أيضاً في المناقشة للقول الماضي عن ما هو المقبول مما دل عليه منطوق آية النبأ ، دون ما لم يقبل مفهومها.

وهو الرأي الذي رجحه الشيخ النائيني قدس سره كما سبق منا بيانه في الجزء الثاني من كتابنا هذا (المساعي)، فهو الخارج حتماً عن المنع المطلق عن إثبات الحجية حسب دعواهم التي ناقشناها.

ص: 52

القول الثالث: التفصيل بين الإجماع الحدسي والمنقول بقاعدة اللطف

بعد استثناء ما لم يكن من المحتملات العشرة الماضي ذكرها من الإجماعات المنقولة بأخبار الآحاد كالاجماعات المحصلة التجريبية والمرتبة عن طريق الحس والناشئة عن طريق الأخبار المتواترة والمستفيضة ونحوها.

وبعد التصميم على الخوض في خصوص ما يتعلق من تلك المحتملات بأخبار الآحاد المراد تشخيص الإجماع اللبي عن طريقها بمثل انحصار الأمر في نقل القولين الماضيين الأول والثاني عنها مع بيان مناقشتنا لكل منهما آنفاً بما يعطي محصل المناقشتين نفي الإطلاق الذي قاله الأول عن حجية الإجماع عن الخبر الواحد ونفي عدم حجيته مطلقاً مما قاله الثاني، وهو المنتج في القولين مع المناقشتين من البعض الموصوف بصفات ما یصح الأخذ يصح الاخذ به من هذا الخبر ثبوتاً وإثباتاً وإلى حد التعبد به ليكون الإجماع عن طريق حجة لبية كالإجماعات السابقة من الطرق الأخرى مع مرجح هذا النحو على تلك، لندرة تلك وقلة المتواترات وكثرة هذا النحو وازدياد الحاجة إليه وإن اشتدَّت شروط الأخذ به، لأن الأمر لابد أن يكون كما يقال:-

إذا لم يكن إلا الأسنة مركب *** فلا رأي للمحمول إلا ركوبها(1)

ولهذا مع انحصار الأمر في خصوص ربط الإجماع بخبر الواحد لا يبقى عندنا إلا التثليث بالقول الثالث المفصل بين نقل اتفاق الفقهاء أجمعهم إذا حوى قول المعصوم علیه السلام في جميع العصور حدساً عن هذا الخبر -

ص: 53


1- قيل هذا البيت للكميت بن زيد وهذه رواية ابن هشام والبيت من قصيدة عدد أبياتها ثمانية وثمانون بيتاً، ومطلعها: ألا لا أرى الأيام يقضي عجيبها ... بطول ولا الأحداث تفنى خطوبها

وبين نقل ذلك بقاعدة اللطف التي بنى عليها شيخ الطائفة الطوسي قدس سره.

وقال بالأول منها وهو الحدس الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره، وأعرض عن الثاني وهو الإجماع اللطفي.

أقول: من المحتمل أن يكون كلا القولين وهما الإجماع الحدسي والإجماع اللطفي مع جامعية اتصافهما بخبر الواحد من طوارئ ما يعرض على القول الأول وهو حجية الإجماع مطلقاً، وعلى القول الثاني وهو نفي الحجية مطلقاً .

و لهذا نسب إلى العلمين الطُّوسي قدس سره في كتبه(1) الالتزام بقاعدة اللطف والأنصاري قدس سره في فرائده (2) الالتزام بالحدس من التفصيل دون الأخذ بالقول الأول كلياً ودون الأخذ بالقول الثاني كلياً كذلك.

ونحن نضيف إلى ما بيناه في المناقشتين الماضيتين للقول الأول والثاني أنَّ الحدس إذا ما أردنا العمل به أن لا يكون إلا ملازماً للحس السابق عليه دون المرتبط بالمعنى التخرصي الذي لا ركن له كما مر في تفاصيل المحتملات العشرة.

لكن هذا المقدار من الحدس الذي تسرب إلى المنقول إليه إذا صار المنقول إليه المحصل لهذا الإجماع لا مما جاء من ذهن الناقل، لعدم حجيته بناءً على أن أدلة خبر الواحد لا تدل على تصديق الناقل في رأيه ونظره إذا صاحب نقله، عدم حجية رأيه على المنقول إليه.

وأما ما يتعلق من الكلام عن الإجماع المدركي فهو الذي لا يمكن الاستناد إليه في نفسه وإنما هو تابع لمداركه فإن كان مقبولا فهو المقبول وإلا فلا.

ص: 54


1- راجع كتابنا هذا ص 30
2- فرائد الأصول : ج 1 ص 95.

(الخاتمة حول مقدار حجية الإجماع اللبي)

لم يكن الإجماع الشرعي الإمامي بالمقدار الذي يمكن الاستفادة منه عند الحاجة إلى الاستدلال به بما يقابل الكتاب والسنة وتوابعهما من الأدلة اللفظية تقابلاً تاماً، لأقربية الأدلة اللفظية إلى مقام ما يحرز قبوله من حجيتها وضعف لبية الإجماع، لتوقف الإمامي منه على ما يثبت وجود رأي الإمام علیه السلام في المجمعين حتى لو لم يكن عدد المجمعين كثيراً.

و هو ما يستدعي تهيأ كل مطمئنات فعلية ارتباط آخر القديم - على الأقل كأيام الغيبة الصغرى بعد أيام الإمام العسكري علیه السلام وتواقيع الناحية المقدسة والسفير علي السمري "رضوان الله عليه" -

وأول الحديث كأيام المفيد وعلم الهدى والشيخ قدس سره و نحوهم ووصول أمثال هذه الإجماعات المحصلة أو المنقولة التي تكثر قرائنها عندنا.

وهي مع قلتها يتوقف تيسرها على أمور مر ذكر بعضها كالاتصالات الرّجالية المثبتة لصحتها تحققاً ونقلاً وما أثبته الفقهاء في موسوعاتهم مع ذكرهم لقرائن ما تحقق منها للاستدلال بها وما تم من الأدلة كتاباً وسنة ونحوهما وتطابقت آراء الإمامية عليه.

حتى عد ذلك من الضروريات المذهبية، بل الدينية عليه، لوجود ما يؤيد ذلك من نقول الآخرين، بحيث لا يمكن فيه نكران وجود هذه الإجماعات عليه، إذ لو كان شيء من ذلك لبان منه الخلاف.

أما ما لو شك في أمره من بعض الأمور لما أمكن تحقق شيء منه عليه.

ص: 55

(مناسبة ذكر الشهرة بعد الإجماع) الشهرة العملية

بما أنّ الشُّهرة عموماً قد اهتموا بها في الذكر- بعد الفراغ من الكلام عن الإجماع، لأنهم قد يكثرون من الاستناد إلى أحد أقسامها لتقوية بعض الأدلة الضعيفة مثل الروايات الضعيفة الناهضة بالشهرة العملية، كما أنَّ ترك عمل الأصحاب للخبر الصحيح أو هجرهم له موهن له -

لابد من تعقيب الكلام بعده بالبحث عن هذا العموم لها أولاً وذكر أقسامها وما يلزم من الكلام عنها ، ثم التثنية به عن خصوص العملية، للأهمية المذكورة، وبعده الجامع المشترك بينها وبين الإجماع المحتج به بالاحتجاج ولو في الجملة حينما كان أساس كل منها عبارة عن عمل الفقهاء المتقدمين من عصر الغيبة الصغرى وأوائل الكبرى وبتواصل بين العهدين خلفاً عن سلف على نهج أساس رواية على وجه الاستدلال بها في الشهرة وعلى نهج أساس إجماعي في الإجماع وتسمية الشهرة في المقبول بلفظ الرواية وهي (المجمع عليه بين أصحابك).

فنقول: بعد اتخاذ قرار اللغويين للشهرة تضمنها عموماً معنى (ذيوع الشيء ووضوحه ومنه شهر فلان سيفه وسيف مشهور)، وسمي الشهر شهراً باشتهار هلاله بين الرائين له أو العادين لأيامه كاملة للقطع بثبوته شهراً، ومنه قضايا التأريخ العامة المشهورة لاشتهارها صحيحة وغير صحيحة ومنها الملفقة.

وبعد اتخاذ قرار الاصطلاحيين من أهل الحديث (الشهرة) لما يخص كل خبر خاص كثر راويه عن أهل العصمة علیهم السلام على وجه لا يبلغ حد التواتر، وبذلك يكون الخبر حينئذ (مشهوراً)، ويسمى أيضاً (مستفيضاً).

وبعد اتخاذ قرار الاصطلاحيين أيضاً من أهل الفقه المجتهدين (الشُّهرة) لما لم

ص: 56

يبلغ اتفاقهم القولي حد الإجماع اللبي ليعلم التفاوت الإيجابي بين العموم اللغوي والخصوصيين الاصطلاحيين عند المحدثين والمجتهدين لإمكان الجمع بينهما على موحد مسلكي شريف، كما سبق إيضاحه في الجزء الأول من كتابنا هذا (المساعي)، لثلاً يستغرب من خصوص الخاص بين عموم العام لعدم وجود المشاحة في الاصطلاح -

قد انقسمت الشُّهرة عموماً داخل الإطار الاصطلاحي الخاص لدى سعي الباحثين في الأصول قديماً وحديثاً إلى ثلاث أقسام، لا يمكن التخلّي عنها في الجملة فقهاً وأصولاً إن ثبت اعتبارها على ما سيتضح وهي روائية وعملية وفتوائية.

أقسام الشهرة

الأولى/ الشُّهرة الرّوائيّة

الشهرة الروائية هي عبارة عن اشتهار الرواية عن المعصومين علیهم السلام وذيوعها بين الرواة والمحدثين، بل بين عدة منهم، بحيث لم يصل ذلك إلى حد التواتر، لقطعية حالة التواتر وظنية الأقل منه.

ولذلك يتم إجراء البحث هنا، سواء كانت الرواية المدعى شهرتها شائعة على ألسنتهم قديماً وحديثاً، أو فيما دونه المدونون لتلك المشهورة في جوابهم من كثرة اهتمامهم بضبطها والاعتناء بها دون أن يشترط في تسمية خبرها بالمشهور أن يشتهر العمل به عند الفقهاء، لعدم وجود ملازمة ثابتة في ذلك، فقد يشتهر وقد لا يشتهر.

ولهذا كان بين الشُّهرة الروائية والشهرة العمليّة التّالي ذكرها عموم وخصوص من وجه لأنه (رب رواية مشهوره لم يعمل بها) لعدم توفر ما يصحح العمل بها لا في الذهن ولا في الخارج وكما قيل (رب مشهور لا أصل له) و (رَبِّ رواية غير

ص: 57

مشهورة كان قد عمل بها) لصحة الاعتماد عليها لمطابقتها لقواعد الاعتبار من أصول الحديث، بناءً على الوثوق، وإن عزّ ناصرها في أمور الإشاعة والإذاعة.

وهناك روايات كثيرة معمول بها تطابق كل منها بين رواية مشهورة روائياً ومشهورة في العمل بها وهما مورد الالتقاء في العموم والخصوص المذكور على ما سيتضح أمره في الشهرة العملية.

ولا أثر لهذه الشُّهرة الرّوائيّة في مجال الاعتبار أصلاً إلا بما يوجب الوثوق بها في الصدور ، ولذلك صارت مرشحة في حال حصوله للبناء عليها كما أشرنا آنفاً وكما سيأتي في وجوب تقديمها على الشَّاذ النادر من رواية أخرى وردت في مقابلها في باب تعارض الأدلة كما في مرفوعة زرارة.

الثانية / الشهرة العملية الإسنادية

بعد أن مرّ الكلام في تعداد أصل الأقسام الثلاثة، وأنَّ الشهرة الفتوائية هي الثالثة في تسلسل العدد والبحث الخاص لكل منها لما سيجيء ذكره -

إلا أننا نذكرها الآن لأن لها علاقة بما نحن فيه حول الشهرة العملية الإسنادية لعلاقتها بمعنى معين لم تتم قوتها إلا به، وهو استناد هذه الفتوى حين عمل فقهاء المتقدمين من عصر الغيبة الصغرى وأوائل الكبرى إلى رواية على وجه الاستناد إليها والاستدلال بها في فتاواهم مما بين العهدين، فتلتقي بذلك الفتوى القديمة بالعمل القديم المستند إلى رواية معمول بها قديما بينهما.

فتظهر بذلك حال الثانية من الأقسام وهي الشُّهرة العملية الإسنادية، ويبقى المعنى الثَّاني غير المنسجم مع هذه العملية خالصاً للفتوائية الآتية في تسلسلها البحثي الخاص.

فالشهرة العملية الإسنادية مهمة جداً بين الأقسام الثلاثة، لكونها تجمع هذه

ص: 58

الأقسام وإن استفيد من كل من القسمين الآخرين كما وضح وكما سيتضح في الجملة، ولذلك مدحت الشهرات الثلاثة على رأي بعض الأجلاء في لسان بعض الروايات الشّريفة كالمقبولة ومرفوعة زرارة.

إلا أن هذه العملية الإسنادية هي المشخصة في أهميتها، حيث أنها كما أسلفنا جابرة لضعف سند الروايات الضعيفة، كما أنّ ترك عمل أولئك الفقهاء من الأصحاب موهن للرواية وإن كانت صحيحة كما مرت الإشارة إلى ذلك.

و من خواص ما عرفت به الإستنادية هذه بين أكابر الإصطلاحيين من الأعلام أنها لا أثر لها عملياً في غير الوجوب والحرمة إذا لم يستفد منها حسب إحصائياتهم ما كان من المستحبات والمكروهات وحتى المباحات لخفّة أمرها لعودها إلى أمور التسامح في أدلة السنن وإن كانت رواياتها ضعيفة، ولأهميته ولو بالاستناد إلى رواية ( من بلغه ثواب على عمل)(1) .

و كذلك يمكن القول بعدم ثبوت الاختصاص بشهرة الاستناد والاستفادة منه عند الحاجة والإعراض لتسبيب الوهن بخصوص مسائل الفقه، بل هي ثابته في جميع العلوم والفنون، بل والعرفيات المقبولة في تشخيص الموضوعات.

و لذلك نجد غير أهل الفقه من رواد بقية العلوم والفنون الأخرى قد ارتكز في أذهانهم متابعة المشهور فيما اختصوا به أو التزموا به عموماً وعدم متابعة ما أعرض عنه المشهور كما لا يخفى على كل من راجع العلوم والعرفيات.

ولكن نقول لابد من أن تتقيد هذه المعلومة الأخيرة بقواعد الدين الإسلامي العام ومداركه المعروفة كتاباً وسنة وإجماعاً وعقلاً وأنه دين الحياة في كل مجالاتها منها بقية العلوم والفنون والعرفيات وأن دستوره فيه (تبيان لكل شيء) وأن لابد أن

ص: 59


1- ثواب الأعمال - 160/1.

يرى رأيه المطابق على يد خبراءه المهمين.

فعند تصريح بعضهم بالمخالفة للشريعة من قرارات تلك العلوم والفنون و منها الطّب و الصيدلة و الهندسة والفلك ونحوها لابد أن يرفض فقهاؤنا حال الاختيار تصريحات أولئك الخبراء المخالفة للشريعة لدفع مفسدتها، أو لعدم المصلحة الغالبة لتلك المخالفة.

أما المصلحة الموافقة كما في حال الاضطرار بالعنوان الثانوي، و لو يجعل دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة لو لم يمكن توفر الأفضل، فلا مانع من ذلك بل هو المتعين كما في نصائح الطبيب الحاذق.

الثالث /الشهرة الفتوائية المجردة

لم تكن الشهرة الفتوائية بالأقل أهمية من الشهرة العملية الإسنادية وإن تجردت عما يقربها عند الباحثين من تلك الإسنادية، بل قد تزيد فيها من غير ناحية أهمية الإسنادية.

فأهمية الإسنادية ثابتة و واضحة الأدلة من جهة قوة وسرعة الاستفادة منها واللجوء إليها عند الحاجة لتقوية الضعاف من بعض الروايات بدون حاجة إلى نزاع كثير بينهم كالنزاع الكثير الدائر بينهم في خصوص الفتوائية مما قد تتشكل لأجله ضبابية أهمية البحث البالغة حولها، لكشفها في مقام محاولة التدليل على قبولها من عدمه مع مع التجرد المذكور.

و لعل من أهم ما يمكن منه في اقتضاء قبولها هو خصوص تمسك فقهاء ما بين العهدين بفتاوى من تقدمهم حينما كانت مطابقة للروايات المعمول بها وكأنها حرف بحرف لولا فواصل التدوين المتداولة بين المدونين المألوفين في مهارتهم الجافة لو حصل الاطمئنان بذلك دون ما هو غير.

ص: 60

أما مجرد اشتهار الفتوى بينهم من دون الاستناد إلى دليل أصلاً - سواء كان في البين دليل أو لا - فهو المشكل الذي يستدعي الكلام حوله مطولاً أو مختصراً وافياً.

ولعل من ذلك بادعاء البعض جاءت نسبة التزام الشهيد الأول قدس سره في لمعته على هذا النحو من الشهرة وكذلك المحقق الخونساوي وصاحب المعالم قدس سره و إن كان المشهور على خلافهم حسب قولهم.

ولكن يمكن أن نقول: بأن مقام هؤلاء الأعلام الثلاثة في الحوزات العلمية كيف يدعى عن التزامهم بهذا النحو من المستوى لو تجرد من كل مستند؟

وكيف يرمون بالمشهور المضاد لمشهورهم؟

و مقامهم المعلوم كيف تخفى عليه حقيقة أن لا يتقوم الشيء بما يخضع إلى أن يقوم هو من نفسه بما يضاده، مع العلم بالمجال الوافر للحمل على الصحة لأمثالهم بما أوضحناه أعلاه وهو ما توائم مع الأدلة، وبما لا يمنع من ذلك مانع.

إلا أن يكون كل من يدعي عنهم بل وعن أمثالهم من الفطاحل هذا الادعاء كان قد أثبت لنفسه أن جميع مبانيهم الفقهية المعروفة في كونها من مدوناتهم الخاصة لهم كانت من الفتاوى المشهورة المجردة من أي دليل.

وعلى كل حال إذا أردنا أن نقترب من أن تكون هذه المسألة للشهرة الفتوائية من حيث العمل بها فأما أن تكون تابعة لما تلتقي به مع ما جمعها مع الاستنادية الماضية، والاستنادية لم تخرج عن كونها مرتبطة بالروائية الأولى.

أو بما أوضحناه أعلاه من كون تلك الفتاوى كانت متون روايات شرعية وحصل الاطمئنان منها بعد التتبع كذلك.

ولهذا وأمثاله كما سيأتي التحقيق فيه ولو موجزاً كان الفقهاء قد أتقنوا في أصولهم الفقهية حرمة تقليد المجتهدين لمن كان مثلهم في الاجتهاد ممن سبقهم ما لم تكن المدارك عند الجميع هو الروايات المعمول بها لو صادف اتفاق نظرهم جميعاً

ص: 61

على المسألة الواحدة في نتيجة حكمها .

دون خصوص الرجوع إلى مجرد فتاواهم، لعدم وجود حجة ملزمة لمجتهد على مجتهد جامع للشرائط كان قد سبقه أو عاصره أو لحقه.

و قد نوهنا عن هذه الحالة في إحدى نبذنا الثّمانية عشر المدونة في رسالتنا العملية لطبعتها الثانية (المسائل المنتخبة من المقدّمات العامة) فلتراجع هناك.

ولأجل إكمال ما ينبغي إيجازه مما تعارف من الاستدلال على قبول هذه الشهرة بينهم وإبداء ما قد نصل إليه في الأخير إيجاباً أو سلباً نقول:-

أولاً: استدلوا على مقبوليّة الأخذ بها بما يطمئن على ذلك ويحقق الوثوق به من عدم وجود دليل أقوى من شهرة هذه الفتوى بما يخالفها، بينما الواقع على خلافه.

لكننا نثنّي فنقول: إن صحة هذا الدليل مرهونة بكون البناء على ما مر منها مقيداً لا على مجردها بل على الاطمئنان بكون فتاواها قد تضمنت حقا متون الروايات الشريفة المتبعة لدى المتلقين لا محض تلك الفتاوى، كي لا يكون التلقي منهم تقليد الفتاوى للسابقين لهم وهم أمثالهم في الاجتهاد.

وقد أشرنا إلى هذا المعنى سابقاً، وسيأتي ما يؤكده في آخر هذا الجزء الرابع.

ثانياً: استدلوا على مدعاهم بأنَّ الظَّن الحاصل من مجرد هذه الشهرة الفتوائية أقوى مما يحصل من الخبر الواحد فيشملها دليل اعتباره من باب أولى.

لكننا يمكننا أن نقول بأن الظن الحاصل من مجرد هذه الشهرة من دون استنادها إلى ما أسلفناه من المطمئن الأكيد - وهو احتواءها على متون الروايات المعتمدة ضعيف لا يبنى عليه، للأدلة المعلومة ومنها التجرد من نفس تلك الروايات.

وأن خبر الواحد لو لم يتصف بصفات ما يمكن التعبد به من منطوق آية النبأ لا مفهومها وغير ذلك، مع الاعتراف بأضعفيته في نفس عبارة المستدل -

فلن يكون هذا الاستدلال إلا مصداقاً من مصاديق قوله تعالى «ضَعُفَ الطَّالبُ

ص: 62

وَ الَمطلُوبُ»(1).

نعم لو توفّر ما قيدنا الأمر به في هذه الشهرة وفي الخبر الذي يصح التعبد به لا مجال للمنع من معنى هذا الاستدلال.

ثالثاً: استدلوا بإطلاق ما سبق ذكره من الرواية الشريفة وهي قول علیه السلام (خذ ما اجتمع عليه أصحابك واترك الشاذ الذي ليس بمشهور)(2)، أي على نحو ما مرّ تكراراً من أمثاله، وهذا في نظر ناقل الاستدلال قدس سره شيء لا بأس به.

لكننا نقدر أن نقول أيضاً : بأن الإطلاق وإن لم نقدر أن ننفيه من حيث مرور هذه الرواية وبعض شبيهاتها التي عليها طابع الإطلاق لا مما ينسجم إطلاقها مع كل الشهرات الثلاثة وهي الروائية والعلمية الإسنادية والفتوائية، لا بخصوص الفتوى المجردة.

فلا يمكن أن يكون تطبيق إطلاق هذه الرواية وشبيهتها لصالح إطلاق الشهرة الفتوائية حتى لو كانت مجردة مما علقنا أمرها العملي عليه فيطبق الإطلاق على الإطلاق، لعدم الدليل على هذا المعنى مع وجود ما ذكرناه من المعنى الآخر، وعليه فيكون الأمر بدون ما أضفناه من هذا التعليق غير خال من البأس على الأقل.

ثم إن مثل هذه الرواية ومثيلاتها الصالحة في إطلاقها لانطباقها على جميع الثلاثة المذكورة لا شك بسبب ما مر ذكره من القيود في كل منها كما لا يخفى في أن لا يكون اطلاق الرواية مؤثراً جواز الأخذ بإطلاق جميع الثلاثة حتى التي مرت المناقشة في أمرها من السلبيات وبالأخص كثيراً في الأولى وهذه الأخيرة.

ص: 63


1- سورة الحج / آية 73.
2- المعتبر - المحقق الحلي - ج 1 ص 62 عن أصول الكافي ج 1 كتاب فضل العلم ص86. ومجمع البحرين - الشيخ الطريحي - ج 1 ص399.

السيرة

لا يمكن البت أصلاً بمقبولية أية سيرة ليلتزم بالسِّير على نهجها في حياة التفاوت بين أهل الملل والنحل والديانات المختلفة والمذاهب المتعددة حتى إسلامياً في بعض ظواهر في الحلال والحرام القانونيين عند النبي الخاتم صلی الله علیه و اله وأهل بيته علیهم السلام وخلص الأصحاب وعمدة الحواري.

وعلى الأخص مع تفاوت ما جرى بعدهم أيضاً على الإنسانية والعرفية والعقلائية على المناهج الأخلاقية المعتمدة بين الجميع باطناً وظاهراً أو حتى ظاهراً فقط في صدر الإسلام المقدس الأول من خوارق الانحرافات ليلة الوفاة النبي صلی الله علیه و آله حتى كادت الجاهلية أن ترجع أو ما قد تزيد بسبب الفوضى المختلفة جديداً قديماً حتى حديثاً طولاً وعرضاً مع ضعف الاستقامة من ذلك كثيراً بين البشر المتفاوت كما أشرنا لو تيسرت عندهم بعض المشتركات الممدوحة.

بل حتى لو تكثرت في ذلك ليؤخذ بها بنحو الفرض الواجب مع التفاوت الفكري كمقياس أصولي مصحح عام للجميع إلا بما توصلت إليه ديانات السماء العظيمة في استقامتها بإسلامنا العزيز ودستوره القرآن الكريم وسيرة نبيه صلی الله علیه و آله الأخلاقي العظيم من سنته الشريفة بمسلكية أهل بيته الأطهار علیهم السلام و من حذا حذوهم من خلص الأصحاب والحواري قولاً وفعلاً وتقريراً معهم حتى استمرت سيرة المتشرعة كمصداق أول.

والعقلائية كمصداق ثان للسّيرة المذكورة في عنوان البحث من زمن أهل العصمة وحتى الغيبة الصغرى وما بعدها حتى يومنا هذا مما بقى محفوظا من تلك السلوكيات المتوارثة جيلاً بعد جيل ببركة ما أراد الله تعالى إسعادنا بسلامته في قوله

ص: 64

«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»(1)وبركة ما أهتم بالتوصية بالاهتمام به النبي صلی الله علیه و اله لأمته في قوله أيضاً عن حديث الثقلين (وإنهما - الكتاب والعترة - لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)(2) وهي السيرة التي أطلق عليها بين أهل الاصطلاح من الأصوليين أيضاً بعمل الأصحاب.

بل هي التي لأهميتها - عندما تضعف لدى بعض الفقهاء مدارك بعض الأحكام أو تقل بسبب ما قد يطرأ من الانسدادات المتعمدة من قبل بعض أعداء المذهب والمخفية من بعض البخلاء أو أهل التزلف طمعاً ونحوه للألداء أو ما حصل من بعض الكوارث الطبيعية من حوادث الابتلاء أو ما أحدثه المقلّصون أخيراً لبعض أو كثير الروايات التي يمكن قبولها بطريقة وأخرى والاستفادة منها بمعونة قرائن ما يحقق لها الاعتبار ممن سموا بأهل الحداثة والتجديد للتزلف أو الغباء أو الاشتباه -

لابد أن يستند إليها وحدها أو لتقوية الدليل معها، بل هي المدارك المهمة لبقاء بعض شكليات ومظاهر سلوكياتنا الإسلامية الواجبة، بل حتى واقعياتها ويؤديها العرف والعقلاء وأهل الإنسانية المتعاضدون على النهج الموحد مع المتشرعة دون ما يغاير ما قررناه في هذه المقدمة من حالات التطرف والشذوذ ، لئلا تتركب هذه السيرة المستمرة مما هو صالح وطالح، ولذلك قال تعالى في صورة الذم والاستنكار «و آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِم خَلَطُوا عَمَلاً صالحاً وَ آخَرَ سَيِئًا )(3) وعلى غرار القاعدة

ص: 65


1- سورة الحجر / آية 9.
2- ينابيع المودة - القندوزي الحنفي - ص 15 من طرق شتى، وأخرج ص 16 عن الإمام الرضا علیه السلام، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (14/3، 17، 26 ، 59) ، و أبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).
3- سورة التوبة / آية 102.

الإيمانية المعروفة (لا يطاع الله من حيث يعصى).

وتُعد هذه السِّيرة لو تحققت - حتّى مع عمومها لكونها على أساس من المباني الظنية الخاصة - مفضلة حتى على الإجماع القولي الماضي ذكره، لأنها إجماع عملي، ولهذا نلزم أنفسنا أن نبحث عنها الآن.

ولأجل أن لا يبخس بحق العقل البشري المخلوق إلهياً بأنه أول الرسل للإنسان مطلقاً وإن كان رسولاً باطنياً له، لأن من مظاهره المفيدة له في كل زمان ومكان ولصالحه حتى مع أهم المبادئ التي خاتمها الإسلام العزيز - عقلائيات أبناءه الهادية له والمنسجمة تماماً مع الإسلام الخاتم -

عدت هذه العقلائيات مما يمكن أن يستفاد منها مع سيرة المتشرعة المذكورة صالحة لأن يدخلا معاً في البحث الحالي وتحت عنوان لفظة السيرة غير المقيدة بشيء. وإن ركزنا على الأولى ببعض العناية لما مر ذكره، لأن السيرة العامة المنضوي تحتها سيرة المتشرعة والسيرة العقلائية منوطة بشروط معينة آتية لو تحققت لتساوى الاثنان في الاعتبار.

بل إنّ هذه العقلائية العامة لو تكاملت عند إمكان الاستدلال بسيرتها لما اختصت في إفادته بخصوص الأصول وأبواب الإمارات، بل شاع ذلك في باب الفقهيات أيضاً من أبواب المعاملات التي يتحقق البت فيها بتشخيص بعضها عن طريق أهل السيرة العقلائية حال انسجامها مع الشرع والعرف.

بل احتيج إلى البحث عن أمورها كثيراً بعد قلة استعمال الإجماع المنقول بعد ما كان مألوفاً بكثرته في السابق، وهكذا الشهرة وإعراض المشهور عن خبر صحيح أو عملهم بخبر ضعيف ولو كمعوض عن هذه الأمور.

ص: 66

انقسام السيرة إلى قسمين

بعد ذكر ما مضى من التقديم وبيان الحاجة إلى ما يحوجنا إلى البحث عما هو المفيد أو الضروري وترك غيره -

لابد بالتالي إلى ذكر انقسام السيرة إلى قسمين وهما:-

(السيرة العامة والخاصة)

والسيرة العامة هي التي أسلفنا الإشارة إلى ذكرها أعلاه في التقديم وهي لعمومها لا يراد منها من المصداق الأسمى سوى سيرة المتشرعة ومعها السيرة العقلائية داخلة فيها، أو ما قد يطلق عليها (العقلائية العامة) لتنضوي تحتها السيرتان، لما اتضح شيء أو بعضه من سر ذلك أعلاه للمعقولية التامة التي لابد أن تفرض نفسها في حالات أو كثير منها من جوامع الانسجام الكثيرة بين مقررات شرع الله مع أصوله والمقررات العقلائية، والله خالق العقول وسيدها.

السيرة العقلائية العامة

ونقدّم الكلام عن العقلائية العامة الآن للحاجة إلى شيء من التفصيل عن دليليتها المشتركة للسيرتين كما تعرضنا لهما في التقديم ومحاولة بيان ما يصحح ذلك ويبطل ما عداه ومن ثَمَّ العثور على حجيتها وإن كان خصوص العقلائية عن سيرة المتشرعة هی المتأخرة في الذكر في التقديم الآنف.

وتأخر الكلام أيضاً عن السيرة القطعية بين المستمرة بين المتشرعة حال استقلالها عن العقلائية الخاصة، وإن تقدم ذكرها في التقديم لسهولة الاستدلال عليها وحدها ووضوح أمر الحجية الناتجة عنه حين البحث المستقل بعد الفراغ عن العقلائية العامة المشتركة.

ص: 67

بل يمكن أن تكون هذه العقلائية بصفتها العامة شاملة للمتشرعة الداخلة فيها أيضاً في التقاء أمرهما معاً فيما يأتي من استفادتهما من بعض الأمثلة الصحيحة المطابقة للاثنين دون ضمان ذلك في موارد الاستقلال في البحث عن كل من الحالتين.

والسّيرة الخاصة هي التي يمكن أن نطلق عليها في أسلوبنا البياني هذا ونريد منها السيرة القطعية المستمرة بين المتشرعة التي ستأتي بعد العقلائية العامة كما أشرنا.

ويمكن أن نطلق عليها هذه العبارة ونريد منها العقلائية الخاصة التي لا ضمان من تعقلات ذويها في الاستقامة المنسجمة مع الشرع وأهله كما سيأتي قريباً بعض حالاتها.

وبعد الانتهاء من حالات التقسيم وما يناسب مع ما ينبغي تقديمه وما ينبغي تأخيره في الذكر وبعض الأسباب المرجحة للأول والثاني نقول:-

إن السيرة العقلائية العامة بعد أن أشرنا في المقدمة إلى أنها لم تكن بسهلة المنال إذا دخلت في عمومها المتشرعية إلا باحتوائها على الشروط المعينة لما يعتري كثيراً - بل غالباً - بعض العقول أو كثيرها وتصرفات أكثر العقلاء معترضات النفوس الإمارة والشيطانيات الماكرة ونحوها لتكون مؤهلة تماماً لتلاقيها الإيجابي في النتيجة مع ضبط أساسيات ذلك بالسيرة القطعية المستمرة بين المتشرعة الآتي بيانها والتي لابد أن يحسب الأمر بينهما من الوجهتين العلمية والعملية كحساب التوأمية بين فردي التوأم كالتوأمية الآتية التي يلزم أن تكون في بحث ونتيجة الدليل اللبي الثاني الآتي ذكر بحوثه بإذن الله في هذا الجزء الرابع من كتاب ( المساعي) وهو العقل بينه وبين الشرع في موارد تلاقيهما المهمة.

وعلى فرض تحقق شروط هذه السيرة العقلائية الشاملة المعينة لم تكن بخالية الوفاض في ميدان العمل الاستثماري الجاد جملة أو تفصيلاً حسبما يعطيه مجهود

ص: 68

الباحث الطموح المجتهد عن أحدهما المتوفّر -

تكون هذه السيرة أو ما أطلقوا عليها ببناء العقلاء العام قد استفادوا منها - أو عن طريق هذا البناء - حجية خبر الواحد الثّقة وحجية الظواهر.

وفي مجال آخر استفادوا حجية الاستصحاب وكل هذا الاستثمار في الميدان الأصولي بما هو مفصل في محله.

وكون هذه السِّيرة أو بناء العقلاء قد استفادوا بواسطتها حجية قول أهل الخبرة فقهيا في باب المعاملات كما في تقادير ما قد يتنازع فيه من المقدار الكافي المناسب من نفقات ما يجب بذله على ذوي القربى الخاصين -

فإنّ أهل الخبرة هم المقدمون على غيرهم في مورد كل ما يتنازع فيه حولها مما هو محرر في محله .

وقد لا تنجح عن هذا الطريق حجية قول اللغوي، لوجود تفاوت أذهان اللغویین مع تعدد لغاتهم ودياناتهم ومشاربهم، مما لا يمكن منه على ضوء مركبات اللغويين مع تعدد هذا التفاوت تشخيص دقائق الأمور.

وعلى الأخص لو أريد من ذلك تشخيص بعض الحقائق الشرعية، بل حتى المتشرعية إلا بما مر ذكره في الجزء الأول من كتابنا (المساعي) عن الأمور العربية التي للقرآن والسنة شأن قواعدي مهم فيهما، ومعهما كل سير عقلائي رشيد بعد إعواز الأدلة وتسلسلاتها للاستفادة العامة منها دون الخاصة من تلك الحاجة.

ولهذه الحالة السلبية في غير ما استثنيناه من الإنتاج تحسب هذه السيرة من الخاصة غير المنتجة لا العامة المشتركة، وسيتضح الأمر أكثر.

ولأجل محاولة تقريب هذه السيرة من أن تكون كالمتشرعية في الاعتبار وهي داخلة في عمومها لابد من دراسة الشروط المعينة، وهي وهي ثلاثة:

الشرط الأول: أن تكون هذه السيرة العقلائية - بعد أن كانت مما ينتظر فيها أن

ص: 69

يكون الشارع متحد المسلك العقلاء لتوفر قابلية ذلك فيها بسبب عدم وجود المانع من ذلك، وحيث لا ردع من هذا الشارع عن هذا الاتحاد معها - متحدّة المسلك معه قديماً وحديثاً وبمواصلة مطمئنة بين أصحاب الأئمة علیهم السلام في الغيبة الصغرى، مع ما كان قبلها وبين الغيبة الكبرى وهذه الأيام.

بل لابد من أن يعلم هذا الاتحاد من الشارع مع أولئك العقلاء في هذا المسلك، لأنه أحد العقلاء، بل رئيسهم .

فلو لم يرتض هذه السيرة ولم يتخذها مسلكاً له - وكما عرف من الأساليب المرضية ومن عدم اعتراض أي مانع مخل - لبين ذلك ولو في الظاهر الذي قد ينحصر الأمر به كسائر العقلاء، بل لأحرصيته منهم ولردعهم عنها وإعطاهم بدلها لا سيما في الإمارات المعمول بها عند العقلاء كخبر الواحد الثقة والظواهر.

وبهذا النحو يلتقي المسلكان على مستوى التوأمية المشار إليها في الماضي أساساً وإنتاجاً، لإمكان بل لوقوع ما به تيسير أمر الانتاج العلمي، وهو ما يحقق السيرة العقلائية العامة الشاملة للمتشرعية أيضاً من هذا التيسير.

الشَّرط الثَّاني: أن تكون السيرة العقلائية مؤثرة في قرارها بالاهتمام ببناءها على الاحتجاج بمثل الاستصحاب، لكون الكثير من أبناء هذه السيرة هم مسلمون - حتى لو لم ينظر من ذلك اتحاد الشارع مع العقلاء فيها بصراحة كافية أو ما جاء إلا مصادفة، لأنَّ المسلمين من العقلاء - بل متأثرة بكل من يتعاون معها في تشييد أركان الحياة حتى بمثل الاكتفاء من عدم الردع عن الأخذ بذلك من هذا الشارع إذا لم يأت منه مما هو أقوى من عدم الردع وإن سمّي عند المسلمين الخواص وهم أهل العلم من الأصوليين بمثل تقرير المعصوم علیه السلام المعد أحد ما يُحتج به لتأييد هذه السيرة العقلائية أو للتوحد معها.

وعليه فنفس عدم ثبوت ردع الشارع - ما شئت فعبر - كاف في استكشاف

ص: 70

موافقة العقلاء، لأن ذلك مما يعنيه ويهمه من باب أولى، فلو لم يرتض هذه السيرة منهم - وهي بمرأى ومسمع من الشارع - لمنعهم ولردعهم عنها، وعدم المنع والردع كاف في مشروعية ما يتحد عليه الاثنان من دون حاجة إلى لزوم إدراك الردع الواقعي إذا لم تظهر مؤهلاته، ولو كان لبان.

وبهذا تثبت حجية الاستصحاب ببناء العقلاء وبرضى من الشارع على ما سيتضح أمره في بابه.

أما مفهوم هذا الشرط مع كونه مما لم ينتظر منه اتحاد الشارع مع العقلاء فيه كذلك، لكن من جهة عدم العلم بجريان سيرة العقلاء في مثل العمل بلزوم الرجوع إلى أهل الخبرة في الأمور الشّرعيّة في إثبات اللغات لما بيناه سلفاً من السبب

فلم تثبت من أجله حجية سيرتهم إن أدعيت.

الشرط الثَّالث: إذا لم يعلم ثبوت السيرة في الأمور الشرعية خاصة لا يكفى حينئذ في استكشاف موافقة الشارع من مجرد عدم ثبوت الردع عنه، إذ لعله ردعهم عن إجرائها في الأمور الشرعية فلم يجروها ، أو لعلهم لم يجروها في الأمور الشرعية من عند أنفسهم فلم يكن من وظيفة الشارع عنها في غير الأمور الشرعية لو كان الشارع لم يرتضها في الشرعيات.

وعلى هذا الأساس واختلاف الحال في سعي المتتبع بين مصداقين - مصداق موافق وآخر مخالف - لابد لأجل استكشاف رضا الشارع وموافقته على إجرائها في الشَّرعيّات خاصة من إقامة دليل خاص قطعي على ذلك.

وفي حالة عدم وجود شيء من ذلك لن يستكشف من عدمه رضاه حينئذ.

و قد تبين بعد الفحص والتتبع حول هذا الشرط بأن بعض السير قد ثبت منها عن الشارع إمضاؤه لها، مثل الرجوع إلى أهل الخبرة عند النزاع في تقدير قيم الأشياء ومقاديرها نظير القيميات المضمونة بسب التعدي والتفريط ونحو ذلك،

ص: 71

وتقدير قدر الكفاية في نفقات الأقارب الخاصين كما سبق ذكر شيء من ذلك أيضاً.

فهو ما يؤخذ به لمطابقته للشرط.

وقد يتبين الخلاف لو لم يثبت حقاً مما مضى دليل خاص قطعي له كالسيرة في الرجوع إلى أهل الخبرة أيضاً، لكن في اللغات لما بيناه في السابق من التوجيه لداعي المخالفة فلا عبرة بها وإن حصل الظن منها، لعدم إفادته في التقويم مادامت القطعية لم تثبت أمرها.

حجية سيرة المتشرعة خاصة

بما أنه لا يلزم دائماً بأن يختلط الكلام بين السيرة العقلائية وسيرة المتشرعة ليعطيا معاً نتيجة موحدة مقبولة لديهما وباستمرار قديماً وحديثاً - وإن كثرت مصاديق الوفاق بينهما في مجالات عديدة في هذه الحياة بين الأنبياء والرسل ونبينا الخاتم صلی الله علیه و آله وأتباعهم لجامع التدين والعقلائية - لعدم إمكان أن يستمر بينهما هذا الديدن في خضوع الأولى إلى الثانية، حتى لو كان ذووا السيرة العقلائية من المسلمين أو حتّى بعض متدينيهم لجهة كثرة التفاوت بين طبقاتهم بين مطيع للشرع في سيرته وبين متطرف عنه حتى مع بقاء مظاهر الإسلام والتدين غير الكافي، أو حتى ما كان من الشرع من بعض الإمضاء لبعض حالات العقل الجامع بينهما تشويقاً منه لهم لغرض التعمق الإيماني لا للبقاء على السطحية المخيفة من البقاء على الإسلام أو الإيمان السطحي الخطير إلا بما يخضع العقلاء بتدينهم وإيمانهم الراسخ دوماً بالتقيد بالشرع مع جامع التعقل غير المحفوف بالمشاكل.

ولأجل أن يكون هذا المطلب مسلماً بينهما في ذلك كالتوأمية التي ذكرناها عند التصادق التام كنا قد اشترطنا كالآخرين الشروط الثلاثة لتصحيح هذا التلاقي أو لإبقائه.

ص: 72

أما في حال عدم إمكان توفير هذه الشروط فلابد من انفصال أمر سيرة المتشرعة خاصة عن تلك العقلائية المطلقة في عنانها لا لإدامة معاداة قد تدعى لبعض المعاني الموهونة، لما مر في التقديم الماضي وغيره ولبعض فوارق يأتي المرور عليها الآن بين السيرتين، ولتوفر ما يخص سيرة المتشرعة وحدها من مقوماتها الخاصة بها إذا تطرفت العقلائية أو زجت نفسها أو زجت في مطبات الخطورة، ومن واضحات الفوارق الأمور التالية:

أولاً : إذا ما أردنا أن نستدل يوماً على مشروعية السيرة المتشرعية بما تستحق من الأدلة لابد أن نثبت استقرار بناء المتشرعة على ذلك معه بدون تزعزع، ومن مهمات ذلك عمل أصحاب الأئمة عليهم السلام والأجيال المعاصرة لهم من الملتزمين، ولهذا جاءت بعض الأدلة كقوله تعالى «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا»(1)و قول النبي صلی الله علیه و آله (حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ حَرَامُهُ حَرَامُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)(2) وغيرها.

وأما السيرة العقلائية فيكفينا منها أن نثبت أن انطباع العقلائية لو خليت ونفسها، حتى لو كان مسار هذا الانطباع غير منسجم مع الشرع بعض الشيء كالأطباء في نصائحهم الصحية وغيرهم من الأكاديميين، ولم يردع عنها في قراراتها من الشرع لكان مقتضاها أن تطبيقها عمل مقبول من الأعمال، وإن كان الأئمة وأصحابهم لم يسيروا دراسياً مسار هذه الطبقات اختيارياً، لعمومية وإطلاق قاعدة الاضطرار.

وقد يبرر لهذا العمل مع الفارق المذكور برد هذا القبول الشرعي بمثل الإمضاء لمثل قول الطبيب الحاذق عند الحاجة الماسة لدى المرضى حتى بمجرد تقرير المعصوم

ص: 73


1- سورة البقرة / آية 187
2- أصول من الكافي ج 1 ص 58 بصائر الدرجات: ص 148 ب 31 ح 7.

علیهم السلام

ثانياً: لا يعقل أن تكون سيرة المتشرعة يوماً - لو استكملت شروطها وأدلتها المبنائية الثابتة كتاباً وسنة وإجماعاً وعقلاً - أن يطرأ عليها الردع، لأنها بعد ما مر في كونها تكشف عن البيان الشرعي كشف المعلول عن علته، فهي وليدة البيان الشرعي على وفقها وبالأخص في المدركين اللفظيين (الكتاب والسنة).

فلا يعقل أبداً مثل هذا الردع البياني مع محفوظية القرآن الكريم عما يزعمه بعض المخالفين من نسخ التّلاوة مع السنة.

وأما سيرة العقلاء فإن انعقادها وإن كانت ليست معلولة للشارع من بداية خلق الله تعالى العقل وكرم به الإنسان بعد أن خلقه ليستقيم به لو خُلّي ونفسه، بل لقضية عقلائية لو تجاوز أصحابها في تحرّرياتهم غير المنضبطة ما تلائمت فيه السيرتان من الشروط الثَّلاثة الماضية وتجاوزوا أيضاً ما اختصت به المتشرعية في بحثنا الحالي.

حتى لو كان أولئك العقلاء من العلماء بعلوم الدقة الفلسفية ونحوها من المعارف الدقيقة الأخرى ولم تنسجم مع الدقيات العرفية الشرعية المليئة بالرفق والامتنان والتسامح .

إلا أنها تكون معرضاً محتملاً للردع في بعض أو كثير من مقرراتها من الشارع. ثالثاً ومما يمكن أن يلحق بالفارقين الماضيين كثالث بين السيرتين مما حكي عن الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره في كتابه المكاسب من بحث المعاطاة من تفريقه بين سيرة المتشرعة الأصيلة الجارية من زمن المعصومين علیهم السلام، بل مع كون أحد المعصومين كان عاملاً بها أو مقرراً لها بنحو القطع والتعيين وبين السيرة الأخرى التي لا يعلم أبداً منها ذلك أو علم أنها صارت بعد زمن الأئمة علیهم السلام حيث قال مصرحاً برأيه عن السيرة الأخرى:

ص: 74

(وأما ثبوت السيرة واستمرارها على التوريث(1)، فهي كسائر سيرهم الناشئة عن المسامحة وقلة المبالاة في الدِّين مما لا يحصى في عباداتهم ومعاملاتهم وسياساتهم، كما لا يخفى(2)

أقول بعد هذا القول هناك من أمثال هذا الشيخ الأعظم قدس سره في تتبعاته المليئة بكثرة مصاديق ما أدعي وما يُدعى له أو لغيره عن بعض السير التي لا أساس يُذكر لها في بعض أو كثير ما قد يلحق بالعبادات أو المعاملات وهي ليست كذلك.

فإن كل متتبع محسوب على أهل الورع والتقوى من فقهاء الأمة وأصولييهم إن مارس التدقيق عن كثب بنفسه أو معه أعوانه الحريصون للتعرف على ما يشاع ويذاع من عادات الناس وتقاليدهم وللبحث عن مستوى أساسياتها إذا كانت متوارثة أو موروثة من الأزمنة القديمة-

لابد أن يفرض على نفسه مسؤولية البحث عن أنها هل كانت بعضها أو جلها أو كلها غير أصيلة.

بل قد تكون من البدع والمختلقات على أكثر الاحتمالات إذا كان المجرون لها ومروجوها من فصيلة الهمج الرعاع والسذج الذين لم يعتنوا بكون هذه الأمور أنّ لها أساساً دينياً أو بعضاً منه، كأن صبغت بعض تلك البدع مؤخراً بالأطار الديني البعض المصادفات الدينية السطحية كالنوروز بتحويله من طقوس الجاهلية إلى السيرة الإسلامية، وهو وإن رجح في تحويله لخدمة الإسلام ورجاله وذكرياته الجليلة ولتعظيم الشعائر من الجهة المغايرة لجهة النوروز بين التأريخ الشمسي والقمري، إلا أنَّ الأهم هو محاربة طقوس الجاهلية التي لم يبرر لها الأئمة علیهم السلام مبرراتها تقدمت أو

ص: 75


1- يقصد توريث ما يباع معاطاة.
2- كتاب المكاسب - الشيخ الأنصاري ج 3 ص 42.

تاخرت

وتحويل أذهان العوام من السذج والبسطاء من العادات التي لا أصل لها إلى ما كان مشفوعاً بالأصالة ومن قبيل قضية النوروز المذكورة السانيات العشائرية وإن أصابت من بعض توارثها بعض الشيء من الإصلاحات الاجتماعية التي قد يرحب بها الإسلام إذا قارنت حلوله، إلا أنها وجداناً أصبحت أضرارها أكثر من نفعها، وكذا القيام لكل قادم دنا في اعتباره أم علا فيه دينياً مع أهمية توقير الثاني.

وكذلك توارث عادة تقبيل يد كل من هب ودب ونسيان من يستحق ذلك كالأب المؤمن والأستاذ المؤمن والمرجع الديني الجامع للشرائط نيابة عن تقبيل يد المعصوم المنيب علیه السلام.

وكذلك التصفيق في المحافل الدينية، وزخرفة المساجد والمقابر، إلى غير ذلك من الموروثات الاجتماعية الأخرى التي قد تحسب على الإسلام لبعض جوانب شبهات ما يدعى من مرجحاته بسبب تعود الناس عليه، والعادة مما يصعب تركها من الحالة النفسية المرضية لبعض الأشخاص أو خجلاً من الآخرين المعتادين أو إصراراً عنادياً من دافع حماقة لشخص يشجع على المنع.

ونصيحتي لكل مؤمن يُقلّد مرجعاً جامعاً للشرائط أن يراجعه حول كل العادات والتقاليد المشكلة.

وبعد الذي مر بنا وقد كنا من أهل النظر وحصل شك في سيرة مطلقة بأنها مما توفّرت فيها الشروط الثلاثة الماضية أم لا ؟ قبل وصولنا إلى مظان أدلة التحقيق منها -

لابد من الامتناع أولاً عن التسرع بالرضا عنها.

وثانياً بالفحص الدقيق عن المصدر ، ليكون اتخاذ القرار السلبي أو الإيجابي عن الخبرة الوافية جرياً على ما يريده منا الشيخ الأعظم قدس سره وأمثاله ومن قبلهم الأئمة علیهم السلام

ص: 76

وبعد أن انحصر الأمر في خصوص ما يتعلق بسيرة المتشرعة وحدها نقول عنها:-

أنها بعد أن كانت مثبتاتها من زمن المعصومين علیهم السلام وقد عملوا بها أو أمضوهاأو جمعوا بينهما واستمرت تلك متصلة بسلام إلينا -

فهي الحجة القطعية و التعيينية التي لا غبار عليها على موافقة الشرع لها.

فتكون بنفسها دليلاً على الحكم كالإجماع القولي الموجب للحدس القطعي برأي المعصوم علیه السلام.

وبهذا يحصل الاختلاف عن سيرة العقلاء، إلا بما ذكرناه من حالة عدم الردع الذي أمضاه الشارع لنا حولها.

وختاماً نقول: عن مدى دلالة السيرة المشروعة التي تكون حجة متبعة فأقصى ما تقتضيه أن تدل على مشروعية الفعل المسار عليه وعدم حرمته إذا كانت السيرة على الفعل، أو تدل على مشروعية الترك وعدم وجوب الفعل في صورة السيرة على الترك.

وهكذا الاستحباب في مقام الفعل والكراهية في مقام الترك، لكن لا موضوعية من نفس السيرة في الدلالة على ذلك، لأن العمل فيها مجمل لا دلالة فيه بأكثر من مشروعية الفعل أو الترك مما أشرنا إليه سابقاً وصرحنا به لاحقاً.

ص: 77

المبحث الثاني / (العقل)

وفيه فصول

الفصل الأول / (العقل في دلالته اللبيّة)

بعد انتهاء الكلام عن الدليل اللبي الأول وهو الإجماع وما الحقنا به من تابعيه وهما الشهرة والسيرة من هذا الجزء الأصولي وما بيناه عنه وعن التابعين ولو بإيجاز في بعض الحالات :-

جاء دور الكلام عن (العقل) أيضاً، لتنسيق بيان المطلبين اللازم في تعاقبه، ولو لسدّ حاجة طلاب النسق ولو تذكيراً به عن الدليل اللبي الثاني، وحول مستوى دلالته اللبية أيضاً في مقابل الدليلين اللفظيين السابقين مما ذكرناه في الجزء الماضي وما سبقه الخاص من أصولنا (المساعي) بمباحث الألفاظ من كلا قسميه (الأول والثاني).

والدليلان اللفظيان كما لا يخفى هما الكتاب والسنة وتوابعهما الأصولية.

ومقابل الدليل الثَّالث الذي مر علينا أيضاً التذكير به آنفاً وبالبحث عنه من الجزء الرابع وهو الإجماع مع تابعيه.

ليتم هذا الكلام عن تمام الأدلة الأربعة المتعارفة في الأصول بين أربابه والتي يلزمنا أيضاً استيفاء الكلام عنها بأجمعها مع ما يناط بها في أصولنا على ما حضرنا من التوفيق الإلهي له بالتدوين لها، وإن لم يكن بنحو الاستقصاء الكامل لبعضها رغبة في اختصاره إلى حين توسعته في مجال آخر لو لم يصدق عليه عنوان التلخيص الكثير لهذه الأدلة الأربعة وملحقاتها مما بين جزئي أصولنا الثاني والثالث وعن البحثين اللبيين (الإجماع والعقل) و عما يكمله من الكلام اللازم الآخر حسبما خططنا له في هذا الجزء الآخر من البحوث الباقية كبحوث الحجة ومراتبها وإلى آخر

ص: 78

ملحقاتها وكبحث التعادل والترجيح أو تعارض الأدلة)، وكبحث الاجتهاد والتقليد ختماً لهذا الجزء.

ثم التهيؤ لبحوث باقيها في الجزء الخامس، وهو الأخير المرتبط بالاستصحاب والأصول العمليّة المقررة للشاك في مقام العمل.

ولذلك نقول عما نحن الآن بصدده من عنوان هذا البحث:

لم يكن العقل يوماً أو ساعة أو حتى لحظة بذلك المكون العادي، لكونه إلهياً عظيماً ممنوحاً من الخالق تعالى لكل من يعقل من الجن والإنس تكريماً لهم وليشعروا بالمسؤولية عن طريقه تجاهه.

وبالأخص في دار الابتلاء هذه مهما ابتعد صاحبه من بني البشر عنه ومعهم بقية من كلف بالشعور بالمسؤولية من الصنف الآخر من المكلفين حبا بالمغريات الدنيوية المشغلة لكافتهم عن تعقلاتهم الثمينة منه لو تأملوا جيداً إن لم يكتف بالأقل منذ بداية لحظات الحاجة إلى التأمل عن كمال وصافي طبائع هذا العقل الربانية التي ميزت هذا البشر ومن التحق به في العقل والتكليف عن كامل البهائم والعجماوات ممن لا يعقل، لكونها مسخرة لخدمة أبناءه ولما خلقهم الله تعالى لأجله -

فجميع ما ذكرناه عن نعمة إيجاد هذا العقل لم يكن ولو للحظة بالذي يعقل أن يكون مجهولاً في قدره التكويني، وكذا التشريعي على ما سيجيء اتضاح أمره قريباً، لو يتفرغ له وحده عن أن تحف به تلك المغريات إذا أريد استغلال منافعه القيمة سالمة غیر مشوهة بما يحذر ويخاف منه حتى في أشد الحالات الخانقة الدنيوية المتلهف لخيرها، لإمكان حلّ أمره وإنقاذه من مشاكله عن طريقه وإلى ما فيه رضا الله تعالى وإلى أفضل الهدايات البعيدة عن المعاصي المتكونة من المغريات إن ارتاض العاقل بالرياضة المحكمة بتنزهه عن كل ما كان به مخيفاً وخطراً، أو كان ذا ملكة محافظة على الاستفادة من خصوص عقله المجرد.

ص: 79

وللتوضيح نكرر ونقول بلسان قريب آخر:.

توضيح ما مضى بأسلوب آخر مع بعض الإضافات النافعة

إنَّ البشر لو تأمل - في أبناءه قبل أن يكون مسلماً أو مؤمناً أو ما هو أعمق، ككونه في عاطفة وألفة معتدلة بإنسانية مستقيمة تريد العيش بسلام دائم-تأمله في ذاته المتكاملة بتلك التحفة العقلية الممنوحة إيَّاه، تكريماً له ولكل من يعقل من خالق المكونات "جل وعلا" بشرية وغيرها، ليميز العقلاء بعقولهم، فيعيشوا بانتظام معقول شعور وحس طبيعي مقبول في دنياه وآخرته لإسعاده فيهما تجاه نفسه ومن حوله وتجاه خالقه المنعم تعالى.

فتفترق عن تلك العجماوات وغيرها من المخلوقات المسخرة لخدمته.

و هي نعم جمة أخرى لا تعيش إلا لصالحه ولصالح ما خلقها تعالى لأجله من الأسباب أو العلل، ولا تعيش إلا بمستوى هداها المحدود لذلك الصالح أكلاً وشرباً وتكاثراً ولما يقتضيه جمال الطبيعة الإلهية البديعة ما دام البشر موجوداً بحكم حكمة الباري تعالى -

لما أدرك من صفاء عقله هو وكل مكلّف عاقل إلا ما يوجب عليه الشعور بالمسؤولية الكاملة ووجوب شكر المنعم تعالى والشعور الاعتقادي من وحي هذا العقل بحسن الإحسان وقبح الظلم والإقرار بحجية كل ما يعتقد به من الوجدانيات التي لا يختلف فيها اثنان من العقلاء ك- (الكل أعظم من الجزء) والأخذ بالبديهيات المسلمة الأخرى في ضرورتها والتي لا يجوز إنكارها كلما كانت تلك العقليات مستقلة في تصوراتها وتصديقاتها ولم يردع الشرع عنها.

حتى عرف من أقدم العصور أنَّ هذا العقل إذا كان صافياً منقحاً من کل الترسبيّات المشوشة في أذهان هذا وذاك وذلك -

ص: 80

يعد أول شيء أخضع البشر وبقية من شملهم قلم التكليف عقيدة وسلوكاً وعملاً من المخلوق الثاني وهو الجن - مهما تمرد من تمرد وعصى من عصى - لطاعة الخالق تعالى بعد توحيده في ذاته وبقية لوازم ما يجب من الإعتقاديات الحقة في حقه لعبادته، ولذا قال تعالى في قرآنه الكريم بعد نزول مثيلاته من نصوص الكتب السَّماويّة السّابقة «وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ»(1)

و لهذا ونحوه عرف بين الفلاسفة والحكماء والمتكلمين وبقية من ضبط تأريخهم المؤرخين قديماً وحديثاً ضبطاً بعيداً عن التشويه والتلفيق وادعاءات الزندقة -

أنَّ أرسطو طاليس وأمثاله - لو لم تثبت نبوته عن الله تعالى في توحيده المعلوم عن خصوص المعقول - كانوا على الأقل قد وحدوا الله عز وجل من وحي عقولهم السليمة وسلوكياتهم المستقيمة.

كما يظهر أيضاً من كلمات بعض أهل العرفان المعتدلين كذلك أن (العقل شرع داخلي والشرع عقل خارجي)(2)

ومن هنا ونحوه يمكن أن يتجلى لنا وبوضوح معنى اللبية المشار إليها في عنوان البحث لهذا العقل المجرد لو خلّي وطبيعة نفسه المطمئنة، بل واللوامة كذلك، لأنها قد تكون مقدمة للهداية.

بل لم يفرق شرعاً - بين العقل والشرع في حالات إمكان تداخل بعضهما بالبعض الآخر - بعض جهابذة علمائنا المحنكين في العرفان الشرعي حسب تتبعاته وفي حاق الواقع بقوله قدس سره (فلو تجسم العقل لكان بصورة النبي صلی الله علیه و آله كما لو تجرد النبي صلی الله علیه و آله لصادر العقل بعينه ، بلا فرق بينهما إلا باختلاف النشأة والعالم)(3).

ص: 81


1- سورة الذاريات / آية 056
2- تهذيب الأصول - السيد عبد الأعلى السبزواري - ج 1 ص 16.
3- نفس المصدر السابق

أقول: ومن استثناءه قدس سره في آخر عبارته هذه يمكن منه ادراك ما حقق أصولياً بين الأصوليين المهمين من الفرق بين العقل والشرع على ما سيأتي تفصيله بإذن الله تعالى

و لمتابعة هذا المعنى المذكور عن هذا العلم قدس سره ومن سبقه نقول أيضاً:-

بنحو من التأييد بل والتثبت المؤكد بالاعتقاد به حسبما اطلعنا عليه من بعض المرويات الشريفة ومنها ما عرف عن مشهورية الحديث القدسي في قوله تعالى - حينما خاطب العقل بعد أن خلقه قائلاً له (أقبل فأقبل) وبعد إقباله قال (أدبر فأدبر) مخاطباً له أيضاً بعد ذلك (وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أكرم علي منك، بك أثيب وبك أعاقب، وبك آخذ وبك أعطي)(1)

لكون هذا العقل لو تجرد عن الإضافيات المخفية كما خلقه الله أوّل مرة وكما صح من بعض جهات أخرى أنه (فطره) لا يمنع من أن يكون أوّل الرسل الهادية للإنسان وبقية المكلفين من بني المخلوق العاقل الآخر في مصاحبته له وهو الجن عند دخوله معه في عالم التكليف وبداية معترك الحياة ومفاتنها الإبتلائية المريرة بين جنسي ما نوهت عنه الآية آنفة الذكر، ومضمون ما ذكرته آية شريفة أخرى «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ»(2)بواسطة هذا العقل العظيم في نعمته.

فلا غرو إذن بأن يكون هو الرسول الباطني لبني الجنسين.

ثم أعقب تعالى هذا الحال - من عظيم ألطافه وسابغ آلائه لما ازدادت المشاكل على المستضعفين وتراكمت معرقلات الاستقامة فيهم بسبب تمردهم - تحرر الجنسين وبما لا يمكنهما بعد من تحقيق تمامها إلا بإرسال الرسل وبعثة الأنبياء الظاهرين وإنزال

ص: 82


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 1 ص 97.
2- سورة الأنفال / آية 42.

الكتب السماوية والدساتير الربانية الحاسمة، لإنقاذ عموم هؤلاء المكلفين من آفات إغواءات إبليس وأعوانه حسداً منه للبشر الذي جعله تعالى خليفة من قبله في الأرض بأنبيائه الذين أولهم آدم علیه السلام وفيهم رسله وآخرهم نبينا الرسول محمد صلی الله علیه و آله ، وكما قال الشاعر العارف بمخاطر الإغواء والتضليل ومحذراً منها نفسه وغيره مما سبق ذكره:-

إني ابتليت بأربع ما سلطوا *** إلا بشدة شقوتي وعنائي

إبليس والدنيا ونفسي والهوى *** كيف الخلاص وكلهم أعدائي(1)

يجعل الله أبينا آدم علیه السلام المبلغ الظاهري مع الأنبياء والرسل الآخرين دعماً لهذا العقل الرسول الباطني، ليتطابق العقل بالنقل، وليصدق الفعل بالعقل.

ولأجله عرفت الملازمة الثابتة عند الأصوليين من خصوص الثاني للأول ولو تعبداً حتى في حال الاستقلال العقلي للأشياء في بعضها كما سيتضح أكثر كقولهم حولها ( كل ما حكم به الشرع حكم به العقل)(2)، لأن الشرع جاء وارداً على العقل المحاط بالمغريات لإنقاذ تشخيصاته من عبثها والعقل مورود عليه على ما سيتضح في باب الكلام عند الورود.

ولعله لذلك ونحوه جاء التركيز الكثير جدا في القرآن الكريم على ختم كثير من موارد آياته ومنها آيات الأحكام أصولاً وقواعد وفرعيات كلية وتعليلات للفقه الأكبر والفقه الأصغر -

بلفظة العقل على اختلاف صيغ هذا الختم في كل منها مع بقية العلوم والمعارف

ص: 83


1- قيل هذه الأبيات لحمد بن هادي بن حمد بن علي آل جابر المري الغيهبان، وقد ولد في أواخر القرن الثامن عشر.
2- مطارح الأنظار : ج 2 ص 335.

القرآنية الأخرى، ولو لإخضاع هذا العقل لشرع الله في آخر الأزمنة كزمن خاتم الأنبياء والمرسلين صلی الله علیه و آله مع كثرة الإغواء وقلة المهتدين، لأنَّ دين الإسلام كسب عناية الله تعالى إلى حد أن جعل دولته العظمى هي التي تسود أبناء العالم في مؤهلاتهم ولو في آخرها على حد آخر أسباط نبينا صلی الله علیه و آله وهو الحجة المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف و كما أشارت إلى هذا المعنى آية قوله تعالى «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ»(1)وغيره.

مما لابد أن يرجع الله تعالى سلطانه مطابقاً لما وعد به عباده بواسطة خيرة أولياءه المخلصين.

أقول: ومن هذا المعنى يمكن استفادة غلبة الشرع للعقل أيضاً لما مر ذكره.

ومن نمازج ما ختم الله به آياته مما يدل على إخضاع الشرع للعقل ومنها ما يرتبط بشرعية الفقه الأكبر العقائدي قوله تعالى «فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»(2)، أي تخضعون للإيمان بالخالق وقدراته العظمى جل وعلا للإيمان به ولعبادته وإن كثر المتخلّفون عن هذا التعقل بلفظ (لعلَّ) التقليلية، والمراد منها أيضاً الترجي لحاكمية المغريات المضلة غير الشرعية الموجبة للحذر من بطشها وإلى غيرها من الآيات المشابهة.

ومن تلك النماذج القرآنية ما يدل على حاكمية الشرع على العقل أو لا بدية وجوب تعقل ما يفرضه الله تعالى في كتابه من السلوكيات الأخلاقية المثلى والشَّرعيّات في الفقه الأصغر أو حتى ما يرتبط بالإيمانيات عن طريق بداهة ما لابد أن يتعقل من كل من ألقى السمع وهو شهيد كما في موارد دليل الأولوية الصحيحة

ص: 84


1- سورة القصص / آية 5
2- سورة البقرة / آية 73

مثل قوله تعالى «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ»(1) وغير ذلك من الآيات المتشابهة.

وأما مقولة ما لو نعكس الكلية الماضية المعروفة بين علماء الأصول فنقول (كلَّ ما حكم به العقل حكم به الشرع) فلم يساعده ما ذكرناه عما لو حف العقل - المجرد من علاقاته بالقوانين الإلهية الثابتة في الكتب السماوية وآخرها مضامين القرآن الكريم بأجمعها علمية وشرعية - بالمغريات المخيفة، بل المهلكة في كثير أو أكثر حالاتها.

وبالأخص لو تجرد بعض أهل العقول أو الكثيرين عن التقيد بالدين وكل قيمه دنيوية وأخروية، ومنهم من يطلق عليهم أو على بعضهم بأهل الحداثة والتجديد أو بالعلمانيين حتى الذين ربما يُدعى عن بعضهم حملهم بعض الجوانب الإنسانية كالأطباء الماهرين من أهل الكفر واللادين.

فلم يرتض شرعاً من بعض أهل تلك العقول الأخرى إلا ما أمضي من قبل الشرع ممن أحرزت إنسانيتهم وقراراتهم الصائبة مما يسمى عندنا من الأدلة المجوزة لذلك للإمضاء عن الإرشاديات دون ما عدا ما لم يجرد منه ذلك، لأهمية وجوب إحراز سلامة الدين والدنيا معاً، وإلا لما تم الدعم فيما تقرر أعلاه للعقل المجرد إذا تكالبت المغريات الأربع الماضية عليه بعد إنزال الكتب السماوية والألواح وبعثة الأنبياء وإرسال الرسل في عملية الإنقاذ المشار إليها.

إذن فالنتيجة التي لابد أن تكون بنحو الجملة دون التفصيل هي قولنا (بعض ما حكم به العقل حكم به الشرع) أي دون البعض الآخر وهو المحتك بالمغريات، لمبدئية ان لا یطاع الله من حيث يعصى إلا بما صححنا استثناء بعض التقارير العلمية

أن لا يطاع

ص: 85


1- سورة البقرة / آية 44

الصائبة والبريئة بالإمضاء الشرعي لقبولها في موارد الاضطرار ونحوه.

وإن تشبث هؤلاء المتطرفون بأن العباد خلقوا في هذه الدنيا أحراراً ومخيرين غير مسيرين على ما تصوروه من سذاجتهم غير المستوعبة للأمور كلها من بعض المضامين القرآنية وبعض الأحاديث إلا سطحياً؟

فهو وإن كان في الجملة صحيحاً لكنه لا يعطيهم المجال الكامل ليتحرروا في تفكيراتهم كلما شاءوا وتعقلوا، وقد قال تعالى عن حال كل من المكلفين في الدنيا «مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»(1)وقال أيضاً «وَقِفُوهُمْ أنَّهم مسْئُولُونَ»(2)، وغيرها الكثير.

ومن الأحاديث الشريفة كقول الإمام الحسن المجتبى علیه السلام (واعلم أن الدنيا في حلالها حساب وفي حرامها عقاب وفي الشبهات عتاب )(3)

وقد رددنا المتورطين بشبهة التمسك بعقيدة التفويض من المسلمين للأشياء، وقد سبقهم في ذلك اليهود.

كما رددنا معهم المجبرة في الجزء الأول من أصولنا، وأخذنا بما قاله الإمام الصادق عليه السلام و هو (لا جبر ولا تفويض بل منزلة بين المنزلتين)(4) لتتطابق تعقلاتنا كلها بما قاله القرآن العظيم الجامع لكل عدل ووسطية في نصه «وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النّاس»(5)، أي بلا إفراط أو تفريط.

وبهذا وأمثاله يكون المراد الصحيح لكوننا وبقية المكلفين في هذه الدنيا مخيرين

ص: 86


1- سورة ق / آية 18.
2- سورة الصافات / آية 24.
3- بحار الأنوار ج 44 ص 138-139 / ح6.
4- بحار الأنوار 17:5ح 28
5- سورة البقرة / آية 143

غير مسيرين، ولكننا خاضعون للنظام الإلهي الداعي والراعي لتعقلات ذوي الفطرة السلمية لا غير.

ولأجل هذا المعنى والحفاظ عليه أكدت الروايات الشريفة عن أهل البيت علیهم السلام عن النبي صلى الله عليه و آله سلم ، ومن ذلك ما ورد عن وصية ولسان حال أمير المؤمنين علي علیه السلام في وصف الحرب الحقيقية دون ما وقع فيه المتوهمون (لا تكن عبد غيرك و قد جعلك الله حراً)(1) وجاء في عبارة أخرى (لا يسترقنك الطمع وقد جعلك الله حرا) (2)وجاء أيضاً (من ترك الشهوات كان حراً )(3)إلى غير ذلك من الكثير .

و إن تشبثوا من حيثية أخرى بمثل تعدد العقول لو فُسِّر بمعنى إمكان أن يتعدد الحق وتختلف الحقائق للمعنى الواحد، كما عرف ذلك عن الفلاسفة لو لم يكن معنى آخر يقصدونه غير ذلك؟

فإنه عرف عن أمير المؤمنين علي علیه السلام أيضاً قوله (العلم نقطة كثرها الجاهلون)(4) وقوله علیه السلام في ردّ هذا المعنى من التعدد في نهج بلاغته (كم من عقل أسير تحت هوى أمير)(5).

أقول: يعنى بذلك" صلوات الله تعالى عليه" كان من أمراء الأهواء و الطواغيت، أو من وعاظ أروقة السلاطين و عبيد الوضع والتلفيق خوفاً و طمعاً دون رعاية أوامر

ص: 87


1- نهج البلاغة لمحمد عبده ج 51:3 الرسائل: 31 ومن وصية له علیه السلام للحسن بن علي علیه السلام كتبها إليه بحاضرين
2- غرر الحكم: 10317.
3- بحار الأنوار- العلامة المجلسي - ج 75 ص 91 ، عن كنز الفوائد - أبو الفتح الكراجكي - ص 163.
4- مصابيح الأنوار، ج 396/2، حدیث: 221، نقلا عن المجلي .
5- نهج البلاغة (الحكم) الحكمة .211.

النبي صلی الله علیه و آله و أمير المؤمنين علیه السلام.

ومن هنا عرفنا نحن الإمامية في أصولنا بالمخطئة تبعاً لذلك الحق الذي لابد أن يتوحد.

وعُرف غيرنا بالمصوبة مهما تعددت عندنا وعندهم الأقوال في المعنى الواحد حتى لو تشتت، وقد توسعنا حول هذا المعنى في مورد أخر بما يفي من الأصول.

و مما يزيد طالب العلم والمطالع الكريم إفادة إضافية في خضوع العقل لشرع الله وعلمه الخاص المرتبط بالفقه الأكبر والأصغر، بل ورضا الشرع بما حواه قرآنه العظيم من كافة معارفه الإسلامية الأخرى، بل وبقية علوم الحياة بما يمكن أن تحرز منها الفوائد بالإمضاء في مثل آيات منها قوله تعالى «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»(1)

أقول: وهو الظاهر منه أن العقول لا وزن لها إلا بأن يمتثل أصحابها أوامره تعالى بتعلم ما يبديه قرآنه من المعارف الخاصة والعامة ولنهيه أيضاً في مقامات أخرى عن البقاء على الجهل كما لا يخفى ليبطل العكس الذي ذكرناه عن ادعاء حاكمية العقل المجرد على مقررات القرآن في كل ما حواه حتى عن خلفية الجهل والجاهلية.

لأن استعمال (لعلَّ) مع الختم ب- (تعقلون) الدال على الترجي وقلة استفادة صحة التعقل لا يفيد الاطمئنان بضمان كل مستوى من حالات امتثال أوامر التعلّم ودلائل الخضوع للإيمان بالله وآياته وشكر أنعمه وعبادته إلا بما يرسخ كل ذلك بالامتلاء منها خوفاً من الاشتراك بالمغريات.

إلى غير هذه من الآيات وغيرها من الأحاديث مع ما سبق من محددات مقدار ما يمكن أن يحتج به من لبية العقل.

ص: 88


1- سورة الحديد / آية 17.

تقييم ما يستحق من الكلام عن العقل على ضوء التحسين والتقبيح العقليين مع نزاع الموافقة والمعارضة وبعض التوضيح.

بعد أحكام السيطرة منا بجملة ما وفقنا له من سابق الكلام عن حقيقة تبعية العقل للشرع بنحو من الموجبة الكلية الصحيحة لدى جميع من استقر رأيه الطبيعي - على ما أشرنا إليه من الأدلة الماضية - من المتدينين وأتباعهم.

إلا من مكابر معاند لا يؤمن بالشرع وسلطانه وسوء الحساب، أو يريد أن يسخره مع أعظمية أبعاد معاني أوامره الجليلة لتصرفات عقله المتطرف والمستحوذ عليه من مغريات التضليل، أو أنه إن احتاج أن يحتج يوماً لصالح تعقلاته الضعيفة تلك بتعظيم بعض قيم هذا الشرع الواضحة والتي لا تتضح جواهرها إلا على أساس تجرد ذلك العقل عن المغريات ليحصل ذلك التلاقي مع هذا الشرع بانسجام.

إلا أن هذا ما كان من هذا السفسطائي إلا لإخضاع الشرع القوي المكين للعقل الضعيف مع تزعزع أفكاره.

وبعد حاجتنا أيضاً في بياننا الماضي إلى توضيح ما ذكرنا لعدم صحة الحالة العكسية التامة للكلية الماضية إلا بما مضى من القول بإمكان صحة هذا العكس، ولكن بنحو من الموجبة الجزئية لا غير، وتوضيح الإشارة إلى ما مر عن التدليلات على نفي كلية هذه العكسية ببعض التصريحات المفيدة منها.

ولغرض ذكر القضيتين الكلية والجزئية حول خصوص حجية العقل من جهة لبيته المذكورة.

نحن الآن بحاجة أيضاً إلى تقييم ما يستحقه هذا الموضوع من الكلام عنها، ولكن على ضوء ما ساد بين الأصوليين من أمر التحسين والتقبيح العقليين مع ذكر جوانب الموافقة والمعارضة وذكر استدلال كل من الطرفين في النزاع، للاستقرار بعد ذلك

ص: 89

على الدليل الأصوب لأصل حجية العقل ومقدارها في اللبية.

ولكن بما أننا بعد ذكرنا للحالتين لم تكن معاناة الحاجة إلى توسعة البحث حول الكلية الصحيحة الأولى عن المعارضة الاولی التي كانت آتية بعدها - كبيرة الأهمية بمثل المعاناة مما أوقعته تلك المعارضة حتى من تلك الموجبة الجزئية وحدها، وبالأخص حينما صح استناد محنكي الأصوليين - ومعهم بعض المعتدلين من مجتهدي غيرهم إماميين وحتى بعض من غيرهم - في الكلية الأولى مع سهولة أمرها، والجزئية المعاكسة - إلى مسألة التحسين والتقبيح العقليين وبما ذكروه عما يستحقانه من الكلام العادل عن كل منهما، وبالخصوص أكثر الموجبة الجزئية، وإن كان أمرها سهل يسير أيضاً على ما سيتضح من الرد إن شاء الله تعالى.

إلا أن هذا بما أنه لاقى مما ذكرناه عنه - من مبالغة العلمانيين ونحوهم في التّجاوز على العقل - ما لا يستحقه من المغالاة به وعن طريقهم وغيرهم جاءت القياسات والإستحسانات ونحوهما.

وكذلك من المتجاوزين عليه من الآخرين حتى فيما يستحقه من حاق ما یصح البناء عليه ملازماً للشرع وتابعاً له أو ما قد يمكن أن يمضيه الشرع له - معارضة شديدة حتى حصل من وراء هذا وذلك انشقاق أصولي، بل وبين المسلمين أنفسهم ممن أعدم عندهم العقل كلياً، وفي قبالهم من هذب استعماله - أي بين أولئك الأشاعرة وهؤلاء العدلية من المعتزلة والإمامية.

وقبل تحرير محل النزاع الأصولي الإسلامي لنذكر أمراً سبق وأن ذكرنا ما يشبهه في الجزء الأول من أصولنا بين نفس فريقي من سنذكرهم في النزاع الآتي، ولكنه كان حول كلام الله تعالى.

ومن جهة كلامية و عقائدية وهي ناحية قدم الكلام الكريم أو الحدوث له وما يستدعيه هذا الأمر بين الفريقين في النتيجة وما وصلت إليه الوسطية العادلة .

ص: 90

اوحول نفس كلام الله تعالى أيضاً ولكن الفرق بينهما من جهة أصولية وهي المتعلّقة بناحية الجبر والتفويض في تكاليف العباد وحول ما تتضمنه آيات الأحكام وغيرها، وما أوصلنا البحث فيه عن ذلك بالانتظار إلى النمطية الوسطى.

ووجه الشبه بما سيأتي ذكره في كونه الكثير جداً من كلام الله تعالى وآياته ومنها الآيات الأحكامية بمجيئها مختومة بذكر العقل ومحورية علاقته بما يريده الله تعالى من أمور العلوم والشَّرعيّات وما يمكن الاستفادة من تشخيصاته حتى لو كانت خارجة عن عالم الكتاب الكريم والسنة الشريفة مما لا يتنافى أمرها مع الشرع وثوابته، ومنه التحسين والتقبيح المنوط بالإرشاديات حتى من المصدرين المهمين فليغتنم الأمر بهذا المقدار لا أقل.

وبعد هذا كله علينا أن نقول:

استعراض رأيي الفريقين والبحث حولهما ثم الوصول بعده إلى الأصوب مما بينهما

قالت الأشاعرة حول ما دار بين طرفي نزاع أن الحاكم في حسن الأشياء وقبحها هو الشرع أم العقل؟

(لا حكم للعقل في حسن الأفعال وقبحها وليس الحسن والقبح عائداً إلى أمر حقيقي حاصل فعلاً قبل ورود بيان الشارع، بل إن ما حسنه الشارع فهو حسن وما قبحه الشارع فهو قبيح، فلو عكس الشارع القضية فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعاً وانقلب الأمر فصار القبيح حسناً و الحسن قبيحاً) .(1)

ص: 91


1- كما عن العضد الإيجي في كتابه (المواقف في علم الكلام) ص 323 ، وشرح المواقف -القاضي الجرجاني - ج 8 ص 182 وكذلك تصويره وبيانه عن كتاب القوشجي شارح كتاب تجريد الاعتقاد للخواجة نصير الدين الطوسي قدس سره.

ومثلوا لذلك بالنسخ من الحرمة إلى الوجوب ومن الوجوب إلى الحرمة.

أقول: وقبل التثنية بذكر رأي المعارضة وقبل التعليق على ما يستحقه كل من القولين أو الرد بعد ذلك حول نفس ذوي القول الأول بما قد ينفع بما يلي:-

أولاً: إنّ الأشاعرة هم الذين يشكلون غالبية إن لم نقل أغلبية العامة من المسلمين، وقد يطلق عليهم من حيث المبدأ أو في النتيجة أو في الاثنين معاً بالمجبرة، وإن ادعى تنصل بعضهم عن نسبة الظلم التشريعي إلى الله تعالى لوفرة ما لا يمكن إنكاره من آيات وروايات العدل الإلهي في كل شيء، فيرون:

بأنه تعالى له الحق أن يجبر عباده على الطاعة، بل حتى على المعصية، لأنهم خلقه يتصرف فيهم كيف يشاء ومعنى هذا الأمر فيما يأتي بصفة أكثر.

وقد يشتد بعض من محدثي الإمامية مع هؤلاء كثيراً على العقل، ولكنهم في خير مع القول بالعدل وعدم التجبير، إلا أن شدّتهم هذه على العقل يمكن توجيه بعضها أو ما قد يزيد لصالح نسبة معينة من تحجيمه لا إعدامه على ما سيتضح.

ثانياً : إن فكرة الأشاعرة في اشتدادهم المضاد للعقل حول مبدئية التحسين والتقبيح العقليين لم تكن إنصافاً فيما لا يمكن إنكاره لدى جميع العقلاء في معقولاتهم، وإن توسع بعضهم في هذا الاشتداد كما في حالتين:

أولاهما حالة إطلاق الحسن والقبح على الشيء من كل منهما وإرادة صرف الكمال لأولهما والنقص لثانيهما بوقوع كل منهما وصفاً للأفعال الاختيارية، أو لمتعلقات تلك الأفعال.

فالعلم وصف للأفعال الكمالية، والتعليم وصف لمعطيات تلك الأفعال الكمالية، وكلا الأمرين حسن ، لأن كليهما إيجابي من القضايا اليقينية غير القابلة للإنكار من

ص: 92

كل عاقل، لأن وراءها واقع خارجي.

وفي مقابل ذلك بالضد هو الجهل، فإنه وصف للحالات السلبية الدالة على النقص، لمضادته للعلم أو إهماله، فإنه وصف لما يتعلق بالجهل في سلبيته التامة أو دخوله في حالة النقص.

وكلا الأمرين حالة قبيحة لمضادتها لحالة الكمال وبالنحو اليقيني الذي لابد أن يكون وراءه واقع خارجي مشين.

ويتبع المثالين المذكورين لهذه الحالة وهما (العلم والجهل) أو (التعلم والإهمال له)، فيما لا يمكن إنكاره لكل عاقل بمصداقية التحسين والتقبيح العقليين المتعلقة باليقينيات الأخلاقية من محاسنها ومساوئها بلا فرق بين الأمرين كالشجاعة وضدها الجبن، والكرم وضده البخل، والحلم وضده الغضب، والعدالة وضدها الظلم، والإنصاف وضده الانحياز إلى ما يضاده ولو قليلاً.

إلى غير ذلك من بقية الأخلاقيات الإيجابية مع مضاداتها.

إضافة إلى أن جملة من هؤلاء الأشاعرة اعترفوا - أو لم ينكروا - بما يبدو بوضوح لهم ولغيرهم من يقينية ما تقول به العقول المستقلة قبل الشرع بمحاسن كل ما مضى التمثيل له ومساوئ ما يضاده لكن بمعنى أن يشعر هذا العقل بحسن هذا الكمال أو قبح ذلك النقص، بل حتى لو صدر من صاحب الحكم بهذا المعنى مع اغتباطه إن اتصف بصفة الكمال، وإبتئاسه إن اتصف بصفة النقص.

ثانيهما: قد يطلق الحسن والقبح العقليين للأشياء ولكن بما يتلاءم في الحقيقة مع رغبة النفس فتكون الملائمة، ومع عدمها فتكون المنافرة.

وهذه الثانية قد تجتمع مع العقل المستقيم تابعاً للشرع كلياً أو تابعاً أو متبوعاً له في الجملة مع استقلالية، فتكون النفس هنا مسمات أخلاقياً أو سلوكياً عاماً ب- (النفس المطمئنة).

ص: 93

وقد تسمى ب- (النفس اللوامة) إذا كان صاحبها العاقل قريباً من الهداية حتّى لو لم تضبطه أخلاقه الحسنة أو عموم سلوكياته غير المقبوحة إلا على الوزن العقلي دون الشرعي.

وقد تسمى تلك النفس ب- (الأمارة) لكنها لا تبتعد عن العقل المستقيم في خصوص ما يكره شرعاً دون ما يحرم ترفعاً عنه كما سيتضح سببه، و لا يبتعد ذلك العقل عنها لغرض إيصالها إلى بر الأمان العقلي المستقيم.

وعلى هذا يكون المعيار بالمباشرة على تشخيص النفوس في ملاءمتها أو منافرتها وإن كان بعض السطحيين للأشياء قد عبروا تسامحاً عن النفس ب- (العقل) وعن العقل ب- (النفس) ، ولكن لا نحمل هؤلاء المدققين لهذا الحمل إلا على نحو المجاز أو على معنى الربط بين اللازم والملزوم من كل منهما مما مر ذكره إذا قصدوا الصحيح ولو في الجملة.

وعلى هذا الأساس إن قيل عن بعض الأفعال ك- (نوم القيلولة حسن) أو (الأكل عند الجوع حسن) أو (شرب الماء بعد العطش حسن) ونحو ذلك، وإن قيل عن بعض المتعلقات من الأفعال ك- (إن نمت القيلولة زاد انتباهك ولما تحتاج من التفكير) و (إن أكلت عند جوعك زاد نشاطك على العمل ) و (إن شربت الماء بعد عطشك قدرت على ممارسة صعابك العادية) ونحو ذلك .

فكل هذه الأفعال ومتعلقاتها والأحكام التي ظهرت عنها موطنها النفس، وهي مورد الالتذاذ بها لتلائمها المباشر معها، وإن شاطرها العقل المستقل السليم لما ذكرنا، ولو لم يستدع ذلك حكماً من الشارع.

وبالضد مما مر ذكره أفعال ومتعلقات يظهر بسببها نفسياً الألم والاستقباح لو لم يصادف شيء من ذلك محرماً شرعاً في نظر الشرع لتجنيبه عن مورد تعقل الأشاعرة ومن شاطرهم للحالة النفسية في مثل حالات آلامها وما يستقبحه من الأفعال، و إن

ص: 94

احتيج إلى معرفة حكم بعد ذلك بالإمضاء في حال الكراهة والرفض في حالة الوصول إلى التحريم.

فلو قلت بأن (كثرة النوم قبيح)، وقلت عن متعلقه (لو زاد نومك عن حالته العادية راجع الطّبيب من محذور ضرره)، ولو قلت (الأكل عند الشبع قبيح)، وقلت عند متعلقه (من استمر على أكله عند كل شبع كان عرضة للأمراض)، ولو قلت (شرب الماء بعد الامتلاء منه قبيح)، وقلت في متعلقه (من استمر على شرب الماء بعد كل امتلاء لاقى ما يضره) وهكذا في الأمثلة الكثيرة التي تسبب للنفس عند التمادي تألماً أو اشمئزازاً -

فيرجع الأمر بعد ما مر كله في الحقيقة التي لا تخفى من معنى الحسن والقبح إلى معنی اللذة والألم، وإن ينفصل العقل عن النفس عند التدقيق للأشياء حتى بكل أنواعها تماماً لما مر عليك.

ويمكن بل يحسن أن يضاف إلى هذا الأمر شيء، وهو أنَّ اللذة النفسية والألم النفسي قد يتوسع معناهما ولو اعتباراً إلى ما يقبل هذا التوسع بصفة أكثر في القابلية الاعتبارية وهما (الملائمة وعدمها) و بما يتوافق مع التوسع في المصالح والمفاسد، أو لا شيء من أحدهما كمعنى الثَّالث على ما سيجي الثَّالث على ما سيجيء الآن، ولو من حيث النتيجة لا خصوص الفعل أو متعلقه على ما سيجيء.

فشرب الماء الحسن عند العطش ينتفي الحسن وينقلب إلى قبح مميت إذا استلقى محتضراً إلا أن يقطر له الماء تقطيرا إلى أن يتماثل شيئا فشئياً إلى اعتيادية العافية لتطبيق الملائمة ولو بالدواء المر إذا احتاج إليه المريض مع كونه غير ملائم لنفسه جداً، وبالأخص إذا غُرَّ في فمه عند حاجته الماسة، فإنه يكون مطابقا لمصلحته في النتيجة.

وهكذا الأكل اللذيذ المضر بالصحة، فإنَّ لذته الفعلية مستقبحة إذا زادت

ص: 95

كمياتها عن مقدارها المناسب من حيث النتيجة، وإن تجنبه لا محالة مبق لتاركه على عافيته.

ولم يستقر هذا الرأي على خصوص العدلية من مثل الإمامية من معنى التوسع الاعتباري، بل شمل من قال بذلك من العامة أيضاً كالشيخ القوشجي في شرحه للتجريد فليراجع.

والعقل في المقام لابد أن يساعد على صحة تعقل هذه الأمور لما مر ذكره، وهو مما ليس للأشاعرة فيه نزاع، فلابد من عزل هذا القول كالأول عما بين الفريقين.

وأما ثالث الأقوال:

فهو مورد النزاع دون القولين السابقين:-

فالأشاعرة أنكروا كما مر من ذكر قولهم أن يكون للعقل ادراك، وخالفهم العدلية كما سيجيء قريباً جداً عند ذكر قولهم، فأعطوا للعقل هذا الحق من المدارك، وهو (ادراك حسن كل حسن)، وبمعنى ما ينبغي فعله، و (ادراك قبح كل قبيح)، وبمعنى ما ينبغي تركه عند العقلاء، أو لا ينبغي ترك كل حسن، أو لا ينبغي فعل كل قبيح عندهم.

ولهذا القول الثالث المتنازع فيه بين الفريقين مجال للتوسع إلى ما قد يخالف بعض صفات ذاتيات الأشياء من الحسن والقبح لذي العقل إذا ما حشرنا بعض النفوس كالأمارة منها معه.

فإن بعض ما قد يستحسن في نظر العقل قد يستهجن في نظر تلك النفوس، كترك شرب التبغ في نظر العقل وشربه في نظر تلك النفوس، وكترك شرب الخمرة في نظر العقل وشربه في نظر تلك النفوس

وقد تؤيد بعض النفوس الأخرى كالمطمئنة واللوامة العقل المجرد المستقيم كما ذكرنا في هذا القرار.

ص: 96

وكل هذا قبل الوصول إلى معرفة نظر الشرع المقدس وإن لم يخف على المتشرعين، لعدم الحاجة إلى أمر تعقل هذا القول في خصوص نظر الشرع، لكون المراد الآن هو التعقل في نظر خصوص العقل، ولذلك ورد قول جعفر الطيار "رضوان الله عليه" عن وضعه في زمن الجاهلية (ما شربت الخمر قط لأني علمت إن شربتها أزالت عقلي وما كذبت قط لأنّي علمت أن الكذب ينقص المرؤة، وما زنيت قط لأني خفت إن عملت عمل بي، وما عبدت صنماً قط لأني علمت أنه لا يضر ولا ينفع)(1).

وغير ذلك من دواعي ما ينبغي أن يترك من المكروهات في نظره.

بل قد يطرأ بعض توسع حتى على بعض الممادح من الصفات في نظره كذلك مع النفوس المطمئنة أو اللوامة، كما بين بعض حالات الإفراط والتفريط، فيكون الحسن منها شيئاً كالعلم المفيد إذا كان يورط متعلمه بالشبهات الضارة، ما لم يتعلم رده فيبقى كله مفيداً.

هذا ولو اعتذر بعض الأشاعرة - لصالح من يشتد منهم كثيراً على العقل وبمثل ما أشرنا إليه آنفا - من إمكان التوجيه عند اشتداد بعض محدثي الإمامية المحسوبين على الفريق الثاني من العدلية، وأطلق على بعضهم بعد ذلك بالأخبارية لصالحهم فيما بعد؟

لأمكن ردهم فيما يأتي أيضاً بما لا يشبه ذلك التوجيه، أو بما يصل إلى الرد الأكبر لهم إن صحح بعض الرد لأولئك.

وبعد تحرير ما عرف من قول الأشاعرة وبما هو أدق يلزمنا معرفة الطرف الثاني

ص: 97


1- موسوعة عبد الله بن عباس - السيد محمد مهدي الخرسان - ج 12 ص195، من لا يحضره الفقيه 347/1

للنزاع للوصول إلى ما تقتضيه من الحسم لحالته فنقول:-

قالت العدلية - في مقابل قول الأشاعرة :

(إنّ للأفعال قيماً ذاتية عند العقل مع قطع النظر عند حكم الشارع فمنها ما هو حسن في نفسه، ومنها ما هو قبيح في نفسه، ومنها ما ليس له هذان الوصفان والشارع لا يأمر إلا بما هو حسن ولا ينهى إلا عما هو قبيح، فالصدق في نفسه حسن، ولحسنه أمر الله تعالى ،به لا أنه أمر الله تعالى به فصار حسناً، والكذب في نفسه قبيح، ولذلك نهى الله تعالى عنه، لا أنه نهى عنه فصار قبيحاً)(1)

أقول : هذا المقدار على حد ما عرضه شيخنا المظفر قدس سره عنهم.

وهؤلاء العدلية كما سبقت إليهم جماعة مكونة من المعتزلة من بقية فرق العامة، وهم جماعة واصل بن عطاء، وعرف عنهم القول بالتفويض مع تمسكهم بالعدل ضد تجبير الأشاعرة آنف الذكر.

و من العدلية هم الإمامية، الإمامية، ومنهم محدثوا أو أخباريوا الإمامية القائلون بالعدل الإلهي، دون من يشتد منهم ضد العقل على ما سيأتي توجيهه عند ردّ الأشاعرة.

وبعد سرد قولي فريقي النزاع حول حجية العقل لبياً مع بعض التعليق الآتي للنظر فيهما ، و فيما يستدعي منا حولهما ردًا أو مناقشة أو كليهما -

لابد من شروعنا حول كل منهما وعلى نحو التسلسل والحرص التام على الدفاع عن الوسطية العقائدية والشرعية جهد الإمكان فنقول:-

رد أو مناقشة قول الأشاعرة

أما عما قاله الأشاعرة حول الذي نُسب إليهم مما نختاره من مقطع قولهم الأول -

ص: 98


1- أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 2 ص271.

بعد الذي أوجزناه في بداية الكلام حول البحث عن حجية العقل اللبي وعن تقييم حالة النزاع على ضوء التحسين والتقبيح.

وما وعدنا ببيانه بعده في النتيجة دفاعاً عن الحق والحقيقة - وهو (لا حكم للعقل في حسن الأفعال وقبحها وليس الحسن والقبح عائداً إلى أمر حقيقي حاصل فعلاً قبل ورود بيان الشارع).

الظاهر منه بعد ثبوت بناءهم عليه هو نفي الجنس المطلق عند تعقلهم للأشياء في محاسنها ومقابحها ولأمورها الحقيقة الفعلية قبل ورود بيان الشارع.

والظاهر منه أيضاً خلطهم في كل بيانات الشارع بين ورودها بعد إمكانية التعقلات الذاتية للأشياء المسموح بها وبما لا يمكن الانفكاك عنه عند الجميع ومنهم الأشاعرة كأمثلة المعنيين - الأول والثاني - قبل الثالث المتنازع فيه، أو كونها متعقلة لدى الجميع طبيعياً حتى الثالث، ثم وردت البيانات من الشارع مثل ذلك لكونه سيد العقلاء وخالقهم أو جاءت تلك منه إمضاء لها أو لبعضها وجاء باقيها بنحو المشاركة التعقلية للوحدة العقلية مع التجرد المستقيم فيها - وبين ورود هذه البيانات قبل إمكانية تعقليات العقول ذاتياً، لتكون تلك العقول بأجمعها تابعة للبيانات.

الحاجة الماسة إلى التفريق بين الموردين للفهم بالدقة.

بينما حالة المورد الأخير منها لو بقي الخلط على حاله لا يمكن تحملها في نفي الجنس المطلق المتصوّر آنفاً إلا على ما قد يظهر من صحة ادعاءهم على فرض ثبوتها بكفاءة النصوص والظواهر ونحوهما من أمور الاستدلال اللفظي للمصدرين الأساسيين من الكتاب والسنة وبما يلحق بهما وبما قد يغني عن اعتبار بعض تلك العقول.

وهذا ما قد يثبت خلافه بعد التدقيق الجوابي الآتي.

ص: 99

وللفرق بين تخريجات المذاهب الأربعة وطرق استدلالات كل منهم إضافة إلى الدقة المهمة لدى الإمامية وإن أدعي تنازل تلك المذاهب عن نفي الجنس المذكور -

فإنه ينقض عليهم بما تعقلوه في استدلالهم على المقطع الأول مع ما سيأتي من بقية كلامهم الآتي.

بل ومن مضار نفي الجنس هذا حتى إن أدعي البناء منهم على سطحية عدم التفريق في تلك البيانات بورودها بين ما بعد إمكانية التعقلات الذاتية الجائزة المستثناة الماضية -

وبين ورودها قبل تلك الإمكانية مع الحاجة الماسة إلى بذل النظر الدقيق بين فريقي نزاع القضية نفسها، بل بين العامة بأجمعهم، حتى من كان بعضهم معنا في الإيمان بالعدل، وبين الخاصة وهم الإمامية، أو كنا نحن الإمامية في النتيجة مع الأشاعرة في الظاهر وفيما بنينا عليه سابقاً من الموجبة الكلية وهي (كل ما حكم به الشرع حكم به العقل) مع تفاوتنا عنهم في بعض أو كثير من المعاني -

ترك الحاجة الماسة للغربلة الحثيثة لأمور المصادر التشريعية التي لو دقق فيها بإنصاف وإخلاص لتقلصت بعض الأدلة اللفظية ولما أمكنت الغفلة عن الاحتجاج بالعقل اللبي فيما يخصه من أمور المعنى الثَّالث كما فيما ذكرناه من الموجية الجزئية وهي (بعض ما حكم به العقل حكم به الشرع) تقريراً أو إمضاء.

فإن كتاب الله فيه الأوامر والنواهي وفيه النَّص والظاهر وفيه العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ.

وهو إن عرف صافيه مميزاً عند العلماء من غير المعصومين علیهم السلام كما عن طريقي تفسير القرآن بالقرآن أو بالاستعانة بصحاح السنة ومعتبراتها المعتمدة التي لا تتعارض مع كتاب الله، فلم يبق مما يستحق الإجتهاد إلا ما هو الأقل من مصدري الكتاب والسنة الأصيلة.

ص: 100

وقد اعترت السنة أمثال ما في كتاب الله كذلك، وهو ما يوجب على كل منصف مخلص السعي إلى الغربلة المشار إليها ومنها عرض ما لم يتضح منها على ما كان محكماً من الكتاب ومع كل ما أجهد أعلام الأمة الأصفياء قديماً و حديثاً أنفسهم على حفظ تراثنا المنقول - جزاهم الله خيراً - مع كون الكتاب قطعي السند ظنّي الدلالة، وكون السنة ظنيّة السند قطعية الدلالة كما نوهنا سابقاً.

و هو ما استدعى مؤكداً ما ذكرناه من أهمية النظر الدقيق للغربلة المطلوب الوصول إلى مصفاها.

ومع ذلك كله حدث ما حدث مع الأسف الشديد بعد رسول الله صلی الله علیه و آله زمن المشايخ الثلاثة من فتنة ادعائهم (حسبنا كتاب الله)(1)، والقياس في مقابل النصوص، وحرق الأحاديث الصحيحة وحرق القرآن وإلتجاء القوم بعد اللتيا والتي إلى الرجوع إلى أمير المؤمنين علیه السلام بعد غرقهم في بحر الأخطاء والأشد ضده.

وكذلك إشغاله بالفتن العديدة، ثم توالت مشاكل الأمويين المنافقين من حكام الظلم والجور والنفاق ومن خَدَمتهم خوفاً وطمعاً ونفاقاً من وعاظ السلاطين من الوضع والتلفيق للروايات.

ومن بداياتها مهزلة روايات الصحابي المختلق(2) على الأكثر لبضعة أشهر وهو (أبو هريرة) عن التابعي المنافق واليهودي في أساسياته، ولم تظهر الإسرائيليات إلا عن طريقه وعن أمثاله وهو كعب الأحبار .

ومن هذه النماذج الكثير الغفير مما شوش على الكثير من رواياتنا الحقة.

ص: 101


1- صحيح البخاري :ج: 4 ص : 1612 ، باب 78 باب مرض النبي صلی الله علیه و آله و وفاته ح 4168 و ح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عني.
2- راجع كتاب خمسون ومائة صحابي مختلق - السيد مرتضى العسكري ، وكتاب شيخ المضيرة أبو هريرة لمحمود أبو رية.

وقد اعترف المنصفون من رجاليي العامة والباحثون من علماء أحاديثهم بظهور التناقضات وكثره ادّعاء ما ليس من الشرع في الشرع.

فكيف إذن يقبل هذا الخلط إن ادعي ؟ وبانت للمنصفين آثاره ولم تعط أية حصة للعقل بما أعطي له من الحصة الإلهية التي كرم بها كل مكلّف عاقل ولو في الموجية الجزئية إذا لم تكن حالة تعقلاته في كل أمر يقول به الشرع في الموجبة الكلية الماضي ذكره.

وإن ادعوا وفرة البيانات التي أغنتهم في نظرهم عن تعقلات العقول حتّى مع استثناء المعنيين الماضيين عند الجميع.

فكيف يتمسك البعض بل الكثير منهم مع الكثير من بقية مذاهبهم بالقياسات مع الفوارق والإستحسانات ونحوها مع الفرق بين تعقليات المعنى الثالث المذكور والمستنكر عندهم وبين القياسات مع الفوارق والإستحسانات المستنكرة عند أهل الاستقامة من العلماء العقلاء.

بينما المعنى الثَّالث له علاقة بتأكيدات مهمة من الإرشاديات القرآنية التي منها قوله تعالى«إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(1)، وغيره مما معناه الإرشاد إلى صحة كل تعقل يتطابق مع محورية حسن الإحسان وقبح الظلم، إلا أن يعترفوا بقلة أو ضعف رواياتهم المعتمدة حتى عندهم.

ولذا تمسكوا هم وغيرهم بما لا يقبل التمسك به علمياً وتركوا ما يشرع الأخذ مما له تمام الربط بالإرشاديات المعدة للأخذ بها في كل الأصول العملية المقررة للشَّاك في مقام العمل ولو إجمالاً.

ص: 102


1- سورة النحل / آية 90.

وإن ادعوا أنَّ من الإمامية جماعة يطلق عليهم ب- (المحدثين) - وكذا يسمون ب- (الأخباريين) يشتدون كثيراً على العقول، فالحكم بيننا وبين الإمامية أو بعضهم واحد حسب الفرض.

فجوابه: أن وضع بيانات الأشاعرة الشرعية التي يدعون وفرتها - بما يغنيهم عن الإحتجاج بالعقول وبما بولغ به - ليست كما هي عند الإمامية، إن حصل الإنصاف عند الباحث حتى عند القدامى من المحدثين إلا عند بعض الأخباريين غير القدامى أو المتأخرين منهم دون مجتهديهم كما سيتضح.

فإنَّ بيانات الأشاعرة سبق وأن بينا مشاكلها، ولعله لعدم كفاءتها عند المنصفين منهم لكثرة القياس والاستحسان ونحوهما وبما لا يصح اتخاذ ذلك كما ذكرنا.

وأما ما عند المحدثين القدامى منا فهم الطبقة الممدوحة من قبل الأئمة علیهم السلام لقربهم من زمنهم أو عاصروهم، ومنهم من ابتدأت معاشرتهم الشريفة للأئمة من زمن فترة الباقرين علیهما السلام فحرصوا على حفظ تراثنا النقي بأقصى المثابرات حتى صارت صحاحنا مع كثرة نقاحتها عندنا أكثر بكثير من صحاحهم عندهم مع التناقضات المعثور عليها كثيراً عند المنصفين من رجالهم في صحاحهم.

ومع ذلك أعطوا للعقل المسموح به حقه و لم يلتزموا بالقياس ونحوه.

ومن أقوال الأئمة علیهم السلام في حقهم قولهم (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم)(1) وغيره.

وأما زج المحدثين في ربقة عوام الأخباريين بأولئك العوام.

فهو اتهام باطل يحتاج إلى دليل.

وتذرع الأشاعرة أو المدافعين في جفاءهم ضد محدثينا القدامى بحق العقل

ص: 103


1- كمال الدين ج 2 ص 483 ب 45 ح4 ، الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 ص 283.

المسموح به تشبيهاً بعمل بعض العوام وخلط المحدثين القدامى كذلك ومعهم مجتهدوا الأخباريين بأولئك العوام -

فهو اتهام باطل آخر أيضاً، مع ارتكابهم المستمر لخطأ القياس الباطل مع الفارق ونحوه.

دون أولئك المحدثين القدامى ومجتهدي الأخباريين المعتدلين، بل حتى عوام الأخباريين الذين وصل الكثير منهم في نهاية المطاف بالوعظ والإرشاد إلى بر الأمان والحمد لله تعالى.

إلا أن البعض الآخر من هؤلاء الأخيرين بافتقارهم إلى العلمية الأصولية الشَّريفة كما وفق له المحدثون القدامى وبقية المجتهدين وبالخصوص في المسائل المستحدثة -

لم يوفقوا أسفاً إلى قبول أو ادراك شيء مما سمح لهم به من معاني التعقليات حتى الثالث المتنازع فيه على ما سيجيء.

وإن ادعي القول بعدم نفي الجنس في خصوص هذا المقطع الأول.

فعليهم إثبات ذلك فيه وفيما بعده.

لأن المهم - بل الأهم - خضوعهم لتعقل المعنى الثالث وقبولهم الموجبة الجزئية المعاكس للكلية الماضية، والتي لولاه لما أمكنت السيطرة الشرعية الاستثنائية على كل حال في أمور المسائل المشكلة المستحدثة التي عدمت أو اختفت على مستفرغ الوسع من الفقهاء الجامعين لشرائط الأدلة الطبيعية بواسطة ما مر من الأدلة الإرشادية.

و لو خوفاً من الوقوع في محذور الجبر البادي صراحة في المقطع الثاني الآتي في عبارة القوم، وهو ما يساعدهم على تورطهم بادعاء الجبر ونفي الجنس.

وأما عما قاله هؤلاء الأشاعرة من مقطع قولهم الآخر والنظر فيه وفيما يستحقه من التتمة رداً ومناقشة:

ص: 104

و هو قولهم بعد الأول (بل إن ما حسنه الشارع فهو حسن وما قبحه الشارع فهو قبيح، فلو عكس الشارع القضية فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعاً وانقلب الأمر فصار القبيح حسناً والحسن قبيحاً)(1)

ومثلوا لذلك بالنسخ من الحرمة إلى الوجوب ومن الوجوب إلى الحرمة –على ما بان من التعليق عليه بعد نقل الشارح القوشجي.

فإن كان قصدهم من مطلع هذا المقطع الثاني وهو قولهم (بل إن ما حسنه الشارع فهو حسن وما قبحه الشارع فهو قبيح) إتمام المقطع الأول به وبما قد يمكن أن يكون حول خصوص ما ذكرناه عن الموجبة الكلية التي تخضع كل عقل لشرع الله تعالى ومما يتفق عليه الفريقان -

فهو تأكيد لما مرّ في المقطع الأول من قولهم السابق إن لم يكن من قصدهم نفي صحة الحالة العكسية للموجبة الجزئية الماضي ذكرها وهي قول (بعض ما يحكم به العقل يحكم به الشرع) لتبقى المعارضة منهم للعدلية.

وعلى هذا لنا أن نقول:

أن مطلع هذا المقطع الثاني الذي استظهرنا منه بداية أنه كان بداية للمقطع الثاني أن الأصلح حينئذ أن يكون تتمة للمقطع الأول.

أما إذا كان إصرارهم على تبعية العقل للشرع أو كان عدم الاكتراث به حتى في الموجية الجزئية العكسية باقياً، لإكتفاءهم الكامل بالبيانات التي ناقشنا فيها وخصومة للعدلية فيما يصح وفيما لا يصح -

فلا ينسجم مع ما مر ذكره من حصول عقبات كؤود على تلك البيانات حتّى على بعض بياناتنا.

ص: 105


1- كما مر استعراض كلامهم في ص 91

و لذلك توصل العلماء من رجالينا والمنصفون من رجاليي غيرنا إلى لزوم وضع قانون التقسيم بين الروايات والتفريق فيما بين الصحيح وغيره باتباع الأول وترك الثاني، أو التدقيق الأكثر حديثياً وإن صح عندنا لسلامة طرقنا أكثر من طرق الآخرين الأخذ بالضعاف المجبورة بعمل الأصحاب.

فلابد من البقاء على العقل في الموجية الجزئية العكسية.

وأما ما يتعلق بباقي المقطع الثاني وهو قولهم (فلو عكس الشارع القضية فحسن ما قبحه و قبح ما حسنه لم يكن ممتنعاً وانقلب الأمر فصار القبيح حسناً والحسن قبيحا).

فعلى فرض صحة ما استظهرناه عن كون بداية ما كان مستظهراً منه أنه أول المقطع الثاني فصار تتمة للمقطع الأول، لأجل زرع الأمل بما يمكن أن يجتمع فيه الفريقان ولو في الجملة.

فلابد أن تكون حالة من الاصطدام البياني بين ما صار آخراً و تتمة للمقطع الأول.

وبين أن تكون بداية للمقطع الثاني ليبقى داخلاً في حال إصرار القوم على جعل قولهم البادي ب- (فلو عكس الشارع .... إلخ) تفسيراً لحالة ما يصرون عليه تلك الخصومة من العدلية، ولو كما تنزّلنا مع القوم في الجملة، كما سيتضح عند

استعراض رأي العدلية والبحث عنده لعدم الانسجام بين التعبيرين.

ولأن تلبية رغبة المصرين على رأيهم ضد هذا العقل جملة وتفصيلاً يدخل المطلب الإلهي العادل في التكوين والشّرع في مطلب إمكان تعقل القول بالجبر، والعكس خلافه.

لأن العقل عقلان كما سبقت الإشارة إليه:-

والعقل الأول منهما هو العقل الذي يوصل صاحبه إلى ساحة الوهم والجهل،

ص: 106

وهو ما يسبب تعقل ظلم الله المستحيل.

والعقل الثاني وهو المرتبط بحكم الله العادل، سواء تبع الشرع في الموجبة الكلية الماضي ذكرها ولو تعبداً، أو استقل في التعقل فجاءه التقرير الإلهي أو الإمضاء الشَّرعي اختياراً أو اضطراراً لما دلت عليه الأدلة الإرشادية.

وإن قيل بأن الشارع له الحق في أن يعكس القضايا الشرعية تجاه المكلفين، فيحسن ما يقبح، ويُقبح ما يحسن، لأن الملك ملكه والعباد عبيده، وعليهم الخضوع لسلطانه.

وهو ما معناه أنّ له الحق في أن يُدخل عبده المطيع في جهنم والعاصي في الجنة، مستدلّين سطحياً على ذلك ببعض الأدلة كقوله تعالى «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ»(1) وقوله -«»قَالَ كَذَلكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء(2) وقوله «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ»(3)وغير ذلك.

فإنه يحق للحق "جل اسمه" في الجواب أن يدافع عن حقه ذاتياً بأن كل عبد ذائب في ذات الله وعاشق متفان في سبيله لابد أن يقبل منه نطق لسانه عن صميم قلبه قول (كل ما يأتي من المحبوب محبوب) رضاً بما سبه العبد لنفسه أو على نفسه ثواباً أو عقاباً.

على أساس تلك العدالة الإلهية الثابتة في نظام الحياة في هذه الدنيا قبل الآخرة التي لابد وأن يراد من آخر الآية الثالثة الماضية، وهي قوله «وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»حتى لو أدخل جهنم وعنده بعض الطاعة لأكثرية معاصيه، أو أدخل الجنة وعنده بعض المعاصي لأكثرية طاعاته، وإن استظهر منه بعض السذج انقلاباً في عنوان

ص: 107


1- سورة الملك / آية 1.
2- سورة آل عمران / آية 40.
3- سورة الرعد / آية 39.

الاستحقاق من عند الله بدون تدقيق في الحساب منه وهو صاحب العدالة المطلقة.

و لابد أن يفسر آخر الآية الكريمة هذا بآيات ويبرهن عليه ببينات منها قوله تعالى «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»(1)ومنها قوله «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا»(2)ومنها قوله «وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»(3)، وغير ذلك.

وأما مسألة أنَّ الله الحق أن يقلب بعض موازين القوى، فيدخل من يستحق الجنة النار لأجل ارتكابه بعض المعاصي، لتطهيره من جراثيمها ثم يخلد في الجنة بعد ذلك، أو يُدخل من يستحق النار الجنة بسبب شفاعة الشافعين المأذون لهم في ذلك وغير من حالات سعة رحمته في الآخرة، عدا من يدخل الجنة مخلداً فيها أو في غالبها بغير حساب أو يدخل بزجه من يستحق النار إليها وكبحه في سعيرها لشدة كفره وإفساده مما ورد في تفاصيل هذه الأمور فمن نصوص الآيات وخيار الروايات التي حوت مضامينها خفاء الاقتضاءات لهذه الاستحقاقات -

فلا يمكن أن ينكر شيء من ذلك، ولكنه لا ينفع الأشاعرة في شيء مما يتصورون من هذه الأوهام.

وأما أنّ له تعالى الحق في أن يقلب بعض موازين القوى ضد التحسين والتقبيح العقليين المذكورين في الصراع بينهم وبين العدلية فيجعل الحسن قبيحاً والقبيح حسناً فلا مانع من قبوله كذلك.

لكن لا بمعنى ما يتصوره الأشاعرة من نكران ذاتية التعقل العادل وبما لا تنافر فيه بين العقل المستقل لو لم يحط بالمغريات ويتأثر بها وبين الشرع كما مر مراراً.

ص: 108


1- سورة الزلزلة / آية 7-08
2- سورة الإسراء / آية 7.
3- سورة آل عمران - سورة 3 - آية 182.

وإنما صيرورة القبيح حسناً في العكس بأن قبح القبيح في بداية الأمر في نظره تعالى إذا كان كذلك فهو بالعنوان الأولي وانقلابه إلى الحسن لصالح العنوان الثاني.

وقد ذكرنا بعض مصاديق أمثال هذه الانقلابات ذات العناوين المتفاوتة التي فيها معنى من هذا البحث وفي الفقه تفاصيل كثيرة من هذه الأمور مع أدلتها.

وأما فيما نقل عن أنّ هؤلاء الأشاعرة أنهم كانوا يمثلون لذلك بالنسخ من الحرمة إلى الوجوب، ومن الوجوب إلى الحرمة.

فإنَّه لابد أن يلاحظ عليهم أنَّ هذا منهم غاية في السطحية البعيدة عن المعنى المراد من المحو والإثبات الذي ذكرته الآية آنفة الذكر والتي آخرها الثوابت النظامية التي لا محو فيها ولا إثبات في الأحكام الخمسة التي لا تتغير ولا تتبدل ومنها الوجوب والحرمة إلا بما يتصوره هؤلاء الممثلون.

بينما كان توجيهنا الماضي المفرق بما بين العنوان الأولي الممكن والمعقول والشرعي وبين العنوان الثانوي، فلا يبقي لهم حجة تنقذهم من شرك ما قد أوقعوا أنفسهم فيه من ادّعاء الذاتية البيانية للأحكام المتفاوتة في تقلبها بين العنوان الأولي والثانوي

إضافة إلى أن من ادعاءهم النسخ إذا كانوا يريدون منه نسخ التلاوة فهو ممنوع عند الجميع لمحفوظية القرآن الكريم عند الكل في الكل وإن تفاوتت كيفية الجمع القرآني.

وإذا كان المراد هو نسخ المعنى دون التلاوة فلابد أن حاق الصواب يدنوا من المعنى المتعارف عند أهل التحقيق من أهل العدل وهو التخصص والتخصيص إن أعطي معنى من بقية معاني عموم الآية ثم نسخ وبقي الباقي منها.

فلو كان للمنسوخ معنى بعض الوجوب فلابد أن يبقى باقيه على ذاتية وجوبه، و انتقال وجوب ذلك البعض بعد النسخ إلى الحرمة هو من حالة العنوان الثانوي.

ص: 109

وهكذا أمر العكس بأن كان للمنسوخ معنى بعض الحرمة فلابد أن يبقى باقيه على ذاتية حرمته وانتقال حرمة ذلك البعض بعد النسخ إلى الوجوب هو من حالة العنوان الثانوي التي لها ظرفيتها في شرع الله.

وأما إذا ادعوا أن النسخ الذي أردناه هو نسخ المعنى الكامل وهو الذي يعطي معنی الذاتية المنسوخة بالمحو والمثبتة لحالة الإثبات الذاتي وجوباً أو حرمة -

فإنَّه مرفوض، لكون الآية المنسوخة أو القطعة المنسوخة منها ذاتياً وكلياً سوف تبقى خالية من كل معنى مع أن القرآن الكريم لم يكن له بطن واحد.

فلابد من اعترافهم بما يخالف ما عرف عنهم مما نسب إليهم من تلك الادعاءات، وإقرارهم بحجية العقل الوسطية التي لا تتنافر مع الشرع كما بينا مع الأدلة الماضية ولذلك ورد (العقل ما عبد به الرّحمن واكتسب به الجنان) (1)

قول العدلية وما يستحقه كلامهم مناقشة أو حتى في الجملة

و قالت العدلية - في مقابل قول الأشاعرة الماضي ذكرهم للرد والمناقشة - وهم الفرق المؤلّفة من معتزلة العامة (وهم جماعة واصل بن عطاء) ومن الإمامية حتى محدثيهم وأخبارييهم وشركاءهم في العدل، دون من يشتد منهم ضد العقل إلا بتفصيل كما لا يخفى

(أنَّ للأفعال قيماً ذاتية عند العقل مع قطع النظر عن حكم الشارع فمنها ما هو حسن في نفسه ومنها ما هو قبيح في نفسه ومنها ما ليس له هذان الوصفان والشارع لا يأمر إلا بما هو حسن ولا ينهى إلاً عما هو قبيح فالصدق في نفسه حسن ولحسنه أمر الله تعالى به إلا أنه أمر الله تعالى به فصار حسناً والكذب في نفسه قبيح، ولذلك

ص: 110


1- الكافي ج 1 باب العقل والجهل ح 3.

نهى الله تعالى عنه لا أنه نهى عنه فصار قبيحاً) (1)

ولأجل نصرة الحق والحقيقة لابد أن نقول حتى لو كان هناك شيء أو بعض شيء ضد بعض العدلية، لتصحيح المسار وتصفية المعارضة.

لكي نتكاتف مع الأساس على النهج الموحد لردّ فكرة القول الأول بنجاح تام، حتى لو ألزمتنا نصرة الحق والحقيقة بترك بعض طريق العدلية لو حصل بعض التجاوز والعياذ بالله وإلى حد لزوم اتخاذ الحالة الوسطية للحل الأنجح كما هو كذلك، وإلى ما لا نقض فيه ولا إبرام على ما سبق التنويه على شيء منه، وعلى ما سيجيء جعلة مسلكاً للختام.

فإنَّ قول هذه المعارضة من العدلية للأشاعرة (أنَّ للأفعال قيماً عند ذاتية العقل مع قطع النظر عن حكم الشارع ....إلخ) لم يكن في تقييمهم له بما قصدوه من التقييم للعقل والجنوح له في ادراك معاني ما أنعم الله تعالى به على العباد من المشتركات ومعها المعنى الثَّالث للذاتيات المدركة والمنوه عنها في توجيهاتنا الماضية أكثر من مرة عناداً منهم أو مكابرة بدون دليل جاهدوا كثيراً في سبيله.

ولا لإزاحة مقام الشرع الشريف عن تشريعاته الجدية للأحكام الخمسة التي مرت في كونها غير قابلة لأنَّ تتبدل عناوينها عن معنوناتها ومنها الوجوب والحرمة، مع تشريع هذا الشارع ما لا يتنافى مع هذه الحديات المريحة في أجواء عدالته المثلى.

و في مقابلها من مصاديقها التي تمنحها الطاقة العظيمة ذات العلاقة المريحة بالمرونة الأدائية للعباد عند تغير بعض أحوالهم وانتقالها إلى ما قد لا يتحمل من حالة اليسر إلى حالة العسر، ومن حالة الاختيار إلى حالة الاضطرار، ومن الحكم الأولي إلى الثانوي وغير ذلك من مصاديق حالات الشريعة السهلة السمحاء المعلومة.

ص: 111


1- أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 2 ص 271.

وأن عقل الجميع كما لا يخفى لم يبتعد كثيراً عن إدراكه كما في المعنيين الأولين، وكما عند الخصم لو لم يصر أو يعاند العدلية على لزوم اجتناب قبول الثالث معهم، و لو ببقائه على ثبوت أمره في بقعة الإمكان دون حالة الإثبات، ولو لأجل المزيد من البحث الدقيق عنه عسى أن يتوصل الجميع إلى حقيقة المعنى الوسطي الآتي بلا إفراط أو تفريط.

و إنما كان ذلك طبقا لما أسلفنا ذكره عن نعمة خلق العقل أولاً وما تقتضيه حينما كانت مجردة عن أن تحف به المغريات الأربع والبقاء عليها.

و إن حصل ما حصل مما أبتلي به أبونا ونبي الله آدما علیه السلام من إبليس "لعنه الله" من ترك الأولى بالأكل من الشجرة، وتسبيب نزوله من الجنّة.

لينجز تعالى عليه تكليفه بالنبوة في هذه الدنيا لذاتيته الطاهرة مع بقية الأنبياء والمرسلين بما يتناسب والخلافة الإلهية في الأرض.

ولتبقى حجية أو مطلق فائدة نعمة العقل حتى بعد بعثة الأنبياء وإرسال الرسل لو التزم المكلف بتمام تنزهه عن التأثر بشيء من تلك المغريات.

ولتبقى تلك الحجية أيضاً مقواة بقوانين مبادئ السماء وتبقى مبادئها مقدسة غاية التقديس من تلك العقول السليمة والمستقيمة، لكون طبيعة العقل المجردة مع اشتراط هذا التجرد غير متنافر مع مبادئ الشرائع السماوية كلّها بما فيها خاتمها وهو المبدأ الإسلامي السامي لهذا العالم و نبيه الرسول الخاتم صلی الله علیه و آله

إلا أن بلوى النزاع بين الفريقين ما اشتدت إلا عند تجاوز بعض من قال بالعدل الإلهي - وهم المعتزلة - عن الحد الوسط المتاخم لوسطية العدل إفراطاً.

فقالوا بالتفويض للعقول بين الفريقين، كما قال اليهود قبل الإسلام مع تماديهم في الكفر وبقاء إسلام المفوضة بقولهم بالعدل مع السطحية فيه.

وقد عبر القرآن الكريم عن تمادي اليهود بقوله عنهم «وَ قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ

ص: 112

مغْلُولَةٌ»(1) فأجابهم بقوله«غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ».

بعد ما قال الأشاعرة قبل ذلك بالتجبير إفراطاً ضد العقل كما سبقهم النصارى قبل الإسلام بتجبيرهم للعقول والتزامهم بالرهبنة وترك الزواج أو الإحجام عن كثيره

و قد استنكر القرآن منهم كذلك بقوله تعالى«وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها»(2)

فهؤلاء المفوضة للأسف تحرروا كثيراً في تصرفاتهم العقلية واستقلوا حتى عن تقيداتهم بأحكام الشرع الأصيلة، وكأن لسان حالهم يقول أن مما أنعم الله به علينا ببالغ عدالته أن خلق فينا العقل وأطلق لنا الحرية في التصرفات.

وعلى ضوء هذا التجاوز التحق بهم العلمانيون من أكثر من دين وملة.

وبسبب هذا وأمثاله كثر القياس والاستحسان والاجتهاد في مقابل النصوص.

ومن أجل هذا ورد عن العدلية الإمامية قولهم المأثور والمشهور على ألسنتهم في رد هؤلاء (ليس من مذهبنا القياس) استنادا على قول الإمام الصادق علیه السلام (السنة إذا قيست محق الدين)(3) و قوله أيضاً علیه السلام (إياك والقياس، فإن أبي حدثني عن آبائه أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قال: من قاس شيئاً من الدين برأيه، قرنه الله تبارك وتعالى مع إبليس في النار، فإنه أول من قاس حيث قال «خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»، فدعوا الرأي والقياس فإنّ دين الله لم يوضع على القياس )(4)

وأما تمثيل مطلق العدلية في بيانهم المخالف لما بينه الأشاعرة من التمثيل بتمثيل

ص: 113


1- سورة المائدة / آية 64.
2- سورة الحديد / آية 27.
3- الكافي (ج 1 ص 58) وسائل الشيعة: 352/29
4- الاحتجاج ص 286

الأولى بالصدق والكذب بدل ما مثلت به الثانية وهو الوجوب والحرمة -

فسببه ما مرت الإشارة إليه من التفريق بين الأحكام التكليفية الخمسة الحدية، ومنها الوجوب والحرمة اللذان لا يقبلان التكيف العنواني بين الأولي والثانوي من حيث أصلهما-

وبين الصدق والكذب القابلين لهذا التكيف بين الأولي والثانوي في كل منهما، فالصدق في وجوبه عند الوجوب قد يكون جائز الترك للمصلحة أو في الحرب لما فيه من فائدة رجحان المخادعة.

بينما لو ترك الأشاعرة تمثيلهم المذكور وأبدلوه بمصاديق الوجوب والحرمة كالصلاة للأول وأكل الميتة للثاني مما يمكن فيهما التكيف بين العنوان الأول وبين الثانوي لكان أقرب إلى حالة الاشتراك المحتمل في التعقل.

فالصلاة قد تكون ثابتة حدياً ذاتياً على عنوان أصل الوجوب اختياراً، وقد تكون منقلبة عن المعنى الحدّي إلى ما يقابله وهو الحرمة كالصلاة في الدار المغصوبة.

وهكذا الحرمة الأصلية الحدية لمصداقية الميتة في الاختيار بأكلها وعند تبدل هذه المصداقية عند الاضطرار، وخوف الموت العقلاني بدون أكلها، فيصح التحول إلى العنوان الثانوي المجوز له ولسد الرمق فقط.

وبهذا التفصيل من سبب الفرق بين التمثيلين لدى فريقي النزاع يقترب أمل الانتصار لصالح النمط الأوسط الأمثل الآتي قريباً.

(المنزلة بين المنزلتين)

إنَّ نتيجة ما بحثناه ردّاً ومناقشة تصحيحية لما يراه الأشاعرة وما بحثناه قبل ذلك في التمهيد المساعد على وسطية التعقل لدى هؤلاء ومن كانوا في مقابلهم ولا بديته.

ص: 114

وما بحثناه بعد ذلك حول ما يراه بعض العدلية وهم المسمون ب- (المفوضة) من المعتزلة في التعديل والمناقشة التصحيحية لما حصل عندهم من التجاوز -

لابد وأن تكون بالاعتراف بالأخذ ب- (العقل) في دليليته وصحة الاستفادة منها في الصورتين الماضيتين الأولى والثانية عند الجميع.

وأما الصورة الثالثة: وهي المتنازع فيها بين الأشاعرة - تفريطاً في حقها - وبين المعتزلة من العدلية إفراطاً في حقها.

فلأجل الخلاص من محدوري الإفراط والتفريط، بل وخطرهما المحقق بإيصال كل من الطرفين اللجاجة في التطرف إلى ما به التجاوز على حق المولى المتعال بالكفر وانقلاب الموازين الإعتقادية الحقة إلى ما يخالفها، إذا كان ذلك في خصوص المستقلات العقلية المرتبطة بمعاني حسن الإحسان وقبح الظلم المناطين ببعض الأدلة الإرشادية كأية قوله تعالى «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(1)وغيرها .

حيث فسح تعالى تمام المجال لكل عاقل رشيد مستقيم أن يستدل مستقلاً على صغريات قضاياه الوجدانية والمشهورات العقلائية بكبرياتها بعد حذف المتكرر.

وهو ما يدعو إلى اتخاذ الطريق الوسط الذي تشير إليه الآية الكريمة الأخرى وهي قوله تعالى «وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ ألرّسول عَلَيْكُمْ شَهيداً»(2)

و وردت كذلك لتيسير مضمون معنى الوسطية الشريفة عن المعصومين علیهم السلام منها عن أمير المؤمنين علیه السلام (خير الأمور النمط الأوسط، إليه يرجع الغالي وبه يلحق

ص: 115


1- سورة النحل / آية 90 .
2- سورة البقرة / آية 143

التالی)(1)

وما ورد عن الإمام الكاظم علیه السلام (خير الأمور أوسطها)(2) ليكون معناه محكماً عند الحرص على جعلها موافقاً لجعل الله تعالى الأمة وسطاً.

ولهذا ورد عن الإمام الصادق علیه السلام- لرد المتجاوزين عن الحد الوسط إفراطاً وتفريطاً، لما مر من المخاطر قوله - (لا جبر ولا تفويض بل منزلة بين المنزلتين)(3).

وبهذه الحالة يصح الاستدلال المنطقي المعروف ببداهة إنتاجه إذا كان من الشكل الأول إذا تكون في قضاياه من إيجاب الصغرى وكلية الكبرى ثم حذف المتكرر، وبما لابد من الأخذ بنتيجته عند العقلاء، وهي تتوضح في أبواب:۔

1 - ففي باب ما ينفع في أمور الاعتقادات الحقة أو ما يقوله الفقه الأعظم ،وتوابعه، وبالأخص إذا أرشدت إلى أمر صحة تعقله والاكتفاء به مثل قوله تعالى «فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَ يُريكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»(4)أن تقول عما أشيع أمره من بين الأمثلة على كثرتها في المقام قضايا (العالم متغير) و(كل متغير حادث).

فإنه بعد حذف المتكرر لابد أن ينتج (العالم العالم) حادث، وهو ما معناه وجوب الاعتقاد بسبق هذا العالم الحادث بالعدم الذي لابد أن يلازمه وجوب تعقل كل العقلاء المستقيمين في عقولهم سبقه بالمحدث له تعالى ولما أرشدت إليه الآية الماضية

ص: 116


1- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 1 ص 846 عن غرر الحكم للشيخ عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي : 4973 ، 5032 ، 5059.
2- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 1 ص 846 عن البحار:4/360/74 و 16/292/76
3- بحار الأنوار 17:5ح 28.
4- سورة البقرة آية 73.

و غیرها وتتبع ذلك بقية التعقلات الفرعية الأخرى.

2 - وفي باب ما ينفع في أمور الأخلاق والدعوة إلى التحلي بالحسنة منها والتخلي عن السيئة منها والاهتمام بما يتطابق مع الأهم من الأحكام الخمسة وهي الأربعة البارزة كالواجبة والمستحبة في الحسنة والمحرمة والمكروهة في السيئة.

وما هو الأوسع مما كان مدركه العقل المستقل كالتي أشارت إليها بعض الأدلة الفقهية كدعم إضافي إلى ما أرشدت إليه الآية السابقة وهي «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(1) أن تقول (العدل يحسن فعله عقلاً لكونه صغرى القياس ومن المشهورات التي تطابقت عليها أراء العقلاء وتسمى ب- "الآراء المحمودة").

وأن تقول كل ما يحسن فعله عقلاً يحسن فعله شرعاً لكونه كبرى هذا القياس و على أساس ما يضاف من المباني في الصغرى ).

وبعده وبعد حذف المكرّر لابد أن تقول في النتيجة أن (العدل يحسن فعله شرعاً).

وهكذا الأمر نفسه في الحال السلبية الأخلاقية بدون أي تفاوت في كيفية الاستدلال حول نفس هذا الشكل الأول والاستفادة منه دون أن تكون الحجية لنفس العقل اللبي فقط وإنما لطريقة الاستفادة من دليليته ونفوذها إلى القرار الشرعي.

3 - وفي باب ما ينفع في أمور الشرعيات الفرعية وما كان أوسع مما اختلفت فيه كلمة الفقهاء بعد انتهاء عهد الأئمة الأحد عشر علیهم السلام وانتهاء الغيبة الصغرى للنواب الأربعة للإمام الثاني عشر الحجة المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف

ووجوب رجوع العامة إلى الفقيه الجامع للشرائط وعلى المبنى العقلي الذي

ص: 117


1- سورة النحل / آية 90.

أرشدت إليه بعض الآيات كقوله تعالى«قُلْ هَلْ يستوي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ»(1) والمستفهم عنهم ممن (لا تخفى عليه خافية) هم العقلاء

وقوله «وَ فَوْقَ کُلِّ ذي عِلْمٍ عَليمٌ»(2)وغيرهما ، وهو وجوب تقليد الجاهل للعالم.

وصحة أن يستنتج هذا العامي هذا الوجوب مما مر ذكره من عملية الشكل الأول الماضي في الحالة الأولى والثانية، لتكون هذه الحالة هي ثالثتها وعلى المباني المذكورة فيقول (هذا ما أفتى به المفتي وهو الفقيه الجامع للشرائط) إذا شخصه و(كل ما أفتى به المفتي الجامع لها واجب في حقي).

فإنه لابد وإن ينتج على هذا العامي بعد حذف المتكرر (ما أفتى به هذا المفتي الجامع واجب في حقي).

وأما ما مر ذكره منا من تصحيحنا للموجبة الجزئية للحالة العكسية الماضية وهي قولنا (بعض ما حكم به العقل حكم به الشرع) فهو وإن كان في بعض الأحوال الظاهرية لا يتلاءم مع كلية الكبرى لكل من الأشكال الماضية.

إلا أن الحقيقة متلائمة بعد أقل نسبة من التأمل، حيث أن الموجبة الجزئية هي التي نريد منها نفي التصرفات العقلية المحفوفة بالمغريات ونفي القياسات مع الفوارق والإستحسانات غير المرشد إليها بما مر وغيره.

وبهذا تكون هذه الجزئية من حيث واقعها المتلائم تماماً مع ما مر عن عقلانية التحسين والتقبيح العقليين لا يتفاوت تماماً حتى مع كل موجبة كلية من كل شكل أول يرتبط بما يصح أو يحتاج إلى التمثيل له مما يناسبه من عدم الحف بالمغريات وعدم

ص: 118


1- سورة الزمر / آية 9.
2- سورة يوسف / آية 76.

المقايسة مع الفوارق.

وعلى هذا كلّه لابد أن يكون المعنى اللبي المراد من الأخذ ب- (العقل) إضافة إلى ما مر من عدم صحة الاحتجاج به في نفسه في مقابل الكتاب والسنة وما يصح من الإجماع، وإنما ذلك في مرحلة ما مر من عملية الاستدلال عن طريقه -

هو أن يستفاد منه في المقام بمقدار ما اتفق الكل في الكل من العقلاء النزيهين عليه.

وأما بما لم يتفق منه عليه كالحالات المشكوك في أمورها فلا مجال للاحتجاج به عن طريقه.

(أسباب القياس التمثيلي وما يلحق به لمنعه)

قد دأب أغلب الماضين من العامة قديماً وحديثاً، بل نوعهم إلا ما قل وندر بناءً على الأخذ بالقاعدة الاجتماعية الظاهرية غير المحققة (الناس على دين ملوكها) - والأهم منهم في المخاطر الشديدة على الأمة إذا أريد حتماً أن تبقى النجاة دنيا وآخرة - من قبل بقية القلة والنوادر والمنصفين ومعهم الإمامية-

بعدم اتخاذ السيرة الاجتهادية في مقابل النصوص القرآنية الصريحة أو الظاهرية المطمئن بالاستقلال بها في الاحتجاج بها أو نحوهما مما یصح الأخذ به بعد ذلك كبعض الإمارات المقبولة ومن بعدها الإرشاديات مع كثرة ما عرض على آياتها الأخرى من الإجمال المتعدّد في حالاته البالغة التي مر ذكرها -

وهم سلفهم من المشايخ الثلاثة وأتباعهم حينما أطبقوا على جرأتهم بمخالفة رسول الله صلی الله علیه و آله بذريعة ادعاءهم تطبيق حقهم في اجتهادهم في الأمور ولو على علاتها تقديماً لمبنى الخط السياسي العقلي المستقل وإن وصل منهم إلى حد الخطأ الذي قد يعذرون أنفسهم فيه ولو تهوراً منهم حتى قبيل وفاته مع أنه المعصوم صلی الله علیه و آله

ص: 119

الذي نزل في حقه القرآن دوماً «وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيَ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى »(1)، أي سواء قبيل وفاته أم بعدها.

كما جاهره الخليفة الثاني في تلك الجرأة لما سمع من النبي صلی الله علیه و آله قوله (آتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً) بقوله حينما خاف من النبی صلی الله علیه و آله أن يكتب ما يضيع عليه غاياته (دعوه إنه يهجر فقد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله)(2)، وهو ما يعني منه فقدانه الوعي.

و كسبق مجاهرة الخلفاء الثلاثة له بمخالفتهم أوامره صلی الله علیه و آله يا بعودهم عن الالتحاق بجيش أسامة ابن زيد وإلى حد أن أغضبوه عليهم ثلاثاً بتذرعهم بطريقة وأخرى في المخالفة وضد ما عرف عنهم مسبقاً من مؤشرات عدم رغبتهم في تطبيق بيعة يوم الغدير وغير ذلك.

وكمواقفهم الواضحة بعد فاجعة وفاته العظمى صلی الله علیه و آله والتي بعيدها ما أغضب الزهراء علیها السلام علی الأولين منهم حتى التحاقها بأبيها "صلوات الله وسلامه عليهما وعلى بقية آله".

وكمحاربتهم جميعاً لما أراده صلی الله علیه و آله قبل وفاته وبعدها من تأكيداته على وجوب الاهتمام بحديث الثقلين وهما الحفاظ التام على ناموسي الكتاب ونصوص العترة المغنية للجميع بالتأليف الجامع بينهما - كمدرك مهم جداً للكتاب المجمل في كثير من أموره - عن كل التزام قام به أولئك بأمثال الاجتهاد في مقابل النصوص ونحوها.

وعما شاع بين العامة من أمثال المفوضة ومن سايرهم في التحرر العقلي بلا قيد

ص: 120


1- سورة النجم / آية 3-4-5.
2- مسند الإمام أحمد ، ج 1، ص 355 ، صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النبي صلی الله علیه و آله وفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض (قوموا عني.)

أو شرط ومنه الالتزام بالقياس - مع الفارق - وبقية الإستحسانات الخارجية ونحوها مما لم نلتزم به.

و عما حاوله المنافقون قبلاً وبعداً من الوضع والتلفيق وتبديل أهل الفضل في مدح الأحاديث لهم بما يخص مقامات أرباب مدارك السنة الشريفة الداعمة للكتاب بغيرهم وتبديل بعض الصحاح بروايات إسرائيلية حتى وصل الأمر إلى اشتهار ضحالة الروايات المعتبرة عندهم أو عدم العناية بأكثرها كمبرر للمتحججين بعدم تلك العناية إلا بظواهر الكتاب، وإن شذت الاستقامة فيه من قبلهم كطريق آخر غير ما سبق من الاجتهاد في مقابل النصوص أو اعترف بعضهم بقلة تلك النصوص أو كانت ميسورة ولكنهم لم يفهموها أو تغاضوا عنها.

بينما حديث الثقلين في اشتهاره بين الفريقين لم يترك لهم عذراً بتغاضيهم عنه، إذ قد قرع أسماع أكثرهم مراراً وتكراراً إن لم نقل كلهم وإن أصم آذان من تآمر على طمسه بعدم الاعتناء به في التطبيق له وما قدر عليه.

فقام الخليفة الأول منهم بمنع تدوين الحديث وقال (حسبنا كتاب الله)(1) ومعه غيره في هذا أيضاً من أيده.

وقام الخليفة الثاني بحرق الأحاديث للغرض نفسه(2) ، ولخوف أن يكون فيها ما يعين على الحفاظ على حديث الثقلين أو ديمومة الأخذ به.

وقام الخليفة الثالث بإحراق المصاحف التي ظهر جمعها(3)، وإن كانت قد تطابقت مع المجموع المألوف بين الدفتين ومما بين أيدى المسلمين اليوم إلا بعض من

ص: 121


1- المصدر السابق، تذكرة الحفاظ 3/1رقم 1.
2- صحيح البخاري : ج 1 ص 20، طبقات ابن سعد مجلد 5ص 140.
3- البيان في تفسير القرآن: 277، تفسير القرطبي ، باب ذكر جمع القرآن، أضواء على مصحف عثمان - سحر عبد العزيز سالم - ص79.

التفاوت غير الضار مثل ما بين التقديم والتأخير من بعض الآيات الواردة على أساس تسلسليات مقتضيات طوارئ التنزيل من البداية التي أولها سورة العلق إلى النهاية التي كانت وهي «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَ رَضيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ ديناً»(1)كحال الجمع القرآني الذي رتبه أمير المؤمنين علیه السلام والذي قد يرتفع به بعض حالات الإبهام الشائكة وإن كان ما بين الدفتين هو السائد اليوم والمعمول به على رأي الأئمة علیهم السلام جميعا ومنهم الإمام الصادق علیه السلام، والذي لم يمنع من صحة جمع جده أمير المؤمنين "سلام الله عليه" و من فوائده الخلاص من بعض الجمل المعترضة.

إلى أن ضاق الخناق على أصحاب السقيفة ومن لف لفهم من كثرة خوارقهم الفاضحة لهم ولما يكتمونه بعد ما قبض النبي صلی الله علیه و آله ومن خوفهم من أن يؤل الأمر إلى صاحبه الأصيل أمير المؤمنين علي علیه السلام وهو مشغول بتجهيز رسول الله صلی الله علیه و آله للمقدمات والدفن.

فما كان منهم بعد استحكام أمورهم بأيديهم مع عامة سوقتهم وعوامهم ومن عاضدهم من أهل النفاق والأطماع واشتداد ضغوطهم المتعدّد على بيت الرسالة وولى أمره بعد النبي صلی الله علیه و آله ، إلا أن عند ما صرحوا بعد حلول موارد الحاجة إليه علیه السلام تماماً من فتراتها باللوذ واللجوء إلى هذا الخليفة بحق والإمام بصدق وبسديد أجوبته وبساطع براهين براعته.

لا لكون تبرير أخذهم منه هو حل مشاكلهم بمجرد مطاوعتهم له في كونه منه تنازلاً عن أصيل خلافته لعلمهم التام في أنَّه من كان المصداق لآية الانقلاب على الأعقاب، ولأداء حق الواجب المقدس تجاه معارف الرسالة المحمدية التي كان يحيط

ص: 122


1- سورة المائدة / آية 3.

بها دون غيره، ولذا رجعوا إليه بعد مقتل عثمان، وإن كان ذلك الرجوع منه على مضض وعلى خوف من تمردات المنافقين، ولئلا يكون الباقون في التعاسة الأشد إن تركهم.

فحينما أصاب الخليفة الأول ما أصابه من التجاوزات وتورط فيها قال في حقه علیه السلام (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(1)، وكذا غيره وبتكرار.

بل قال الخليفة الثاني ضد صاحبه الخليفة الأول نتيجة لكثرة تجاوزاته الفاضحة کقضیته مع مالك ابن نويرة وغيرها (بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه)(2).

وحينما أصاب الخليفة الثاني أيضاً ما أصاب صاحبه مرات وكرات قال في حقه علیه السلام المقولة السابقة وقوله كذلك (لولا علي لهلك عمر )(3) حتى أحصي له رجوعه إليه "سلام الله عليه" في ثلاث وعشرين مسألة.

وغير ذلك من ممادح أخرى له تؤكد بالغ مظلوميته علیه السلام في تصرفهم المعاكس معه ببالغ صبره.

وحينما أصاب الخليفة الثَّالث منها ما أصابه وكسابقيه قال في حقه ال (لولا

ص: 123


1- الإستيعاب ج 4 ص 39 مناقب الخوارزمي ص 48 ، الرياض النضرة ج 2 ص194 ، فيض القدير: 356/4 للمناوي .
2- صحيح البخاري، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت 44/10«2080/8»، مسند أحمد 55/1 ، تأريخ الطبري 200/3-205 ، الصواعق المحرقة: 5 و 8، وقال: سند صحيح، تمام المتون للصفدي: 137 ، تاج العروس 568/1. وجاء في بعض المصادر: فلتة كفلتات الجاهلية فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه كما في التاريخ للطبري 210/3 ، وشرح ابن أبي الحديد 19/2 ، وغيرها، وقد أشار إلى كلتا العبارتين في الغدير370/5 و 79/7
3- المصادر السابقة.

علي لهلك عثمان)(1) وغير ذلك مما يشبهه مما ورد عن حال جميع المشايخ الثلاثة وما اعترفوا به تجاهه علیه السلام ومعهم آخرون من غيرهم ممن يدعون بالصحابة حينما مدحوه بعد حل مشاكلهم عند ابتلائهم بمثل ما مضى من المحرجات بل والمخجلات وأمام أعداء الجميع ومما سجله الفريقان لأمير المؤمنين وإمام المتقين أبي الأئمة أواصر حبل الله المتين في حديث الثقلين "سلام الله عليهم أجمعين" بأحرف من نور من مصادر العامة وبأكثر من مصادر الخاصة.

ومما يزيد في الطين بلة وفي الإشكالات أشكالاً متعدّدة من زحمات العلة وعلى ما عرف مشهوراً وعما تصدى له السلف الخاص من رجال العامة الأوائل مع وافر دلائل ما أوقعوا أنفسهم فيه مما مرت الإشارة إليه -

ما قد تورط به بعدهم من أولئك المنافقين الذين ما غفل عن ذمهم القرآن الكريم والسنة الصحيحة الشريفة من تصديهم الحاقد للوضع والتلفيق وبث الإسرائيليات مكان الإسلاميات ونحو ذلك، واختلاق صحابة لا أساس لهم في الصحبة ونسب إليهم ادّعاء ما لم يقله النبي صلی الله علیه و اله وبسبب زعمهم وفرة الروايات والأحاديث هذه مع خراب أسسها الاصطلاحية -

كان ترك الأشاعرة ومنهم أو معهم الحنابلة وأضرابهم من بقية المذاهب العامية والذي يتصورون منه وفرة الروايات والأحاديث في مصادرهم، ومنها أمثال ما أورده الوضاعون والمتسامحون في ضبط طرقها .

مما عليهم الأخذ به بدل ذلك من الطرق العقلية المسموح بها مما مر ذكره، إلا من استثنيناهم من خصومهم الأشد في أمر القول بالتفويض من المعتزلة.

وقد بينا ذلك كله مسبقاً مع ما حققه المنصفون من علماءهم في الرجال وشؤون

ص: 124


1- زين الفتى للعاصمي ج1 ص 318

الحديث لاستكشاف ما به التوازن المقبول عندهم إن كان ولو في الجملة من تلك المرويات.

و في النتيجة لم يظهر منها إلا زيف الكثير، بل الأكثر منها، مع الارتباك الواضح في البواقي وندرة الموثق جداً، وهو مما يمكن العمل به عند جميع المسلمين، أو عُدَّ من العوامل المساعدة أو المؤيدة عندنا نحن الخاصة والصحيحة المعمول بها عند العامة.

ولندرة تلك الموثقات البالغة لدى العامة لم تجد حتى المنصفين من علماءهم - بعد كونهم لم يلجؤا لسد فراغ ما أتبلوا به لسبب وآخر إلى روايات العترة الطاهرة من أئمة أهل البيت علیهم السلام عن النبي صلی الله علیه و آله مع تيسرها وضبط طرقها في مدرسة الباقرين علیهما السلام مع هذه الحاجة الماسة لإكمال مسيرتهم الطبيعية والعادية لو اجتنب التعصب المضاد، مع كون المهمين من رجال مذاهبهم بالمباشرة أو التسبيب كانوا من خريجي مدرستهما

من ترك العمل بالقياس الممنوع حتى في أوسع أبواب الاستدلال الوارد فيما یصح لما جاء دور الرحمة الإلهية المفاجئ لإنقاذ الأمة بعد ذلك الصبر الطويل ولو على مضض من الأمل الضئيل بصورة الحياة العلمية الفائقة لأهل البيت علیهم السلام الموصوف بقول الله الأصيل «في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ»(1)لأن أصحاب هذه البيوت أدرى بما فيها من غيرهم.

وذلك في دور الفترة مما بين آخر الدولة الأموية والمروانية شبه المنتهية بسبب مجونها وتعاستها وبين أوائل الدولة العباسية الفتية التي ما لاذت في البداية لأخذ الحكم إلا بحجة طلب الثأر ظاهراً لصالح مظلومية العلويين من أبناء عمومتهم والأخذ به وإن كانت النوايا الواقعية منهم عكس ذلك، وهو أخذ الحكم ضدهم

ص: 125


1- سورة النور / آية 36.

ولكن الأمر في جملته كما قال تعالى «عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ»(1)

وهو ما سبب ثني الوسادة العلمية المقطوعة لأهل البيت علیهم السلام إلهيا لهم في البداية مما سبق و سبق ولخصوص مدرسة الإمامين الباقرين الصادقين علیهما السلام سابقاً ولاحقاً من التي حقق في زمانهما - وكما سبقه في السر الإلهي ووراء الحجب الشريفة - التمكن من تسجيل وحفظ كل ما حقق ويحقق هدف النبي صل الله علیه و آله والوصي علیه السلام وبقية الأئمة علیهم السلام من مضامين وصايا الرسول صل الله علیه و آله وإصراره على الحفاظ التام على حديث الثقلين الذين هما الكتاب والسنة الحاوية لما قاله النبي صلى الله عليه وآله و سلم و ما فعله وما قرره بواسطة بقية المعصومين وأئمة أهل البيت علیهم السلام وعن طريق خيار أتباعهم وخلص حواريهم ولو على مضض قساوة طواغيت أولئك العباسيين الأقسى على العلويين في كثير من الأمور مما سبق.

ولإفادة كل أبناء الأمة بلا تمييز أحد عن أحد أو مذهب على آخر وبما أغنى الجميع ويغنيهم عن استعمال العقول بأكثر مما يسمح به ،أصولياً، فضلاً عن القياسات والإستحسانات ونحوها من الممنوعات إلى يوم القيامة، شريطة التآلف والتوافق على الثّوابت المشتركة بين الجميع.

إلا بما أشرنا إليه وما سوف يأتي ذكره من بعض المبررات للاستفادة من العقول في الجزء الأخير من كتابنا (المساعي)، وحول الأصول العملية المقررة للشاك في مقام العمل لو أعوزت النصوص وتوابعها اللفظية عن أن تؤدي المراد، واحتيج إلى الاستفادة من طرقها الخاصة التي تساعد عليها الأدلة الإرشادية وكما في مستحدثات المسائل الإبتلائية الكثيرة اليوم المناسبة لها.

أما الذين استثنيناهم ممن دعوا ب- (المفوضة) ومن يمكن أن يلحق بهم من بقية

ص: 126


1- سورة البقرة / آية 216

المذاهب العامية ممن حضروا في مدرسة الإمام الصادق علیه السلام واستفادوا منه ومن علومه بالمباشرة ك- (مالك ابن أنس) و (أبي حنيفة النعمان ابن ثابت)، أو التسبيب بقية المذاهب ومدحوه وأثنوا عليه وإن كان منهم من عد مع الأسف في اجتهاده من القياسيين.

فقد أوغل هؤلاء مع الأسف في تحررهم باتخاذهم العقول حتى المحفوفة منها بالمغريات فشرقوا وغربوا فيها حتى بما يرتضى بها العقل السليم والتزموا بالقياس حتى مع الفارق الواضح الفاضح، وخبراؤهم يعلمون سلفاً أن أول من قاس إبليس "لعنه الله".

حيث خاطب الجليل تعالى حسداً لآدم علیه السلام بعد أمره له بالسجود له مع الملائكة قائلاً له بعد تمرده عن السجود دون الملائكة «قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»مع عدم الدلیل فی نظره التمردی علی افضلیة النار علی الطین

من الرجال السائرين على نهجه مع سبقه ومن التحق به أو صاحبه في حينه بعد ذلك (أبو حنيفة) ومناقضاً لما كان يقول في حق الإمام الصادق علیه السلام من المدح والثناء أيام حضوره على دروسه عليه في سنينه، إذ ادعى عنه أنه كان يكثر من استعمال القياس في أكثر فقهياته، حتى قيل أنه لم يطبق أموره الفقهية على نهج ما عرفه من الأحاديث النبوية على فرض صحتها إلا على ستة أحاديث.

و كان كل ما بقي من فقهياته من بدايتها إلى نهايتها قد بناه على ما أفرط فيه من مباني القياسات الخالية من كل الروابط الصحيحة مما بين العلة والمعلول المحصورين بين منصوص العلة ومعلولها دون مستنبطها غير المنقح بمقبولية ذات شرعية.

بل ألجأه وأمثاله الخوف والطمع ونحوهما لمسايرة سلاطين الجور ليكونوا وعاظهم أو المفتين في أروقتهم ليكونوا جهاراً على اختلاف ما يقوله الإمام الصادق

ص: 127

علیه السلام لما انتهت سياسة قساة الحكّام العباسيين الهادئة معه، بعد استتباب أمر الحكم لهم وبدأت القساوات الظالمة الأظلم لأهل البيت علیهم السلام مقتضية جهاراً مخالفة الحق وأهله حتى قيل أن أبا حنيفة قال يوماً (خالفت جعفر بن محمد في كل شيء من صلاته إلا في السجود فما كنت أدري أنه كان يغمض عينه أم يفتحهما فجعلت أغمض واحدة وأفتح أخرى)(1)

(استعمال أبي حنيفة القياس التمثيلي)

و من قياساته الفاضحة لمسلكه على ما نُسب إليه ومن أيده أنه كان يجوز الوضوء بنبيذ التمر المحرم شرباً واستعمالاً لإلحاقه بالخمر المسكر ، وحجته في ذلك ما قد روي عن النبي صلی الله علیه و آله أنه كان يتوضأ بالنبيذ (2) ، الذي فسره الإمام علیه السلام بأنه (هو ماء مالح قد نبذ به تميرات ليطيب طعمه وقد كان ماء صافياً فوقها)(3) فقاس اسماً على اسم مع

ص: 128


1- شرح نهج البلاغة للحائري - ج 2 ص 29 ، الكشكول - الشيخ البحراني - 46/3
2- ينظر: تفسير الرازي الكبير :375/3 ، وارشاد الساري:43/2، ووفيات الاعيان: 6/2 تهذيب الأحكام 219:1/ 628 ، الإستبصار 15:1 /28، وسائل الشيعة 202:1، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 2، الحديث 1.
3- مجمع البحرين - الشيخ الطريحي - ج 4 ص 262 ، الكافي 416:6/ 3 ، الإستبصار 1: 29/16 ، وسائل الشيعة 203:1 كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف الباب 2، الحديث 2. فعن سماعة بن مهران عن الكلبي النسابة، أنه سأل أبا عبد الله علیه السلام عن النبيذ؟ فقال: حلال فقال: إنا ننبذه فنطرح فيه العكر، وما سوى ذلك فقال شه شه تلك الخمرة المنتنة، قلت : جعلت فداك فأي نبيذ تعني؟ فقال: إن أهل المدينة شكوا إلى رسول الله صلی الله علیه و آله تغير الماء، وفساد طبائعهم، فأمرهم أن ينبذوا ، فكان الرجل يأمر خادمه أن ينبذ له، فيعمد إلى كف من تمر فيقذف به في الشن فمنه شربه، ومنه طهوره فقلت : وكم كان عدد التمر الذي في الكف؟ فقال: ما حمل الكف، فقلت: واحدة أو اثنتين؟ فقال: ربما كانت واحدة وربما كانت اثنتين، فقلت وكم كان يسع الشن ماء؟ فقال: ما بين الأربعين إلى الثمانين إلى ما فوق ذلك ، فقلت : بأي الأرطال ؟ فقال: أرطال مكيال العراق. وعن محمد بن علي بن الحسين علیه السلام قال لا بأس بالوضوء بالنبيذ، لأن النبي صلی الله علیه و اله قد توضأ به، وكان ذلك ماء قد نبذت فيه ،تميرات، وكان صافيا فوقها، فتوضأ به.

التفاوت بينهما.

إلى غير ذلك مما قد سبب الكثير من ضغوط العباسيين على العلويين وأئمتهم ومدارك شرع الله الأصيلة وبما لا يطاق من تجاوزات أرومتهم حتى قال الشاعر الغيور عن حال أهل البيت علیهم السلام وماجري عليهم من كلتا الدولتين

تالله ما فعلت علوج أمية *** معشار ما فعلت بنوا العباس

(عملية تنقيح المناط)

وأما ما عرف بين بعض المتسامحين أو سطحييهم في الاستنباط الفقهي وبما قد يقترب كثيراً من حال استخدام العقول المتحررة وبدون أقل نسبة من الارتباط بالشرع من المدارك أو في ادعاء شيء منها، وهو ما سمي بين مدوني الأصول قديماً وحديثاً حتى بين بعض الإمامية ب- ( عملية تنقيح المناط)، ولكن بدون تعمق فيه أو بإهماله النوعي في الجملة وإن اشتهر عنوانها في بعض الأوساط.

ولهذا وأمثاله فلا يمكن المساعدة عليه بالنّحو المطلق وخصوصاً عند المدققين منهم، إلا بما كان هناك من الجامع المشترك والمتساوي التام المنقح اصطلاحاً، لا بعموم وإطلاق ما تريده اللغة العامة وإن أدخلها بعض المتسامحين ورتب بعض الأثر

ص: 129

عليها شاملة ،له لحالة ما يجب أن يراد إلحاقه في الاصطلاح خاصة من المصداق الإضافي بالفرد الأصيل مما يؤهله للإلتقاء التام به، ليكون أصيلاً ثانياً قياساً صحيحاً عليه تحت مظلة ذلك المناط الشامل والمنقح الأقوى الواحد، بسبب قوة علاقته بتلك المدارك الشريفة ولو بنحو من الإشارة والإرشاد أو القرائن الكافية بما يثبت العلاقة بها من القديم لأخذ الحيطة من التورط بالوقوع في ابتداع التشريع المحرم عندنا نحن الإمامية، فضلاً عما عند الآخرين من المباني الأضعف وإلى العلاقة الرصينة بين منصوص العلة ومعلولها وحتّى ما ساوى هذا المعلول بنفس الانضواء تحت مظلة المنصوصيّة التّامّة، فضلاً عن حالة الأولوية والتقريبات العرفية في هذا الذي مال إليه سيدنا الأستاذ السيد السبزواري قدس سره (1)

وأما سيدنا الأستاذ الخوئي قدس سره فلم يظهر من تقريرات تلامذته لبحوثه الموافقة التامة على حالة السطحية في المقارنة بين حالة التنقيح بمطلقها وعموم القياس الذي ظاهره عدم موافقة المسلك الإمامي أيضاً عليه، مما يمكن أن يظهر منه خصوص عدم رضاه قدس سره بالسطحي أو ما نسميه بالمستنبط دون خصوص المنصوص(2)

وبهذا يمكن أن يتحد العلمان على المعنى الموحد وإن تفاوت مبنى كل منهما عن الآخر.

وهو كما نميل إليه في النتيجة وإن لم نعمل نحن إجمالاً بأخبار الآحاد مع عدم القرائن الموثقة.

وقد مال بعض المدققين من العامة كذلك إلى عدم اعتبار هذا التنقيح على أساس سطحيّة التعلق به دون التعمق في المنصوصية للعلة الذاتية.

ص: 130


1- مهذب الأحكام - السيد السبزواري - 190:12
2- مصباح الفقاهة - السيد الخوئي - 528:7مباني تكملة المنهاج 508:42 الموسوعة 173:6

كما وقد ذكر بعض فقهائنا المحنكين المتأخرين عنواناً وضعه مؤخراً يشبه ما مرَّ في وجوب إحراز ارتباطه بالقديم الشرعي من المحفوظات ، وهو ما سموه ب- (المصلحة السلوكية) للمتشرعة لو توفّرت قرائن عدم انعدام الاتصال الشرعي بالقديم للغيبة الصغرى، ليبقى إمكان عدم الحاجة إلى غلق بابه عقلائياً على الأقل بالمرة.

(عملية المصالح المرسلة)

ومما عرف عن أصولي مسلمي العامة وتطبيقاتهم الفقهية اعتمادهم في تخريجات بعض الفروع على مبرراتها من أصولهم والمباني عندهم لو لم يرد من لسان الشرع أو مؤشّرات مداركه عين أو شيء من أثر بوضوح واعتيادية بينة على ما سموه في مصطلحاتهم ب- (المصالح المرسلة).

وفي تعريفهم لها لغوياً على مضمون ما قالته بعض القواميس أنها جمع مصلحة، وهي المنفعة والمصلحة كالمنفعة وزنا ومعنى فالمراد بها لغة جلب المنفعة ودفع المفسدة، والمرسلة هي المفسرة بالمطلقة التي لم تتقيد حتى بخصوص المعنى الاصطلاحي الذي يأتي ذكره الآن واصطلاحيًا أن مرادهم منها أن لها معاني ثلاثة:-

الأول: مصلحة معتبرة شرعاً، وهي التي دلّت عليها الأدلة كاملة كالصلاة ونحوها من الثوابت.

الثاني: مصلحة ملغاة شرعاً، وهي التي دلّت عليها الأدلة كاملة كذلك على حرمتها أو مرجوحتيها كمصلحة الربا المحرم ومصلحة الخمرة المحرمة، ومصلحة الدواء المبغوض لدى المريض وفي الشرع للأصحاء ونحو ذلك.

أقول: وهذان المعنيان الأول والثاني لا كلام لنا حولهما إمامياً، وإن ناقشنا حول بعض أدلة كل منهما فنياً، لمحاولة زرع الوفاق المسلكي الاستدلالي بين الجميع.

بل إن هذين المعنيين مع ضبط أدلتهما على ما يتفق عليه الجميع أو على

ص: 131

خصوص المباني الإمامية على الأقل هما المعترف بهما عندهم أنهما على وزن القاعدة المتعارفة بينهم في تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

الثالث: مصلحة مسكوت عنها، وهي مورد الحاجة إلى الاستشهاد بها في المقام، دون الأولين المذكورين، فهذا الثالث لهذه المصلحة يراد منها أنها التي لم يرد في اعتبارها أو إبطالها دليل خاص من الكتاب والسنة والإجماع أو القياس.

لكنها لم تخل حسب تعبيرهم عن دليل عام كلّي يدل عليها، وهو الاستناد إلى ما سموه ب- (مقاصد الشريعة) وعموماتها ، وسميت ب- (المصلحة المرسلة)، وهي بهذا المعنى الثَّالث تكون مطلقة عن دليل خاص يفيد ذلك الوصف بالإعتبار أو الإهدار.

واحتج جمهورهم على القول بالجواز المطلق لهذا المعنى وأطلق على هذا الرأي برأي المشهور -

بأن مصالح الناس تتجدد ولا تتناهى، فلو لم تشرع الأحكام لم تتجدد مصالح النَّاس، ولو اقتصر التشريع على المصالح التي اعتبرها الشارع فقط لعطلت كثير من مصالح الناس، وهذا لا يتفق مع مقصد التشريع من تحقيق مصالح الناس.

وقد أثبت بها الأحكام مالك وأحمد والجويني ، وأورد لصالح هذا الرأي ومن أيده أمثلة قام بتشريعها الخليفة الأول أيام خلافته كمحاربته لمالك بن نويرة الموالي لأمير المؤمنين "سلام الله علیه" بجيش زعم عليه خالد ابن الوليد لامتناعه دفع الزكاة له بدل أمير المؤمنين علیه السلام فقتله وقتل رجاله واستباح زوجته وزنا بها (1)

وإمضاء الخليفة الثاني أيام خلافته الطلاق ثلاثاً بكلمة واحدة، ومنع سهم المؤلّفة قلوبهم من الصدقات

ورفعه (حي على خير العمل) من الأذان والإقامة.

ص: 132


1- وهذه الواقعة أشهر من أن يذكر لها مصادر ، راجع كتب التاريخ للفريقين

وتشريعه (الصلاة خير من النوم) في أذان الفجر.

ورفعه متعة الحج ومتعة النساء عن المشروعية الأصيلة.

ونسب إلى آخرين تجويز الضرب لمجرد التهمة، وتجويز قتل الواحد بدل قتل جماعة إذا توقف قتلهم جميعاً عليه ببنائهم على أنّ (الغاية تبرر الواسطة)، مع أن الغايات التي تتمشى مع الشرع متعدّدة وغير متساوية في الأدلة المحدودة.

وغير ذلك مما عمله أولئك المشايخ والأصحاب مما سبق ذكره في بدايات كلامنا عن بعض أحوالهم من بعد أن غمضت عينا رسول الله صلی الله علیه و آله من المقترحات المبتنية على عنوان (المصالح المرسلة) أو ما يشبهها.

وستأتي الإضافة إلى أمثال هذه الأمور والإجابة السديدة عليها بتوفيق الله آخر البحث تحت عنوان (الإجابة عن أمثلة المصالح المرسلة) مع التسنيد الوافي من كتب العامة المتعارفة في الهوامش.

ثم أقول: بأن من رجال هؤلاء العامة المبرزين من قال بالمنع المطلق، عكس القول الأول وهم الشافعي والظاهرية.

ونسب هذا القول إلى فقهاء الشافعية والحنفية ومن الحنابلة ابن قدامة، وسبقهم في القول بالمنع المطلق وصاحبهم في ذلك أيضاً الإمامية، على أساس إحكامهم لقواعدهم الأصولية المعتمدة عند المحنكين من أتقياءهم الرافضة لكل ما لم يصرح به من الكتاب تفسيراً وتأويلاً ومن السنة كذلك.

وعلى أساس من تطبيق مضامين حديث الثقلين جميعاً المتواتر بين الفريقين و هی المحصورة في قلوب أئمة أهل البيت علیهم السلام وما يطابقها من مرويات الآخرين الموثوق بها ومن الإجماع الإمامي الذي في جمعه ثبوت رأي الإمام الأصل المقصود في مثل قوله تعالى «وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا

ص: 133

يُوقِنُونَ (1) بالجعل الإلهي نصاً لا انتخاباً خاصاً عن مثل السقيفة وأمثالها حال كونها خالفت الله ورسوله صلی الله علیه و آله بالتالي في بيعة الغدير حينما جعلت أمير المؤمنين علياً علیه السلام جليس بيته خمساً وعشرين عاماً لم يخرج منه إلا حين حضوره عند من تقمص بخلافته لحل بعض ما ورطوا أنفسهم به من المشاكل وحسب ظلمهم وترك الباقي محسوباً على ذممهم مما تحت عملية (المصالح المرسلة) وأمثالها.

ومن القياس المقرر في أصولهم بما يتناسب والمعاني الثلاثة المذكورة في السابق، ومن غير القياس التمثيلي الذي أشرنا إلى مثاله وإلى شيء من رده، وغير القياس الإستحساني الذي لا ينسجم فيه أمر المقيس على المقيس عليه من المرتبط بالعلة التامة والمقيس لا تشده معه إلا ببعض شبه سطحي أو جزء من تلك العلة ومبانيها الإرشادية ، مع أن جزئها مثلا لا يساوي تلك العلة تماماً عند المقارنة العادلة.

ومع أن أولئك العامة لم يظهر من حجتهم على المنع المطلق إلا مجرد التقارب في النتيجة الوئامية بيننا وبينهم ، لعدم العلم بالدقة الأصولية عن مقاصدهم أنها إنما كانت هي نفس مبانينا ولو في بعضها على الأقل، أم لا؟

حيث ظهر من حجتهم أنّ المصلحة المرسلة ليست بحجة لأنه ما عرف من الشارع المحافظة على الدّماء بكل طريق، ولذلك لم تشرع المثلة - وإن كانت أبلغ في الردع والزجر - ولم تشرع القتل في السرقة وشرب الخمر، فإذا أثبت حكماً لمصلحة من هذه المصالح لم يعلم أن الشرع حافظ على تلك المصلحة بإثبات ذلك الحكم كان وضعاً للشرع بالرأي وحكماً بالعقل)(2)

أقول أيضاً: إن هذا البيان مع عدم خلوه من الفائدة المذكورة اجتماعياً منا ومنهم لابد أن يظهر من تعبيرهم الأخير حرمة التشريع بالرأي وعن طريق العقل

ص: 134


1- سورة السجدة / آية 24.
2- المصالح المرسلة تعريفها أقسامها ضوابطها حكمها - أبو جابر الجزائري - ص 218.

المستقل غير المرشد إليه مع توفر النصوص والظواهر والإمارات الصريحة ونحوها كقوله تعالى «وَ مَن لَم يَحكُمَ بِمَا أنزَلَ اللهُ فأولئك هُمُ الْكَافِرُونَ(1) وفي الآية التي بعدها وختامها «الظالمون» وفي الآية التي بعدها وختامها «الفاسقون»، وغير ذلك من عبارات الأحاديث الشريفة الكثيرة من كلا الطريقين.

إلا أن نجعل ملاك المصلحة الباقية داخل الإطار الشرعي وبنحو انضمام التصرف العقلي المسموح له شرعاً بسبب دخوله في بعض الأدلة الإرشادية في تصرفه التابع عند ندرة الأدلة الاعتيادية بمثل مشروعية حسن الإحسان وقبح الظلم وتسبيب نشر الأخلاقيات العامة والنظاميات التي لا يجوز مخالفتها لحفظ النفس أو ما يسبب إيذاء الآخرين، كوضع إشارات المرور الملزمة بعدمه عند ازدحام الشوارع بالحافلات إلا عند إقفالها ليصح المرور، شريطة أن يكون المسؤول الواضع لأمثال هذه الأمور إنساناً عاقلاً مستقيماً موصوفاً بإنسانية ترعى مصالح جميع الطبقات لجلب المنافع ودفع المفاسد، وهو ما لا يخلو من ارتباطه ببعض الإرشاديات كذلك.

وأما تشريع البعض لصالح (المصالح المرسلة) في مثل محاولة ترويج حالة الوجوب لغرض تطبيق السرعة في الامتثال مثلاً والحرمة لفرض عدمه إذا صدر ذلك من عموم ما يطلق عليه بالإمام الآمر والناهي حتى لو لم تعلم صلاحية إمامته إلهياً و كما مر شيء من ذلك -

فإنه لا توجد موضوعية لأي شخص تطلق عليه هذه الكلمة، لأن الإمام الحق عند الإمامية هو الحافظ لكل علوم رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ووحيه، فلا يسأل عما يأمر و ينهي حتى لو لم يذكر السبب بعد تكامل الاعتقاد به والأئمة الاصطلاحيون أحصاهم النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم اسماً بعد آخر.

ص: 135


1- سورة المائدة / آية 44، 45 ، 46

ولا يخفى هذا الأمر على المتتبع الجاد المنصف من مصادر الحق المطلوب، ولو لم يمكن إلا الأخذ بشهادات الصحابة بأجمعهم في حالات الاضطرار إلى الاعتراف بأعلمية الإمام علي علیه السلام مثلاً والاختيار عليهم كذلك ومن كان بمستواه من أبناءه المعروفين دون غيرهم لكفانا الآن.

ولأجل محاولة التأمل في عبارات المجوزين للمصالح المرسلة كما شاءوا وللمقارنة المنصفة بينها وبين عبارات المانعين ولو في الجملة الممكنة لتفضيل التلخيص الممكن وعدم الإطالة المملة فيها، وقد ينسجم مع هذا التوجيه بعض الأشاعرة إن اهتدوا للسير على المنهج الإمامي، وهو ما قد يتلاءم مع قول المانعين ولو إجمالاً، المجوزين إن سلكوا نهجنا -

نقول عن قولهم بأن (مصالح الناس تتجدد ولا تتناهى، فلو لم تشرع الأحكام لم تتجدد مصالح الناس، فلو اقتصر التشريع على المصالح التي اعتبرها الشارع فقط لعطّلت كثير من مصالح الناس، وهذا لا يتفق مع مقصد التشريع من تحقيق مصالح الناس).

بأنه لابد أن يظهر منه لأول وهلة من الملاحظة أوسعية مصالح الناس من عبارات الكتاب والسنة وبقية الأدلة الأصولية المشار إليها مرات.

ومحاولة ترجيح لآراء أهل الحداثة والتجديد وأصحاب العلمانية والوضع القانوني وعلى نحو التصرف بالعقول بأكثر مما يلزم، وهو ما قد يُسبب ادعاء اختيار الشرع سد أبواب مداركه الشريفة على الأمة كما يجب أو كونه كان عاجزاً عن تلبية جميع مطالبها والواقع خلافه.

فأما أن تحمل المصادر اللفظية مثلاً على الأقل من قبلهم بناء على حسن الظن ببعض أو حتى الكثير منهم على أنَّ المصدرين الشريفين كتاباً وسنة قد وفيا بحق ما تستحقه الأمة والنّاس، وهذا ما سببته عراقيل إيصال تفاصيلها إلينا.

ص: 136

وهذا الأمر ما قد ذكرنا بعض أسبابه، وذكرنا بعد ذلك إمكانية ما يعالج أموره امامیا من التفسير والتأويل لكتاب الله، وكذلك السنّة على ضوء مضامين حديث الثقلین مع بقية ما يعالج باقي الأمور في الأصول المعتمدة دون بقية أساليب الآخرين التي قد لا يرضى بها حتى هؤلاء المجوزون.

وقد جاء في الكتاب الكريم من آيات ما يدل على استيعابه كل ما تحتاجه الأمة والناس كقولة تعالى «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمينَ»(1)وقوله «وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمينَ مُشْفِقينَ مِمَّا فيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغيرَةً وَ لا كَبيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً»(2)وغيرها .

وجاء في السنة المعتبرة والمتواترة بين الفريقين ما مر من حديث الثقلين المشار إليه مرات وهو قول النبي صلی الله علیه و آله (اني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً وإنهما - الكتاب والعترة - لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)(3) وغيره.

مما يبرهن كذلك على كفاءة هذه الأدلة ونحوها من الأصول الشرعية على نهج طريقة الإمامية ومن ينهج منهجها دون غيرها.

إلا أن العقول المستقلة التي تريد أن تلبي كل مصالح الناس وهي محفوفة

ص: 137


1- سورة النحل / آية 89.
2- سورة الكهف / آية 49.
3- ينابيع المودة - القندوزي الحنفي - ص 15 من طرق شتى، وأخرج ص 16 عن الإمام الرضا علیه السلام ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786) ، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (14/3 ، 17 ، 26 ، 59 ) ، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598)

بالمغريات الماضي ذكرها كيف يرخصها الشرع في التشريع دون بقية مداركه، وهي بين حق وباطل.

وأما أن لا تحمل هذه المصادر في أساسها كل ما يحتاجونه، ولو لتبرير قول أبي بكر (حسبنا كتاب الله ) أنه قال ذلك لحكمة في ذهنه لا يدركها الآخرون.

وتبرير قيام عمر بإحراق الأحاديث وإصداره منع تدوينها.

وقيام عثمان بإحراق المصاحف الماضي ذكرها .

لأجل أن تحرر العقول للوصول إلى الاجتهاد في مقابل النصوص والظواهر ونحوهما من الأدلة وهذا ما أثبتته توصلاتنا الماضية.

وإن قيل بأن إحراقها منه كان غرضه السعي لتوحيدها في واحد؟

فإنه يجاب عنه: بما جمعه الإمام أمير المؤمنين علیه السلام من المصحف الواحد، ولكن تركوه.

ولأن القول بالجواز المطلق يشجع على السطحية في التدين أو ما يوصل إلى حالة انتهاءه ولو بعد حين والعياذ بالله وممن يمكن إلحاقهم بهذا التوجيه المفوضة أن صححوا عمل الماضين في مصادر الشرع من سلفهم.

ولأجل الإنصاف في القضية أكثر ولتتضح الصورة التي نوردها عن براءة أهل الحق والحقيقة -

لا مانع من أن نلبي رغبة من يؤيد الملتزمين بالقول بالتفصيل واشتراط بعض الشروط ممن عرف عن جمع آخر لعملية (المصالح المرسلة) ميلاً للسير على نهج الوسطية مما بعد التوجيهين.

فقال الغزالي: بعدم المانع من العمل على ضوء هذه المصالح إذا تطابقت مع حالة ضرورية من الضروريات القطعية الكلية وهي (الدين والنفس والعقل والنَّسل والمال)، وإلا فلا.

ص: 138

فقال في شرح قوله: (نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة )(1).

وذهب ابن برهان إلى جواز العمل بها شرط (أن تكون المصلحة ملائمة لأصل كلي من أصول الشرع أو لأصل جزئي، جاز بناء الأحكام عليها، وإلا فلا).(2)

ونسب هذا القول إلى الشافعي، ونسبه بعض آخر إلى معظم أصحاب أبي حنيفة.

كما اشترط الشاطبي (أن تكون معقولة في ذاتها، ملائمة لمقصود الشارع، حقيقية لا وهمية حاصل أمرها راجع إلى رفع الحرج عن المكلفين)(3)

فلابد أن نقول في جوابه: أن الاشتراط إن كان يقترب من أسلوب الإمامية مع قلة الأدلة وهو المتعارف كما في الأصول العملية المقررة للشاك في مقام العمل -

فهو سير في سواء السبيل، وإلا فلا.

وفي حال تحققه على مستوى هذا النهج يتضح معنى الجمع الإجمالي بين المجوزين والمانعين دون الإطلاق في جواز (المصالح المرسلة) ودونه في حالة عدمه اقتران الشرط بالأصل الكلي والجزئي من الشرع، وهو نفس ما قرر إمامياً.

وتوجيه قول المجوزين مطلقاً: أنه من باب الضرورة.

فجوابه: ما جاء بعضه إلا من أمثال قوله تعالى «فَمَنِ اضطُرَّ غَيْرَ بَاغِ وَ لَا عَادِ فَلا

ص: 139


1- المستصفى - الغزالي - ص 174
2- أصول ابن برهان ج2 ص290.
3- الاعتصام ج 2 ص 377.

إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ).(1)

الإجابة عن أمثلة المصالح المرسلة

وبعد أن ذكر سلفهم وغيرهم أمثلة للمصالح المرسلة لتبرير الأخذ بها عما جعلوه منها كقاعدة لهم، سواء في القول بالجواز المطلق، أو المشروط الذي لم يف بما وجهناه آنفاً إماميّاً وما قاربه في التأييد من الآخرين.

لابد لنا من الإجابة عن عدم مصداقيتها الثابتة لها في الواقع:-

فقول أبي بكر (حسبنا كتاب الله)(2) بعد التأكيد من النبي صلى الله عليه وآله و سلم على المحافظة على حديث الثقلين الماضي (3)ومنع بعض الأوائل أيضاً عن تدوين الأحاديث، ثمّ جاء التصدّي المخالف من عموم المسلمين في فترة الخضوع للحق الذي لابد أن يكون منتصراً يوماً من الأيام إما ندماً أو إهتداءاً أو نحوهما بعد ذلك بالجمع والتدوين لها مع همة الإمامية الغالية فيه، وإن تخلل ضمن ذلك عدائيات الوضع والتلفيق ونحوهما -

كان منه تصدياً خطيراً يعطي مبررات غير مشروعة لمحاربة سنة الله ورسوله صلی الله علیه و آله، ويجوز لهذا وذاك الاجتهاد في مقابل النصوص، كقيامه بإرسال خالد ابن الوليد على رأس جيش ليلاً بحجة أخذ الزكاة الواجبة من مالك ابن نويرة فقتله وقتل الجيش بأجمعه وزنا خالد بزوجة مالك في تلك الليلة، بينما الواقع أن مالك لم

ص: 140


1- سورة البقرة آية 173.
2- صحيح البخاري :ج: 4 ص : 1612 ، باب 78 باب مرض النبي صلی الله علیه و آله و وفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض (قوموا عنّي)، تذكرة الحفاظ 3/1رقم 1.
3- راجعه ص 137

يمتنع عن دفع الزكاة الواجبة لأمير المؤمنين علي علیه السلام صاحب بيعة يوم الغدير(1)

وهذا ما أغضب بعض الصحابة ومنهم الخليفة الثاني عمر حتى قام الإمام الحسن علیه السلام بجلد خالد حد الزنا بزوجة مالك.

ومن أقوال عمر في تجاوزات أبي بكر كما مر بيانه (بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه)(2).

وإمضاء الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أيام خلافته الطلاق ثلاثاً بكلمة واحدة، بينما مشروعيته الثابتة كتاباً وسنة ونحوهما هي الطَّلقة الواحدة مع الشروط (3).

فقد ذكروا عزمه وإصراره على ذلك بكتابه (إلى أبي موسى الأشعري: لقد هممت أن أجعل إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة و لكن أقواماً جعلوا على أنفسهم، فألزم كل نفس ما ألزم نفسه من قال لامرأته: أنت علي حرام، فهي حرام و من قال لامرأته أنت بائنة فهي بائنة، ومن قال: أنت طالق ثلاثاً، فهي ثلاث)(4)

ص: 141


1- هذه الواقعة أشهر من أن يذكر لها مصادر، راجع كتب التاريخ للفريقين
2- صحيح البخاري، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت 44/10(2080/8)، مسند أحمد 55/1، تأريخ الطبري200/3-205 ، الصواعق المحرقة: 5 و 8، وقال: سند صحيح، تمام المتون للصفدي: 137، تاج العروس568/1 وجاء في بعض المصادر: فلتة كفلتات الجاهلية فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، كما في التأريخ للطبري 210/3 ، وشرح ابن أبي الحديد 19/2، ،وغيرها، وقد أشار إلى كلتا العبارتين في الغدير 370/5و 79/7
3- صحیح مسلم : ج 4 باب الطلاق الثلاث ح 31 ، التتابع بمعنى الإكثار من الشر، سنن البيهقي : ج 7 ص 339 ، الدر المنثور - السيوطي - ج1 ص 279.
4- كنز العمال - المتقي الهندي - ج 9 ص 676، برقم 27943

ولعدم مألوفيتها كانت هذه الثلاثة يُطلق عليها عند الإمامية وبعض آخر من غيرهم بالبدعة.

حتى قد أضرت بمن يجريها من العامة على زوجته عند ندامته مع حبه لها وعدم رضاه بأن تنكح زوجا غيرة حتى اهتدى بعضهم إلى التشيع.

وعن منعه عن إعطاء سهم المؤلفة قلوبهم(1) من أصناف الزكاة الثمانية إليهم، مع التصريح بأسمائهم في آية الزكاة مع عدم النسخ تلاوة وتخصيصاً.

وعن رفعه (حي على خير العمل) (2) في الأذان، وهي سنة ثابته عن النبي صلی الله علیه و آله عند كل المسلمين وإلى حد الآن لم يتركها الإمامية ومن تبعهم من الزيدية.

وعن تشريعه (الصلاة خير من النوم)(3) في أذان الفجر مع أن النبي صلی الله علیه و آله لم يتصد له يوماً، بل قال تعالى «وَ مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا واتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعقاب»(4)

وعند رفعه مشروعية متعة الحج ومتعة النّساء مع أنهما ثابتتان كتاباً في قوله تعالى

ص: 142


1- تفسير المنارج 496/10، الدر المنثور للسيوطي ج 252/3، الجوهرة النيرة على مختصر القدورى في الفقه الحنفي ج1 ص 164 ، بدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني 45:2
2- النص والاجتهاد - شرف الدين - ص 218 عن سنن البيهقي ج524/1-525، السيرة الحلبية ج105/2ط 1382 ه- ،ميزان الاعتدال للذهبي ج 139/1، لسان الميزان ج268/1، نيل الأوطار للشوكاني ج32/2 ، الروض النضير ج542/1 و ج 42/2، منتخب کنز العمال بهامش مسند أحمد ج 276/3، كنز العمال ج 266/4
3- النّص والاجتهاد - شرف الدين - ص 238 عن الموطأ للإمام مالك ص 58 ح 151 ط بيروت، المصنف لابن أبى شيبة وأخرجه من حديث هشام بن عروة.
4- سورة الحشر / آية 7.

«فَمَن تَمَتّعَ بالعمرة إلىَ الحَجَّ فَمَا استَيسَرَ مِنَ الهَديِ»(1) ، وقوله «فَمَا استَمتَعتُم بِهِ مِنهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً »(2)

و سنة رسول الله صلی الله علیه و آله وأهل بيته المعصومين علیهم السلام باعتراف منه أمام كافة الملأ والصحابة في قوله (متعتان كانتا على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة الحج ومتعة النساء)(3) وقوله (و الله إني لأنهاكم عن المتعة وإنها لفي كتاب الله ولقد فعلها رسول الله صلی الله علیه و آله يعنى العمرة في الحج)(4)، وقوله أيضاً : (قد علمت أن النبي صلی الله علیه و آله قد فعله وأصحابه ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهنَّ في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم)(5)

ص: 143


1- سورة البقرة / آية 196 ، راجع تفسير القرطبي ج 388/2
2- سورة النساء / آية 24
3- النص والاجتهاد - شرف الدين - ص 218 عن تفسير الرازي ج 167/2وج 201/3و 202 ط 1، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج 251/12و 252 وج 182/1، البيان والتبيان للجاحظ ج 223/2 ، تفسير القرطبي ج 270/2 وفى طبع آخر ج 39/2، المبسوط للسرخسي الحنفي باب القرآن من كتاب الحج وصححه ج، زاد المعاد لابن القيم ج 444/1فقال ثبت عن عمر وفى طبع آخر ج 205/2 فصل إباحة متعة النساء، كنز العمال ج 293/8و 294 ط 1، شرح معاني الاثار باب مناسك الحج للطحاوي ص 374. وفى رواية أخرى قال عمر: " متعتان كانتا على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و على عهد أبى بكر وأنا أنهى عنهما .. راجع وفيات الأعيان لابن خلكان ج 352/2ط إيران.
4- النص والاجتهاد - شرف الدين - ص 225 عن سنن النسائي ج 5 ص 153.
5- النص والاجتهاد - شرف الدين - ص 225 عن صحيح مسلم ك الحج ج 4 ص 46 ط العامرة وراجع بقية الروايات والمصادر في الغدير ج 6 ، مقدمة مرآة العقول ج 1 205-249.

بل إن عبد عبد الله بن عمر قال عن عن تصرف والده حول ما نسب إلى أبيه قوله لما سئل عن متعة الحج قال (هي حلال، فقال له السائل: إنّ أباك قد نهى عنها، فقال: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله صلی الله علیه و آله ؟فقال الرجل بل أمر رسول الله صلی الله علیه و آله ، قال لقد صنعها رسول الله صلی الله علیه و آله )(1).

ونسب إلى آخرين تجوزيهم الضرب لمجرد التهمة مع إمكان - بل صحة - ردّ ذلك شرعاً بالمدرك القضائي العادل المتعارف (المتهم بريء حتى تثبت إدانته).

وعن تجويز قتل الواحد بدل قتل جماعة إذا توقف قتل جميعهم عليه.

وهذا ما بحثنا عن حله الشرعي والدليل الأصولي دون الاقتراحي من هذا أو ذاك في بحث الأهم والمهم وعن البحث العام الآتي في آخر هذا الجزء وهو (بحث التعادل والترجيح أو تعارض الأدلة) فليراجع أمره هناك.

إلى غير ذلك من أمور كثيره صيرها كثيرون من هواة البدع بدعا متبعة مع حرمة عدم التقيد بشرع الله بالمباشرة والتسبيب لا حاجة إلى سردها، لأن محلها الدقيق في قبولها أو عدمه هو الفقه الإسلامي وتطبيقات فروعه على الأدلة المناسبة.

(عملية سد الذرائع وإبطال الحيل)

و مما استبد به بعض الأخوة العامة في أصولهم ما سمى عندهم بقاعدة (سد الذرائع وإبطال الحيل).

ولأجل التعرف على هذا الأمر أكثر، ولمعرفة مدى علاقة بقية المذاهب الأخرى

ص: 144


1- النص والاجتهاد - شرف الدين - ص 225 عن صحيح الترمذي ج 1 ص 157 وفى طبع آخر ج 4 ص 38 ، تفسير القرطبي ج 2 ص 365 وفى طبع 2 ببيروت ج 2 ص 388، زاد المعاد لابن القيم ج 1 ص 194 ، وفى هامش شرح المواهب للزرقاني ج 2 ص 252.

إمامياً وغيره إيجابياً أو سلبياً ، أو ما قد يبنى على بعض التوجيهات في الأصول المتقنة للأخرين -

لابد من أن نسلك حول مسلك ما اعتيد على مثل هذا الأمر ونحوه من التّعرف أولاً على المعنى اللغوي، وثانياً على المعنى الاصطلاحي عنهم.

فنقول عن كل من (الذرائع والحيل).

أنَّ الذرائع في اللغة جمع ذريعة وهي الوسيلة إلى الشيء، وبهذا يكون المراد من جمع الوسيلة المطابق للذرائع هو الوسائل.

وأنَّ الحيل أيضاً في اللغة جمع حيلة ومثلها حيلات وحول.

وبعد هذا عبروا عن مقصدهم من الذرائع في عنوان البحث في اصطلاحات فقهاء هم وأصولييهم ما كان ظاهره الإباحة، لكنه يفضي ويؤول عندهم إلى المفسدة أو الوقوع في الحرمة.

وبتعبير آخر لهم ( لقد جاءت هذه الشريعة بسد الذرائع وهو تحريم ما يتذرع ويتوصل بواسطة إلى الحرام)(1)

كما جاءت هذه الشريعة في اصطلاحهم الآخر حول الحيل وإبطالها في العنوان بأنها التي تفتح باب الحرام حتى قال قائلهم.

(فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرمات، وسد الذرائع عكس ذلك، فبين البابين أعظم التناقض.

والشارع حرم الذرائع وإن لم يقصد بها المحرم لإفضاءها إليه، فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه يعني بذلك الحيل)(2)

ص: 145


1- كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة - محمد حسين الجيزاني ص 240
2- كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة - محمد حسين الجيزاني -ص 241 عن "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (361/1).

وقد بالغ بعض منهم بأهمية هذا الموضوع لتبرير تصرفاتهم أو التوسع بها من المعقولات الخارجية، وهو ابن القيم الجوزي الحنبلي حيث قال عن (سد الذرائع) أنها (ربع الدين) حيث قال:-

(باب سد الذرائع أحد أرباع التكليف فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة به فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين)(1)

وقبله ابن تيمية حيث قال:

("الوجه الرابع العشرون": أن الله سبحانه ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها.

والذريعة ما كان وسيلة وطريقاً إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء: عبارة عما أفضت إلى فعل محرم، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة)(2)

يل اعترف بعضهم وأرجع أصولها إلى الخليفة الثاني، وقال أن:

(هذا الأصل أيضًا من الأصول العُمرية الواضحة، فقد عرف عمر بسياسته الوقائية وإجراءاته الردعية)(3)

وقال أيضاً بعدها:

ص: 146


1- كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة - محمد حسين الجيزاني - ص241 عن إعلام الموقعين - ابن القيم - ج 3 ص 126-135.
2- الفتاوى الكبرى ج 3 ص 256-295.
3- كتاب نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي - أحمد الريسوني - ص 73-075

(وعلى هذا الأساس سار الفقه المالكي، مثلما سار قبله فقه عمر وسياسته الراشدة، فبالغ في سد ذرائع الفساد وتضييق مسالك الانحراف، وفي قمع المقاصد).

و مع ذلك ففي محاولة بعضهم التدقيق في أمره بين الثبوت الذهني والإثبات التطبيقي الخارجي على ما يظهر منه مضموناً وإن لم يتضح من بعض تعابيرهم، وسيتضح جملة أو تفصيلاً مما عرضوه من أمثلتهم الآتي بعض اللازم منها.

وعلى أساس ما أشرنا إليه عن بعض تعابيرهم حول ما مر من العنوان بين وقوع الخلاف فيما بين فقهائهم حوله أو عدم التطابق الكامل على المشروعية عند جميعهم.

فأوجب مالك العمل ب- (سد الذرائع) وطبقها في أكثر مسائله، وتبعه علماء المالكية.

وهكذا أحمد ابن حنبل أخذ بهذه القاعدة مع بقية أتباعه، وبرزت هذه القاعدة جلية في الفقه الحنبلي.

ولكن الشافعي خالفهم فناقش في نفس الذرائع وأبطل العمل بها، (بناء على إبطال العمل بالإمارات والدلالات والقرائن في القضاء، وحرم على الحكماء والولاة الحكم على الناس بغير ما أظهروا فلا يحكم على النّاس بدلالة أو إمارة أو قرينة بدعوى أن هذا ذريعة ووسيلة إلى ارتكاب الحرام)(1) .

أقول وهذا في ظاهره ما نتيجته على رأي من سبق الشافعي فيما بينا عنهم، وإن كان منهم القول بما سبق حسب قول بعضهم أنه كان في الجملة، دون الأخذ بالتفصيل رغبتهم بالتحرر للتصرفات العقلية ولو في بعض الأمور الخارجية عن مفاد

ص: 147


1- سد الذرائع إعداد الدكتور أحمد محمد المقري من كتاب مجلة مجمع الفقه الإسلامي ج 9 ص 666 ، موقف الإمام الشافعي من سد الذرائع مع الاستدلال للدكتور حارث محمد العيسى/ جامعة آل البيت والدكتور أحمد غالب الخطيب / مفتي محافظة المفرق.

النصوص أو الأدلة المتعارفة حالة الاجتهاد الاستنباطي في الشرع، وإن بدا النص أو الدليل مرتبطاً بحالة ذات علاقة بأحد فردي العنوان بما يسمى في العنوان المنصوص أو المستدل عليه بالعنوان الأولي.

في حين أن الأمور الأخرى الخارجة عن المفاد كانت علاقتها في نظرهم بالعنوان الثانوي ولو بوجه شبه بسيط جداً، وهو ما قد يشبه بعض الشيء بحث (المصالح المرسلة) الماضي.

أما تدقيق الشافعي المخالف فهو من جهة في محلّه وهو تحريمه على الحكام والولاة الحكم على الناس بغير ما أظهروا، لأنه بحث عن حقيقة ذوات متهمة لم يثبت واقعها في النتيجة الخارجية، وكما عرف في السابق (المتهم بريء حتى تثبت إدانته).

وكيف تدان ذات المتهم قبل مثبتات الإدانة بالنتيجة، والله هو (خير الساترين).

وبالأخص إذا صدرت أحكامهم على الأبرياء منهم على أساس دلالة أو إمارة أو قرينة يعتز بها الظلمة لإدانة من لم يرغبوا بهم من الأبرياء، بدعوى أن أحد هذه الأمور ذريعة ووسيلة إلى ارتكاب الحرام، وهي التي قد تكون مبنية على التخرص والوهم والظن الذي في مقابله إن لم يكن أقوى منه فهو مساوي له.

وحيث لم يثبت في النتيجة الخارجية أي مصداقية مطابقة للاتهام وإن حصل مورد قصد من المتهم بارتكاب الحرام -

فإن هذا السوء من هذا القصد له معنيان متشابهان يسمى كل منهما ب(التجري)، أولهما خفيف وهو المعد فقهياً من المكروهات.

وثانيهما: شديد يصاحب قاصده اثم ،ومعصية فيحتاجان إلى استغفار وتوبة، حتى الوصول إلى المصداقية الخارجية عند من لم يتنجز شيء من تطبيقه على الفرض المذكور ك- (نية شرب الخمر) ولم تكن النتيجة إلا (شرب الماء).

أما إذا كانت الدّلالة والإمارة والقرينة مما يعتمد عليها في فقه الإمامية بدقة

ص: 148

أوصافها التي لا تكذب لضبط أساسيات العدالة الإسلامية والتي لأجل هجران الالتزام بها - كما عرف ذلك عن عدالة مولانا أمير المؤمنين علیه السلام بلا مجال لأي إنكار ازداد فيه الظلم أكثر وهجر العدل وكما قال تعالى في محكم كتابه العزيز «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذي عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ)(1)

فلم يقبل من الشافعي عدم رضاه المطلق بهذه الثلاثة حتى لو تطابق مع الفقه الإمامي وعلى نهج التفسير الأصولي ،للإمامية، وهو الذي لابد أن يتفاوت عما مضى مع بعض الأمثلة التي ستأتي.

وأما ما نقله ابن القيم الحنبلي عن تمسك الشافعي بقاعدة تخصه وتخص من سبقه في حملته على حكام الجور لحمل قضاتهم الأشياء ضد المتهمين بناءً على ما لم يظهر من مقاصدهم التي اتهموا بها وهي أن (القصود غير معتبره في العقود) -

فهي صحيحة في جملة ما كان منها صالحاً لردّ ما قاله ضد من يقول بصحة (سد الذرائع )مطلقاً، وبناءً على مجرد اضمار سوء النية وإن لم يصل إلى أي تطبيق في الخارج.

وأما فيما إذا تحقق في الخارج ما ينجز شيئاً مما أضمر من السوء كمن باع أو اشترى سلعة محرمة وإلى النهاية.

فلابد أن يقال ولو في جملة هذا المعنى لا غير بأن (العقود تابعة للقصود) وهو ما يراه الإمامية في فقههم وأصولهم بحمل المتعاملين على الحرام قصداً أو استمراراً إلى ما يساعد على نشر الحرام بين الأمة.

وإذا لم يصل بالنتيجة إليه فما هو إلا بمستوى التّجري المكروه إذا كان خفيفاً أو

ص: 149


1- سورة الروم / آية 41.

التجرى المحرم إذا كان شديداً كما مر بحاجته إلى الاستغفار والتوبة بدون تجريم آخر.

وعلى هذا النحو من التفصيل ولو في مثالنا هذا لو أذعن الشافعي إلى قبوله من الإمامية لا يحق لمن يتقول عليه من الآخرين بأنه (لم يسد الذرائع) على الإطلاق.

وهناك أمثلة وشواهد أخرى ضربوها للمقام جعلوا بعضها مما يؤدي إلى مفسدة مقطوع بها منها قوله تعالى من كتاب الله عن سد الذرائع «وَ لَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدوَا بِغَيرِ عِلمِ»(1)

بمثل سب آلهة المشركين مع كون ذلك أمراً واجباً ومن مقتضيات الإيمان بألوهية الله سبحانه، وذلك لكون هذا السب ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدوا وكفرا على وجه المقابلة الظالمة.

فقالوا عن تعليله بإضافة منا : حيث نهى الله عن سب ألهة المشركين مع كون ذلك في نفسه أمراً واجباً كما مر من مقتضيات الإيمان الصادق بألوهيته(2) تولّياً وتبريا.

وذلك لكون هذا السب صار ذريعة مع حليته على الأقل إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدواً وكفراً على وجه المقابلة بما كان أقسى من ألسنة أهل الكفر على أقدسية مقامه تعالى ما دام الإيمان مستقراً في قلوب المؤمنين لحلول أحد دواعي التقية الظاهرية.

فيكون السب الجائز على الأقل للمشركين في نفسه بالعنوان الأولي معطلاً لهذا السبب والحرام بالعنوان الثانوي منجزاً بتركه.

ولا يجوز التجاوز عن سبب نزول هذه الآية إلا بحجة شرعية أو عقلية مسموح

ص: 150


1- سورة الأنعام / آية 108.
2- كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة - محمد حسين الجيزاني - ص241 عن "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (361/1).

بها شرعاً كما مر.

ثم أقول: وهذا ما تساعد عليه أدلة أخرى في فقه الإمامية كأدلة التقية من الكتاب والسنّة والسيرة التي لا يؤمن بها القوم أو بعضهم إلا ضد الإمامية، للتشهير بهم مع الحق الذي هم عليه.

وكذلك أدلة تقديم الأهم على المهم وإن كان الأهم محسوباً من ذوى العنوان الثانوي كما يأتي تفصيله في بحث (التعادل والترجيح أو تعارض الأدلة) من أواخر هذا الجزء الرابع، وعلى أنه لا يتصدى إلى تشخيص هذا التكليف أصحاب الأذواق الخارجية عند مشاركة القواعد الشرعية تفاديا لخطر الإفتاء بغير علم.

ومنها قول الله عن إبطال الحيل المحرمة والتي يتوصل بها إلى فعل الحرام «وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَ يَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ»(1)

فقالوا عن تعليله بإضافة منا حيث فعل بنوا إسرائيل لما حرم عليهم صيد الحيتان يوم السبت، إذ نصبوا البرك والحبائل للحيتان قبل يوم السبت فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل فلما انقضى السبت أخذوها فمسخهم الله إلى صورة القردة(2) والخنازير.

كعقوبة لما لم يقوموا بإبطال ما فعلوه من هذه الحيل بإطلاق سراح الحيتان في البحر، كي يجوز لهم اصطيادها طبيعياً يوم الأحد، لكون محاصرتها إلى ما بعد السبت كالاصطياد يوم السبت.

ص: 151


1- سورة الأعراف / آية 163
2- كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة - محمد حسين الجيزاني - ص241 عن "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (361/1).

ثم أقول على هذا يجب مراعاة سبب نزول هذه الآية والاقتصار على محل الشاهد المذكور في محاولة الاستفادة منها مرة ثانية أو ثالثة بنحو أكثر .

فلابد من مطابقة مصداق محل شاهدها لنفس العلة والسبب فيها عند تجدد المخالفة من أولئك اليهود إذا كان هذا الأمر تحت ظل الإسلام وإن لم يحصل العذاب على المخالفين.

لأن نبينا صلی الله علیه و اله خُلق رحمة لهذه الأمة ونعمة لكل الأمم، وبقي على مخالفيهم مجرد التحريم التعبدي لو لم يتبدل بالحكم الإسلامي الأخص وهو الخاص بالمسلمين ومن يتبعهم بما حدده الوحي لهم بأحكام الصيد الخاص من فقههم.

وأما بمحاولة اجتهاد إضافي لهم من بعض مرجّحات عقلية لم يرخص بها في أصولنا الفقهية فلا يمكن المساعدة عليها، إلا إذا أسلموا أو آمنوا أو انقادوا تبعاً للنظام الحالي للبلد الإسلامي.

فلابد أن يشملهم حكمنا الإسلامي في الأطعمة والأشربة والصيد والذباحة ونحو ذلك دون أي اجتهاد من أحد في مقابل النصوص وغيرها.

ومنها قوله تعالى من المقام، وهو ما ذكروه حوله ولما يصلح أن يكون محمولاً على العنوان الأولي من الأحكام وعلى العنوان الثانوي منها كذلك «وَ لَا يَضْرِبْنَ بأرجلهنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ»(1)

حيث أن الأمر في الآية وإن صدر بصيغة النهي الدالة على الحرمة في الظاهر وهو وجوب الانتهاء عن ضرب الأرجل إن كان محل اجتماعهن مجاوراً للرّجال الأجانب الذين يسمعون ما يظهر من خلاخيلهن عند ضرب أرجلهن فتبدوا نزواتهم.

ص: 152


1- سورة النور / آية 31.

إلا أن مجاورتهن إن كانت لمن لم يُعلم منه حصول شيء من ذلك يخاف عليهنَّ منه كبعض المحارم من الرجال، وإن كان عملاً مرجوحاً أخلاقياً أيضاً، ولكن على مستوى الكراهة.

فلابد من أن يكون المصداق الأولي لهذه الآية هو المحرم بالعنوان الأولى تبعاً للموقع والمقام والمصداق الثانوي لها هو الجائز، وإن صح إلحاقه بالمكروهات بالعنوان الثانوي تبعاً للموقع والمقام الخاص به أيضاً.

فالذريعة المحللة في أصل مبانيها هي - وإن جعلناها بعنوانها الثانوي فيما سبق أمام المحارم لأجل رجحان سدها في نظر القوم إذا خيف على عفة العوائل الشّريفة لئلاً تنهتك أو تعتاد المجون - إذا احتمل سماع الأجانب لضربهن يكون النهي في الآية واعظاً باجتناب المكروه.

ولكن إذا تأكد ذلك يكون النهي محرماً للضرب.

وهذا المحرم المؤكد في الآية لوجوب الخلاص منه بإبطال حيلته لابد فيه من تهيئة مقدمات التحفظ وأخذ الحيطة وغلق الأبواب حتى تبطل الحيلة.

وأقول أيضاً: لابد من التعمق العلمي الأصولي الفقهي بعدم التطرف في التخريجات العقلية الجانبية غير المسموح بها في إلحاق بعض الجزئيات بالمسألة الكلية.

فإذا تنوع الحكم بين المكروه الاصطلاحي والمحرّم الاصطلاحي لا يحق جعلهما حكماً واحداً بنحو الحرمة إذا غلبت دلائل الكراهة والحرمة بنحو الاشتراك المعنوي المتساوي المحتاج إفراز كل منهما إلى القرينة المفهمة.

وكذلك بعدم قبول من يقول ب- (سد الذرائع) بعد معارضة الشافعي لهم، لكن على نحو التوجيه الإمامي دون ما يزيد.

وأما التطبيق على إبطال الحيلة فإنّها في الفقه الإمامي قد تتوسع ويسمى المقبول منها بالحيلة الشرعية الناقلة من الحرام مثلاً - أو الشبهة - إلى الحلال، ولها مبرراتها

ص: 153

على ما سيتضح من الأمثلة الآتية.

ومنها قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكافِرينَ عَذابٌ أَليمٌ»(1) حيث أن المسلمين - في استدلال من يستشهد بهذه الآية للمقام - كانوا يقولون راعنا يا رسول الله، والتي هي في اللغة من (المراعاة) وهي معناها التفقد للشَّيء في نفسه أو أحواله وعبارة المراعاة وعبارتا المحافظة والمراقبة نظائر(2)

أي (أعرنا سمعك وفرغ سمعك لكلامنا لنفهمك)، أو كانوا (يريدون أمهلنا وانظرنا حتى نفهم ما تقول)، وكانت هذه اللفظة شيئاً قبيحاً بلغة اليهود أي معنى السب والسخرية ك- (الرعونة) حاشاه صلی الله علیه و آله، وقيل كان معناها عندهم (اسمع لا سمعت)(3)

فنهى تعالى - في نظر هؤلاء المستدلين - المسلمين عن قول هذه العبارة، وأمر تبديلها بكلمة (انظرنا) سداً لذريعة المشابهة، ولئلاً يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي تشبهاً بالمسلمين يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسداً.

ثم أقول: و هذا المعنى يمكن أن يكون صحيحاً إذا كان سبب نزول هذه الآية مبنياً على دلالة صحيحة في ورودها عن النبي صلی الله علیه و اله وأهل بيته علیهم السلام ومن يوثق بنقله من الآخرين من مورد المشابهة المذكورة، دون قبول أي شيء آخر يسمى (ذريعة) ليتجاوز مفاد الآية إلى مصاديق أخرى مبنية على دلالات وهمية واهية.

ص: 154


1- سورة البقرة / آية 104
2- تفسير مجمع البيان - الشيخ الطبرسي - ج 1 ص 335 ، الميزان في تفسير القرآن تفسير سورة البقرة آية 104
3- تفسير الطبري - تفسير سورة البقرة آية 104.

لأنَّ مثل هذه الدلالات إذا كانت لا تقدر أن تسبب سبباً مشابهاً آخر لمصداق آخر لهذه الآية عن اليهود أو غيرهم من الأعداء -

فإنَّ الذريعة تكون وهميّة وواهية من باب أولى، وعلى هذا لا قيمة لسدّها.

يبقى شيء آخر وهو أن الشافعي المانع ل- (سد الذرائع) عن الأسس الوهمية والواهية، هل كان نهجه ولو مصادفة يساوي نهج الإمامية أم لا؟

فإن ذلك لو وقع في الجملة من الوفاقيات فهو ليس بغريب، بل قريب وجد قريب، حتى مع عدم المانع من حمله على الصحة لوجود بعض التقاربات بيننا وبين بعض العامة في بعض المباني.

وعلى هذا النهج يجب أن يكون السلوك في إبطال الحيل.

وقد ذكروا لصالح ما يريدون حسب رأيهم أمثلة بعضها مضامين روايات أو يدعونها أنها لسان روايات للسنة النبوية.

وبعضها أمثلة يرون أنها ذات علاقة بمباني أصولية خاصة لصالح (سد الذرائع) و (إبطال الحيل).

منها: أمر النبي صلی الله علیه و اله أن يأمروا أولادهم بالصلاة من السبع، وإذا بلغوا العشر ضربوهم.

وكذلك أمره أن يفرق بين الأولاد في المضاجع لئلا يكون اجتماعهم في المضاجع ذريعة للفساد مستقبلا فيما بينهم.

وكذلك إبطال حيلة إسقاط الزكاة ببيع ما في اليد من النصاب قبل حلول الحول ثم استرداده بعد ذلك.

وكذلك تحريم الشارع الطيب على المحرم في الحج لكونه من أسباب دواعي الوطيء، فحرموه من باب (سد الذرائع).

وكذلك نهى الشارع المرأة عن السفر بغير محرم قطعاً لذريعة الطّمع فيها والفجور

ص: 155

بها

وكذلك القول بمنع زراعة العنب خشية الخمر.

وكذلك المنع من المجاورة في البيوت الخاصة بسكن العوامل كالأرضية وشقق العمارات العمودية السكنية ومسلك الصعود والنزول واحد خشية ارتياد الزنا ومقدماته.

وكذلك المنع من بيوع الآجال، كمن باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهر ثم اشتراها بخمس قبل الشهر.

وكذلك منعهم عن تضمين الصناع إذا توازنت السلع، لأنهم قد يأثرون في السلع بصنعتهم فتتغير، ومن ذلك ما لو يكون أصل عمل العامل مشروعاً، لكنه يصير جاريا مجرى البدعة.

وكون المكلف له طريقان في سلوكه للآخر أحدهما أسهل والآخر صعب، فيأخذ بالصعب ويترك الأسهل، بناءً على التشديد على النفس كالذي يجد للطَّهارة مائين ساخناً وبارداً، فيتحرى البارد الشاق بدليل إسباغ الوضوء على المكاره، مع أن فاعل هذا الفعل لم يعط النفس حقها، وخالف دليل رفع الحرج.

ومن ذلك الاقتصار على الجشب في المأكل والخشن في الملبس من غير ضرورة.

ومن ذلك أن عمر في خلافته أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلی الله علیه و اله، لأن الناس كانوا يذهبون إليها فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنه

إلى غير ذلك مما ذكره أصحاب عنوان هذا البحث من روايات يدعون روايتها أو مضامين منها أو أمثلة يعتبرونها حاكية عن تلك المرويات.

ومن تعابير بعضهم بعد ذكر هذه الأمور قولهم أن:-

(هذه الأمور جائزة أو مندوب إليها، ولكن العلماء كرهوا فعلها خوفاً من البدعة، لأنَّ اتَّخاذها سنة إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها، وهذا شأن

ص: 156

السنة وإذا جرت بجري السنن صارت من البدع بلا شك)(1)

لكننا نقول : بعد أن كان النزاع بداية بين من يقول ب- (سد الذرائع وإبطال الحيل) مثل مالك ومن سلك نهجه - سواء جعل هؤلاء القوم هذه المضامين تحكى عن نصوص أو روايات في زعمهم أو كانت في نظرهم ألفاظ روايات، لا خصوص مضامين عن السنة النبوية في بعض منها وفي بعضها الآخر أمثلة يرون أنها ذات علاقة بمباني أصولية لهم كحجج لما يريدون -

وبين الشافعي المخالف لمالك ومن شاطره الرأي سابقاً ولاحقاً، وإن كان قد يظهر من الشافعي في بعض كتبه ميله إلى بعض الإستحسانات أو القياسات العقلية التي يشتد عليها الإمامية في معقولاتهم، إلا بالمسموح به بين الجميع مما مضى ذكره من مثل الآراء المحمودة.

فإننا نحن الإمامية نصنف توجيهاتنا لما يكون الأصح مما تعرض له المتنازعان جهد الإمكان خدمة لصميم ما يريده الشرع وجواهر مداركه وما قد يؤيد ما نقول به من أقوال الشافعي حول ما أورده القوم.

ولأجل الإجابة على ما ورد منهم نقول أيضاً:-

1 - فإنَّ ما قيل وروي عن أمر النبي صلی الله علیه و اله للمسلمين بأن (يأمروا أولادهم على الصَّلاة من السبع وإذا بلغوا العشر ضربوهم)(2) .

فإنه بناء على صحة هذه الرواية عند الجميع ولو مضموناً أو ما يقاربها عند الإمامية مع بعض التفاوت ولم يطبقوا ضروبهم، ولو على مبناهم الأصولي من

ص: 157


1- الاعتصام - الشاطبي - ج 1 ص 144.
2- مسند أحمد 2: 180 و 187، سنن الدارقطني 1: 230 / 2 و 3 ، سنن البيهقي 2: ،229 ، الكافي 3: 409 / 1 ، الفقيه 1: 182 / 861 ، التهذيب 2: 380 / 1584 ، الإستبصار 1: 409 / 1564 بتفاوت واختصار فيها .

الالتزام بقاعدة التسامح في أدلة السنن -

فلم تعط أكثر مما تعطيه من أهمية مفادها الأمر الإستحبابي الذي لا حرمة قطعاً على مخالفته، ولم يواجه به شرعاً إلا أولياء أمور الأولاد على حسن تربيتهم لهم بمزيد الأجر والمثوبة والتوقيفات المستقبلية لمن ولُّوا عليهم إن طبقوا الأدبيات على ما يرام.

بل ولأصل الإباحة عند الشك في شأن الصبيان بين بلوغهم وبين عدمه، فضلاً عن تأكيد عدمه.

ومن ذلك حالة عدم إنصافهم بصفة التمييز أو لو لم تبد فيهم قرائن عدم البلوغ المعلومة.

وأما الأمر بضربهم عند التخلف - كما أوضحنا أو صححنا - فما كان إلا للتأديب لا لإجراء العقوبة، لقرب أبناء التسع أو العشر من التمييز الخطر لينصاعوا متأدبين على نهج الكبار.

دون حقيقة العقوبة الشرعية التي محلها خصوص وقت البلوغ للرجال والنساء لو تمردوا ولو لمرة واحدة.

وفي هذا لا مجال مع ما يخص الأولاد إلا للتشجيع على معنى الاستحباب لمن يقوم بالتربية والتوفيقات المستقبلية للأولاد.

نعم قد يزداد معناه في حالة التمييز والمراهقة إن حصل التمرد شبه الذاتي من أحدهما، مما قد يشرع فيه ما يناسب المقام من الضرب التأديبي نفسه كذلك دون الأكثر.

ولكن قد يصل الأمر إلى ما قد يشبه الوجوب ولو تدرجاً، إن لم نقل الوجوب ذاته على نفس المربي لا المميز أو المراهق، لئلاً تكون مسؤولية شديدة عليه تجاه أحدهما إذا كان سبباً في تمرد من ولي عليه، فتكون العقوبة المناسبة موجهة عليه،

ص: 158

والتي أقلها التوبيخ وأعلاها التعزيز.

بل قد يشرع التعزير المذكور في الروايات حتى على المميز والمراهق بالمعنى التأديبي في بعض المقامات الأزيد مما مضى.

وبهذا لو تخلف الطّفل عما يستحب لولّيه أن يرشده إليه أو يمرنه عليه لم ينل - مهما زاد عمر الولد قبل البلوغ - إلا معنى الكراهية دون الحرمة، التي سميت عند القوم ب- (سد الذرائع)، إلا على المربي المسبب بإهماله ونحوه مما مر

فيعاقب الاثنان المربي المسبب والولد الذي بلغ وتخلف.

لكن هذا المورد يختلف عن مفاد الرواية.

2 - وأما ما ذكروه عن أمر النبي صلی الله علیه و اله في نفس الرواية السابقة بوجوب (التفريق بين الأولاد في المضاجع)(1) واستفادتهم من ذلك حرمة التقارب حذراً من الوقوع في الفساد وسداً للذرائع ولو مستقبلاً من أيام الصبا القريبة من سني المراهقة.

فقد ردَّ الشَّافعي عنه: بأن هذا التبديل العنواني - من قبل خصوصه - من أصل الإباحة، أو فقل من مطلق ما فيه المرجوحية الضعيفة، وهي المسماة عند الجميع بالكراهية التي لا ذنب فيها على الأطفال قطعاً لو لم يقع شيء بينهم يخزي أولياءهم والأولاد إذا بلغوا ولا على أولياء أمورهم حتى في طفولة غير المميزين -

إلى الحرمة الصريحة مع نقل الرواية مطلقة بين الصبا غير التمييزي، والتمييزي وصبا المراهقة.

وأنَّ الحرمة لأي جهة موجهة هل على الصبيان أم على أولياءهم، وحال المولى عليهم متفاوت؟

ص: 159


1- مسند أحمد 2: 180 و 187، سنن الدارقطني :1 230 / 2 و 3، سنن البيهقي 2: 229.

كيف وتشخيص القوم إذا كان على أساس من الأوهام والتخرصات الواهية كما سبق.

وإن أورد عليهم الشافعي مثل هذا عن تشخيصاتهم الحرمة تشخيصاتهم الحرمة مع هذا الإطلاق، فهو الذي لا يمكن المساعدة عليه، لأهمية اللجوء إلى المدرك الأصلي والفحص عنه وعن تفاصيله إن كانت.

وعند الشك فيه إمامياً يجب الفحص عنه أيضاً والتركيز على بقاء وجود الكراهة التي لا حرمة فيها مع وجود حالة التمييز عند الأطفال.

ومع اطلاق الرواية وصحتها ولو إجمالاً لم يكن في النتيجة قبل سن التمييز إلا أصل الإباحة، وهي لا تمنع من أرجحية التفريق بين غير المميزين الإستحبابية كما يستفاد من بعض روايات شريفة أخرى.

3 - وأما ما ذكروه عن حالة إبطال حيلة إسقاط الزكاة بعد قرب وجوبها عند حلول الحول وبلوغ النصاب، ببيع ما في اليد من نصابها قبل حلول الحول ثمّ استرداده بعد ذلك بنية التهرب من أداء الواجب الزكوي - والعلم بمصادفة كمال النصاب وحلول الحول بين التعاملين الذين أضمر في نية البيع والشراء بينهما بما لا واقعية لهما إلا هذا التهرب-

لا مجال له أيضاً من إبطال هذا التحريم عن وجوب دفع هذه الزكاة الواجب بانكشاف كون الواقع هو بقاء من عليه هذه الزكاة، وهو البائع المتهرب غير القاصد إلا مجرد العقد الشكلي لفساده وعدم صحة النقل إلى المشتري لما أضمر.

وقد مر منا البناء على قاعدة أن (العقود تابعة للقصود)، وهي التي لابد أن لا یراد منها سوى القصود الصحيحة بواقعيتها المرتبطة بكلامي الإيجاب والقبول، إلا إذا كان هناك مدرك شرعي يدعم هذه الشكلية، وهي لا وجود لها.

وبهذا تكون النتيجة أن (ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع)، وأن التصرفات

ص: 160

العقلية غير المحدودة الخارجة عما لم يسمح به مما مر ذكره لا تقدر عليها أن تحرك ساكناً محسوباً على الشرع من الشكليات.

ولذلك لم تلحق تلك التصرفات علمانياً إلا بالأوهام والتخرصات الباطلة.

4 - وأما تحريم الطّيب على المحرم في الحج والعمرة في تعليلهم لكونه على النساء والرجال من أسباب دواعي الوطيء بينهما فحرموه من باب (سد الذرائع) أثناء الإحرام لا لغير ذلك -

فإنه بعد النظر اليسير لابد أن يظهر من تعميمهم لهذا التعليل في أنه إن كان منهم دون التصريح به في الأدلة ليحصروا حرمة استعمال الطّيب في جميع حالاته لخصوص دواعي الوطيء دون غيره -

فهو تصرف فضولي من عندهم - وبه تدخل الأسباب المتعددة للتطيب الذي لا يمكن ضبط أغراضه للمحرم ، كما كان لغيره ومنها غير نية الوطيء استثناساً بحالة التطيب المستحب في أساسه للرجال والنساء متزوجين وغير متزوجين ومن الموطوات المحللات في الزواج السابق على الإحرام ثم حصل الإحرام ومنها لرفع كراهية روائح الجسم بسبب الحر ونحوه، مع أن الكل حرام وطأ أو نية وطىء وغيره، احتراماً لكل محرّمات الإحرام ولو تعبداً للأدلة.

وإن كان من الروايات نفسها فلا دخل إذن لجعل هذا المورد وهو الطّيب في حرمته من أمثلة (سد الذرائع).

وإن هذا التعليل منهم إن كان من نفس الروايات فلابد من أن تكون ألفاظها نصوصاً حتى يتمسك بها في خصوص المورد وعند الجميع في السلب والإيجاب، لتحقيق الوفاق على العلة الواحدة بعد تثبيت صحة ذلك النص ليجوز غيره أو يبحث عن حكمة، وهو لم يكن قطعاً إلا ما ، حرمة استعمال جميع حالاته.

وإن لم تكن تلك الروايات إلا من نسخ الظواهر فلا عليَّة إلا بما يسمى (حكمة)

ص: 161

للتشريع في خصوص داعي الوطيء وبما لا يمنع من تحريم التطيب في الإحرام للدواعي الأخرى.

ولم يستثن من ذلك شرعاً إلا ما يسمى ب- (الأذخر) الَّذي يُطيِّب به ستار الكعبة أو جدرانها، فلم يمنع المحرم من أن يشم أنفه عطر هذا الطيب أثناء الطواف.

وتفصيل هذه الأمور في الفقهيات الخاصة ورواياتها ذات العلاقة ب- (حكمة التشريع)

5- وأما تعليلهم عن نهي الشارع المرأة عن أن تسافر من محل استقرارها بدون محرم كان قطعاً لذريعة الطمع فيها أو الفجور بها -

فلا يُقبل كالسوابق إلا بصحة النّص الناهي المعلّل لما ذكروه، وصراحته عند الجميع وروداً لفظياً أو معنوياً مدلولاً عليه بقرينة أصولية يقر بها جميع المذاهب).

على أن هذه الحرمة عليها كانت لخصوص الطمع فيها أو الفجور بها دون أسباب أخرى، أو تعبداً دون أي سبب ولو لمرجحات خارجية تبعاً لأوامر إلهية عامة ومطلقة تحث أولياء النّساء اللواتي يُخاف عليهنَّ، لكونهن ممن يطمع فيهنَّ لشبابهنَّ وجمالهن المغري حالة قطع المسافات البعيدة أو الموحشة كالليل أو قليلة المارة المؤنسة، ولو على اللواتي لا يخشى عليهن مثل ما مر كالكبيرات القويات ولو من الحيوانات المفترسة.

أو لما هو الأعم من حالة التحريم كحالة الكراهة إلا برجحان المصاحبة لهن لورود عموم النهي الجامع بين التحريم والكراهية المحتاج كل منهما إلى القرينة المعينة للمراد من خصوص أحدهما دون الآخر إذا اشتركا لفظاً، لوجود المقتضي وعدم المانع ولو ظاهراً.

شريطة عدم تفاوت حالات المرأة بين الكبيرة والصغيرة والخشنة والمترفة والتي يغلب على أمرها وغيرها والتي معها رفقاء حماة ولو من النسوة المشاكسات مع عدم

ص: 162

وجود المحرم أو كان المحرم لكن بدون كفاءة فيه في مثل هذه الأمور.

فلابد من تفريق مورد الحرمة عن مورد الكراهة.

أو لم يكن من الأدلة إلا الظواهر التي لم تبرز منها إلا حكم التشريع دون العلل المدعاة، وهي التي لا تساعدهم على قبول ما تحدّده أفكارهم من الخصوصيات لتعزى إلى أنها من أسرار ما ينهى عنه الشارع.

لتفاوت حالات ما يقع في مسالك السفر، ومنها المسالك المحمية التي لا تحتاج إلا إلى الرفيق الاحتياطي استحباباً لا وجوباً فلم يقبل إذن من القوم سداً للذرائع بهذا النحو من التعليل العليل.

6 - وأما قولهم بمنع زراعة العنب خشية عمله خمراً - بناء على أن نسبته كانت ابتداءً لبعضهم سداً للذرائع، وإن أدعي الإجماع من بعضهم الآخر أو الكثيرين منهم على ما يخالف هذا المنع على حد قولهم (مع أنه لم يقل به أحد) أي بالمنع، وإن كانت إجماعاتهم كثيراً ما يتخللها بعض آراء مخالفة لها، مع أن هذا الإجماع كان لصالح القول بعدم المنع -

فإنَّ ذلك كله لا يساعد على مطلق منع زراعة العنب.

لأن مجرد هذه الخشية لم تدخل في المقاصد الأصيلة المشروعة في الكتاب والسنة ونحوهما والمصالح المعتبرة المرادة من الله تعالى لعباده.

بل ليستفيدوا من ثمارها المحللة في الدنيا وجنان الآخرة من الفواكه والتمور والأعناب ونحوهما دون المصالح الملغاة شرعاً كتسبيب صيرورة الأعناب والتمور خموراً واقعية محرمة، وإن كان الذي يشربها لجهله - وقصوره الوهمي المحدود يتصورها منعشة - فلأجل ذلك هي مذهبة لعقله الكامل وتعمده، ونحو ذلك من الأضرار الدنيوية والأخروية والمصرح بحرمتها في المدارك الشرعية أيضاً.

ولأن من حالات الخشية أوهام وخيالات وسوء ظنون كثيراً ما يخالفها الواقع

ص: 163

الطبيعي الذي منه إمكان ترك زرع مثل ثمرة العنب إلى أن ينضح بجعله فاكهة لأكلها، أو عصرها لتشرب شراباً سائغاً شرابه قبل الخمرية، أو إهداءها لأكلها ونحوه بين المؤمنين، أو أن تترك بعد صيرورتها خمراً لتكون خلاً مفيداً في الأطعمة، أو تجفف لتكون زبيباً نافعاً مع الأطعمة.

وعند الشك في أمر هذا الزرع حتى في مثل هذه الخشية لابد من الوصول إلى أصالة الإباحة.

نعم في المصلحة التي يسمونها بالمسكوت عنها وهي التي لم يرد في اعتبارها أو إبطالها دليل خاص من الكتاب أو السنة أو نحوهما عند جميع المذاهب والمدارس المعتدلة في جملة تقارب بعضها مع بعض مع التوحد في الثوابت الرئيسية أصولياً وفقهيًاً ومنها المسلك الإمامي -

فلم يشرع حكم على مثل ما نحن فيه إلا بعد الانضواء تحت شعار الأدلة الإرشادية المناسبة له من أمثال آيات أو روايات حسن الإحسان وقبح الظلم لحل مثل مصداقية الخشية المذكورة في العبارة الماضية التي لم يثبت كونها علة تامة ولا حكمة تشريعية من جزء علَة، لمنع زراعة العنب أو نحوه إلا بنحو التورع الاحتياطي الإستحبابي أو حتى الوجوبي إذا كان زراع هذه الفواكه ضعفاء في دينهم وذوي نفوس أمارة يكثر فيهم التخلّف عن شرع الله بمثل صناعة هذه المادة بعد زرعها وشربها وبيعها ونحو ذلك لولا المراقبة والاحتياط بنشر مثل ما يشبه فتاوى تحريم هذه الزراعات على أساس هذه المباني الإرشادية ومؤشّراتها، كي لا تتصرف العقول المستقلة لوحدها تماماً.

مع وجوب الاهتمام في مقابل هذا كلّه بغض النظر في الحالات الاعتيادية ضرورية وغير ضرورية لو لم تثبت مؤشرات الترجيح المنع.

وبالأخص في مورد الحاجة إلى الأعناب في صورها المحللة والاعتيادية حتى تلك

ص: 164

الخشية الناشئة عن التوهمات وسوء الظَّن المنقوض بعكسه وكثرة حسن ظواهر الناس.

ومما يؤيد ما نقول به في ردّ هذه التجاوزات من أقوال رجال هؤلاء القوم ما قاله الحافظ بن رجب الحنبلي في تحديد البدعة بتعريف جامع بقوله:-

(فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء من ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة)(1)، استناداً إلى ما رووه عن رسول الله صلی الله علیه و اله (مَنْ أَحْدَثَ فِی أَمْرِنَا هَذَا مَا لَیْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) (2)

وألحق بهذا الأمر المنع من المجاورة في البيوت خشية الزنا، فالمنع عن المجاورة ممنوع، لأن مفسدته نادرة إلا على نحو ما ذكرناه آنفاً من حدوث المأشّرات الداعية للاحتياط بسبب ضعف المتجاورين في دينهم والتزامهم الشرعي.

7 - وأما قولهم بالمنع عن بيوع الآجال أو عدمه، فهو مما عد نوعاً بينهم كونه مما اختلف فيه بأنه من حالات (سد الذرائع) أو عدمه.

فعند مالك أطلق اسم بيوع الآجال، وعند الشافعي أطلق اسم العينة كشيء، يباع بعشرة دراهم إلى شهر نسيئة، وبخمسة دراهم إلى الأقل كعشرة أيام سلفاً أو نقدا الآن.

فمنعه مالك حينما (يبيع زيد الكتاب بالدراهم العشر إلى الشهر لعمرو ثمّ يشتري نفس زيد ذلك الكتاب بذاته من نفس عمر وبخمس دراهم إلى الأيام العشر، لظهور معنى الحالة الربوية بناءً على معنى تسليف الخمس من الدراهم العشر في المدة

ص: 165


1- البدعة - تعريفها - أنواعها - أحكامها لصالح الفوزان 8 جامع العلوم والحكم ص 336
2- فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 4: 252.

الأقل عند زيد أو نقداً الآن وإن بقى الكتاب عند عمر وبغير تسلم إلى آخر الشهر).

وقال مالك معلّلاً ( أنه - أي زيد مثلاً - أخرج من يده خمسة الآن وأخذ عشرة آخر الشهر).

وخالفه الشافعي بقوله (ينظر إلى صورة البيع ويحمل الأمر على ظاهره ويجوز ذلك)(1)

إلا أن الفقه الإمامي لم تعد فيه حالة الحرمة الربوية في مثل هذه التعاملات، كحالات النقد والنسيئة والسلف والسلم مما ذكر في المثال، إلا عند توفر الشرط اللازم، وهو اشتراط البائع الأول وهو (زيد) على الثاني وهو (عمرو) أن يبيعه ما اشتراه منه.

ومع عدم حصول ذلك لم يظهر إلا أصل الجواز ، مع لزوم انطباق هذا المثال على ما يساوي ما يدل عليه قوله تعالى «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا »(2) ولو بضم بعض الروايات الشريفة الموضحة لمقاصده إذا اختفت بعض الدقائق الربوية على أهل الأعراف السوقية-

فلا يمكن البت بشيء من الاحتمالات والتخرصات العقلية، ليسير الناس على ظنون هذا وذلك، وإن نالوا بعضاً من العلم والفضيلة.

وعند الشك فلا مانع من التورع الاحتياطي بالاجتناب عن بعض التعاملات، بل هي حسنة، وكما ورد عنه علیه السلام (أخوك دينك فاحتط لدينك)(3) وأيضاً عنه علیه السلام (خد بالحائطة لدينك)(4)

ص: 166


1- الفروق - القرافي - ج 2، ص 32 تبصرة الحكام - ابن فرحون - ج2، ص 267.
2- سورة البقرة / آية 275
3- الوسائل :27 167 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 46 (في الطبعة القديمة ح 41).
4- المصدر السابق

دون التمسك بما اختلف فيه ما يسمى بسد الذرائع أو ترك سدها ممن تعارف عندهم ذلك.

وبهذا يكون الشافعي موافقا لهم في النتيجة إذا وافقت مداركهم على ما سيتضح.

قال العلامة الحلي قدس سره في قواعده (ولو باع نسيئة ثم اشتراه قبل الأجل بزيادة أو نقيصة حالاً أو مؤجّلاً جاز إن لم يكن شرطه في العقد)(1)

وقد ذكر السيد العاملي قدس سره في شرحه للقواعد عند مدارك هذه المسألة أن:-

(جواز ذلك كله إن لم يكن شرط البيع في نفس العقد مما لا خلاف فيه، وكأن دليله الإجماع كما في "مجمع البرهان" ومما لا خلاف فيه فتوى ونصاً عموماً وخصوصاً كما في "الرياض" والأمر كما قالا ...... إلخ)(2)

ويدل عليه ما رواه الحميري في قرب الإسناد عن علي بن جعفر عن أخيه موسى علیه السلام قال سألته عن (رجل باع ثوباً بعشرة دراهم ثم اشتراها بخمسة دراهم أيحل؟ قال: "إذا لم يشترط ورضيا فلا بأس")(3)

ثم قال السيد العاملي قدس سره (ومثله وأظهر منه عنوان المسألة ما رواه علي بن جعفر في كتابه(4) إلا أنه قال بعشرة دراهم إلى أجل ثم اشتراه بخمسة نقداً، وخبر الحسين بن المنذر إيماء إلى ذلك)(5)

ص: 167


1- قواعد الأحكام - العلامة الحلي - ج 2 ص 43.
2- مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة - السيد العاملي - ج 13 ص 649.
3- قرب الإسناد في البيوع ح 1062 ص 267.
4- مسائل علي بن جعفر: ح 100 ص 127.
5- خبر الحسين بن المنذر ما رواه عن أبي عبد الله علیه السلام في بيع العينة، قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام يجيئني الرجل فيطلب العينة ، فاشترى له المتاع مرابحة، ثم أبيعه إياه، ثم أشتريه منه مكاني؟ قال: "إذا كان بالخيار إن شاء باع وإن شاء لم يبع، و كنت بالخيار إن شئت اشتريت وإن شئت لم تشتر، فلا بأس" فقلت: إن أهل المسجد يزعمون أن هذا فاسد، ويقولون إن جاء به بعد أشهر صلح؟ قال: "إِنَّمَا هَذَا تَقْدِيمٌ وَ تَأْخِيرٌ فَلاَ بَأْسَ". راجع كتاب مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة - السيد العاملي - ج 13 ص 651 .

ويقوى دليل القول بالجواز بمطابقته للأصل عند الشك.

ومطابقته إطلاق قوله تعالى «وَأَحَلَّ اللهُ البيعَ وَ حَرَّمَ الرِّبَا»(1)، وقوله تعالى «إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ»(2)

وهو أيضاً ما يطابق قاعدة ما روي عن أبي عبد الله علیه السلام (كُلُّ شَيْءٍ هُوَ لَكَ حَلاَلٌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ فَتَدَعَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ)(3)

وكذلك إطلاق صحيح بن يسار(4)، وإطلاق صحيح بن حازم(5)

ص: 168


1- سورة البقرة آية .275
2- سورة النساء / آية 29.
3- الكافي - الشيخ الكليني - ج 5 ص 313.
4- عن أبي عبد الله علیه السلام قال: (قلت لأبي عبد الله علیه السلام أنا نخالط أناساً من أهل السواد وغيرهم فنبيعهم ونربح عليهم للعشرة اثني عشرة، والعشرة ثلاثة عشر ونؤخر ذلك فيما بيننا وبين السنة ونحوها، ويكتب لنا الرجل على داره أو على أرضه بذلك المال الذي فيه الفضل الذي أخذ منا شراء بأنه قد باعه وقبض الثّمن منه فنعده إن هو جاء بالمال إلى وقت بيننا وبينه أن نرد عليه الشراء فإن جاء الوقت ولم يأتنا بالدراهم فهو لنا فما ترى في الشراء؟ فقال علیه السلام: أرى أنه لك إن لم يفعل، وإن جاء بالمال للوقت فرد عليه). الكافي ج 5 ص 172 الفقيه ج 3 ص 128
5- (قلت لأبي عبد الله علیه السلام: رجل كان له على رجل دراهم من ثمن غنم اشتراها منه فأتى الطالب المطلوب يتقاضاه فقال له المطلوب : أبيعك هذا الغنم بدراهمك التي ذلك عندي فرضي قال علیه السلام: لا بأس بذلك). الوسائل باب 12 من أبواب السلف: 3 و 5 .

وأما ما أورد على هذا الجواز استناداً على روايتي خبر بن الحجاج(1)وخبر عبد الصمد بن بشير(2) فإنهما محمولان على ما يطابق الكراهية.

للفرق الكثير بين أدلة القول بالجواز والقول بعدمه الضعيف، وهو كذلك.

فلا وجه إذن للقول بسد الذرائع.

8- وأما منعهم عن تضمين الصناع مما وقع بينهم وبين مخالفيهم من الآخرين إذا توازنت السلع حقيقة أو اعتباراً مادياً أو معنويا كمياً أو كيفيا أو محلياً، أو ما اختلف موضع عرضها، أو مع قلة العرض وكثرة الطلب، أو بالعكس، أو اختلفت هذه السلع بما ليس على إطلاقه أو إطلاق عدمه.

فإنه لا يمكن أن يصدر الحكم بالتضمين أو عدمه عن طريق (سد الذرائع) أو تركه كيفما يكون الأمر من التخرصات والظنون المنهي عن الإعتداد بها ما دامت

ص: 169


1- قال: (سألت أبا عبد الله علیه السلام: عن رجل بعته طعاماً بتأخير إلى أجل مسمى فلما حل الأجل أخذته بدراهمي فقال : ليس عندي دراهم و لكن عندي طعام فاشتره مني قال علیه السلام لا تشتره منه فإنه لا خير فيه). الوسائل باب 12 من أبواب السلف: 3 و 5.
2- قال: (سأله محمد بن القاسم الحناط فقال أصلحك الله أبيع الطعام من الرجل: إلى أجل فأجيء و قد تغير الطعام من سعره فيقول: ليس عندي دراهم قال خذ منه بسعر يوم قال: أفهم أصلحك الله إنه طعامي الذي اشتراه مني قال علیه السلام: تأخذ منه حتى يبيعه ويعطيك قال: أرغم الله أنفي رخص لي فرددت عليه فشدد علي). الوسائل باب 12 من أبواب السلف: 5.

أبواب شرع الله مشرعة لكل وارد يروي ضمأه من عذب ماءه.

بشرط أن لا تكون تلك السلع المصنوعة مزورة أو مغشوشة أو خاضعة لخيار الغبن ونحوه، أو مما يلحق بالاحتكاريات - المبالغ في علو أسعارها - مع الحاجة إليها كالأدوية الملحقة عرفاً اجتماعياً في الحاجة الماسة إلى تسهيل أمرها بالسلع الغذائية المخصوصة.

وإن استعان الشرع ببعض أهل العرف السوقيين المحنكين إن قبل تشخيصهم ولو بالتخمين الأعدل من غيره، أو الأقل ضرراً إن تسومح فيه عرفاً مع الحاجة الماسة إليه .

ومادامت تصرفات بعض أهل الإفتاءات العقلية المحفوفة ببعض المغريات متطرفة عن مباني الشرع.

فالعدالة الأقوم - أو ما يقرب منها في الأسعار والقيم أو ذوات المصنوعات التي تخضع لتضمين الصناع إذا كان سببها أدوات الصناعة دون الصناع أو سهوهم المتسامح فيه عرفاً أو ما يسببه المناخ لفصول السنة -

هي المختلفة عن تعمد التزوير والغش ونحوهما تبعاً لنصوص الكتاب والسنة وظواهرهما وسيرة المتشرعة المستمرة والإجماعات والآراء المحمودة والعقل المستقل المرتبط بالأدلة الإرشادية.

ولو قدر الذين يتمسكون لحل هذه المسألة ب- (سد الذرائع) لما جاهرهم المخالفون لهم في ذلك، وباب الشرع لم توصد بعد يوماً في عموم وإطلاق وخصوص وقيود مبانيها.

فإِنَّ التوازن الذي يمنع عن تضمين الصناع أو عدمه لم يقبل ممن يفترضه في المقام، كي يمنع التضمين جماعة كما يهوون، ولو بالتوازن الشكلي في المكيال والميزان والعدد المصنوع والقيم، وإن كانت مزورة أو مغشوشة أو خاضعة لأحد

ص: 170

الخيارات ونحو ذلك ، فلم يقبل منع التضمين.

بينما لو لم تتوازن في بعض الحالات مع سلامتها ذاتياً في صناعتها مع التراضي بين طرفي التعاقد عليها فالضمان حاصل من قبل الصناع مع التعدي والتفريط ولو في الشكليات الزائدة على ذات المادة بما لم يرتض.

9 - وأما قولهم بكون أصل عمل العامل لو كان مشروعاً في ذاته لكنه يصير جارياً مجرى البدعة في نظرهم -

فلا يمكن مساعدتهم على مجرد هذا الإدعاء، بل الإتهام، ما لم يدعم ذلك بدليل معتبر، لوجوب حمل عمل كل مسلم ولو ظاهراً في موارد الشك على الصحة، ما دام أن أصل عمله كان مشروعاً، وأن مقاصد المسلمين في أعمالهم ليست بمسخّرة لألسنة كل من هب ودب من تقولات من يتهمهم من الأعداء.

ومن أقل مصاديق هذه الأمور مشروعية زيارة قبور النبي صلی الله علیه و آله والأولياء المعصومين علیهم السلام وبقية الأولياء والصالحين شهداء ومؤمنين، بل ومسلمين دون المنافقين، وعلى الأخص مع جلالة قدر كل مزور منهم، وقد قال النبي صلی الله علیه و آله بعد نزول قوله تعالى «ألْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرتُمُ الْمَقَابِرَ»(1) قوله المشهور بين الجميع (كُنتُ نَهيتكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ - أي أيام الجاهلية - فَزُورُهَا فَإِنَّهَا تُزَهد في الدُّنْيَا و تذكر؟؟؟ الآخرة)(2)

ص: 171


1- سورة التكاثر / آية 1 و 2.
2- رواه مسلم إلى قوله فزورها ج 4 ص 225 بهامش إرشاد الساري، وهناك أخبار أخرى راجع نفس المصدر. وسنن ابن ماجة ج 245/1 ، وسنن النسائي 286/1 وفي كتاب وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى للعلامة السمهودي الشافعي ذكر ستة عشر حديثاً مسنداً، قد حقق أسانيدها العلامة السبكي الشافعي من كتب أهل السنة في خصوص زيارة النبي صلی الله علیه و اله وقد ورد في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة في كتابه قسم العبادات ص424 ط دار الكتب المصرية سنة 1358ه فتاوى المذاهب الأربعة وتجويزهم لزيارة القبور فليراجع هناك.

فبأي وجه من وجوه (سد الذرائع) تقلب نوايا المسلمين - بل المؤمنين - فوراً إلى كون زياراتهم للمراقد الشّريفة المنصوص على رجحانها بل استحبابها أو تأكده، بل عد ترك زيارة المعصومين كالنبي صلی الله علیه و آله من الجفاء -

عبادة لتلك القبور دون الله تعالى، وإنها عندهم من أهم مصاديق البدع المحققة للشرك، مع ملاحظة تقديسهم لقبورهم الخاصة والمشيدة لرجالهم المخصوصين، وهي كثيرة نحيد عن ذكرها أو بعضها دفعاً لإثارة الفتن.

بل إن كراهة بعض علماءهم للأمور المشروعة خوف أن تكون بدعاً من مجرد الاحتمال لن تقلب أصل الزيارة إلى التحريم، وإنما هو منهم إفتاء بغير علم، وهو غاية الحرمة كما مر التنويه عليه.

10 - وأما قولهم بكون المكلف له طريقان في سلوكه للآخرة، أحدهما أسهل والآخر صعب، فيأخذ بالصعب ويترك الأسهل بناءً على التشديد على النفس، كالذي يجد للطَّهارة مائين ساخناً وبارداً، فيتحرى البارد الشاق بدليل إسباغ الوضوء على المكاره، مع أن فاعل هذا الفعل لم يعط النفس حقها، وخالف دليل رفع الحرج.

ومثل هذا القول الاقتصار على ما يُقال عنه (البشع) في المأكل أو ما يُسمّى ب(الجشب) أيضاً ، والخشن في الملبس من غير ضرورة.

فإنّ ظاهر عملهم الذي يرجحونه على نهج هذين القولين في باب (سد الذرائع) أو (إبطال الحيل) -

إما بترجيح العمل للآخرة والزهد في الدنيا ومحاربة النفس الأمارة، لأنها الجهاد

ص: 172

الأكبر وترويضها على ترك الترف الزائد للإقبال التام قلبا وقالباً على الله مع عدم التقصير في حق أقل ما يجب من الدنيويات المحللة، وبما لا ضرورة فيه إلى ما يخالفه أو المستحبة أو الأزيد من الأشياء المنسجمة مع ما يقتضيه الإقبال على الآخرة -

فهو الذي أكدت عليه الأدلة الوعظية كتاباً وسنة شريفة وغيرهما جمعاً بين حقي الدنيا والآخرة.

وإما بترجيح العمل للدنيا حباً للتّرف مع الضعف في الميل إلى الآخرة، وإهمال جزئي للنفس الأمارة لتأخذ حقها مع أي ضرورة مبرّرة شرعاً لتمتاز الدنيا على الآخرة بدون الوسطية المشار إليها.

فإنه لا وزن لأي عقلية ترجح الترجيح الثاني على الأول.

11 - وأما قولهم عن أمر عمر بن الخطاب في خلافته بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلی الله علیه و اله، لأن الناس كانوا يذهبون إليها فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة إلى غير ذلك.

بادعاءهم في تبريرهم العمل بقاعدة (سد الذرائع) من مجرد خوفه من وقوع الفتنة، كي يفتي بأن بقاء الشجرة - والصلاة عندها إلى القبلة لله تعالى اعتزازاً ببيعتهم المخلصة للنبي صلی الله علیه و آله- بأنه بدعة.

مع أن وجود أمير المؤمنين علي علیه السلام وهو مرجع الجميع في كل معضلة له ولغيره کما مرَّ من كثير الشواهد بين الخاصة والعامة من حيث تشخيص طول الأبعاد النظرية للأشياء المميزة عن قصرها.

وكذلك لماذا لم تهدم أسطوانة أبي لبابة من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الروضة الشريفة، وهي التي يصلى عندها كل زائر ووارد بركعتين بين يدي الله توبة وإنابة.

والخلاصة عن كل ما مضى:-

أنه لا داعي لتضخيم الاعتماد على (سد الذرائع) و (إبطال الحيل).

ص: 173

بل لو يعلم ما على المفتي بإفتاءه بغير علم من الذنوب أخروياً ما تجرأ بأمثال هذه الأمور أحد مخلص الله تعالى في نواياه.

إلى غير هذا مما أوردوه لصالحهم حذراً من الإطالة مع الإجابة التصحيحية له لئلا نخرج عن طور المسألة العقلية المقصودة.

خلاصة الكلام عن حجية العقل اللبي

قد بينا في ما مضى أنه لا شك أن العقل له شأنية النعمة الإلهية العظمى أنَّ غير المنتهية على العباد وبالمعاني الثلاثة الماضي ذكرها، بحيث أن (كل ما يحكم به الشرع يحكم به العقل).

أما أن (كل ما يحكم به العقل يحكم به الشرع) فليست دليليته لبياً بمستوى ما يقابل الكتاب وبمستوى ما يقابل السنة من مباحث الألفاظ نصوصاً وظواهر ونحوهما مقابلة الند للند

بل بمستوى خصوص ما تأكد من تقبيح العقل مثلاً (تناول الطعام المضر) تقبيحاً شديداً حتى من دون تبعيته للشرع، وإن شابه حكمه في ذلك، ولولا ذلك لم يكن هذا الحكم منه من المستقلات العقلية ،المقبولة، أو أرشدت إلى قبول تعقلاته المستقلة بعض أدلته الإرشادية.

لكن يمكن أن نقول بأن هذا الحكم من العقل ليس على إطلاقه، حيث لا يحكم العقل بقبح (كل طعام مضر)، حتى الذي في ضرره منفعة أهم، إذ لو كان في تحمل الضرر منفعة عقلائية أهم لم يستقل العقل بقبحه، لأن في ذلك مصلحة تزيحه كبعض الأدوية المكروهة مذاقاً والنافعة بالنتيجة أو فيها سم غير قتال.

كما وأنَّ الشَّرع يمضى له ذلك، ومن جهة خصوص لبيته، فلا يجوز عقلاً قبول التضرر، إذا كان من قبيل القدر المتيقن منه الموت أو تعطيل عضو، عدا ما يقتضيه

ص: 174

من الغرض العقلائي كالجهاد.

لا حجيّة في قول المؤرخ إلا في الجملة من حيث المنقول والمعقول

لا يخفى أنه بعد إثبات وجود المنافقين ممن دخلوا في الدين الإسلامي لأجل محاربته بحجة واهية، وأخرى تحججية دون الإيمان به، ومنهم الملفقين للأحداث ومضامينها المعنوية عقيدة وعملاً، وزج الإسرائيليات في البين، أو نقل الفضائل لصالح الأعداء كالأمويين لقاء الأموال الطائلة، أو نسبة الذم المنقول إلى حضرة النبي صلی الله علیه و آله وأهل بيته علیهم السلام وأتباعهم.

وبعد منع تدوين الحديث من قبل الخلفاء (الأول والثاني والثالث) بحجة الخوف من ترتيب آثار مساواته بالقرآن وآياته الشريفة.

وخطورة هذا الأمر حينما كانت هناك صلة خاصة ل- (كعب الأحبار) التابعي المعروف بنقل الكثير من الأحاديث مع المروج له الصحابي (أبو هريرة) في النقل عنه.

وبعد تجاوز الخليفة الثاني على عقل النبي صلی الله علیه و آله بعبارة (دعوه إنه يهجر فقد غلبه الوجع)(1) ۔

لا يمكن تصديق كل ما يقوله المؤرخون في كل المجالات ومن مكدسات الكتب الحديثية كالبخاري وأمثاله، وأخذت للأسف بعض الأحداث التأريخية حتى في بعض موسوعاتنا الشيعية من هذه المصادر وأضرابها بحجة شهرتها، وأن عالمهم لا

ص: 175


1- مسند الإمام أحمد، ج 1، ص 355 ، صحيح البخاري ج: 4 ص : 1612، باب 78 باب مرض النبي صلی الله علیه و آله وفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض (قوموا عني).

يخفى عليه القاعدة المعروفة (رب مشهور لا أصل له).

وإن كان من غرض نقل الكثير أو الأكثر منها ليس للإعتزاز بنقل هذه المنقولات المشهورة والمستضعفة من موسوعاتنا، بل لإطلاع أهل العلم من المنصفين جميعاً أن يتأملوا في اطلاعهم على التناقضات والدس والزيف المفضوح في النقول ويرتبوا الأثر المكافح لما يجري على المسلمين.

إذ لابد أن يتوصل إلى القواعد الرجالية المعتبرة عند الجميع، وكذا قواعد الحديث وعلى نهج الأصول الفقهيّة، ليعزل الحق عن الباطل.

ولذا لا حجية في قضايا المنقول المخلوط بين التأريخ والسيرة النبوية المحتاجة إلى الاعتبار بها عقيدة وعملاً بعد التصفية المنصفة أو القبول في بعض الأحوال إلا في الجملة.

ص: 176

الباب السابع : بحوث الحجة

الحجة الأصولية بين آيات الله وسنة النبي والعترة الأطياب وبين الإجماع وعقول ذوي المعقول من أولي الألباب

لا شك أن الحقيقة التي يجب أو يلزم التمسك بها في حياة المكلفين من بني البشر بعد التعرف عليها - في أمورهم التصورية والتصديقية والضرورية والنظرية بين أهل اللسان ومن استقر لديهم ما قد حمله الجنان باطمئنان، سواء في الأمور الواقعية أو الظّاهرية بما لا يختلف فيه اثنان.

ولما منحه الله في البشر من التكريم دون بقية المخلوقات بالعقل السليم، حتى لو ابتعدوا عن مبادى شرائع السماء فردياً أو اجتماعياً في بعض الأحوال ببغض أو كراهية، ومن ذلك ما أخذ من المنقول أو تمسك به من المعقول بعفوية -

هي التي تسمى في علم المنطق ب- (البرهان).

وقد عاش الناس قبل إرسال الرسل وبعثة الأنبياء في جملة منهم حينما خلوا وطباعهم بدون المغريات الشيطانية ونحوها على ما يرام لو طبقت قواعد هذا العلم على أحسن وجه.

إلا أن قرناء السوء من (إبليس والدنيا والنفس والهوى) لم يمهلوا بني البشر وطبيعي طباعهم فضلاً عن تطبعاتهم.

مما قد أحوجهم إلى التسديد الإلهي بأرسال الرسل وبعثة الأنبياء من حملة خير

ص: 177

المعقول والمنقول بدون أن يكون للعلمانيين وأهل الشذوذ السلوكي المنفلت أي مجال للتمسك بأية شبهة أو سفسطائية قد تشبه بعض تلك القواعد ببعض الشبهات بلا حجة تامة مقبولة.

مما دعي إلى تسديد هذا العلم بإضافات أو تعديلات لتكون صالحة لاصطلاحات خاصة أو أخص، سميت بعلم (الأصول الفقهية).

وقد أطّرت الحجة لها بأطرها الخاصة فيما بين مباحث الألفاظ القرآنية وألفاظ السنة وروايات العترة الطاهرة علیهم السلام ومباحث الأمور اللبية من الإجماع والعقل والأصول العمليّة المقرّرة للشاك في مقام العمل.

ولأجل الخوض في المقام حيث مورد الحاجة ومن أجل الابتلاء بتعدد المذاهب الإسلامية وتشتت الآراء الأصولية بين المدونين لها من تلك المذاهب كل بحسبه وتطرف بعضها في المنقول والمعقول لابد من أن نقول:-

مواطن الحاجة إلى ما يستحق من الاحتجاج به من الموارد اللفظية

تقديم:

لم يستغن الأصوليون المدققون الحريصون يوماً في شتى بحوثهم النافعة المختلفة قديماً وحديثاً عن شيء علمي أو على الأخص العلمي العملي إذا بدت لهم بوادر الوصول إليه بمثل ما احتاجوا أو يحتاجون إليه في طول أزمنة التكاليف الشرعية وأدلتها لهم وللآخرين حتى لخصوص تلك النظرية اللفظية منها إن انغلقت عن بعضهم في البداية بعض الأبواب، ولو ليستثمر من يتلوهم من الباحثين الآخرين ممن تؤتى تلك الأدلة - لهم من بركات مساعيهم المخلصة - أكلها عملياً، ولو بعد حين بإذن الله من الأمور المحتاجة إلى تثبيت أو تثبت وإثبات الحجية لها ولو تبركاً بمضمون

ص: 178

قوله تعالى «وَالَّذينَ جاهَدوا فينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا ۚ وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنينَ»(1)

وعلى الأخص لو ركزنا على بحور مضامين قوله أيضاً معه «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ».

سواء في الأمور النصية - حسب مستواها الخاص بها عند توفرها وبما لا يمكن أن يقاومها من ظواهر الأدلة المخالفة مقاوم، لأن مقامها مقام الحجة الأقوم لو بدت غير مأيدة -

أو الظاهرية حسب مستواها الخاص بها عند عدم توفر النصية المخالفة لهذه الظَّاهرية، لضعف الظاهرية أمامها لو توفّرت أو تعين الظاهرية لو قلت أو انعدمت النصية.

أو كانت النصية مع الظاهرية لو لم تبتعد عنها كلياً في توافق تفصيلي أو حتّى إجمالي ولو كأساس مهم، ليكون معه عاملاً مساعداً أو الأقل لتوحده في المقام كأخبار الآحاد وبعض توابع مباحث الألفاظ وما تضمنته الروايات التعليمية التي بينها الأئمة علیهم السلام لحواريهم حتى تجاه أضعف الطرق الصحيحة لو توحدت في الميدان بالبقاء عليها، تجنباً عن الوقوع في مخاطر التشريعات التي لا مدرك شرعي لها مما في مقبولة عمر بن حنظلة(2) وغيرها مما ستأتي وكما سبق من بعض التفاصيل الموضحة

ص: 179


1- سورة العنكبوت / آية 69.
2- عن عمرو بن حنظلة قال: (سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة؛ أيحل ذلك؟ فقال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطَّاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: «يُريدونَ أَن يَتَحاكَموا إِلَى الطّاغوتِ وَ قَد أُمِروا أَن يَكفُروا بِهِ» قلت فكيف يصنعان؟ قال: ينظران (إلى) من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد والراد علينا الراد على الله ، وهو على حد الشرك بالله). الوسائل 18 / 98 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

أكثر.

مناشئ القوة والضعف في الإستدلال للحجية

اشارة

اهتم المنطقيون قبل الأصوليين من أصحاب الخدمات الجلى لكل العلوم وعلى أساس من براءة للمستقيمين من مسلميهم في عقولهم والمعتدلين من عقلاء الآخرين و من تلك العلوم التدقيقات الفلسفية النافعة في باب توحيد الله تعالى المعبود جل وعلا سعياً منهم لتكوين شيء حتى لو كان أقل ما يمكن أن يحقق به الاعتذار الفردي والجماعي من أنواع أثقال المسؤولية الشرعية على المكلفين بعد دقائق الاعتقاد الحقة قاطبة مما حملته أو تحمله المدارك اللفظية التي لابد أن يحاسبوا عليها وبمستوى ما قد ينسجم معه وعليه ذوق العقل المنطقي والأدبي والأصولي والشرعي في مباحث ألفاظ الجميع مادامت قاعدة الإمكان هي السائدة في الميدان مع الارتباط المستمر بما قاله تعالى «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى»(1)

ولكن لما كان الشرع المستقل - في لوازمه الأصولية الخاصة كمنطق خاص له لا كالمنطق العام - قد يختلف عن العقل المستقل في تقيد الأول وهو الشَّرع أو فقل العقل الشرعي بتدقيقاته الإرفاقية وملاحظاته الإمتنانية عن طريق أهل العرف.

وتقيد الثاني بتدقيقاته الفلسفية على ما يحدّده علم المنطق الحر وغيره المقيد بشيء، وإن نجحت طرق المسلمين المنطقية الاعتقادية الصحيحة مع من أيدهم أو

ص: 180


1- سورة النجم / آية 39.

اهتدى معهم وبما وافق عليه الشرع قلباً ولساناً، وهو ما لا تتحمله تلك الإرفاقيات الإلهية وفقهها الشرعي الإمتناني العظيم على العباد والمختلف في طرقه عن طرق الإعتقاديات بما لا حرج فيه ولا عسر غير متحمل يعتريه، على ما أوضحته أدلة نفي العسر والحرج كثيراً في مواقعها من التفاصيل -

فقد أوكل الشرع الشريف - كما أشرنا - أمور التشخيصات هذه إلى العقل الأصولي العرفي في الأمور الكلية عند التعامل مع الأدلة المناسبة للإستنباط، وعند تطبيق قواعدها المناسبة له وفي الأمور الجزئية كذلك في مرحلة اليأس عن التشخيص الاجتهادي الجامع لها عن بعض الأدلة -

باللجوء إلى أهل العرف قبل مراجعة معاني الألفاظ من قواميسها بدل تلك الدقة الفلسفية التي كثيراً ما لا تطاق في أثقالها العملية إلا بما يمضيه الشرع لقرارات ذوي عقولها الدقيّة العائدة لأرباب صنوف علومها الأخرى النافعة عند الحاجة إلى بعض قراراتهم كالطبية في مواردها وغيرها مما يصح أو ينجح الإمضاء له من التدقيقات.

فذكر الأصوليون ما يحدّد جوانب المسؤوليات الخاصة بما حضوا أنفسهم به، بل بما قيدتهم تعليمات الأئمة علیهم السلام به ، ثم توسعت إلى ما قد نجح بأيديهم من ذلك ما نجح من أدناها، وهي الأمور التي لم يصرح يوماً بالردع الشرعي عنها في المظان المألوفة من الجوامع والمجامع إلى أعلاها مع استفراغ المستفرغين لوسعهم من الأساطين في هذا المجال عموماً وخصوصاً، وبما يحقق الاعتذار عن المزيد من التكلف بها وإلى ما لابد أن تبرء بسببه الذمة.

بل وحتى وصول العباد إلى ما به تمام الطاعة والتسليم لله تعالى وشرعه ولو ظاهراً حسبما عرفناه من مجمل نفي العسر والحرج الثابتين وحرمة التكليف بما لا يطاق مع بيان الشرع بما يكفي حتى نزل في يوم الغدير قوله تعالى «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ

ص: 181

لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»(1).

حتى ظهرت الآثار الشريفة عن الأئمة علیهم السلام مما لابد أن يكفي في هذه الغيبة الكبرى قبل بزوغ شمس آل محمد صلی الله علیه و آله من الاجتهادات الصحيحة حتى صح أن يقال عقيدة وعملاً ب- (قبح العقاب بلا بيان) للعدل الإلهي الثابت بتوفير كافة وسائل البيان الوافي والمعذر.

فذكروا محددات المسؤولية بأنها (العلم) و (القطع) و (العلمي) و(الظَّن) و (الشَّك)، وما يناط ببعض حالاته من المسؤوليات، وكذا ( الجهل)، ومنه ما فسر ب- (الوهم) وأجمعها التي تحوجنا إلى شيء من التفصيل تباعاً.

الأول(العلم)

قد يطلق العلم في الأصول ويراد منه (اليقين)، وهو ما لا يحتمل فيه الخلاف كالتصديقي المراد به الإذعان للنسبة إذا ثبت عمليا، والتصوري البديهي الذي لا يختلف فيه اثنان، سواء في الآيات أو الروايات في نصوصها، بل وظواهرها وجملها ومفرداتها إذا تحقق عن طريق هذا النوع الاستدلالي من العلم ما تثبت به الحجية الكاملة على التكليف سلباً أو إيجاباً.

وقد يطلق ويراد منه (اليقين) بمعناه غير الاصطلاحي، وهو الذي التزم به الفقهاء الأصوليون في باب تطبيقات الاستصحاب، ومنه ما بني منه على أساس روايات (لا تنقض اليقين بالشك)(2) وغيرها في بابه، وغيره في العلم والعلمي

ص: 182


1- سورة المائدة / آية 3.
2- الكافي 3 : 351، باب السهو في الثلاث والأربع ح 3 ، وسائل الشيعة 8 : 216، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل في الصلاة، الباب 10ح 3 .

وغيرهما من كل ما يثبت من الأدلة للظن أي اعتبار عملي راجح على الشك، ومن الشك بعد الفراغ وقاعدة التجاوز.

وإن افترض أن هذا النوع أيضاً مما قد يتبدل فيه رأي المجتهد من جهة معنى اليقين الذي لا تتبدل حقيقته كما حددناه في الاصطلاح - وعلى الأخص إذا كانت الأدلة المتوفّرة من النصوص المتعارف في كونها واضحة الدلالة لا تحتاج فنياً في العادة إلى أي تكليف أو تكلف اجتهادي -

فإنما هو من جهة بعض المباني الأصولية الخاضعة للتغير الصناعي في بعض الحالات من قبل بعض أهل الحداثة وإن حسن قصد بعضهم.

ولكنا كنا قد قلنا في الجزء الأول بما يصلح أن يكون جواباً مفصلاً على هذا الاقتراض، وهو أنَّ الفقاهة الحقيقية في واقعها قد تغلب بعض الصناعيات الأصولية المستحدثة والتي لا طائل تحتها أو تحت بعضها، لأهمية الثوابت العائدة لتلك الفقاهة وبما لا يمكن المناقشة فيها.

ومع ذلك إن ظهر شيء من بعض التغيرات الفتوائية - بين ما يظهر من المباني الأصولية الغريبة وبين مباني الثوابت الفقهية المعلومة - وأمكن الاحتياط النوعي وبما لا يخل بأساسيات تلك الثوابت المعتز بها -

فعليه أن يبنى مع الإمكان على أحوط الاستنتاجين، وبالأخص في الأدلة التطابقية مع الفقهيات وكان المبنى الأصولي غير صريح في تطرفه.

الثَّاني: العلم مع القطع ، أم القطع العلمي، أم الأقل أيضاً؟

وقد يطلق هذا اللفظ وهو العلم بمعنى العلم الخاص الذي ذكرناه وهو ينقسم إلى تفصيلي وإجمالي:-

والإجمالي هو الذي مجاريه الأصولية الأربعة المعروفة وأمور أخرى، وموقعه في

ص: 183

أمور سبقت، والجزء الأخير لدورة كتابنا هذا (مساعي الوصول).

والتفصيلي موقع بحوثه هذه البحوث الحالية.

والعلم العام: الذي يدخل فيه (العلمي) الآتي وحتى ما هو الأدنى مما استقر عليه الأصوليون على الأخذ به في الشرعيات التي وافقت عليها أدلتها عند وصول الاجتهاد فيها إلى الدرجة الفتوائية المأكّدة حين حصول بعض الانسدادات.

ولكن قد يراد منه عندهم حتى ما اصطلح عليه عند العقلاء بما يأدي إلى معنى (القطع) الآتي ما يخصه بصورة أكثر في الخلاصة تحت عنوان (زبدة مخض ما مضى).

ولكن هذا المعنى مع هذا التفاوت بين النظر الأصولي وبين العقلائي والتدرك (القطعي) في أصول المتشرعة نحو النزول عند المقارنة لكل المراتب وإن وصلت درجة الاجتهاد الفقهي الأصولي إلى مرتبة (القطع) الذي ينزل حتى إلى ما دون مرتبة (العلمي) من المعتبرات الظنية المحكمة الآتية بقرائنها .

وهذا ما قد لا يتناسب مع ما يقع من (القطع) الموحد في معناه بين العقلاء، وإن بولغ في معناه عندهم بأنه الجازم، وهو ما يختلف عند التفاوت التدركي المذكور نحو أريحيات المتشرعة المسايرين تعبداً بأدلتهم الإرفاقية الشريفة.

بينما العقلاء لو يسايرون دائماً فيما يستقرون عليه من المعنى الخاص عندهم وباستقلال عن المتشرعة ومداركها -

لغير المتتبعون الحاذقون الكثير من إخفاقاتهم المستقلة في قراراتهم التي نتيجتها أنها غير جازمة.

ولأجل ردء الصدع بل جمع الشمل جهد الإمكان بين ما صح أو يصح من قرارات العقلاء عن مصاديق (القطع الجازم) -

وبين ما يقوله أصوليوا المتشرعة واحتراماً لموارد التلافي بين الجانبين -

يلزم تطبيق ما قرّر في الأصول من أمور يحرز منها الأخذ بالقطع وأنه الجازم

ص: 184

الذي يحتج به وهي:-

1 - اعتبار القطع في الأحكام الشرعية تعليقي على عدم ثبوت الردع من الشارع المقدس، وقد ورد الردع عنه كما عنه كما عن أبي مريم قال (قال : أبو جعفر علیه السلام لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: "شرقا وغربا فلا تجدان علماً صحيحاً إلا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت")(1)، وقولهم علیه السلام ضد بعض الآخرين (دَعُوا مَا وَافَقَ الْقَوْمَ فَإِنَّ الرُّشْدَ فِي خِلَافِهِم)(2) ونحوهما مما لابد أن يصح القطع التابع لهما إن صح اطلاق القطع على العلم.

2 - تقيد الأحكام الشرعية بقيود خاصة بها ولو مع التقاءها بالقطع الحاصل بها بنتيجة التقييد، وإن حصل من مبادئ خاصة دون مطلق ما يوجب حصوله، لاختلاف مبادئ القطع الخاصة عند موردي الإلتقاء بالنتيجة بينه وبين تقيدات الأحكام، وهذا كالسابق.

3 - إن المراد بالقطع في كلماتهم مطلق الاطمئنان لا القطع الاصطلاحي، وهذا الاطمئنان الذي التزموا به لابد أن يكون هو معنى القطع الجازم الذي لا يتزلزل في نفس القاطع، ولكن على ما يتلاءم مع مذاق الشرع، لا كل ما تطمئن به النفس العقلائية من هنا وهناك ويجزم قد ينقطع، حيث قد يكون قطع بوجود مقتضي لكن لم يُعضد بعدم المانع إلا مع عدم الردع.

4 - إن مرادهم من عدم اعتبار القطع الحاصل من العقليات هو عدم اعتبار قاعدة الملازمة بين العقل والشرع والرد عليها مع وجود التفاوت بين العقل المستقل - ومطلق مشاربه المختلفة - وغير المستقل الأقرب إلى المذاق الشرعي، وإن كان

ص: 185


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 ص 399.
2- أصول الكافي "خطبة الكتاب " ص 8 ، الوسائل ج8 ص 18.

المستقل منه ما يمضيه له الشرع من أفكاره ولو في النتيجة، لكن ليس كل بواقيه، للفرق بين العرفيات الشرعية والدقيات العقلية الفلسفية -

فلابد أن يقال في الملازمة للتصحيح (كل ما يحكم به الشرع يحكم به العقل ولو تعبداً) و(بعض ما يحكم به العقل يحكم به الشرع) لا غير ذلك، على ما أوضحناه في هذه الوجوه الاشتراطية للقطع المأخوذ به، وإن كان بعض هذه الوجوه قابلة للنقاش فيها ولو في الجملة كالأول.

وعليه فلا يمكن الأخذ بكل حالات القطع على نحو الإطلاق بدون ما ذكرنا، فضلا عن الأخذ بقطع القطاع وبهذه السهولة، لأن حالته التي هي في مقابل الوسواسي الذي لا يحصل له القطع بشيء من الأسباب المألوفة لحصول القطع عند متعارف الناس

وهو أيضاً ملوم عندهم بل شرعاً كذلك لما في صحيحة ابن سنان قال (ذكرت لأبي عبد الله علیه السلام رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت هو رجل عاقل، فقال: أبو عبد الله علیه السلام وأي عقل له وهو يطيع الشيطان، فقلت له وكيف يطيع الشيطان فقال علیه السلام سله هذا الذي يأتيه من أي شيء هو فإنه يقول لك من عمل الشيطان)(1).

فلابد من التّحفظ عن الاستعجال وباتِّباع ما يلزم من الشرائط لصالح الشرع.

نعم إذا كان القاطع الجازم بشيء في أمر بلا مبالغة منه في قطعه العادي والخالي من الموانع الماضية ومن القطاعية المردودة ظاهراً، لوجود بعض المناقشات في بعضها، وإنما جازميته في قطعه كانت بسبب عدم انحصار علمه في تشخيص الحكم بمجرد هذا القطع العقلائي حتى مع اعتياديّته وإنما بإضافة الجازمية التي جاءت من جوانب أخرى من المقويات الإستدلالية الأخرى وإن تعددت مع تداركها بمصاحبته

ص: 186


1- الوسائل الجزء ،1، باب 10 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 1.

ولو صدفة.

وإن كانت تلك الأخرى مما لا يستهان ببعضها في وضوحها المريح ظاهراً فلا منع من المطاوعة ولو في الطريق، لأهمية التلاقي بين العقل والشرع إلا أن هذا قد لا يتناسب مع الواضحات من النصوص التي لم يصطلح عليها أنها لوضوح معانيها وقوة مصادرها مما يمكن أن يجتهد فيها، لتوقف صحة الاجتهاد على لزوم سبق التفاوت النظري ولو بما يزيد على الاحتمال الواحد بين المجتهدين.

ولذلك لم يؤلف هذا الاصطلاح في أمور الواضحات النصية مما قد يتصوره البعض غفلة عن الحقيقة البينة إلا عن كثرة اشتباه القطاعين - إن أدخلناهم في البين أو حتّى القاطعين الجازمين في قطعهم بالنصوص اجتهادا إذا تفاوت بعضهم عن بعض كذلك لو لم تحرز الوجوه الماضية منقحة معهم، لأنه لا ينتظر من هؤلاء سوى صرف المطاوعة لكفاءة النّص وحده في الدلالة واختلافه عن الظاهر وحالاته التي قد تكون بطيئة في الدلالة إلا أن تحصر كثرة تفاوتات هؤلاء من ذوي القطع الطبيعي الجازم للتأمل في ضوابط مبانيها بكونها تامة الطبيعة أم لا؟ -

ورضينا قواعدياً بما ضبطت أمورهم فيه من تلك الاجتهادات لكن في خصوص أدلة الظواهر مما دون النصوص الواضحة ولو ليفسر القطع بما يلائم حالاته مع (العلمي) الذي سبق أن أشرنا إلى شيء عنه مع القطع الطبيعي وكما سيأتي الكلام عنه قريباً.

بل لم ينحصر أمر هذا القطع في اتساع معناه حتى بما دون (العلمي) من بقية معاني الظواهر التي يجتهد فيها لفظياً وفي توابع الألفاظ أيضاً ولو عن طريق التصرف الفعلي المقبول شرعاً.

وعلى فرض إيجاد الأصوليين الصناعيين بعض طرق اعتيادية إضافية، للحاجة إليها باللجوء إليها عند التفاوت النظري والعملي بين بعض المجتهدين في بعض

ص: 187

النصوص التي لم تتضح عند غيرنا من السائرين على غير خط أهل البيت علیهم السلام-

فهو غير مقبول قطعاً وبأكثر من حالة الافتراض السابق عند الكلام عن (العلم) وهو أول المحددات إلا بالتنزل دون التنازل لغرض العلاج الجهادي لتصحيح أخطاء الآخرين ممن فيهم سلامة الذات من غيرنا هداهم الله إلى المزيد في بعض التفاوتات بيننا نحن الإمامية ومعنا من عاضدنا من الآخرين -

وبين من يتفاوت معنا منهم في مسائل تأويلات بعض النصوص الأحكامية أو تفسيرها من الآيات التي لا تصح في ثوابتنا إلا عن تأويل أئمتنا علیه السلام وتفسيرهم عن طرقهم السليمة من الوضع والتلفيق.

وكذا النصوص الحديثية التي لم يقبل منها بعد ضبط أسانيدها بخيار الرجال من ثقاة الوسائل الرواة وخيار مضامين الروايات بأعالي الدرايات، إلا بما يتم توجيهه عند الحاجة إلى التوجيه عن أئمتنا علیهم السلام البادية من حواريهم وإن كانت تلك المرويات النصية قد جاءت من المتواترات بيننا وبين ثقات الآخرين أو من معتبرات خصوص الآخرين، وقد تلاقت وبوئام تام مع رواياتنا الخاصة وبما يعادل مستوى النصوص وكذا مستوى الظواهر مما كان الأدنى مما يحتاج إلى أئمتنا علیهم السلام من التفسير وهو ما سبب هداية الكثيرين من طول الزمان وعرضه للإستبصار.

فالقطع الجازم في بعض النصوص من الآيات والروايات مع وضوح نصوصها يبقى خالياً من الاجتهاد فيها مع الحفاظ على هذا الوضوح، لأنه وحده حجة على القاطع ما دام مأخوذاً من خيرة طرقه، بحيث لا تأثير على أحقية جانب النصية البارزة في المصدرين الشريفين ومدى فعاليتهما المأثرة عن العترة المطهرة ومما أودع من أنباءه المفصلة وبإسهاب في الأصول الصناعية التي من أهمها ما أتقن من بحوث العلاجات الناصرة لمسلك الحق وأئمة أهل البيت علیهم السلام ، دون أن يتزلزل ويتفاوت قطع عن قطع، حتى لو كان مشوباً ببعض الخلافات المذهبية العنادية غير المخضوع

ص: 188

لها شرعاً حولها إن أنصف صاحبه نفسه وبما لا طائل تحتها، بل لن تجلب للأمة الواحدة إلا الافتراق الضار طول الحياة والبقاء عليه مع القدرة على السعي لمعالجة مشاكله ومكافحتها حرام دائم.

وهذا الإتقان لصالح النصوص هو المراد منه حقيقة التصويب عند الإمامية لا التصويب الذي يقول به الآخرون وبما يتعلق بالأدلة الظاهرية من المصدرين والتي تتفاوت فيها النظريات والاجتهادات حتى عندنا نحن الإمامية وبما يستحق علمياً، وهو المعنى الذي نختلف فيه عن المصوبة من الآخرين.

فإننا في الأدلة الظاهرية نقول بالتخطئة دون التصويب، وهذا بحث نأتي عليه في محله المناسب إن شاء الله .

وقد روى العامة من المصوبة ومنهم البخاري عن النبي صلی الله علیه و اله قوله (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر)(1).

أقول: كيف يقبل معنى الإصابة عند من تتساوى عنده الآراء المتعددة، وبالأخص عند الذين أغلقوا على أنفسهم وعلى غيرهم باب الاجتهاد وتمسكوا بمثل قول النبي صلی الله علیه و اله (اختلاف أمتي رحمة)(2) والمناقش فيها وفي سندها، ورواية (اَصْحابِی کَالنُّجُومِ بِاَیِّهِمْ اِقْتَدَیْتُمْ اهْتَدیْتُمْ)(3)، وهي كالأولى.

ص: 189


1- مسند أحمد 4: 198 حديث عمرو بن العاص.
2- سلسلة الأحاديث الضعيفة ج 1 ص 140 ، الأسرار المرفوعة ص 50 ، الجامع لأحكام القرآن ( تفسير القرطبي) ج 4 ص 151 ، الجامع الصغير للسيوطي ص 24 ، المقاصد الحسنة للسخاوي ص 26 .
3- قال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (ج1 / ص 144 و 145) : موضوع ورواه ابن عبد البر في (جامع العلم) (2 / 91) قال ابن عبد البر : هذا إسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث بن غصين مجهول.
الثالث:(العلمي)

وقد يطلق لفظ العلم أيضاً ويراد به ( العلمي)، لكونه مصطلحاً أصولياً نسب إلى العلم حتى الكامل منه لقربه من معناه المقبول اصطلاحياً في الفقه أيضاً ولو بالاعتبار الشرعي بإضافته إلى ياء النسبة لما سوف يتبين للباحث الأصولي الفقيه عاجلاً أم آجلاً كما عرفت ممن سبق من الأساطين عند التطبيق المصداقي في الأمثلة المترابطة في العلمين المهمين - الفقه والأصول - من مداركهما القرآنية وأحاديث السنة الشريفة بواسطة العترة الطاهرة وما تعاطا معها إيجابياً مما أسداه ثقاة الآخرين عند

ورواه ابن حزم في (الأحكام) (6 / 82) من طريق سلام بن سليم قال حدثنا : الحارث بن غصين عن الأعمش، عن أبي سفيان عن (جابر) مرفوعاً ،به، وقال ابن حزم : هذه رواية ساقطة.

فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما وجدتم في كتاب الله عز وجل فالعمل لكم به لا عذر لكم في تركه، ومالم يكن في كتاب الله عز وجل وكانت في سنة مني فلا عذر لكم في ترك سنتي، وما لم يكن فيه سنة مني فما قال أصحابي فقولوا، فإنما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم، بأيها أخذ اهتدي وبأى أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة.

قيل : يا رسول الله ومن أصحابك؟ قال: أهل بيتي.

(رواه الصدوق رضی الله عنه في معاني الأخبار ص 156 ، قال: حدثني محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفار، عن الحسن بن موسى الخشاب، عن غياث ابن كلوب، عن إسحاق بن عمار، عن جعفر بن محمد عن آبائه علیهم السلام، قال : قال الرسول الله صلی الله علیه و آله ما وجدتم...، ورواه الصفار رحمه الله في بصائر الدرجات 11/1. ونقله في بحار الأنوار 220/2 والاحتجاج، 2، 259).

ص: 190

متابعة هذه الآثار وبالدقة المحكمة المألوفة -

فما وجدوا بل ولن يجد كل باحث متتبع غير ما يقرب من (العلم) ولو بالاعتبار الشرعي لو لم يعثر على شيء من مساعيه عن النصوص المقوية أو المساعدة على صدق المعنى المتاخم لهذا اللفظ إلا بما أعطته تلك الأدلة من مستنبطات ما هو الأخفض من النّص وهو (العلم) الحقيقي أو حتى الأخفض مما يسمى بالمتاخم للعلم أيضاً، وهي بقايا الألفاظ التي يطلق عليها بالظواهر من المدركين أو توابعهما كما مر، وإن كانت رتبتها أقل من ظواهر بعض المتواترات غير النصية إن ارتبطت بعض تكاليفها بها كمعاني ظواهر أخبار الآحاد المحفوفة ببعض القرائن أو كانت تلك الأخبار مستفيضة أو الأخبار الضفاف المجبورة بعمل الأصحاب.

على أنَّ هذا النوع وهو (العلمي) والمستل من عموم واطلاق (العلم) في دقته الحدية النازلة حتى كثيراً عن مستوى (العلم) الكامل حتى مع ضمان اعتباره الشرعي العملي له من المقبولية المذكورة التي له بمستواها في فقهنا وأصولنا داخلياً ونصرنا من نصرنا من ثقاة الآخرين.

بل رضينا بكل حليف منهم لزراعة بذور ما يجمع الشمل مهما أمكن حتّى اتهم الكثير ممن التحق بنا بالتشيع، وإن كان هذا في نفسه من الخير الفائق.

إلا أن حاجتنا الآن وبعد الآن إلى التوسع العملي وبما يزيد على هذا المستوى لتوسعة رقعة الهدايات ولو للرضا بالبحث المشترك عن دقة وسلامة ذات.

فإنَّ بعد هذا النوع من مصاديق (العلمي) في حقيقته من فصيلة الظنون القابلة للتوسع فيها وبما قد ينفع أيضاً في جمع الشمل والتي سيأتي الكلام عنها قريبا جداً.

إلا أنه هنا وبمستواه الخاص تحت ظل عنوان (العلمي) ومما مر غير مقيس على ضعاف الظنون، ولذا أطلق على هذا عنوان (العلمي) وجميع مصاديقه بالظن المعتبر والظَّن المتاخم للعلم والظَّن الخاص تمييزاً له عن تلك الضعاف المجردة للأدلة

ص: 191

المشجعة على الأخذ بها، بل الآمرة بالأخذ بهذه الظنون المعتبرة وبما يفيد النهي عن تركها رغبة تامة بسعة مظانّ الأدلة المتعددة في جوانبها.

إذ لولا هذا النوع من الظَّنون لضاق علماء المسلمين وفقهاءهم ذرعاً لو اقتصروا على خصوص النصوص والمتواترات الواضحة، أو ما كان من الأدلة من خصوص المرتبة الأولى لقلتها والفقه في ابتلاءاته هو كل شؤون الحياة الدنيوية والأخروية، وهو ما دعا الحريصون على توسعة الأصول بما يتلاءم كثيراً جداً مع حاجة الشرع الواسع وسعة حاجات العباد لتلبيتها وإظهار كل المآخذ الميسورة في كل مجال استدلالي صحيح لئلاً يتوهم يوماً بالانسداد العلمي حتى الصغير منه مع الإمكان وإن كثرت الكوارث الطبيعية والمعادية على بعض التراثيات بعد ما أمكن حل بعض أمورها أو كثير منها ببركة مساعي الحريصين.

نعم هناك نواهي وبشدة عن الأخذ بالضعاف التي لم يحقق أمرها.

وإن كان الأمل - مع تيسير ظروفه - ينبغي السعي للتوسعة فيما فيه المجال للحصول عليه تخلصاً من الاجتهاد المتحرّر في مقابل الأدلة الصحيحة.

وسوف نشير الآن إلى بعض ما ينبغي الكلام حول ضعاف الأدلة تحت عنوانها الخاص بها، وهو:-

الرابع:(الظَّن العام أو المطلق)

فبعموم هذا الظَّن وإطلاقه وغيرهما لا شك في أن ينفتح ذهن الباحث الحريص في تتبعه لأول وهلة وبلا استغراب من أن يستدعي أمر كل تفصيل قابل عن ذلك لأن يحتاج إليه في طرق الحياة الشائكة بين الأوراد والأشواك ولو عن شيء من المعنيين وهما القوي والضعيف من العموم والإطلاق في الظن ما دامت صبابة أمل هذا البحث مرجوه جداً مع حسن قصد الباحث الإلهي وإلى حيث النتيجة ولو

ص: 192

بداية بمقدار مختصر عن مظان مدارك كليهما، لمعرفة مدى ما تدلان عليه من السلب أو الإيجاب أو حتى الإيجاب الإجمالي ولو بالمرتبة الأدنى مما سميناه سلفاً ب(العلمي) بعد مرتبة (العلم) الأولى الملحقة به ولو بالاعتبار الخاص.

وهو في مقامه غاية المنى حتى مع قلته لمدى شدة الحاجة إلى هذا المشروع التوسعي المقصود ما دمنا في أمل الثّقة الإيمانية الراسخة ببركات أمثال قوله تعالى «وَالَّذِینَ جَاهَدُوا فِینَا لَنَهدِیَنَّهُم سُبُلَنَا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ»(1).

وعلى الأخص لمألوفية أكثرية النجاحات تجربياً عند محاولات الاجتهادات المتعارفة عن طرقها المراد والمتمنى أن تكون صحيحة بالقصد إليها من البداية، وبالأخص عند مصادفة صيرورة هذا البعض من الكثير أو الأكثر معطياً هذه الصحة المقصودة بالنتيجة وعلى النحو التجريبي المضمون في نجاحه كذلك ومن نفس طرق (الظَّن العام أو المطلق) في المألوفة العملية والتجريبية في نفس الوقت وعلى ضوء المقاصد السليمة، وإن كانت في النظريات البحثية قبل الإعداد الاجتهادي العملي لها ولو تجريبياً في عدم التعود عليها كأنها خارجة موضوعا عن هذا (الظَّن العام أو المطلق) وهي داخلة واقعيا في النتيجة، لأجل عدم البخس في حق الحاجة الواقعية إلى المصداق الناتج من كل منهما إن أمكنت الاستفادة منها بحثيا نظرياً وعمليًا كما ذكرنا بعد الانفتاح الباقي للباحثين في مستقبل أيامهم ولو كان جزئياً بسبب تلك العقبات الكؤود في الطريق ولو كمرتبة ثالثة في عقد الأمل الشرعي الاستدلالي عليها، وبناءً على مستواها من الشرعية للخروج عن الابتداع والتشريع المحرم، ولهذا وغيره قال تعالى «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى»(2)

ص: 193


1- سورة العنكبوت / آية 69
2- سورة النجم / آية 39 - 40

بل لقواعد منها قاعدة الميسور ونحوها، بل قد يدنو طموح الباحث المضطر حتى بناءً على قاعدة الإمكان على الأقل مع التحفظ المذكور عن التجاوزات الممنوعة إذا عثر على أثر مناسب لما يحتاجه بين الأسفاط ما لم يقدر أن يجده فيما بين الأسقاط حتى إلى الأخذ بما يصح من بعض حالات المرتبة الرابعة من (عموم وإطلاق هذا الظَّن) ولو في القضايا التي استقر عليها العقلاء في مرتكزاتهم من مثل الأخذ بما تعارف لديهم من مصاديق ما يخص الإقتضاءيات المقبولة كدلالة البينة، والعدل الواحد مع اليمين، وخبر الثقة، وقول ذي اليد، وتصرف الوكيل في الاستلام والتسليم وإن كان صبياً مميزاً، ودلالة أذان مأذن الراتب على بعض التوقيتات الصلاتية، وما صح أو يصح الأخذ به من بعض حالات المفاهيم الستة، وكل ما يقطع به من تلك المرتكزات المطمئن بها بعد تأكد عدم الردع الشرعي عن أمورها وما يرتبط بأمور الترتب وغير ذلك.

وإن أشير في بعض المرويات عن الأئمة علیهم السلام إلى الإشادة بشأن بعض ما ذكرناه عند من يعتمد عليها في العمل به إلا أن تركيزنا في المقام الرابع على ما يسمح به في باب الاقتضاء وعلى ضوء منهجية العقل غير المستقل، ولو من مضامين ما أصطيد علمائياً من بعض عمومات وإطلاقات بعض الأدلة غير الصريحة.

إذ بمقدار ما دلّ من الكتاب الكريم والسنة الشريفة من النهي الكثير والتشديد فيه عن عموم وإطلاق العمل بالظَّن وعن التفاعل مع ما دون العلم والعلمي إذا ألحق به من الظنيات العامة أو المطلقة، لعدم الفرق بينهما فيه إذا اجتمعا على موحد بالنسبة إلى عموم وإطلاق نواحي المدركين كقوله تعالى «وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»(1) الذي ظاهره التشديد المعنوي - إذا لم يرد منه خصوص علم العقائد - على

ص: 194


1- سورة الإسراء / آية 36

الأخذ بكل ما هو دون العلم حتى عن العلمي.

وكذا القطع المناسب له لو لم يصاحبه الشرط المانع المتوقف حجيته عليه مما ذكر.

وكذا قوله الشبيه بما مر من الآية من عدم الاعتراف المؤكد فيه بغير العلم المأذون فيه وهو قوله تعالى «قُلْ اللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ»(1) وللشك بما دون العلم ولو ظاهراً.

وكذا قوله المسلم فيه خصوص ما نزل على النبي صلی الل علیه و اله من العلم الثابت ولو بلسان التهديد أمام الآخرين مع علمهم بأنه الصادق الأمين حتى يمضون في إيمانهم بما يخبرهم به عن الله تعالى أو لتكبر ثقتهم به لا لإشعارهم بوجود احتمال أن يحصل منه خلاف ذلك كي يحذروا منه، لعصمته المسلمة بآية التطهير وغيرها.

وقد حصل الكثير من هذه الأساليب فقال تعالى «وَ لَوْ تَقُولَ عَلَيْنَا بَعض الأقاويل لأخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِینَ»(2)

وبهذا وجب تصديق النبي صلی الله علیه و آله حينما أكد تعالى صدقه عنه بقوله الآخر «و ما يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إلا وحي يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى»(3)

ولذلك حرم على الجميع الإفتاء أو التصرف بأي نحو لا يناسب مقام النبي صلی الله علیه و اله بقوله تعالى الآخر «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ »(4)، أي في خصوص العلم الذي يأتي من وحي الله وسنة رسوله صلی الله علیه و آله

ص: 195


1- سورة يونس / آية 59
2- سورة الحاقة / آية 44.
3- سورة النجم / آية 3.
4- سورة الحجرات / آية 1

وكذا قوله تعالى «إن نَظُنُّ إِلا ظَنّا»(1) وهو الذي لم يظهر عنه سوى الاستخفاف بكل ظن للأدميين، سوى ما يحدده الشرع لهم من العلم.

وكذا قوله «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً»(2) أي إذا أريد منه عموم الظن وإطلاقه، وأن (من) فيه بمعنى عن أي اتجاه الحق الثابت ما لم يكن مخصصاً بالمتاخم للعلم وكل ما دعم بالدليل المقبول مما دونه.

وقول النبي صلی الله علیه و آله في الحديث المشهور (من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه)(3)، أي بعدم الاعتراف بغير العلم في الإفتاء وإلى ما يوصل إلى تعاسات المصير.

وقوله صلی الله علیه و اله (رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه، والحسد والطّيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلوة ما لم ينطقوا بشفة)(4)، أي إذا أريد الاجتهاد في الفقه عن طريق الظنون فرفع تحذيراً من التشريع غير الشرعي.

وللحديث مجال للتفصيل أكثر ليس هذا محله .

وما ورد في مرفوعة محمد بن خالد عن أبي عبد الله علیه السلام قوله قال: القضاة أربعة ثلاثة في النار، وواحد في الجنة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة)(5)

ص: 196


1- سورة الجاثية / آية 32.
2- سورة يونس / آية 36
3- الوسائل - باب -4 - من أبواب صفات القاضي - ح1
4- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 15 ص 369 .
5- وسائل الشّيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 27 باب4 ح 6.

ثم أقول: إن هذه المرفوعة وإن كانت ضعيفة بالرفع إلا أنها بجبرها بعمل الأصحاب هي كبقية أخواتها التي سبقتها.

وغيرها مما يثبت الحجية للعلم دون الأقل منه -

ولكن دلّت الأدلة الإرفاقية والإمتنانية العامة في المقابل تسهيلاً على العباد فيها لو أغلقت على العلماء - أبان هذه الغيبة الكبرى وما سبقها من الأزمات على الأئمة علیهم السلام من الأعداء - بعض دقائق أبواب العلم صغيراً أو ما قد يزيد.

ومن تلك الأدلة قوله تعالى «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا»(1) وقوله «وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»(2) وقوله «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»(3) وقوله «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ»(4).

وقوله صلی الله علیه و اله في الحديث المعروف (لا ضرر ولا ضرار [على مؤمن] [في الإسلام])(5)، وغيره.

وهو ما قد سهل لنا أمر انفتاح مجال الاستفادة من بعض حالات الظنون لو ضممناها إلى ما سبق من بعض الأدلة المناسبة الأخرى كقولة تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنْ بَعضَ الظَّنِّ إِثْم»(6) وقوله الآخر «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا

ص: 197


1- سورة البقرة/ آية 286
2- سورة الحج / آية 78.
3- سورة البقرة / آية 185.
4- سورة البقرة / آية 173.
5- وسائل الشيعة : ج 17 ص 341 ، ب 12 من أبواب إحياء الموات ح3 و 5، و ص319 باب 5 من أبواب الشفعة ح 1.
6- سورة الحجرات / آية 12.

استَطَعتُم»(1) وقوله الماضي «إنّ الظَّنّ لا يُغني من الْحَقِّ شَيْئًا»(2)، بناءً على كون (من) فيه تبعيضية، أي بعضه لا يغني من الحق شيئاً وبعضه الآخر يكون مغنياً.

وإن كان الرأي الأول في هذه الآية أوضح أدبياً، ولكن يبقى أن نتيجة ما مضى من الاستدراك قد تصل إلى ما يمكن قبوله من معنى الانسداد الصغير بمعونة استفراغ الوسع ونحوه من العلماء وعلى ما سيتضح ما قد يزيد عليه.

وقوله صلی الله علیه و آله في حديث الرفع الماضي إذا صحت دلالته على رفع حرمة الإجتهاد عن طرق العلم التي لم يقدر على تحصيله تاماً منها كبعض حالات الانسداد التي أشرنا إليها ، ولكن لو حصل شيء منه لا فائدة فيه إلا فيما ندر على ما سيتضح.

ذلك.

وهكذا قوله صلی الله علیه و آله من نفس هذا الحديث وهو (و ما اضطروا إليه) وغيره.

وكذا من بعض ما مضى من الإرفاقيات المناسبة للتسهيل والأخذ من الظنيات المقبولة شرعاً سوى ما لم يحتج إليه من ذلک

فإنَّ هذه المجموعة وتلك لابد وأن تمكّن الفقهاء من إظهار الشرعيات الإلهية عن اجتهاداتهم الصحيحة، ومن كل ما يمكن من المراتب النازلة وإلى حد الأصول العملية وإلى حد ما يأتي من مرحلة الشك والجهل وحتّى الوهم من بعض التكاليف المعقولة شرعاً التي ستأتي بعض نماذج من تفاصيلها.

الخامس: خصوص (الظن الضعيف)
اشارة

بعد أن كان الظَّن الضعيف غير مرغوب فيه عند كثير من الفقهاء والأصوليين المتورعين ما دامت أبواب العلم الأخرى مفتوحة لهم من بعض الظنيات المعروفة

ص: 198


1- سورة التغابن / آية 16.
2- سورة يونس / آية 36

بالقوة في مجالها النسبي.

ومع ذلك لا ينبغي لهم - كما لغيرهم - ترك المجاهدة في تحقيق ما يمكن الوصول إليه من بقايا ما يتوقع من هذا الضعيف من الفوائد ما دامت زوايا وخبايا ما لم يتوصل إلى كل أعماقه من مدارك الشريعة الإسلامية حوله مع الحاجة إلى المزيد من البحث.

لعدم انحصار الطاقة الجهادية في خصوص مجاهدات من أشرنا إليهم من علماء الفقه والأصول وأوسعيّة هذه المدارك من أفكارهم قدس سره حتى لو قلت فوائدها لأنه (لا يترك الميسور بالمعسور)(1)، ولكون هذا الظن أقوى من صرف التردد الآتي شرحه.

ثم أننا لم نقصد من هذا الضعيف أنه الخبر القابل لأن يقوى بالجبر أو قوة جبره بعمل الأصحاب أو ما كان خبراً مشاعاً أو مستفيضاً أو كان خبراً مع صحته يحتاج إلى حفّه ببعض القرائن لكونها مرتبطة بما ناسبها سابقاً من الظنون الأقوى وهي أو بعضها ميسورة.

وإنما نقصد به هنا الضعيف صحة سنده لو تجرد كلياً من القرائن وبقي وحيداً في ميدان الحاجة الماسة إليه عملياً، وإن كان طبيعياً في التزام بعض الإمامية على نهجه من دون تقية يضطرون إليها أمام الآخرين، ولا كان مهجوراً أو معرضاً عنه لحكمة مبررة.

وهكذا خبر الواحد الصحيح المجرد من تلك القرائن الطبيعية الإختيارية، ولكن وجوب العمل به على وجه التقية لكون التقية وحدها قرينة مقوية لضعفه المذكور بسبب الاحتكاك المضطر إليه مع الآخرين في مواردها.

فهل من مجال للأخذ بها مع هذا التجرد؟، وهل يجوز التعبد بها أم لا؟

ص: 199


1- غوالي اللئالي - ابن أبي جمهور الأحسائي - ج 4 ص 58.

ويدخل في مقصودنا كذلك حالة معنى الظَّن الذي يختلج في بال المكلف، وإن لم يكن بمستوى الخبر المجرد الوارد، سواء المجتهد أم العامي القادر على تشخيص تكليفه نقلا عن مرجعه مثلاً، إذا ترجح ظنّه زائداً على نصف النسبة المئوية العدمية أو ناقصاً شيئاً عنها كما في الشكوك التسعة الصحيحة أو الباطلة.

فإن جميع الفقهاء - نتيجة لتركيز الأدلة الشريفة على ذلك والتي كان منها أخبار آحاد مجردة من القرائن -

أفتوا بأن حل المشكلة لم يكن إلا بالبناء على ما يحصل من الظن الاعتيادي، لعدم الفائدة من إبقاء النفس على خصوص حالة الشك وهتاك رجحان زائد على الجانب الآخر، وإن كان نوع الشك من الشكوك التّسعة الصحيحة، لورود الظَّن على هذا الشَّك، وهو الأقوى من المناصفة المئوية المحيرة الكاملة.

ولو لم يكن الظن وارداً فيما مضى لوجب الإبقاء على هذه الشكوك الصحيحة، وما اتفقوا عليه من العلاجات لها وعلى بطلان الباطلة من غيرها.

فخلاصة المطلب المراد في البحث عن هذا الظن أمران:-

أولهما: حول خبر الواحد، وإن كان صحيحاً في سنده لو لم يكن مهجوراً بين الأصحاب وغير ذلك من حالات التقية التي لا محل لها إلا عند الاحتكاك مع العامة الخاصين.

وثانيهما: حول معنى الظن المختلج في ذهن المكلف زائداً أو ناقصاً برجحان الأول والثاني على نصف النسبة المئوية الكاملة ومرجّحات الأخذ به دون البقاء على التحير وكان لهذا الثّاني أثر من خبر مروي مثلاً عند بعض من يتلبس بهذا الثاني.

فلنفرض لكل من الحالتين شيئاً غير خال من التفصيل ولو باختصار:-

وقبل البدء ببيان كل منهما لنذكر مقدّمة مختصرة لهما تحت عنوان

ص: 200

(التدرج والتدرك في أمور العلم والعلمي والقطع المصاحب له وما دون ذلك)

بذكرهما كاصطلاحين خاصين لتسهيل فهم المطلب الآني.

فالتدرج لمن يقتصر على الأخذ بالعلم وأعالي الظُّنون بسبب الانسداد المتوسط أو ما يزيد شيئاً.

والتدرك لمن يحتاج إلى ضعافها بسبب الانسداد الكبير أو الأكثر ومنها خبر الواحد المجرد.

وبعد هذه المقدمة نقول:-

أما أولهما : وهو (خبر الواحد الضعيف وإن صح سنده)

فإنّ ما ذكرناه من بعض الأدلة الناهية عن الأخذ تشديداً بغير العلم أو العلمي - وكذا القطع المقبول في الأمر الرابع السابق إن حاولنا تطبيقها أيضاً للاستفادة منها في الأمر الخامس - مع صراحة ما مضى من ذلك البعض الناهي الماضي، بناءً على رأي من يعمل بأخبار الآحاد إذا كانت صحيحة السند، وإن جعلت ضعيفة في نظر من لم يعمل بها إلا بما يحفها من بعض القرائن، مع شمول كلامنا الآتي حتى للضعيف من غير صحيح السند، وهو رابع أصول الحديث المعروفة حتى في المجرد من كل قرينة للتّعرف على وزنه ومثابة العمل به من عدمه.

فإنَّ ما مضى من النواهي الصريحة إن دلت على حصر المقبول من العلم دون ما كان مما هو أخفض منه في خصوص أمور العقائديات دون غيرها -

فهي وأمثالها لا تقع حجر عثرة في مجال الحاجة الماسة إلى العمل بأخبار الآحاد الصحيحة في سندها أيضاً لو توحدت في مجالها التكليفي بين آثار أهل البيت علیهم السلام

ص: 201

والعترة الطاهرة حتى لو خلت من ذلك البعض من القرائن المقوية.

إذ توحدها بين مختلف الأدلة مع الحاجة إليها هما الجاعلان لها قرنية ملحة للعمل بها، لكن بمعنى أنه لم يقابلها مثيلها في الدليلية المضادة كي يتساقطا علمياً فضلاً عن الأقوى.

وبهذا قد يلتقي العامل بأخبار الآحاد لو صح سندها في جميع أموره الاختيارية بسبب بعض الإنسدادات التي أشرنا إليها، وغير العامل بها كذلك مع صحة سندها، وإن انعدمت القرائن الاعتيادية عنها لما ذكرناه من سبب توحدها والحاجة الماسة إليها لئلاً تنعدم نضم الحياة الشرعية حتى مع هذا الأثر الضعيف في بابه، لأنه خير من العدم وكما روي (لا تستحي من إعطاء القليل فإن الحرمان أقل منه)(1)، وعلى الأخص دعم الأدلة الإرفاقية الإمتنانية في الأمر الرابع لما نقوله مع ما ذكرناه من الأدلة أخيراً من الدالة على قبول بعض الظنون دون الجميع.

لكن لا على نحو التساوي في الإلتقاء العملي، إذ كل في مورده.

وأما بناءً على ما قد بنى عليه من كون الأدلة الناهية وبتشديد أنه لا يراد من التركيز على خصوص العلم إلا من جهة كون المراد عنه خصوص القرائن المقوية لضعف كل ضعيف -

فهذا أمر تابع لما يمكن تيسيره عن السعي واستفراغ الوسع، لا خصوص ما يرتبط بمقام الأمر الخامس.

وأما الصحاح المهجورة فهي التي رفضت حتى عند جميع من اعتبرها كذلك، وإن تفاوت بعضهم عن بعض فيما سلف بيانه على عكس من استقر على العمل به من الجميع من بعض الضعاف جبراً لضعفها.

ص: 202


1- بحار الأنوار - المجلسي - ج 93 ص 172 نهج البلاغة رقم 67 من قسم الحكم.

وأما الصحاح المعمول بها على نحو التقية - وكذا الأقل منها في الضعف - فإنّها التي لا وزن لها عند الإمامية في أجوائهم الاختيارية حتى الصحيحة منها أو التي وثقتها أو وثقت الأضعف منها إلا في الأجواء التي شحنت بمعادات بعض المخالفين لهم كأجواءهم الخاصة والتي تطابقت تشديدات الأئمة علیهم السلام إنكاراً على كل من لم يطبق أمور التقية في أجواءهم الخاصة، دون أجواء الخفّة، أو حالات السالبة بانتفاء الموضوع، أو من اجتهادات المتملّقين أو أهل الحداثة والتجديد غير المعالجين، أو من لا يرغب به من بعض المتزلّفين أن يطبق تعاليم الأئمة علیهم السلام المعاكسة في أجواء الحالة العكسية التي منها قولهم علیهم السلام (دعوا ما وافق القوم، فإنَّ الرشد في خلافهم)(1)وغيره.

وأما الضعاف التي هي دون الصحاح في سندها مما مر فهي على رأي من لم يعتبر خصوص صحة السند مقوماً للاعتبار لو كان الاعتبار في كلا الحالتين مبنياً على تقوية الضعف العام بالجبر والقرائن والمطمئنات الأخرى.

فعند تساوي الصحاح والأدون منها في الضعف وعند توحدهما في الحاجة الماسة إليهما أو إلى كل منهما عند اختصاص كل منهما في مجاله، فجاء المقتضي وانتفى المانع ووصل المقام مناسباً لهذا الأمر الخامس لو لم يحصل الردع من الشارع -

فما المانع من عدم العمل به إذا اختص بتكليفي الواجب والحرام.

وأما أمور ما هو الأقل فإن قاعدة (التسامح في أدلة السنن) تسهل لنا ما كان من بعض الأمور.

وأما إذا كان الضعيفان كلاهما يصبان في حوض تكليفي واحد كالواجب وحده أو الحرام وحده فلابد من أن يعود أمرهما إلى ما يخص المقام الرابع مما يشترط فيه

ص: 203


1- أصول الكافي "خطبة الكتاب " ص 8 ، الوسائل ج 8 ص 18.

جبر أحدهما الضعيف، ولو بالآخر منهما حينما يُعد جابراً أو قرينة مقوية بين عرف الفقهاء والأصوليين المحصلين.

لكن يبقى العمل بالخبر المجرد والموحد مشروطاً بأن لا يعارضه خبر مثله، فضلاً عن الأكثر.

وأما ثانيهما: وهو ما حول معنى الظَّن الاختلاجي المجرد من القرينة

لابد أن يرجح اقتضاءيًاً بين العقلاء من مرتكزاتهم كل ما يختلج في أذهانهم من الظَّنون المصاحبة للاطمئنان النفسي وبما يسمى بالاحتمال العقلائي في مجال الزيادة أو النقيصة على كلّ ما لم يثبت من التردد النّصفي الصرف للمائة مساوياً لتلك الظُّنون الراجحة زيادة أو نقيصة.

وهذا الترجيح المستقر بينهم لم يكن مبنياً على أساس الصدق من كلّ منهم وبالنحو الثابت لا غيره من المقاصد المخالفة أخلاقياً، بناءً على كون كل عقل فيهم غير مستقل أو المستقل الذي يمضيه الشارع على ما مر من الكلام عن التحسين والتقبيح العقليين.

فإن كان هذا التعامل تعاملاً عبادياً بين العبد وبين ربه جل وعلا فعلى العبد أن يثبت صدقة وإخلاصه في قراره الظَّنّي الذي رجحه على نسبة الخمسين بالمائة ولو بنسبة ضئيلة من الترجيح فضلاً عن النسبة الأكثر ، لأن وراءه حساب ومسؤولية في عالم التدين والإلتزام الشرعي العبادي.

ولعله إن ثبت التمرد والمراوغة من هذا العبد في هذا القرار ليصل الأمر بعد الانكشاف إلى العقاب الأخروي أو عقوبة الدارين حالة دقة الحساب يوم المآب.

ومن صغريات أمثلة هذا ما سبق ذكره من أمور الشكوك الصحيحة التّسعة والباطلة التي لا تخفي أحكام كل منها على المتفقه في دينة، فضلاً عن المتتبع الوارد

ص: 204

إذا استقر الشَّك في كل منهما في ذهن المكلّف، سواء المقلّد أو المجتهد.

لكن إذا حصل هذا المرجح الظنّي المذكور في مثل الزيادة أو النقيصة وسبب تزلزلاً في الشك السابق منها وجب تقديم هذا المرجّح الوارد وانتفت العلاجيات التي استنبطها الفقهاء من الأدلة التي بوب أمورها أصوليوهم للشكوك التسعة الصحيحة وسقطت الإعادة أو القضاء لبقية الشكوك غير الصحيحة، وتحول الحكم الشرعي لصالح ما يعطيه هذا الترجح من إكمال الزيادة أو إضافة الباقي لما نقص واعتماداً على الإقرار به أيضاً إن حصل ولو ظاهراً بناءً على قاعدة (إقرار العقلاء على أنفسهم جائز)(1)

وهذه القاعدة مع سبق ادعاء المرجح المذكور من كون المكلف یرید أن يعرف حكمه الشرعي وبالأخص لو كان مرجّحه الظَّن من الضعيف المجرد من القرينة وإن اطمئن بكونه أقوى من الشك.

وقد تنفع الفقيه ليعرف مقلده بحكم المسألة أو ليحرج نفسه ليخوض غمار عملياته الاستنباطية بدقة أكثر أن كانت هناك مسببات للتدقيق موضوعاً وحكماً، وبالأخص لو انكشف ما يخالف الجد الادعائي الذي يحوج إلى الإعادة أو القضاء.

ومع هذا وذلك في الظاهر والواقع لابد أن يقدم المرجح الظنّي على حالة كل شك مضاد غير مستقر وإن كان هذا التعامل تعاملاً بين العباد أنفسهم كالدائن والمدين تحت ظل شرع الله تعالى، ومن ذلك أمور الحقوق والواجبات إذا ادعى المرجح الظنّي على الشك.

فلابد أن يتفاوت أمر وجوب التصديق من عدمه تفاوت مراتب الظَّن المتعددة

ص: 205


1- غوالي اللئالي ج 1، ص 223 ، 104 ، وج 2، ص 257، ح ،5، وج3، ص 442، ح5، وسائل الشيعة ج ،16، ص 110 ، أبواب الاقرار باب ،3، ح ،2، مستدرك الوسائل ج 16 ص31، كتاب الإقرار.

وأهمها التي تلتصق بالعلم متاخمة، وهي التي لابد أن تعتمد على الإمارات المثبتة لكل حق مغتصب وعلى ضوء القضاء الشرعي مع الخصومة.

وإن أصر مدعي المرجح الظنّي الضعيف على التعرف على حكمه عنه للنظر فيه فلابد من أن يكون حل المسألة أيضاً عن طريق القضاء الشرعي إن حالف قضيته الحظ في أن تكون البينة الشرعية مثلاً تامة له ومن صالحه كمدعي.

وقد دلّت أدلة كثيرة تبين الفرق بين حق الله العبادي وحق الناس، ومن ذلك الرواية الشريفة المذكورة في مناسبة سابقة (الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب، فأما الظلم الذي لا يغفر، فالشرك بالله، قال الله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ»(1)، وأما الظلم الذي يغفر، فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات، وأما الظلم الذي لا يترك، فظلم العباد بعضهم بعضاً) (2).

أقول: فإنَّ الشَّاهد المناسب في الرواية حول التعامل العبادي بين العبد وبين الله هو الفقرة الوسطى من الرواية، وهي (ظلم العبد لنفسه)، ويظهر التكليف الشرعي فيها نفس ادّعاء مدعي الترجيح ونفس إقرار العقلاء.

وما يظهره الفقيه من الإفتاء المناسب للمقام مع عدم بعض التشديدات لتسهيل هداية الناس ولم تكن من عقوبة إلا بعد الاعتراف بالذنب والمعصية مع بسط اليد الشرعية في استتباب النظام الإسلامي الشرعي في الدنيا.

وأما في الآخرة فقد يسهل الأمر أيضاً وكما قال تعالى «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ»(3) وختمت دنيا المكلّف عن الاستغفار والتوبة والأمانة.

وأما التعامل بين الناس أنفسهم فتعود إليه الفقرة الأخيرة، وهي مورد الحاجات

ص: 206


1- سورة النساء / آية 48.
2- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج 10 ص 33.
3- سورة هود / آية 114.

إلى التدقيقات إذا وصلت الأمور إلى القضاءيات حتى لو نجح جانب الترجيح الظني الإدعائي المجرد بكون القضية من صالحه بمثل إقامته البينة لكون البينة هي المقوية للضعف.

وكذا لو نجح جانب الترجيح الإنكاري عن مثل هذا المستوى من الظَّن الضعيف بسبب تجرده بكون القضية من صالحه لعدم وجود نية المدعي أو صحتها بسبب اليمين الشرعي المقابل، لكون المرجح الإنكاري إذا كان ضعيفا لابد أن يكون ذلك اليمين مقويا له.

بل لابد أن يخضع كل مرجّح ظنّي ضعيفاً كان أم قوياً - وحتى العلم الثابت للادعاء أو الإنكار دفاعاً عن الحق بين الاثنين - إلى اللوازم القضائية الشرعية عند الحاجة إليها.

فالخلاصة: لا مانع من أن يبنى من حيث المبدأ افتراضاً أو حقيقة على كل مرجّح ظنّي إذا كان من فصيلة الأمر الخامس في التعامل العبادي والتعامل بين العباد أنفسهم في قضاياهم في باب الزيادة أو النقيصة أو الوجود والعدم حتى لو كان الشَّك في أصل التكليف ثم جاء المرجح وازداد عليه، لمحاولة إثبات كون الشك قبيل أنه في المكلف به.

أو كان الشك في نفس المكلف به ثم جاء المرجح الذاتي محاولاً إثبات ما يخالف اعتماداً على الفتوى في الحالة الأولى بعد التثبت موضوعاً وحكماً عن الدليل المناسب واعتماداً على كل ما يحقق الحق في الحالة الثانية، ومن أهم ما يوصل إليه هو الحل عن الطريق القضائي العادل، وسيأتي بعض ما ينفع من الكلام عن حالة الشَّك في أصل التكليف، والشك في المكلف به قريباً جداً في الأمر السادس حول خصوص (الشك).

ص: 207

السادس: حالة (الشَّك)
اشارة

لا شك بين العقلاء أنّ التّردد الصرف في كل شيء بين الوجود والعدم أو الزيادة والنقيصة وبتساوِ كامل عندهم دون أي ميل ولو قليلاً إلى أي جهة مما لا وزن له .

ولذلك فضلوا أو يفضّلون أي مرجّح، سواء كان الترجح للزيادة أو النقيصة، أو كان للوجود أو للعدم وإن فرقوا بين الراجح (ترجيح القلة) عن الراجح (ترجيح القوة)، وجعلوا كلاً منهما إذا كان مصداقه مما دون العلم الحقيقي ظناً.

إلا أن الأصوليين منهم ومعهم فقهاءهم وعلى لسان الأئمة علیهم السلام في باب الاستصحاب بمثل قولهم (لا تنقض اليقين بالشك)(1)، وقول أمير المؤمنين "سلام الله عليه" (من كان على يقين فشك فليمض على يقينه ، فإنَّ الشَّك لا ينقض اليقين)(2).

وغيرهما، حينما أدخلوا العلم اليقيني في مقامه وجعلوه مقياساً لعدم اعتبار أي شك في قباله، ومن ذلك باب قاعدة اليقين إذا تقدم الشك ثم تلاه اليقين بما دلّت عليه رواياته.

ومن ذلك ما تدل عليه رواية (وَ لَا تَنْقُضِ الْيَقِينَ أَبَداً بِالشَّكِّ وَ إِنَّمَا تَنْقُضُهُ بِيَقِينٍ آخَر)(3)، وهو ما معناها عدم الرضا بما لم يلحق بالعلم واليقين من الظُّنون المعتبرة، وإن شدد بسببها بعض على بعض المعتبرات فأغلقوا على أنفسهم ما فتحه الشرع للجميع من الإرفاقيات، وإن ثبت الانسداد بنحوه الإجمالي، ولولاها لما شاع بين

ص: 208


1- الكافي 3 : 351 ، باب السهو في الثلاث والأربع ح 3 ، وسائل الشيعة 8 : 216، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل في الصلاة، الباب 10 3
2- الخصال - الشيخ الصدوق - ص 619 ، الوسائل: ج 1 ص 175، باب1 ح 6.
3- وسائل الشيعة - طبعة آل البيت - ج1، باب من نواقض الوضوء، ح1 ص 245.

الفقهاء (ما خفي على فقيه طريق).

بل شرك عقلاء المتشرعة وفقهاء القضية وأصوليوهم - رعاية للإنصاف العلمي والعملي الشرعي العادل - ما دون العلم اليقيني به من الظنيات القوية الأخرى، حسب متابعاتهم الإرفاقية لأمور القرائن المقوية للظنيات حتى الضعيفة منها، مما لا ينبغي البخس بحقه منها على ما أثبتته أدلة ذلك المتعدّدة في مجالاتها المختلفة التي سيأتي شيء ولو مختصراً منها عند استعراض بعض مصاديقها حتى مما انطبقت عليه الروايتان الشريفتان السابقتان ونحوهما عندما يتّسع معنى العلم واليقين بضم الأدلة الآتية إليها إلى كل ظن قوى ولو كان صناعياً معتبراً شرعاً، لغلبته على أي شك من الشكوك.

ومما يأكد ما قالوه من المقولة المشهورة بلسان العموم والإطلاق وهي المشابهة لما مضى ونتيجة للقاعدة الاستصحابية (أبق ما كان على ما كان) لكون الشك لا يقاوم أي نسبة من الظنون المعتبرة، بل حتى ما ذكرناه قريباً من الكلام عن الخامس وهو حول خصوص الظَّن الضعيف ومنه خبر الواحد الضعيف وإن صح سنده وحول معنى الظَّن الاختلاجي المجرد من القرينة في مثل أمور الشكوك التسعة الصحيحة وغيرها مما يغاير أحكام الصحيحة بما يتحقق به البطلان وما يتعلق بأشواط الطَّواف والسعي الصحيحة منها والباطلة من أمور الحج والعمرة لو لم تثبت الشكوك وحدها فغلبها الظَّن من كل ما يتعلق بحقوق ما بين العبد وربه تعالى.

وكذا بما يتعلق بحقوق الناس فيما بينهم لارتباطها ببعض الأدلة والقرائن ولو من جهات أخرى غير حالة الظَّن المجرد في نفسه على ما أوضحنا شيئاً منه هناك، حتّى جعل الشك الصرف غير فعال لوحده على ما سيجيء توضيحه في ثبوت وإثبات أي تكليف إذا كان الشاك شاكاً في أصل التكليف دون غير ذلك، لكون غير المكلف يرجح أن يتبع المكلف في أحكامه لتربيته وتعليمه.

ص: 209

ولذلك صار مدعاة للقول بالبراءة عند الاستصحابيين ومن أمضى لهم ذلك من ذوي السيرة العقلائية لو لم يكن مرجّح مقبول على أحد طرفيه لسبب مثل ما روي عن أبي عبد الله علیه السلام (كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك)(1)، وما ورد عنه أيضاً علیه السلام في حديث قال: (كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك)(2)، وما ورد عنه أيضاً علیه السلام أنه قال: (الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر)(3) وغيره من بعض أخبار تفيد أصالة الحليّة والطَّهارة، دون أن تكون مستفادة من خصوص العلم اليقيني.

ولذلك يُعد إدّعاء التكليف عن مثل هذه الشكوك بلا مبرر بمنزلة الإفتاء بغير علم أو ما يقوم مقامه ومصير صاحبه إلى جهنم وبئس المصير، لأهمية العلم الحقيقي والعلم الاعتباري الشرعي لو لم يتيسر الأول في قبال الشكوك على ما أشرنا وما سيتضح من الذكر لبعض المدارك في سبيله، وليتبع المكلف في حرمة هذا الإدعاء كل من بلغ مكلفا بعد ذلك أيضاً.

بل قد يشارك حالة السُّك هذه حالة الظَّن الضعيف كذلك في وجوب إخضاعهما للعلم وبقية المعتبرات الظَّنية بمثل أهلة شهر الصوم لقول الإمام علیه السلام (اليقين لا يدخل فيه الشك، صم للرؤية وأفطر للرؤية)(4) لعدم الداعي لاعتبار مثل هذا الظَّن المفقود منه جانب ما يطمئن به في تثبيت أول الشهر وأخره لفريضة الصّيام بها إلهيّاً.

إلا أن يراد من الرواية الشريفة الأولى والثانية ما خالف علم الحرمة والقذارة

ص: 210


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 5 ص 313.
2- الوسائل ج 2 أبواب النجاسات الباب 37 الحديث 4.
3- الوسائل ج 1 أبواب الماء المطلق الحديث 5.
4- وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 10 ص 256 باب 3 ح 13 و 19.

اللتين فيها، وهما الحليّة والطَّهارة.

فإنَّ المستصحبين وذوي السيرة العقلائية لا يبعد عندهم إمكانية تقبل ما يوافق طبيعة أساسيات التكوين والتشريع حتى إذا جاءا من حالة الشك الصرف، مع كون الحلية والطَّهارة من توابع أحكام الشرع المرتبطة ببعض التكاليف الأخرى.

ومن النصف الآخر المطابق الباقي ما يراد من الرواية والشك الصرف هو عدم العلم و (قول لا أدري نصف العلم) فلا خير إذن لأن يكون جزء السبب للفيض الإلهي بالحلية والطَّهارة للأشياء تسهيلاً والجزء الآخر هو المقتضي والكاشف وهو الرواية.

وهذا المعنى الذي نذكره يصلح أن يكون في مقابل ما ذكرناه في طليعة المبحث وعن أنَّ الشَّك الصرف مما لا وزن له في مقابل اليقين وملحقاته وقد مرت بعض مصاديقه، وهذا الآخر أيضاً مما له مصاديقه التي يأتي بعضها.

وأما حال الشك في المكلف به إذا أدت إلى لزوم تطبيق قاعدة الاشتغال أو الأصل العملي المقرر للشَّاك في مقام العمل الذي أطلق على الشك لأجل العمل بالعلم الإجمالي إذا كان المبتلى عند وقوع الشَّك للتعرف على حكمه بالغاً عاقلاً، ويتبعه في ذلك كل صبي متعلم ربّي على سلوك المكلفين أو يُراد أن يُربِّى على هذا من قبل أولياءه.

فإنها الأقرب إلى معقولية ما يراد من الرواية الشريفة من معنيي الحليّة والطَّهارة المرتبطتين بأحكام الشرع عن طريق الشك الصرف الباقي على حاله، ولو أن يراد منه معنى كونه نصف العلم لتكون الرواية الشريفة حاوية للنصف الباقي.

فأمثلة ما قد مر ذكره - من أمور الشكوك التسعة الصحيحة في الصلاة وما عدا الصحيحة فيها من الباطلة وشكوك طواف الحج والعمرة وطواف النساء وأشواط السعي الصحيحة منها والباطلة عند استقرار الشكوك ولم يداخل كلاً منها أي ظن

ص: 211

اختلاجي بناء على كونها جزء السبب، وعلى كونه كاشف سرها وهو عموم وإطلاق العلم الحقيقي وما يدخل فيهما من ملحقاته من باقي المعتبرات الظنية المراعية لشؤون الشكوك المستقرة التي منها ما يتناسب مع الصحة، ومنها غير ذلك، وإن كانت بعض تلك المعتبرات ظنية اقتضاءية - هو الجزء المكمّل.

وعليه لابد أن تتبع هذه الأمور مداركها، ففي الصحة عند اقتضاءها، وفي البطلان عنده اقتضاءه.

ويلحق بذلك أمور لم نتعرض لها وهي مستحقة للذكر، كالتردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين، وكل شك بعد الفراغ، وما تأدي إليه قاعدة التجاوز في مثل الصَّلاة دون الوضوء، وكثرة الشك المأديّة إلى البناء على الأكثر، وقاعدة الصحة.

وللسعي في أداء البحث حقه ولو مختصراً عن الأمثلة الإضافية ليكون التفصيل في مباحثنا الفقهية نقول:-

(محاولة الاحتجاج والتعبد بما دون العلم مما مضى ولو بالتسنيد الإجمالي له)

مما يعين في الأخذ بما دون العلم من العلمي وبقية المعتبرات الظنية - ومنها أخبار الآحاد المحفوفة بالقرائن والضعيفة المأخوذ بها عن الوثوق والمجبورة بعمل الأصحاب، وحتى الأقل لو توحدت في الميدان المحتاج إلى الاستدلال به عند بعض حالات الانسداد بسبب بعض الكوارث وما أحدثه الإعداء من المحو والدس والتلفيق - ما ذكروه من البواقي.

فلنبين ما يستحق الذكر الآن منه مختصراً، على أمل التفصيل له فيما بعد ومن الأدلة الأربعة عن حجية خبر الواحد ،وغيره عند الكلام الآتي عن المدرك اللفظي الثاني من من السنة الشريفة من هذا القسم الثاني للجزء الثاني من كتابنا هذا

ص: 212

(المساعي).

على أن يكون هذا الاختصار لما يراد من الأدلة الأربعة بشيء أو حتى بعض شيء من تسنيدات ما لم نذكره من القضايا المألوفة التي عرضناها سابقاً كالاختلاجات الظنية الواقعة في أمور العبادات والواقعة في قضايا الناس في مقابل الشكوك الواقعية فيها لو لم تثبت وما يتعلق بما فرقنا فيه بين الشك في أصل التكليف وبين ما هو مكلف به.

فأول الأدلة الأربعة هو ما تعارفوا على الاستدلال به من أتقن الآراء ولو ظاهراً، لجواز الأخذ بخبر الواحد المحفوف بالقرينة الموثقة، سواء كان الواحد عدلاً أو غيره، ولو كقدر متيقن به لدى أغلب الأصوليين لو لم يتيسر الأقوى المعارض، وهو قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلي ما فَعَلْتُمْ نادِمينَ» (1) ، وهو كذلك لو لم يكن الأقوى موافقاً ، والأقل مأيداً كذلك، لأن ذلك قد يحصل، ولو حصل لكان في غاية ما يتقن من الأدلة.

وثاني الأدلة، وهي أقوال الأئمة المعصومين علیهم السلام مع سيدة النساء علیهاالسلام الناطقين عن كل ما يريده الله جل وعلا ونبيه صلی الله علیه و اله من الأمة أن تطيعه به بواسطة هؤلاء الخلفاء العظماء من السنّة قولاً و فعلاً و تقريراً.

حيث أرشدوا بها حواريهم في مختلف ظروفهم - وعن الكتب المتعارفة الأربعة الأولى، وكذاك الأربعة التي بعدها، ومعها بعض النبويات الموافقة أو المشهورة بين جميع المسلمين - لأن يرجعوا الناس إلى الثّقاة من الرواة وبألسنة شتّى كالسؤال منهم كعن أن (فلاناً ثقة) حتّى تؤخذ عنه معالم الدِّين، أم لا؟ وغير ذلك من الأساليب.

ص: 213


1- سورة الحجرات / آية 6.

لكون المقياس بيد الأئمة علیهم السلام وبيد خواص الخواص من حواريهم بعدهم مع تنقيح الطرق ببعض ما اتفق عليه من قواعد الرجال والدراية بين الجميع.

والروايات التوجيهية في هذا الباب عديدة تعرف عن كل ما يراد من الآية الكريمة الماضية من الإجابة على الأسئلة والبيان المباشر من العطاء تدريساً وغيره.

وثالث الأدلة: وهو المسبب بأن البحث لابد أن يكون من مسائل علم الأصول مطلقاً، بل من أهمها على أي اعتبار مر الكلام فيه في الجزء الأول عن طريق العقل تصوراً وتصديقاً من غير المستقل، بل حتى المستقل لو لم يردع الشرع عنه، وإن قدمنا العقل على الإجماع الآتي في الذكر.

سواء قلنا بأنه ليس له موضوع أبداً كما هو الواضح الذي لا يخفى على أهل التدقيق.

أو أنَّ موضوعه كل ما يصح أن يقع في طريق الاعتذار، وهو كذلك، لأن الخبر الواحد الموثوق به من أهم ما يقع في طريق الاعتذار.

أو أنَّ موضوعه ذوات الأدلة الأربعة، لكون هذا الخبر متحداً مع أهل السنة عند المتشرعة أو بوصف الدليلية، بناءً على أنَّ من أخذها بوصف الحجية أراد بها الاقتضاء به لا الفعلية، فيكون من العوارض لا محالة، والتصرف الأصولي عقلائي.

ورابع الأدلة أنه ادعي الإجماع على حجية ما في الكتب الأربعة الأولى من الأخبار في الجملة وهي الموصوفة بما يوثق ويطمئن به منها من حيث المبدأ، لا بخصوص أعالي السند منها، وإن كانت هي الأهم من غيرها، أو أنها قليلة في بابها كما في المتواترات، ولا بأدانيها المهجورة وإن صحت أسانيدها، أو كانت كذلك للتقية، لكونها مقيدة بقيودها الخاصة بها.

وبهذا التحديد الذي عرضناه وبالإضافة منا يمكن الأخذ بفحوى هذا الادعاء، وبالأخص لو كان نفس الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف هو التحفة في المدعى بعد النبي صلی الله علیه و اله، أو أن

ص: 214

المحتج به من ذلک هو ما أحرز الاتفاق عليه لدى الجميع مما مر وما طابق قواعد الرّجال والدراية بما مر تحديده.

فهذا الخبر المعروف بخبر الواحد - سواء كان متواتراً أو مستفيضاً أو محفوفاً ببعض القرائن المسببة للقطع المقبول به أو حتى الضعيف المجبور بعمل الأصحاب أو ما تواتر معنويًا لا لفظياً مع غيره من المعتبرات الواردة عن الأئمة علیهم السلام-

يُعد مما دون العلم والعلمي بهذه الأدلة الأربعة من الظنون المعتبرة، ومعه كل ما ساواه أو يساويه من الظنون المعتبرة على ما يجيء الآن من التسنيدات التي وعدنا بذكرها عما مضى ذكره في عنوان البحث الرئيسي.

بل حتى الأقل من غير المحفوف إن أتيح إليه بتوحده مع الحاجة إليه عند بعض الانسدادات الشديدة حتى لو أخذت من الكتب الأربعة الأخيرة وتوابعها لكون المنبع متقارب جداً بينها وبين الأربعة الأولى.

لكن لا بمجال تزامنها مع ما يساويها تماماً في المعارضة الضدية، لئلا يتساقط الإثنان، فضلاً عما لو وجد الأقوى من هذا الخبر لسقوط الأضعف عن الاحتجاج به مما أسلفنا بيانه.

ثمّ إنَّ الموجز الذي ذكرناه عن الأدلة الأربعة لم نأت به في المقام ليوضح كلَّ الأمور، بل لفتح باب لبداية التسنيد الموعود به في مثل الظَّن الاختلاجي الواقع أثناء الشُّكوك التسعة غير المستقرة وأمثالها من أمور ما بين العبد وربه، وكذا غيرها من الشُّكوك الباطلة غير المستقرة، ولو بذكر دليل ظني معتبر واحد جامع عن جميعها لتحويل التفصيل عن الباقي إلى بحوثنا الفقهية المفصلة.

فللاختصار نقول:

لو حصل تردد بين الزيادة والنقصان من غير تركيز، حيث ظن الشاك لصالح زيادة الركعة أو لصالح نقصانها فإنَّ الظَّن لو ركز فيه على الرجحان الذي لأحد

ص: 215

الجانبين دون الآخر فإنه يأخذ مكان اليقين (العلم) ، وإن كان هذا الظَّن المختلج في نفسه أضعف حتى من العلمي لو لم يكن اليقين آخذاً محلاً من الاثنين معاً، وهو ما يرجع الأمر إلى اعتراء نفس الشك السابق.

حيث عرف عن جماعة عدم الخلاف في ذلك، وعن بعض المصادر نسبة عدم هذا الخلاف بين الأصحاب، وعن ظاهر كتاب الخلاف أو صريحه الإجماع عليه، بل في كتاب الرياض حكاية الإجماع عن جماعة.

ويشهد به جملة من الروايات كصحيح عبد الرحمن بن سيابة والبقباق عن أبي عبد الله علیه السلام "إذا لم تدر ثلاثاً صليت أو أربعاً، ووقع رأيك على الثلاث، فابن على الثلاث، وإن وقع رأيك على الأربع، فسلّم وانصرف، وإن اعتدل وهمك، ،فانصرف وصل ركعتين وأنت جالس)(1)

وأقول : إن لفظة (رأيك) المكرر في عبارة الإمام علیه السلام في ظاهرها بين أهل المحاورة الكلامية وفي تعارفهم لم تختص بالعلم أو اليقين أو حتى القطع المأخوذ به، بل تشمل العلمي الاجتهادي المفسر بحالة التأمل في الحالة المبتلى بها والعلمي الداخل في الظن المعتبر أو الظن الاختلاجي الذي نوهنا عنه في مصطلحنا الخاص له إذا ناسبه الدليل المقبول ولو بعدم ردع الشرع عنه.

وفي صحيح الحلبي عن أبي عبد الله علیه السلام (إذا لم تدر اثنتين صليت أم أربعاً ولم يذهب وهمك إلى شيء فتشهد وسلّم ثم صل ركعتين وأربع سجدات تقرأ فيهما بأم القرآن ثم تشهد وسلّم فإن كنت إنما صليت ركعتين كانتا هاتان تمام الأربع وإن كنت صليت أربعاً كانتا هاتان نافلة.

ص: 216


1- الكافي 3: 353 الصلاة ب 40 ح 7 التهذيب :2 184 / 733، الوسائل 8: 211 أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 7 ح1.

وإن كنت لا تدري ثلاثاً صليت أم أربعاً ولم يذهب وهمك إلى شيء فسلّم ثمّ صل ركعتين وأنت جالس تقرأ فيهما بأم الكتاب، وإن ذهب وهمك إلى الثلاث فقم فصل الركعة الرابعة ولا تسجد سجدتي السهو فإن ذهب وهمك إلى الأربع فتشهد وسلّم ثم اسجد سجدتي السهو)(1)

و أقول: قوله علیه السلام (وهمك) المكرر في الصحيح قرينة دالة على أن الوهم بمثابة الظَّن القاضي لاعتباره بتقدمه على الشك غير الثابت وهو ما يوضح أن لفظ (رأيك) في الصحيح الماضي مطابق لما بيناه كذلك.

وقد يكون هذا المعنى مطابقاً لقول بعض الصادقين علیهم السلام في تقسيم الناس (أن النَّاس أربعة: رجل يعلم ويعلم أنه يعلم فذاك مرشد عالم فاتبعوه، ورجل يعلم ولا يعلم أنه يعلم فذاك غافل فأيقظوه، ورجل لا يعلم ويعلم أنه لا يعلم فذاك جاهل فعلموه، ورجل لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم فذاك أحمق فاجتنبوه)(2)، في القسم الثاني منهم.

إلا أنَّ الوهم عند المنطقيين يعتبر أدنى من مستوى الشك المفسر بالجهل وهو ما يطابق المرجوح لا الراجح.

ولكن المنطق في الدقيات الفلسفية يختلف عن العرفيات الشرعية المطابقة للتسهيل والإرفاق، وإن صح عند كل من العلمين بما يتفاوت من الوجهين، كتطابق المنطق مع الشرع إذا انسجم مع الأصول المعدة كمنطق للفقه والشريعة.

فلا مشاحة في الاصطلاح عندهما بما يقبل من انطباق المشترك اللفظي على الوهم الخاضع إفراز كل من معنييهما عن الآخر إلى القرينة المعينة المراد الخاصة به

ص: 217


1- الكافي 3: 353 الصلاة ب 40 ح 7 ، التهذيب :2 184 / 733، الوسائل 8: 211 أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 7 ح1.
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 1 ص 195 عن غوالي اللئالي ج 4 ص 74 - 79

دون الآخر، وقرائن مداركنا الإرفاقية الشرعية هي التي نرجع إليها في بحوثنا الخاصة دون المعنى الآخر.

وقد يقترب القسم الثالث من الرواية أيضاً من معنى (الوهم) المأدي إلى المعنى الراجح، لمشابهته لمعنى (الجهل البسيط) الداعي إلى حاجة الجاهل إلى تنبيهه لأن يتعلم رأفة به، لأن بقاءه على جهله غفلة بالغة منه في بابها، وقد يصل بعض حالاته إلى الحرمة لو كان جهله مضراً به لو كانت إزالته مقدوراً عليها، إلا أن الوهم فی صحيح الحلبي ظاهر فيمن يدري

والدراية قد تصل إلى أكثر من معنى، ومنه ما قد يستوجب التصحيح للأخطاء، ولذلك جعلت المقولة الأخلاقية في بعض الأخبار (رحم الله من أهدى إلي عيوبي) نافعة في أهمية تنبيه الغافلين لتصحيح أخطائهم ومثبتة لتوسعة رقعة مصاديق الأحكام الشرعية المخفية.

وبهذا النحو من المقرب يحصل نوع آخر من الاشتراك، وبالأخص إن صح أن يقال للجاهل البسيط أنه المتمادي في عدم تعلمه، إذ قد يكون معذوراً بعدم قدرته لو لم يكن عن حماقة.

وبذلك يصح القسمان الأوسطان شاهدين على مصداقية الوهمية الصحيحة المذكورة في صحيح الحلبي

وأما الوهم بمعناه المرجوح عند المنطقيين وكذا الجهل المركب في رواية التقسيم الأخيرة فسيأتي الكلام عنهما تحت العنوان الأخير وهو السابع في كلام خاص عنهما بعد الفراغ من الكلام عن التسنيدات الباقية بإذن الله تعالى.

ونقول أيضاً: للاستدلال على ما يبنى عليه من الزيادة أو النقيصة بسبب الظَّن الذي سميناه بالاختلاجي الواقع في مواضع الشكوك الثمانية الباطلة المعروفة فقهياً وأولها الثنائيات، ونقتصر عليها للاختصار ليكون تفصيل الباقي في الفقهيات

ص: 218

المفصلة.

فإن من أدلة وقوعه في مثل صلاة الصبح والقصر ونحوهما في إحدى ركعتيهما لو لم يكن الشك مستقراً في كل منها بعد الاعتبارات المهمة المتعدّدة على الأخذ به عند فقهاءنا علیهم السلام

وقولهم بوجوب الإعادة عند استقرار الشك شهادة مثل موثق سماعة عن السهو في صلاة الغداة فقال علیه السلام (إذا لم تدر واحدة صليت أم ثنتين فأعد الصلاة من أولها ، والجمعة أيضاً إذا سها فيها الإمام فعليه أن يعيد الصلاة، لأنها ركعتان، والمغرب إذا سها فيها، فلم يدر كم ركعة صلى فعليه أن يعيد الصلاة)(1)، وغيره.

أقول: علماً بأنَّ هذه الرواية جمعت بين الظَّن وأثره والبطلان وأثره، إذ كل له حکمه، لعدم تصريحه بخصوص كلمة (الشك) لو تصرفنا بمفهوم الرواية المخالف، لأنتجت حالة الدّراية الظنية بالزيادة أو النقيصة والبقاء على المظنون، بناء على أن الدراية بالركعة أو الركعتين هو بمعنى العلم أو العلمي أو ما دونهما من المعتبرات الظنية المتغلبة ومنها الاختلاجي علی حالات الشك الصرف الباطلة، ففي الشك لابد من البطلان و في الظَّن لابد من الصحة.

وأما النموذج المختصر لما يسند ولو بعضاً من الشكوك التسعة الصحيحة المشار إليها عند استقرارها كالأول وهو الشَّك بين الاثنين والثلاث بعد إكمال السجدتين -

فالمشهور البناء على الأكثر ثم يؤتي بالرابعة، وبعد إنهاءها يؤتى بركعة من قيام أو ركعتين من جلوس احتياطاً مع أحوطية القيام على الجلوس.

واستدل على هذا بالإجماع واعتبرت قرائن مطمئنة على هذا بين فقهاءنا مع

ص: 219


1- التهذيب :2 179 / 720 ، الإستبصار 1 366 / 1394 ، الوسائل 8: 195 أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 2 ح8.

الجمع بين موثق عمار المنادي بالبناء على الأكثر وهو قول الإمام علیه السلام (يا عمار أجمع لك السهو كله في كلمتين متى شككت فخذ بالأكثر فإذا سلمت فأتم ما ظننت أنك نقصت)(1)، وموثقته الأخرى (كل ما دخل عليك من الشك في صلاتك فاعمل على الأكثر قال: فإذا انصرفت فأتم ما ظننت أنك نقصت)(2)

وبين مصحح زرارة عن أحدهما علیهماالسلام قلت له (رجل لا يدري اثنين صلى أم ثلاثا ؟ قال علیه السلام "إذا دخل الشَّك بعد دخوله في الثالثة مضى في الثالثة ثم صلى الأخرى - ولا شيء عليه - ويسلّم")(3)

وبين رواية العلاء قلت لأبي عبد الله علیه السلام (رجل صلى ركعتين وشك في الثالثة قال علیه السلام يبني على اليقين فإذا فرغ تشهد وقام قائماً فصلى بركعة بفاتحة الكتاب)(4).

أقول: لقرينة موثق عمار وقرينة إضافة صلاة الركعة من قيام في هذه الرواية يكون (اليقين) مرتبطاً بالثالثة بعد التشهد للثانية، وتكون الصلاة من قيام بعد إتمام الركعة الرابعة حسب المفترض للشكوك الصحيحة التسعة بكونها خاصة في الرباعيات أساساً لا غير.

ولأجل وجود ما قد يستدعي شيئاً - أو بعض شيء من التأمل بين سلفنا الصالح علیه السلام- قالوا بعد تفضيل ركعة الاحتياط القيامية على الركعتين من جلوس بأحوطية الجمع بينهما، بل حتى باستحباب الإعادة لأصل هذه الصلاة المشكوك فيها وهو في محله لحسنه على كل حال.

ص: 220


1- الوسائل ج8 ص 212 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 8ح 1.
2- الوسائل ج8 ص 212 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 8 ح4.
3- الوسائل ج8 ص 214 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب9 ح1.
4- الوسائل ج 8 ص 215 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 9 ح2، قرب الإسناد: 16 وفيه (بفاتحة القرآن).

ولنكتف بهذا الشك الأول وإرجاء الباقي إلى المفصلات الفقهية، وحتّى أمور ما يتعلق بالشكوك الصحيحة والباطلة من طوافات الحج والعمرة والسعي والنساء لو جاء ظن عادي إلى طرف من أطراف ما يبقي الصحيح على صحته أو بقي الشك الصحيح مستقراً على حالته من دون ظن أو الباطل أيضاً مستقراً على حالته من دون ذلك الظن.

فإن داعي الاختصار لصالح مقام الأصول يدعونا إلى أن محل الإشباع والاستيفاء لهذه الأمور هو الفقهيات المفصلة فقط لكون الإشارات التي مرت قبل ذلك كافية.

و أما ما يتعلق في حاجة ما سبق عما بين الناس أنفسهم من الحقوق والواجبات عند وقوع الظنون والشكوك وإلى حد ما قد يقع من المشاكل -

فلم نجد حاجة إلى التوسع بتسنيدات إضافية على ما أوردناه وما نضيفه إلى الفقهيات المفصلة في باب الإجتهاد الآتي أو رجوع العامي إلى مقلده أو الدخول في قضايا محكمة القضاء العادل بما لا داعي إلى الإطالة فيه أكثر مما يناسب المقام مع العناية بالفرق بين الشك في أصل التكليف وبين المكلّف به.

وأما بتسنيد ما وعدنا بشيء ولو مختصراً عنه وهو دوران الأمر بين الأقل أو الأكثر الارتباطين.

فإنه عن طريق العقل الاقتضائي والفطرة السليمة يمكن الاستنتاج من حالة الشَّك في المكلف به عن طريق الشكل الأول البديهي الإنتاج بثبوت حكم البقاء على الأقل دون الأكثر ، بل و البراءة عما زاد.

وصورة الشكل هكذا أن (الحجة لم تتم بالنسبة إلى الأكثر، وكلما لم تتم الحجة بالنّسبة إليه يكون من مجاري البراءة) فيكون الأكثر بالنتيجة - بعد حذف المتكرر - من مجاري البراءة).

ص: 221

ورضا الشَّرع بهذا القرار الموافق للأصول العملية المقررة للشَّاك في مقام العمل الذي من حالاتها ما يناسب الإرفاق بحال الأمة بعد التشديد عليها بالتكاليف التي قد تكون زائدة وإن استحبّت إضافتها احتياطاً ترجيحاً لقاعدة حسن الإحسان وقبح الظلم تمسكاً بآياتهما الإرشادية لاقتضاء حصر الإشتغال الواجب في الأقل وعدم المانع عن القول بعدم الوجوب له في الأكثر بسبب الشك.

وإن قيل بترجيح جانب الاحتياط على أساس الوجوب دون الاستحباب ترجيحاً لجانب الإشتغال، والإشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ومنه الأكثر ؟

فإنه يجاب: بأن الإشتغال اليقيني بالنسبة إلى الأقل مسلم، وبالنسبة إلى الأكثر مشكوك به، فيرجع فيه إلى البراءة، والاحتياط الوجوبي الإجتهادي مشكل.

وإن قيل أيضاً بأنَّ الأقل والأكثر إن لوحظا بحد الأقلية والأكثرية يكونان من المتباينين، وقد علم وجوب الاحتياط فيهما في محل ذلك المجال؟

فإنه يجاب بأنه لا وجه لملاحظتهما كذلك، بل تكون خلاف المتعارف، لأنَّ الأقل بحسب الأنظار العرفية ملحوظ باللا شرطية فيجتمع مع الأكثر.

لا أن يلحظ بحد الأقلية حتى يباينها، ولا يجتمع ذلك الأكثر معها وبارتباط الأقل بالأكثر بمقدار الأقل يبقى الزائد وهو المشكوك المشكل.

وأما حالة تسنيد كل شك بعد الفراغ مما علمت مصاديقه في الفقهيات وكونها في بابها كقاعدة لها أدلتها بين الفقهاء والأصوليين وشبيهها قاعدة التجاوز -

فقد اختلف العلماء حولهما، فقال بعض عنهما بأنهما من القواعد التعبدية المحضة.

وقال آخرون بأنهما من القواعد العقلائية التي كشف عنها الشارع المقدس برضاه بها عن آياته أو رواياته الإرشادية ولو للعلقة الإجمالية الثابتة بين العقل والشرع، كما لبعض قواعد أخرى لها هذه العلاقة.

ص: 222

والرأي الأخير هو المفضل على سابقه على ما سيأتي تفصيله عند الكلام عن القواعد آخر أجزاء هذا الكتاب.

ومجمله كون الاثنين من صغريات أصالة عدم السهو والخطأ والغفلة والبقاء على الإرادة الإجمالية الارتكازية الكامنة في النفس عند إرادة إتيان العمل المتدرج الوجود، وذلك كله مما استقر عليه بناء العقلاء.

وعليه يكون كل ما ورد من الشرع تقريراً لذلك دون أن يكون تعبداً محضاً، على ما سيجيء قريباً، بل بعض الأدلة الكاشفة وإن أمكن تصحيح التعبد المحض بسببها بناء عليه من جهة إطلاق بعضها لكن لا دائماً .

ثم أنهم اختلفوا فيهما بكونهما قاعدتين مختلفتين؟ أم هما من صغريات كبرى واحدة؟

والاختلاف بحيثية لحاظ أثناء العمل لصالح جانب قاعدة التجاوز؟ أو حيثية لحاظ ما بعد الفراغ لصالح قاعدة الفراغ والمقبول به هو الأخير؟

لإطلاق ما يبرهن على القاعدة الواحدة الكبرى الجامعة للحيثيتين معاً من مثل قول أبي جعفر علیه السلام (كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو)(1) وقول أبي عبد الله علیه السلام (كل ما مضى من صلاتك وطهورك وذكرته تذكّراً فأمضه ولا إعادة عليك فيه)(2)، وهو الشامل للقاعدتين معاً، سواء من جهة أصالة عدم السهو والغفلة والخطأ الواضح بما مر التعليل له، أو بناءً على كونهما واحداً كبروياً تعبدياً محضاً، ولو بمساعدة قاعدة الصحة الآتية الشاملة لهما ولغيرهما وصحة دخولهما في عموم وإطلاق قوله تعالى «وَ لا تَبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ»(3)

ص: 223


1- الوسائل ج 8 ص 237/ أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 23ح 3.
2- الوسائل ج 1 ص 471 / أبواب الوضوء ب 42 ح 6
3- سورة محمد / آية 33

وأما قوله علیه السلام (إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره وشككت فشكك ليس بشيء)(1) فإنما ورد لبيان جريان القاعدة في أثناء العمل أيضاً كجريانها بعد الفراغ منه وليس في مقام بيان تشريع قاعدتين مختلفتين.

وهناك تفصيلات لا داعي إلى الإطالة فيها لمجالاتها الخاصة بها.

وبهذا يكون الشَّك له حظ في الاقتضاء فإن كانت الأدلة مقتضياً فالشَّك من حظه عدم المانع.

وأما تسنيد كثير الشك ووجد من تحصل عنده الكثرة بغير مألوفية أن يبني على الأكثر أنه مما تنطبق عليه أدلة إطلاقات بعض القواعد المعمول بها كالفراغ والتجاوز وقاعدة الصحة.

وهي التي قد لا تمنع من أن تكون كاشفة عن رضا الشرع باتخاذ قرار العقلاء الإرتكازي ببنائهم حالة هذه الكثرة على المضي بمثل الصلاة والبناء على الكثرة.

ومع ذلك وردت روايات تخص المورد نقتصر للاختصار على شيء منها كمصحح زرارة وأبي بصير الوارد في كثير الشك قالا: قلنا له علیه السلام:-

(الرجل يشك كثيراً في صلاته حتى لا يدري كم صلّى ولا ما بقي عليه؟

قال: يعيد

قلنا له: فإنه يكثر عليه ذلك كلّما أعاد شك؟

قال: يمضي في شكه، ثم قال: "لا تعودوا الخبيث من أنفسكم بنقض الصلاة فتطمعوه، فإنَّ الشَّيطان خبيث يعتاد لما عود، فليمض أحدكم في الوهم، ولا يكثرن نقض الصلاة، فإنه إذا فعل ذلك مرات لم يعد إليه الشك.

قال زرارة ثم قال: إنما يريد الخبيث أن يطاع، فإذا عصي لم يعد إلى

ص: 224


1- الوسائل ج8 ص 237 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب23 ح1.

أحدكم)(1)

ومنها صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر علیه السلام قال: (إذا كثر عليك السهو فامض على صلاتك، فإنه يوشك أن يدعك إنما هو من الشيطان)(2).

ومن مجموع هذه الروايات وغيرها تولدت قاعدة (لا شك لكثير الشك) في بعض الحالات.

وأما بالنسبة إلى قوله علیه السلام (إذا شككت فابن على الأكثر فإذا فرغت وسلمت فأتم ما ظننت إنك نقصت فإن كنت قد أتممت لم يكن عليك في هذا شيء وإن ذكرت إنك قد نقصت كان ما صليت تمام صلاتك)(3) حيث يضيقه بالنسبة إلى خوض الشكوك المتعارفة، وهي الصحيحة المحددة، دون الكثيرة المرادة من رواية (الكثرة) وغيرهما.

فعلى كلا التقديرين من الأخذ ببناء العقلاء وأدلة ما ورد من الروايات- لا منافات من صدق المقتضي وعدم المانع المرتبط بمن يكثر عنده الشك رفقا به من لدن الشريعة السهلة السمحة.

وأما تسنيد قاعدة الصحة المشيّدة أركانها بأمور منها قوله تعالى «إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم»(4) أي الذي منه إساءة الظن بأعمال المؤمنين أو حتى عموم المسلمين الذين لم يحرز منهم المعاداة المسبب لبطلان أعمالهم

ص: 225


1- تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 2 ص 188 ، الكافي - الشيخ الكليني - ج 3 ص 358 .
2- الوسائل: ج 5 ص 329 باب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصَّلاة، ح2
3- الوسائل: ج 8 : ص 213 باب 3 (7910453).
4- سورة الحجرات / آية 12.

ومنها قوله تعالى «يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليسر ولا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسر»(1) ولدعم الشك المصحوب بالتعود على حمل المسلمين فيما بينهم على الصحة، للتشجيع على جمع شملهم وتماسكهم وتراحمهم أمام عدو الجميع.

ومنها أخلاقيات الأخبار المستفيضة الجامعة للشمل على نسق الهدي الواحد كما عن أمير المؤمنين علیه السلام (ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً)(2).

وغيره من كل ما له وفيه من النصائح الوافرة كثيراً في تحسين أمور المعاشرات الاجتماعية التي كادت أن لا تكون على ما يرام بسبب الأعداء خارجاً وداخلاً لولا هذه النصائح الشريفة.

ومنها الإجماع: ومنه إجماع المسلمين في الجملة وسيرة النبي صلی الله علیه و اله وخلفائه الأئمة المعصومين علیهم السلام مع الخلق مطلقاً وهو ما سبب توسع ارتباط المسلمين بأهل الإيمان كثيراً حتى آمن الكثير منهم في طول التأريخ وعرضه بعد صبر النبي صلی الله علیه و اله وآله علیهم السلام من شدائد الأعداء عليهم بالولاية والبراءة.

ومنها العقل ومنه بناء العقلاء على عدم المبادرة إلى أي حكم بالفساد عند الشك فيه، بل لا يقيدون بهذا الشك مطلقاً، بل صارت للشك توأمية مع الصحة في سيرة دائمة بين المسلمين إلا ما استشنته الرواية الشريفة الماضية.

وعلى هذا الأساس عرفت القاعدة في أمور القضاء والدعاوي (المتهم بريء حتى تثبت إدانته).

ومن هنا بدأت معقولية كون قاعدة الصحة أن لها مساساً بإمكان انسجامها مع

ص: 226


1- سورة البقرة / آية 185
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 ص 362.

المقتضي - وهي الأركان الأربعة المذكورة - وعدم المانع، وهو توأمة الشك الإلتزامي المستمر للصحة بين المسلمين غير الخارجين عن قاعدة (المتهم بريء حتى تثبت إدانته).

إلا أن هناك أمور قابلة للتوسع يأتي تفصيلها عند الكلام عن القواعد المفصلة.

وهناك أمور قد يكون فيها لبعض الشكوك حظاً تسهيلينياً من جانب العقل والشَّرع، ليكون لها شأنية عدم المانع لما يقتضيه مقتضى التسهيل كأمورنا التي مرت، أمسكنا عن التفكير فيها ترجيحاً للاختصار.

السابع: (الوهم المرجوح وجهل الحماقة وما دونها)

مر كلامنا عن الشك المنسجم مع قرار الشرع الشرعي أو الاقتضائي الإمضائي من قبله والذي مثابته ما يناسب كونه نصف العلم أيضاً، وهو ما يتناسب مع قول (لا أدري)، وبما قد لا يمنع من أن يكون للاقتضاء بمقدار عدم المانع كالذي مرت مصاديقه من مثل الشكوك التسعة الصحيحة والباطلة الثمانية أيضاً إذا التزم بتصحيحها عن طريق الإعادة على طبق مداركها وبعض القواعد التي ذكرنا شيئاً عن مختصراتها، وعلى أمل التفصيل لها أو لبعضها فيما بعد.

وذكرنا أيضاً شيئاً عن الشك الصرف وبنحو الإشارة أو الاختصار الكثير المغاير للشك الماضي، وهو الذي مستواه أن يتطابق مع عدم العلم مطلقاً على ما يراه المنطقيون، والذي يشبهه أو ما يكون الأدون منه على الأكثر عندهم فيما يعدونه في طبقات المدركات (الوهم المرجوح ) المعاكس ل- (الوهم الراجح) سابق الذكر الذي مرت بعض مصاديقه المعتد بها شرعيا في الروايات تعبداً ، أو الكاشفة عن رضا الشرع في باب الاقتضاء.

و مصاديق هذا النوع الثاني من الشك أو الإيهام الشكي الذي قد يوقع كثيراً

ص: 227

بعض المغفلين أو من يراد إيذاءهم من سوء قصد أو تصرفات بعض أعدائهم ضدهم في شراك الإيهامات الشيطانية -

نريد أن نخص بالذكر بعض الشيء منها حول هذا النوع الإيهامي لا عن أساس هذا الشك بمعناه الثاني، وإن كان في تشابه بينهما، لإكتفاءنا سابقاً بما مر ولو مختصراً.

ومنها ما مرَّ من الشكوك الماضية الثّمانية إذا أصرّ الشَّاك على عدم الإعادة توهماً أو كان بإغراء إيهامي من دعاة السوء.

ومنها الوسواسيات المنهي عن الإصرار على البقاء عليها، وإن حاول العقل والشرع علاجهما بعدم الاكتراث بها كبعض مصاديق قطع القطاع.

ومنها محاولة أبي بكر إيهام مولاتنا سيدة النساء المعصومة فاطمة الزهراء علیهاالسلام التي لا تخفى عليها - بل حتى على الأقل منها من خيار الصحابة - حقائق الفقهيات وطرقها في قضية فدك والعوالي وكونهما ميراثاً أو نحلة وحال كونها صاحبة يد عليهما في حياة أبيها النبي صلی الله علیه و اله بما لا يخفى، وهي خير من كانت مدعومة ب- (قاعدة اليد)، ثم أغتصبا منها بعد وفاته صلی الله علیه و آله كما اغتصبت الخلافة المباشرة لأمير المؤمنين علیه السلام عند مؤامرة السقيفة.

حيث ادعى الخليفة الأول في إيهامه الشكّي - المرجوح لا محالة - بأن النبي صلی الله علیه و اله قال عند مطالبتها أمام المسلمين بحقوقها الثابتة (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)(1)

لأنَّ من الموهمات الموقعة في المغالطة المفضوحة - لأمثال بعض غير أهل العصمة كالزهراء علیهاالسلام العالمة بكل ما يخصها ويخص غيرها وعرفه المؤمنون من خيار الصحابة - أن كل ما تركه والدها النبي صلی الله علیه و آله بعد وفاته ومنها ما بيد ابنته الوحيدة، سواء

ص: 228


1- مسند أحمد بن حنبل 463/2

الميراث المعلومة آياته ومنها ما ورثه الأنبياء لأبناءهم أو النحلة المعلومة رواياتها - قد كانت صدقات

بينما الصدقات - إن صحت الرواية ولم تكن ملفقة بإضافة (ما تركناه صدقة) وقبل أن يكون مدعيها شاهداً عادلاً وانضم إليه فيها عادل آخر - هي المخزونة في بيت المال وليس بيد الزهراء علیهاالسلام شيء منها ، وليس لها علاقة به كما كان مفصلاً عند أبيها صلی الله علیه و آله وعند الهاشميين.

إضافة إلى أن الخليفة الأول أراد أن يجعل من هذه الرواية مجالاً لدعوى أنَّ الذي كان بيدها بعد اغتصابه منها وإن كان من مختصاتها هي وأبناءها يُعد وأبناءها يُعد من الصدقات.

وهذه دعوى ثانية عليه إثباتها.

ولو قبلنا هذه الرواية مع ما فيها من النواقص والنواقض بانتظار أن يحكم أمرها من قبل الخصم من خصوص جهتها النحوية بمثل (ما تركناه صدقة) مفعولاً به لعبارة (لا نورث).

فإنه لا يضر الزهراء علیهاالسلام- فيما كان بيدها وما كان لها من الحق الثابت في المواريث الشرعية - إضافة معصيته اغتصاب ما كان لها وبيدها من ذلك.

ولأن النبي صلی الله علیه و اله كيف ينفي توريثه لما لا يملكه كما أشرنا آنفاً عنه وعن الهاشميين، لكون الصدقات في أساسها لخصوص عوام الفقراء والمساكين، وهو ما لا يمكن أن ينفي الاستحقاقات الأخرى.

وبناء على دعوى مشروعية الاغتصاب من صاحبة اليد المقواة بقاعدتها الثابتة على أساس ولاية من نُصب من قبل السقيفة فإنها منفية بعدم المشروعية بالولاية العظمى الثابتة يوم الغدير ومن مضامينها العادلة (قاعدة اليد).

وإن زعزعت ولاية السقيفة عملياً قرار التوريث الإلهي العام والخاص لا عقائدياً وشرعيّاً وحرمت الزهراء علیهاالسلام من التوريث الذي هو بعض حقوقها بما قد

ص: 229

جرأ ابنة الخليفة الأول أن تستعمل فوضى ولاية أبيها الموضوعة بالتدبير الليلي بما جعلت نفسها هي صاحبه اليد على الكل في الميراث، في حين أنها ليس لها منه إلا التسع من الثمن ومن السقوف والعروش دون الأرض، ولعدم إنجاب الذرية من قبلها لتتصرف أو بقاءها في الأرض بسببها بين زوجات النبي التسعة، وكل الباقي لابد أن لا يكون إلا للزهراء علیهاالسلام الوحيدة.

حتى تجاوزت في هذه الفوضى على بقية ضرائرها، وقد تصرفت بما يتنافى ورواية أبيها الخليفة الأول المضادة لحق الزهراء علیهاالسلام الثابت في كل الباقي أرضاً وغيرها.

فأمرت بدفن أبيها وفسحت المجال لدفن الخليفة الثاني في بيت رسول الله صلی الله علیه و اله

ولهذا قال عبد الله بن العباس المعروف بحبر الأمة مخاطباً إياها :

تجملت تبغلت *** ولو عشت تفيلت

لك التّسع من الثَّمن *** وبالكل تملكت(1)

وأما الشَّك الخالي من الإبهام وإن كان صرفاً لو حصل عند المؤمنين من أهل الاعتقاد والتقيد الشرعي بالموالاة لأهل بيت العصمة علیهم السلام المظلومين والبراءة من أعدائهم مع أتباعهم من كل متعلّم على سبيل نجاة -

فلابد من أن يكون تقيدهم ب- (قاعدة اليد) وتطبيقها على أساس كونها مرتبطة بالاقتضاء المنكشف موافقته للشرع، وكون الشك العالق بذهن الشاك الموالي والمتعلّم على سبيل نجاة لابد أن يكون شكه منقلباً إلى ما ذكرناه من حال اتصافه بعدم المانع المكمّل للاقتضاء.

ص: 230


1- الإرشاد - الشيخ المفيد - ج 2 ص 19، دلائل الصدق ج 4 ص 131، بحار الأنوار - المجلسي - ج 44 ص 154.

(جهل الحماقة)

وأما عن (جهل الحماقة) في سابع المدركات الذهنية من بحثنا عن موارد الحجة فلم تذهب تلك الحجّة البالغة في قيامها على صاحبها كبقية دركات المدركات من ذوي الشُّعور بمسؤولية التكليف لهم وعليهم بينهم وبين الله، وبينهم وبين الناس من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، سواء بمستوى الدلائل الصريحة الشرعية نصوصاً وظواهر أو مقتضيات مختومة بعدم الموانع.

لكنها في هذا المقام السابع قد تظهر جلية لصاحبها في عافية إن ذهبت كدورتها عن نفسه بسبب المهذبات النفسية الأخلاقية القاسية، أو حتّى لو كانت ظاهراً مستحيلة ،الإنقلاع، فبمثل الهداية الإلهية الصانعة للمعجزات وكما قال تعالى «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»(1)

أو أذهبت تلك الحماقة بمختلف أساليب وعظ الواعظين وكانت لوثتها منحصرة في زاوية خاصة عرفها أذكياؤهم فتجنبوها وهيمنوا على بقية الزوايا في وعظهم للمبتلى بها ولو بنحو من التخفيف فحصلت الهداية ولو نسبياً ولو في خصوص البواقي، وهو حتماً خير من العدم.

بل حتى لو لم يسيطر على أهل الحماقة على عادة الحمقى في انغلاقهم على ما هم عليه

فإنهم لم يخرجوا عن طور مجمل مسئولياتهم والشعور بها على الأقل، ولو بتحملهم مرارة عقوبات المعاصي، إلا أن ينصاعوا، ولعلها مشتركة مع الآخرين في هذا الإجمال على اختلاف القرائن وتبقى التفاصيل أو بعضها مما لا تنسجم معها الحماقة ولها علاقة بحق الله المضيع أو حق الناس المغتصب.

ص: 231


1- سورة القصص / آية 56

فيمكن تحقيقه عن طريق سلطان الشرع المبسوط اليد فتوائياً أو ولائياً خاصاً أو شبه عام أو قضائياً.

وبتبين أنه من أهل العلم بمسؤوليته بطريقة وأخرى في أداء ماله أو ما عليه من حق الله تعالى والناس أو كونه من أهل الجهل المفروض عليه أن يتعلم أمور ما هو مكلف به وإن لم تذهب الحماقة عنه إجمالاً أو تفصيلاً كما أشرنا أو لم يقتدر على إذهابها من قبل أحد المبتلون بها فالمسؤولية ،واحدة إلا أن الاختلاف بين الإجمال والتفصيل المفسرين بقوانين عدالة الشريعة.

والنصائح الكثيرة التي تدعو إلى رجحان الابتعاد عن أصحابها كالرواية الماضية الواردة عن أمير المؤمنين علي علیه السلام في القسم الأخير من أقسامها الأربعة للناس وهو قوله (و رَجُلٌ لا یَعلَمُ ولا یَعلَمُ أنَّهُ لا یَعلَمُ فَذاکَ أحمَقٌ فَاجتَنِبوهُ)(1).

ولا يخلو من أن يكون بعض مضامين رواية أخرى شريفة له علیه السلام وهو قوله (قصم ظهري إثنان: عالِمٌ مُتَهَتِّكٌ، و جاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ ، فالجاهِلُ يَغُشُّ النّاسَ بِتَنَسُّكِهِ ، و العالِمُ يُغّرُهُم بتهتكه)(2) إذا كانت الحماقة في كليهما، أو منتزعة من كليهما لا في خصوص اطلاق كل من المعنيين.

وأصرح منه وصية أمير المؤمنين علیه السلام لولده الإمام الحسن علیه السلام (یَا بُنَیَّ إِیَّاکَ وَ مُصَادَقَهَ اَلْأَحْمَقِ فَإِنَّهُ یُرِیدُ أَنْ یَنْفَعَکَ فَیَضُرَّکَ)(3)

وقال أبو الطيب المتنبي المستقي معلوماته من هذه الأقوال المأثورة:-

لكل داء دواء يستطب به *** إلا الحماقة أعيت من يداويها

وغير ذلك من الكثير

ص: 232


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 1 ص 195 عن غوالي اللئالي ج4 ص 74 - 79 .
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 2 ، ص 111 ، ح 25 .
3- نهج البلاغة - خطب الإمام علي علیه السلام- ج 4 ص11.

فإنها ليس معناها على تقدير اتصاف صاحبها بالعلم أو الجهل أن تكون المسؤولية مرفوعة عنهما ولو بالعلم الإجمالي المشترك بينه وبين الاعتياديين، لقيام تمام الحجة البالغة للعالم الملوث بالحماقة أو الجاهل كذلك أو عليه، ولو كان في واقعها شيء من هذا الإجمال، لاحتمال أن يكون نوع جهل الجاهل في واقعه من المرفوع عنه بعض حالاته بمثل الحديث النبوي المعروف بحديث الرفع في إحدى فقراته وهي قوله صلی الله علیه و آله (رفع عن أمتي........ ما لا يعلمون)(1)، أي ثقل التكليف الأولي الذي لم يقدر عليه، أو الثانوي إذا اقتدر على الأول دون رفع الحالتين معاً.

فلم تسقط عن الذين لم يعلموا - حسب الحديث - مسؤولية التعلم بمستوى حالة المكلفين جميعاً، سواء خضعوا للتعلم أو لم يخضعوا، أو اجتنب عنهم المعلّمون لحماقتهم، أو لم يجتنبوا لطيب ذواتهم الأخلاقية على ما بينا.

ولعل الوعظ بالتجنَّب عن الحمقى أنه كان لغرض أن لا يكون الحمقى معلمين - وإن اقتدروا مع سوء سلوكهم - لا كتعلمين كما أوضحته الرواية الأخيرة وكما وجهنا بما يمكن منا بيانه.

وأما فيما دون الحماقة من الجهل ومنه ما مر الكلام حوله من دركات المدركات السابقة وهو الجهل البسيط في قول الشاعر الآخر:-

قال حمار الحكيم توما *** لو أنصفوني لكنت أركب

لأني جاهل بسيط *** وصاحبي جاهل مركب

و هو الثالث في أقسام النَّاس الأربع والذي يصح أن يسمّى بحد تعبير الإمام الحسين علیه السلام أيضاً عن أقسام ثلاث للناس متضمنة للأقسام الأربعة الماضية بعد التأمل بقوله ( أو مُتَعَلِّمٌ عَلي سَبيلِ نَجاةٍ ) فهو الباقي مع جهله على مسئووليته المجملة

ص: 233


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 15 ص 369

المقرونة بالحجة الثابتة والمفصلة بالأدلة التي مرت الإشارة إليها حول كل المدركات له وعليه، وإن لم يفهم تفاصيلها وإلا لما كان باقياً على شعوره بها بسبب العلم الإجمالي الذي في ذهنه لتوسعته التفصيلية المفروضة عليه وخضوعه لتعلم ما هو الأوسع مهما كانت نسبة الحاجة إليه.

(الجاهل المقصر)

والقسم الباقي منه هنا هو الموصوف الشبيه بما سبق من معنى الحماقة بسبب الحالة الخاصة من التقصير لكنها مع خضوع صاحبها للتعلم أو الازدياد فيه - دون أن تكون ملوثة بداء الحماقة - سواء كان التقصير شديداً كالتقصير مع الالتفات بالتساهل في تطبيق بعض العبادات والمعاملات عن علم والتفات وبما يحوج إلى المزيد من الطاعات التدركية أداء أو قضاء مع حبه الكثير للعلم تعلماً وتعليماً ونحوهما بالعمل المكافح للمعصية إن كانت ثابتة.

أو كان خفيفاً كالتقصير مع عدم الالتفات كالتأهيليات فيما يجب أو بعضه بما هو الأقل مما سبق، وهذا الباقي وإن قلت المعصية عنده بسبب الغفلات أو بعضها عنده على أن لا تكون حالة عدم الالتفات بمعنى عدم المبالاة.

فلم يخرج كسابقه عن واجب تقييده بواجب مسؤوليته الثابتة من العدم إلى الوجود ومن الإجمال إلى التفصيل لاستمرار عدم المعذورية بعد اتضاح كل ما مضى ولو بنحو الإجمال في بعض الأمور، ليكون المطيع بتمام الإطاعة قابلاً يوماً لأن يتمسك به شوقاً إليه كيوم القيامة باعتذاره وندامته عن عدم تفكيره بثقل مسؤوليته التكليفية ،والتكلفية، إما بانتفاء موضوعها المحتمل عنه من عدمه، أو كون موضوع هذا الانتفاء مبنياً على عدم البلوغ والعقل أو عدم وصول الرسالة إليه إن كان بالغاً عاقلاً وغير ذلك، وهذا غير متحقق غالباً.

ص: 234

أو تقصيراً ثقيلاً أو خفيفاً مع الالتفات وإن لم يصاحب بعض الأوقات حالة العمل حتى النتيجة بالنحو الجدي كحالتي التّجري ذات النسبة المكروهة أو المحرمة كشرب ما في الكأس إذا كان خمرة بوجود سائل فيه.

إلا أن الحالة الأولى قابلة لاحتمال الخلاف مع التصميم على الخمرة، والثانية غير قابلة لهذا الاحتمال مع نفس التصميم وإلى حد مطابقة الواقع، ولكن لم تكن تلك المصادفة موجودة لا في الأولى ولا الثانية، ومع ذلك يجب الاستغفار للحالة الثانية، دون لزومه في الأولى إلا عرفانياً، وأدلة الحالتين متوفّرة في الفقه.

(الجاهل القاصر)

وأما ما دون هذا من الجهل فهو الأدنى في المسؤولية الذاتية عند المتابعة الدقيقة لشؤون صاحبها المسمى ب- (الجاهل القاصر) الشَّخصيَّة دون بعض تفاصيل قد تظهر بعض مسؤوليات أخرى تفرضها الأدلة الباحثة عن كل أحوال العباد، ومنها ما يخص الجاهل القاصر من المهد إلى اللحد على ما نحاوله من عرض مجملاته الآن.

فبداية قصور القاصر تظهر عادة منذ نعومة الأظفار، وإن كان الأطفال فطرياً إلهياً منذ أن يولدوا تُولد على شفاههم أيضاً أسئلة حائرة، للتعرف على كل أسرار الحياة عند عدم تنشئتهم تربوياً وبما ينسجم وقابلية الصبيان القابلة للنمو من جهة الذكاء الفطري بالقوة الكامنة فيهم، وإلى ما قد يفوق قابليات الكثير من العقلاء والبالغين الكمل عقلاً وذكاء وحافظة وفطنة ونحوها.

سواء صادفت بعد ذلك تربيتهم باعتناء ناجح تربية صالحة، أو حصل فيهم نبوغ ذاتي مفاجئ ومبكر على مستوى ذوى الفطرة السليمة والمواهب الإلهية التي قد تعين المسؤولين في التربية حتى على تحسين تربيه أنفسهم قبل أن يكونوا ناجحين بتربية أبناءهم والآخرين بما منح الله سبحانه الموهوبين من الأطفال ومنهم المميزين

ص: 235

من مختلف عطاءاته .

لأن هذا القصور الناتج من عدم التنشئة المذكورة كان من عدم تيسر مأهلات إزاحته مباشرة أو تسبيباً بواسطة عدم التربية قصوراً أيضاً أو تقصيراً، أو من ضعف المأهلات للنبوغ الذاتي على ما ستجيء الإشارة إلى شيء من أسبابه، أو من تعكر بل تلوث أجواء البيئة الاجتماعية، لو لم يصادف هذا عارض التخلف العقلي أو الجمود الإضافي الناشئ من بعض الأمراض المتولدة من سوء التغذية صحياً أو شرعياً أو عدم شرعية العلاقة الزوجية أو غيرها من أسباب الوراثيات.

وإن كان بعضها من نوع جمود وقتي قابل للحل، بل ولما هو فوق الحل الاعتيادي مما تظهره الإبداعات الإلهية الكامنة في ذوات بعض خيرة المخلوقات البشرية إن أحسنت وسيلتها المظهرة لخير النعم بما يحتسب أو بما لم يحتسب كما أشرنا.

ولقوله تعالى الصادر في حق عموم واطلاق البشر مبتدياً بذوي الفطرة السليمة من الأطفال بعد نبي الله آدم وزوجه وحتى غير السليمة التي تلت الأجيال السّليمة السابقة ممن أمكن من مقتضيات الحكمة الإلهية - بواسطة النبوات والرسالات وأعوانهم - السعي لإصلاح أمورهم ولو بالأقل من موارد الرضا والقبول، لتحصيل عجائب المأمول وهو قوله في باب التكوين «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»(1) وفي الأوسع كقوله «وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ»(2) أي بتمام الخلقة السوية والمكرمة أيضاً بالعقل والدين.

بل إن في البقاء على الجهل إلى هذا الجمود خطورة بالغة لا يعلم مداها إلا الله

ص: 236


1- سورة التين / آية 4.
2- سورة الإسراء / آية 70

الذي اختار إيجاد خير المخلوقات من كتم الظُّلمة والعدم إلى حيز النور والوجود، فيخشى على الأبناء وسلالاتهم من إهمال آباءهم العقلاء والمتدينين لهم، ولئلاً يستمر إلى ما بعد البلوغ فبتفاقم الأخطار وبتضخم الشَّذوذ وينمو التوحش البهيمي بما لا يطاق والذي كان سابقاً في بقاع العالم غير المكتشفة وغير المزدانة بالحضارات الإلهية المعتدلة وغير المتميزة بحيث لا يختلف البشر عن غيره من البهائم عيشاً وسلوكاً.

ولعزة الله سبحانه ونعمة العقل والرسالات والإسلام ومعه الكمالات لابد أن يهتم الوعاة والدعاة وأولياء الأمور صغاراً وكباراً لإنقاذ أصحاب الجهل القصوري ما دام هذا الجهل محسوباً أنه أقل المستويات المكرّمة عند الله تعالى من حضيض أساس الجهل إلى أوج العلم والمعرفة العالية بالتكريم.

ولا يكون المهمل الذي لم يبتدئ أيام نمو الحضارات بتنمية قدرات الصغار وتوجيه الكبار بما يستحقون مسبباً جعل قصور الجميع كمستوى البهائم التي ما همها إلا علفها وتناسلها بينما البهائم ما أوجدت إلا لخدمة هذه الأنماط من البشر.

وبإهمال أهل العقول خدمة أنفسهم بما يميزهم عن غيرهم تكويناً وتشريعاً ببالغ الأسف بدأت التوحشات والتجاوزات من جديد على النواميس والقيم وبما قد يزيد حتى على توحشات الوحوش من البهائم في العهود الماضية بأضعاف مضاعفة.

و من أقلها الغزو والاستعباد وغيرهما على نحو التمييز الطبقي والعرفي واللوني والقومي وغيرها مع توسيط العقل الذكي الخاص في البشر والذي لابد أن يغمره العجب والغرابة زائداً على الوهم المشترك بين البشر والبهائم، مع إضافة شيطنة وحوش البشر المتزعمين على مستضعفيهم.

ولأجل أهمية تحرير فطرة الإسلام العزيز حينما اقتضت الحاجة الماسة إليها إلى إصلاح ما أفسده الجاهليون حتى باسترقاق قصرهم والقاصرين أو المستضعفين من

ص: 237

كبارهم وأساراهم عندما اضطر النبي صلی الله علیه و اله ورجاله وكذلك أمير المؤمنين علیه السلام إلى الدفاع الكفاحي عن بيضته أو الهجوم الدفاعي ونحوه، للخلاص من اعتداءات الجاهليين وآثار ترسبات الجاهلية المتراكمة القديمة المزروعة ضد الرسل الماضين -

من أن تختلط بنظرة - أهل الكفر القائمة على حماقة استعباد نظرائهم البشر- اللا إنسانية - للاستعباد نفسه من جديد أو الإبقاء عليه وزيادة ما دام كبار الكفار قادرين على تسلطهم على مستضعفيهم صغاراً وكباراً ولو بمجرد خضوعهم لهم وإن نشأ من خوف البطش بهم -

ظهر - من تراثيات الإسلام والإيمان العزيزين - ما تثلج به الصدور الكاشفة للإجابة عما قد يثار - من شبهات الأعداء الموهمة - بأن استرقاق العبيد ما كان في ظلّهما إلا لتحريرهم من ذل عبودية الجاهلية وبالتقيد بثقافة الإسلام والإيمان عقيدة وعملاً وتفقها في الدين، لا ما مر ذكره عن ظلاميات الجاهليين المطبقة.

كما عرف عن التزام الإمام زين العابدين علیه السلام المشهور بتحرير العبيد، لكونه حين اقتداره كان أول من التزم بتحرير أمثال هؤلاء بعد شراءهم وتثقيفهم واعتاقهم ليالي عيد الفطر تطوعاً وغيرها من المناسبات.

إضافة إلى أصل التشريع الإسلامي في جعل عتق الرقبة المؤمنة كفّارة واجبة لأمور عديدة منها على من أفطر يوماً عمداً من شهر رمضان، وعلى ما هو مفصل عن الباقي في محله الفقهي.

ولأجل تكريم الله سبحانه الإنسان بالعقل والدين ونحوهما كانت نظرة أمير المؤمنين علیه السلام المتحفة بالإنسانية الجامعة للترحاب الإنساني باحتضان كل إنسان وإن كان كافراً غير محارب.

لئلاً يبقى في عزلة الانطواء على جاهليته ومنها المشوبة بالقصور، ولتقريبه من أجواء الهداية ثم إليها بمثل قوله علیه السلام حول الرعية (إمّا أخٌ لَكَ في الدِّينِ و إما نَظيرٌ لَكَ

ص: 238

في الخلق)(1)، ولو إلى بدايات شعوره بالمسؤولية مع ما عليه من التكامل بمشاطرته للآخرين.

وعليه إن بقي الجاهل القاصر لأي سبب على قصوره مع كونه مكلفاً وبقصوره إن لم يقدر على تعليم نفسه بنفسه حتى مع قربه من أهل العلم لإزاحته وإن كان هو في نفسه عالما بمستوى القوة دون الفعل كما مر لجموده.

فإنَّ المطلوب منه رفع قصوره بالفعل ليكون عالماً بالفعل فإن وافته المنية فهو بريء إن كان في طريق سعيه للترقي وكما قال تعالى «و ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا»(2) وقال أيضاً «وَ مَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبهم وَ أَنْتَ فِيهِمْ ۚ وَ مَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»(3) ولهذه المأشرات وغيرها عرف التمسك أصولياً ب- (قبح العقاب بلا بیان) لأنَّ كمال العقيدة الثَّابت هو عدم تقصير الوحي والسنة في البيان.

ولذلك أنه بنزول قوله تعالى «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»(4) أكثر من مرة - بعد التبليغ ببيعة يوم الغدير لأمير المؤمنين علیه السلام بتولي الأمور بعد النبي صلی الله علیه و آله و كذلك كل ما سبقه من النصوص الأخرى -

لم يعط أي مجال للتقصير في حق أي قاصر ملتفت أو غيره ممن بدت نحوه المأشّرات، ولو كان المقصر عن غير التفات لوجوب سهر الليالي للبقاء على الانتباه إلى موارد الحاجات المهمة ليأدي واجبه تجاه القصر إن بقوا أحياء لأنّ (ما لا يدرك كله لا يترك بعضه).

إذ على الدعاة - إن لم يقدر القاصر على نفع نفسه بنفسه - أداء كامل ما

ص: 239


1- نهج البلاغة - خطب الإمام علي علیه السلام - ج 3 ص 84 عهده علیه السلام لمالك الأشتر.
2- سورة الإسراء / آية 15
3- سورة الأنفال / آية 33
4- سورة المائدة / آية 3.

يقدرون عليه تجاهه، ولو كان وجوب هذا بنحو الواجب الكفائي، ولو بإزاحة بعض ما يقدرون عليه من قصوره خوفاً من خطورة كامل الترك - ولو ليكون القاصر مهتدياً من دعاته - ولو إلى مستوى درجة الجاهل المقصر.

الذي إذا علم وتمرد فإن عليه أن يتولى مهمات نفسه بالدنو من أهل العلم والفضيلة، لكسب رضا الله تعالى ودفع سخطه ولو في الجملة إن لم يتيسر لديه كل ما يحب أو ينبغي، كأن تدركه سعة رحمته لتخليص الإنسان المكرم من أن يشبه البهائم كما مرّ.

ثم السعي للأفضل شيئاً فشيئاً وإلى إحراز الفوز الاجتماعي بازدهار الأمم والتوفيق، لكامل النّعم وديمومتها لسعادة الدارين، كالأمة المتأخية الواحدة.

وعند ذلك وعن العقل والنقل يقدر المكلفون أن يثقفوا أنفسهم بأنفسهم إن أطاعوا الله سبحانه وشكروه كما أراد تحت ظل النبوة والولاية والبراءة بتقديم ما يقبل بين يديه من الاعتذار ولو في الجملة عن قاعدة الميسور وغيرها عن القصور والتقصير بلا التفات ومع الالتفات إضافة إلى ما قرر تجاه حق الله وحق الناس مع عقد الآمال على سعة رحمة المعبود جل وعلا.

(زبدة مخض ما مضى)

بعد أن دأب الشيخ الأعظم قدس سره في رسائله وغيره من الأعلام قدس سره على ذكر القطع والظَّن والشك لتقييم الحجة في الأشياء المدركية شرعاً أو عقلاً أو كلاهما بما لا يحقق أو يصحح الاعتذار عند اتباع أحكامها عن العدم وما جرى بينهم من النقاش حول الثلاثة المذكورة ببقائها عليها أم تخليصها إلى اثنين وهما (القطع والشك).

لكون الظَّن إن كان معتبراً فهو تابع للأول، وإن كان غير ذلك فهو تابع للثاني.

ص: 240

وببقاءنا على الثلاثة - حينما ميزنا العلم عن القطع للمناقشة في الثاني - وبعد ذكرنا بعضاً من أسباب ذلك بنحو من الاختصار مع إضافتنا شيئاً آخر.

بل وأكثر مما يقترب من واقع مراد الشرع وما ينسجم معه من توصيلات العقل، ابتداءً من العلم المفسر ،باليقين، وحتى إلى ما دون الشَّك الممثل فيما سبق بحالة البناء على الأكثر في الشكوك التسعة المعروفة مع أدلتها فقهياً بصحتها.

وكذا حالة الكثرة في الشك المعروفة في أدلتها الفقهية من الوهم المحسوب له حسابه الإيجابي في بقاء التكليف على صاحبه مع بقاء الحجية له ما دامت الأدلة له مبقية لرجحان تنبيهه أو إلزامه بترك غفلته عن واقع أمره كما نصت عليه بعض الروايات.

والجهل العام ومنه البسيط المحتاج صاحبه إلى تعليم نفسه لتكاليفه مع أدلتها تفصيلاً أو إجمالاً لأداءها والالتزام بها.

ومنه التقصيري الذي تتعقبه التوبة والإنابة المرجعة صاحبه إلى واقع تكاليفه الثابتة بأدلتها.

وكذا القصوري وما يترتب عليه من إمكان تدارك أموره شخصياً إذا اهتدى إلى جادة صوابه أو إلى ما لا يأباه الباحث المتتبع الطموح في مساعيه الجدية لخدمة الآخرين عن طريق بعض الآثار العائدة لأجل العثور على الحجية بما مضى وما سيأتي بما قد يكون الأيسر للاعتذار من بعض أمور القطع المفيدة بالشروط الماضية وارتباط القطع كذلك بما يختلف عن المسألة الأصولية وقوانينها التي يفضلها الفقهاء المدققون لتعامله مع البت النفسي بما يستقر في ذهن القاطع، وبما قد لا يؤمن اعتيادياً من عدم الوقوع في الاشتباه، وعدم الضبط الارتجالي.

ولذلك قيدوه بأمور منها عدم ردع الشارع عن قراره.

ومع ذلك نقول - مماشاة لبعض ما تفضل به بعض الأعلام الأجلاء قدس سره ولما

ص: 241

نطمح أيضاً مع بعض الطامحين في التوسع المشار إليه لتلخيص ما مضى جمعاً بين الحقين -

أن القطع بعد تحقق ما يشترط في أمر مقبوليته الشرعية أعني خصوص ما يصح الاعتذار به بسبب عدم الردع المومى إليه أكثر من مرة، بل هو الأصل فيه أنه عدم عند العقلاء والذي أعلاه ما كان موافقاً للاطمئنان النفسي بين المجتهدين، سواء كان القطع حاصلاً في الحكم كقول القاطع (هذا واجب)، أو حاصلا في الموضوع كقوله (هذا ادعاء)، وإن لم يكن داخلا في المسائل الأصولية كما أشرنا، كما يصح الاعتذار أيضاً.

بلا فرق بينه وبين أن يتصور القاطع أن قطعه هذا يساوي العلم واليقين، كما فيما لو تحققت الشروط لا مطلقاً.

وبين الإمارات والأصول العملية الأربعة المقررة للشاك في مقام العمل من جهة هذا الاعتذار في الوظائف العملية والتي هي المناط في المسألة الأصولية بسبب الأدلة الإرشادية.

وكذا القواعد الفقهية المتبعة وإن كان بعض ما مضى - أو كثير منه أو حتى الأكثر كما في بعض حالات الانسداد المتفرقة وغيرها - مبنياً على ظنيات معتبره مما دون العلم واليقين.

وكذا العلمي وبمختلف المستويات الظنية المقبولة وكما مر توضحيه وإلى المرتبة السابعة الماضية إن حظي ببعضها بالقبول من الباحثين.

ولذلك جاء على نهجها الأمر في القطع حكماً وموضوعاً، إذ دليل الحكم المنطقي البديهي (هذا الشيء واجب للقطع به، وكلما وجب للقطع به يصح الاعتذار به فهذا يصح الاعتذار به).

فتصفو النتيجة كما مر بعد حذف المتكرر، وكذلك نظيره القياسي دليل

ص: 242

الموضوع الذي مثلنا له (بالماءية)(1)

وعليه يمكن جعل الحجية للقطع بشروطه المذكورة وإن كان عقلياً من الشارع بسبب عدم الردع من قبله موضحة بالملازمة العقلية البديهيّة في شكلها الأول.

كما يمكن سلبها الحاصل من الشرع في مقابله على خلاف القطع واليقين والعلمي وما دونه من بقية المعتبرات، سواء كان القطع قطعياً طريقياً أو موضوعياً إن بان الكشف للباحث.

وبهذا يتبين عدم الفرق بينه وبين الإمارات والأصول العملية والقواعد إذا إلتقت القرارات في النتيجة على شرط القيود لا مطلقا.

(هل مقومات الحجية المعتمدة خصوص العصمة أم الأقل كذلك بالاعتبار ومشكلة التخطئة والتصويب)

بناء على ما مر في موضوع (زبدة مخض ما مضى) وما سبقه من بعض التفاصيل الأخرى - ولمزيد من التأكيدات على أهمية ذكر مقام الحجة في الأصول والتوسع فيها لخدمة الاستدلالات الفقهية المتنوعة الراكنة إليها كذلك -

أنَّ مُما لا شك بأن لعصمة كل معصوم تكويناً وتشريعاً ذاتياً حقيقياً وبالنحو الذي «لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لَا مِنْ خَلْفِهِ»(2) على ما أثبته النص القرآني الكريم عن الوحي الإلهي المتعدد الجوانب فيما ذكرنا.

وغيره من آياته بتمام التأثيرات في إيجاد الحجيات التي يركن إليها لصالح العيش الرغيد إسلامياً وإيمانياً وإنسانياً ابتداءً من دنيا هذه الحياة، وانتهاء لصالح السعادة في

ص: 243


1- راجع ص 148
2- سورة فصلت / آية 42.

أخراها تحت ظل معاني الوحي العظمى.

وكذلك لصالح تطبيق رسالة النبي الخاتم صلی الله علیه و اله، وعن هذا الوحي المتمثل بكل

أنواع القدسيّة في السيرة النبوية الشريفة والمحفوظة بسيرة الأئمة والمعصومين الأطهار علیهم السلام و المسعدة في كلا الدارين للجن والإنس معاً لو استنير بها كما يرام «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٖۗ»(1)

كيف وقد عصم كل معصوم لتعتبر الحجة مقبولة عنه بعصمة صاحب الكمال المطلق تبارك وتعالى الذي هو نفسه الحجة البالغة التي لا يجوز التخلف عن الاعتقاد بها وبما يناسبها من صفات الجمال والجلال ضرورة.

ومنه سبحانه ومن إعجازاته هذه الأنوار المعجزة المنزلة عن عظيم معانيها بتحفة الألفاظ العربية التي أخبر عنها تعالى بقوله من بعض تحدياته العالية للمتطاولين الحمقى عليه «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا»(2) مما هو الأكثر تحدياً كالآية الواحدة وغيره.

وقد سبق أن ذكرنا بعض الشيء مما يوضح هذه التحديات من الروايات التأريخية المتحدثة عن قيام بعض الأعداء الزنادقة أيام عهد أواسط الأئمة علیهم السلام بتصدياتهم المتحدّية لقرآننا المعجز الخالد بالمقابل للتحديات المذكورة في هذه الآية وغيرها في أحد بحوث الجزء الأول من الأصول مع إلماماتهم الشيطانية في كثير من أدبيات اللغة العربية القرشية والقادرة في نظرهم البائس على التشويش على صفاء أجواء معانيه الخالدة بنسق صياغات ألفاظها المعجزة مما كان من ذلك إلا إعرابهم

ص: 244


1- سورة الأنفال / آية 42
2- سورة الإسراء / آية 88

عن فشلهم المخزي.

كيف لا وقد شهد بحق عظمة نظم وأداء هذا الوحي في بدء الدعوة إلى الإسلام الأخصائيون بأدبيات ذلك الزمان الراقي حتّى من الأعداء المخضرمين ك (الوليد الجاهلي) بمفاجئته عند استماعه لبعض ،آياته بانبهاره الكثير بكمالاتها وغيره.

إضافة إلى من عرف تلك الكمالات من نفسه أو بواسطة من يعتمد عليه فيها، فخضع للإسلام أو تعمق في المعرفة فآمن.

إلى غير من كان باقياً على سطحيّته في إسلامه فتذكّر بقايا ما تخلف في ذاته من جاهلياته رعاية لمصالحة الكامنة في نفسه الأمارة فانقلب مع أمثاله على الأعقاب.

أو كان جاهليّاً معانداً - إلا أنه كان مطوقاً بسطوة الإسلام والإيمان المنتصرين والعطوفين الرؤوفين بكل مستضعف - لم يفهم حتى مصالح نفسه الدنيوية والأخروية على ما أظهرته آيات هذا الدستور الكريم.

فخضع من كان مطوقا بعز هذا الدين عندما انكشفت بعض الحقائق من التوعيات الهدّامة لكفره، والبناءة حتى لمجرد إسلامه.

وخضع من بقي معانداً فأسلم منافقاً خوف أن يقتل، وهذا الأخير وأمثاله المنقلبين على الأعقاب -

فرضي الإسلام العزيز - والمؤمن البريء وأهل الإيمان الكبير بالسكوت بعد اليأس من التأثيرات فيهم بإرجاعهم إلى دين الفطرة، وبما هو الأقرب إليها - عنهم ولو بتكثير السواد بهم.

لكن المعاناة العظمى منهم بقيت قائمة منذ وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله مع محاولاته الكثيرة منه أيام حياته الزاهرة، لتسليط أهل الإيمان الصادق كعلي علیه السلام والصفوة من أبناءه علیهم السلام والمؤمنين من حواريهم.

والتأكيد على وجوب الخضوع لهم من المؤمنين والمسلمين دوماً من بعدها

ص: 245

بصريح تلك الآيات وواضح الروايات وإلى يومنا هذا.

مع ما أوجبه الشرع علينا من الجهاديات لكل ما يحاط بنا من أشكال الابتلاءات وواجب الانتظار للإمام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف في موعده الحتمي والمثول بين يديه بتوخي رضاه عنا في دولته العظمى الآتية والأخذ بالثأر عن كل جريرة اقترفها الأعداء.

وأهم الحجج الخاصة بعد الآيات القرآنية الماضية المعصومة بما أشرنا إليها هو المعصوم والمصطفى المختار صلی الله علیه و اله صاحب هذه الرسالة المبعوث رحمة بالغة لهذه الأمة وقرآنها الناطق كما قال تعالى «وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى»(1) وغيره.

ومن الحجج الخاصة والمعصومة أيضاً من بعد النبي صلی الله علیه و اله في الاستناد إليها خليفته بالحق وحافظ أسراره الإلهية وجامع القرآن على التنزيل والتأويل والقرآن الناطق بدلالة آية المباهلة مع نصارى نجران لكونه نفس رسول الله صلی الله علیه و اله بصريحها وهو أمير المؤمنين علي علیه السلام وكما مر، بما يفي ويكفي بالغرض نفسه وكما أثنى عليه النبي صلی الله علیه و اله في روايات كثيرة من جملتها قوله (عَلِیٌّ مَعَ القُرآنِ وَ القُرآنُ مَعَه)(2)، كيف وقد نزل ثلث القرآن في حقه علیه السلام

ومن الحجج المعصومة الخاصة التي يجب تصديقها والأخذ عنها المثال المعصوم علیه السلام لنصف المجتمع النسوي بالكلية، لزرع روح الإسلام والإيمان والإنسانية، أو ترسيخ هذه الأمور بعد أن كانت أو كان بعضها لتكون على النحو الكامل والعادل فاطمة الزهراء علیهاالسلام وأبناءها الأئمة الأحد عشر علیهم السلام مثل العصمة الربانية بعد أبيهم الوصي علیه السلام، لكونهم مع من سبق من رجال العصمة الذين هم النور الواحد في

ص: 246


1- سورة النجم / آية 3 -4 -5.
2- الصواعق المحرقة ص 76

الحديث الشريف الوارد (أَوَّلُنَا مُحَمَّدٌ وَ آخِرُنَا مُحَمَّدٌ وَأَوْسَطُنَا مُحَمَّدٌ بل كُلُنَا مُحَمَّد، فَلاَ تَفَرَّقُوا بَيْنَنَا)(1)

ووجه أهمية هذه الأمور الخاصة - في عصمتها لكونها المصاديق الأصيلة تحت ظل الإسلام وجميع تعاليمه -

هو كون جميع العباد على هذه المعمورة بجنهم وإنسهم لولاها - وفي جميع مجالات حياتهم عقيدة وعملاً أصولاً وفروعاً ركوناً واستناداً إليها في مجالات الاستدلال كلّها لحل مشكلاتها وتذليل صعاب معضلاتها ضرورية عقائدية وضرورية شرعية كبروية وفرعية صغروية -

لساخت بأهلها ولتسلط الباطل منها على الحق الواضح بأتفه شبهاته كي لا تكون النتيجة إلا الدمار دنيا وآخره.

ابتداءً في هذه الأهمية من عهد رسالة النبي محمد صلی الله علیه و اله وإلى نهاية عهد رسالته الطويلة المختومة بدولة الإمام الموعود من ذرية ابنته الزهراء علیهاالسلام.

فالكتاب الكريم الذي أفيضت عليه العصمة في جميع قراراته الدستورية بعد العصمة العظمى الله تعالى منه سبحانه مع إعجازاته المتنوعة المودعة فيه وحوله مع أميته في إنزاله وتنزيله داخلاً وخارجاً مع تواتره، سواء في الجمع الموجود أو جمع أمير المؤمنين علیه السلام ونزاهته من كل خلل أدبي في مسبوكاته ومتفرقاته ومحفوظيته إلى الآن وبعده، وكما أوضحنا ذلك ومما تيسر منه في الجزء الأول من أصولنا (المساعي).

ولضرورة الحاجة إليه في جميع المجالات بسبب مقطوعية أسانيده في نصوصه ومحكماته وكذلك غيرهما مما توضح منها من غيرها من بقية الآيات المرتبطة فيها أو من السنة معها بواسطة العترة علیهم السلام وكما أشارت له الآية الكريمة.

ص: 247


1- بحار الأنوار ج 25 ص 363 ح23

مع الحث الواجب على ملازمة مجموعه الشريف بكل ما في الكلمة من معنى من آية الاعتصام، سواء بوحده مع فهم مضامينه من قبل من خوطب بها كالنبي صلی الله علیه و آله وحفظها لفظا ومعنى من الأئمة علیهم السلام مع الزهراء علیهاالسلام، أو بالاستفادة من آثار هؤلاء الصفوة مع عدم فهم الآخرين من غير الصفوة منه وحده إلا بمعونتهم تفسيراً أو تأويلاً.

وكذا التمسك به مع خطورة التفرق عنه ولو بأدنى حالة من معاني ذلك، لئلاً يرجع إلى مصدر آخر غيره فقال تعالى «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَ لَا تَفَرَّقُوا»(1) بناءً على أنّ المراد من حبل الله تعالى الوارد في الآية هو كون الكتاب الوسيط بسماويّته اللفظية والمعنوية بينه وبين عباده بتكليف النبي المعصوم علیه السلام في كافة أموره بياناً وتبياناً تفسيراً وتأويلاً له بسنته مع بيان واقعيات آياته الإنزالية والتّنزيليّة المطابقة لأسباب النزول.

وكذلك بتوجيه خليفته ووصيه الإمام المعصوم علیه السلام الأول مع تصديات حليلته المعصومة المعربة عن فقاهتها العظمى وبعض من خزانة أسرارها الكبرى، وهي (الزهراء علیه السلام) في دفاعها - عن حقوقها التي اغتصبت - عن نفسها وعن أمثالها من نصف مجتمعنا أمام الخليفتين الأول والثاني وبمحضر جموع الأصحاب بخطبتها الشهيرة خلف الملائة من المسجد النبوي.

وتوظيف بقية الأئمة الهداة المعصومين علیهم السلام إلهيّاً خلفاً عن سلف، بمثل قيامهم وعلى أفضل وجه الحوارييهم وتلامذتهم ،وغيرهم بكشف غوامضه وبيان حقائقه الأخرى تفسيراً أو تأويلاً، للحجية المهمة الخاصة به مباشرة والمستحقة كاملة بإيضاحاتهم لأموره، لكونهم الصفوة المختارة لحمايته والذود عنه والتي نزل في

ص: 248


1- سورة آل عمران / آية 103.

حقها وحق عصمتها أيضاً بعد قوله تعالى «لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لَا مِنْ خَلْفِهِ»(1) قوله تعالى «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(2)

فإنّ هذا الكتاب العظيم النازل وحياً لفظياً بمعانيه العظام في دنيا التكليف مع أعداء هؤلاء الصفوة بملازمته لتدبير أموره

بحيث لولاهم لما عرفت مقاصده بتشخيص السعادة أو الشقاوة دنيا وآخرة ومعهم كل من استفاد منهم وتأثر بهم حقاً - لا كل من هب ودب -

لابد أن يمثل حجية الكتاب معهم وبهم في آن واحد في نفسه وحجية السنة المعروفة في الأصول بكونهما الأهمين من مدارك التشريع الرئيسية الأربعة الشهيرة، لكونهم الصفوة بعد رسول الله صلی الله علیه و آله في سنته - كما مر - وحلّهم لمعضلاتها إن وجدت قولا وفعلا وتقريرا

وأما الحجية الأصيلة للمدرك الثالث - من مدارك التشريع الأربعة المعروفة وهو الإجماع الإمامي اللبي الأول - فلن يكون حاوياً للأصالة المدركية إلا بانضمام الإمام المعصوم علیه السلام إلى المجمعين على ما بيناه في الكلام عنه في بداية هذا الجزء كما سبق.

وأما الحجية الأصيلة للمدرك الرابع من الأربعة المشهورة كذلك - وهو اللبي الثاني من مدركي اللبين المعروفين للمدارك - وهو العقل فلم تكن الأصالة فيها إلا مما تظهره نصوص الوحي والسنة ومحكمتاهما القطعية المبينة للعقل المستند إليه بأنه العقل الذي كان في مصاف عقول أهل العصمة علیهم السلام الذاتية - دون الاكتسابي-، من مثل النبي صلی الله علیه و اله وعقول بقية المعصومين الأربعة عشر علیهم السلام، التي هي الميزان الأبهر

ص: 249


1- سورة فصلت / آية 42.
2- سورة الأحزاب / آية 33

لأمور التحسين والتقبيح العقليين، دون ما يتفاوت منهما بحسب مدركات ذوي العقول الأدنى ببعض التفاوتات التي عند بعض المجتهدين، وإن كان فيهم من كان معصوماً بالعصمة الإكتسابية كما يظهر من لسان بعض الأئمة علیهم السلام عند توجيه بعض حواريهم لحل مشكلاتهم ومشكلات الآخرين على نهج المقاييس العقلائية المتبعة عندهم وبما يرضى الأئمة علیهم السلام عنهم بمضمون مثل تعبيرهم لهم في بعض الروايات من قولهم علیهم السلام (ما كان مألوفاً أو معروفاً عندكم) أو ما حوى منها الآراء المحمودة توجيهاً لذلك.

فإنّ الحالة الأخيرة وإن اعتبرت اجتهادياً على ما سيجيء الآن ذكرها إلا أن الحجية فيها ليست بالأصيلة، وإنما كانت اعتبارية بما قد يمضيه الإمام علیه السلام للخلص من مأموميه للاعتبار الذي يبرره له في الإمضاء.

وبهذا تكون حالة إفراز المعنى الأول عن هذا الثاني بواسطة القرينة المشخّصة له، وهو ما قد يدركه الفضلاء من المقامات المناسبة عما هو الأنسب من موارد الحاجة الوقتية.

ومن الحجج بالمرتبة الأدنى والمقواة بالاعتبار أيضاً بمزيد الحاجة إليها مع مساعدة الأدلة المتقنة عليها وبما يناسب مع هذه المرتبة عند البعد عن الإمام المعصوم علیه السلام مكاناً أو زماناً أو كلاهما للتعرف على الأحكام الإبتلائية كالاجتهاد أو التقليد إذا احتيج إلى أحدهما عند توفر المجتهد لنفسه، أو لنفسه وغيره من العوام المحتاجين، إذا ضمنت حجية هذا الاجتهاد بإجازة الإمام علیه السلام الخاصة والعامة كبعض الحواري المرموقين في علاقتهم المهمة مع الإمام علیه السلام، أو المجازين منه في حياتهم معه، أو في الغيبة الصغرى حينما توفر النواب الأربعة عند التشرف بالملاقات الخاصة الممكنة بالإمام علیه السلام، أو بنقلهم الأجوبة المشفّعة بالتواقيع المقدسة أو بالغيبة الكبرى عند توفر الفقهاء المجتهدين عند ديمومة الحاجة إليهم نصاً واقتضاء ملزماً من الَّذين حسم

ص: 250

أمرهم شرعاً في جواز الرجوع إليهم أو وجوبه في بعض المقامات.

فإن حجية هذا النمط تكون معتبرة أيضاً، لكن بالمرتبة الثانية فقط كما أشرنا ما دامت الحاجة ماسة إليها، وبما يمكن للمكلف حتى المقلد - بكسر اللام - في أعماله للمجتهد إذا كان عاميا مدركاً منهجه أن يستدل بنفسه لنفسه على حجية مشروعية المطاوعة للشرع بواسطة الفقيه إذا كان جامعاً للشرائط على ضوء الشكل المنطقي الأول البديهي في إنتاجه مع تسليم إحدى المقدمتين بعد حذف المتكرر مما مر شبيهه مكرّراً، كأن يقول في استدلاله (هذا ما أفتى به المفتي المجتهد، وكل ما أفتى به هذا المفتي هو واجب في حقي، فهذا الحكم واجب في حقي).

ومن الحجج بالمرتبة الأدنى وهي الاعتبارية كذلك - إضافة إلى ما مضى من استفادة المجتهدين المخولين من كل ما مضى عموماً وخصوصاً بعد اطلاعهم على کل مقدمات الاجتهاد إن أمكن أخذهم المباشر من الصفوة المعصومة علیهم السلام المذكورة أعلاه، عدا ما لو يقلّد المجتهد الكامل مجتهداً مثله في نفس ما اجتهد فيه أو بالوسائط المطمئن بها في الصدق والوثوق -

هو نقل روايات الاجتهاد عن أولئك الصفوة علیهم السلام، سواء الروايات العائدة إلى تفسير غوامض الآيات أو تأويل مجملاتها من ذوات الفقه العام والخاص أو الروايات المستقلة عن أمور السنة الشريفة الأخرى.

حيث أن تلك الروايات بعد الاطمئنان بصحة ورودها وصحة ما يراد منها - من مطابقة الأحكام منها لموضوعاتها -

تعد من حجج الاعتبار في نفسها، وفيها تم اجتهاد المجتهدين نوعاً به عنها إذا اجتمعت شرائط اجتهادهم في الأخذ من آرائهم، سواء كان نقل تلك الروايات عن رواة متعدّدين كالمتواترات اللفظية أو المعنوية فضلاً عن كليهما، وكذا المستفيضة التي تحقق جواز الأخذ بها، وكذا الآحاد المقرونة أو الضعيفة المجبورة بعمل الأصحاب.

ص: 251

ومن تلك الحجج البينة الشرعية أو الشاهد واليمين في باب الادعاء للبت بمشروعية حكم الحاكم الشرعي القضائي إذا لم يصطدم معه وبين يديه ما يوجب التأمل فيه، أو مجرد اليمين في باب الإنكار إن لم تتم وظيفة المدعي في ادعاءه لحسم النّزاعات اعتماداً على الأدلة.

ومن تلك ومن الحجج الشهادات الأربع بها في كتاب الله تعالى في باب اللعان بين الزوجين عند حصول ما يقتضيه شرعاً والمختوم بالخامسة باللعن للتفريق الشرعي الدائم بينهما كما قال تعالى «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَة اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَ يَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَ لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ»(1)

ومن تلك الحجج إقامة الشهود العدول الأربع على المشاهدة التامة في المواقع المتفاوتة على حصول الزّنا بين الأجنبي والأجنبية بلا شبهة طرأت على ذلك، لإقامة الحد على كل منهما أو الرّجم على المتزوج منهما وحال نقصان الأربع، ولو يفرد من كل من شهد من الباقين اعتماداً على الأدلة القائمة على ذلك يحد من شهد بنقصان بحد الفرية.

ومن تلك الحجج قيام الفقيه الحاكم بنفسه على إجراء العقوبة الشرعية على مقترف الجريمة الخاصة إن شاهدها بنفسه حدا أو تعزيرا اعتمادا على قانون اللوث مع تمامية اعتباره شرعاً، لئلا يتسع الخرق النظامي العام الإسلامي على راقعه.

ومن تلك الحجج الظُّنون الخاصة التي نوهنا عن مصاديقها فيما سبق، وهي

ص: 252


1- سورة النور / آية 6 - 10

المعبر عنها بالعلميات.

ومن تلك الحجج إقرار العقلاء على أنفسهم بلا هزل أو سفه أو كذب أو مع وجود شبهة تدل عليه، فهو حجة عليه بسبب إقراره الجاد على ما دلت عليه أدلة ذلك.

ومن تلك الحجج جميع القواعد الشرعية المتفق على الأخذ بها والاستناد إليها بسبب متانة أدلتها.

إلى غير هذا من الأمور التي حققت فقهياً وأصولياً لأن يبنى عليها أن تكون حججاً يركن إليها في مقام الاستدلال على تثبيت كل شيء نحتاج إليه.

(قضية التخطئة والتصويب بين الإمامية وغيرهم)

فبعد أن ذكرنا فيما مضى من هذا البحث أكثر من مرة دعت إليه أنه يمكن الاحتجاج بنتيجة ما يصل إليه المجتهد الاصطلاحي من الأشياء عن الأدلة الصحيحة.

بل يصح البناء عليها سلباً أو إيجاباً لنفسه أو لنفسه ،وغيره ولو كانت بالمرتبة الأدنى من الحجّة الأصيلة التي في المعصومين علیهم السلام.

لأنهم علیهم السلام لا يعتري أقوالهم وأفعالهم وتقاريرهم خطأ أو اشتباه، حتى لو نطق الإمام الباقر علیه السلام ومن بعده الصادق علیه السلام مثلاً وهما متقاربان في عصرهما الشامل لهما بحكمين في أحدهما تفاوت عن الآخر، كما بين الواقعي والظاهري لمطابقة كل من حكميهما لحكمة الشرع كالتقية في ثانيهما أو الاضطرار المغاير للاختيار فيه، وما عداهما فإن الصواب في قولهما حاصل لا محالة.

أما اجتهاد هذا المجتهد المنتج للحجية فهو اعتباري، وبالأخص في أزمنتنا هذه التي تقل فيها الواقعيات وتكثر الظاهريات، وإن صادف في بعض هذه الظاهريات إن كان حاملاً بعض تلك الواقعيات بالنتيجة في علم الله، والتي قد تكثر أيضاً عن

ص: 253

طريقها التفاوتات النظرية بين شخص وآخر، وفي الأغلب الذين لم يكونوا من مستوى أهل العصمة، وعلى الأخص كثيراً الذين كانوا من المذاهب الأخرى.

ومع ذلك قال غير الإمامية - بل بعض غيرهم - بالتصويب.

بينما الإمامية - وتقديراً لما مضى ذكره عنهم أيضاً ولبحث موسع في بعض مألفاتنا - التزموا بالقول بالتخطئة.

وبما أنّ المعلومات الظاهرية والواقعيات - ومنها الفقهيات وهي عمدتنا في الأصول - بينهما عموم وخصوص من وجه.

إذ رب معلوم ظاهري مخالف للواقع، ورب واقع غير معلوم، وربما يتصادق الإثنان، كحكم واحد لدى المجتهد.

أما الصورة الأولى فلا يمكن البناء على طرفيها كمتساوين في حكميهما وهما مختلفان في نظر المجتهد.

وأما الثانية فكذلك.

وأما في صورة التصادق فلا معنى للتصويب، لعدم الإثنينية في البين، وإن بررّ العمل بالاثنين ،المتفاوتين كما مثلنا لذلك على فرض ورود مثل هذا بين الباقرين علیهماالسلام

فإنَّ ذلك التفاوت لو حصل من مثل مقامي الإمامين علیهم السلام فإنه لا مانع من العمل على طبق كل من الحكمين، لأن كل زمان ومكان وجهة له حكمهما الخاص بها، مع أن كلاً من الإمامين علیهم السلام حجة خاصة معصومة، كما أشرنا إلى أن من حكم التفاوت افتراق الأحكام الأولية عن الأحكام الثانوية كالتقية والاضطرار.

ومن أسباب القول بالتصويب كثرة الأدلة الظاهرية وعدم الانضباط الدقي في مجال تطبيق القواعد الأصولية أو السطحية في أسس بعضها أو الإنجرار إلى تيارات أهل الحداثة والتجديد بمثل التكثير من الاستدلال عن طريق القياسات

ص: 254

والإستحسانات المرفوضة والأخذ بالروايات المرفوضة، كاستناد المصوبة إلى رواية الأصحاب ك- (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)(1).

لعدم ثبوت هذا الحديث أو لعدم إمكان انتفاعهم منه على افتراض الأخذ به بناءً على صحته عندهم لأن حالة الأخذ به إن كانت فلن تكون إلا في مقام الصلاة جماعة، وصلاة الجماعة لن تصح عند الجميع في آن واحد خلف إمامين، فضلا عن الأكثر ، لقرينة ما لا تعطيه لفظة (أي) التي لا يراد منها في الحديث إلا الإمام الواحد.

ص: 255


1- قال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (ج1 / ص 144 و 145): موضوع. ورواه ابن عبد البر في (جامع العلم) (2 / 91) قال ابن عبد البر : هذا إسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث بن غصين مجهول. ورواه ابن حزم في (الأحكام) (6 / 82) من طريق سلام بن سليم قال حدثنا : الحارث بن غصين عن الأعمش، عن أبي سفيان عن (جابر) مرفوعاً به، وقال ابن حزم : هذه رواية ساقطة. فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما وجدتم في كتاب الله عز وجل فالعمل لكم به لا عذر لكم في تركه، ومالم يكن في كتاب الله عز وجل وكانت في سنة مني فلا عذر لكم في ترك سنتي، وما لم يكن فيه سنة مني فما قال أصحابي فقولوا، فإنما مثل أصحابي فيكم كمثل النّجوم ، بأيها أخذ اهتدي وبأى أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة. قيل يا رسول الله ومن أصحابك؟ قال: أهل بيتي. (رواه الصدوق رحمة الله في معاني الأخبار ص 156، قال: حدثني محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفار، عن الحسن بن موسى الخشاب، عن غياث ابن كلوب، عن إسحاق بن عمار، عن جعفر بن محمد عن آبائه علیهم السلام، قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله ما وجدتم .... ورواه الصفار رحمه الله في بصائر الدرجات 11/1. ونقله في بحار الأنوار 220/2 والاحتجاج، 2، 259).

وصلاة الجماعة أجنبية عن مقام تجويزهم الأخذ بفتويين أو الأكثر مع اختلافهما أو الأكثر، ليجوز المكلّف لنفسة الأخذ بأي فتوى يريد مع اعتراف بعض علماءهم بتمسكهم بما يعمل به الجميع بمثل رواية (كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ ، و خيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ)(1) ورواية (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَ إِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ)(2)، بناء على صحة اجتهاداتهم عندهم في مثل قياساتهم المعروفة تمثيلياً والتزامهم بالإستحسانات إن بقيت تلك الاجتهادات من دون غلق تحزباً ضد مسلك أهل البيت النبوي علیهم السلام

نعم إن صحت اجتهادات المجتهد على المباني الصحيحة وتعددت فتاواه بين ذات الحكم الأولي والثانوي الترخيصي فلا مانع بالعمل من الفتويين بمورد الابتلاء التكليفي دون الاثنين معاً، والمورد مختلف اتباعاً لدليل الحالة الخاصة.

إضافة إلى أن من حالات رفض رواية (أصحابي كالنجوم الخ) من كل وجه إذا كان المراد منه صحة اقتداءكم في صلواتكم خلف كل بر وفاجر، للفرق الواضح بين الصحابة في التأريخ لكون أنَّ منهم المؤمن العادل، ومنهم الفاسق والظالم والمنافق والمنقلب على الأعقاب، فلا توازن فلا تصح إلا خلف المؤمن العادل لا غير.

ص: 256


1- رواه الترمذى (2499) ، وابن ماجه (4251) ، وأحمد (198/3) (13072)، والدارمی (392/2) (2727)، والحاكم (272/4).
2- مسند أحمد 4: 198 حديث عمرو بن العاص

الباب الثامن : التعادل والترجيح أو تعارض الأدلة

اشارة

وفيه بحوث:-

المبحث الأول

وفيه تمهيدان:-

التمهيد الأول: حول سبب عدم تأخير الكلام الأول إلى هذا البحث

فنقول:-

قد مر منا في أواخر الجزء الأول من هذه الأصول بحث أطلقنا عليه بحث (تعارض الأحوال)، وهو الذي كنا قد أدخلناه هناك في مطالب مقدمات مباحث الألفاظ، دون أن يكون في واقعه أنه من صميم هذه المباحث اللفظية نفسها لما مرَّ حين بيانه من بعض الإشارات من الأسباب آنذاك، وكما سيجيء قريباً ما يوضحها أكثر.

إلا إن ذكر ذلك هنالك أقرب ما يكون فيه إلى خصوص المقدمات كما أشرنا دون ذيها، وإن لاح من ذكر البعض له في الظاهر وعلى الأخص من بعض أمثلته الدالة على أنه قد يشبه الكلام عن بحث (التعارض بين الأدلة) الآتي بيانه الآن في هذا الجزء الرابع مما تحت عنوان البحث العام أعلاء من أواخر هذا الجزء مما يعم

ص: 257

مباحث الألفاظ وما بعدها من عموم الأدلة المعتبرة الأخرى من البحوث الأصولية.

ولعل تعرض بعض أولئك الأجلة لما تحت عنوان (تعارض الأحوال) نفسه وإن لم يدخل فيه لفظ ( الأدلة) في مجملات ما ذكروه هناك أنه كان لما يخص نفس المباحث اللفظية لكن بالصيغة الأعم من الأدلة اللفظية الشرعية وما يؤول إليها من غيرها، دون ما يتعلق بشيء من المقدّمات بناءً على صحة التدوين الأصولي، حتى مع الخلط من قبلهم بين الأدلة الشرعية الخاصة وما تقول به اللفظيات العلمية الأخرى للكتاب والسنّة من العلوم الأخرى وما يقول به العقل الأصولي أيضاً لو تعارضت هذه الأمور فيما بينها تعارض النسب المنطقية الأربعة المشهورة مما له علاقة فيها عموماً من محل ما يشكل أمره من حالة التعارض العام.

وهو سبب جعلنا البحث الماضي في المقدمات لما هو زائد على خصوص مباحث الألفاظ الشرعية التي عبرنا عنها بذي المقدمات، لكن خصوص ما نريده هنا نحن حول ذي المقدمة دون ما يضيفه الأجلة من الزوائد هو كالتعارض بين الدليلين بمقابلة الحلال والحرام أو الصحيح للفاسد والموضوع واحد، وهو ما قد يسمى ب- (التناقض الحكمي) الذي لا يجتمع طرفاه إذا كان بعد الاستقرار، أو العام والخاص من وجه وإن أمكن اجتماعها بين الأمر والنهي ك- (أكرم العالم ولا تكرم الفاسق وإن كان عالماً) بدخول العلم بين المتعارضين.

لامتناع اجتماع العدالة والفسق حالة تعارضهما إن برر اللفظ والعقل الأصولي العام هذه التصديات بالنتيجة شرعاً من قريب أو من بعيد مقبول حتى الأمثلة العرفية التي تعرض لها علماء الأدب العام القريب من معاني النصين الشريفين على اختلاف أنواعها في مثل علمي المعاني والبيان وغير ذلك مما يعود إلى ذلك الأعم من مباني الألفاظ الواسعة وغيرها لأولئك الأصوليين الذين أدخلوا في أصولهم بعض الفلسفيّات وأمور الدقة العقلية.

ص: 258

بناءً على حجية العقل عندهم بما قد يكون أوسع مما كان أو يكون عند الاعتياديين من الآخرين من علماء الأصول كفتاواهم المتعارضة، لكون حجيته عند الآخرين لم تثبت إلا في الجملة وهي ديمومة مطابقته للشرع ولو بإمضاء الشرع له لما استقل العقل به كما في المستقلات العقلية لو ارتبطت بتعقل حسن الإحسان وقبح الظلم من الذين أرشدت إليهما بعض الأدلة الإرشادية من الكتاب والسنة كما في الأصول العملية المقررة للشاك في مقام العمل، أو ما هو الأكثر مما قد بُرر أو يبرر لبعض حالاته من إمضاء الشرع من المبررات التي لا تتنافى ومقررات الشرع كبعض القطعيات العلمية الواضحة أو الضروريات مما تحت العناوين الثانوية.

لكن لا كما يتصوره بعض أهل الحداثة والتجديد من العلمانيين أو الأقرب لهم ممن مر التعرض لأمرهم في الجزء الأول لخطورته، للخشية من جعل مقرراتهم قاعدة تامة في الأصول إلا للتمرن العام الوقتي في تلك المعاني العمومية المتخذة من قبلهم مما أعددناه هناك بنحو المقدمات دون الأزيد، ليكون إتمام الإفادة في هذا الجزء (الأصولي) الرابع من بحث (تعارض الأدلة) بالنحو المباشر هو الأنجح في تنجز عملية الاستنباط.

ولذا حبذنا أن نعزل ذلك البحث وهو (تعارض الأحوال) مع بعض الإشارات المناسبة لما يمكن أن ينبه على معنى التقديم للمقدّمة هناك، لا على ما يتناسب مع ذوات التقديم، وهو البحث عن (تعارض الأدلة) الخاص في هذا الجزء الرابع، مع تفاوت لفظ (الأحوال) عن لفظة ( الأدلة) من جهة حقيقة الفرق بين معنى العمومية المصطلح عليها عند أهل الصناعة من الأصوليين مقدمات وذي مقدّمات.

وبين ما هو الأخص عند من هم أقرب إلى رضا أهل الشريعة من علماء الأصول الآخرين من أتباع معاني خصوص لفظة ( الأدلة)، وإن توسعت إلى ما هو الأكثر من الأدلة اللفظية الخاصة المسموح بها ، خوف الوقوع في مطاب ما قد يحاوله

ص: 259

بعض أهل الحداثة والتجديد من المخاطر الأقرب إلى حالة الوضع والابتداع كبعض ما يصفون من القطعيات التي يعتبرونها مما يمضى أمرها الشارع.

إلا أن الواقع يختلف عن بعض ما يقطع به في نظرهم في بعض العلوم صناعياً، لاحتمال الاشتباه فيما يجزم به عند هؤلاء بتبدل القرار وحكومة الشرع الصريحة عليه.

وكذا بعض ما قد يتصورونه من الضروريات التي تلزم الشرع بالموافقة عليها من دون مآخذة عليها، لكن من دون واقعية لنظر هؤلاء كذلك، بتفاوت الضروريات بعضها عن بعض عندهم، ولأنها في الشرع تقدر بقدرها، كما لو كان الاضطرار ناشئاً من حالة نفسية وهمية، لا من حالة عقلية مقبولة يقربها العقل الرشيد.

وتتفاوت الحالة أيضاً في تحدّياتهم المخيفة من تطبيقاتهم العشواء لحالة تنقيح المناط المطلق.

بينما صحة هذا التطبيق لن تكون إلا بما كان مسدّداً ولو في الجملة الإسنادية من الجانب الشرعي، بل حتى ينبغي الخوف من تصدي المتساهلين في باب الأدلة اللفظية الشرعية مع وضوح أمرها عند الأدباء منهم في نواحي إفراز المقبول فيها عن غير المقبول، حتى من بعض من يحسب على الإمامية من المتأخرين، كمن يدعي أو يدعى له تبجحاً بأنه من أهل الفتاوى الشاذة المقبولة إكباراً أو تشجيعاً له وإن لم يكن في واقعه لائقاً له.

وكذا من حاول تقليص بعض الجوامع الخبرية الشريفة والمجامع الأخيرة بعد ما كانت مجلدات ضخام، فجعل حاصل ذلك أعداداً مختصره قليلة ليحصر فيها الصحيح في نظره من أخبار الآحاد لكي يهجر الباقي، وإن صح العمل بالباقي بعمل الأصحاب والجبر بالشُّهرة العملية أو بعض القرائن المساندة لمن يدعي أن الباقي ضعاف.

ص: 260

بينما المؤسف أن المقلّص لهذه الأخبار ممن ينبغي أن يعلم إن كان منصفاً أن مقام أخبار الآحاد لو يعتز بالسعي بتصحيحها مهما أمكن بتوفير مأهلاته بأكثر من مجرد هذا التقليص وإضاعة الباقي إن كان مما يستحق الإضاعة.

وقد نوقش بكثير منها إذا كانت خالية من قرائن التصديق والتي من أولها ادعاء الخليفة الأوّل عند العامة أمام الزهراء علیهاالسلام بعد وفاة أبيها صلی الله علیه و اله وبعد أخذ الخلافة من صاحبها أمير المؤمنين علي علیه السلام وأمام القوم مع فاصل الملائة بينها وبينه مع جماعته والآخرين، قائلاً لها إن أباك قال (نَحْنُ مَعاشِرَ الْأَنْبِیاءِ لا نُوَرِّثُ ما تَرَکْناهُ صَدَقَةٌ)(1)، وهي تحتج عليه بآيات المواريث الخاصة بما بين الأنبياء وأبنائهم وبآياتها العامة المطلقة بما بينهم وبين الآخرين جميعاً على حد سواء.

ومن هذه المخاطر المخيفة في التطبيق الأصولي عند حصول التعارضات من قبل المتساهلين أو السطحيين من ذوى الحداثة والتجديد، فضلاً عمن يتعبد بأصول العامة على علاتها

فلابد من أن تكون السلوكية العامة المطلقة فيهم - إذا كانت من تخريجات العقل الأصولي الصناعي البعيد ولو في الجملة عن التقيد الشرعي - غير صالحة للقبول إلا بذكرها دون التمسك بها في باب المقدمات المعد للاطلاع العام التمهيدي والتّمرني الابتدائي وعند انكشاف الحق يرتضى بالمقبول ويرفض المرفوض.

ص: 261


1- مسند أحمد بن حنبل 463/2

التمهيد الثاني: سبب اختيارنا لعنوان البحث أعلاه وترك ما عبر به القدامى من عبارة (التعادل والترجيح)

وأما ما عنونا به البحث الآن من اختيارنا لعبارة (التعادل والترجيح أو التعارض بين الأدلة) دون أن نختار ما عبر به القدامى من الأصوليين وهو (التعادل والترجيح) بإضافة (الألف) في كلمة (الترجيح) لتتحقق عندهم صيغة الجمع لها يجمع التكسير.

فقبل الخوض في غمار هذا المضمار وبعد البدء السابق بالكلام عن الأوامر والنواهي وقضايا إمكان الجمع بينهما من عدمه لانشقاق هذا البحث من تلك المطالب إلى الحالتين.

ينبغي لنا لزوماً أن نتطرق إلى معنى هذا العنوان:-

فأولاً: ما معنى ما اصطلح عليه عندهم من لفظة (التعادل)؟

ولماذا جئنا به نحن كذلك كما جاء به القدامى؟

وثانياً: هل أنّ (تعارض الأدلة) الذي جئنا به نحن الآن في عنواننا بنحو الإضافة كما عبر به آخرون ممن سبقنا يمكن أن يعوض عن العبارة الأولى للعنوان وبما يستغنى به عنها؟

أو أنها الأفضل منها في مورد الجمع بينها في هذا العنوان بفاصل (أو) العاطفة التي قد تكون بمعنى التخيير أو الإضراب حينما يكون الاصطلاح الأول أشكل والثاني أفضل؟

وثالثاً: ما الفرق بين ما اخترناه لبحثنا هذا من لفظة (الترجيح) وهو المفرد

ص: 262

والمصدر، وما اختاره القدامى عن (التراجيح) المصاغ مع الألف كما مر للجمع؟

فنقول عن:

المبحث الثاني: (جواب المقارنة بين ما جاء به القدامى من "التّعادل" وبين ما جئنا به نحن أيضاً مثلهم)

إن الإجابة عن هذه الناحية الأولى ليس فيها ما يمنع من أخذنا بنفس ما أخذ به القدامى من الاصطلاح للتعادل ما دام (التعادل)، وهو نفسه المصدر الموازن للفظ (التفاعل) القائم بين شيئين متقابلين، تقابل عدم إمكان الجمع بينهما في لسان المعصوم علیهم السلام كالتعارض السابق في ذكره والآتي في تفاصيله ليعبر كل منهما عن واحد.

لكون المعصوم علیه السلام لن ينطق إلا بحكم واحد لا يعارضه حكم مخالف منه في نفس الموضوع، إذا لم يصل إلى معنى التزاحم بين حكمين لموضوعين، على ما سيتضح في التفصيل بين المعنيين تفصيلاً أو تمثيلاً بالنحو الأكثر في الأحكام الله تعالى.

لكون (التعادل) المذكور إذا حمل معنى التزاحم مع معنى (التعارض) المشابه يخضع للاشتراك اللفظي المحوج إلى القرينة المعينة لحمل خصوص معنى (التّعارض) دون معنى التزاحم.

ولعلَّ هذا (التَّعادل) المساوي لمعنى (التعارض) المزبور صرفياً مصدريًاً من دون الاشتراك، حينما كان في زمن أولئك القدامى مألوفاً ومدركاً بنحو من التبادر إلى كون أحد الشَّيئين معادلاً للآخر في المعارضة الاصطلاحية الكاملة، بحيث أن كلاً منهما تام الحجية ضد الأمر وبنحو مقطوع به كالنصين المقطوع بمعناهما في كل

ص: 263

منهما ، أو المظنون المعتبر في كل منهما أيضاً إذا اختفت حالة النصين المتعارضين بنحو من القطع بهما، إذا لم يكن مشابها له كما يفترض، لئلا يكون كل من فردي التعارض معرباً عن نفس الفرد الواحد.

وهكذا في كل حالات (التعادل) الاستدلالي بين أي اثنين متعارضين تامين مقبولين بالدرجة الأدنى، أي من الظن المعتبر، لعدم صحة أن يقال (عادل الشيء ذاته)، ولعدم صحة أن يقال أيضاً (عارض الشيء نفسه عرضاً لا طولاً).

لعدم معقولية غير معنى الاثنينية، ما دامت تلك الأدلة المتقابلة بهذا النحو مما يستحيل أن ينطق بهما معاً بمثل الحلية والحرمة والطهارة والنجاسة في آن واحد مشرع الإسلام ويقر به العقل العادل.

وأما من جهة الطول فقد يتغير الحال إلى إمكان ما به صحة الجمع بما تحت العناوين الثانوية الآتية في حينها.

ففي التمثيل للأول وهو الذي بمعنى التزاحم وإن كان يصدق عليه لفظة (التعادل) قبل مجيء القرينة المعينة لخصوص مساواته ل- (التعارض) فهو كفريقين في النهر لا يقدر ثالثهما السالم من الغرق إلا على إنقاذ أحدهما دون الآخر لا على التعيين بالنحو المقطوع به المساوي للتعيين بحسب العادة.

وفي التمثيل له أيضاً بمعنى التزاحم لكن بمستوى الاستدلال الظنّي المعتبر عند فقدان حالة القطع، كما في الترديد بين التكليف الشرعي عند الزوال يوم الجمعة على كل مكلف اجتهاداً أو تقليداً بين أن تجب صلاة الظهر وبين أن تجب صلاة الجمعة، لو تعادل التكليفان بين ظهور دليل كل منهما للمجتهد بالنحو الظنّي المعتبر أو لمن قلده، ولم يُحكم أحد د ليلي التكليفين الآخر ضد ما سبقه مثلاً، بسبب إجمال قوله تعالى من سورة الجمعة وهو «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ

ص: 264

يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ»(1) من كلمة (نودي) المصاغة بالفعل الماضي المبني للمجهول، الذي لم يشخص فيه من هو المنادي في الغيبة الكبرى هذه حتى يجب اتباعه أنه هل هو الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف وهو غائب منتظر؟

وتعين التكليف بين صلاة الظهر وصلاة الجمعة في حال الغيبة هذه لم يعلم إلا بين المجتهدين غير الإمام الغائب عجل الله تعالی فرجه الشریف ممن يخطأ ويصيب، وإن كان البناء عند الحيرة التامة يرجع ظاهراً إلى الأصل وهو البناء على خصوص صلاة الظهر على أحد الآراء.

وعلى فرض الاجتهاد وصحته والوصول إلى تساوي الدليلين يأتي (التعادل) التزاحمي بما لا يمكن إلا باختيار أحد الواجبين مع توفر الشروط اللازمة.

ومن هنا يتبين سر معنى (التعادل) المفسر ب- (التعارض) العنواني، ولو بمقدار ما تعارف لدى أولئك القدامى من التطابق المناسب للموضوع، وهو كون التكليف لابد أن يكون واحداً أو دون الاثنين عن الله تعالى في الموضوع الواحد كما سبق وكما سيجيء.

وللتمثيل للمقام يمكننا أن نتكيف في نفس ما مثلنا به للتزاحم، فنجعل الترديد بين وجوب إنقاذ أحد الفريقين وبين حرمته، وكذا الفريق الثاني بين الوجوب وبين الحرمة، فيكون مصداق التعارض في كل من الفريقين.

وكذا نجعل الترديد في صلاة الظهرين بين وجوبها وبين حرمتها.

وكذلك في صلاة الجمعة بين وجوبها وبين حرمتها.

وبهذا يحرم ترك إنقاذ الفريق الأول مثلاً إذا صمّم المكلف بذلك على ترك إنقاذ الثاني لحرمة ترك إنقاذ الاثنين معاً لو انحصر أمر الإنقاذ بهذا المكلف المقتدر، بل

ص: 265


1- سورة الجمعة / آية 9

يحب عليه إنقاذ ذلك الأول بناء على وجوب إنقاذ أحد الاثنين لا على التعيين كالأول.

وكذا يحرم ترك إنقاذ الفريق الثاني إذا صمّم المكلف على ترك إنقاذ ذلك الأول، بناءً على وجوب إنقاذ أحد الاثنين معاً، بل يجب عليه إنقاذ ذلك الثاني بناءً على وجوب إنقاذ أحد الاثنين لا على التعيين.

وكذلك الأمر في صلاة الظهر يحرم تركها إذا صمّم المكلف على ترك صلاة الظهر، لحرمة ترك الصلاتين معاً، حتى صلاة الجمعة بعد أن كانت داخلة بين الأمرين المردّد بينهما في التكليف بل تجب صلاة الجمعة أيضاً بناءً على وجوب إحدى الصلاتين لا على التعيين.

وبهذا الذي ذكرناه عن التمثيل لحالتي التعارض من مثال الحالة القطعية ومثال الحالة الظنية المعتبرة يكون مطابقا لما يقتضيه مما ينسجم مع (التعادل) عند القدماء في حال التكوين المقطوع به والمتطابق لزوماً مع التشريع كمثال أحد الفريقين الموافق لقوله تعالى «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا»(1)، ولذا ما تم التكلف إلا بإنقاذ الواحد.

وفي حال التكوين والتشريع كمثال إحدى الصلاتين المحتمل كل منهما باتصافها بالوجوب أو الحرمة بما لا مجال فيه إلى حالة التخيير المرتبطة بحالتي التعارض غير المستقر مع إمكانه، بل بتعين الحكم الواحد مع استقراره.

ولذا لا يمكن أن يصدق أي تناقض في لسان من يمثل الله في شرعه من النبي صلی الله علیه و اله والإمام علیه السلام حتى يصح منه أن يقول حكمين متعارضين أو يقر بهما، وهو لا يقدر إلا على تطبيق واحد منهما لا غير، إما الواجب بحق فيلتزم به أو المحرم كذلك

ص: 266


1- سورة البقرة آية 286

فيجتنب .

ونحن لسنا بأولئك المصوبة، ولا أن يتردّد معصومونا علیهم السلام بين الحكمين المختلفين بدون علم، ليتساويا عندهم بحسب الظاهر، لأنَّ كلاً منهم حفظة في الحقيقة للحكم الإلهي الواحد الواقعي في مثل هذه الموارد وليس هم كالمجتهدين الذين يطرأ عليهما الخطأ والصواب.

وليس الأمر أيضاً مما يثبت في بعض النصوص الخاصة بصراحة تخييرية على بعض الأمور كما في خصال الكفارات المرددة بين أفرادها المتساوية في السماح بها في التكليف بأحدها دون الأكثر أو ما يثبت فيه ذلك بسبب العلم الإجمالي من الأمور المرتبطة بالأصول العملية المقررة للشاك في مقام العمل، إذا لم يدرك ما هو غیر ذلك.

ومن نتائج ذلك التخيير الحاكم به المجتهد المخول لا غير، فإن هذه أمور تابعة لأدلتها الخاصة دون حالات التعادل أو التعارض بالمقارنة ما بين كل منهما أو في التعارض الجاري بين كل من التعارضين الماضيين.

المبحث الثالث: (جواب المقارنة بين تعبير القدامى ب- (التعادل) وما قلنا نحن به أيضاً معهم وتعبيرنا الخاص بالتعارض واحتمال معنى الإضراب فيه بسبب التزاحم بينه وبين التعادل)

فنقول: وأما الجواب على السؤال الثاني فهي:-

إن كان هذا (التعادل) الذي في عنوان بحثنا وعنوان القدامى قد يشمله بعض معاني التزاحم الذي سيجيء التعرض لبعض أمورها في البحث المستثنى المستقل

ص: 267

الخاص عن معنى الاشتراك الذي فيه إذا كان العدل من المتعادلين منهما مفسراً بمعنى البديل المعوض كما سيتضح أكثر في مثل أمثلة الكفّارة التخيرية، فإنَّ بين (التعادل) وبين التعارض المراد في واقعه كونه الخالي من التزاحم، وهو الاحتياج إلى القرينة المعينة لو لم يعلق إلا بالتعادل كما سبق.

فبناءً على صحة ما عرف من ذلك التزاحم الإجمالي في التعادل إذا حصل فيما بين فرديه مجال شرعي للخلاص من التقيد الكامل بالتزاحم فلم يتساو التعادل مع تعارض الأدلة، إلا بحصول مجال، لعدم التزاحم الكامل أيضاً بمثل إمكان الجمع بينها ولو الجملة.

وبهذا يمكن القول برجحان معنى التخيير بحرف (أو) الذي ذكرناه في عنواننا، وإن لم يصح هذا المعنى من التزاحم إذا كان كاملاً ، أو جاءت القرائن المساعدة على عدم الإجمالي.

فلابد من حصول عدم التساوي الإجمالي بين عبارة (التعادل) وعبارة (تعارض الأدلة) في عنواننا، وهو مما يتأتى أيضاً بحرف (أو) الإضرابية، لوجود بعض التفاوت بين الحالتين على ما سيتضح.

ولا ضير في الأمر بناءً على كونها عاطفة تخييرية، حتى لو ركزنا في باقي هذا البحث لبعض المقتضيات على خصوص (التعارض في الأدلة)، لأنَّه لابد أن يتحقق به الهدف المنشود كالخلاصة الأجمع لو دخلت كلمة (التعادل) في ناتج الجمع بين الخبرين المتعارضين.

ص: 268

المبحث الرابع (جواب المقارنة بين مختارنا مع بعض السابقين من لفظ "الترجيح" بدون الألف وبين اختيار القدامى للتراجيح معها)

وهي إن من قدامى القوم بعد أن عبروا في الباب - بعد كلمة (التعادل) المذكورة-بعبارة (الترجيح) المزيدة بالألف وبالواو العاطفة لجعلها به جمع تكسير، وهو على خلاف القياس الصرفي، وإن كان هذا الجمع يتناسب مع تعدد التفاوتات المختلف، لكونه عند الصرفيين ينبغي أن يكون جمع تصحيح، وهو المسمى عندهم أيضاً بجمع المؤنث السالم، حينما كان مفرده ومصدره على لفظ (ترجيح)، وهو المأدي إلى معنى اسم الفاعل لو يجيء على كلمة (مرجح) - بكسر وتشديد الجيم - ليكون جمعه على الأصح بالألف والتاء المزيدتين بصيغة (الترجيحات) دون (التراجيح) التي قالوها.

ولعل سر تعبيرهم - والله العالم - بكلمة الجمع التكسيري هذه دون التصحيحي هو أنَّ (التعادل) الذي ذكروه في بداية عنوانهم قديماً لهذا البحث في أحد معنييه- وهما التساوي بما يأدي إلى التزاحم القابل للعلاج، وهو ما به إمكان الجمع في الجملة مثلاً أو التساوي بمعنى التضاد الذي لا يمكن فيه الجمع جملة وتفصيلاً إلا بالتّخيير بين أحد الفردين دون أن يكون معه الآخر -

لما تخفُ فيه وطأة قوة التساوي بين طرفي التعادل الدلالي من النسب المنطقية الأربعة المشار إليها سابقاً فيه، كما في المعنى الثاني إذا حصل بينهما شيء من التفاوت من تلك النسب وإلى حد قوة أحدهما على الآخر.

فإن حالات التفاوت تلك لما ظهرت عندهم - في أمور العلاجات الأصولية

ص: 269

المتفاوتة دون المتشابهة بتتبع أهل الحذاقة الاستنباطية منهم -

عديدة، من حيث الأسانيد ومن حيث الدلالات ومن حيث الاعتبار القطعي أو الظنّي المعتبر، ومن الوجهة اللفظية والوجهة غير اللفظية كاللبيات المعتبرة لو قويت على بعض اللفظية أو ضعفت عن اللفظية على ما سيتضح كثيراً في جميع مجالات أن لا يحكم الشرع الشريف دوماً إلا بحكم واحد لا ثاني في مقابله.

وإن عرف بين الأعلام كالشيخ الأعظم قدس سره من مقولة (الجمع مهما أمكن أولى من الطّرح) وتعيين معناها عندهم للجمع العرفي دون التبعي، لما سيأتي، فلن يكون إلا بالمعنى الأول المرتبط ب- (التعادل)، وهو ما يمكن فيه الجمع ولو في الجملة.

وهو ما قد يأدي إلى معنى مطلق الالتقاء بين المتعادلين، وإن تفاوتا في نسبة التساوي بين مصداقي القليل والكثير بسبب خضوع (التعادل) إلى مأديات ما يظهر للمتتبع الفقيه من نسب التلاقي بين الأدلة الشرعية المحورية في الاستدلال حتى لو جاء بمعنى التزاحم، وإن قلت أمثلته كالصلاة التي ضاق وقتها في الدار المغصوبة أثناء الخروج كما سيتضح أكثر ، ولو بإدراك ركعة واحدة من الوقت الأدائي.

أو بحمل معنى ما ظاهره التعارض قبل استقراره في الجمع بينهما في مثل الوجوب بالعنوان الأولي والحرمة بالعنوان الثانوي كبعض حالات التقية، أو الحرمة بالعنوان الأولي كأكل الميتة، والوجوب بالعنوان الثانوي عند الضرورة في صحراء المجاعة المميتة، بمثل أكل مجرد ما به سد الرمق دون الأكثر.

أو حكم الفقيه المجتهد بالتخيير التعادلي في بعض موارد العلم الإجمالي للأصول العملية لو قلده العامي في الغيبة الكبرى هذه للمعصوم عجل الله تعالی فرجه الشریف

وقد يكون هذا السر المشار إليه صحيحاً فيما لو كان هذا التفاوت المذكور متناسباً بتمام وكمال حتى مع خصوص جمع التكسير، لكنّي لا أظن أن يكون هذا ممتنعا مع جمع التصحيح أيضاً، لأنه لا مشاحة في الاصطلاح لو لم يتغير المعنى

ص: 270

بذلك، بسبب ما تعطيه متغيرات مباحث الألفاظ المتفاوتة بسبب تأثرها بما يتناوله يد الفقيه المتتبع من مختلف طرق الاستدلال الشَّرعيّة .

لكن ما يهون الخطب كثيراً أنا لسنا بحاجة ماسة إلى كلمة الجمع هذه، أو حتّى جمع التصحيح مع الألف والتاء المزيدتين، وإن كان قابلاً لأن يجمع عن طريقه بين كل دليلين متعاندين في التقابل بما وجهناه من التوجيهات الخاصة وبما لا يصح الجمع فيه إلا بالأخذ بأحدهما من الأحكام المشروعة دون الآخر لناحية التعاند في الحال الظاهرية الأخرى، مادام المصدر المفرد - وهو الخالي من ألف جمعي التكسير والتصحيح - قابلاً لأن يستفاد منه عموم وإطلاق ما يصح أن يعبر به عن كل حالات ما يحتاج إلى حل مشاكله من التفاوتات اللفظية المروية لفظا ودلالة.

ولذا تم اختيارنا لعنوان بحثنا أعلاه (التعادل والترجيح أو التعارض بين الأدلة) بديلاً عما استعمله القدامى من لفظ الجمع وهو (التراجيح) المصحوبة بالألف.

وعليه فبناءً على بقاء اختيارنا للفقرة الأولى وما صححنها من الفقرة الثانية من هذا العنوان الكبير لبحثنا هذا وهو (التعادل والترجيح) فهو مع إضافتنا الثانية، لكونه الأنسب مما ذكره أولئك القدامى "قدس سرهم" من لفظ (التعادل) نفسه، ما جمعوه مع لفظ جمعهم وهو (التراجيح)، لما أشرنا إليه من السبب.

ولكون مختارنا الخالي من ألف الجمع مع ما سبق من (التعادل) ينسجمان مع مصدرية الإفرادية مما أشرنا إليه من السبب أيضاً، وهي المغنية عن استعمال أي من الجمعين السالفين في الذكر تكسيراً أو تصحيحاً بجعل مصدري الإفراد في كل منهما قابلاً لأن يجتمعا على معنى.

ولفظ الترجح بدون الياء إذا كان هذا هو المصدر والذي مع الياء إذا عُدَّ اسم المصدر وهو نتيجة الحدث أو العكس قد يعطيان نفس ما به إمكان الجمع.

وبناء على ترجيحنا التركيز بالنحو الأكثر على اختيارنا في العنوان الكبير بإضافة

ص: 271

(أو التعارض بين الأدلة) الماضي ذكره كما هو المألوف لدى بعض الأعلام الأجلاء مأخراً أيضاً لو لم نجعله مساوياً لما سبقه من الفقرة الأولى تماماً، أي بمعنى أن لا تحمل كلمة (التعادل) مع كلمة (الترجيح) معنى التعارض في حديها.

فلأجل احتمال تساوي هذه الفقرة الثانية الإضافية وهي (أو التعارض بين الأدلة) مع خصوص ما يراد من معنى (التَّعادل) مع ضم (الترجيح) إليها لو يفسر بمعنى المقابلة الضدية في حديه المحوجين إلى العلاج، بسبب عدم إمكان التلاقي بينهما ظاهراً لا غير لولاه بما سيأتي تفصيله من مثل التتبعات الناجحة وغير المستحيلة.

نقول: بأنَّ الفقرة الثانية وحدها قد تعوّض عن كلا كلمتي الفقرة الأولى بدون أي تكلف إن أمكن كما عرف مما نقله الشيخ الأعظم قدس سره من المقولة الماضية إذا كانت قابلة للتطبيق، بل ظهر من لدن كثير من المحققين العثور على مصاديق كثير من ذلك.

بينما لو جعلنا التعادل متساوياً في حديه وحده وبما لا معارضة تامة بينهما وناسب أن يحملا في الحدين معنى التزاحم فلا علاقة ل- (التعارض) مع طرفي (التعادل) إلا بحمل القرينة المعينة بسبب الاشتراك مما سلف بيانه، وهو أمر غير عادي، بسبب عدم إمكان التلاقي.

فلا بأس بالتخلص إذن - مع إمكانه وتيسر موارد الجمع لو فضلت لدى المجتهد المتتبع على معنى التزاحم غير المنتج - إلى الكلام اعتياديا وبدون تكلف عما هو الوافي والكافي باتخاذ جميع العلاجيّات المحتاج إليها في حال أي تعارض يجري وعلى أي حال مما سنفصله للوصول إلى الحكم الإلهي الواحد بسبب اللفظيات الشرعية المتعارضة في أغلب الموارد الإبتلائية، مع إضافة بواقي أخرى أصولية وآخرها اللبيات على ما سيتضح في الأمثلة والشواهد.

فنقول في صميم البحث الآتي البحث الآتي موضحين:-

ص: 272

المبحث الخامس: (التعارض في الأدلة وخواصه المميزة له عن التزاحم)

بعد ما أشرنا سلفاً إلى أن (التعارض) قد يلتقي ب- (التعادل) مع (التزاحم) إذا كان التعادل بمعنى تساوي الطرفين في التضاد، مادام الترجيح هو الذي يحل المشكلة بواسطة العلاجيات، مع أنَّ التعارض أيضاً هو الذي يحل المشكل، بل وأيضاً هو الذي يحل مشكله بنفسه وإن تعددت جوانبه بتوسط تلك العلاجيات العائدة إليها.

وقد لا يلتقي هذا التعارض بالتعادل في التزاحم - إلا في بعض الحالات من تخرجيات الفقهاء الاجتهادية الموافقة لمنهجية ما تقتضيه مضامين أو ظواهر بعض تلك العلاجات مما مر ذكره وما سيجيء بصوره أوضح - كأمر حمل التعادل لحالة الاشتراك اللفظي، وعلى ما مر وما سيجيء التثميل له من جهة بعض النصوص الصريحة والواردة في باب التزاحم أو الظواهر المفيدة لذلك بالمرتبة الثانية بعد تلك النصوص، أو المفاهيم القابلة لأن يحتج بها في هذا الأمر بالمرتبة الأولى، أو الإرشاديات إلى صحة التمسك بالأصول العملية من أبواب العلم الإجمالي إن احتيج إليها وأمكن علاج الأمر في مورد التزاحم المشكل كما في الوجوب بالحكم الأولي والحرمة بالحكم الثانوي مما مضى ذكره وما سيجيء والشي المعالج واحد أو الميسورة أمثلته.

وأما في أمر عدم إمكان الإلتقاء فلابد من لزوم التعرض إلى ما يخص حالات التعارض بدون أن يشترك شيء منها مع غيرها، بل لإبعاد معنى التزاحم عنه بذكر شروطه وخواصه.

فأول مميز للتّعارض عن غيره وهو التزاحم لو يجتمع بالتعادل المومى إليه في أحد التمهيدين الماضيين هو المعنى اللغوي، ولو من حيث منشأ استعمال اللفظين إذا

ص: 273

حصل شيء من التفاوتات بينهما بالنتيجة الأدائية.

ومن بعد اللغوي المعنى الاصطلاحي للأصوليين لو اختلف عن اللغوي.

ثم من بعده ما يناط به ذاتياً من الشروط الخاصة بالتعارض المطلوب أمره مع الأمثلة المشخّصة له أكثر أو التي توضحه عن غيره بنحو أزيد.

ثم الكلام عن الحكومة والورود.

وإن كنا سنذكر الأخيرين في تعداد الشروط الخاصة بالتعارض قبل ذلك، وثم ما يتناسب ونهاية المطاف عن هذا التعارض.

وهي ما يكفى من بعض القواعد العامة لبابه ، ثم عمّا يحتاجه التزاحم.

ولذا نقول:-

1 - عن المعنى اللغوي، فقد جاء فيه عن اللغويين كما في لسان العرب لابن منظور مع شيء من التصرف غير المخل (التعارض لغة على وزن تفاعل مأخوذ من العرض بفتح أوله وسكون ثانيه بمعنى المنع ومنه ""سرت فعرض لي في الطريق عارض "" أي مانع من السير ومنه ""عارضه في كلامه "" أي منعه منه، ومنه سمي الرد على الدليل بالاعتراض عليه)(1).

وكما في مجمع البحرين للمحدث فخر الدين الطريحي قدس سره مع شيء من التصرف غير المخل أيضاً في قوله تعالى «وَ لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ»(2) (العرضة فعلة بمعنى المفعول، أطلق على ما يعرض دون الشيء وعلى المعرض للأمر، فمعنى الآية على الأول أي لا تجعلوا الله حاجزاً لما حلفتم عليه من أنواع الخير، بل مخالفته ....إلخ)(3)

ص: 274


1- لسان العرب - ابن منظور - ج 7 ص 165 - 186، باب عرض.
2- سورة البقرة / آية 224
3- مجمع البحرين - الشيخ فخر الدين الطريحي - ج 4 ص 212 ، باب عرض

إلى غير هذين المصدرين من مصادر اللُّغة الشَّبيهة بما ذكرنا، وبه الكفاية عن المعنى اللغوي.

أقول: إن هذه المصادر اللغوية في نوعها التطابقي عن التعارض لم تحفظ لنا أكثر مما عايشوه في عهودهم السابقة من الاستعمالات، وهي المتعارف عليها في كونها ظاهراً لابد أن تحمل ما هو الأعم من الأوضاع الحقيقية للمعاني الأدائية الخاصة للأشياء ليدخل معها غيرها، إلا مع ثبوت الكثرة المقصودة في تلك الاستعمالات أو بعضها مما يشخص ذلك المستعمل الخاص في كثرته ويسبب هجر بقية الألفاظ المشتركة عن معانيها الأخرى.

وهو ما يحوج إلى التوغل المباشر في أوساط أنباء اللغة الأساسيين، لمحاولة التعرف على دقة ما قد يتطابق ولو مع بعض حالات نموذجية من ذوات التطابق الكافي مع المصطلح الخاص الآتي.

وهو أمر ليس بالميسور الاعتيادي في تحقيقه للتفاوت الزماني بين القديم والحديث في وضوحه لدى سعاة التحقيق، للضبط الدقيق في مظان كل مصادر التصديق، ولأننا لسنا كسيبويه وفي زمانه الذي كان قد شافه كلام العرب الأقحاح وعايش صفاء فطرتهم.

وإن ألمح بعض الأصوليين إلى أن ما ذكرته قد يكون عند استعراض معنى التضاد والتنافي والتقابل بين الدليلين، لتكون مأدية إلى معنى التعارض بالملاك، وكذا كان ما ذكره الطريحي قدس سره عند ذكر الآية الكريمة، وكذا من سبقه في الذكر قد يستشم منه هذا المعنى أو بعضه.

إلا أن الحق لغوياً باق على إجماله الثابت ما لم يكن موصلاً إلى اختيار اصطلاح جديد، وهو ما يحوجنا إلى إظهار اصطلاح جديد وهو مفتقر إلى الأمر المثبت وهو غير ميسور بكل بساطة، إذ إلى حد الآن لم يتعد في تشخيصاته في

ص: 275

القواميس الميسورة عن تلك العمومية السائدة فيها قبل مباشرة التحقيق غير الميسور للتّعرف على خصوص تلك الأوضاع الحقيقية المفرزة عن خلطها بغيرها على نحو من الصدق التطابقي، كيف بما قالوه على نحو من التلازم المذكور، ولا أقل من علاقة النقض إن أمكن منه.

2 - وأما عن المعنى الاصطلاحي للتعارض فهو في اللغة مصدر من باب (التفاعل) المأدي إلى حمل فاعلين بحيث لا يقع الفعل إلا من جانب الفاعلين، ولذا لا يقال فيه إلا تعارض الدليلان، أي كل فاعل معارض للأخر بسبب دليله، وهو ما يؤول إلى معنى التكاذب، بحيث لا يجتمعان معاً على الصدق، كما مرت الإشارة إلى هذا المعنى من وجوب الاعتقاد بوحدة حكم الله تعالى في المقامين، لو أتي به منقّحاً بينهما ليبطل الآخر حتماً، سواء جاء ذلك في جميع مدلولات المقامين من مستوى الدرجة الأولى حين توفرها أو في بعض النواحي المعتبرة كالدليلين المعتبرين من الدرجة الأدنى في الاعتبار، إن لم يتيسر الأول كما أشرنا سابقاً ما بين النصيين المتقابلين أو الظاهرين في مقبوليتهما بتشابههما في التنافي مع كون الموضوع في الاثنين المتنافيين واحداً مع بقية حالة انطباق الوحدات المنطقية الثّمان للتناقض، لتشبيهه بالتعارض على خلاف ما سيأتي تفصيله من التزاحم المشار إليه سابقاً، لأن اثنينية جانبي كل من فردية ذات موضوع مستقل عن صاحبه بلا خصوصية في طرفي كل تزاحم من إمكان التلاقي بين طرفيه من عدمه.

وهذا التحديد الأصولي لمصطلحهم جاء مضمونه موافقا لما عرف بين قدمائهم، لمألوفية التعارض السائد عنهم غالباً في تطبيقات أموره الترجيحية في الأخبار الخاصة بها، وإن توسعوا في أمر الاستدلال إلى ما يتجاوز عن منطوق ألفاظها الشريفة إلى الأدلة اللبية لو تعارضت فيها فيما بينها، أو بينها وبين تلك اللفظية واحتاجت إلى الترجيح لو حصل مقتض أو موجب له من إحدى الجهتين.

ص: 276

ولذا أمكننا أن نقول: أن هذا هو سر اختيارنا ومن سبقنا أو عاصرنا في عنوان البحث الطويل مما بعد (أو) العاطفة فيه، مما يفيد عطف التفسير أو التخيير أو الإضراب مما سبق ذكره ل- (تعارض الأدلة).

أقول أيضاً: ومن هذا الاستعراض للمعنيين - اللُّغوي والاصطلاحي - يتبين أن بعد الذي ذكرناه من عمومية الأول وخصوصية الثاني، وهو إن كان يبدو منه عدم ابتعاد المعنى الاصطلاحي عن اللغوي كثيراً، لوجود بعض المصادفات المتطابقة أو الداخلة في علاقتها التضمنية، لما عرف من حالات التشابه المبعثرة بين شرعيات إسلامنا العزيز وبين ما بقي محفوظاً عن التحريف من بعض الشرعيات السماوية السابقة عليه مما عثر عليه في التوراة والإنجيل وغيرهما، وقد صرح به قرآننا الكريم.

إلا أنَّ اللغوي الذي يصعب كثيراً عليه - حينما همه جمع كل شارد ووارد من ألفاظ اللغة العامة والخاصة في قواميسه لئلا تختفي - ضبط وانضباط حالات التطابق الكافية، لو أريدت في أغلبية - أو غالبية أو حتى الأقل من عمومياتها - أن تكون داخلة في عالم ما يصلح للاصطلاحيات الخاصة الأخص التي نريدها مع السماوية السابقة المحفوظة - لبضع قواعد خاصة لها توصلها إلى الاصطلاح المراد.

لاحتاج هذا اللغوي - بل كل لغوي - إلى أن يثبت عندهم وجود قرائن تصرف تلك العمومات عن عمومياتها لصالح تلك السَّماويات المحفوظة في جملتها المشابهة لما في شرعنا إن تطابقت معها من جميع الجهات.

لذا لم تثبت تلك القاعدة الكلية للاصطلاح تامة وإن حوت القواميس بعض العبائر المبعثرة مما يدخل في الاصطلاح، ومنه معنى (التعارض) في العرف الأصولي.

فلم يكف إذن مجرد التعريف اللغوي له.

ص: 277

المبحث السادس: شروط التعارض الخاصة

وأما شروط التعارض فنقول:-

لأجل بث المزيد من الضبط والتحديد للتّعارض أكثر ليمتاز عن غيره من المشابهات في بعض الظواهر والمخالفة له في الواقع.

ذكر الأصوليون له شروطاً تخصه دون أن تكون لغيره، للتخلص في طريقه من بعض تلك الأشباه والنظائر الموهمة أو المربكة في أمره الاصطلاح

وتعدادها هي:-

الشرط الأول: أن لا يكون أحد الدليلين أو كل منهما قطعياً، أي غير مشوب بشيء من الشك أو احتمال الخلاف، ولو كان في شيء من الضعف، للتخلص من مشكلة التكاذب ولو من أحد الجانبين، لأنه لو كان أحدهما قطعياً فإنه لابد أن يعلم منه كذب الآخر، لوحدة الحكم اللازمة والمعلوم كذبه لا يعارض غيره.

والمعارضة - كما لا يخفى وكما مر - على وزن مفاعلة ومن ذات الموضوع الواحد.

كيف والقطع بالمتنافيين لو حصل منهما معاً مع لا بدية ثبوت كذب أحدهما عند القطع بالآخر، فإنه في نفسه أمر مستحيل حتماً وغير واقع ، إذن، لوحدة حكم الله تعالى كما مر لو انحصر الحكم الشرعي بين اثنين مثلاً كالسورة في دليلي وجوبها وحرمتها بعد الفاتحة ومن ذلك ما في حال ضيق وقت الفريضة.

ومن أمثلة ما قد يصور المطلب المشكل عند مواجهته للتوصل إلى حلّه وكشفه بالترجيح المقبول عند صدق المعارضة - لو لم نقل بتساوي دليلي الوجوب التخييري

ص: 278

بين صلاتي الظهر والجمعة في ظهيرة يوم الجمعة، مما مر التمثيل له لإيضاح التزاحم أو التعارض غير المستقر، ولمقارنتها بالتعادل كما عليه الرأي المتعارف اليوم بين بعض مشاهير فقهائه -

هو ما وقع من حاله التكاذب ولو من أحد الجهتين، كما في خصوص صلاة الجمعة بين القول بوجوبها وحرمتها، مما دار عند بعض العلماء في زمن الغيبة الكبرى هذه للمعصوم الغائب عجل الله تعالی فرجه الشریف الظاهر لهم من الاستدلال الذي يكاد أن يكون سطحياً لدى آخرين منهم على مثل وجوب صلاة الجمعة بسبب قوله تعالى «يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْم الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيع»(1) من التقيد بكلمة «نودي»، وهي الفعل الماضي المعروف نحوياً بالمبني للمجهول، الذي لم يتشخص منه المنادي بوضوح بالأمر الندائي ب- (صلاة الجمعة) الخاصة ممن تجب إجابته في هذه الغيبة مما مرَّ ذكره في السابق مع عدم ضمان بسط يد خطيب الخطبتين البديلتين عن الركعتين الأخيرتين لهذه الصلاة، مع وجوب بسط لسانه ويده في الجماهير لتبين موضوعية القوة النافذة عليه، ومدى خضوعهم الشرعي له عن أحداث الأسبوع الماضي التي يجب تصحيحها إذا كانت مخالفة، كما كانت أيام المعصوم علیه السلام القائم بها بدون تقية.

وعلى مثل القول بحرمة هذه الصلاة من شبهة القول المرفوض أصولياً بأصالة التحريم للأشياء عند الشك على رأي بعض المحدثين ، لعدم إمكان العلاج من داخل جانبي ما يشبه التّعارض، في حين لم يكن تاماً بسبب هذا التكاذب المقتضي للتساقط.

ولإمكان المعالجة من خارج الجانبين وهما الوجوب والحرمة غير الكافيين في

ص: 279


1- سورة الجمعة / آية 9

نظر الآخرين.

وإن قطع بكليهما من قال بهما لابد من القول حينئذ بالرجوع إلى أصل وجوب صلاة الظهر ليوم الجمعة الثابت في أصالته التشريعية قبل تبين وجوب صلاة الجمعة الطَّارئ، إن كشف عدمه في هذه الغيبة بترجيح العود إلى هذا الواجب الأصلي عند التكاذب.

ولذا لا يعد هذا من التعارض المصطلح مع هذا الأصل الثابت عند الشَّك بحكم صلاة الجمعة.

الشرط الثاني: وبنحو من الدليل الأخفض في الاعتبار الأصولي من دليل الشرط الماضي، وهو أن لا يكون الظن الفعلي معتبراً في حجتي طرفي التعارض معاً.

ولكن هذا الاعتبار للظَّن لا يُعتد به حتى بعد كونه الظَّن الخاص في أمر شرطيّته الثانية إلا بعد فقد تلك الدرجة القطعية السابقة في الاعتبار مع الحاجة إلى هذه الدرجة الأدنى من الحجية للخوف من الانسداد الذي في مستواه مع انفتاح بابه كما مرت الإشارة إليه آنفاً مع تساوي الدليلين في السند والدلالة في المضادة، لاستحالة حصول الظن الفعلي الخاص بالمتكاذبين، كاستحالة القطع بهما، لوجوب طرح المتكاذبين أو الرجوع إلى أحد الدليلين بالبحث عنه بدقة أكثر ولو من خارج شرعي آخر مع إمكان سعته أو الرجوع إلى ثالث مع عدم إمكان ذلك الآخر.

نعم يجوز أن يعتبر في أحدهما المعين الظن الفعلي دون الآخر، لإمكان العلاج في هذا المقام من الداخل بعد الاطمئنان بتمام الحجية له دون الآخر، للا بدية أضعفية الآخر في قبال سالفه لوحدة حكم الله المعلومة كما لا يخفى.

والتمثيل لهذا مع سابقه لا يختلف أمره بين الاستدلال اللفظي واللبي إن عرضت أموره كالمثال الماضي للشرط السابق ،وغيره مما ينطبق على هذا الحالي ومن مستواه.

ص: 280

وقد يجتمع في بعض الأمثلة الاثنان على اختلافهما الحكمي مع التكاذب.

والأمثلة للمقام على أطوار.

1 - ومن أقربها حول المقام أن يدل النّص اللفظي على أن الجاهل بأحكام الزكاة ليس معذوراً لمصداقية الجهل التقصيري على أغلب النّاس، وعلى أكثرهم مع الالتفات.

وأجري هذا الأمر حتى على الكفَّار لما عليه المشهور، لما حققناه في محلّه فقهياً.

وفي مقابل هذا الدليل اللفظي دلالة الاستقراء غير القطعي وغير اللفظي الذي نقل عن أحد أعلام القضيَّة الشَّرعيّة من فقهاء المحدثين لبنائه على القاعدة العامة عند مطبقيها ، لقولهم بمعذورية الجاهل في جميع الأحوال.

وتفصيل هذا في الفقه أكثر .

2 - ومن تلك الأطوار إذا عارض الدليل اللفظي غير الصريح دليلاً عقليًا برهانياً أو استقراءياً تاماً وقدّم العقلي، لمطابقته لحسن الإحسان وقبح الظلم، وكذا الاستقرائي التام على اللفظي المذكور ، لأن العقلي وما بمثابته يأدي إلى العلم بالحكم الشرعي ولو عن طريق الأدلة الإرشادية.

وأما الدليل اللفظي في مثل عدم صراحته فهو إنما يدل بالظهور، والظهور إنما يكون حجة بحكم الشارع، إذا لم نعلم ببطلانه، وقد علمنا بعدم صراحته فلا ظهور له .

ولذا مع قوة الدليل المذكور - عن طريق العقل البرهاني أو الاستقراء التام وعدم إرادة المعصوم علیه السلام من ذلك الظهور اللفظي ما به المعارضة التامة للدليل العقلي وما بمثابته بما ينهضه من الإمارات الكافية - يتبين من هذا الظهور عدم بقاء صراحته الكافية - فلا مجال للأخذ بهذا الظهور.

3 - ومن تلك الأطوار الدليل اللفظي القطعي الذي لا يمكن أن يعارضه حتى

ص: 281

الدليل البرهاني التّام أو الاستقرائي التام لأن دليلاً من هذا القبيل إذا عارض نصاً صريحاً ، من المعصوم علیه السلام أدى ذلك إلى تكذيب المعصوم علیه السلام أو تخطئته وهما مستحيلان

لأنّ الدليل المقابل له مادام عقلياً لابد أن يكون مغلوباً بالشرع الثابت، وكما عرف في النصوص عن الإمام السجاد علیه السلام أنه قال (إِنَّ دِينَ اَللَّهِ لاَ يُصَابُ بِالْعُقُولِ اَلنَّاقِصَةِ)(1) وعن الإمام الصادق علیه السلام أيضاً (اَلسُّنَّةَ إِذَا قِيسَتْ مُحِقَ اَلدِّينُ)(2) وغيرهما.

4 - ومن تلك الأطوار الدليلان اللفظيان الظنيان المعتبران سنداً ودلالة لو تعارضا فمع تعارضهما واستقرارهما على ذلك لابد أن يتكاذبا فيتساقطان، والبحث من جديد عن ثالث

وفي حال عدم استقرارهما فإما بالتخيير بينهما بما مر وبما يأتي للموضوع الواحد والحكم الواحد، أو أن يخضعا للمرجّحات العلاجية الواردة على ما سيأتي من التّعليمات الثابتة عن المعصومين علیهم السلام من رواياتهم المعتبرة.

الشرط الثَّالث: أننا بعد أن تعرضنا والآخرين لتحديد الشيخ الآخوند قدس سره للتّعارض بأنه هو (تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب الدلالة ومقام الإثبات على وجه التناقض أو التضاد حقيقة أو عرضاً)(3) أي بمثل حصره له داخل إطار الدليلين على الأقل في خصوص مقام الإثبات ومرحلة الدلالة المتحققة في الخارج، وهو ما يعلم منه عدم لزوم تنافي الدليلين مثلاً في خصوص عالم الثبوت ومجرد التعقل، كي يعمل

ص: 282


1- بحار الأنوار 303/2.
2- الكافي ج 1 ص 58 وسائل الشيعة: 352/29.
3- كفاية الأصول - الآخوند الخراساني - ص 437.

على ضوء ما يقتضيه أمر التعارض إن أمكن إثباتاً.

لذا يمكن أن يعلم منه بأن التعارض ليس وصفاً للمدلولين كما قيل، ما داما لم يوجد لهما مصداق مطبق خارجي، لعدم انطباق حالة الإثبات عليهما.

بل إن المدلولين يوصفان بأنهما متنافيان لا متعارضان لأعمية كون التنافي وحده بين الأشياء، لإمكان التفريق بين حال الثبوت وحده حتماً وبين حال الإثبات مع قيديته المعلومة.

ولذا عرف بينهم - وإن لم نكن نحن بحاجة ماسة إلى ما يخصنا الآن به - أن (فرض المحال ليس بمحال)، أي لإمكان الثبوت فقط وإن لم ينتج خارجاً، بخلاف الحالة الإثباتية للتعارض المصطلح فيها .

ولذا يكون هو المحتاج إلى العلاج بشيء من الترجح الممكن فيه كونه وصفاً للدليلين بما هما دليلان على أمرين متنافيين مع قيدية أنهما لا يجتمعان، لأن امتناع صدق الدليلين فيما بينهما معاً وتكاذبهما إنما ينشأ من تكافؤ المدلولين.

ولذا يمكن ضبط هذا التّعارض علمياً بأنه (تكاذب الدليلين على وجه يمتنع منه اجتماع صدق أحدهما صدق ،الآخر)، وبلا أي فرق بين امتناع الحالة التكوينية والحالة التشريعية في التطبيق، وبدون فرق كذلك في تنافي المدلولين ذاتيا أو عرضيا ومن جميع النواحي أو بعضها في تشخيص التكاذب بينمها من حيث النتيجة وبالنحو المطابقي أو التضمني أو الإلتزامي.

ولأجل تقريب المعنى إلى الذهن أكثر ولو من بعض النواحي إلى الذهن نرجح ضرب مثل عملي مهم في المقام وإن كان لا تخلو منه مجالات للمناقشات الفقهية السائدة حول مداركهما ، وإن مر ما يشبهه في موقع متفاوت.

وهو تعارض دليل وجوب صلاة الجمعة مع دليل وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة، وإن لم يكن من التعارض المصطلح الذي أثبتته شروطه، ولو لشبهة

ص: 283

موضوعية الدليلية الواحدة، فإنَّ الدليلين في نفسيهما قد يكونان لا تكاذب بينهما فيما يبدو لمجتهد عن مجتهد آخر.

إذ لا يمتنع - في عالم الثبوت وإمكان التعقل ولو من تزاحم الفكرة الاستدلالية في ذهن المستنبط بالنحو المتساوي عنده إذا تحير في كيفية أدائهما معاً - اجتماع وجوب صلاتين مثل هذين الواجبين بسبب التكافؤ الاستدلالي غير المخل، وبما يمكن حله في آن واحد في عالم التصور والثبوت، وإن امتنع الأداء لهما معاً تكويناً و تشريعاً في ذلك الآن من حيث الإثبات والخارج من حيث ما مضى وما سيأتي من التزاحم الأدائي.

ولكن لما علم من دليل خارج أنه لا تجب إلا صلاة واحدة في الوقت الخاص الأدائي وفي عالم الإثبات فإنهما لابد أن يتكاذبا حينئذ بضميمة هذا الدليل الثالث والمطابق للعدل الإلهي في كل من هذه المقامات، بمثل إنتاجه إما تعين صلاة الجمعة مع ترجيح دليلها على دليل صلاة الظهر أو العكس كذلك، مع أقوائية دليل صلاة الظهر في أسبقيتها التشريعية على صلاة الجمعة وإن تخير الفقيه بينهما بعد اشتراكهما التشريعي بعد ذلك في باب صدق التعارض المذكور سببه آنفا، للزوم أن يكون الموضوع واحداً كما سبق.

أو القول بالوجوب التخييري إن أنتج الاستنباط الاجتهادي القول بالوجوب التخييري بسبب تساوي دليلي الصلاتين في الذهن الإجتهادي وإن لم يصح الجمع عند التزاحم الأدائي، لأننا لا نريد في المقام أكثر من هذا الذي ساعدت عليه الأدلة إلا بنحو الجمع الآخر غير المخل، كالابتداء بالجمعة ثم الظهر بعدها في وقتها الموسع، وعلى ما سيأتي من أمثلته.

ومما يمكن التمثيل للتّعارض فيه بين أدلة ثلاثة هو روايات مقادير الكر وأمور أخرى كثيرة، منها صحة قول (أكرم العلماء ولا تكرم الفساق ولا تكرم الحمقى).

ص: 284

الشرط الرابع: أن لا تعارض اصطلاحي بين فاقدي الحجتين، بل لا تعارض بين الموصوف بما فيه الحجة ،وبين فاقدها لفقد التكاذب اللازم بين حالة فاقدها للتّعارض الذي يقتضي التكاذب وهو غير موجود، ولو من الجانب الواحد، لوجوب اتباع ذي الحجة وترك الآخر.

فلابد إذن من أن يكون في التعارض المصطلح والمراد خضوعه للعلاجات الترجيحية الآتية، إذا كان كل من الدليلين مرتبطاً بحجته واجداً لها بمساواة ضد الآخر، بحيث لو خلّي كل منهما وحالته من دون أن يعارضه معارض أخر للاصطلاح، لكان بنفسه وحيداً ذا حجة يجب العمل به لأجلها.

ونظيره ما إذا كان أحدهما لا على التعيين أنه بمجرد ما يحتمل فيه من التّعارض - ساقطاً عن الحجية الكاملة أيضاً فعلاً أمام مقابلها الكاملة كما مر، ولما قلنا من أن التعارض وصف للدالين بما هما دالان - في مقام الإثبات كما قرره الشيخ الآخوند قدس سره

وبعد عدم المصداقية للإثبات الكامل لفاقد الحجية، فلا تكذيب للذي فيه مصداقية الكامل.

وعلية لابد من القول حينئذ بعدم تطابق الحجة مع اللا حجة على ما نريد أن نسميه ب- (التعارض المصطلح)، كما لا تعارض بين اللا حجتين في عموم بابي الأوامر والنواهي الأصوليين من نصوصهما الصريحة لو توفّرت حالة التعارض الكاملة بالدرجة الأعلى.

وكذا ظواهر الأدلة المماثلة بدرجتها الأدنى المعتبرة من تلك الأوامر والنواهي لو تعارضت فيما لو لم تتوفّر عندها تلك الصريحة ونحو ذلك من عوارض الاستدلال التعارضي الأخرى الواقعة في ذهن المستدل من باقي مباحث الألفاظ الأصولية الأخرى.

ص: 285

و من هنا يفهم بوضوح أكثر أنه لو عثر على خبر غير واجد لشرائط الحجية في موضوع معين واشتبه بآخر قد توفّرت تلك فيه، فإن كلا الخبرين لا علاقة لهما بأي نحو من التعارض المصطلح، لفقدان قواعده وشروطه.

وإن كان العلم بكذب أحدهما وهو الأول حاله كحال المتعارضين في وجوب الإعراض عنه كما سبق بيانه وهو واضح، إلا أن الآخر مع سابقه يخضع لإجراء قواعد العلم الإجمالي عليه من الأصول العملية المقررة للشاك في مقام العمل مما لابد فيه من إحراز تكامل الشروط والقواعد للمتعارضين بوضوح ، وهو غير متوفر ولأن العلم الإجمالي في المقام الخاص لا ينتج عند الشك البراءة ولا الاشتغال.

الشرط الخامس : أن لا يرتبط طرقا التعارض مثلاً بنفس طرفي المتزاحمين، وإن أمكن تشابههما من بعض النواحي مما مرَّ بنحو من الاستطراد والإشارة، لما سيأتي من الفرق الثابت بينهما، وهو أنَّ موضوعي المتزاحمين متعدد والتعارض ذو موضوع واحد مع اشتراك التزاحم والتعارض في ناحية امتناع تحقق حكمهما لكل منهما، لكن الامتناع للتعارض من ناحية التشريع، لتكاذب الدليلين في تعددهما، لأجل الحكم الإلهي الواحد والامتناع في التزاحم مع الموضوع المتعدد من جهة الامتثال، فلا تكاذب بينهما مما يلزم تكويناً الاقتصار على تطبيق أحدهما لا على التعيين كما سيجيء.

الشرط السادس: أنهم ذكروا من الشروط الخاصة للمقام (التعارض) أن لا يكون أحد الدليلين حاكماً على الآخر لاشتراط التعادل بين المتعارضين من البداية ولو من جهة ظاهرية متعادلة بين دليليتها، ثم اللجوء للترجيحات العلاجية وإن كانت الحكومة من حيث الدقة بالنتيجة قابلة لرفع موضوع التعارض من أساسه بقوة الحاكم على المحكوم فلا تكاذب بين دليلي الحكومة بسبب وجود القوة الحاكمة والضعف المحكوم بينهما، بخلاف التعارض بين جانبيه، فلا مجال لتوهم أن الحكومة

ص: 286

من جملة علاجات المتعارضين لفقدان تعادل طرفيها من توجه أول نظرة للأذكياء، وسياتي التمثيل لها بما يخصها.

الشرط السابع أنهم ذكروا من الشروط الخاصة بالتعارض أيضاً أن لا يكون أحد دليليه وارداً على الآخر، لاشتراط التعادل بينهما فيه، ولو من الجهة الظاهرية كما ورد في الحكومة، وسيأتي ما به التوضيح أكثر فيما يخص الورود مع سابقه، فرقاً بينهما وبين التعارض.

هذه نهاية ما يُعد من الشروط اللازمة في التعارض، للتفريق بينه وبين التزاحم الآتي ذكره قريباً، وهي سبعة كما أثبتناه.

المبحث السابع: الفرق بين التعارض والتزاحم

ووفاء بما وعدنا به من تخصيص بحث مستقل بالكلام عن التزاحم بعد الذي بيناه في البداية عن خصوص التعارض ومعه شيء من التزاحم مختصراً، لغرض المقارنة الموجزة بينهما، وللمزيد من التشخيص للتزاحم أكثر، وبالأخص من حالة اشتراك الاثنين - في جهتي امتناع حكمي كل منهما ، لئلا يختلط ظاهر أمرهما في ذهن بعض السطحيين - المحتاجة إلى المزيد من التفرقة بينهما مع ما مر سابقاً بين أولهما وهو التعارض بكونه ذا موضوع واحد، وثانيهما الحالي بتعدد موضوع طرفيه.

وقد يتبين هذا بمحاولتنا تعداد الأمثلة لما يتناسب وتعدد موضوع هذا الثاني لإشباع ذهنهم وبما قد يكفى عن ما مر من أمثلة التعارض، ولإثبات كون الامتناع في التعارض من جهة أصل التشريع وفي التزاحم في خصوص الامتثال دون التشريع، لتكامل دليلي طرفي التزاحم من البداية.

ص: 287

وإن كنا قد نذكر بعض الاستدلال الآتي، ثم العود بعد ذلك إلى محور الحديث العام للمقام وهو التّعارض للتوغل في بقية أموره.

ثم أنه قد يدخل على الخط البياني حول المقامين مناسبة ذكر ما أشرنا إليه عند البدء بالدخول في البحث عن الموضوع العام وهو (التعادل والترجيح أو التعارض بين الأدلة) بأنَّ من دواعي الدخول فيه الآن هو أهمية أسبقية محاولة الشروع في تحقيق إمكان الجمع بين الأمر والنهي من عدمه والبت فيه وفي تفاصيله إيجاباً أو سلباً من كل ما ورد من الروايات الشريفة المتضاربة مع التكافؤ السندي والاعتباري والدلالي، ولو لناحية خصوص العامين من وجه من النسب المنطقية الأربعة إذا أمكن دخول مقامي التعارض غير المستقر والتزاحم أيضاً في معترك تضارب ما ورد من هذه الروايات بسبب شبهة اشتراكهما في الحاجة إلى طلب الحل، ولمعرفة الفارق بين المقامين ولو لقضية موضوعية الدليلية الواحدة في التعارض والاثنين في التزاحم، وهذا ما ستوضحه التطبيقات العلاجية بعد الذي مضى ذكره.

وثم لمعرفة ما بينها وبين خصوص باب اجتماع الأمر والنهي من الفرق وهو الثالث.

لكون اجتماع الأمر والنهي هذا عند إمكانه في الدلالة الإلتزامية قد يعتريه ما يعود منه لمقام الجعل والتشريع، وهو ما يحصل بسببه معنى التكاذب التعارضي.

وقد يعتريه ما يعود لمقام الامتثال التزاحمي في الدلالة الإلتزامية الإلزامية، وهو ما يحصل بسببه تكاذب ما يعود إلى ما يشبه التزاحم، وبذلك يدخل في الأمر والنهي الأمران.

وقد لا يعتريه لا أمر الأول - وهو التعارض في العامين من وجه مثل هذه الدلالة الإلتزامية فلا تعارض بين دليليه لعدم التكاذب في موردي الالتقاء - ولا أمر الثاني وهو التزاحم في العامين من وجه عند فقدان الدلالة الإلتزامية لو امتنع على المكلف

ص: 288

أن يجمع بين الاثنين في الامتثال لأي سبب من الأسباب كامتثاله لأحد الجانبين دون الآخر، وإن كان التزاحم موجوداً بانتقاء موضوع الابتلاء به.

ومن هنا تحصل أعمية الكلام عن اجتماع الأمر والنهي بإمكان الجمع بينهما مع ضبط السند والاعتبار والدلالة في موارد أخرى، وقد مر بعضها وسيأتي آخر.

المبحث الثامن مشخصات التزاحم بخواصه الأكثر وقواعد الترجيح عليه

بعد ما مر من مميزات التزاحم عن التعارض - بعد اشتراكهما في التنافي - وهو ما سبب فصله عن التّعارض بوقوع تفاوت أولها عن الثاني بحيثيَّة الامتثال التي اختص بها.

وتفاوت الثاني عن الأول بحيثية التشريع وانحصار علائم التعارض الخاصة بشروطه السبعة وضبط قواعده العلاجية حول دليلي تعارضه بحالات أمور السند والاعتبار والدلالة المختلفة واختصاص قواعد التزاحم بما لا علاقة له بشيء مما اختص التعارض به من ذلك، وإنما هو بتكافؤ المتزاحمين في جميع جهات الترجيح التي لا شك في أنهما لو حصل شيء من التعادل الخطابي - في كلا حالتي التضاد المعروفة عن المتزاحمين - لأدى إلى حل مشاكله بالتخيير، وهو محل وفاق تام عن الاتفاق العقلائي الكامل والناشئ من صميم العقل العملي المرتبط بالمستقلات العقلية والقطعية المحضة التي لابد أن يستكشف عن طريقها الحكم الشرعي المراد في مثل حسن الإحسان وقبح الظلم ونحو ذلك.

وإن قيل أنه وقع خلاف بين فردي التعادل المتعارضين من باب التعارض حول أنه هل يقتضي التّساقط أو التخيير كي يعود التشبيه للتعارض فيه ولو في الجملة؟

ص: 289

فإنه يقال: هذا وإن كان ليس هو من محل كلامنا الآن عن التّعارض ولكن نكتفي بقولنا عنه بأن وجه الشبه الجزئي مع كونه غير مأكد مما بينه وبين التزاحم .

فإنّ هذا الاختلاف حوله كان قبل أن يكون تعارضا مستقرا، وهو موضح في محله مما يأتي وبعد الاستقرار لامجال فيه للتخيير.

وأما في محل كلامنا فبعد فرض عدم إمكان الجمع في الامتثال بين الحكمين المتزاحمين وعدم جواز تركهما معاً كالذي مر ذكره من مثال الغريقين، بحيث لا ترجيح لأحدهما على الآخر حسب الفرض - مع استحالة الترجيح بلا مرجّح وعدم إمكان الجمع بين إنقاذ الاثنين معاً ولا أي شخص آخر يقوم بهما معاً مكان غير ذلك القادر أو بأحدهما لا على التّعيين لاستحالة التكليف بما لا يطاق عقلاً وشرعاً -

فلا مجال إذن إلا أن يترك الأمر إلى اختيار ذلك المكلف المبتلى نفسه إنقاذ أحدهما لا على التعيين دون الآخر، مع ما مر ذكره من التساوي الامتثالي المفترض في الغريقين وبما لا يمكن اشتراك التعارض المستقر معه .

وهكذا الأمر نفسه بما يرتبط من الوجوب التخييري بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر يوم الجمعة لو أدى اجتهاد المجتهد إلى ذلك في هذه الغيبة الكبرى بتساوي أدلة كل منهما في نظره وعلى طبق رأيه يتم التزام مقلديه باختيار أي من الصلاتين.

وكذا ما لو دلت الأدلة التخييرية لوحدها على وجوب إحدى الكفارات الثلاثة تخييرياً من العتق والصيام والإطعام على كل من أفطر عمداً يوماً من شهر رمضان المبارك مع القدرة على كل منها بنحو التساوي التكليفي مما يشبه التزاحم ، لعدم وجوب أكثر من واحد منها، أو عند تعذر أحدها كعتق الرقبة وبقاء اثنين منها مكان الثلاثة فيحصل بسبب تزاحمهما عليه كلفة وأداءً لاختيار أحدهما لا على التعيين، وغير ذلك من الأشباه والنظائر .

ص: 290

وأما ما يتعلق بحالات ما يمكن فيه من الترجيح على بعض حالات التزاحم فهو وإن كان في مثل بعض هذه الأمثلة كما في الأول وهو مثال الفريقين لم يخرج عن حالة التخيير التام الإجباري، للتساوي المفروض عقلاً وشرعاً، بحيث يمنع عدمه بمثل الجمع بإنقاذ الاثنين معاً لما مر ذكره.

بل يلزم ويجب ترك المغامرة الخطيرة جدا بمحاولة إنقاذهما معا، لعدم قدرة المنقذ المحدودة نفسه خوف هلاكه والخوف على حياة الفريقين معاً أيضاً بالاقتصار على إنقاذ أحدهما المقدور عليه لا غير، وعدم جواز ترك إنقاذه من جهة إنسانية، ولحرمة فعل ما يخالف المروءة فصار التخيير التزاحمي المستمر لازماً واجباً، إلا أنه قد يختلف الأمر مع بعض الأمثلة الأخرى المشابهة من بعض الجهات والمغايرة من جهات أخرى عرفنا الشرع بها حيث ركّز على أمورها في نظره بأن لها مرجحات لا مجال لتعديها في باب التنازع ، مادام هناك في نظره الشريف مصداقية الأهم والمهم وأهمية تقدم الأهم على المهم من حالاته، وهي متعددة لا تخفى على المتتبع الحريص حين علمه بمختلف مناشئ الأهمية وجهاتها والتي منها ما يعود إلى القواعد المرجحة على التزاحم.

ولهذا علينا أن نستعرض ما يمكننا استكشافه منها في أمور تعد قواعد للترجيح في أمره.

المبحث التاسع: قواعد الترجيح في بعض حالات التزاحم

قواعد هذا النوع من الترجيح في أمور:-

أحدها: حالة الأهم والمهم المستكشفة من خلال مواصلة التتبع الشرعي السائدة

ص: 291

بين ما لا بدل له وبين ما له بدل من الشرعيات كخصال كفارة خلف اليمين وهي العتق الواجب بدون بديل معوّض، فإن لم يجد المكلف أطعم عشراً أو أكسى عشراً من المساكين على نحو البدل، فالذي لا بدل له وهو العتق مقدم على الذي له بدل، وإن كان الثاني وهو إطعام العشرة أو كسوة العشرة من المساكين مزاحماً للأول في أصل الوجوب، وإن كان الذي له بدل اختيارياً في حالتيه المتساوية أو اضطرارياً كالتيمم بالنسبة للوضوء مع تساويهما في أصل الوجوب وبراءة الذمة عند التيمم في الاضطرار وكالجلوس بالنسبة إلى القيام في الصلاة لمساواته للقيام في أصل الوجوب وبراءة ذمة الجالس عند الاضطرار، إلا أنَّ الوضوء والقيام لابد أن يتقدما في حالتي عدم الاضطرار ، لرعاية الأهمية الواجبة عند الاختيار كما لو كانت الأهمية حالة العكس وهي موجودة عند الاضطرار.

ثانيها : أي ثاني حالات تقدم الأهم على المهم ما اتفق فقهياً عليه من كون أحد الواجبين في ضيق وقته أو كان فورياً في الأمر به وأدائه مع سعة وقت الواجب الآخر المزاحم باشتراك الواجبين المزاحمين في أصل الوجوب ففي ذلك:

لابد أن يتقدم فيها الفوري أو المضيق على الموسع، وإن كان الموسع ذا بدل بسبب المزاحمة في الوجوب كما ذكرنا من الأهمية، إلا أن هذا البدل بدل طولي اختياري مادامت السعة في الواجبين ومتى ما ضاق الأمر في المضيق أو الفوري يتقدم كل منهما قطعاً، لأن تقديمهما جمع بين التكليفين وهو الإسراع في أداء المضيق أو الفوري فيما عين لهما مع الأداء التزاحمي في الوقت الواسع للموسع إن لم تصاحبه معصية في الترك أو نحوه في تلك السعة، دون تقديم الموسع عليهما حالة ما اتصفا به لأن فيه تفويتاً للتكليف بهما في تلك الحال بلا أي تدارك مع الضيق أو الفورية.

ومن الأمثلة المعلومة في المقام - والذي به استكشاف بعض ما ذكرناه - دوران

ص: 292

الأمر بين تعين إزالة النجاسة الفورية في وجوبها عن المسجد مع عدم وجود بديل يعوض عن من وجبت عليه هذه الإزالة مع وجوب إقامة الصلاة عليه صحيحة فيه مع سعة وقتها عليه في حال كون المكان الكافي للصلاة صحيحة من ذلك المسجد، بحيث لم يتوفّر إلا بعد تلك الإزالة.

ومن تلك الأمثلة دوران الأمر بين الصلاة في آخر وقتها وبين إزالة النجاسة عن المسجد، فإنَّ الصَّلاة مقدّمة على الإزالة، لأنَّ (الصَّلاة - في ثابت الأدلة - لا تترك بحال)، وبالأخص مع ضيق وقتها، لكن مع وجوب أداءها صحيحة من جهة طهارة المكان ولو في زوايا المسجد الطاهرة أو حتى خارج المسجد.

ثالثها: القاعدة المستكشف عن طريقها تقدم ما هو الأهم أيضاً، لكن بين واجبين تزاحما على المكلف في نظر أهل التحقيق الفقهي الذين لم يخف عليهم طريق على أصل الوجوب، مع كون كل من الواجبين في ضيق من الأمر الأدائي، إلا أن الفرق المثبت لحاله أهمية تقديم أحدهما على الآخر.

هو أنّ الأهم في التقديم هو أداء الواجب في وقته الخاص - الذي لا يحلّل جعل أي شريك واجب مزاحم له فيه - على الذي لا وقت خاص له في التشريع، وإن كان في ضيق من أمره كذلك وحصل التزاحم له مع سابقيه المذكور، وإنما اتفق حصول سببه في ذلك الوقت وتضيق وقت أداءه.

والمثال الذي ألفوه في مقام التطبيق المناسب فقهياً عملياً بعد الماضي النظري مع العلاج الترجيحى فيه.

هو دوران الأمر بين الصَّلاة اليومية في آخر وقتها وهو الخاص الأخص لها وبين صلاة الآيات بمصادفة ضيق وقتها كالنَّهارية في مثل كسوف الشمس أو الليلية في مثل خسوف القمر فقدموا اليومية على الآيات للإجماع المتفق عليه، وأهمية ذات الأخص وتقدمها عند المزاحمة تم فهمه من الروايات.

ص: 293

رابعها: القاعدة المستكشف عن طريقها تقدم الأهم على المهم بين الواجبين المتزاحمين على المكلف في نظر أهل الشرع على أصل الوجوب أيضاً، إلا أن أحد الواجبين منجز في وجوبه بحسب الأدلة الشرعية بلا أي شرط يتوقف عليه فيها والآخر مشروط بما يتعلق ذلك الوجوب عليه حسب لسان تلك الأدلة الشريفة کشرط الاستطاعة المالية والبدنية المفروض في الحج الواجب على ما في النص الشريف الخاص فيه، مع عدم ثبوت التعين في ثبوت الاستطاعة على المكلف بما يكشف عن القدرة على الحج الواجب والصحيح.

فلابد إذن من تقدم ما كان منجزاً من الواجبين على صاحبه المشروط مع سبق القدرة عليه كأي واجب آخر تنجز وجوبه عليه، سواء كان مطلقاً في وجوبه المزاحم كالصَّلاة، أو مشروطاً توفر شرط وجوبه دون توفر شرط سابقه أداء في المقابل، فهو مقدم على ذلك الواجب الآخر، لعدم إحراز أمره.

ولقائل أن يقول: قد يتساوى اشتراط القدرة العقلية في المنجزات والمعلقات الشَّرعيّة معاً ، فما هو الفارق بين الاثنين مع التزاحم على حاله؟

فإنه يقال بعد التسليم باشتراط كل واجب بالقدرة عقلاً كما لا يخفى، إلا أنه لم تؤخذ تلك القدرة في الواجب في لسان الدليل، فهو من ناحية الدلالة اللفظية مطلق، والعقل في المقام هو الذي يحكم بلزوم القدرة مع تمكن نفس المكلف من الفعل لمثل الصَّلاة في تنجزها ولو مع فرض المزاحمة غير المعرقلة لأداء الحج غير المنجز إن عصى المكلف وتهاون في صلاته

خامسها قاعدة ما كان مردداً من الأعمال الشَّرعيّة، كما بين واجبين تزاحما في أدائهما الاختياري في مثل عمرة التمتع وحج التمتع الذي يليها، حيث أن في كل منهما ركعتي طواف، وكان المكلف عاجزاً عن الإتيان بهما معاً عند مجيء وقت كل منهما عن القيام، لكنه غير عاجز عن الإتيان بواحد عن القيام فقط لا على التعيين.

ص: 294

فإنه لابد أن يأتي بأولهما عن القيام مادام هو المقدور المطابق للأمر الإلهي الأولي، دون أن يبرر له تركه مع ذلك التنجز الحاصل فيه على الطبيعة مادامت القدرة عليه في ثانيهما لم تثبت، حتى لو صح احتمال كونه وقت العمل الآخر أيام الحج، إذ لعله يتبدل عجزه المقرر عن ذلك القيام إلى القدرة الإلهية غير المتوقعة على القيام الطبيعي ولو بالارتباط في الواجب الأول بقاعدة الميسور، وفي الثاني بعدم جواز الحكم فيه بما يخالف حكمه الثانوي، بسبب انحصار الأمر به قبل مجيء وقته.

ومثل هذا ما في دواخل بعض العبادات كالصلاة اليومية.

ولنفترضها كونها من الثنائية بتركبها من قيامين لركعتيها لو تزاحما في أدائهما الطبيعي الواجب في أساسه إذا كان المكلف مثلاً عاجزاً عن القيام في الركعتين معاً، غير عاجز عن أحدهما لا على التعيين كما في الافتراض السابق.

إذ أن هذه الفريضة اليومية لا تختلف عن صلاة الطواف الماضية، فإن الأمر العلاجي العملي - حسب المستفاد استدلاليا لما يدور في مثل حالة عدم عموم کل ركعتين واجبتين -

قاض بترجيح كون المتقدم من قياميهما أنه هو مستقر الوجوب على النحو الطبيعي دون المتأخّر، لحصول القدرة الفعلية بالنسبة إليه تبعاً لأساس عنوانه الأولي المنظور في التشريع، ما دام مقدوراً عليه فعلاً بحيث إذا أتى به على طبيعته انتفت القدرة الفعلية الطبيعية على القيام الثاني حسبما أبتلي به المكلف من العلم تجاه المتأخّر منها.

فلا يبقى له مجال إلا بتطبيق حالة العنوان الثانوي وهو الاضطراري بالجلوس في تعينه حسب الفرض إلا إذا فاجئته العافية الإلهية كما أشرنا في المثال الأول

ولا فرق في هذا الأمر بين ما إذا كانا معاً مشروطين بالقدرة الشرعية كالمثال الأول في المقام، أو مطلقين كالمثال الثاني فيه مثل الواجبات اليومية من الصلوات.

ص: 295

أما لو اختلفا مع التزاحم ، فإنَّ المطلق مقدم على المشروط بقدرته الشرعية وإن كان زمان فعله متأخراً، كما لو تردد الأمر بين واجبين أولهما مشروط وهو الحج، وثانيهما مطلق منجز، وهو دين حلّ وقت وفاءه و المال الموجود عند المكلّف بهما واحد لا يكفي إلا لأحدهما حسب.

فإن المتعين هو وفاء الدين حتى مع تأخره لناحية ما يعود لحقوق الناس، والحج يتأخر إلى حين القدرة الجديدة من المال الجديد لناحية ما يتمحض لحقوق الله.

سادسها قاعدة كون أحد الواجبين المتزاحمين أولى في التقديم من غير ما مضى ذكره عند الشارع المقدس مثل أولوية القضايا النوعية في مقابل القضايا الشخصية، وجعلت من أهم مصاديقها أهمية الحفاظ على بيضة الإسلام، وإن كان هو الأدون منها واجباً وله أهميته من حيث نفسه كبعض القضايا الشخصية.

وقد بنيت هذه القاعدة على أدلة مهمة مفصلة في الفقه.

ومن مظاهر ما يقرب هذه الأهمية إلى ذهن المؤمن الغيور والتصديق بها أنَّ مقدسات الأمة ومقدراتها الإسلامية النوعية لو تركت بتساهل في أمورها تنتابها النوائب تلو النوائب وبأشد المحن من أعداء الخارج وخونة الداخل من دون أي صدع وردع كافيين ممن يرجعها إلى عالم سلامتها التامة مع ديمومة الدفاع المناسب لمقامها الرفيع من المخلصين المجاهدين وانشغلوا ببعض قضاياهم الشخصية عنها، فضلا عما لو انشغلوا في كل أمور حياتهم عنها.

ومثلهم من كان عليهم المعول في استقرار وحماية هذه الأمة، بل ازدهارها.

بل أدركوا ويدركون تبعاً لفقهاءهم وأئمتهم علیهم السلام أن الانشغال بالقضايا الشخصية مهما عزّت تهون تجاه بيضة الإسلام والأمة والسعي لرقيها، لتسبب من خلال أي ترك أو تماهل عن الواجب النوعي المطلوب انهيار كل شيء يعول عليه.

والضاعت أتعاب النبي صلی الله علیه و آله والأئمة علیهم السلام هي والمجاهدين والتضحيات بالملايين لدنيا

ص: 296

السعادة المثلى في الدارين.

وأي عاقل معتدل لابد أن يدرك وبتصديق أن الأمة وبيضتها وإن قلت حروفها شأنها شأن الكل، وبقية القضايا الشخصية وإن عظم شأنها مثل الجزء، وعمار الجزء بعمار الكل، وبما أن الكل أعظم من الجزء وهي قضية منطقية عقلية وعقلائية أيضاً يقر بها الجميع - ومنهم الإنسانيون أتباع النظام المعتدل والدولة الفاضلة، وبالأخص المسلمين والمؤمنين وكل من يتقيد بهم من أنصار النظام الإسلامي العادل لطلب العيش الرغيد فيه - لابد من الإذعان به على كل المعايير.

وعلى كل فباتباع قانون هذه القاعدة لابد أن يصبح - الاستناد والتمسك بالأولوية المذكورة فيه - في مثل التقديم بين ما مر من كل متزاحمين من روايات حق النوع وحق الشخص من أسهل ما يمكن تحقيقه.

إضافة إلى بعض أدلة أخرى تتكثر بها المصاديق غير خفية على الفقيه الجامع، أو ما يتناسب مع ملائمة الحكم للموضوع اجتهاداً، إذا تناسب المتزاحمان تناسباً صحيحاً، كما بين العلة والمعلول من منصوص العلة، أو من معرفة ملاكات الأحكام الأخرى بتوسط جوانب الأدلة الشرعية المناسبة من الكتاب والسنة وتوابعهما الأصولية، لما ذكرناه من المثال الماضي وما سيجيء من الأمثلة المناسبة الأخرى.

ومما يضرب في المقام من الأمثلة عند التزاحم لإدراجه في أولويات ما يستحق من الترجيح العلاجي الشرعي هو ما يتعلق بحقوق الناس كما أشرنا.

فإنَّه أولى من غيره من التكاليف الشرعية المحضة العائدة لله تعالى وعبادته كالصلاة لا بخساً بها من حيث هي للتفريط بها وقت الرجاء للوفاء بحق المولى من واجب حق شكر المنعم والعياذ بالله، وإنما لأداء حق يقابله قد قدم عليه في النصوص الحاوية للإذن الإلهي في التقدم، ولتوقف مقبولية وصحة تلك الصلاة مثلاً التكاليف على دفع هذا الحق وإلا تكون الصلاة منقوصة لقوله تعالى «وأقم

ص: 297

الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكَر»(1) وغير ذلك كما في الدين الذي على الذمة وقد حلّ أجل وفاءه لصاحبه الدائن وإرادة صاحبه وكان المكلف المدين في المقابل أراد أن يصرفه على عياله حتى لحاجتهم إليه وإن فوض له في البداية من قبل صاحبه في صرفه عليهم لولا حلول أجل وجوب الوفاء المانع مع القدرة على الإرجاع وإن كان سد حاجة العيال من الواجبات كالصَّلاة، سواء كان هذا المال هو عين المملوك للدائن أو أنه بدله الذي حصله المدين من كد يده أو استدانة من آخر لغرض الوفاء به أو نحو ذلك، وقد ورد في النص الشريف الشامل لكل حالات ما يشابه المقام وهو (الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب، فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله، قال الله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به»(2)، وأما الظلم الذي يغفر، فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات، وأما الظلم الذي لا يترك، فظلم العباد بعضهم بعضاً)(3).

أقول: إنَّ الفقرة المتوسطة في هذا الحديث الشريف هي الدليل الكافي والشاهد الوافي على تقدّم حق كل من ظلم من الناس على كل نفس ظالمة أو مدينة في ديوان العدل الإلهي باستيفاء ذلك الحق له أو أخذ القصاص العادل له من ظالمه بواسطة الحاكم الشرعي أو في الآخرة كما لا يخفى إن لم يقدر عليه في الدنيا.

ومن تلك الأمثلة في تشخيص مصاديق الأولوية المتزاحمة هو ورود الاحتياط التعبدي وبما قد يفوق كافة أنواع الاحتياط التحفظية الأخرى بسبب ورود الاهتمام به أكثر منها ، كما في أمور الدماء، لورود الأخبار في التوصية كثيراً بحقها لئلا تسفك كثيراً عند أتفه الشبهات وأمور الفروج لورود الأخبار المشددة على صيانتها، حماية

ص: 298


1- سورة العنكبوت / آية 45.
2- سورة النساء / آية 48
3- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج 10 ص 33.

للشرف والكرامة فيمن ظواهرهم الشرف والكرامة كذلك.

ومن أهم مصاديق الاهتمامات بالدماء والفروج هي ساحات الحروب وميادين الغزوات الهوجاء، واذا اختلط الحابل بالنابل وما قد يعلّق كثيراً في أمورهما من الشُّبهات لدحضها أو عدم البناء عليها في باب العدالة عند المرافعات جهد الإمكان كما قال رسول الله صلی الله علیه و اله (أدرأوا الحدود بالشبهات)(1)

وأضيفت إليهما في مجالات الأطعمة والأشربة للتّورع في أمر هذين الأخيرين كذلك كما في سابقيهما خوف التورط بالشبهات تنزهاً، فضلاً عن الحرام كاللحوم وما يؤول إليها طعاماً وشراباً.

وبناء على ما مضى من الأمثلة والشواهد الماضية لو دار الأمر بين نفس المؤمن وبين ماله مثلا ، وإن عز كثيرا ذلك المال فإن حفظ نفسه يتقدم على ماله وهكذا الفروج والأعراض فإنّ حفظها عن الانتهاك مقدم على أعزّ الأموال، وكذا اللحوم المحللة هي المقدّمة على ما اشتبه أمره منها ، فضلاً عن المحرمة حتى لو ازدادت قيمتها المالية إلا أنّ الأموال المحللة فهي التي ينبغي الحرص عليها احتياطاً بأكثر على توافه الأمور.

ومن تلك الأمثلة أيضاً ما يدور من المتزاحمين في الواجبات العبادية كالصلاة بين ما كان ركناً من أركانها وبين غيره من الواجبات غير الركنية كالدوران بين القراءة والركوع عند ذلك التزاحم في مثل ضيق الوقت المقتضي للحرص على أداء الركن ولو بحصول ذلك الركوع من الركعة الأولى للصَّلاة داخل الوقت الأدائي من آخره وإن حصل الباقي قضاءً حتى لو كان هذا الركن متأخراً في رتبته عن القراءة

ص: 299


1- الوسائل: ج 18 ص 336 باب 24 من أبواب مقدمات الحدود ح 4 وص 399 باب 27 من أبواب حد الزنا ح 11.

لأهمية الركن المحقق للفوز بالأداء كما لو نسيت القراءة، ولتدارك القراءة المتروكة بعد الفراغ من الصلاة لاكتفاءه بالركوع عند الحرج الحاصل وسط الماء.

وكذا تسقط القراءة عن حال الفريق إذا لم يقدر على أن يسبق ركوع صلاته بالقراءة.

وكذا لو وجبت صلاة الجماعة على المكلّف خلف أمام عادل بوجه من الوجوه عند إرادة التحاقه بالإمام الذي انتهت قراءته لتقدم الواجب الركني وهو الركوع في كفاءته للالتحاق بالجماعة وإن لم يسمع القراءة.

ومن تلك الأمثلة في تقديم الأهم على المهم اقتضاء أمر نجاح الصلح المتعارف في كونه سيد الأحكام بين المؤمنين عند وقوع الفتن والخصومات، إذا كان نجاح الصلح متوقفاً على الكذب، وإلا سوف يحصل ما لا يحمد كسفك الدماء أو دوام الخصومة المسببة للخسارات الضخمة.

فإنه لا مانع منه حينئذ وإن كان الكذب معصية كبيرة في غير مقام الصلح وإحراز نجاحه، وإن الصدق هو الذي يلزم الالتزام به في كونه المنجي في غير ذلك لغاية إنجاح الصلح أيضاً مع عدم الحاجة إلى الكذب.

وعلى كل حال فإنَّ إنجاح الصلح مقدّم على عدمه مع بقاء الفتنة، للتوصل إلى محوها وإنجاح الصلح بالكذب، وكونه العلاج الوحيد إن لم يمكن التعويض عنه بالتورية.

وكذا مخادعة الأعداء في الحرب للغلبة عليهم حتّى بالكذب إن توقفت الغلبة المعانقة للحق تحت ظل الإمام الشرعي أو من ينوب عنه بحق عليه، أو توقفت مكافحة شر الأعداء عن المؤمنين عليه أيضاً.

فالمخادعة الشّرعيّة في هذا المقام مقدّمة على كل شيء، لتحقيق هذه الغلبة أو مكافحة أهل الشر بردعهم على الأقل، إذا كان يسهل أمرهما ارتكاب هذه المعصية

ص: 300

المذكورة، لأنَّ الحرب خدعة إن لم يقتدر في هذا المورد على إنجاح الصلح الخالي منها أو المصحوب بالتورية المحللة المعوضة عنها.

ومما يلحق بهذه الأمثلة ما لو دار الأمر حول شيء بين شيئين متزاحمين إذا احتمل في كل منهما التعيين والتخيير حسبما لوحظ من أدلتهما مما بين بعض الواجبات وظهر من أحد المتزاحمين ودليله لسبب من الأسباب المعقولة والمقبولة أمام كلا الدليلين ما فيه احتمال ،الأهمية، ولو مما لا ردع فيه من الشرع.

فإن الاحتياط ورجحانه يقضي بتقدم محتمل الأهمية كحالة اليقين المحتملة في أحدهما، ولو كانت تحت عنوان أولوية دفع المفسدة على جلب المنفعة.

وهكذا فإنَّ هذا السادس الأخير - المتضمن لقاعدة تقدم الأولى على ما دونه من الأمور الشَّرعيّة التي تعددت أمثلتها وجوانبها - تعد قاعدته سيالة فيما لا حصر له من الأمثال القابلة لأن يقاس على محوريتها من مرجحاتها التي مضت.

المبحث العاشر خلاصة ما مضى ذكره من القواعد الستة للتزاحم

وخلاصة ما مضى ذكره من القواعد الستة للتزاحم من الحكم بالتخيير واختيار أحد طرفيه بدون تعيين حسب.

وأما فيما عدا ذلك من حالات التزاحم فقد تبرز في القواعد الستة وبأجمعها أيضاً معاني ما تقتضيه حالة الأهم والمهم وبالنحو الجامع المميز للأهم في تقديمه على المهم والخارج منه التخيير المستثنى، ولو كان وحده في خصوص ما بين المتساويين، ولو بنحو السطحية الجامعة المتناسبة مع هذا المقام الإضافي مع اختلاف أو تفاوت بعض معاني كل منها.

ص: 301

وكذا مقامات الأدلة العائدة لكل مثال من أمثلتها بنحو الدقة في التزاحم بين طرفي كل منهما ، إلا أن الخمسة الأولى تمتاز عن السادس وهو الأخير في قيود كلِّ منها التي ذكرت في دواخلها من مشخصاتها الخاصة بها.

وأما ذلك السادس منها فهو وإن شارك الخمسة السابقة في عمومية رجحان الأهم على المهم كما مر إلا أن الغالب عليه هو طابع الأولوية التي مر ذكر معانيها من الأمثلة المتعددة العائدة لهذا السادس وبما قد ينخفض معناها نسبيا عن معاني الأهمية الصريح في ترجيحه ولو على حد تعبير أحد أعلام القضية مع إجماله من قوله عند محاولة التحديد له (من غير تلك الجهات المتقدمة).

أقول وطابع الأولوية هذا وإن لم يكن معناه أنه - ذا حكم فتوائي كحالة (الاحتياط الأولى) المعروف ب- (الاستحبابي) - بنحو ينبغي لهذا الاستحبابي أن يكون مكان الوجوبي الآتي وأن الآتي يكون مكان الاستحبابي.

بل وإن كان كالفتوى مثل (الاحتياط الوجوبي) مما مر أيضاً، لأهمية أولويته.

وهكذا ما تلا ذلك مما هو أخف، ومن ذلك حالة الاحتياط الأخير الذي مرَّ في ترجيح محتمل الأهمية، لا خصوص ثوابتها التي مرت فإنها ملحقة بتلك الثوابت أصولياً ولو للتركيز العقلي المستقل المشهود له إرشادياً إلى ما به براءة الذمة مما قد يكون الأشد على المكلف من المشغولية إذا التزم بغير محتمل الأهمية.

المبحث الحادي عشر ماذا قال الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره عن الحكومة والورود والمناسبة للمقام

بعد أن مرّ الكلام عن كون الحكومة والورود في أنهما مستثنيان في الذكر والانطباق بهما في الشرط السادس للأول والسابع للثاني من شروط التعارض

ص: 302

السبعة وما سيتلوه من الكلام الآخر عن بواقيه الآتية عوداً على بدء لذكر مهماته العلاجية ،الترجيحية، لئلاً تكون مفردات الحكومة والورود من أوصافه، ولكون التعارض في طرفيه ألا يرتبط لا بالموضوع الواحد وعدم إمكان الجمع بتا بين طرفيه من الداخل، لغرض وجوب حمله الحكم الإلهي الواحد للتنافي الكامل الذي بينهما وإن حصلت بعض مشابهة للحكومة والورود من طرفي كل منهما أيضاً على ما سيجيء التمثيل له بموضوع التعارض الواحد الذي ذكرناه في الأساس وانشقاق طرفي كل منهما من هذا الموضوع الواحد الذي للتّعارض، لانتهاء كل من الحكومة والورود بالتالي إلى النتيجة الواحدة في هذه المشابهة.

ولأقريبة دخول حالتي الحكومة والورود في باب ما يشبه الكلام عن التزاحم المذكور آنفاً كوجود معنى التنافي الموضوعي المتعدّد بين طرفي أمثلته والآتي كل منهما بإذن الله تعالى في الإيضاح عنها بالأكثر قريباً، لكن في التزاحم من حيث الامتثال والأداء في الحكومة والورود لا بالتنافي المطلق.

لإمكان أن يشبها حالة التعارض قبل الاستقرار في أمر الترجيح وإمكانه عند الابتلاء بأحوالهما بمثل تقدم الحاكم على المحكوم في الأول وتقدم الوارد على المورود عليه في الثاني، وإن لم يدخلا في قواعد التعارض الخاصة به مما سبق ذكره إذا كان مستقرا

لأن لسان طرفي كل منهما لا يكذب الآخر ولا يبطله وإن دخل أحد الطرفين في الأخير دخول الخاص في العام، لكنه بالنحو التنزيلي وفي الجملة دون الأصلي.

لأن مقام العام والخاص مجالهما أوسع مما نحن فيه، لأن مقام ما تقتضيه حالة الأمثلة المرادة محدودة لتبين محدوديتها في المطالب الترجيحية الآتية.

نعم يمكن أن تدخل في المقام حالة العموم والخصوص من وجه - كما سيجيء مع عدم التضرر منه -

ص: 303

فلابد أن نعرف بعد ما مر من التقديم لذكر الموقع المناسب الأنسب للكلام عن الحكومة والورود مما بين التعارض المهم وما يتبعه من التزاحم وما بعدهما لبث شيء من اصطلاحاتهما - عن الشيخ الأعظم قدس سره- مما به الزيادة المحترمة في شأنهما ، - وهي أنه عند تعرضه الشريف إليهما كان معروفاً عنه أنه أهم من تعرض لهما في أبحاثه الأصولية من الآخرين.

لكن مع فضله الفائق والمشهود له في هذا الأمر الرائق وغيره لم تخف منه الإشادة الوجدانية العادلة بحق ما أسداه المتقدمون عليه من الأساطين حول ذلك وأسبقيتهم في الكلام عنهما، ولو على حد تعبيره عن جهودهم تجاههما (بعدم غفلتهم عن ذكرهما).

وإن كان هذا منه قدس سره قد يشعر بكون ذكرهم لذلك أن فيه نوعاً من الإجمال، أو ما يؤول إليه من التبعثر غير المقترب كثيراً من التفصيل حول ما لم يجتمع تحت محور جامع حولهما ليس كمثل ما اعتنى به الشيخ نفسه قدس سره حولهما والله العالم بالحقيقة.

كما وصرح أيضاً بما تعرض له معاصره الأقدم وأستاذه صاحب الجواهر قدس سره إليهما، وبالأخص إلى الورود(1)، ولو على ذلك النحو من الإجمال المحتمل منهم ومن غيرهم بحسب الظاهر وغيره.

ولكن لعلَّ تعرضه إلى هذه الإشارة عن السابقين جميعاً كان لتبرير موقفه التوسعي حولهما، ولئلاً يقال عنه أنه استحدث لوحده أموراً لم تكن مألوفة من قبل

ولأجل أن الحق لابد أن يقال في حقه قدس سره كما هو أهله مهما كان مستواه المحترم بين رعيله وبين الأساطين العارفين به.

ص: 304


1- جواهر الكلام كتاب القضاء ج 40 ص 455 ، و كتاب الضمان ج 41 ص 662.

فنقول: وكما قال الأسبقون من أسلافنا التالين لمعاصريه عن تعرضاته البحثية عنهما وكما عن غيرهما أنَّه برع فيما تصدى له، كما هو أهله في تلك التوسعات عنهما ونوعية تأسيسه لاصطلاحاتهما الخاصة بهما.

بل نسب إليه حول تضلعه التوسعي في أمرهما قوله - على ما قيل وهو العارف بمقام نفسه المحترمة - لميرزا حبيب الله الرشتي قدس سره عند مصاحبته له في طريق ذهابهما معاً إلى مجلس بحث الشيخ صاحب الجواهر قدس سره حينما سأله الميرزا الرشتي قدس سره (سؤال امتحان واختبار عن سر تقديم دليل على آخر جاء ذكرهما في الدرس المذكور، فقال له: إنه حاكم عليه قال وما الحكومة؟ فقال له: يحتاج إلى أن تحضر درسي ستة أشهر على الأقل لتفهم معنى الحكومة)(1)

مع ما أدركه بعض الفطاحل من حالات الغموض التي لم تتضح أمورهما تامة حتى الآن.

وهذا ما يفرض علينا الاكتفاء الآن بما سنوجزه عنهما في هذا المختصر ما دام بالإمكان العثور على أمور علاجية في الروايات الترجيحية ولو بالمقدار الميسور للباحث جهد إمكانه مع حرصه واستفراغ وسعه في تلك الروايات وغيرها من الأدلة الشرعية للعثور ولو على أقل ضالة تجاههما، وعلى ما سيتضح أمر كل منهما من التمثيل له .

ص: 305


1- أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 3 ص 222.

المبحث الثاني عشر ماذا قال المتعرضون كالشيخ قدس سره ومن سبقه لخصوص الحكومة

لم نلتزم نحن بإبداء نصوص ما ذكروه قدس سره حول ذلك عن الحكومة بالحذافير لتفاوت تعابيرهم.

وإنما نقتصر على المضامين المستفادة من مجموعها، والتي لا لبس فيها علينا وعلى الآخرين بإذن الله ولو بالاقتصار على ما يمكن الاستقرار عليه من مختصرات ذلك المسلّمة، مع إضافات ما قد يتجلى لنا توضيحا أو ترجيحا منه.

فنقول: بما أن الحكومة هي أول المطلبين المهمين في الذكر من قبل الأساطين للاستفادة التدقيقية مما تصدى ويتصدى له المتشرعة في أعرافهم وسار تحت ظلّهم أهل الآراء المحمودة من العقلاء في تصرفاتهم الاجتماعية مما بينهم، ومحاوله تطبيق ذلك بالدقة الممكنة على الواقع الشرعي المرتبط بالأدلة المحكمة والملاكات المهمة للأمثلة الصحيحة غير البعيدة عن العلاجيّات الحاوية لموارد الترجيحات الملائمة أو المستفادة خارجاً من لوازم الأصول المعتمدة المقومة للحجة التي لا تعود إلا للشرع في المجالات المشكلة من تلك التصرفات.

فلابد إذن من أن نحيط أولاً ولو بالميسور الفعلي مما يسد الحاجة من محددات هذه الحكومة القابلة للتطبيق والتي يكثر الابتلاء بها في الفقه عادة.

وثانياً: في الخضوع في موارد التطبيقات للتمثيل التوضيحي بعيد كل من فارق الحكومة عن التخصيص وفارق الحكومة عن الورود.

فهي عبارة عن أن يكون أحد الدليلين صالحاً لتضييق جانب الدليل الآخر أو توسعة مورده أو يصلح لهما معاً، وهذه ستتضح كلها قريباً بالأمثلة.

ص: 306

وهذا التضييق أو هذه التوسعة أو ما في الاثنين معاً بمعنى التقدم على الدليل الآخر تقدم سيطرة شبه قهرية من الناحية الأدائية فقط، ولهذا أطلق على عنوان هذه الحالة اصطلاحاً بالحكومة.

فالمقدم هو الحاكم والمستولى عليه هو المحكوم، دون أن يكون التقدم والتأخر بين الدليلين قد تسببا من الإسناد الروائي وحالاته أو الحجة وتفاوتاتها، بل إنهما على ما هما عليه من الحجية بعد ذلك التقديم، لعدم التكاذب بين دليليهما وعدم التعارض كذلك.

لكن شريطة أن لا يكون أمرهما من قبيل التخصص الحقيقي للعام مما سبقت الإشارة إليه وإن أشبهه بعض الشيء بما سيأتي توضيحه من التمثيل له أو من قبيل ما سيأتي بيانه قريباً من ثاني المطلبين، وهو الورود، لافتراق الحكومة عنهما.

أما فرق الحكومة عن التخصيص فإنّها وإن أشبهت بالنتيجة الأدائية من جهة خروج مدلول أحد الدليلين عن عموم مدلول الآخر، لكنها لا تشبهه في الإخراج عن عموم العام من حيث الذات والنتيجة معاً على ما هو الثابت عنه حقيقة بين أهل المحاورات في حاكمية الخاص على العام من ناحية غلبة الأظهر على الظاهر بحكم العقل السليم بقبح العكس على الحكيم جل وعلا.

وإنما أشبهته بتلك النتيجة تنزيلاً وادّعاءً فقط كما أشرنا، ولتفاوت دقيق اصطلاحها عن اصطلاحه الخاص به، مع لا بدية أن يفرض فيه الدليل الخاص منافياً في مدلوله للعام، لتحقيق أمر التعارض والتكاذب بين جانبي العام والخاص بحسب لسانهما بالنسبة إلى موضوع الخاص دون أن يحصل شيء من هذا التنافي في طرفي الحكومة كما مر.

ولأجل توضيح المطلب أكثر ينبغي لنا الاستعانة أولاً بأمثلة المحاورات العقلائية والتي تقترب عادة من سيرة المتشرعة، أو أنها تحت ظل الشريعة من البداية في

ص: 307

مقاصدها الأصولية، ثمّ ببعض نماذج من المدارك الشرعية الواضحة.

أما الحالة الأولى فهي ما إذا أمر السيد عبده أو الأب ولده أو المستأجر أجيره ليصرف شيئاً من ماله قائلاً له (أكرم العلماء) ثم قال له بعد ذلك (لا تكرم الفساق).

فإن القول الثاني الذي في مقام التخصيص كما لا يخفى يكون مخصصاً للقول الأول، لأنَّ مفاده حينئذ ليس إلا عدم وجوب إكرام الفساق، لو لم نقل بحرمته ارتباطاً بصيغة النهي، حتى مع بقاء صفة العلماء فيهم، لناحية التخصيص الذاتي بسبب الفسق في جميع حالاته.

أما لو قال عقيب أمره الأول (الفساق ليسوا بعلماء).

فإن مصداق التمثيل هنا يخرج من حالة التخصيص العام ويدخل في باب الحكومة.

وبذلك يكون القول الثاني حاكماً على الأوّل، لكون الآمر به أنزل رتبة العلماء الفساق إلى منزلة الجهلة، أو عدم كونهم من أهل العلم، لأنه تصرف في هذا الأمر تصرف عقد الوضع بهذا التخفيض الاعتباري بسبب لوثة الفسق المأدية إلى ترك عطاءهم وإكرامهم ، ليكون البر في محلّه ولأهله العدول.

وبهذا يظهر الفرق بين التخصيص والحكومة على أن تكون الحكومة في موقع التضييق لمحكومها.

وأما الحالة الثانية: وفيها بعض النماذج مما يثبت الضيق كذلك كالسابق، لكن من أنماط ما تعطيه أمثلة المدارك الشرعية الصريحة للمقام المناسب مثل قاعدة (لا شك لكثير الشك) بناءً على مصحح زرارة وأبي بصير الوارد في كثير الشك قالا: قلنا له علیه السلام

(الرجل يشك كثيراً في صلاته حتى لا يدري كم صلى ولا ما بقي عليه؟

قال يعيد

ص: 308

قلنا له: فإنه يكثر عليه ذلك كلما أعاد شك؟

قال: يمضي في شكّه، ثم قال: "لا تعودوا الخبيث من أنفسكم بنقض الصلاة فتطمعوه، فإن الشيطان خبيث يعتاد لما عود، فليمض أحدكم في الوهم، ولا يكثرن نقض الصلاة، فإنه إذا فعل ذلك مرات لم يعد إليه الشك.

قال زرارة ثم قال: إنما يريد الخبيث أن يُطاع، فإذا عصي لم يعد إلى أحدكم)(1)

وذلك بالنسبة إلى قوله علیه السلام أيضاً (إذا شككت فابن على الأكثر فإذا فرغت وسلَّمت فأتم ما ظننت إنك نقصت فإن كنت قد أتممت لم يكن عليك في هذا شيء وإن ذكرت إنك قد نقصت كان ما صليت تمام صلاتك)(2).

حيث يضيفه علیه السلام عائداً إلى خصوص الشكوك التسعة للصلوات الرباعية المتعارفة والمرتبطة بالبناء على الأكثر، ليبقى الباقي منها محولاً إلى الأدلة الأخرى من مواقعها، دون الشكوك الكثيرة المذكورة التي لا يعتنى بها في القاعدة المذكورة والنَّص الأول.

وبهذا يكون الأول حاكماً على النص الثاني ومضيقا له.

وأما لو كان الآمر لمأموره بعد أمره إياه ب- (إكرام العلماء) في مثال الحكومة الماضي أضاف كلمة (المتقي عالم) بتنزيل التقوى منزلة العلم.

فإن هذا القول الثاني حاكم على الأول، لكن لم يفهم منه إلا ما يكون معناه على نحو من التوسعة المشار إليها آنفاً دون التضييق المعاكس في المثال السابق للحكومة أيضاً.

ص: 309


1- تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 2 ص 188 ، الكافي - الشيخ الكليني - ج3 ص 358 .
2- الوسائل: ج 8: ص 213 باب 3 (7910453).

ومثله في التوسعة من الشَّرعيّات الصريحة أيضاً قولهم علیم السلام ( الطُّواف في البيت صلاة )(1) في مقابل حالات نفس الصلاة، ليكون مفاده حاكماً على أن لا تنفرد الصَّلاة الواجبة الرباعية في أمور الشكوك الصحيحة وأحكامها في ركعاتها.

بل يتوسع الأمر أيضاً في أشواط الطُّواف كذلك لو اعترى الطائف بعض الشكوك.

ومثله في التوسعة من الشَّرعيّات قاعدة (لحمة الرّضاع كلحمة النسب) استناداً إلى قول رسول الله صلی الله علیه و اله (يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ)(2).

فإنَّ هذا النص حاكم على أن لا ينفرد النسب الشرعي الولادي وأتباعه من حالات المحرمية الأخرى كالعمومة والخؤولة ونحوهما في بعض الأحكام الخاصة، بمثل حرمة الزواج من الأم والبنت والأخت وما يلحق بهنّ، وبالعمة والخالة وعدم وجوب حجابهن من أبناءهن وإخوانهن وآبائهن وأبناء إخوانهن وأعمامهن وأبناء أخواتهن حتى في الرضاعة، لما لا يخفى من التوسع الشرعي الاعتباري في موضوع النسب.

ومثله في التوسعة من الشَّرعيّات أيضاً حديث السكوني، عن أبي عبد الله علیه السلام أن النبي صلی الله علیه و اله قال : (یَا أَبَا ذَرٍّ یَکْفِیکَ اَلصَّعِیدُ عَشْرَ سِنِینَ)(3) وقول أبي جعفر علیه السلام (اَلتَّیَمُّمَ أَحَدُ اَلطَّهُورَیْنِ)(4)

ص: 310


1- الوسائل: ج 13 ص 376 ب 38 أبواب الطواف ح6 ، عوالي اللئالي ج 2 ص 163 ح 3
2- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 20 ص 388.
3- الوسائل 3: 386 ، أبواب التيمم، ب23 ، ح4.
4- المصدر السابق ح 5

وذلك بالإشارة إلى قوله علیه السلام الآخر (لاَ صَلاَهَ إِلاَّ بِطَهُورٍ)(1)، حيث أنَّ النَّص الأول يوسع الطهور شرعاً بالطهارة الترابية أيضاً، لكن بالنحو الطولي دون العرضي، فتكون حالة خصوص الماء محكومة لما هو الأعم من الماء والتّراب.

وأما فيما يرتبط من الشَّرعيّات بما يشمل التوسعة والتضييق معاً دون ما قد يتوهم من خصوص التضييق فقط، والتوسعة كذلك للحكومة فلنكتف بضرب مثال واحد، إذ به يتم التوضيح فهو في مثل قول الإمام علیه السلام (العمري وابنه ،ثقتان فما أديا إليك عني فعني يؤديان وما قالا لك فعنّي يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثّقتان المأمونان)(2)

فإنه في حكومته يوسع نطاق العلم المتبع في قوله تعالى «وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»(3) المشدّد في التضييق بالإشارة إلى موارد الإمارات المعتبرة أيضاً مما هو أقوى منهما ، كقول الثّقة في الرواية، وكذا البينة واليد ونحوهما.

كما يضيق أيضاً موارد اعتبار الأصول العملية مطلقاً إلى غير موارد الإمارات المعتبرة، فيقدم مثل قول الثّقة والبينة واليد على مثل التخيير ونحوه من تلك الأصول.

وبعد هذا كلّه في المقارنة بين الحكومة والتخصيص وتبين الفرق بينهما بما مضى يمكن أن يبدو إشكال من بعضهم بادعاء:-

أن التخصيص وضع على نحو التضييق فقط، ليزداد الفرق بينه وبين الحكومة أكثر، وأن الحكومة تتصف بالتضييق وتتصف بالتوسعة وتتصف بهما معاً كما مر.

لكن يمكن الإجابة عن هذا:

بأنَّ الفرق بين الحكومة والتخصيص لا يضر به بعض شبه آخر بينهما، كالتوسعة

ص: 311


1- الوسائل ب9 من أبواب أحكام الخلوة ح1.
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 ص330.
3- سورة الإسراء / آية 36

أيضاً، فإنها قد تستفاد من حالة التخصيص كذلك.

لأنَّ قول الآمر في مثاله الماضي من الحالة الأولى (لا تكرم الفساق) يضيق دائرة (أكرم العلماء) تارة إذا كان بعض أهل العلم من الفساق المنهي عن إكرام مطلقهم.

ويوسع دائرة الفساق بشموله الفساق العلماء أيضاً تارة ثانية، بشمول عدم إكرام حتى العلماء لو كانوا فساقاً، إلا إذا خرج هؤلاء العلماء موضوعياً عن يشملهم الفسق بمثل حملهم العلم لبعض الاعتبارات.

فلا فرق إذن بين الحكومة والتخصيص من هذه الناحية.

فيبقى الإقتصار على الفوارق الباقية بينها مما مر ذكره وبها كفاية التمييز.

وأما فرق الحكومة عن الورود الآتي بيانه قريبا جداً.

فنلخصه:-

بأن الحكومة إذا كانت عبارة عن أن يكون أحد دليليها صالحاً لتضييق مورد الدليل الآخر أو توسعته أو كليهما معاً بنحو مشابهته للتخصيص التنزيلي.

فإنَّ الورود يكون عبارة عن خروج مورد أحد الدليلين عن مورد الدليل الآخر موضوعاً بعناية الجعل لكن في خصوص مشابهته للتخصص، دون التخصيص في الخروج الموضوعي.

إلا أن صفة هذا التّخصص في حالته التكوينية، وفي الورود تكون بعناية الجعل أو التشريع، أي سواء كان المتصرف شارعاً أولاً، كخروج مورد الأصول العقلية العملية المقررة للشَّاك في مقام العمل عند فقد الأدلة الاعتيادية عليها أو تعطلها عن مورد الإمارات الشرعية المعتبرة لو توفّرت على ما سيتضح أمره أكثر.

ص: 312

المبحث الثالث عشر: ماذا قال السابقون عند تعرضهم لخصوص أمر الورود

بعد الذي ذكرناه من محدودية الورود سابقاً وعن موقع ذكره مع الحكومة بعد ذلك من محل ذكرهما الأنسب في المقارنة مع التعارض والتزاحم قبل ذلك نقول:-

إن كلام السابقين قدس سِرهم حول أمر الورود إذ جعلوا فيه العلاج التدركي لما قد يقع من حالاته عند عدم العثور على النصوص والأدلة الشافية والكافية من أمور العلم الإجمالي، هي:-

1 - إن توفّر شيء من الإمارات ذات المرتبة المتأخرة عن النصوص والأدلة الاعتيادية - كقول الثّقة المعتبرة والبيئة الشرعية وذي اليد ونحوها - فإنها مقدمة على ما قرروه في البداية من الرجوع إلى الأصول العملية الفعلية المقررة للشاك في مقام العمل، مثل حكمهم ابتداء بالبراءة العقلية مادام موضوعها تلك البراءة اعتماداً منهم على عقيدتهم وعقيدتنا معهم ب- (قبح العقاب بلا بيان).

في حين أن لا بيان في المقام من النصوص إن ظهرت بعض هذه الإمارات عندهم أيضاً، لا بتصد من قبل الشارع المقدس الذي قد وفّرها في الواقع وبما قد يكفي كما مر ذكره ،مرات، لكونها وإن تأخرت عن رتبة النصوص والأدلة الاعتيادية لو لم تبد للفقيه عند الحاجة هي الصالحة لأن تكون بياناً نقوم به الحجة المعوضة على كل مكلف، وإن لم يكن بيانا حقيقيا

بل هو بيان تعبدي جاء بالعناية الشَّرعيّة ومريحاً لتلك البراءة، وإن جاءت مبررة من بعض الأدلة الإرشادية المرتبطة ب- (حسن الإحسان وقبح الظلم) والناهية عن التكليف بما لا يطاق حينما لم تكن تلك الإمارات واردة حينما لم يعثر عليها أو على

ص: 313

غيرها.

2 - وحكمهم عند عدم تلك النصوص والأدلة الاعتيادية بالبناء على أصل الاحتياط العقلي وهو وجوب دفع الضرر المحتمل الذي موضوعه عدم المأمن من الضرر لولا هذا الاحتياط التحفظي عند وقوع الشك لو لم تكن الإمارة المناسبة واضحة في المقام.

لكن لا قيمة لهذا الاحتياط الملتجأ إليه عندهم أيضاً مادامت الإمارة وافية في المقام كما سبق، لأن الوضع الشرعي هو الداعم الأهم لها وبما يفوق الاحتياط العقلي وإن كان مدعوماً ببعض الأدلة الإرشادية كما أسلفنا.

3 - وحكمهم كذلك بأن أصالة التخيير بين ما يأدي إلى ما هو الوجوب أو الحرمة مثلاً من حاليتهما إذا تساويا في اعتبار الحجتين ولم يكن من مرجح لأحدهما على الآخر كي يتقدم على ما يقابله، فإن كل إمارة معتبرة لو توفّرت في مقابل هذا الحكم التخييري تعد عندهم أيضاً واردة وأصالة التخيير مورود عليها ذلك الوارد.

4 - وهكذا كل أصل شرعي حتى هذه الإمارات في مقام المقارنة بالأصل العقلي مثل الثلاثة التي استعرضنا ذكرها تجاه الشرعي الأصرح في كونه الوارد على ما هو الأضعف منه، وإن قلت حالات الاستثمار من أمثال حالة الورود هذه.

أو أنها لم تكن بمثل كثرة الإستفادة الإستنباطية من موارد الحكومة التي مر ذكرها، ولهذا ما أسهبنا في الكلام عن الورود كسابقه.

المبحث الرابع عشر ما هي القاعدة في التعارض المستقر هل هي التساقط أم التخيير؟

بعد لزوم العود إلى الكلام عن التعارض لإتمام مطالبه - عند الإنتهاء من

ص: 314

الحكومة والورود وما سبقهما من بعض المقارنات بين العناوين العارضة على بحث التّعارض - ومما يخص التعارض أيضاً هو اتصافه بحالتين:-

أولاهما: حالة عدم الاستقرار، وهي التي تشترك مع حالات الحكومة التي تخضع للعلاج بالترجيح كما مر وسوف يتضح في أمور العلاجات الترجيحية الآتية.

وثانيهما حالة الاستقرار وهي مورد كلامنا الآن عنه.

فإنه عند خلوه من كافة المرجحات الماضي ذكرها بين طرفيه لأحدهما على الآخر - وصح اطلاق التعادل الكامل بينهما بما مضى تفسيره، وأنه بتقابل تكاذبي لحجتي كل منهما، أو جاء الطَّرف المعارض لمعارضه الآخر بهذا النحو من التقابل، حتى بعد تقدم الخاص على العام أو المقيد على المطلق، أو النص على الأظهر، أو الأظهر على الظاهر، أو الظاهر على خلافه مع احتمال خلافه في كل من جانبي المعارضة، لو تمت دلائل من حالات ما استقروا عليه في محاوراتهم المسلم قبولها بين العقلاء وأهل العلم -

هل يمكن القول بعد هذا التحديد له بالحكم على طرفية بالتساقط والبحث عن ضالة أخرى أم بالتخيير؟

فإن المشهور عندهم وبنحو القاعدة الأولية هو التساقط، ولعلهم لم ينفكوا - لحسن الظن بمقاماتهم المهمة - عن السعي الدؤوب لهذا المشكل، وبناء على صحة قاعدة ( ما خفي على فقيه طريق) بالسعي إلى اللجوء إلى طريق ثالث شرعي، إن كانت مظنة الحصول عليه عن استفراغ الوسع الإجتهادي ممكنه حسب اعتيادية أصحابه، ما دامت الشُّبهة الحكمية لم يغلق باب إمكان حلّها، لو لم تنكشف واقعية أحد طرفي التعارض بالحكم المقبول من كذب الآخر، ولو بعد حين قليل من قوام الحجتين بحسب الظاهر.

وعلى هذا الحكم التّساقطي عندهم في حالة التعارض المستقر معول أساتذتهم

ص: 315

المهمين ممن لا ينبغي مخالفتهم في مستوى القاعدة الأولية المذكورة.

ولكن تظافرت الروايات المهمة ألفاظاً ومضامين بالنحو الذي لابد أن لا يبخس بحق الرجوع - عند بعض حالات الحيرة عند حلول اليسرة - إلى محكمات الآيات وواضحاتها، أو ما أخذه وضح عن الرسول صلی الله علیه و اله من النص القرآني أيضاً، أو عن أولي الأمر علیهم السلام من ذلك النّص أيضاً، أو حتى مجملات تلك الآيات المفسرة والمأولة بمعتبرات الروايات عن النبي صلی الله علیه و اله و عن خصوص أهل بيته من العترة الطاهرة علیهم السلام ولو بالنحو الأولي العمومي من مرجعية الكتاب والسنة في هذا الأمر، إلى أن يأتي دور التفصيل الأكثر فيما بعد، ولو لكي لا يقطع منه أمل الحل، حتى لو أدى شيء ذلك إلى حالة من التخيير.

لكن بنحو من القاعدة الثانوية الثانية دون الأولي، ولو بمثل عدم منع التخيير المطلق لو جاءت أسبابه المجملة من الكتاب والسنة بين المتعارضين، وبنحو ما قد يغاير ما حددناه في تلك الأولي للتساقط، سواء وضح المرجح أم لا، تحت ما قد تسمى بهذا العنوان الثانوي، كما في مرجحات حالات التقية أمام من يقول بالحرمة وأمام من يقول بالحلية من بعض الفرق الإسلامية المتعصبة في كلا الحكمين من حالات التّعارض ، إذا كان المحرجون لنا منهم قد يحلّلون ما حرم أو يحرمون ما حلَّل، ، حسب مذهب كل منهم، لو لم يمكن الخلاص ، وإن كان الواقع الشرعي على خلاف ذلك الإحراج.

ومن أمثلة ذلك اختيار صلاة الجمعة إضطرارا عند من يقول بحرمتها خشية ممن يقول بوجوبها.

وإضطرار الإختيار لصلاة الظهر عند من يقول بوجوب صلاة الجمعة أيضاً إن أبتلي المكلف بهذا الأمر إما اجتهاداً أو تقليداً أو احتياطاً ولو تقية.

وإن تزاحم المتعارضان لابد من الاكتفاء باختيار أحدهما له أو عليه، ما لم يكن

ص: 316

تكليفه الواقعي صلاة الظهر، فإنه يصليها في فسحتها الزمنية إن اضطر إلى اختيار صلاة الجمعة، وقد سبقت الإشارة إلى ما يشبه هذا المثال.

وقد يأتي لكن لا في حالة الاختيار الإضطراري لكل من حالتي الوجوب والحرمة، وإنما في حالة حصول الواجب التخييري عند المجتهد الواحد المختار والمكلَّف الآخر غير محرج لو قلده.

فلا ينبغي خلط أمره بمطلبنا .

هذا وأمثلة مطلبنا كثيرة أمام أهل النباهة ودلّت عليه آيات وروايات التقية.

وقد يصل الأمر إلى القول بالتوقف أو الاحتياط في غير مورد التقية أيضاً مما قد يأتي ذكره في مناسبة ذكره.

كما ودلت على صحة الأخذ بأحد المرجحات حتى الإختيارية منها إن أمكن الخلاص من إحراج المحرج المخالفة بمثل إقناعه حتى بما ورد عن أئمتنا الأطهار علیهم السلام.

وبالأخص كثيراً إذا كان ثقاة العامة - بل وحتى غيرهم ولو صدفة - يروون عن النبي صلی الله علیه و اله من طرقهم ما يتلائم ورواياتنا الشريفة المفضية إلى صحة الرجوع إلى الكتاب والسنة المعتبرة عند الجميع، ولو على نحو التقريب المذهبي في حالة الحيرة، إن ساعد هذا على إمكان التدقيق المتلائم في المرجحات.

وإن قلت عن مستوى مرجّحات ما قبل الاستقرار التعارضي للقاعدة الأولى، من مثل كون أحد دليلي حالة هذا التعارض - وإن تكافئا في حجتيهما صناعيا - أقرب إلى واقع النصوص، أو أحدث تأريخاً مع ضبط ذلك، أو أشهريته تداولاً، أو كان موافقا للكتاب والسنة المعتبرة بحق، لو خالفتهما العامة في مثل موارد اختيارنا دون اضطرارات حالات التقية، وبالبناء على تطبيق مفاد ما ورد من الحديث الوارد عن الإمام أبي عبد الله الصادق علیه السلام وهو (دعوا ما وافق القوم فإنّ الرشد في

ص: 317

خلافهم)(1)، أي عند بروز حالة الإختيار فينا وإصرار المخالفين على المخالفة دون موارد التقية.

ومن تلك الروايات بعد الآيات المناسبة المشار إليها آنفاً مقبولة عمر بن حنظلة فهي واسعة المضامين وتشمل في إفادتهما للمقام ما قلناه وغيره، وستأتي مع المناقشة حولها من البعض وردها.

ومنها ما عن عدة من أصحابنا عن حمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبي عن أيوب بن الحر قال سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول (كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة ، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف)(2).

ومنها ما عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم وغيره عن أبي عبد الله علیه السلام قال (خطب النبي صلی الله علیه و اله ، بمنى ، فقال : أيها الناس ! ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله)(3)

أقول: وهاتان الروايتان بعد المقبولة من عمومهما وإطلاقهما ما قد يفيد من حالات التعارض مع المقبولة وغيرها من الروايات المشابهة مما قبل الاستقرار وما في حالاته وما بعده من موارد القاعدة المناسبة كل بحسب موقعه من حالات العلاج المحتاج إليها في تلك الأدلة.

وأقول أيضاً إضافة إلى ما يمكن استفادته منها في مقام إمكان الرجوع إلى المرجحات من مقامات الإحراج المشار إليها آنفاً لابد أن تفيدنا كذلك في حالات

ص: 318


1- وسائل الشيعة : ج 18 باب 9 من أبواب صفات القاضي ح19، وفي رواية أخرى (ما خالف العامة ففيه الرشاد) نفس المصدر ح1
2- المصدر السابق ح14.
3- المصدر السابق ح15.

التّعارض الظَّاهري، لو لم تبد مقومات التعارض الواقعي مما قبل حالة استقراره إن أمكن استكشافه بها عند المقارنة التطبيقية للروايات المعنية بهذه الأمور.

إضافة إلى ما مضى في السابق من أهمية الاستفادة بالاستعانة بتطبيق القواعد الأدبية وقواعد مباحث الألفاظ الأصولية المعتمدة عند الجميع.

لا كما قد يتصوره بعض السطحيين من حصر فائدة المرجحات - لو تيسرت - في خصوص ما تحت القاعدة الثانية، أو ما يرتبط بخصوص العناوين الثانوية، أي حتّى لو لم تأدِ تلك الترجيحات إلى شيء من التخيير الممنوع حسبما مضى بيانه.

المبحث الخامس عشر: ما المقصود عندهم من كون (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح؟ وما هي وظيفتنا؟

قد تعارف التطرق إلى هذا الأمر بين الأصوليين لا ليبتوا فيه مطلقاً، بل ليبحثوا في أساس ما يبرر الأولوية المفيدة لجمع ما كان مبعثراً من حالتي أو حالات التعارض التي قد توصل إلى معنى مقبول شرعا مع إمكانه، كي تطرح حالة التساقط.

ولعل ذهن العاقل الحريص فضلاً عن هؤلاء الأعلام لا يأبى عن أمر تعقل التوسع الممكن بإدخال ما يزيد من خلال ممارسة هذا البحث على حالات التعارض المحتملة.

لكن بمجرد العقل لا يمكنه أن يتحكّم في هذه الأمور لوحده ما دامت مقبولية القواعد الأصولية والروايات العلاجية المهمة وإمكان مصاحبتها للعقل مرهونة بعدم ردع الشارع المقدس عن تصرفاته التي أمكن منها حالة إدخال التوقف على رأي البعض أو الاحتياط كذلك.

ص: 319

لذا فإن ما تطمئن به النفس لدى المتشرعة في مثل التعارض إن أمكن جمع جانبيه و عما هو الأمثل ما أشرنا إليه سابقاً من حالة الجمع الممكن شرعاً بين دليليه ولو في الظاهر إن عثر على ما بينهما من حالة العموم والخصوص من وجه إذا يحصل بينهما التلائم الإجتماعي في جملته الشرعية أو العقلية الممضاة لدى الشرع لا في كل حالة، أي حتى بما يعطيه العنوان العام أو المطلق أعلاه من عبارة قولهم (مهما أمكن)، لاستفادة ثمرة تلك الأولوية المأدية إلى طرح التعارض ومنه المستقر.

لأن أولوية ما يعطيه عموم واطلاق العقل العام - الذي كثيراً ما يخرج عن موافقة الشرع له قولاً وعملاً وتقريراً لو خلّي محاطاً بالمغريات ولو بمثل توهم عدم الردع الشرعي عن تلك الأولوية -

لا يمكن اعتبار ظنون تلك العقلية منفردة في باب الحجج المعتبرة في المقام بنحو الظَّنون المعتبرة إلا إذا أمضي اعتبارها من قبل الشارع ولو من إشارات الأدلة الإرشادية، أو من اتضاح أدلته غير المتوقعة من زواياها.

وعلى الأخص كثيراً لو كان ذلك الجمع تبرعياً، لابتعاد التبرعي بسبب التصرف غير المسؤول في الدليلين عما يأيده الشرع بتحكم وسيطرة العواطف الهوجاء الجوفاء غالباً، وهو ما يمثل له دعاته إلى اتخاذ مصاديق التأويل الكيفي ويرفع التكاذب الاصطلاحي المفترض حصوله في التعارض إذا كان مستقراً.

وعليه فهذا الجمع المقترح تبرعياً من البعض لا يبرره أي عقل لا ينسجم مع شرع الله تعالى ولو بأدنى نسبة تأييد منه.

نعم يمكن اختيار فحوائية أولوية أخرى بعيدة عن التصرف العقلي الهوائي في دليلي التعارض كيفما كان بل تقترب من مرامي الإصطلاحات الأصولية المرتبطة بالشرع بالمباشرة أو التسبب.

إضافة إلى صحة ما مر ذكره من حالة ما تطمئن به النفس لدى المتشرعة،

ص: 320

كأولوية جمع ما يمكن جمعه من ألفاظ ومضامين الآيات الأحكامية المترابطة في مثل قبولها لأن يفسر بعضها بعضاً، ولو بالمعونة الإضافية المهمة من الروايات المعصومية تفسيراً أو تأويلاً وطرح حالات التشتت المضيعة للحكم في البين.

وكذا أولوية ما يمكن جمعه من ألفاظ ومضامين الروايات المترابطة الخاصة بمدارك الأحكام القابلة لأن يدعم بعضها بعضاً تفسيراً أو تأويلاً إذا لم يتضح شيء معارض من كتاب الله العزيز أحكامياً، وطرح حالات ما يشتتها مما يسبب ضعف انفتاح العلم المدركي المفيد والذي قد تزدهر منه بعض حالات التواتر اللفظي أو المعنوي الذي كاد أن يضعف في الآونة الأخيرة من تقاعس من يقدر أن يجهد نفسه ويحقق فعلاً ولو بعضاً من ذلك من أهل الفضيلة.

وعلى الأخص كثيراً لو بنينا على حال الوثوق في أسانيد هذه الروايات الشريفة، لا خصوص وثاقة الراوي، لأن ضعف بعض الرواة قد يقويه عمل الأصحاب والشُّهرة العملية وغيرهما مما هو محرر في محلّه.

مع صحة احتمال بل ثبوت أن يراد من أولويات هذا العنوان أهمية جمع الشمل الإسلامي والإيماني والأخلاقي والإنساني.

ولأجله تكاتفت كل الأدلة السماوية والإسلامية ولكن بألسنة ما يزيد على المصطلحات الأصولية والفقهية الخاصة من أمور العلاجات، لعدم وجود المخالفة في ذلك.

بل هو ما يريده أهل العقل والشرع والعرف بل ويقترب من ذوق كل الأذواق السّليمة والسلوكيات المستقيمة لو خلوا وطباعهم، بل ويصرون عليه.

كيف وبه يتم نبذ وطرح معادات أعداء الإسلام والإيمان والأخلاق الحميدة والإنسانية من أهل التوحش والتطرف جانباً، اعتزازاً بقوة هذا الجمع العظيم لو تحقق اجتماعه على ما يرام.

ص: 321

وتبدأ هذه الأولوية بمعنى اللزوم من القرآن الكريم بمثل قوله تعالى «وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ»،(1) أي أن في عمومها وإطلاقها القرآني يلزم أن يلاحظ فيها بادئ ذي بدء أولوية الأقرب فالأقرب نسباً، لو لم يعكر الكفر والتوحش الأحمق صفو العلاقات وبما لا علاج له.

ويوضح ذلك أكثر مثل القول المستنبط المشهور (الأقربون أولى بالمعروف) أي بمثل أن يعطوا حقوقهم كاملة مع الإمكان حتى لو كانوا في كفر ونحوه بإبداء النصح لهم وإصلاح أمورهم بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، كما صنع نبي الله نوح علیه السلام بنصحه لابنه لأن يركب في السفينة لكي ينجو من الغرق، وإن لم ينفع معه ذلك.

وكما صنع النبي إبراهيم الخليل علیه السلام مع أبيه آزر (وهو عمه) في نصحه له بأن لا يكفر، وإن لم ينفع معه ذلك النصح.

إلى غير هذا مما أبداه النبي الخاتم صلی الله علیه و آله وبقية الأئمة علیه السلام تجاه أعدائهم من أقاربهم لأداء واجب ،وعظهم ، وإن لم ينفع ذلك في الكثير منهم كما قال تعالى «لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ»(2).

وأهمية هذه الأولوية سائدة في الفقه كثيراً وبتركيز فائق عليهما من خلال الأدلة الأربعة، حتى صار ملزماً لذكره بما ينبغي ذكره في الأصول، بل في بقية العلوم، بلا أن تكون أي حاجة إلى أي مزيد من الاستدلال عليه، وهو ما يصح أن يطلق عليه في هذا المعنى الأخير ب- (الجمع (العرفي) كما صرحت الإشارة في الآية الماضية.

وقد يكون الأقرب هو الأولى من الأبعد، بمعنى كون الأقرب طاعة لله ورسوله صلی الله علیه و اله ولبقية المعصومين من أولي الأمر من العترة من بعده علیهم السلام عقيدة وعملاً، وإن

ص: 322


1- سورة الأنفال / آية 75.
2- سورة الزخرف / آية 78.

بعد في النسب لو كان الأقرب نسباً بعيداً عن هذه الطاعة المضمونة لأصحابها بالنجاة.

ولذا تم التركيز الإلهي على أن تكون الأولوية ثابتة أيضاً على الجامع الإيماني، وبما هو أشد وأنفع لو كان الأقربون في الأنساب داخلين في هذا الجامع لقولة تعالى «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ»(1)

و يأكده قوله تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»(2).

وقال تعالى في مقابل الجامع الإيماني الشامل لبعض أهل الأنساب ضد من يتخلف من بعضهم من بعضهم الآخر عن الآخر عن هذا الجامع الجامع «إِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلَآ أَنسَابَ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ وَ لَا يَتَسَآءَلُونَ»(3)، أي لعظم مسؤولية المتخلفين نوعاً إلا ما قل وندر عن التلاقي والتوحد على كلمة سواء.

وقال أيضاً بما يوضحه بوضع الميزان العادل له «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أتْقَاكُمْ»(4).

ولذا أراد تعالى نصح الجميع لجمع الشمل الأكبر، وبما يتفاوت فيه حتى أهل الإيمان في درجات إيمانهم ومن كان من الأرحام وغيرهم ومن بقية المسلمين الأبرياء بقوله تعالى «وَاعتَصِموا بِحَبلِ اللَهِ جَمیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا»(5)، أي تحت ظل النبي صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومين علیهم السلام وآخرهم الحجة المنتظر عجل الله تعال فرجه الشریف

ص: 323


1- سورة التوبة / آية 71.
2- سورة الحجرات / آية 10.
3- سورة المؤمنون / آية 101.
4- سورة الحجرات / آية 13.
5- سورة آل عمران / آية 103

وبهذا النحو من الإطاعة لابد أن يحسب للأولى بالفوز بقصب السبق هو الساعي الجاد بإيمانه وتقواه وإخلاصه في جمعه للشمل، ولو بما يتيسر له من شأنه، وإن كان بعيداً في أساسه عن النسب والحسب عما دون مقامه العالي الفعلي عند الله.

وقد كثرت الروايات الشريفة عن النبي صلی الله علیه و اله وأهل بيته الطاهرين علیهم السلام بما لا يزيد عما أوضحته الآيات الكافية الماضية، ولأجل الإستفادة العرفية عما أفادته تلك الآيات وما أوضحته الروايات ينبغي الأخذ بما جمع مفاد النصين الشريفين من قول ما نُسب إلى أمير المؤمنين علیه السلام:

لعمرك ما الإنسان إلا ابن دينه *** فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب

فقد رفع الإسلام سلمان فارس *** وقد وضع الشرك الشريف أبا لهب

المبحث السادس عشر انحصار كون القاعدة السابقة في العرف الدلالي دون التبرعي

اعتبر الشيخ الأعظم قدس سره (الجمع العرفي) والمسمّى ب- (الدلالي) أيضاً أنه هو المستحق لانطباق العنون الماضي عليه دون إرادة التبرعي منه لكون التبرعي هذا يتصرف صاحبه بحالتي التعارض، حتى لو تسبب من وراءه إزالة التكاذب الثابت فيه عنهما لو كان مستقرا في المعارضة.

بينما العرفي الدلالي - إذا ينال به الجمع المقبول شرعاً - لابد أن لا يلازمه التّكاذب المفترض ، لعدم وجود التعارض المستقر، وفي موارد التعارض المستقر لا مجال لمثل هذا الجمع الدلالي، وإن كان ذلك كذلك فلا مجال لذلك التبرعي قطعاً من باب أولى.

ص: 324

1 - وقد مرت بعض أمثلة ل- (الجمع العرفي) وللإيضاح بأكثر يمكن الجمع بالمقبول عرفاً أيضاً، لو ساعد عليه التوجيه الصحيح، حتى إذا كان الظاهر المغري يأدي سطحياً إلى نسبة من التعارض كروايتين إحداهما عن أبي عبد الله علیه السلام تقول (ثمن العذرة من السحت)(1) والأخرى تقول (لابأس ببيع العذرة)(2).

لصحة حمل العذرة في الرواية الأولى على عذرة الإنسان، والعذرة في الرواية الثانية على عذرة مأكول اللحم من بقية الحيوانات ، كقدر متيقن من كل من الروايتين من الجهة الخارجية بما لا تعارض اصطلاحي بينهما.

ولذا صح الجمع وإن تعارضت العذرتان في خصوص الجهة اللفظية سطحياً، بتفاوت الروايتين في الحكم.

اذا لم يتسع ذهن الفقيه الجامع إلى عدم صدق السحتيَّة للرّواية الأولى في نظره الشرعي الآخر إذا أدى إلى تجويز أخذ حق اختصاص جمع العذرات البشرية لمثل جعلها سماداً لزراعة ثمرة الخس وأمثاله فلا سحتية حينئذ، ولو لاحتمال بقاء الكراهة بعدها بمجرد أخذ الحق وفسح مجال أخذ تلك العذرات إن كان، وفي حال عدمه فلا كراهية إذا افتقر إليها للحاجة إلى تلك الأنواع من المزروعات.

كما لا سحت مع مطلق الجواز في الرواية الثانية من مأكول اللحم لتسميد بقية الزروع، فيتقارب معنى الجمع بين الروايتين عرفاً بإمكان الاستفادة لمطلق الزروع من العذرتين بصفة أكثر.

2 - ويمكن إلحاق ما قد يرتبط بالتعارض الموصوف بعدم الاستقرار الكامل أيضاً قبل تقدم الخاص على العام عملياً، أو المقيد على المطلق كذلك، أو النص على

ص: 325


1- الوسائل 17 : 175 / أبواب ما يكتسب به ب40 ح1 . والتهذيب 6 : 372 / 1080 . والاستبصار 3 : 56 / 182 . والوافي 17 : 283 / 22.
2- الوسائل 12: 126 ، الباب 40 من أبواب ما يكتسب به الحديث 3.

الأظهر من الظاهر، أو الظاهر على ما يحتمل منه الخلاف، مما مر ذكره من مضمره حول طرفي التعارض، إذا أمكن استفادة هذا الجمع العرفي حسبما تعطيه الأدلة.

كما لو دار الأمر بين العام ك- (أكرم كل عالم) والخاص ك- (لا تكرم الفساق منهم) في التعارض العرفي لمثل الحالة الأولى قبل تقدم العام على الخاص، كما في المردّد فيه من العلماء أنه فاسق أم لا ؟ بإمكان استصحاب شمول عموم إكرام العلماء له بين أهل العرف ربطاً له بحالة دخوله في مجال العدم الأزلي، لعدم التأكد من دخوله في ربقة الفساق بناءً على أن (المتهم بريء حتى تثبت إدانته).

3 - بل يمكن أيضاً أن يستفاد من هذا الجمع بما هو مقبول مما ذكره كذلك من حالتي الحكومة والورود وإن لم يدخلا في باب التعارض الإصطلاحي التام، إلا أن صحة تطبيق أمرهما على نحو هذا الجمع بما يتناسب مع حالة كل منهما، حتّى يتحقق هذا الجمع كالتعارض في النتيجة كما في الأمثلة التي استعرضنا بعضها حين البحث عنهما كمثل الذي مر للحكومة من رواية عن أبي جعفر علیه السلام قال: (لَیْسَ بَیْنَ اَلرَّجُلِ وَ وَلَدِهِ وَ بَیْنَهُ وَ بَیْنَ عَبْدِهِ وَ لاَ بَیْنَ أَهْلِهِ)(1) التي جاءت في مقابل دليل حرمة الربا في قوله تعالى «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبَا»(2) وغيره من الآيات بحمل الرواية السابقة على معنى نفي الرواية التي بمعنى الرّبا المعفو عنه لا نفيه موضوعاً ، لبقاء حرمته وعدم العفو فيه بين المكلف وبين غير المذكورين في الرواية.

ولذا قلت نسبة الذي خلاصته الحرمة من الدليل المقابل بما بين (الوالد وولده)،

ص: 326


1- وسائل الشیعة-الحر العاملة- ج12 ص 436
2- سورة البقرة / آية 275

لصالح تحقيق هذا النحو من الجمع، وإن أدى الجمع الإجمالي بما ربما يُتوهم غفلة.

ومثل الذي مر للورود بعلاج أمره في وقوعه في موضع ما يشبه التعارض قبل استقراره وجمعه العرفي بتقديم الإمارات على الأصول العملية كتقديم إمارة اليد على أصل البراءة ونحو ذلك مما مر.

4 - بل يمكن استفادة معنى هذا الجمع حتى من المتزاحمين - وإن لم يمكن الجمع بينهما في كثير الحالات إن لم نقل الأكثر - إلا في مثل ما ذكرناه سابقاً في التزاحم بين وجوب الخروج الفوري من الدار أو المزرعة المغصوبة والأداء الفوري للصلاة المكتوبة التي لا تسقط بحال في ضيق وقتها لو أمكن الخروج الفوري بمصاحبة الأداء الفوري للصلاة هذه أثناء هذا الخروج، حتى لو أدت صحة أداءها حالة المسير ولو بخصوص الواجبات وحدها، بل حتى بأداء ركعة منها داخل الوقت إن لم يسع الوقت وقضاء البقية في خارجه وخارج المكان المغصوب.

بل يخرج هذا من حالة مطلق جواز الجمع العرفي بين المغصوب والواجب المكتوب حتى إلى حال وجوبه مع ذلك الإمكان، لعموم وإطلاق قاعدة الميسور.

5 - ثمّ أيضاً من هذا النحو العرفي المقبول من الجمع إن صدق عليه ما يمكن تفسيره بالجمع بين صلاة الجمعة وفريضة الظهر يوم الجمعة أيضاً بعد ذلك في سعة وقتها في مورد التقية حتى في أوساطنا الفقهية نحن الإمامية ولو لكم أفواه المعترضين المحرجين إن كان المكلف المبتلى في المقام يرى اجتهاداً أو تقليداً أحد الأمرين دون الآخر كالظهر مثلاً ، فهو الداخل في هذا الباب أيضاً.

لأن أحد التكليفين معين عليه لا محالة من مثال تعدد القول في صلاة الجمعة من يومها بين الوجوب والحرمة وفي صلاة الظهر من يومها أيضاً بين وجوبها وبين حرمتها بالجمع عند الإحراج بين صلاة الجمعة وقت الزوال وبين صلاة الظهر بعد ذلك في سعة ،وقتها إذا كان ترك كليهما على إجماله لبعض الاعتبارات موقعاً في

ص: 327

شبهة التحريم.

6 - بل قد يقرب من معنى هذا الجمع ما عرف وبالأخص أكثر بين فقهاءنا المتأخرين من تساوي دليلي الجمعة والظهر في نظرهم، وهو ما أدى إلى القول الصريح بالوجوب التخييري بين كل منهما، وهو ما لا يمنع من أداء صلاة الجمعة عند الزوال ومن أداء ظهرها بعد ذلك في سعة وقتها ولو احتياطاً أو بالعكس، وهو نوع من الجمع الجائز على الأقل من الوجوب الثابت لأحدهما لا على التعيين.

7 - ويمكن أن يدخل في باب ما تبرء به الذمة من حالة الجمع كصلاة الجمعة المختلف فيها اجتهاداً أو تقليداً بين الوجوب ،وعدمه لا مع الحرمة التي مرّ ذكرها في المثال السابق، ليدخل مع الوجوب غير الحرمة من حالات موارد الاختلاف الأخرى، فيأتي المكلف بها وقت الزوال إما احتياطاً أو بناء على الوجوب إن كملت المقتضيات والشروط أو استحباباً جامعاً بينها وبين الظهر في سعة وقتها من ذلك اليوم كما مر حينما يختلف حكم الظهر كذلك بين وجوبها وعدمه دون حالة التحريم اجتهاداً أو تقليداً كصلاة الجمعة لإبراء تلك الذمة المشغولة إما بالاحتياط بهذا الجمع أو على نحو الوجوب أو الاستحباب الذي في ضمن إحدى صلاتيه ثابتة الوجوب.

8 - ومما يدخل في الباب أيضاً لو جاء العام للعمل به وتلاه الخاص فإنه يكون مخصصاً لذلك العام ولو من الجهة الظاهرية، لأن الجدية حاصلة حتى في الظاهرية کما هی في الواقعية، بلا أي داع لأن يكون ناسخاً تاماً.

إما لأنّ النسخ لا يكون قبل وقت العمل، أو لأولوية العمل على التخصيص دون النسخ، لبيان الحكم الظاهري الصوري التدرجي في أمور الأمة، لمصلحة اقتضت هذا السلوك، كما كان يفعله النبي صلی الله علیه و آله في بدء الدعوة إلى الإسلام ومعه أمير المؤمنين علیه السلام في اقتفاء آثاره أو عموم ما يقتضى ذلك، حتى لو بوشر بذلك العام ثم

ص: 328

جاء الخاص دون أن يأتي محذور قبح العقاب بلا بيان لأنَّ الخاص حتى لو جاء مع الواقعية فإنه يكون كاشفاً عن الواقعية لذلك العام حتى لو سبق أمره في الحالة الصورية.

9 - ومما يدخل في الباب أيضاً ما إذا كان أحد العامين من وجه وارداً في أمور التحديدات كالأوزان التي قد تتفاوت اليوم وإن ضبطت في روايات ما يقدرها في السابق ب- (المد والصاع) التي كان أمر ضبطها في السابق مبنياً على مثاقيل (الدينار والدرهم الشرعيين) لعلاقة ذلك بالزكوات وغلاتها والكفارات والفديات الإطعامية وأوزانها، وكذا أمور النقدين المسكوكين في أبواب الزكوات والأخماس وما يناط بهما أيضاً في أمور الديات، مما قد يخضع أمر ضبطه في القديم عند تفاوت الروايات إلى حالة الجمع العرفي وبما تبرء به الذمم إذا كان بين بعضها والبعض الآخر عموم وخصوص من وجه.

وهكذا المقادير بمثل أشبار تقدير الكر أو أوزانه في الشبهات المفهومية، أو ما يلزم منه نزح البئر من الدلاء عند وقوع ما يسببه فيه.

وهكذا المسافات المعينة لمثل ما يوجب القصر عند السفر لأمور الصَّلاة والصوم من الفراسخ التي لا تضبطها إلا رواياتها، والتي قد يتفاوت بعضها عن البعض الآخر، إن اعتبرت تلك المتفاوتات ولو إجمالاً من وزن معتبر واحد إذا أمكن الضبط الدقي الشرعي للتّكاليف الشرعية عن طريق الجمع العرفي بين العام والخاص من وجه منها.

فإن مثل هذا لو حصل في اليد يكون موجباً لقوة الظهور على وجه يلحق بالنص، إذا يكون ذلك العام أيضاً مما يقال أنه يأبى عن التحصيص . وقد نقل المضمون عن فوائد الأصول للشيخ محمد على الكاظمي قدس سره، كما ذكره السيد الخميني قدس سره في رسائله.

ص: 329

لكنا يمكن أن نقول: بأنَّ هذا كله لا يتنافى مع إمكان هذا الجمع بين روايات كل من الأوزان والمقادير والمسافات في جملته لو كان بين روايات كل فريق منها العموم والخصوص من وجه، بل هو صحيح في إنتاج ما يحمله كل فريق عند كل جمع منها وبما لا يختلف عن التشخيصات الموضوعية لبعض ما قد اختلف فيه مؤخراً في مثل هذه الأزمنة، حيث عثر على جملة من المسكوكات النقدية من الدراهم والدنانير المتفاوتة أيام الأئمة علیه السلام- في بعض المتاحف القديمة المعتنى بها في بلداننا الإسلامية بواسطة اليونسكو وأمثالها - بين الحجم المعمول به كمقياس لبعض ما مرت الإشارة إليه .

وبين ما هو أوفى وأبرء للذمة أكثر ولو احتياطاً كما في أمور ضبط غلات الزكاة ونصب الخمس والكفارات وما يناط بتقديرات الديات وأنواعها وغير ذلك مما مضى ذكره.

ولذلك ولكون خيره أمره تشخيص الموضوعات لم تنحصر بخصوص الفقهاء وأهل الإفتاء - بل قد يكون من أمناء ومتشرعي غيرهم ممن قد يفوق البعض منهم - لابد من الحاجة إلى ترتيب الأثر على هذا المثال التاسع في الأخذ به إجمالاً لا تفصيلا.

إلى غير هذا العدد من الأمثلة العائدة إلى حالات القول بصحة الجمع العرفي الدلالي، والذي منه معنى (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح) والذي يطول بما لا داعي له، وأمامنا بعض العناوين الأخيرة التي تحتوي على ما يسد حاجة الراغب لأمثال ذلك وغيره.

ص: 330

المبحث السابع عشر عود الكلام عن التعارض قبل الاستقرار مع العلاجات بما هو أدق

تقدم أنّ التعادل بين المتعارضين يكون بحسب الأدلة العامة داعياً بحكم العقل البشري إلى التّساقط فقط كما عليه المشهور، وهو الموافق للقاعدة الأولية أيضاً إذا كان هذا التعادل التعارضي بعد الاستقرار دون ما يكون قبله، لعدم معقولية الجمع بين المتعارضين إذا كان منهما مستدلاً عليه بخبر الثّقة يناقض عديله بما استدل هو عليه أيضاً في المناقضة.

وبهذا التعادل لا يسمح العقل الفطري بترجيح طرف على طرف كهذا التعارض من داخل ما بينها من التوازن التّعاكسي.

ولا أن يسمح كذلك في قواعده الأصولية مادامت هاتان الإمارتان المتعادلتان في التناقض بالخضوع إلى مثل أصل البراءة أو الاشتغال، لعدم إمكان القول بالتخلي عنهما ولو إجمالاً ما دامت الأدلة المتراكمة وافرة.

لأنَّ الإمارة أقوى من الأصل العملي، ولعدم إمكان الترجيح بدون مرجح في حالتي هذا التعادل لا على التعيين، ولعدم إمكان القول بالتخيير بين الاثنين من باب أولى خوف الوقوع في ورطة ارتكاب ما يحرم فعله لا على التعيين كذلك، لإحراز حكم الله الواحد بينها، دون الأكثر مما يناقضه حسب الفرض وعدم احتمال حكم ثالث حسب الفرض كذلك من هذا الداخل، مما قد يرتجى منه التفوق المتعارض وبلا أي داع كذلك للتورط بالحالة الاحتياطية التي قد توقع المكلف بما لا يحمد لما مر ذكره من فقدان الترجيح بدون مرجح.

لكن قد يستغرب في قبال هذا المعقول ونتائجه من استفاضة روايات المنقول - بل

ص: 331

تواترها ولو معنوياً - في القول بعدم التساقط الماضي.

إلا أن أعلام الفقه والأصول لا يدرى منهم من حيث المبدأ أن هذا الانفراج وحلّ هذا المعضل الوارد من آثار أهل البيت علیهم السلام كان قد جاء لنا حول هذا التعارض بما بعد استقراره أم بما قبله؟

وحقيقة الأمر أن المعقول الماضي ما قد بينا حدوده الواضحة.

وأما المنقول وآثاره فبما أن شرع الله تعالى وأصوله الثابتة وبتماس منها معه وفوق كل معقول مستبد به، فقد جاء منه - لكن ن خارج الإطار الماضي الداخلي وبالجعل الجديد - ما هو المهم والمفيد على ضوء تلك الروايات الواردة في المقام.

وبما أوضحه العلماء المدققون بأنه لابد أن يكون العلاج منها ناجحاً قبل حالة استقرار التعارض.

وأما فيما بعده فلن يضمن نجاحه إلا على نحو القاعدة الثانوية، وأن يكون تعارضه حاصلاً بين خبرين لا غير ذلك من التعارضات الأخرى مما سيتضح.

وقد ظهر من إحصائيات العلماء للروايات العلاجية أنها استفيد منها أمور ثلاثة :-

أولها التخيير وبه جاء المشهور، بل نقل الإجماع عليه.

وثانيها التّوقَّف، الذي يمكن أن يتوصل به صاحبه إلى الاحتياط العملي، وإن كان يأدي إلى ما لم يقل به أحد الخبرين المتعارضين، كالجمع بين القصر والتمام.

وثالها وجوب الأخذ بما طابق منها الاحتياط، فإن لم يكن فيهما ما يطابق الاحتياط تخير بينهما كالأمر الأول.

وقد حاولنا في الموضوع السابق أن نبسط هذه الأمور بإيضاحها بالأمثلة التقريبية الإبتدائية، على أن نعيد الكرة الآن بالبيان الأدق على أساس من الاستشهاد بما أدته أو تأديه الروايات المناسبة العلاجية، مع ما طرأها أو يطرأها بعض الإشكالات

ص: 332

والإجابة عليها أو على بعضها.

ولربما قد يتوهم عدم انحصار أمر هذا التعارض بخصوص ما بين الخبرين في الحاجة إلى علاجه بالروايات العلاجية لاحتمال التجاوز إلى غير ذلك.

فجوابه: أن الغير تابع لحالة الاستقرار الذي لابد أن يتساقط ونحو ذلك من الأجوبة الخارجية عن موضوعنا الآن.

وهذه الأمور التابعة المستثناة هي استثناء التعارض بين الفتويين وبين البينتين المتعارضتين، واليدين المتعارضتين والقراءتين المتعارضتين.

بل وكذا اختلاف النسخ في الروايات بمثل ما يدعو إلى التعارض في أمر تحديد المغرب الشرعي، كما في نسخة كتاب الوسائل حيث ورد في مكاتبة ابن وضاح عبارة (فوق الجبل) حيث قال: (كتبت إلى العبد الصالح علیه السلام يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعاً وتستر عنا الشمس وترتفع فوق الليل حمرة ويؤذن عندنا المؤذنون أفأصلي حينئذ وأفطر إن كنت صائماً؟ أو انتظر حتى يذهب الحمرة فوق الجبل؟ فكتب إلي أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك)(1).

أقول: في حين أن في كتاب التهذيب على ضبط الشيخ قدس سره فيها عبارة (فوق الجبل)(2).

ففي ما عدا هذا الأخير لأنه محل نظر حسب بيان مقرر أبحاث الآية العظمى الشاهرودي قدس سره المسمى ب- (نتائج الأفكار) للسيد المروج قدس سره عند تعداده للأمور التي لا تخضع لها الروايات العلاجية وهي المستثنيات الأربع وتوقف في الخامس والأخير لكونه محل نظر .

ص: 333


1- وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 10 ص 124.
2- تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 2 ص 259

أقول: حول هذا النظر لعله من جهة ما في نسخ الوسائل، حيث أنه لا يحمل إلا بيان حالة التقية، وإن كانت الرواية نطق بها بنفس الإمام الناطق نفس رواية التهذيب للحاجة إلى التقية، لأن فقه العامة يُبقي مجالاً للقرص الشمسي خلف الجبل، وإن كان لا يتناسب مع نقل التهذيب الموافق للفقه الإمامي مع إمكان تعدد السامع، ونقل التهذيب يحرز منه بدو الليل بذهاب الحمرة المشرقية.

نعم إن كان ما في نسخ الوسائل لم يرد منه إلا ذهاب القرص بالكامل خلف الجبل ولو بحسب ما قد يستظهر، وهو ما يدعو إلى معنى التقارب بين المصدرين وكما في التهذيب من حيث النتيجة، فلا تعارض إذن.

وعليه يكون هذا الخامس معلقا عن ترتيب علاجات الروايات ومنعها عنه في نفسه بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، بانتفاء التّعارض الخبري فيه وتوحد خبر واحد إمامي مع بعض المأيدات إذا كان ما في نسخ الوسائل يتناسب مع فقه العامة أيضاً و مع الأربعة السابقة عليه.

وأما عن بعد العلاجيّات عن الأربعة السابقة كالفتويين المتعارضتين فإن مرجعي كلِّ منهما إذا كان جامعاً لشرائط صحة تقليده وبالنحو المتساوي، وإن كانت فتواه المتعارضة مع الثابتة ناتجة عن الدليل العملي العقلي، كوجوب رجوع الجاهل إلى العالم في طبيعة معنى أصل التقليد والذي لم يحرز منه علمياً عملياً إلا لذلك المجتهد الجامع للشرائط.

والنقلي الذي في مثل كتاب الاحتجاج المشهود بحقه الحجية الذي في فيه تم التعريف بمن يستحق الرجوع إليه في الغيبة الكبرى من لسان الإمام علیه السلام وغيره.

لكن لما حصل ما حصل من التعارض في الفتويين مع تساوي كل من مرجعهما وحاجة المكلف المحتاج إلى تقليد أحدهما لا على التعيين ما كان عليه أكثر من اختيار أي من فتوى كل منهما وإن كانت معارضة للأخرى ، ولا دخل لتدخل العلاجيات

ص: 334

في أمر التعارض حتى في القاعدة الثانوية بترجيح أو طرح أحدهما والاستفادة من الآخر أو نحوهما.

وكالبينتين المتعارضتين للاحتجاج بالواحدة منهما لو لم تعارضها أخرى في قبالها، وإلا فلا حجية في المتعارضتين، سواء في المرافعات القضائية أو حكم الحاكم الشَّرعي في الأهلة أو تثبيت الديون عند كاتب العدل أو الوصايا ونحو ذلك، دون وجود أي مجال للعلاج عند التعارض.

وكأمارتي اليدين المتعارضتين في بعد العلاجات عن حالة تعارضهما، مما تسبب سقوط الإمارية حالة هذه الجهة لتبرر اللجوء إلى الأصلي العملي.

وكذا في بعد العلاجيّات عن أمر القراءتين المتعارضتين في أي مطلب قرآني إذا كان نفي اختلاف القراءات يرجع إلى قول الإمام علیه السلام على ما في الوسائل (اقروا كما يقرأ الناس) إن لم يكن مجملاً لاحتمال إرادة قراءة الكلمات الساقطة من القرآن بقرينة قوله علیه السلام في تلك الرواية ردعاً لقراءة تلك الكلمات (كف عن هذه القراءة، اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم، فإذا قام القائم قرأ كتاب الله على حده وأخرج المصحف الذي كتبه علي علیه السلام... إلخ)(1)

أقول: وعلى هذا فلا تعارض حتى يستفاد من التخيير أو شيء آخر.

وبعد تبين أنّ التّعارض المحتاج إلى العلاجيات منحصر بما بين خصوص الخبرين إذا تعارضا لا غير.

فقد حصر الشيخ النائيني قدس سره هذه الأمور بين حالتين، إما في زمن حضور الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف فتكون مدعاة للتوقف حتى يمثل المكلف بين يديه علیه السلام فيسأل منه عن حقيقة الأمر.

ص: 335


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 ص 633.

وإما في زمان الغيبة فتكون مدعاة للتخيير.

وسر ذلك عنده على ما أبداه المترجمون لكلامه أنه بعد جمعه الأخبار العلاجية وتبين أنَّ النسبة بين ما يدل بالنظرة المبدأية منها على كل من التوقف والتخيير هو التباين حالة إطلاقها.

إلا أنَّ ما دلّ على التوقف في زمان الحضور - لأخصيته في ذلك الإطلاق، مما دل على التخيير مطلقاً - يخصص إطلاق التخيير فتنقلب النسبة التباينية بين إطلاقات التخيير والتوقف إلى العموم والخصوص.

لما عرف مسبقاً من أخصيَّة ما دل على التخيير المطلق بعد تخصيصه بما دلّ على التوقف في زمان الحضور، فيكون المتحصل من هذا الجمع عنده قدس سره وجوب التوقف في حالة الحضور.

ولكن السيد الشاهر ودي قدس سره ناقش في هذه التخريجة بعد الجمع الذي ذكره بقوله بعدم تما ميته لضرورة أن ما دلّ على التوقف في زمان الحضور وإن كان أخص مطلقاً مما دل على التخيير مطلقاً في زمن الغيبة، لكنه لا يصلح للتخصص، لا بتلائه بالمعارض، وهو ما دل على التخيير في زمان الحضور والخاص المبتلى بالمعارض لا يكون صالحاً للتخصيص.

فعلى هذا يبقى التّعارض على حاله فكل من الإطلاقين يعارض الآخر، كما يعارض كل من المقيدين كذلك، فتسقط الأخبار العلاجية جميعاً عن الاعتبار والمفروض أنَّ القاعدة الأولية في تعارض الخبرين هو تساقطها على الطريقة المألوفة.

وعلى هذا فالأخبار المتعارضة ساقطة عن الاعتبار هذا من جهة.

وهناك جهة أخرى للردّ منه قدس سره وهو أنَّ أخبار الترجيح أيضاً لا تخلو في نفسها عن تعارض آخر، إذ مقتضى بعضها الترجيح بالأحدثية وإن كان الصادر أخيراً موافقاً للعامة وبعضها الآخر كون المرجح فيه مخالفة العامة مطلقاً، سواء كان أحدث

ص: 336

أم لا؟

فإذا كان الأحدث موافقاً للعامة يقع التعارض بين ما يدل على الترجيح بالأحدثية وبين ما يدل على الترجيح بمخالفة العامة تعارض العموم من وجه.

وكذا يقع التعارض بين بعض الأخبار العلاجية من حيث تقديم بعض المرجحات على بعض وتأخيره كالمقبولة والمرفوعة بالنسبة إلى الشهرة، فإنها في المقبولة مأخرة عن صفات الراوي وفي المرفوعة بالعكس.

وكذا يقع التعارض بين بعض تلك الأخبار من حيث عدد المرجحات فإنَّ في بعضها لم يذكر إلا مخالفة العامة، وفي بعضها أضيف إليها موافقة الكتاب.

وبالجملة فنفس أخبار الترجيح متعارضة ولابد من علاجه.

أقول: وعليه فلا مجال للأخذ بكل ما تفضل به الشيخ قدس سره بعد المناقشات المتعدّدة، سواء في العلاجية أو الترجيحية، خصوصاً إذا ابتعد بعض حواري الأئمة علیهم السلام عن أئمتهم مدة طويلة في زمانهم.

ولكن بعد رفع التّعارض والجمع بينهما تصل النوبة إلى أهمية النظر من جديد بملاحظة أخبار التّوقف والتخيير، وأنه هل يمكن تقييدهما بأخبار الترجيح أم لا؟

وهو قدس سره يفضل لأجله تقديم الكلام عن أخبار الترجيح.

ولكن النهج على سيرة القوم من المدونين بالابتداء عن الكلام عن أخبار التوقف والتخيير، ثم الانتهاء عن أخبار الترجيح لعلنا نجد بعد ذلك ضالتنا من هذه المناقشات في المقام بما هو أسد وأفضل.

ويرجح الكلام عن أخبار الوقف والتخيير تلك.

وقد اهتم بها أكثر من مدوّن ومدوّن، وذكروا مناقشاتهم ومنها التي لا تتناسب وقرار الشيخ النائيني قدس سره، وإن وصلوا معه إلى التوقف والتخيير بالنتيجة كالشيخ المظفر قدس سره من المتأخرين في أصوله.

ص: 337

وأول ما تعارف ذكره من تلك الروايات في البداية استعراضاً وخوضاً في المناقشة وبأكثر من مصدر من كتب التدوين الأصولي هو:-

1 - ما رواه الحسن بن الجهم عن مولانا الرضا علیه السلام في حديث قال:

(قلت للرضا علیه السلام تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة.

قال: ما جاءك عنا فقسه على كتاب الله عز وجل وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منا وإن لم يشبههما فليس منا.

قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين، فلا نعلم أيهما الحق؟

قال علیه السلام: فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت)(1)

أقول: وهو ما مقتضاه في ظاهره الواضح التخيير في الأخذ بأيهما شاء، ومن أكثر من مصادر العرض والاستفادة من المناقشة حال الإطلاق وهو ما يناقض قرار النائيني قدس سره في مبناه.

ولكن لو راجعنا بداية الرواية فهي مقيدة بالعرض على الكتاب والسنة، فهو مما يدل على أن التخيير المذكور إنما هو بعد فقدان المرجح ولو في الجملة، وهو مما قد يأدي إلى حالة من الوقف وإن لم يكن بالنحو المطلق.

لكن هذا الموقف لا يدرى أنه كان كما يريده الشيخ قدس سره؟ أم كان هناك حالة عدم فرق بين حضور الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف وبين غيبته؟

وعند دراسة هذه الرواية من كافة جوانبها لن يتبين منها غير العموم والإطلاق بما في حالة الحضور وحالة الغيبة على حد سواء.

بل إن جميع تلك المرويات الشريفة أصبحت خاضعة لما أبتلي به المؤمنون لخصوص ما لابد أن يستفاد منها عملياً بما بعد غيبة الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف توقيفاً وتخييرا، وبما لا

ص: 338


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 122 ح 40.

داعي لأن يعطى الشيخ قدس سره حقه في شيء من ذلك، على فرض ادعاءه قدس سره ولو جدلاً أنَّ هناك بعض روايات يُراد منها الوقف عند الحضور، بسبب قرائن مصاحبة لها، وعند الغيبة تكون ساقطة عن الاعتبار.

وهذا ما لم يقل به محصل متتبع فكيف بمقامه قدس سره، وقد أبدى السيد الشاهرودي قدس سره في مناقشته لما قال بما به الكفاية.

2 - وعن على بن مهزيار أنه قال قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد إلى أبي الحسن علیه السلام- وبنقل مصدر آخر بعبارة مكاتبة عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن علیه السلام- قال:- (اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله علیه السلام في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم "صلها في المحمل" وروى بعضهم "لا تصلها إلا على الأرض"

[فَأَعْلِمْنِی کَیْفَ تَصْنَعُ أَنْتَ لِأَقْتَدِیَ بِکَ فِی ذَلِکَ]

فوقع علیه السلام"مُوَسَّعٌ عَلَيْكَ بِأَيَّةٍ عَمِلْتَ")(1).

أقول: هذه الرواية أيضاً قد استظهروا منها القول بالتخيير المطلق، وإن كانت قابلة لإحتمال كونها قابلة لتقييدها ببعض المقيدات.

ولذا كانت خاضعة لأن يستفصل عن حالها الراوي من الإمام علیه السلام، لعدم حمل ذلك على معنى التوقف المراد الاهتمام به حال الحضور.

ولذا جاء جواب الإمام علیه السلام بما يرفع التوقف.

بل وكذلك التخيير المدعى في المقام فإنه لم يكن معناه - كما بين الخبرين المتعارضين - ليكذب أحدهما الآخر، إذا أريدت استفادة التخيير مما بينهما بما تحت القاعدة الثانوية.

ص: 339


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 122، 123 ح 44، وبين القوسين في داخل الرواية حسب كتاب تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 3 ص 228.

بل إن صحة التخيير بصلاة ركعتي الفجر في السفر لم تختلف بين أن تكون في المحمل أو على الأرض ما دام منها خصوص النافلة دون الفريضة.

دون التخيير الآخر، بناءً على صحة التسامح في أدلة السنن في حالات الأداء للنوافل كذلك.

3 - ورواية الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله علیه السلام قال (إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة، فموسع عليك حتى ترى القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف فترد عليه)(1).

أقول: ويمكن أن يستفاد من هذا الخبر أيضاً التخيير بحسب الظاهر من قرينة تعبير الإمام علیه السلام ( فموسع عليك) وبالنحو المطلق في زمان التمكن من إزالة الشبهة بواسطة هذه القرينة وبعد رؤية الإمام علیه السلام ليس له العمل حتى يسأل عن حال الحديث من حيث الصدق والكذب.

ولذا لابد أن يقيد هذا الإطلاق بالروايات الدالة على الترجيح الآتية.

مع احتمال أن لا يراد من هذا النوع من التخيير ما كان دائراً بين المتعارضين، لتمام حجية المأخوذ من الثّقتين من الأصحاب.

وبهذا يخرج هذا الخبر والرواية عما نحن بصدد ما نحتاج إليه في المقام.

4 - وجواب مكاتبة محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى مولانا صاحب الزمان عجل اله تعالی فرجه الشریف (... إلى أن قال علیه السلام في الجواب عن ذلك حديثان، أما أحدهما فإذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير.

وأما الآخر - أي الحديث - فإنه روي أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير، وكذلك التشهد الأول يجري

ص: 340


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 122 ح 41.

هذا المجرى وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صواباً)(1)

أقول: بعد هذا بمقالة بعض المناقشين من أهل الدقة العلمية والإنصاف مع شيء من التصرف المأيد لهم بأن الظاهر من استعراض هذا الوارد للمقام كونه أجنبياً عن أخبار الباب لوجود الجمع العرفي بينهما، وهو حمل المطلق - وهو ما دل على التكبير - من حالة إلى أخرى على المقيد، وهو عدم التكبير إذا قام بعد الجلوس بعد رفع الرأس عن السجدة الثانية.

ويضاف إلى هذا بأن هذا المنقول وإن استظهر منه بعضهم التخيير المطلق وأنه يحمل على المقيدات ولكن للمناقشة فيه مجال ولو من جهة أخرى، كمثل أنَّه من المحتمل قريباً أن يكون المراد هو التخيير في التكبير، لبيان عدم وجوبه، لا التخيير بين المتعارضين، ويشهد لذلك التعبير بقوله عجل الله تعالی فرجه الشریف (كان صواباً).

ثم لا معنى لجواب الإمام علیه السلام عن السؤال عن الحكم الواقعي بذكر روايتين متعارضتين كهذا المنقول ثم العلاج بينهم حولهما ، إلا لبيان خطأ الروايتين، وأن الحكم الواقعي على خلافهما حينما كان التعارض مستقراً.

5- وخبر سماعة عن أبي عبد الله علیه السلام قال (سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه، والآخر ينهاه عنه كيف يصنع ؟ قال علیه السلام: يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتّى يلقاه)(2).

أقول: إنَّ هذه الرواية وإن كانت ليست ببعيدة عن السابقة لكونها في صحة من السند إلا أنها يظهر منها عبارتان.

أولاهما كلمة (يرجئه) الدالة على التوقف إلى حين لقاء الإمام الأصل علیه السلام أو

ص: 341


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 122 ح 39.
2- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 108 ح 5.

نائبه الخاص أو العام في الغيبة الكبرى حسب المستفاد من الأدلة المستفادة من إمام هذه الرواية وغيرها عنه هل أنه كان من نوع الإمام المصطلح عند الإمامية علیه السلام ام أنه داخل في المعنى اللغوي.

وثانيهما: كلمة (فهو في سعة) الدالة على التخيير بسبب التردد الحاصل من الاختلاف في بداية الرواية في الفتوى المطلوبة إلى نهاية ارتفاع الشبهة بالفوز بلقاء الإمام الأصل علیه السلام أو من ينوب عنه خصوصاً أو عموماً .

وظاهر هذا الأمر في عدم الفرق بين طول الفترة وبين عدمها، دون أن يكون التخيير بين الروايتين المتعارضتين لما مر ، وبعد عدم إتضاح كون التخيير بين الروايتين المتعارضتين مما يبرز منه معنى كون هذه الرواية أو غيرها من روايات التوقف دون خصوص حالة حضور الإمام علیه السلام أو غيبته.

6 - ورواية أحمد بن الحسن الميثمي المروية في العيون عن مولانا الرضا علیه السلام الموصوفة بالصحة (1)، مضافاً إلى ذكرها في كتاب العيون الذي هو من الكتب الموصوفة بالاعتبار، حسب تشخيصات السيد الشاهرودي علیه السلام نقلاً عن تقرير نتائج الأفكار، وغيره أيضاً.

وللفائدة ننقل نص الرواية وإن كانت طويلة فعن الشيخ الصدوق قدس سره عن أبيه ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد جميعاً، بن الوليد جميعاً، عن سعد بن عبد الله، عبد الله المسمعي، عن أحمد بن الحسن الميثمي أنه سأل الرضا علیه السلام يوماً وقد اجتمع

ص: 342


1- هي ضعيفة في أساسها لعدم وثاقة محمد بن عبد الله المسمعي كما قال الشيخ الصدوق نفسه قدس سره في العيون بعد نقل هذه الرواية (كان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضی الله عنه سيء الرأي في محمد بن عبد الله المسمعي راوي هذا الحديث) ثم أعقب وقال (وإنما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لأنه كان في كتاب الرحمة، وقد قرأته عليه فلم ينكره ورواه لي) وكتاب الرحمة هو لسعد بن عبد الله.

عنده قوم من أصحابه، وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله صلی الله علیه و آله في الشيء الواحد فقال علیه السلام: (إن الله حرم حراماً، وأحل حلالاً، وفرض فرائض فما جاء في تحليل ما حرم الله، أو في تحريم ما أحل الله أو دفع فريضة في كتاب الله رسمها بين قائم بلا ناسخ نسخ ذلك، فذلك ما لا الأخذ ،به لأن رسول الله صلی الله علیه و اله لم يكن ليحرم ما أحل الله، ولا ليحلل ما حرم الله ولا ليغير فرائض الله وأحكامه كان في ذلك كله متبعاً مسلّماً مؤديا عن الله، وذلك قول الله: «إن أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ»(1) فكان علیه السلام متبعاً لله، مؤدياً عن الله ما أمره به من تبليغ الرسالة.

قلت: فإنه يرد عنكم الحديث في الشيء عن رسول الله صلی الله علیه و آله مما ليس في الكتاب، وهو في السنة، ثم يرد خلافه.

فقال: كذلك قد نهى رسول الله صلی الله علیه و آله عن أشياء نهي حرام فوافق في ذلك نهيه نهي الله، وأمر بأشياء فصار ذلك الأمر واجباً لازماً كعدل فرائض الله، فوافق في ذلك أمره أمر الله فما جاء في النهي عن رسول الله صلی الله علیه و آله نهي حرام ثم جاء خلافه لم يسغ استعمال ذلك، وكذلك فيما أمر به، لأنا لا نرخص فيما لم يرخص فيه رسول الله صلی الله علیه و آله ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله صلی الله علیه و آله إلا لعلة خوف ضرورة.

فأما أن نستحل ما حرم رسول الله صلی الله علیه و آله أو نحرم ما استحل رسول الله صلی الله علیه و آله فلا يكون ذلك أبداً، لأنا تابعون لرسول الله صلی الله علیه و آله مسلمون ، له كما كان رسول الله صلی الله علیه و آله تابعاً لأمر ربه، مسلّماً له، وقال الله عز وجل: «وَ مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا»(2)

ص: 343


1- سورة الأنعام / آية 50.
2- سورة الحشر / آية 7.

وإنَّ الله نهى عن أشياء ليس نهي حرام، بل إعافة وكراهة، وأمر بأشياء ليس بأمر فرض ولا واجب بل أمر فضل ورجحان في الدِّين، ثم رخص في ذلك للمعلول وغير المعلول، فما كان عن رسول الله صلی الله علیه و اله نهي إعافة، أو أمر فضل فذلك الذي يسع استعمال الرخصة فيه.

إذا ورد عليكم عنا الخبر فيه باتفاق يرويه من يرويه في النهي ولا ينكره، وكان الخبران صحيحين معروفين باتفاق الناقلة فيهما، يجب الأخذ بأحدهما أو بهما جميعاً أو بأيهما شئت وأحببت موسع ذلك لك من باب التسليم الرسول الله صلی الله علیه و آله والرد إليه وإلينا، وكان تارك ذلك من باب العناد والإنكار وترك التسليم لرسول الله صلی الله علیه و آله مشركاً بالله العظيم، فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً فاتبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فأعرضوه على سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما كان في السنة موجوداً منهياً عنه نهي حرام، ومأموراً به عن رسول الله صلی الله علیه و آله أمر إلزام فاتبعوا ما وافق نهي رسول الله صلی الله علیه و آله، وأمره ، وما كان في السنة نهي إعافة أو كراهة.

ثم كان الخبر الأخير خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول الله صلی الله علیه و آله كرهه ولم يحرمه، فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً، وبأيهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والإتباع والرد إلى رسول الله صلی الله علیه و آله، وما لم تجدوه في شيء من هذا الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم وعليكم بالكف والتثبت والوقوف، وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا)(1).

ثم قال السيد الشاهرودي علیه السلام من نفس المصدر (وتلك الرواية تدل على

ص: 344


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 113 - 115 ح 21 ، عن عيون أخبار الرضا علیه السلام- الشيخ الصدوق - ج 1 ص 22.

التوقف والفحص في زمان التمكن من إزالة الشبهة إذا لم يمكن الجمع بين المتعارضين بالوجوه المذكورة في تلك الرواية.

كما قال الشيخ المظفر قدس سره بعد نقله الرواية في أصوله:-

(الظاهر من هذه الرواية هو التخيير بين المتعارضين إلا أن بملاحظة صدرها وذيلها يمكن أن يستظهر منها إرادة التخيير في العمل بالنسبة إلى ما أخبر عن حكمه أنَّه على نحو الكراهة ولذا أنّها فيما يتعلق بالإخبار عن الحكم الإلزامي صرحت بلزوم العرض على الكتاب والسنة، لا سيما وقد أعقب تلك الفقرة التي نقلناها قوله علیه السلام: "وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا").

ثم قال الشيخ قدس سره (وهذه الفقرات صريحة في وجوب التوقف والتريث وعليه فالأجدر بهذه الرواية أن تجعل من أدلة التوقف لا التخيير)(1)

أقول: إذا كان اعتبار لهذه الرواية كما تفضل به السيد قدس سره- وكان التعارض فيها مستقراً لا علاج له بأي حالة من حالات الجمع بين المتعارضين فلابد من التوقف في أمرها حتى ملاقاة من تزاح بحضوره الشبهة.

وعليه فإن انحصرت القضية بالإمام علیه السلام فالأمر مرتبط بخصوص حالة الحضور وهو ممكن، بل متحقق بحالة حضوره ووارد أيضاً إذا كانت الإزاحة بسرعة، وهي تناسب ما قاله الشيخ النائيني قدس سره.

أما إذا تخضع القضية حتى إلى المدة الطويلة كما فيما لو وردتنا هذه الرواية التوجيهية في أزمنتا هذه للغائب المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف وبني الحصر به فهو مما قد يسبب تعطيل

ص: 345


1- أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 3 ص 243.

بعض الأحكام أو كثيرها إلى حين ظهوره علیه السلام، وهو مناف لما عرفت به الشريعة المقدسة من مباني التسهيل والتيسير و ونفي أمور العسر والحرج حتى قالوا (ما خفي على فقيه طريق).

كيف وهناك روايات جليلة تثبت قوة اعتماد الأئمة علیهم السلام على رهط من خيار حواريهم ليتبنوا حل مشاكل الرعيّة في حال الغيبة والحضور حتى دلّت الأدلة الكاملة عقلاً ونقلاً على تمام إنابة الفقهاء قدس سره في الغيبة الكبرى بعد الإنابة الخاصة للأربعة الماضين إلى حد أن لا يبقى مجال للشك في كون وجوب التوقف في هذه الرواية الشريفة منحصراً في خصوص حضور الإمام علیه السلام للالتقاء به فقط، فضلاً عن إمكان انتظاره علیه السلام بعد غيبته في هذه المدة الطويلة.

وبهذا لابد أن يعم ويطلق هذا التوقف بما كان حين الحضور وحين الغيبة وبدون حصر بخصوص الإمام علیه السلام أو نائبه الخاص أو العام الجامع للشرائط.

وبهذا لن تكون هذه الرواية مما ينتفع به الشيخ النائيني قدس سره بالنحو التفصيلي.

كما أقول: أن عبارة الشيخ المظفر قدس سره الأخيرة في نفي معنى التخيير في الرواية الشريفة وهو ما يخالف ما استظهره حولها في البداية والذي قد يكون منه ما كان حتى بمعنى الجمع المستفاد من لفظ أواخر الرواية وهو (الَّذِي يَسَعُ الْأَخْذُ بِهِمَا جَمِيعاً) من التي تحمل معنى الكراهية غير المانعة عن معنى الجمع فضلاً عن معنى التخيير العملي.

وعليه فلم يبق إلا صحة ما تفضل به من المناقشة لإخراج القول بالتخيير عن هذه الرواية بخصوص المعنى الإلزامي لا غير.

بل إن التوقف والتريث الذي استفاده لم يرتبط بخصوص أيام الحضور أو الغيبة هذه.

وإلا كيف أبتلي المؤمنون في هذه الأزمنة بمثل هذه الروايات مما قد مضى نظير

ص: 346

هذا الأمر فيما سبق من المناقشات.

7 - ومرفوعة زرارة المروية عن غوالي اللئالي قال:-

(سألت الباقر علیه السلام فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟

فقال: يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشَّاذ النادر.

فقلت: يا سيدي إنهما معاً مشهوران مرويان مأثوران عنكم.

فقال علیه السلام: خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك.

فقلت: إنّهما معاً عدلان مرضيّان موثقان.

فقال: انظر ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه، وخذ بما خالفهم فإنَّ الحق فيما خالفهم.

قلت: ربما كانا معاً موافقين لهما أو مخالفين فكيف أصنع؟

فقال: إذا فخذ فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط.

فقلت: إنّهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟

فقال: إذا فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر)(1)

قال الشيخ قدس سره بعد عرض هذه الفقرة الأخيرة :-

(ولا شك في ظهور هذه الفقرة منها في وجوب التخيير بين المتعارضين في أنه بعد فرض التعادل لأنها جاءت بعد ذكر المرجحات وفرض انعدامها، ولكن الشأن في صحة ،سندها، وسيأتي التعرض له - حسب مقصوده في أصوله - وهي من أهم أخبار الباب من جهة مضمونها).

وأقول: إن صحت هذه الرواية من حيث المضمون مع بعض المأيدات الأخرى،

ص: 347


1- غوالي اللئالي - ابن أبي جمهور الأحسائي - ج 4 ص 133.

وكما اعتبر بعض الأعلام المهمين مثلها على قاعدة قولهم (كثيراً ما صححنا الأسانيد بالمتون)(1)

فلابد من وجوب التخيير بين المتعارضين إذا تعادلا وعلى نحو من القاعدة الثانوية وكما سبق من نظائر الباب، إلا أنه لم يثبت كون هذا التخيير هو في خصوص الغيبة الكبرى هذه كما جاء في مورد مناقشة السيد الشاهرودي قدس سره للشيخ النائيني قدس سره.

9 - وما في مقبولة عمر بن حنظلة قال:

سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى أن قال: فإن كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلف فيهما حكماً وكلاهما اختلفا في حديثكم؟

فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.

قال: فقلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟

قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشَّاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه، إلى أن قال:-

فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟

قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة.

ص: 348


1- الفردوس الأعلى ص 51.

قلت: جعلت فداك إن رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ؟

فقال: ما خالف العامة ففيه الرشاد، فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا؟

قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر.

قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا؟

قال: إذا كان ذلك فأرجئه حتى تلقى إمامك، فإنَّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات)(1)

أقول: وسيأتي بيان هذه المقبولة في بحث المرجحات الأخيرة لعنوان البحث الكلّي وهو (التعادل والترجيح أو تعارض الأدلة).

ومحل الشاهد فيها هنا هو في آخرها (إذا كان ذلك - أي فقدت المرجحات - فأرجئه حتى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات).

قال الشيخ المظفر قدس سره في أصوله (وهذه ظاهرة في وجوب التوقف عند التعادل)(2)

و أقول: إنَّ هذا الاستظهار منه قدس سره لوجوب التوقف عند التعادل الملزم لا غبار عليه إذا تمت ،عوامله ، لكن لا على أن يحدد بالتعليل المذكور في الفقرة الأخيرة، وهي ما مضى من عبارة (فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات).

فإن معنى الشُّبهة هي التي قد تشبه الحق ولكن ليست منه، إلا أن المتلبس بها قد

ص: 349


1- وسائل الشيعة (الإسلامية) - الحر العاملي - ج 18 ص 75، 76.
2- أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 3 ص 244.

يصل إلى الحق إذا صحح مساره.

ومعنى عموم وإطلاق الخبر الذي كثيراً ما لم يثبت حرمة تركه، وإن بعض الاقتحام في مداخل المهلكات وإن كان فيه شيء من الخطورة لم يحرز منه إيقاع النَّفس دوماً في التهلكة، حيث أن من مجموع ما أوضحناه من فقرات هذا التعليل لم يثبت منه العليَّة التّامة الموجبة لما استظهره من وجوب التوقف من هذا التعليل غير التام.

وإنما المستفاد من خصوص هذا التعليل ما هو إلا للتحفظ الاحتياطي لا غير.

10 - وخبر سماعة عن أبي عبد الله قدس سره :قلت يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالعمل ،به والآخر ينهانا عن العمل به؟

قال: (لا تعمل بواحد منهما حتى تأتي صاحبك، فتسأل عنه).

قلت: لابد أن يعمل بأحدهما.

قال: (اعمل بما فيه خلاف العامة)(1)

أقول: بعد التأمل في العبارة يعطي هذا معنى أنها لا تنافي أدلّة تقديم الترجيح، ولذا لما قال السائل - لابد أن يعمل بأحدهما - رجّح له الإمام علیه السلام أن يعمل بما فيه خلاف العام.

بينما الظاهر هو الأبرز لو لم يبد السائل سؤاله بما يحرج بعمل أحد الأمرين، وهو أنَّ المراد منها ترك العمل رأسا انتظاراً لملاقاة الإمام علیه السلام، لا التوقف والعمل بالاحتياط ، وصاحبك وهو الأعم من الإمام أو نائبه المخول.

11 - ومرسلة صاحب غوالي اللئالي - على ما نقل عنه - فإنه بعد روايته المرفوعة المتقدمة – وهي مرفوعة زرارة المروية عن غوالي اللئالي - التي جعلناها السابعة

ص: 350


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 122 ح 42.

قال:-

وفيه رواية أنه قال علیه السلام (إِذَنْ فَأَرْجِهْ حَتَّى تَلْقَى إِمَامَكَ فَتَسْأَلَهُ)(1).

أقول: هذه الرواية وإن اعتبرت كسابقتها في الضعف إلا أنها مقواة عند بعض الأكابر كصاحب الغوالي كالرواية السابعة لقوتها.

وإن كان بعض المرسلات لا يمكن الاعتماد عليها إذا كانت هذه المرسلة منها لفظاً أو من المضمون الذي يمكن الاستفادة منه وبما تتلاءم منه بعض المضامين الموحدة أو على الأقل من التي تبعد عن أن تتكاذب إذا كان بعض رواياتها يقوي البعض الآخر من هذا الضعف من روايات العلاج وغيره، وسواء روايات المعصوم علیهم السلام المنقولة نصاً أو المنقولة بالمعنى المعتبر وإلى حد ما لم يقبل.

وقد أشرنا في مناقشتنا الماضية بعد استعراض مرفوعة زرارة السابعة ما ينفع في المقامين.

وثم على أساس الاعتزاز بهذه القطعة من الرواية - ولو في الجملة وكون دلالتها قريبة من التوقف الذي يأدي إلى الإرجاء والتأجيل حتى ملاقاة الإمام علیه السلام، لإيصال السائل إلى بغيته المنشودة أو ما يعوض عنها -

لا يمكننا البت بكون هذا الوقف أو الإرجاء لخصوص زمان الأئمة الأحد عشر علیهم السلام، بل يشمل زمان الثاني عشر علیه السلام في غيبته الصغرى وما يتبعه من الغيبة الكبرى حتى الأزمنة التي خول فيها الفقهاء الجامعون للشرائط، بما يمكن أن تحل عن طريقهم بعض المشاكل حال القدرة على حلها، لأن الوكالة كالأصالة في أكثر القضايا الممكنة و (لا يترك الميسور بالمعسور) ، وبالأخص في أوائل أيام ما بعد الغيبة الكبرى.

ص: 351


1- غوالي اللئالي - ابن أبي جمهور الأحسائي - ج 4 ص 133.

12- وقال الشيخ الكلينيقدس سره في كتابه الكافي بعد نفله الرواية الخامسة الماضية عن سماعة فال:-

وفي رواية أخرى (بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك)(1)

أقول: بأنّ الظّاهر من نقله أن هذه رواية مختلفة عن سابقتها، لأن ضمير الأولى للغائب وضمير الثانية للمخاطب.

ولكن الأولى وإن استظهروا منها القول بالتخيير إلا أنَّ المستفاد بالنتيجة القول بالتوقف كما في الرواية الحادية عشر.

وأما هذه الثانية فمأداها القول بالتخيير فقط إذا تساوى مفاد الخبر ين في تناقضهما بعد حملهما على المقيدات.

إلا أنه لا يمكن المساعدة على ذلك إن صح ما ذكره بعض العلماء قدس سره بأن هذه الفقرة من مستنبطات الشيخ الكليني قدس سره إلا أن بعض ما نقله أعاظم القدامى بعد تجريدهم الأسانيد من الروايات قد يظن منها أنها فتاوى منهم، وهي ليست كذلك، فيبقى أثر كون هذه الفقرة على حاله من الروايات محتملاً.

وعلى كل فهذه مجموعة روايات افترضناها على أنفسنا على علاتها، مما قد يربك ذهن البعض من بعض فقراتها للتداول في أمرها واخترناها من أكثر من مصدر ومصدر أصولي كعلاجيّات قبل طرح المرجحات لما بين كل خبرين تعارضا متعادلين يكذب أحدهما الآخر إن تم إحكام السيطرة من هذه العلاجيات بدون أي ارتباك من ذهن أحد بسبب صحة أسانيدها واعتبار العمل العلاجي بمداليلها على كل خبر ين تعارضا على أمور انطباقها على ما سبق ذكره من حالة التخيير وحالة الوقف وحالة الاحتياط التي لو لم يلتزم به ليتحول أمره إلى التخيير أيضاً إن لم

ص: 352


1- لكافي - الشيخ الكليني - ج 1 ص 66

نجعله واجبا.

وخلاصة ما مضى ذكره عن العلاجيات الاثنى عشر والمناقشات التي أوردناها أنه لا وجود فيها لما يساعد على التخيير المطلق إلا بما يصل إلى التوقف من الإتخاذات، لكن لم تنحصر في خصوص زمن الأئمة علیهم السلام، بل في زمن الغيبتين كما مر تفصيله.

ولذا فلابد من التحول بعد هذا إلى روايات الترجيح مع عدم مخالفة ثوابت الشريعة.

المبحث الثامن عشر: أخبار الترجيح في أمور

الأمر الأوّل: مورد الحاجة إلى المرجحات في الخبرين المتعارضين

لما كان التعارض المستقر فيما سبق ذكره لا يمكن أن تجتمع في حالاته حجتان متعارضتان في أي تعادل كامل للا بدية وحدة حكم الله تعالى فيها وانطباقها على خصوص المصداق المسمّى بالحجة واقعاً أو ظاهراً كلاً بحسب وضعه واندراج المصداق المعارض له كذلك في مستوى حضيض الباطل العاطل لا غير.

فلابد إذن من أن يكون محل الحاجة واصلاً إلى إمكان الاستفادة من المرجحات وأخبارها المعتمدة منحصراً في خصوص الخبرين المتعارضين بين ما يصلح أن يكون كل منهما في مثل نسبة معينة متفاوتة من الحجية لو خليت ووضعها العلمي الاصطلاحي بينهما وبدون أي تساو محير ما بينهما، فضلاً عن مقام الإمام علیه السلام عند رجوع الأمرين إليه في عهده بل بتفاوت الغالب عن المغلوب، سواء كان الأول منهما أو الثاني بدون تعيين حالة الانكشاف ليكون مورد الحاجة إلى تفعيل أخبار

ص: 353

الترجيح متطابقاً بحق عند تحقق تلك الاستفادة.

الأمر الثاني: العمدة من تلك الأخبار في هذا المورد

وبما أنّ العمدة في هذا المقام بعد كتاب الله تعالى من آيات الأحكام الأصولية والقواعد الفقهية والفرعيات منهما - بسبب التصريح بوجوب الرجوع إليها في بداية كل حيره إن أمكن تحصيل الضالة ولو في الجملة منها لإجماله -

هو الأخبار ، ومن أهمها - إن لم نطلق عليها أنها الأهم - مقبولة - عمر بن حنظلة العجلي البكري الكوفي.

لكن ناقش الشيخ الآخوند قدس سره في كفايته في أساسيتها، لصالح هذا المورد، حيث جعلها أجنبية عن أخبار الترجيح بين الخبرين المتعارضين كما ينبغي مما ذكرنا، لكونها في نظره واردة في ترجيح الحكمين المتعارضين دون أصل الخبرين فلا وجه لعدها من روايات الخبرين المتعارضين.

لكن أورد عليه بأن هذه الرواية وإن وردت في الحكمين المتعارضين داخل الخبر والمجيب هو الإمام علیه السلام

لكنها تدل بالملازمة على الترجيح في الخبرين أيضاً، حيث أن المرجحية فرع الحجية، إذ لا معنى للترجيح بغير الحجة، فإذا كانت شهرة الرواية مثلاً مرجحة لأحد الحكمين المستند إلى الخبر المشهور، فهي واصلة بالملازمة إلى الخبرين لا محالة.

أقول: وهو الحق و من أهله وفي محله مع مقام الشيخ قدس سره العالي كذلك من حيثياته الخاصة به.

ونضيف إليه كما أضاف المضيفون أن هذه المقبولة - وإن لم تترك وحدها - قد قبلها العلماء في سندها وبما أفادته كما مر في الإيراد لأن راويها صفوان بن يحيى الذي هو من أصحاب الإجماع الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم

ص: 354

كما رواها المشايخ الثلاثة قدس سره في كتبهم ، وقول الصادق علیه السلام فيما ورد في الأوقات عن يونس بن يزيد بن خليفة قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام (أن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت، فقال أبو عبد الله علیه السلام: إذا لا يكذب علينا)(1) إلى غير ذلك.

وثم أقول: وأما الروايات الأخرى المشابهة لها وإن نوقش في بعضها إذا كانت متفقة معها مضموناً، فضلاً عن مقارنة ألفاظها بألفاظ المقبولة، وبما قد يحقق التشابه المقبول، بناء على الوثوق لا خصوص وثاقة الراوي، فلا مانع من التشبث بالقوة الإضافية لصالح أمور عموم قواعد الترجيح للمقبولة وللإضافيات المايدة لها وليرفض المخالفة سنداً أو لفظاً ومعنى

الأمر الثالث: ملحقات المقبولة

من ملحقات المقبولة في النتيجة الآتية ما أدعي عنها أنها معارضة للمقبولة، وهي مرفوعة زرارة السابقة(2)

ووجه معارضتها للمقبولة حسب ادعاء صاحب المعارضة أن المرفوعة ذكرت الشُّهرة أول ،المرجحات بخلاف المقبولة، حيث ذكرت فيها بعد صفات الراوي، مع أن سيرة العلماء على تقديم الترجيح بالشهرة على سائر المرجحات مطلقاً.

لكن معارضة المرفوعة حسب ادعاء مدعيها ردت:-

بأن أول المرجحات الخبرية الشهرة نصاً وفتوى.

وفي المقبولة ذكرت أول المرجحات الخبرية أيضاً، وإنما ذكرت الصفات للحاكم من حيث أنه حاكم، لذكر منصب الحكومة في صدر المقبولة، لا للخبر المتعارض من

ص: 355


1- الكافي : باب وقت الظهر والعصر من كتاب الصلاة ب 5 ح1.
2- مرت في ص 347 - 348.

حيث أنه خبر متعارض.

بل ظاهر قوله علیه السلام (الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ...إلخ) ذلك، وكذلك ظاهر قوله علیه السلام (ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك... إلخ).

وبهذا يتبين أنَّ الشُّهرة أوّل المرجحات الخبرية في الروايتين المقبولة والمرفوعة معاً.

وأن ما استقر عليه عمل المشهور هو من تقديم الشهرة على جميع المرجحات، فلا داعي للتّوهم، كما قد صرح بهذا الأمر صاحب الجواهر قدس سره في كتاب الكفارات.

الأمر الرابع: دفاعيات أخرى عن بعض ما قيل من المناقشات لبعض مضامين المقبولة الرئيسية في المقام.

وقبل البدء بمواصلة الإتيان بثالث أخبار الترجيح - وما يناسبهما بعده من الأخبار الترجيحية الأخرى - ينبغي لنا إضافة بعض آخر، مما يمكن أن يدخل في تسديد مضامين المقبولة المعتمدة في الباب.

ومن ذلك ما عرضه أحد المدافعين الأكابر وهو الأستاذ السيد السبزواري قدس سره، حيث عرض ما ناقش في شيء من مضمونها البعض الآخر بقوله عنه:-

إن المقبولة جاءت في مورد الحكومة فلا تشمل غيرها.

وأجاب مدافعاً عن المقصود من ذكر الحكومة في المقبولة وفي ذكر دفاعه الآتي إيضاح أكثر لما مر من ردّ الشَّبهة على مرفوعة زرارة، وذكر الحكومة ومعناها في صدر المقبولة بقوله:-

(وفيه: أنها ظاهرة، بل ناصة في أنَّ المدار على منشأ الحكم ودليله، لا أن يكون

ص: 356

لنفس الحكم من حيث هو موضوعية خاصة، ولا فرق حينئذ بين كون الدليل دليلاً للحكم أو للفتوى، فتشمل جميع الأحاديث المتعارضة الصالحة للدليلية مطلقاً)(1).

أقول: وهذا منه قدس سره ما يجعل للمقبولة- بعد الدفاع الماضي والحالي من التصحيح - محورية للوفاق بينها وبين ما يتلائم معها من الروايات الأخرى.

و من تلك المناقشات التي قيلت عن بعض مضامين المقبولة ما ذكروه من ان اختصاص المقبولة كان بزمان الحضور لما ذكر في ذيلها (فأرجئه حتى تلقى إمامك).

ولكن أجيب عن هذا:-

بأنّ التّعبيرات - في الروايات المنسوبة إلى العترة الطاهرة - مختلفة.

فقي المقبولة (حتى تلقى إمامك)، وفي موثق سماعة (حتى يلقى من يخبره)، وفي خبر آخر (حتى يأتيكم البيان من عندنا)، وفي خبر آخر (حتى ترى القائم فترد إليه).

ثم علينا أن نقول: بأن زبدة حالة الاختلاف في الروايات التي منها بعض ما ذكرناه.

فإنّ الروايات العلاجية التي تيسرت لدينا ومنها ما سيأتي وبما يمكن أن لا يتباعد بعضها عن بعضها الآخر كثيراً، بل بما قد يستفاد من الكل بعد التأمل في عموم وإطلاق ما يبغيه الأئمة علیهم السلام في إجاباتهم على أسئلة حواريهم وبما ملؤه الرحمة والشفقة بما يتناسب مع سهولة الشرعة السمحاء التي لم تغلق الباب على تلامذة الأئمة علیهم السلام في الإرجاء أو التوقف إلا بالتقاء بخصوص الأئمة أو خصوص الإمام الغائب قدس سره في هذه الغيبة، وهو لا يمنع من الالتقاء بالوكلاء العامين في غيبته.

لأن ملاقاة الأئمة علیهم السلام والإمام القائم علیه السلام ليس لها موضوعية خاصة بها، ليبقى المؤمنون في حيرة من أمورهم المستعصية لديهم لإمكان حصول الحلول عن طريق

ص: 357


1- تهذيب الأصول - السيد عبد الأعلى السبزواري - ج1 ص 179.

فسح المجال من الطرق الأخرى مما ورد في نفس الروايات.

ولذلك أجاز الأئمة علیهم السلام إلى بعض حواريهم الفقهاء أن يتبنوا أمور الإفتاء بما رسموا لهم من القواعد عوضاً عنهم في القرب والبعد عنهم زماناً ومكاناً.

وهكذا إناباتهم الفقهاء في الغيبة الكبرى بعد عهد النواب الأربعة الخاصين بروايات مهمة بعد آية النفر ونحوها.

لكون عمدة المناط كلّه الوصول إلى الحجّة المعتبرة الصادرة عن المعصوم علیه السلام مباشرة أو تسبيباً مطمئناً به كما مر منا مثل هذا المعنى أكثر من مرة ومرة.

ومما قد يثار من النقاشات - لبعض فقرات المقبولة ليتلوها الرد المدافع أو المصحح -

هو أنه قد ذكر في مرجّحات المقبولة بكلمة (الأصدقية)، وهي لا وجه لها بالنسبة إلى نفس ما يطابق الواقع، لأنها تتصف بالوجود والعدم، ولا تقبل الشدة والضعف حتى يتحقق فيها التفضيل ، أي إما أصل الصدق أو الكذب.

لعدم صلاحية أن يكون المقياس المعتبر بالفرق بين الصدق والأصدقية ليلتزم بالثاني ويترك الأول بتكذيبه إن عارضه في الجملة، وإن كان في معنى أفعل التفضيل المذكور إضافة الأحسنية، لعدم وجود معنى الكذب في صادق القول مع إجماله، بسبب فارق المعارضة وإن كانت جزئية.

إلا بأن يجاب عن وجودها في هذه المقبولة:-

بلا بدية كون قصد الإمام علیه السلام من ذكرها كمقياس ليتمسك به عند المرور على الأصدقية إن توفّرت في سؤال السائل، لتجتنب حالة مجرد صدق الصادق بدون إضافة معنى الأصدقية إذا كان التفضيل حاصلاً بالنسبة إلى جهة أخرى.

وهي أن يكون أحد الرّاويين في مجرد صدقه وبدون أصدقية يصدر منه الكذب الجائز شرعاً أحياناً، والأصدق لا يصدر منه حتى ذلك إذا تبرز خطورة ما بين

ص: 358

الأمرين بسبب حصول بعض التساهلات باسم الحلال في الأول.

والكذب الحلال محدود بحدود قد لا يتعدى إلى ما يشبه المقام.

وبمثل هذا الجواب تبرز رجاجة اهتمام عناية الإمام علیه السلام بذكر الأصدقية بمعنى أكثر ، فذكرها إذن مهم جدا في المقام.

وأما بقية ما ورد في المقبولة من صفة الأعدلية والأورعية وعلى الأخص كثيراً الأفقهية، وتصور البعض عنها بأنها ذكرت فيها لناحية ارتباطها بحاكمية الحاكم لنفوذ حكمه لا لقبول روايته.

فالجواب عنها هو نفس ما مر من توجيه الأستاذ السيد السبزواري قدس سره آنف الذكر التصحيحي لشبهة حصر المراد من الحكومة في المقبولة أنه لنفس الحكم من حيث هو الموضوعية خاصة بكون المدار فيها خصوص التركيز على منشأ الحكم ودليله فقط دون الحيثية الموضوعية المزعومة.

وهو الحق الذي لاريب فيه.

ومما قد يثار عما بقي في المقبولة أخيراً - من مثل الشهرة الجابرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامة التي لا تعترض السنة المعتبرة من الإشكال -

أنها لا يمكن أن يلتزم بها إلا أن تكون لتتميز الحجة عن غيرها، لأنَّ الشَّاذ ومخالف الكتاب وموافق العامة من موارد المنع ساقط عن الاعتبار بالمرة، فلا وجه لعدّها من المرجحات الخبرية على ما يخالفها لعدم بقاء أي مفهوم لتلك الأوصاف كي يُقال لها أنها مرجّحات ولو في الجملة المخالفة.

فالجواب عليه: أن الترجيح هنا هو إبداء المانع عن الحجية فعلاً عند المخالفة، لما ورد في المقبولة من باقي الأوصاف، لا إسقاط المقتضي لها عند الموافقة لو تصورنا المخالفة من كل ناحية لإمكان عدم سقوط بعض ما يخالف عن الاعتبار لبعض الشّواذ لو تمكن الفقيه بعد استفراغ وسعه من جديد من أن يعثر على الحكم الواقعي

ص: 359

إذا كانت الشهرة الجابرة قد حملت الحكم الظاهري دون الواقعي.

وكذا لو تمكن من العثور على العكس لو اعتقد الفقيه أن تلك الشهرة الجابرة كانت في حالة اشتباه، وكما قيل (قد يوجد في الأسقاط ما لم يوجد في الأسفاط).

ولإمكان أن يكون بعض ما يخالف الكتاب متماشياً مع ما لم ما لم يحاسب عليه المكلّف على معصية مرتكبة من قبله وفي نفس النص القرآني حيث يقول عز من قائل «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»(1) وغيره.

ولإمكان أن يكون بعض ما يوافق العامة من حالاتهم العكسية في بعض الأجواء والظروف لم تصطدم بمقررات السنة المعتبرة بانتفاء مقتضيات التقية الواجبة أو في مثل بعض فقهيات العامة المتلائمة مع فقهيات الإمامية، كما في حرمة التكفير (التكتف) في الصَّلاة عند الإمامية، وعند بقية المذاهب الأخرى أنها من السنن في الصلاة.

وبهذا الإمكان الذي ذكرناه في حالات المخالفة لبقية أوصاف المقبولة تتجلى لنا حالة بطلان الإشكال على صحة عد باقي هذه الأوصاف من المرجحات.

وأما ما يمكن أن يأتي من النصوص الشريفة العديدة مقوياً لعزيمة البناء في المقبولة على الوصف الثالث وهو (مخالفة العامة) من المرجحات، وكأنه فيها تعد الأمة الإسلامية من الإمامية في تمام الرخاء في جميع ظروفها الماضية والحالية كقول الأئمة علیهم السلام (دَعُوا مَا وَافَقَ الْقَوْمَ فَإِنَّ الرُّشْدَ فِي خِلَافِهِم)(2) وغيره.

بينما ظروف غير المقبولة ومأيداتها من روايات شريفة أخرى جاءت عن الأئمة علیهم السلام كذلك تحمل ما يتناسب وأحكام الشدة وقساوة الأعداء من حالات التقية

ص: 360


1- سورة البقرة/ آية 173.
2- أصول الكافي "خطبة الكتاب " ص 8، الوسائل ج8 ص 18.

والدعوة إليها عموماً كمطابقة قول الله تعالى «إلا أن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً»(1) في الحالات الاستثنائية، وكقولهم علیهم السلام في الموارد الخاصة بها (التقية من ديني وَ دِينِ آبَائِي، ولا إيمان لِمَنْ لاَ تَقِيَّةَ لَهُ)(2) وقولهم علیهم السلام أيضاً (لاَ دِينَ لِمَنْ لاَ وَرَعَ لَهُ وَ لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ وَرَعَ لَهُ)(3) وغيرهما، خوف وقوع الفتن التي من وراءها وقوع ما لا يحمد.

وأما ما يشمل ما يخالف هذا الوصف الثَّالث من المقبولة ومأيداتها الكثيرة.

فإنه لابد أن يجاب عنه بأن أدلة وجوب إتباع ما يخالف العامة لها ظروفها الخاصة بها، وأدلة وجوب النهج على نحو التقية لها ظروفها الخاصة بها، فلا مجال للتقليل من شأن المقبولة ومأيداتها الكثيرة في هذا الوصف للترجيح.

الأمر الخامس: المرجحات الخمس

اشارة

قد عرف بين الأصوليين استعراض ما يسمونه بالمرجحات الخمس، وهي الترجيح ب- (الأحدث وبالصفات وبالشهرة وبموافقة الكتاب وبمخالفة العامة).

وبما أننا ركّزنا على أن عمدة ما في الباب من مصادرها هو مقبولة عمر بن حنظلة وما يتبعها من الأخبار.

فلابد من الابتداء بالحديث عما يخصها وهو الترجيح بالصفات وإن كانت هذه الخمس هي نفس صفات المقبولة بالنحو العام والخاص.

فلنبدأ بالحديث عنها في البداية عموماً، وخلاصة دفاعنا عنها وعن مرفوعة زرارة باشتراك وعلى منهجية خمس من الحروف الأبجدية.

ص: 361


1- سورة آل عمران / آية 28.
2- أصول الكافي 2: 12/219، باب التقية.
3- صفات الشيعة / الشيخ الصدوق : 3/3.
أ-الترجيح بالصفات

وهي ثاني الخمس، ومثال لكل من الخمس بالوصف العام، والذي لم يخرج كلاً من الأربعة الباقية عما تختص به حين كل منها فيما يأتي.

وقدمنا ذكرها على الأحدث لما حازته الصفات من المعنيين الخاص والعام.

وأخرنا الأحدث إلى نهاية مجموع الخمس، ليبقى نائلاً وصفه الخاص به، وتبقى الثلاثة الباقية مرتبطة بمواقعها الخاصة بها بلا داع لأية منافسة.

قد مر ذكر مقبولة عمر بن حنظلة وأسئلته للإمام علیه السلام وأجوبة الإمام علیه السلام والأوصاف التي تصلح للترجيحات عند تعارض الأدلة وإجاباتنا على ما جاء من المناقشات لسند المقبولة والنواحي المهمة مما يتعلق بمضامينها، وعن ما يتعلق بسند ومضمون مرفوعة زرارة غير المنافية، بل المشاركة لها في أمر أهمية الشهرة في باب الترجيح فلا داعي للإطالة بما هو أكثر.

ب-الترجيح بالشهرة.

وهي الشُّهرة العملية والقديمة التي كانت في زمن الأئمة علیهم السلام وما يقارب أزمنتهم أيام تدوين الروايات الشريفة محفوظة عن الأئمة علیهم السلام، وهي التي لقدمها المصان بما ذكرنا لها قيمتها المحترمة في دعم وتقوية بعض الروايات التي قد تبدو لبعض المحتملين أنَّ فيها ضعفاً، لكن دون الشُّهرة الروائية والفتوائية، وقد اشتركت المقبولة والمرفوعة بالترجيح بها، وقد اعتبرها صاحب الجواهر قدس سره أول المرجحات بين الخبرين.

وازدادت المرفوعة بإضافة الأوثقية التي لا تنافي بأقل تأمل لها مع المقبولة ومضامينها.

ح-الترجيح بما يوافق الكتاب

إن الترجيح بما يوافق الكتاب مما يقع ما بين الخبرين أوّل ما يحققه مرجعية

ص: 362

العرض على الكتاب للاطمئنان بما يصل إلى مطابقة أحد المتعارضين من الخبرين.

ومن بعد هذا ما بيناه سابقاً بإسهاب وافر عن أهمية مرجعية كلام النبي صلی الله علیه و اله والعترة علیهم السلام، كما نص على هذا القرآن أيضاً ومن بعده ما بينته الروايات التي أهمها المقبولة.

ومن بعدها ما جاء من مأيداتها في ذلك كرواية الحسن بن الجهم المتقدمة(1)، فقد جاء في صدرها (قلت تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، قال: ما جاءك عنا فقسه على كتاب الله عزّ وجل وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منا وإن لم يشبههما فليس منا) إلى غير هذا من الروايات الكثيرة المشابهة على ما نقل في نتائج الأفكار من بحوث السيد الشاهرودي قدس سره.

ولكن لا يخفى على المراجع لها بعد التأمل أن فيها تهافتاً، وهو في القضية التي كانت محسوبة - بين أهل العلم في عامة ما فيها - على روايات الترجيح بما بين كل خبرين متعارضين من غير المقبولة وخاصة ما معها لاقتصار بعضها على مخالفة العامة والآخر عليها وعلى موافقة الكتاب والثَّالث عليهما معاً.

ومقتضى إطلاقها نفي الترجيح بغير المرجحات المذكورة كالشهرة.

بينما المقبولة وما يقرب منها كثيراً لما كانت أخص من جميع روايات الترجيح وكونها العمدة بين الروايات فلابد من تخصيصها بالمقبولة، لعلاقتها المأثرة بما يقرب منها.

ومقتضى التخصيص هو كون مخالفة العامة مرجّحة بعد عدم الترجيح بالشهرة وموافقة الكتاب، وكون موافقة الكتاب مرجحة بعد فقد الترجيح بالشهرة.

فالمقبولة إذن تتعرض لترتيب المرجحات ومواردها

ص: 363


1- ص 338.

إضافة إلى كونها - مع بعض مأيداتها الخاصة - العمدة في كل ما عرفت به من مرجحاتها، وهو الحق فيما أورده قدس سره من التدقيق المفيد.

هذا ولصاحب الكفاية قدس سره رأي يقول فيه حول عامة روايات هذا الباب ومن بينهما أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة العامة (أنّ في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظراً وجهه قوة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجة، بشهادة ما ورد في أنه زخرف(1)، وباطل، وليس بشيء، أو أنه لم نقله، أو أمر بطرحه على الجدار)(2)

فعقب عليه الشيخ المظفر قدس سره في تعليقه بما مضمونه مع شيء من التصرف منا، بأنه توجد في مسألة موافقة الكتاب ومخالفته طائفتان الأخبار(3)

(أولاهما: في بيان مقياس أصل حجية الخبر لا في مقام المعارضة بغيره.

وهي التي ورد فيها التعبيرات المذكورة في الكفاية - من قطع ما ورد في الكتاب والسنة وعبارات النبي صلی الله علیه و اله والأئمة علیهم السلام عنها- أنه زخرف وباطل إلى آخره .

فلابد أن تحمل هذه الطائفة على المخالفة لصريح الكتاب، لأنه هو الذي يصح وصفه بأنه زخرف وباطل ونحوهما).

لدحض الحجية فيهما وفي أمثالهما مما ورد، وإن حصل بعض شبه فيها لشيء مما في الطَّائفة الآتية، مع فارق الصراحة في التعبير وعدم وجود أي معارضة كما في الثانية الأتية.

ولذا لن تكون هذه الطائفة الأولى إلا مقياساً لخصوص أصل حجية الخبر دون

ص: 364


1- إشارة إلى ما عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : (مَا لَمْ يُوَافِقْ مِنَ اَلْحَدِيثِ اَلْقُرْآنَ فَهُوَ زُخْرُفٌ)، وسائل الشيعة (الإسلامية ) - الحر العاملي - ج 18 ص 78.
2- كفاية الأصول - الآخوند الخراساني - ص 444.
3- أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 3 ص 254.

شيء آخر، وعليه فلن تصلح أن تكون مصداقاً لشيء من حالات التعارض لحاكمية الحق الصريح على الباطل فقط، وبدون أي مجال لترجيح شيء على شيء ء تعبداً.

أقول: وهذا المعروض الأول إن كان مما يرضي الشيخ الآخوند قدس سره أو المعلق قدس سره - في نفسه أو كليهما - فهو مما لا مانع منه، بل قد ثبتناه في السابق أو ذكرنا ما يآيده.

(وثانيهما(1): في بيان ترجيح أحد المتعارضين على الآخر.

وهذه - المجموعة من الأخبار عند حصول التعارض ومنها المخالفة للكتاب إن حصلت عند العمل على نحو التقية - لم يرد فيها تلك التعبيرات - من مقام الطَّائفة الأولى-

وقد قرأت بعضها، وينبغي أن تحمل - هذه الثانية - على المخالفة لظاهر الكتاب لا لنصه - ليصح أن يكون عمل التقية الموافقة لخصوص ظاهر الكتاب إن احتيح إليها دون نصه، لئلا يقال أنها زخرف وباطل حال الاختيار، وإنما كان عند الترجيح الاضطراري -

لاسيما أن مورد بعضها مثل المقبولة في الخبر الذي لو كان وحده لأخذ به، وإنما المانع من الأخذ به وجود المعارض.

إذ الأمر بالأخذ بالموافق وترك المخالف وقع في المقبولة بعد فرض كونهما مشهورين قد رواهما الثقات، ثم فرض السائل موافقتهما معاً للكتاب بعد ذلك.

إذ قال: "فإن كان الفقيهان عرفا حكمهما من الكتاب والسنة".

ولا يكون ذلك إلا الموافقة لظاهره - دون دلالة النصوص ومنه ما يوافق التقية المحتاج إليها - وإلا لزم وجود نصين متباينين في الكتاب - عند إرادة الواقعيات - كل ذلك يدل على أنَّ المراد من "مخالفة الكتاب" في المقبولة مخالفة الظاهر - عند الترجيح -

ص: 365


1- أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 3 ص 255.

لا النص)

ويشهد لما قلناه أيضاً ما جاء في خبر الحسن المتقدم - حيث قال - "فإن كان يشبههما فهو منا - فإنّ التعبير بكلمة (يشبههما) يشير إلى أن المراد - هو - الموافقة والمخالفة للظاهر - على خلاف ما يتعلق بأمور الطائفة الأولى الحدية.

ثم أقول أيضاً: إن ما تفضل به المعلّق قدس سره عن الطائفة الثانية هذه على ما يبدو أو من تعبير أته هو ما لم يحرز منه اعتبار حالات التعارض بين الخبرين والأكثر وترجيحاتها في الحالة الظاهرية على النحو التّعبدي، لعدم انسجام حالة التعبد مع الحكم الظاهري الذي بينا سبيه.

بل الأمر على العكس وعلى خلاف مذاق الشيخ الآخوند قدس سره حيث تعبد فيها، وقد خالفه الشيخ النائيني قدس سره والسيد الشاهرودي أيضاً، وقد ذكرنا بعض تفاصيل هذا الأمر فيما سبق.

د-الترجيح بما يخالف العامة

قد ذكرنا فيما سبق في أكثر من مورد بأن مخالفة العامة قد تكون من مرجحات ما بين الخبرين المتعارضين بحسب الدلالة الظاهرية دون النص والواقع، لما اتضح سببه أكثر من مرة عند تحقق المقتضى الظاهري وانتفاء المانع منه، وعلى ميزانية ما أعطته المقبولة وما حظيت به من لزوم تبني أمور الترجيح على ضوء منهجية الترتيب فيها، وما نهج على منوالها من بعض الروايات كرواية الحسن بن الجهم المتقدمة، إذا لم تكن في الموافقة للعامة في بعض مذاهبهم أو في نوعها بعض حالات انسجام مع ظاهر كتاب الله والسنة المطهرة المأثورة عن العترة، ولو بنحو غض النظر من بعض العامة أو حصول بعض معافات في أجوائنا معهم.

وإلا لم تكن هذه المخالفة للعامة يوماً مرجّحة على ظاهر الكتاب لأن قولهم

ص: 366

علیهم السلام (دَعُوا مَا وَافَقَ الْقَوْمَ فَإِنَّ الرُّشْدَ فِي خِلَافِهِم)(1) وغيره من المنقولات هي في أيام ازدهار أجواءنا وكافة مراحل اختياراتنا.

لكن حاول الشيخ المظفر قدس سره أن يسعى إلى تبني جعل بعض العقبات في هذا الطريق حيث قال(2) (إنّ الأخبار المطلقة الآمرة بالأخذ بما خالف العامة وترك ما وافقها كلها منقولة عن رسالة للقطب الراوندي قدس سره.

وقد نقل عن الفاضل النراقي قدس سره أنه قال غير ثابتة عن القطب ثبوتاً شائعاً فلا حجة فيما نقل عنه)(3).

لكننا نقول: إنَّ هذه العقبة في طريق ما نقله القطب قدس سره وإن أمكن أن يجاب عنها أو عن بعض ما صح عن القطب قدس سره وعن نفس رسالته المشار إليها بواسطة ما نقله صاحب الوسائل، حيث نسب إليه إضافة إليه بسنده عن الصادق علیه السلام قال:-

(إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله ،فردوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم ،فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه)(4).

وغير هذه الرواية إن لم تدخل في سلك ما تعطيه المقبولة من منهجية ما تعطيه من الترتيب في الترجيحات ولو في الجملة بسبب الحاجة إلى الابتعاد عن تهافت بقية الأخبار الأخرى الواردة في المقام، فهي لم تترك للود قضية ببقاء ارتباطنا بالمقبولة وما ناسبها مما لم يخرج من حالات التهافت.

ص: 367


1- أصول الكافي "خطبة الكتاب" ،ص8، الوسائل ج8 ص 18.
2- أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 3 ص 255.
3- مناهج الأحكام والأصول: تعارض الأدلة المقدمة الثالثة من مقدمات المرجحات.
4- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 118.
ه-:الترجيح بالأحدث

إن الترجيح بالأحدث قد يظهر من بعض الروايات التي توجه حواري الأئمة علیهم السلام إلى العمل به فيما بين الخبرين المتعارضين مقدّماً على سابقه، لكن لا على أن يكون هو الحل الأمثل أو القاعدة الكلية في كل زمان ومكان، لأن مقتضيات ابتلاءات المكلفين في تلك الأحوال قد لا تكون إلا محتاجة إلى ما يطابق الواقع في بعضها، وفي البعض الآخر قد لا تتناسب إلا مع الحكم الظاهري.

فلنأخذ رواية من بين تلك الروايات ونكتفي بها بترسيخ أصل الفكرة، وهي ما رواه الكليني قدس سره بسنده عن أبي عبد الله علیه السلام (قال علیه السلام: أرأيتك لو حدثتك بحديث العام، ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيهما كنت تأخذ؟ قال: قلت: كنت آخذ بالأخير، فقال لي: رحمك الله)(1)

فأقول: بناءً على اعتبار هذه الرواية أو هي مع مثيلاتها ووضوحها ولو مضموناً وقد عدت أربعاً في اختيار ما هو الأحدث مميزاً عن سابقه المتقدم ولو في خصوص ما ذكره الإمام علیه السلام لمن كان قد حظر بين يديه من حواريه وكأنه قد سأله هذا الحاضر على افتراض كون هذا الذكر من الإمام علیه السلام جواباً لسؤال هذا السائل في زمانهما دون ضمان أن يكون اعتبارها ثابتاً أيضاً بتطابق كامل مع زمان الفقيه العام المحدود في إجازاته وصلاحيته في هذه الغيبة الكبرى.

لا بمعنى ما لا يتناسب من توجيه هذه الرواية إلا مع مستواه دون مستوى مقام الإمام علیه السلام حتما في صلاحيته المطلقة باتخاذ القرار في حتميته المناسبة لذلك الزمان وبركة وجوده مع علمه اللدني الخاص كالقاعدة المستمرة، ولتبدل زمن الاستفادة منها، وإن حوت ما حوت من الخير الكثير في ذهن ذلك الإمام علیه السلام، لكنها وردت

ص: 368


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 ص 67

وحلّت بين يدي الفقيه العام المحدود كما أشرنا في البداية في صلاحيته مميزاً بها عما يتناسب مع وجود المعصوم المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف

وعلى هذا الأساس لابد أن يكون كلام الإمام علیه السلام هذا مع من واجهه من حواريه شرعاً هو إمام الكلام بعد كلام الله ورسوله، بحيث يجب على المأموم - الذي بين يديه وغيره ممن عاصره وعرف مقصده - إطاعته، بدون أي تخلف عنه في هذه المواجهة وغيرها، سواء كان الذي ظهر من إمضاء الإمام علیه السلام للذي اهتدى له السائل هو الأخير، بقرينة إمضاءه علیه السلام له بكلمة (رحمك الله).

أم الأول إن ظهرت من الإمام علیه السلام الإشارة مع ما يتناسب من ذلك الحكم الإلهي.

وسواء كان حكمه الذي أثبته له على نحو الحكم الواقعي أو الظاهري في الخبر الأخير، أو كان كل من الخبرين واقعيين أو ظاهريين، فيتعين الأخير تبعاً لما تقتضيه المصلحة أو لدفع المفسدة، حتى لو كان هذا الأسلوب من الإمام علیه السلام لاختبار مأمومه الحاضر، فيصادف الهدف باهتداء المأموم إلى الجواب عن الأخير المذكور.

بينما قد يكون في ذهن الإمام علیه السلام عن تكليفه الخاص في اختلاف ظرفه وحاله لو تفاوت أنه هو الواقع أو الظاهر، سواء كان الأحدث أو ما قد سبقه مما قد يختلف عن مفاد الرواية هذه.

بل يجب على بقية المكلفين السير على منوال هذه الرواية حتى الذين وردتهم محفوظة في ألفاظها ومعاينها واعتبارها مع مثيلاتها من مكلّفي زمن الغيبة الكبرى إن تطابقت ظروفهم الحديثة مع القديمة مع تمام ما تطابقت فيه ظروف هذه الرواية وما عنته بدون أي تفاوت وهذا ما يمكن قبوله ثبوتاً.

وأما الوصول إلى ما يحقق الإثبات أيضاً، فنقول:-

إنَّ الأهم في مثل هذه الروايات التي قد تكون توجيهية للجميع، أو لم تنعدم

ص: 369

عن إفادتها الأوسع من الزمان السابق حينما وصلت إلينا من جوامعها ومجامعها ،الحديثية، كما كانت في الأزمنة السابقة لمن سبق من الحوارى المجتهدين - وإن اختلفت أساليب استنتاجات فقهاء اليوم عن استنتاجات السابقين بعض الشيء لفارق الزمان ونحوه وتوسع القواعد الأصولية المثمرة -

فهي أيضاً كذلك، ولو في الجملة حينما صارت بين فقهاء الأمة في الغيبة الكبرى وتحت بركة ورعاية الإمام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف لو اعترتنا مثل تلك المشاكل أو ما يشبهها من محيرات باب التعارض بين الأخبار من إضافيات هذا الزمان إذا انعدم التعرف أو ما يقرب منه على إدراك الأحكام الواقعية، أو ما تيسر إلا القليل منها مع تيسر الكثير، أو خصوص الأحكام الظاهرية ومنها وجوب الترجيح بما يخالف العامة أيام سلامة أجواء الإمامية من هذه الغيبة إن احتيج إلى تقدمها على غيرها من المرجحات عند التّعارض، للتعرف على فارق زمان الغيبة عن زمان الحضور.

لأن فقيه اليوم مهما تضلّع في الأمور فلم يكن كالإمام المعصوم علیه السلام، لعدم عصمته، بل حتى كبعض حواريه المجتهدين في قولهم عنه عند الحاجة وغيبة الإمام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف عن فقيه اليوم كي يحق له الرضا أو يحق له أن يكون له حق البناء على ما هو الأحدث بين الخبرين، كما في الرواية الماضية على أي حال، ولئلاً يكون له الجو جو البناء دوماً على التقية لو حلت فينا أزمنة الرخاء ولو من طريق آخر يختلف عن مفاد هذه الرواية إن تعسر البناء عليها، أو لأن مفهوم هذه الرواية قد يتغير بتغير ما بين الزمانين عند فقيه اليوم.

إذ قد لا يبدو في نظره الاجتهادي الذي كثيراً ما يتجدد في الموضوع الواحد في ترتيب الحكم الشرعي عليه بسبب تفاوت المباني المتعددة عنده، سوى البناء على مفاد الخبر القديم دون خصوص ما هو الأحدث بين الخبرين لو لم ينشأ عنده مانع حتمي من البناء على القديم فيما ورد في الرواية المذكورة، أو ما يبدو في نظره حتّى

ص: 370

القول بالتخيير حينما لم يظهر له بين أحد الخبرين ما هو الحرام الصريح، كي لا يرتكب أو ما فيه الغفلة عن واجب صريح كي لا يتساهل فيه مثل ما مر التعرض له سابقاً مما تحت العنوان الثانوي

ومن أسباب ما يبرر لفقيه اليوم بعض التغيرات في التخريجات الفقهية أن زمنه لم يكن زمن التشرف بحضور الإمام علیه السلام لو لم يتيسر كما في عصر صدور هذه الرواية، حتى يتوقف في أمرها لو فرض عليه إجمالها المثول بين يديه، لفهم ما أفادته آنذاك، وفهم ما يمكن أن تفيده في التفكير الحديث وقت الابتلاء، ولعدم تأكد القول بإثبات ولاية الفقيه العامة المطلقة وإن أمكن القول بمجرد هذا الأمر ثبوتاً حتّى يكون الأمر كالسابق.

ولذا لابد من القول بخصوص صحة تصرف الفقيه بما يناسب قابليته الاجتهادية وبمستوى محدودية ما أجيز له من الأئمة علیهم السلام من التصرفات التي قد يكون من حالاتها ما مر ذكره من التخيير على الشرط المذكور أو ترجيح القول المناسب حتى للخبر القديم لو جهل تأريخ قدمه، أو حتى عدم ترجيح ما هو الأحدث لو جهل تأريخ أحدثيته أو حتى مع العلم بتأريخ أي منهما لو استقر رأيه على مستوى القوة الاستدلالية المهمة التي بانت له البصيرة التامة فيها سواء كان الحكم الواقعي أو الظَّاهري بين كل من القديم والأحدث عند وضوح الإلتزام بما يجب، ووضوح ترك ما يحرم وغيرهما من الأحكام.

مع ديمومة البقاء على أهمية تجديد النظر الممكن لو احتمل عقلائياً وعملياً الوصول إلى ما هو الأدق فقهياً في أي مسألة تعرض في هذا الباب، وإن سبق منه التّعرض لها أكثر من مرة، لغرض إحراز براءة الذمة أكثر.

بل قد اعتبره أكثر الفقهاء الأتقياء المخضرمين في عمق تجاربهم أنهم - بينهم وبين الله هم - في أتم الحاجة إلى تجديد النظر، بل صرح كثير منهم بتواضعهم للفقاهة

ص: 371

المثلى، حيث عبروا عن حالهم المتصاغر أمام بحر الفقه الإلهي مهما ارتقوا بين ملايين الأمة المرحومة أو جل قدرهم عندها بأنهم من صغار طلابه، طمعاً منهم بإصابتهم في تجديداتهم المتواصلة هدف الوصول إلى الحكم السديد، ومن ثم إلى رضا المولى تعالى وقبول رسول صلی الله علیه و اله والأئمة الأطهار علیهم السلام عنهم مع براءة الذمة لهم ولمقلديهم من الأعلام.

كي يتعادل تصرف الإمام علیه السلام مع المأموم أيام الحضور بما قرره الإمام علیه السلام له آنذاك، وكذلك الفقيه الشرعي المجاز مع المنتمين إليه في هذه الغيبة حول مفاد ما تتضمنه هذه الرواية مع مثيلاتها تجاه التعارض بين كل روايتين أو أكثر في اكتساب ما مر ذكره من براءة ذمة الجميع من المكلفين بين عهدي الحضور والغيبة مهما تفاوتت تصرفات ما اختص به زمن الحضور وما حدد منها لفقهاء أيام الغيبة.

والخلاصة في كل ما مر مع بسط شيء من الكلام - لإظهار ما يمكن إظهاره مما لم يختف من فوائد هذه الرواية ومثيلاتها العامة والإضافية التي لا ينبغي أن تهجر بالمرة -

أنّ هذه الرواية ومثيلاتها بعد ما أفادت السائل عن خصوص ما سأل عنه بما أنّها لم يحرز منها النموذجية النافعة لكل عصر ومصر ومن ذلك زمن الحضور والغيبة وبمستوى واحد وبدون حصول قاعدة تظهر لنا كون الأحدث هو الحكم الواقعي العهدين وعلى الأخص في زمن ابتلاءات الفقهاء اليوم وبما مر تفصيله فلابد من عدم كفاءتها التامة في هذا والحمد لله.

ص: 372

المبحث التاسع عشر

التفاضل العلمي العملي في مرجّحات ما بين الأدلة/المقدمة:

إن من أهم ما يجب معرفته للباحث الراغب بنيل ملكة الاجتهاد أو النجاح في سيره في طرقها علمياً عملياً إذا اعترضت في طريق تفكره في الأشياء الإبتلائية بعض حالات التعارض بين الأدلة اللفظية المختلفة مثلاً مما لم يستقر في تعارضه، والتي منها ما قد يوجب التحير في حل أمره إلا بما يمكن منه شرعاً ترجح أحد طرفيه في النجاح على الطرف الآخر، فيكون ذلك الآخر مرجوحاً وأقل وزناً أو تفوق الناجح في ترجحه على الطرف المقابل له، فصار الناجح أنجحاً، وإن كان ذلك الأقل فيه نسبة من النجاح سابقاً.

أو كان التحير حاصلاً عند المكلّف في زمن غيبة المعصوم علیه السلام، وإن كان ذلك المكلف فاضلاً مما لم يبد عنده تفاضل في الترجيح بين الخبرين أو الأخبار من الناحية الظاهرية، كما لو كان في زمان حضور الإمام علیه السلام، ليحظى بحل مشكله عنده مثل بعض حواريه آنذاك.

أو كان تحيره في زمانه علیه السلام أو حتى في الغيبة الصغرى، ليتوقف في أمر حل مشكله كما بينته الأخبار الشريفة إلى حين الملاقاة المنيفة، أو أخذ الحل من مثل النائب الخاص، أو من توقيع الناحية المقدسة، أو في البناء في حالة التحير على التخيير في زمن الغيبة الكبرى بين المتعارضات إذا تساوت نظرة الفقيه المجتهد المجاز فيما بينها في ظاهر الحال أيضاً، كما بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر من يومها وتزامن ظهوره مع وجوب كل منهما من دليلهما في النتيجة.

ص: 373

أو ما قد اطلعنا عليه في السابق من بعض الحالات الأخرى بالتخيير في إطار العنوان الثانوي تبعاً لتساوي دليلي الطرفين من هذه الغيبة، وغير ذلك مما قد يصرح به في أخبار الترجيح، ومما كانت الإستفادات الواقعية قد تنتفي كثيراً في هذه الغيبة.

ذوالمقدمة

وبعد تقديم هذه المقدّمة وما قدمناه من ملخص ما في البحوث الماضية وما أشرنا به في آخرها بذكر بعض تفصيل في هذا الحين عن الأخبار الواردة في بيان المرجحات ذات النسبة غير القليلة - التي قلنا عنها سلفاً - أنها كانت متهافتة في كل منهما، مما سبب حصول خلاف بين بعض الأعلام الأعاظم.

حيث كان كل منهم يرى لنفسه رأياً خاصاً به حول أسلوب عملية الترجيح، وأهمها أقوال أربعة نذكرها بعد ذكر عناوين من تلك الأخبار، وسبب ما يبدو من تهافتها والوصول إلى الجواب النهائي الواصل إلى الأخذ بالمقبولة، وما يرجع إليها من تلك الأخبار، ثم الوصول إلى ما يحقق التفاضل المفيد في عنوان البحث عن طريقها، بما يأتي ذكره بعد تقديم شيء عن خلاصة المرجحات.

خلاصة الكلام عن المرجحات

ذكروا أنَّ المرجحات فيما بين الخبرين المتعارضين أو الأكثر ثلاثة لا أكثر وهي:- الأول: المرجح الصدوري

ومعنى ذلك أن هذا المرجح يجعل صدور أحد الخبرين أو الأكثر أقرب من صدور غيره، وذلك مثل موافقة المشهور وصفات الراوي، في مقابل ما هو الأقل منهما كالشاذ النادر أو الأضعف من صفات الرواة الأقوى في الاعتبار ومن المرجحات الأعدلية والأصدقية.

ص: 374

الثاني: المرجح المضموني

وذلك مثل موافقة الكتاب والسنة حتى لو وافقت العامة مما يسمى بضروريات الدين، لا خصوص ضروريات المذهب.

الثالث: المرجح الجهتي

وهو ما أطلق عليه بمرجح جهة الصدور ، فإن صدور الخبر - المعلوم الصدور حقيقة أو تعبداً - قد يكون لجهة الحكم الواقعي.

وقد يكون لبيان خلافه لتقية وغيرها من مصالح إظهار خلاف الواقع كالكذب لإصلاح ذات البين، ونحو ذلك من أمثال الواقعي كمخالفة العامة من موارد اختيارنا دون اضطرارنا.

ومقتضى ذكر هذه المخالفة - في مثل المقبولة ومأيداتها على ما سبق وما سيجيء في سياق موافقة الكتاب - كونها من عناوين روايات الترجيح.

وبعد تلخيص ما مر عن معاني المرجحات الثلاثة لنذكر ما يتيسر لنا من عناوين هذه الروايات وسبب ما أوردته مما عرف عن ألفاظ تهافتها حول ما حوته من أمور الترجيح في كل تعارض.

فمن تلك الروايات:-

1 - ما مر من رواية الاحتجاج عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله علیه السلام(1)

و مورد مقابلتها أنّ المقبولة أمرت بالتوقف بعد فقد المرجحات، ورواية الاحتجاج أمرت به من دون ملاحظة المرجحات

2 - ما مر من المرفوعة المروية عن غوالي اللئالي(2)

ص: 375


1- راجع ص350.
2- راجع ص 347.

وقد استضعفت، لكن أنكر استضعافها المحقق الثاني قدس سره وفخر المحققين قدس سره بضبط أمورها.

ومورد مقابلتها للمقبولة بناء على عناية العلمين قدس سره وغيرهم بقوتها في أمور ثلاثة، وهي:-

أولها: اشتمالها على الترجيح بصفات الراوي، على عكس ما في المقبولة.

وثانيها: في اشتمالها على الترجيح بالاحتياط بخلاف المقبولة.

وثالثها: في اشتمالها على الحكم بالتخيير بعد فقد المرجحات مع منافات هذا للمقبولة الآمرة بالتوقف.

3 - ما مر ذكره من رواية الصدوق قدس سره عن مولانا أبي الحسن الرضا علیه السلام(1)

حيث من خصوصيات هذه الرواية أنّ أوّل المرجّحات فيها هو موافقة الكتاب، ثم موافقة السنة، ولم يتعرض لغيرها بعد ذلك، وهو ما مقتضاه تقدم الخبر الموافق للكتاب وإن كان شاذاً على خلاف المقبولة المرتبطة بالشهرة وترك الشَّاذ النادر.

4 - ما مر ذكره عن رسالة القطب الراوندي بسنده عن الصادق علیه السلام (2)

وهذه الرواية تعرضت أولاً للترجيح بموافقة الكتاب ومع عدمه بمخالفة أخبار العامة ولم تتعرض لباقي المرجحات المرتبطة بالمقبولة.

5- ما ورد عن يونس بن عبد الرحمن، عن الحسين بن السري قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: (إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ فَخُذُوا بِمَا خَالَفَ الْقَوْمَ)(3).

وهذه الرواية قد اكتفي فيها بالترجيح بمخالفة العامة، وإطلاقها ينفي مرجحية

ص: 376


1- راجع ص 342 - 344
2- راجع ص 367.
3- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 118.

غيرها، وهو ما ليس في المقبولة كما لا يخفى.

6- ما روي عن الحسن بن الجهم قال:-

(قلت للعبد الصالح علیه السلام: هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلا التسليم لكم؟ فقال: لا والله لا يسعكم إلا التسليم لنا .

فقلت: فيروى عن أبي عبد الله علیه السلام الشيء، ويروى عنه خلافه، فبأيهما نأخذ؟ فقال: خذ بما خالف القوم، وما وافق القوم فاجتنبه)(1)

وهذه الرواية كسابقتها الخامسة.

7 - ما رواه أيضاً بسنده عن محمد بن عبد الله قال:-

(قلت للرضا علیه السلام: كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟

فقال: إذا ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا إلى ما يخالف منهما العامة فخذوه، وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه)(2)

وهذه الرواية كسابقتها، ومنها يتفاوت جميعها عما في المقبولة.

8 - ما روي عن المعلى بن خنيس قال:-

(قلت: لأبي عبد الله علیه السلام إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ ؟

فقال: خذوا به حتى يبلغكم عن الحي، فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله.

قال: ثم قال أبو عبد الله علیه السلام إنا - والله - لا ندخلكم إلا فيما يسعكم)(3).

وظاهر هذه الرواية الترجيح بتأخر الصدور لبعض الروايات الآخر، كقرائن مما مضى ذكر شيء منها وإن كان قد توفّي، وهو ما يتفاوت أيضاً عن المقبولة.

ص: 377


1- نغس المصدر السابق
2- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص119.
3- نفس المصدر السابق

9 - ما مر ذكره من رواية الكليني قدس سره بسنده عن أبي عبد الله علیه السلام(1)

وهذه الرواية جعلت الترجيح أيضاً كسابقتها في تأخر الصدور، أي سواء كان المتأخر صدوره مخالفاً للعامة أو موافقاً لهم وهو ما يعطي معنى التعارض في الترجيح بمخالفة العامة، تعارض العموم من وجه كما لا يخفى.

10 - ما روي عن أبي عمرو الكناني قال:-

قال لي أبو عبد الله علیه السلام يا أبا عمرو! أرأيت لو حدثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيهما كنت تأخذ؟

قلت: بأحدثهما وأدع الآخر فقال: قد أصبت يا أبا عمرو، أبى الله إلا أن يعبد سراً، أما والله لئن فعلتم ذلك إنه لخير لي ولكم أبى الله عزّ وجل لنا في دينه إلا التقية)(2)

وهذه الرواية فيها زيادة الإفتاء وعطفه على الأخبار، وهو ما يتفاوت عن باقي الأخبار، وأهمها المقبولة كما مضى وكما سيأتي.

11 - ما روي عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله علیه السلام قال: -

(قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتهمون بالكذب، فيجئ منكم خلافه؟ فقال: إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن)(3).

و هذه الرواية توجب مخالفة العامة ومما يظهر الفرق بينها وبين المقبولة ومن ضمن معنی نسخ خبر فلان وفلان حالات الكذب ولذا ورد استضعاف بعض النبويات.

ص: 378


1- راجع ص 368
2- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 112.
3- نفس المصدر السابق ص 208.

12 - ما روي عن أبي حيون مولى الرضا علیه السلام، عنه علیه السلام قال:-

(من رد متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم، ثم قال علیه السلام:

إن في أخبارنا محكما كمحكم القرآن، ومتشابهاً كمتشابه القرآن، فردوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا)(1)

وهذه الرواية مما لم تجوز عدم رد متشابهات أخبارنا إلى محكماتها.

وأقول: هذه جملة ما تيسر بأيدينا مما أطلق عليه علماؤنا قدس سره بروايات الترجيح بين كل خبرين متعارضين أو أكثر مع ما مر ذكره عن المقبولة.

وقد مر ذكر بعض هذه الروايات في غضون بحوثنا الماضية متفرقة بين عناوينها کشواهد ناسب ذكرها.

وقد تبين من تلخيص مجموعة عددها الاثنا عشر الماضي - بعد ما نوهنا عن تهافتها بسبب ما أوجزناه عن الأسباب في كل منها بعد النظر الإضافي -

أنَّ هناك تفاوتاً في نظر بعض الأعلام الأعاظم قدس سره حول نموذجية ما يجب القيام به عند كل منهم من الترجيح إليه من هذه الأخبار مع ضم المقبولة التي شيدنا أركانها سابقاً إليها.

وهذا الاختلاف ونماذجه عند كل منهم نحصره الآن كما وعدنا بذكره سابقاً في أربع قرارات أو أقوال، هي:-

الأول: أن هذه المرجحات عند الشيخ الآخوند قدس سره في عرض واحد، فلو كان أحد الخبرين المتعارضين واجداً لبعضها والخبر الآخر مثلاً واجداً لبعض آخر منها بما أوقع التزاحم بين الخبرين، فيقدم الأقوى مناطاً عنده، فإن لم يكن أحدهما أقوى مناطاً وتساويا تخير بينهما .

ص: 379


1- نفس المصدر السابق ص 115.

الثَّاني: أنهما مترتبة عند الوحيد البهبهاني قدس سره على ما نسب إليه من المقررات وبنحو تقدم المرجح الجهتي على غيره بما يعني أن المخالف للعامة عنده أولى بالتقديم على الموافق لهم وإن كان مشهوراً.

الثالث: أنها مترتبة كذلك على ما ذهب إليه الشيخ النائيني قدس سره، لكن على عكس الحالة السابقة، أي أنه يتقدم المرجح الصدوري عنده في مثل الشهرة على غيره فيقدم المشهور الموافق للعامة على الشاذ المخالف لها، ولعله إذا لم يصل إلى حدّ التّملَّق الزائد على الحد المطلوب.

الرابع: أنها مترتبة أيضاً، لكن حسبما جاء في المقبولة أو في الروايات الأخرى التي لم تخرج عن نموذجيتها، أو كانت معها في ترتيب ما حوته من حالات الترجيح ولو في التأييد الإجمالي لها أو لبعضها، مما قد يلوح منه بعض التفاوت، على ما أسهبنا في الكلام سابقاً عنها تحت العناوين الماضية.

فما في المقبولة مثلاً عند المراجعة لها أيضاً يظهر أولاً تقديم المشهور الخبري الموافق للعملي أيضاً في قدمه على الشَّاذ النادر.

فإن تساويا في هذه الشهرة قدم الموافق للكتاب والسنة.

ومن ذلك ما قد تقبله العامة من سيرتنا الشرعية الاختيارية إما بنحو الوفاق المذهبي بيننا وبين العامة في بعض الفروع الفقهية التي لا خلاف بيننا وبينهم في الدليل حولها - وإن لم نرتض بعض أدلتهم وتوجيهاتنا - لوحدة النتيجة، أو في التقية التي تحت العنوان الثانوي مما مر ذكره.

فإن تساويا في ذلك قدم ما يخالف العامة، وهذا ما مال إليه السيد الشاهرودي قدس سره

وهذا الرأي تقريباً هو الذي يمكن أن يتناسب مع المسلك العملي المستقيم.

وعلى أساس ما قدمناه من الاعتماد على المقبولة - أكثر من بقية تلك الروايات -

ص: 380

يضاف إلى هذا أن تلك الروايات المتأخرة عن المقبولة - بسبب ما تقدم عن تهافتها، لاقتصار بعضها على مخالفة العامة والآخر عليها وعلى موافقة الكتاب، وكانت مخالفة العامة هي وحدها التي تمثل السنة، بينما يوجد في السنة الكثير مما يدعو إلى التقية وباقيها ما يدعوا إلى تلك المخالفة المهمة والثالث عليهما معاً -

تفيد بأن مقتضى إطلاق تلك الروايات إذا بنينا على اعتبارها هو نفي الترجيح بغير المرجحات المذكورة فيها كالشهرة المهمة التي تكلمنا عنها فيما سبق.

فإن المقبولة التي حوتها وجعلت الأولى في مرجحات المرتبة - مع ما أيدها من بعض الروايات الآخر في هذا مع ما مر من القرار الرابع حول مقام المقبولة -

لما كانت أخص من جميع روايات الترجيح تلك.

فلابد من تخصيصها لصالح نموذجية الترتيب المعتبر في هذه المقبولة.

وبعد ترجيح القول الأخير كقرار أصولي للإتباع فلا داعي لذكر أقوال أخرى لا فائدة فيها غير ما في الأربعة المعتنى بها بين أهل العلم، إلا في بعض المفضلات العلمية الأخرى، لغرض النقض والإبرام وغيره وإن لم تكن منتجة لشيء من الاستثمار في جملتها إثباتاً.

ولمزيد العناية بالمقبولة من الجهة العملية - إضافة إلى ما مر من الجهة العلمية - أنها تحتوي في إفادتها الترجيحية المرتبة عند التعارضات على أكثر مما قد يبدو للبعض سطحياً مما ذكره عن (خلاصة الكلام عن المرجحات الثلاثة وهي المرجح الصدوري والمضموني والجهتي).

وهي أفراد ثمانية وإن سبق تنسيقها على نهج تلك الخلاصة، وهي:-

(الأعدليّة والأفقهية والأصدقية والأورعية والشهرة وموافقة الكتاب وموافقة السنة ومخالفة العامة).

وأضيفت إليها من بعض الروايات المايدة لها مما مر ذكره مرجح الأوثقية على

ص: 381

نفس النسق المذكور فيها، وهكذا الأحدثية في رواية أخرى سبقت.

ولكن على أساس ما فصلناه عن توجيه ما يمكن قبوله من معانيها فيما سبق.

وبهذا تكون الأفراد المرجحة عشرة.

ص: 382

الأول: المقدمة:الباب التاسع الاجتهاد والتقليد في علم الأصول

وهي أمور:-

الاول:المقدمة:-

وهي حول الكلام عن مفردات ألفاظ عنوان هذا البحث ومعانيها عموماً في اللغة العربية، أو ما يترجمها بحق إن قبل بالنحو الدقي العرفي في اللغات الأخرى، أو كان من نفس اللغة العربية الشبيهة، كما في حالات نقل روايات بعض محددات التعاريف العامة بالمعنى، حينما لم يتمكن من حفظ النص المسموع قبل الدخول في الاصطلاحيات الخاصة، ابتداءً لعلم من العلوم، دون تعيين أي علم منها مقدماً على آخر، وإن كان منها في الحاضر العملي - من حيث النتيجة الآتية له على الأكثر - أنها الدينية كالكلامية العقائدية والفقهية الخاصة التي يجمعها مع سابقتها جزئيات العقائد غير البديهية، أو ما اختلف فيها منها الأصول من قواعدها المعدة معهما منطقاً خاصاً للفقه وما يتبعه من فرعيات تلك العقائد ومما يجمعها مع سابقتيها في حالة إمكان بل حصول استخدامها للقواعد الفقهية إلحاقاً لها في الأصول بقواعدها الخاصة من أبواب الاجتهاد والتقليد - فردي عنوان البحث - والاحتياط - الملحق بهما - حين الدخول في الاصطلاحيات لكل منهما بحسبه.

الثاني: موارد ذكر هذه العلوم الثلاثة

وهي في العلوم الثلاثة على الأقل ولو للاشتراك الجزئي فيما بينها، وهي (الكلام

ص: 383

والفقه والأصول)، وعدم ضمان ذلك بدقة في بقية العلوم.

فإذا لم تكن العناية اللغوية العامة - في فوائدها العمومية الشاملة لجميع العلوم والمعارف الأخرى في البداية دينياً وإنسانياً عادلاً وسلوكياً أو نحوها في هذه الحياة التي هي أم الاختراعات والابتكارات ونحوهما -

حكرا لعلم على علم وحرفة على حرفة ونحو ذلك، لأجل الاستفادة ولو بعض الشيء من موارد الاشتراك فيما بينها قلت أو كثرت، لأن (العلم بالشيء خير من الجهل به).

وإن خصصنا البحث في الثلاثة المشار إليها، لأجل الوصول إلى الغاية الاصطلاحية المتقاربة في كل منها، لصالح عنواني البحث، وإن تفاوتت دقياً بعض الشيء بين كل منها كذلك وبما لم يضمن ذلك دقيقاً إمكان تلاقي بقية العلوم والمعارف والحرف الأخرى على موحد مع الثلاثة الخاصة المشار إليها.

لذلك كتب الفقهاء في بدايات فقههم هذا البحث للناحية الخاصة بها في ذات هذا الفقه، وقد كتبنا وحاضرنا خارجاً ما أدى إليه نظرنا القاصر في تعاليقنا المبسوطة على كتاب العروة الوثقى معهم وعن عنواني هذا البحث مع الاحتياط على ما فصلناه هناك.

كما كتبنا وكتب المتكلّمون هذا الأمر في أواخر البحوث العقائدية لما يناسبها.

وهكذا نحن الآن نعيد الكرة منا معهم في البحث الخاص عن الموضوع نفسه، وعلى الأخص أيضا معهم عن علم الأصول وبما لم يعهد شيء من ذلك عن البواقي بالنحو المقارب أو المتقارب الذي ذكره علماءنا قدس سره ومن سار معهم أو خالفهم في بعض النواحي من الآخرين، إلا عن بعد عن المألوف من اصطلاحياتنا الخاصة من تلك العلوم الثلاثة

فالاجتهاد والتقليد والاحتياط التابع الذي محله في الجزء الأخير من دورة أصولنا

ص: 384

هذه، وفي قسم الأصول العملية المقررة للشاك في مقام العمل، وإن جاء ذكره السريع الآن لبعض من الاقتضاء

نقول عنها للتوضيح بأن كلاً منها له علاقة تجاه جميع العلوم والمعارف والحرف بالنظرة العامة لكل منها لغة مع العلوم الثلاثة الخاصة المشار إليها.

لكن إذا خصصنا هذه الأخيرة بارتباطها بأمور الاتجاه الديني - مع التفاوت البسيط المذكور فيه بالمباشرة أو التسبيب دون غيرها، وإن اختار كل من أصحاب كل من مفردات ذلك الغير، لغرض خاص في نفسه، سواء تقاربت معاني مفرداته أم تباعدت عن بعض كل منها كلياً أم جزئياً في معاني ما بينها لنفسه أو مع بعض ما يشابهه في القرب أو البعد، طلباً للمصطلح الخاص خروجاً عن الشمول اللغوي بلا تميز -

لابد أن تتفاوت تلك الدينية الثلاثة في كلّها أو بعضها كلياً أو جزئياً عما لم يتقيد معها من تلك العلوم والمعارف والحرف الأخرى، من حيث قوة علاقة تلك الثلاثة بالاصطلاحات الدينية الخاصة بها مع بعض القيود المسببة للاشتراك فيما بينها ولو يسيراً أو بالواسطة، دون ما كان من أفراد ذلك الغير من تلك الأحوال ما هو بالنحو الأخف أو حتى ما كان قد تحرر عنها وعن قيودها كثيرا جدا.

الثَّالث: الاجتهاد والتقليد والاحتياط في اللغة مع موارد الاشتراك العام فيما بينها كذلك

فالاجتهاد المأخوذ لغويًا عاماً في قواميس اللغة إذا حصل من (عموم بذل الجهد) مع دخول جميع مصاديق الأشياء مهما تفاوت بعضها عن بعضها الآخر، قبل تشخيصها بمشخصاتها الاصطلاحية من كل العلوم والمعارف والحرف وغيرها.

والتقليد المأخوذ كذلك فيها أخذه ب- (مطلق الإتباع والمحاكاة في كل شيء لفظي

ص: 385

وعملي)، مما مضى ذكره ممن يعقل أو لم يعقل، وعن قصد أو غير قصد، كحصول بعض من ذلك حتّى من الببغاء أو الطيور الناقلة والقردة المتعودة والكلاب المعودة حتّى عن طريق الاكتشاف بالشامة الذكية والخيول المعلمة على العودة إلى إصطبلاتها ونحو ذلك، من غير ما بين أهل العقول في عمومياتهم الاعتيادية قبل اتخاذ الاصطلاحات الخاصة لدى جمل جماعاتهم فيما مر ذكره لصالح العلوم.

والاحتياط المأخوذ كذلك - في عموم ما مر ذكره زيادة أو نقيصة أو توقفاً عن اتخاذ أي قرار من التعقل الابتدائي المستقل أو غير المستقل - من (مطلق التحفظ)، ومنه المحاكاتي الإضافي لما يصنعه الغير ولو تنسكاً أو تزهداً ،زائدين، أضراً أم نفعاً، لعموم التجربيات المستكشفة للأشياء التي قد يراد معرفة حقيقة ما يصح اتباعه عموماً، عما لا يصح قبل الاصطلاحات، ولو لما في خصوص العلوم الثلاثة المذكورة، فضلاً عما يخص علم الأصول من بحثنا إن كان يناسبه دخول معنى الاحتياط فيه مع خطورته في طرف التطرف الصناعي المبالغ في دخوله في عالم الإثبات، مع أن العكس هو الأضمن.

الرابع:موارد الحاجة الملحة

وهي الابتداء عند تعريف الأشياء من كل شيء مما مضى قبل الاصطلاح الخاص له من الناحية اللغوية العامة إلى الاجتهاد والتقليد وحتى الاحتياط في مقامات ورود تعقله ما عدا علم الله ورسوله صلی الله علیه و اله والأئمة علیهم السلام في كثير من القضايا، وبالأخص دائماً أو غالباً عند إدخالها في مقاماتها الاصطلاحية.

فمن الحجج المعتبرة عند كل العقلاء - حول جميع الأشياء المشار إليها، سواء في عموميات المعاني اللغوية لها في كثير منها ما عدا الشفهيات غير المحرزة، وكما فيما تعمله البهائم أو خصوصيات جميع المعاني المصطلحة الآتية -

ص: 386

هی الاجتهاد والتقليد في موارد التعقل لأمورها ، للكشف عن المعنى الصحيح منها، لمفارقة غيره من موارد اللغة العامة والخاصة الآتية، ومنها ما يتعلق بالعلوم الثلاثة المذكورة (الكلام والفقه والأصول).

بل وحتى الاحتياط في مقامات ما يمكن قبوله منه إلا بما يختص به الله تعالى من العلم، لأنَّ علمه عين ذاته لعدم معقولية الاجتهاد والتقليد بالنسبة إليه.

وكذا الاحتياط الذي يلازم تعقله من عدمه عنده أنه هو التردد المستحيل عليه.

وكذا النّبي والرسول الخاتم صلی الله علیه و اله، لأن علمه من وحي يوحى وليس من عنده، وإن لم يكن متردداً ساعة من الساعات في أموره الخاصة بسبب عصمته الذاتية، كما قال تعالى «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى»(1)، لنبوته ورسالته اللتين نالهما بسبب كماله.

وكذا الإمام علیه السلام الحافظ لما علمه النبي صلی الله علیه و آله من أمور المنايا والبلايا وكل شيء بنحو العلم الإفاضي الإلهامي الذي لا اجتهاد فيه ولا تقليد لأحد يعتريه، لمصالح الأمة، لوضوحهما التّامين بالنسبة إليه لعصمته كذلك، وإن علم الأمة كيف يحتاطون ومتى يحتاطون ونحوهما عند الحاجة إلى شيء من ذلك ممن هم دون أهل هذه العصمة.

حيث لا تردد في ذهن النبي صلی الله علیه و آله الإمام علیه السلام حتى يصح منهما الاحتياط المبنى عليه عادة، فلن يكون الحديث عنهما، وعن ما يلحق بهما من الاحتياط إلا في الذين لم يعصموا عن الخطأ كما مرّ، وإن أصابوا كثيراً في اللغويات والاصطلاحيات المقاربة لها كلما أتقنوا معارفهم.

ومن أدلة ذلك - وفي مثل خصوص العلوم الثلاثة الدينية - أنَّه لم يرد لفظ الاجتهاد ولا التقليد ولا ما به بعض معانيهما من معلومات النبي صلی الله علیه و اله والإمام علیه السلام،

ص: 387


1- سورة النجم / آية 4.

لعصمتهما الذاتية التي منها عدم ذلك التردد الداعي للاحتياط لشخصيهما الهامين على ما أفادته آية التطهير وغيرها، بما لا يتناسب مع الاجتهاد أو التقليد إلا بتوجيهاتهما الأمة المحتاجة لأمور من ذلك هي كيفيات لسد تلك الحاجة بالأخذ بأحدهما اجتهاداً أو تقليداً لغير أولئك المعصومين علیهم السلام منها لتردداتهم وأحوالهم الفكرية غير المستقرة، وإن وفق البعض غير المحدود منهم إلى شيء من العصمة الإكتسابية.

الخامس:معنى الاجتهاد الاصطلاحي

والفرد الأول من فردي عنوان البحث مع ثالثيها الإضافي أعلاه وهو (الاجتهاد) لو اصطلح عليه بما يخصه من الأمور الدينية الثلاثة المذكورة مثلاً، وهي القابلة للاشتراك فيما بين كل منها ولو في الجملة البسيطة لأن لكل منهما اصطلاحه الخاص به، كما في الأمور العقائدية الفرعية غير البديهية وغير الفطرية في ضرورية الاعتقاد بها وكما في الفقهية المحضة ومعها القواعد الفقهية المتعارفة، وكما الذي يلحق بهما وهو العلم الذي يسمى بمنطق الفقهيات من علم الأصول، الجامع لكبرويات علم المنطق العام إذا تطابقت مع تلك الأصول أو بعضها من قواعدها الصغروية الخاصة التي هي ككبرويات لها في نفسها.

وهي المعدة كذلك لتطبيق تلك القواعد الفقهية إلحاقاً لها في الخدمة بالقواعد الأصولية الخاصة من اللتين يمارسهما عادة معاً الفقيه المجتهد، المراد من اجتهاده الاصطلاحي خصوص معنى بذل الجهد المخصوص، والمتعين بالنموذج الاستنباطي المتعارف - عند أهل العلوم الثلاثة المتداخلة دينياً - بما ذكرناه من الإيجاز للمعنى المشترك خاصة من تلاقي مواردها بالمباشرة والتسبيب بالواسطة للمعنى الذي يقوم به الفقيه الجامع للشرائط والمأهلات ممن لا يصح منه - إن كان قادراً على القيام بهذا

ص: 388

الدور قوة وفعلاً بنجاح مثمر - الرجوع إلى غيره من المجتهدين الكفوئين والتقليد له، كما هو المحدد في مثل البديهيات والفطريات الضرورية، كالعقائد مثل التوحيد والنبوة والمعاد.

وكذا النصوص الرئيسية ومحكماتها التي لا اجتهاد اصطلاحي دقيق فيها، كوجوب أصل الصلاة وأصل الصوم ونحوهما.

ويلحق بها وبما سبقها من ضروريات العقائد كالعدل والإمامة والأخلاقيات التي لم تخرج يوماً عن حالة توسط ما بين المعقول والمنقول من الإرشاديات والمتواترات عند أهل الحل والعقد من العقلاء، لوضوح أمر فهمها عند كل فرد من المتعلّمين المنصفين.

وإنما الاجتهاد الفقهي الاصطلاحي الدقيق - سواء اشترك إجمالاً مع غيره أو انفرد - فعن فروع أساسياته ومستحدثاته الجديدة، وما استحدث لتلك الفروع وفيها من كل حين بانحصارها في ظواهر الألفاظ من آيات أحكام الكتاب وروايات السنة الشريفة، وبعمليات إرجاع المتشابهات من تلك الآيات إلى محكماتها، وبعد قبول محکمات آياته عما تردّد أمره في صحة بعض الأحاديث بعد عرض حالاتها على تلك المحكمات وبعد تدقيقات جانبية أخرى ليس إلا.

إضافة إلى فرعيات العقائد المذكورة آنفاً ومعهما مضامين القواعد الفقهية والأصولية المعتمدة التي يتصدى لها عادة - ولإدراك حاق نتائجها - المجتهد المتمرس عند التطبيق اللازم، سواء في المساعي القديمة أو الحديثة، وإن كان الاجتهاد - في القديم وفي حالات قرب الإسناد وتوفر الروايات قبل اندثار ما اندثر منها - أخف مؤنه

وبعد ذلك تكون البديهيات من ضروريات العقائد ونصوص الفقهيات التي تخف فيها النظرة الاجتهادية المذكورة، أو لا تكون حينما لا يختلف في أمرهما من

ص: 389

العقلاء اثنان، أو كما عرف بينهم أن (توضيح الواضحات من أشكل المشكلات).

وكذا مفاهيم بقية العلوم والمعارف والحرف الأخرى إذا تقبلنا التفكير في القرب من احتمال تعقلها لو أمكن، إما لغير المتدينين وإما للبعيدة عن عالم التدين في أساس أمورها - وإن كان أصحابها من أهله، أو من خلصهم بالنحو الأكثر أو في كثير من أمورها -

فإنها لن تنسجم ولو من حيث النظرة الأولى إلا من عموم وإطلاق مفاهيمها اللغوية التي لا ينعدم بالكلية ما بينها وبين الاصطلاح حتى من بعض الجوانب الجزئية، كما لا يخفى على بعض المتتبعين، ولو كما لو أضيف إليها شيء من التدقيق الاصطلاحي الأخف مما يشترطه المتدينون والماهرون في الأدبيات المقارنة بين اللغة والاصطلاح، كحالات الإخلاص والصدق ونحوهما في التعامل من مصاديق الأمور الإنسانية حتى لو كانت صادرة وبنحو مألوف من غير المسلمين، وبنحو من الدقة الفلسفية التي لا يطيقها المتدينون في عرفياتهم التسهيلية في شرع الله تعالى.

بل قد عرف في الفقه وملحقاته بأن من مظاهر ذلك عند التطبيق - ولإبراء الذمة التامة - أنّ الاجتهاد بمعنى استفراغ الوسع عند متابعة الأدلة وانطباقها على مدلولاتها المعينة التامة، لتحصيل الظن بالحكم.

وهو نوع من التدقيق المشابه لما يمارسه بعض الفلاسفة.

ولكن وإن صح أو شيء منه في الإجمال لو ضبطت مقدماته وكان الناتج على أساس من الظَّن المتاخم للعلم دون مطلقه مع البعد الدقي عن الفلسفة ومراميها الزائدة، حينما كان المراد هو إبراء الذمة وكما عرف أن (اشتغال الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني) بنحو المطابقة للعرفيات الشرعية.

إلا أنه أورد على مطلقه أنه لم يرد لفظه على حد معروفيته بين الأصوليين والفقهاء في الكتاب والسنة، ولم يكن مألوفاً في تعابير قدامى أعلامنا، ليتداول أمر

ص: 390

استعماله في كل مورد حتى مع الظن المطلق.

وإنما عرف ذكره بينهم مأخراً على نحو الغالب، ولوجود اليقينيات والمسلمات في مقابل الظن حتى الخاص منه إن توفّر الأقوى، مما سبب عدم الطائل في النقض والإبرام في تعريفه والاهتمام به بهذا المستوى، لأنه لا يزيد على كون الاجتهاد بمعناه الشرح الاسم لا غير.

ولذا كان الرد منا ومن الآخرين في خلاصته بأنه لا مانع من تطبيق الاستفراغ إذا أريد منه تحققه في الغالب على النحو العرفي لا الفلسفي، ودون ما نتيجته الإيصال إلى خصوص مطلق الظَّن، وإلا فلا انحصار فيه بذلك الظن مع توفر الظُّنون الخاصة في إنتاجاته، ولما مر عن تيسر اليقينيات والمسلمات في الطريق.

ففضل بالتالي تعريفه بدل التعريف الماضي جمعاً للإفراد ومنعاً للأغيار بأنه (استفراغ الوسع لتحصيل الحجة على الحكم) على ما مضى ذكره من التدقيق في بحوث الحجة، مما يكفي لعدم شمول موارد المعذورية في التعريف الماضي في درك الواقع، لوقوع بعض الأخطاء عند المستفرغين.

وبعبارة أخرى بأنه (بذل الطاقة في تحصيل المسؤوليات الشرعية من الأخبار المعتمدة الشَّارحة للغامض من آيات الأحكام).

وما نسب لبعض العلماء من تحريم الاجتهاد أو مطلقه - ولعله بعيداً عن بعض الفئات الأخرى المتعصبة لصالح ترك الاجتهاد في عموم الأخبار ولاستمرار إبداء حسن الظَّن في صفوة العلماء - فما هو إلا للابتعاد عن القياسات الممنوعة وملحقاتها.

وأمّا الاجتهاد في الأصول فاكتفوا منه بالإحاطة بالمسلّمات والمشهورات المعتمدة عمليا بين بين العقلاء ء من علماء الاختصاص، وما اعتبر كذلك بين أهل الأذهان المستقيمة ومن الأقرب دينياً وفقهياً من دقة عرفياتهم التورعية دون الدقيات الفلسفية

ص: 391

وغير البعيدة عما مر من التحقيق في جزئنا الأول من كتابنا (مساعي الوصول) حول كون القدرات التبحرية الفقهية للمخضرمين الورعين من فقهاءنا يكون أرجى قبولاً مما يسعى الصناعيون له من الأصوليين الذين وصل مجهود بعضهم إلى مستوى تفسير الاجتهاد بالأعمق من معنى شرح الاسم، حتى أوصلهم بالنتيجة الفعلية إلى ما وصل إليه القياسيون حتى مع وجود بعض الفوارق وما أكثر من وصل منهم إلى مخاطر الحافة المرفوضة من ذلك.

وعليه ففي أمور التشكيك من أمور ما عدا المسلمات والمشهورات المعتمدة في إنجاحها عملياً لا يعبأ بها .

السادس:التجزي والإطلاق في الاجتهاد

لابد من كون الاجتهاد عند التجربة والتمهيد للتّدرب عليه أو عند الابتلاء الجدي للمكلف ببعض مسائل الفقه الشائكة عنده طالباً حلّها مع تمكنه العلمي منه - كما في بدايات نشاطاته التطبيقية عند المراهقين من طلاب الحوزة، أو من كان مجتهداً بالقوة غير مستنبط فعلاً سابقاً لحكم من الأحكام مع احتمال فوزه بالنتيجة التي يمضيها له بعض الاصطلاحيين -

لا يصدق عليه حسب العادة الابتدائية إلا متجزئاً، لمثل مسألة أو مسألتين أو أكثر، دون أن يكون مستوعباً لجميعها حتى كإلهام الملهمين الموصوف علمهم طبيعياً إلهياً بخصوص علم الأئمة علیهم السلام، وإن علموا حواري أسلافنا طرق الاجتهاد وقواعده، حتى نبغ بعض منهم ومن غيرهم في الوزن الأدنى بالذكاء المفرط، كأهل القفزات العلمية، حتى كاد أن يكون قريباً من إلهام الأئمة علیهم السلام.

فكانت المسئلة والمسألتان والثلاثة تتوسع أفق معالمها في أذهانهم، بسبب ما عرفوه من القواعد، فتتولد عنها عن طاقاتهم استنتاجات مسائل كثيرة وجمة غفيرة.

ص: 392

إلا أن هذا نادر جداً لا يعول عليه بين الأعم الأغلب، ممن لم يكن فيهم ظاهراً ووجدانياً، إلا أنهم من ذوي الذكاء التعليمي.

ومع ذلك ليس هو بالحجة المألوفة.

فالمهم حينئذ هل يكون التّجزي وحده في مطلق الأمور كافياً للمكلف نفسه إذا صدق عليه الاجتهاد؟

لتيسير الأمور لنفسه أو نفسه وغيره ومن خصوص ذوي الذكاء التعليمي دون الإلهامي الذي قبلت حجيته قائمة في الأئمة علیهم السلام مع الذين كانوا يوحى إليهم سابقاً كالأنبياء والرسل علیهم السلام وفي الكيفية والكمية التي لا تتوازن كثيراً مجرداً في الفرد الواحد عادة أمورهما الفكرية بين الشدة والضعف والقوة والخفة ما دام من أهل الذكاء التعليمي.

لكثرة الخطأ والاشتباه في بني البشر، فضلاً عن جميع الناس من غير المعصومين ذاتياً علیهم السلام وفي جميع العلوم والفنون والصنائع، فضلاً عن الأكثر منها حساسية من أمور المؤمنين من التكاليف الخاصة بين الحلال والحرم - مما بين براءة الذمة وانشغالها - وهو الفقه العام والخاص مع مبانيهما الأصولية بمبادئ التجزي عن كل الفقه.

فلم يكن معوضاً في المسئلة والمسئلتين والثلاثة مع محدوديتها وعدم اتساع أفق مبانيها إلى ما يرتبط بالمسائل الكثيرة ويسد حاجة أكبر عدد من المكلفين.

كيف وقد يكون المجتهد المتجزي الواحد متردداً في بعض مسائله بين السلب والإيجاب، أو من تثار ضد فكره من زملائه الطلاب عند المناقشة بعض الشبهات، ولم يثبت على فتوى واحدة دون الركون إلى تعاليم قواعد الأئمة علیهم السلام الموسعة للأفق الفكرية، ولما يفيد أكبر عدد من المسائل المختلفة وللأبواب المتعدّدة، فضلا عن اختلافات بقية الآخرين من ذوي الأفكار المشتتة.

فلا استحضار للجميع عن خصوص المحدود من التجزي، ولا تعويض به عن

ص: 393

الجميع، إلا إذا كانت قابلية القوة الماهرة والفعل الناجح في أداءه عند المجتهد تتشكل في تشعبها في نفس المسئلة والمسئلتين والثلاثة بالنحو الذي يتبعه الفقيه المطلق بحدة ذكائه وبحسن ،تصرفه، كمثل مطابقة العلة مع معلولها، أو تطبيق القواعد المقررة للمقام، ليطمئن بقول عمله، فضلاً عن عمل غيره مع نفي الحجية للإلهامات إلا من أهلها المعصومين علیهم السلام، وإن ندرت جدا بعض المصاديق من غيرهم.

وعلى فرض الرضا بما قد يستغرب من صدق بعض ما لم يكن عن القواعد المألوفة، أو أدعي حفظ كل الفقه مع أدلته مع ندرته البالغة لكونها غير مضمونة النجاح إذا لم يكن ذلك عن الإلهام لصالح ما يبتغيه الفقيه المطلق.

فلابد من تقدمها على الحالة الأولى لو لم يتيسر الأقوى، سواء استحضرت نتائج هذه الاستنباطات في الذهن أم كان المهم تيسرها حتى مع تحضير مصادر ذلك المتعارفة الخاصة للتسنيد والتحقيق.

وإن تيسر الأقوى والأوسع فهل المراد من ذلك مع مصادره أنه مصادره أنه هو كل الفقه من أوله إلى آخره حتى غير المسائل الإبتلائية في مثل الغيبة الكبرى للإمام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف؟.

علماً بأن غير الإبتلائية حسب العادة هي المجمدة، لتوقف البت بأحكامها، أو جهلاً بمداركها لحين ظهور الإمام المفدى عجل الله تعالی فرجه الشریف للكوارث الطبيعية وغيرها المأثرة على بعض المصادر الإسنادية للاستعانة بأجوبته الشريفة الشافية على مغلقاتها بعد ظهوره بفارغ الصبر عجل الله تعالی فرجه الشریف.

فهذا لا فائدة فيه، إلا بلزوم السعي الحثيث لتحصيل خصوص الإبتلائيات الأوسع مما مضى.

وعلى فرض كونها لو أمكن تحصيلها وتحقيق شيء منه فعلاً فسوف يشكل الأمل به تقوية لفعلية الاجتهاد المطلق الذي يحرز منه تقدم صاحبه في المرجعية على سابقه، سواء استحضر جميع الأمور مع الأدلة، لأنه قوي الحافظة، أم كان مأهلاً للإحاطة

ص: 394

بها مع تيسر مقدمات ذلك المعتادة من المصادر، لندرة استحضار كل النتائج مع الأدلة لو ضعفت الحافظة، أو قلّت العناية بذلك، للاكتفاء بخصوص الأمور الإبتلائية المشهورة مثلا.

وإن كان هذا النوع من التهيؤ غير خارج في ظاهره عن مجرد القوة دون الفعل، لكن مع ضمان نجاح الفعلية مع تيسر المقدّمات والمصادر بسرعة الانتقال من الثبوت إلى الإثبات، لا دون ذلك، وهي المسماة عندهم ب- (الملكة الاجتهادية) متى ما حصل موضوع المسائل الإبتلائية.

وعلى هذا ففي كل المسائل المقبولة في موضوعها والقدرة الذاتية للمجتهد المتجزي والأوسع إذا نجح في استنباطه للحكم الشرعي - وإن لم يكن تجزيه بالكثرة البالغة، مادامت القلة منه لم تصل إلى خصوص مسئلة أو مسئلتين -

لا يبرر له فيها بين أهل الاصطلاح الرَّجوع إلى غيره، إلا إذا أمضى له الأعلم قبول ناتج المسألة والمسألتين، ليعمل هو بما علم.

أما رجوع الغير من العوام إليه فلا يجوز حتماً مع وجود الأعلم الحي الأوسع.

السابع:التخطئة والتصويب

مر الكلام عن حديث التَّخطئة والتصويب - وبما يدور بين الإمامية وبين غيرهم من العامة عند الاجتهاد الذي قد يصح في خصوص ظواهر النصوص مما تتفاوت فيه أذهان غير المعصومين علیهم السلام عند الاجتهاد لا ما تستقر فيه أذهانهم من حقائق تلك النصوص التي لا يصح الاجتهاد فيها ، لوضوحها عندهم، فضلاً عما عند المعصومين علیهم السلام إذا كانت اجتهاداتهم متطابقة مع ما يصح أو يلزم العمل به بين محققي الأصوليين، أو عن شيء لازم من الحديث عنهما -

في الجزء الأول من بحوثنا الخارجية الفقهية، وما مر من تعا ليقنا المبسوطة على

ص: 395

العروة الوثقى تحت عنوان (الاجتهاد والتقليد والاحتياط) وباللسان الفقهي.

كما مر شيء منه عن ذلك أيضاً ومما لا يخلو من الفوائد في أواخر الجزء الثالث الماضي من كتابنا (المساعي).

وعلينا الآن أن نخوض في نفس المقام ومما لا ينبغي منا تركه، وبما قد يقرب من الأسلوب الأصولي، أو بما يجمع شمل الفقه والأصول وفرعيات العقائد والأخلاقيات من التوابع عند الاجتهاد فيها.

فنقول:-

بعد قول الله تعالى في كتابه العزيز «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ»(1) وأمثاله من الآيات المناسبة الأخرى -

وفي ضمن مقبولة عمر ابن حنظلة المروية في كتاب الكافي أيضاً، وهو (وإنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع ، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله قال رسول الله صلی الله علیه و اله:

حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات و من أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم)(2).

أي وهو ما يثبت منه أن حكم الله تعالى بين فعل الحلال وترك الحرام علم واحد لا تعدد ،فيه والشبهات الباقية التي إن حقق في أمرها وكشف عن واقعها والتحقت بأحد الاثنين الماضيين من الحديث لما كانت إلا من ذلك العلم الواحد.

وفي حديث الرفع المشهور عن النبي قوله صلی الله علیه و اله (رفع عن أمتي......... ما لا يعلمون)(3)، أي لو لم يتعمدوا ترك ذلك العلم الواجب أو اللازم اعتزازاً بجاهليتهم

ص: 396


1- سورة الزمر / آية 9.
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 ص 68
3- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 15 ص 369 .

لطفاً بهم بعدم تركه.

وما نسب مشهوراً إلى أمير المؤمنين علیه السلام من قوله (العلم نقطة كثرها الجاهلون)(1).

وغير ذلك من آثار باب مدينة علم رسول الله صلی الله علیه و اله، وما حفظ حول ذلك صحيحاً من توجيهات أئمتنا الباقين علیهم السلام الحواريهم صلی الله علیه و آله ليعلموا على أي نهج هم مكلفون به في نقل الروايات عنهم ، لو ترددوا فيما بينها أو اختلفت بين راويين مثلاً بالإجابة منهم بمثل الأخذ بنقل أعلمهما أو أوثقهما أو أشهر الروايتين أو العمل بأحوط المنقولين وهكذا.

ويضاف إلى مروياتنا التي لا غبار عليها ما رواه أحمد ابن حنبل وغيره اعترافاً من شديدي العامة من حديث النبي صلی الله علیه و آله قوله (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر )(2)-

لابد من نهج الجميع من الخاصة - وهم المخطئة - والعامة - ومنهم المصوبة- رضوا بالتخطئة أم أبوا على كون كل فكرة علمية نظرية أو حقيقية واقعية يراد فهمها اجتهاديًاً أنّها في النتيجة هل هي الحق أم الباطل؟

بالإجابة عليه: بما لابد أن لا يكون الحق بين جميعهم من ذلك العلم الواحد إلا واحداً لا ثاني له ولن يكون حقاً إضافياً زائداً على نقيضه، إلا بالمعنى الفقهي الإمتناني والتسهيلي التابع للتقلبات الفكرية الاجتهادية المقبولة المرتبطة بالأمور اللفظية الظاهرية الآتي توضيحها قريباً جداً، تفريقاً بينها وبين الأدلة النصية المحدودة بحدود ما نتيجته عقيدة وعملاً إلا ذلك العلم الواحد والحق الواحد، الذي لا يتعدد

ص: 397


1- غوالي اللئالي - ابن أبي جمهور الأحسائي - ج 4 ص 129.
2- مسند أحمد 4: 198 حديث عمرو بن العاص.

مع بقية العلوم الأخرى من تلك المفارقة، لكونها الميالة في طبيعة تكونها عند أربابها تصوراً أو تصديقاً إلى التدقيق الفلسفي، وإن كانت حالة الشك المشروطة بغير المتعمدة بتسبيب أسبابها من تلك الأدلة الظاهرية.

فما قد يعذر أصحابه منه في عدم إصابة الواقع - لا إرادياً فيها ودون أي ذنب اقترفوه بسبب الغفلة أو الاشتباه - بناءً على حقيقة كون البشر في أغلبهم خطائين.

إلا أن ذلك الحق المتناول اجتهادياً على المباني المتفق على صحتها ومألوفية سلامة الناتج من ذلك الاجتهاد الاصطلاحي هو الحق، الذي لا يتكرر ودون أن يتقابل كل منهما مع الآخر بنحو التضاد ، ليعمل بكل منهما اختياريا بنحو التساوي وإن تناقضا حتى في مجالنا الفقهي التابع للأدلة الظاهرية.

إلا إذا جملنا التكرار المستنتج - حتى لو زاد على اثنين من المصاديق وغير المتساوية اختيارياً في مجال العمل ودون التكليف أو التكلف بها - تحت العنوان الواحد، بل تحت العناوين المتعدّدة غير المتزاحمة زماناً ومكاناً ونحوهما كما وعدنا بتوضيحه آنفا جداً، كاختلاف كيفيات العبادة المتعدّدة بين الاختيارية وغيرها، وبين الميسورة والمعسورة، والتفريق بين الاختيار وبين التقية وتبدل الحال من الحلال إلى الحرام.

وهذا المسلك هو الحق المتبع عندنا نحن الإمامية، وبعض غير الإمامية وهم كما نحن من المخطئة والباقون منهم هم الذين يُطلق عليهم بالمصوبة، ولكن لا تدرى دقة بانتمائهم إلى القول بالتصويب في مثل الفقهيات المتنوعة في عناوينها كما مر كيف كانت؟

ولعل قول العامة المصوبة - وخصوصاً في مثل جعلهم تعدد الصواب الممنوع مشروعاً، حتى لو تعددت ادعاءاته فيما ظاهره حتى في حكم متعدد في آن واحد من فقيه لهم متحداً ومتعدداً، فيكلف به المكلفون -

ص: 398

كان بسبب غلقهم باب الاجتهاد بسبب الأزمات الشديدة التي وقعت بين المذاهب الأربعة نفسها أو الأكثر من النسفية والأوازعية أو غيرهما، وإن كان زعيم الحوزة العلمية آنذاك لكل المذاهب مباشرة أو تسبيباً هو الإمام جعفر الصادق بعد أبيه محمد الباقر علیهماالسلام الجمع الشمل ولو للتقريب.

أو كان من ضعف مسالك أولئك الاجتهادية بسبب تمسكهم بالروايات الموضوعة والملفقة، ونحوهما من تماديهم بممارسة القياسات الممنوعة ونحوها،

أو لكون أصحاب المذاهب الأربعة على الأكثر كانوا خاضعين لدين سلاطينهم.

فلابد أن يستعينوا في تصويباتهم البائدة بمثل رواية (اَصْحابِی کَالنُّجُومِ بِاَیِّهِمْ اِقْتَدَیْتُمْ اهْتَدیْتُمْ)(1) ونحوه مما مرردُه في أواخر الجزء الثالث.

ومما يؤسف كثيراً أن عودة الاجتهاد في أزمنتنا الحالية لهم - عند من التزم به أو ببعضه منهم وعلى نهجهم بالتمثيل - ما كان بالمقدار المرتجى بعد هداية الكثيرين إلى الاستبصار إلا بما أثبت في جامعة الأزهر مشروعية الانتماء إلى الفقه الإمامي، ولو من حيث النتيجة حسب ودون تهذيب المقدمات.

مع محاولة بذل الجهود حتى الخفيفة جداً للتكاتف المكافح للتفريق بين المذاهب الخمسة، وفي مقابلها مواجهة الوهابية ونحوها بما كان أقوى.

وعلى كل فالحق الذي لابد وأن ينتصر في وحدويته الواقعية بين جميع الفرق الإسلامية، حتى في مجال استغلال الأدلة الظاهرية للفقه المعروف بامتنانياته وتسهيلياته، وبما وجهناه وما دامت تلك الفرق خطائة ولم تتعمد الخطأ والنسيان أو تسبيب الجهالة لنفسها وللأخرين.

ومما أشار إلى خطورة القول بالتصويب على هذا المبنى الباطل قوله تعالى «إن

ص: 399


1- راجع مصادر الرواية في ص 255.

أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِکمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا»(1) وقوله الآخر «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ»(2) ونحوهما .

وعلى هذا الذي فصلناه يكون الفرق - بين المعلومات المتفاوتة بالتفاوت النظري الاعتيادي وبين الأمور الواقعية التي لها حقيقة واحدة لا تتغير مطلقاً من النسب المنطقية المعروفة الأربعة - هو العموم والخصوص من وجه.

إذ قد تكون معلومات اعتيادية متعددة مخالفة للحقيقة الواقعية الواحدة، وقد يكون واقع غير معلوم، وقد يتصادقان مع التفاوت الاعتباري، حتى دون أن يكون مختصاً بعلم دون علم، وكما قررناه.

ومن الخلط بين عنواني العلم النظري والواقع العملي كان توهم القائلين بالتصويب، حينما تتعدد مصاديق العلم بالاعتبار العنواني فقهياً، مع أن الحكم الإلهي في حقيقته واحد ، والواقع باق على وحدته كما مر.

الثَّامن: الكلام حول التقليد الاصطلاحي

وهو المفرد الثاني من مفردي العنوان الكامل الكبير لبحثي (الاجتهاد والتقليد) الماضيين، وهو الكلام عن خصوص (التقليد) الاصطلاحي

وقد مر اللغوي عنه سابقاً عنه سابقاً في الأمور الدينية من الفقه العام، كالعقائديات الفرعية مع الفقهيات الخاصة ،والمحضة وملحقاتها التي يمارسها الفقيه الجامع للشَّرائط من القواعد الأصولية والفقهية الموصلة للمكلف الجاري على تطبيق نتائجها المستنبطة اصطلاحياً إلى حد براءة الذمة وتمام المعذورية من كل زائد قد يبديه، وهو

ص: 400


1- سورة الإسراء / آية 7
2- سورة الزلزلة / آية .8،7

في الحقيقة بعد الإفهام والتفهم داخل في عموم وإطلاق المسؤولية عند العقلاء، أو ما بقي مما تضمنته دلالات منطوقات ومفاهيم المباني اللفظية وغيرها، مما تشابه بين العلوم الثلاثة وملحقاتها الأخلاقية من تلك المباني، التي لا يحق لأي علم منهم أن يرجع صاحبه إلى غيره في مبانيه، ولو ليطبقها لنفسه، فضلاً عن غيره من المجتهدين وغيرهم إلا في الذي يعمل على ضوء مباني غيره، ليتمرن في النتيجة لينجح في اجتهاده، دون أن يبنى على ذلك لنفسه أو نفسه وغيره دون نية اجتهاد نهائي منه فيها، وليستقل في المباني واستنتاجاتها لنفسه وغيره بعد ذلك عند بدو التوفيق له منه.

وإن كان مقصودنا في الحديث الرئيسي في البداية عن التقليد الاصطلاحي هو ما يدخل الأعم حتى من الأخلاقيات التي ألحقناها آنفاً، للتشابه في المبنائي في الغالب.

إلا أن بقية العلوم والمعارف والحرف قد تتميز مبانيها بالدقة الفلسفية موضوعاً وحكماً كما أشرنا، ويقل بين أربابها التفاوت النظري ولم يشترط فيهم توفر الشروط الثمانية لمرجع التقليد الاصطلاحي لدخول غير المسلمين، ما دام المهم عندهم هو جودة العمل والحذاقة في الأداء، بحيث تندر الفوارق بين صنيع وصنيع من علم واحد ومن أكثر من عالمين ، لو لم يدخل الغش في البين.

فلا تقليد اصطلاحي فيما زاد على العلوم الثلاثة، وما ألحق بها من الأخلاقيات، وإنما هو اتباع وتأييد لما تدل عليه وفي سبيله الطاقة الناجحة التي تتم بأكثر من يد ويد بالنحو المتساوي، وإن استقلت عن الأخرى.

وقد يكون العالم اتكالياً على صنيع مثيله وبما لا مانع منه في مثل هذا التقليد غير الاصطلاحي.

بينما خصوص مباني العلوم الثلاثة - وتوابعها يظهر منها في الغالب بعد النصوص المتوفرة - سوى ظواهر الأدلة التي تتفاوت فيها نظريات مفكري أصحابها وبما قد يرتضي أو لا يمنع.

ص: 401

بل إن فكر العالم الواحد قد لا يستقر على رأي واحد بين حين وآخر.

إضافة إلى لزوم اقتراب المكلفين بهذه العلوم بأنهم بين مجتهدين ومقلدين في ذات الله صاحب الشرع لكسب طاعته ودفع سخطه والثواب الأخروي بعد الدنيوي المترتب على لزوم ذلك الاقتراب أو الارتباط الكامل، بل وجوبه التعبدي المرتبط بالأحكام التكليفية الخمسة، ولذلك اشترطت الشَّروط اللازمة والواجبة الآتية قريباً جداً في المرجع تخلصاً من حرمة التشريع والابتداع.

نعم يمكن أن يقال بإمكان أن يتدنّى أصحاب العلوم الأخرى والصنايع والحرف لما به کسب رضا الله تعالى ودفع سخطه، بل يرجع كثيراً لما ينال به التوفيق الكثير دنيويا لمن لم يؤمن بالآخرة أو الأخروي مع الدنيوي المحرز لمن آمن بالآخرة ولو في الجملة وبمقدار ما آمن به منها فضلاً عما لو كان مسلماً أو مؤمناً وبما تعطيه عدالة المشرع المحرزة ولو بواسطة الأخلاقيات والإنسانيات المقربة بين القبيلين وإن لم يسمّ التقليد بين سائر الزبائن وعلماء هذه العلوم أو التأييد لمعناه كما في المصطلح الشرعي، كقرار الطبيب الذي يمضيه الشارع لعلاج المريض لحذافته وإن كان كافراً موثوقاً به، سواء كان من سائر المرضى أو من نفس الأطباء المحتاج إليهم.

وعليه فالتقليد الاصطلاحي هو جعل العامي وظائفه الدينية والشرعية من فرعيات العقائد ومحض الفقهيات قواعد وفرعيات من العبادات والمعاملات وفرائض وحدود وتعزيرات بعد التأكد من تشخيص المجتهد الجامع للشرائط بالمباشرة في دقة المعاشرة ودقة التسبيب في عنق ذلك المجتهد، ولو ليحتج أمام أهل الحل والعقد من الأتقياء في هذه الدنيا وبين يدى الله في يوم القيامة والحساب بما قادته إليه فتاواه أو إنقاد هو إليها بما توسط له من الوسائط على صحتها عند المطابقة وعلى ما يرام أو فسادها عند عدمها أو كان المجتهد قد جعل تلك الأمور في عنق العامي ليعمل بها أو بتعاون من كل منهما في كل من ذلك أو بعضه.

ص: 402

ويمكن أن يلحق بذلك في النتيجة بنحو الكشف إذا طابق عمل العامي غير المتعمد على المخالفة من البداية بنية الابتداع مع تعليم مربيه ومدربه قصد القربة ولم يقصر مع الالتفات في الفحص عن المرجع الكفوء من موارد الحاجة إليها.

وهو من يصح الاعتماد عليه من المجتهدين الكفوئين وعلى الأخص إن أمضى له المجتهد الكفوء الآخر ذلك حتّى على هذا المعنى وأمثاله في ميدان المعقولات المتفق عليها بمثل لزوم بل وجوب رجوع الجاهل إلى العالم في غير التجربيات المنكشفة معقوليتها بدون معلم، لاختصاص الأمر في المهمات والغوامض من مثل ما حوته بعض عمومات وإطلاقات بعض النصوص، إما مصادفة أو بما لم يخرج عن بعض الأسرار الإلهية في لسان الملهمين في مثل وحي النبي صلی الله علیه و اله و علم الإمام علیه السلام أو من تعلم من الأئمة علیهم السلام من بعض حواريهم فنقل علمهم إلينا كما جاء في قوله تعالى «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»(1)

ويوضح هذا قول الأئمة علیهم السلام في أهمية الرجوع إلى رواة ما عن الأئمة من الحواري والتلامذة المحتكين بهم، ثم عنهم بالأخذ من فقهاءنا الأعاظم وهلم جرا (و اَمَّا الْحَوادِثُ الْواقِعَةُ فَارْجِعوُا فیها اِلی رُواةِ حَدیثِنا، فَاِنَّهُمْ حُجَّتی عَلَیْکُمْ وَ اَنَا حُجَّةُ اللّهِ عَلَیْهِمْ)(2) .

وهكذا ما ورد عن الإمام العسكري علیه السلام من تشخيص واجب الرجوع في اختيار من تعدد من الفقهاء الجامعين للشَّرائط (فاَمّا مَنْ کانَ مِنَ الفُقَهاءِ صَائِنا لِنَفْسِهِ حافِظاً لِدینِهِ مُخالِفاً علی هَواهُ مُطیعاً لِاَمرِ مَولاهُ فَلِلْعَوامِ اَنْ یُقَلِّدُوهُ)(3).

أقول: بجعل اللام في قوله (فللعوام) للاختصاص لاختيار أحدهم وفي انحصار

ص: 403


1- سورة النحل / آية 43
2- كمال الدين ج 2 ص 483 ب 45 ح4 ، الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 ص 283
3- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 131.

الكفاءة أو الأكفئية بناءً عليها تكون اللام بمعنى على.

وللتوسع في المقام مجال أنسب أن ننقله باللسان الفقهي إلى بداية ما كتبناه وقرر لنا من بعض طلبتنا بعض بحوثه العلمية الاستدلالية الفقهية خارج فقه العروة من بحث الاجتهاد والتقليد والاحتياط.

التاسع: شرائط مرجع التقليد الثمانية أو التسعة مع اجتهاده

مقدمة:حول شيء من مرجعية التقليد الاجتهادي

لم تكن مرجعية التقليد الاجتهادي - وشروطها الفقهية المتعارفة بين فقهاء الفقه الخاص أو الفقه العام من فرعيات العقائد أو الأعم - مما يجب الاهتمام بضبط وجودها، وتوفّر العلم بها في أذهان العوام من المكلفين، تجاه من يجب تقليده أو يلزم أو يجوز في خصوص أحكام الإسلام ،ومداركه وفي علم الأصول الذي وضعت قواعده خالصة في تقديم الخدمات الجلى، إسناداً للفقه الخاص والعام.

بل وحتى الأعم الذي لم تتقيد ضوابط تعاليمه لصالح خصوص المسلمين والمؤمنين في علومهم ومعارفهم الإضافية التي لم تخرج يوماً وبدقة في الحقيقة عن فلك الإسلام والمسلمين، أنه قصد منهم هذا التقسد؟

أم لم يقصد في جودتهم المهمة في مهاراتهم العلمية والإخلاص فيها قصداً وأداء.

أم سواء كان علماء تلك العلوم والمعارف من المسلمين، أو من غيرهم لو تحلوا بالجوانب الإنسانية وصفات ما يوافق العدل والإنصاف والصفات الجليلة التي يقر بها الإسلام السماوي العام كالمقررات الطبية والهندسية والفلكية الناجحة والمحتاج إليها من أربابها، والمعمرة لنواميس الوجود البشري المنسجم في الدنيا وغير المنعزل

ص: 404

عدائياً عن مصالح الآخرة.

إلا أن شروط الرجوع من قبل المسلم المحتاج - أو المضطر إذا كان عامياً، أو غير مجتهد إلى غير المسلم العالم أو الأعم كالأطباء والمهندسين والفلكيين ونحوهم.

لم يحتج فيها هذا المسلم العامي أو غير المجتهد في هذه الأمور لتصحيح انتماءه إلى النوع من العلماء وأرباب الصنائع في جودة ما ينتجونه بأكثر من وثاقته بهم وصدق قراراتهم ونجاحها المتعارف غالباً له، ولو بأن يكتفي تأييد مرجعه الشرعي العام إذا عرف تلك الوثاقة وصدق القرار ومورد الحاجة الماسة ليعود التقيد إلى تمام التواصل مع النظرة الإسلامية وطبيعها في توسط المرجع الشرعي المرتبط بالعدالة، ليتكفّل الخدمة للجميع.

لأنَّ تلك العدالة المشروطة مثلاً بتوفرها - في عرف المسلمين وبين خصوص تعاليم فقههم الخاص والعام حتى دون الأعم - لها معنى ادق بینهم كما يأتي، دون أهل العلوم من غير المتدينين بتلك الأدقية، وبالأخص إذا كانوا من غير المسلمين مع إيجابياتهم المتوفّرة الأخرى التي أشرنا إليها فيهم.

ومع ذلك لم تذهب أرجحية تأييد المرجع الشرعي للمسلمين، وإن كان العلماء الآخرون من غيرهم لذلك العامي المسلم المحتاج إليهم ارتباطاً بذلك الإسلام السَّماوي الأعم، وإن كانت العدالة في ديننا الخاتم بنحوها الأدق، لتطمئن قلوب المسلمين والمؤمنين بالنَّحو الأكثر، لأكثرية الأعداء من غيرهم، وبالأخص في هذه الأزمنة الأخيرة.

ولكن بما أنّ الأعم الأغلب في علم الأصول لا يراد غير ما جعل فيها صالحاً للخدمة السائدة بين الأصوليين، وغير ذلك من خصوص ما يتصل بالفقه الإسلامي ولديننا الخاتم والذي يعود بمنافعه لكل شؤون الحياة وتدخل فيها بقية منافع العلوم الإنسانية الأخرى.

ص: 405

فلابد من أن يتسع المراد إلى نفس ما رجحنا البناء عليه آنفاً بنحو التأكيد، لكسب الاطمئنان أكثر ، خوفاً من كثرة مؤامرات أهل الكفر، وبالأخص لو احتيج إليهم، بل حتى من خونة الداخل الإسلامي بمثل التقيد في كل هذه الأمور، بما لو سمحت به من تلك القرارات آراء خيار مجتهدي شريعتنا الإسلامية لا غير.

(ذي المقدمة)

فنقول: قد اشترط الفقهاء للمقام أموراً دلّت عليها أدلتها بالمتابعة والتدقيق الميداني، أو عما تظافروا عليه عن المباني الأصولية، وسنمر على المتعارف منها حدياً بينهم بإذن الله تعالى تباعاً.

وإلى حين ما يتحقق به الإكتفاء الذاتي في شخص المرجعية الدينية والاطمئنان المبرئ للذمة حين العمل الشرعي، على ضوء ما يصح عنها كل منسوب إليها ولو عن طريق معاشرته الكافية الكاشفة عن جميع اتقانياته لجميع مراحل دراساته المطلوبة منه عموما وخصوصاً، ومن كافة عوامل الرقي الكامل الذاتي فقهيا فيها.

مع إلحاق كافة ما يخص ذلك من الأصول المثمرة إلى فترة إنهائيات التدرب المنتج اجتهاديًا وفقاهتياً عن طريق خدمات تلك الأصول للفقه بعد التفوق العلمي الكامل والمستقل بها.

لأنه من الاستقلال فيها وعدم الخضوع فيها لأحد قد تُبتنى مبانيها في استنباط الفقهيات دون أي تقليد للآخرين في كل ما اختصوا بالاجتهاد فيه فقهياً وأصولياً دون ما يزيد

بل بعد تلك الكفائة يحرم التقليد في كلا العلمين للعلاقة مباشرة أو تسبيباً بخصوص أفعال المكلفين شرعياً، مما لم يخل كل منها عن أمور الحلال والحرام، الموقوف أمرها على خصوص إذن الشارع المقدس.

ص: 406

والتجاوز على الأمور المحدودة الخمسة من أفعال المكلفين يكون من التخبط في عالم التشريع والابتداع.

وأما في الاجتهاد في باقي العلوم والصنائع فقد تتفاوت في كل منها أو بعضها بعض الشروط الآتية شدة وضعفاً، كما أشرنا وكما سيأتي الإشارة إلى بعض منها، وهي:-

الشَّرط الأول:العلم الاجتهادي الكامل

وكما مر من التعريف الاجتهادي اللغوي والاصطلاحي عند المقارنة بينهما، لمعرفة ما يجب الأخذ به من المقدار الكامل من علمي الفقه والأصول المتلازمين، لصالح الفقه الخاص من الطَّهارة إلى الدّيات وتوابعه من إضافيات الفقه العام من فرعيات العقائد والأخلاقيات المشمولة بما يحل ويحرم.

لأنَّ غير الكامل فضلاً عن المحض من حالة عدم التوفيق لكامله لا يصلح أن يكون شرطاً لمن يرجع إليه كل من لم يصل إلى الكمال فيه، وبما منه الأشد، وهو صاحب الجهل المحض - و (فاقد الشيء لا يعطيه) - ومعها الأصول المناسبة لتحصيل الاستثمار.

وأما بقية العلوم والمعارف ويتبعها التفنن الاجتهادي في الصنائع والحرف التي قد لا يلزم في بعضها نفس ما يلزم في الفقه الخاص، وما يلحق به مما مر ذكر سبب اللزوم فيه.

وكذلك في الأصول لعلاقتها بالفقه خصوصاً وعموماً، كفسح المجال باختيارية التقليد من قبل المجتهد المتفنن في علومه ومعارفه وصنائعه وحرفه نفسه لمن يساويه أو يقاربه في إنتاج الصحيح، وإن كان أقل اجتهاداً من مقلده فيما اجتهد فيه ولو استحساناً، لما أداه أو تقاعساً عن إنتاج المقدور عليه أو الأفضل أو الأقل من المصنوع المجزي ما دام لم يكن من التكاليف الشرعية المحدودة بحدود كون التجاوز عنها

ص: 407

تشريع وابتداع كما مر.

إلا في بعض ما قد يتوقف عليه من الأمور الطارئة الضرورية ولو بالضرورة الإجمالية المسماة في مرحلتها العنوانية ثانوياً بالواجب الكفائي.

کما في طوارئ الحاجة إلى الطّب وتابعه الصيدلة والهندسة والفلكيات ونحو ذلك، واحتيج إلى خصوص أهل الحذاقة الخاصة دون غيرهم، لندرتهم، ولازم ذلك أن لا يختار إلا الأجدر ، وهو العالم الكامل ولو بحث إمضائي من الفقيه الخارج في مرجعيته عن صلاحيات أهل هؤلاء العلماء الآخرين، ولو من الدافع الإنساني ونحوه.

بل قد تدعو الحاجة الماسة إلى بعض أصحاب العلوم الجديدة الأخرى إلى حد الوجوب العيني إنسانيا بل إسلاميا أو إيمانيا، مما لا علاقة لأمورها في الاستفادة من خبرائها بالتقليد الاصطلاحي، فيجوز لكل خبير أن يتكأ على قدرات مثيله إذا تساوت مبانيها.

ولكن خضوع المرجع الخاص الملزم بالتقيد - في اتباع حنكة أي من الخبيرين سواء اتكأ أحدهما على الآخر إذا تساويا في المعاني أو اجتهدا باستقلال لإنقاذ المحتاج من مشكلته للبناء على رأيه الخاص في هذا الإلزام - لا يعنى جواز رجوعه إلى مرجع ديني آخر، حتى لو ساواه في الإلزام، وإن خالفه في المبنى وإن حصل استئناس من أحدهما بما ساوت فكرته في النتيجة فكرة الأخر.

الشرط الثاني:الرجولة والحرية وطهارة المولد

بما بنوه من الإجماع على كل من هؤلاء على خلاف ما لو لم يتوفّر هذا الوصف الخاص في كل من المذكورين، كما في أنوثة المرجع وعبوديته للمالكين له وكونه ابن زنا، وغيرها من الأوصاف المخالفة للشروط الماضية المجمع على جميعها

ص: 408

بالتساوي، لكون خلافها حتماً لم يحرز منه سلامة المجتمع الإسلامي في ماضيه وحاضره ومستقبله، وبما تعم فيه مصالح فرادى هذا المجتمع.

إضافة إلى نفس كتله وجماعاته ومعها مصالح غيره من كل من يقبل الهداية من الوجهة الدينية السماوية العامة والإنسانية من الآخرين - فعلاً أو قوة - بتمامها إلا مع توفر هذه الشروط.

لأنّ علوم الأئمة علیهم السلام المتعارف وجودها عند الإمامية - في مثل إجماعاتهم المحتج بها في مثل المقام، لكون إضمار الإمام علیه السلام الموجود في أفراد هذا الإجماع والحامل بعلمه الخاص الإلهي، وهو غير ما يحمله الآخرون في عمقه وإصاباته التامة في نجاحاتها دنيا وآخرة ممن معه فيه من العلوم الفقهية الإكتسابية -

تعد أسباب مشروعية وضع هذه الشروط، بالاقتصار على ذكرها كلها كشرط ثاني تشابهت أفراده قبل الشروط الأخرى الآتية، لأن كثيراً ما قد يحظى المتتبعون لأخبار أهل البيت علیهم السلام الخاصة في المقام من علل الأحكام أو حكمها بالعثور على معاني لزوم اشتراطها في المقام، وبالخصوص أو الأخص في تضاعيف الفقهيات والأصوليات المتلازمة معها.

وكذلك القواعد الفقهية المرتبطة بهما في ميدان التطبيق الاجتهادي الاستنباطي وإلى حد التفريعات المحنكة تماماً بكل الحساسيات الاجتماعية الخاصة والعامة للفرد والمجتمع الصغير والكبير والأكبر الإسلامي والسماوي العام وغيرهما إنسانياً كما أشرنا.

فعرف من خلال المتابعة للآثار المعصومية عن حكمة اشتراط الرجولة - لقيادة الأمور العامة الشرعية وللمرجعية - على الأقل، إن لم نقل العلة، وهي كونها في الرّجال دون النساء، وإن اجتهدن مع توفر بقية الشروط فيهن، ولو بنسبة لا بأس بها من حسن الإدارة الأقل مما في نوع الرجال.

ص: 409

وذلك لحماية الدين ومجتمعه الخاص والعام والأعم بكل حذافير حاجة الأمة والأمم إليه عن طريق من كان أسلط الرجال على الإداريات الجامعة والمانعة حتى الفرد الواحد في أمور تعاليم الدين التطبيقية، سواء المفرحة من مقاماتها أو المحزنة لبعض النفوس، وإن أدت إلى شيء من القساوة.

بما لم يقو عليه نوع المرأة العاطفي، بمثل إقامة الحدود والتعزيرات ونحوهما من باب العقوبات المحكمة في الشريعة لإرساء النظام التام.

وما قد تقتضيه المصلحة الدينية - أو دفع المفسدة الأكثر من الحرب، وما يقتضيه دفاعاً وهجوماً دفاعياً أو نحوهما من مثل الصلح أو السلم أو المهادنة.

والقساوة الحكيمة بالمنظور العادل المشار إليها في الرجال، إلى أقل ما فيها في الإداريات -

هي الخشونة وتوفر مصاديقها مما مر، وفي بقية الأعمال الشاقة النظامية الأخرى تتنافى مع ما يتصف به نوع النساء الطبيعيات من الرخاوات والنعومات الأنثوية العاطفية والتي قد تزيد إلى حد كونها الجياشة.

وقد يطلق على دفاعهن عن بعض حقوقهن - في تأهلهن لبعض وظائف الرجال من قبلهن أو من يحميهن من بعض الرجال ومنهم بعض الطامعين بالتحاقهن بهذا الركب للخلط الماجن أو غير الشريف - على أنها وظائف تدعو لها حقوق النساء المهدورة كذباً.

إلا أنه في تصديات الكثير من تصرفاتهن العاطفية وتصرفات أنصارهن فيما يُسمّى ب- (جمعية حقوق الإنسان) أو (جمعية حقوق المرأة) المشهورة اليوم للخروج عن وعلى المسلمات من أحكام الشريعة، وإن كن قد يتحملن مع صفاتهنَّ النوعية الخاصة بعض الصفات الحديدية النادرة أو غير الكفوءة في مقابل الضخامة البشرية للرجال أو حتّى للنّسوة غير الراغبات بهذا الانتماء إلا بمثل الحالة التهورية، أو التي

ص: 410

قد يطلق عليها فيهن معنى الشجاعة المزعومة مبالغة.

وعن حكمة اشتراط الحرية للمرجع المجتهد - إن لم نقل العلة في تشريعه - هو أصالة وجوب احترام علاقة المالك الشرعي بمملوكه كما قال تعالى «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ»(1) لأنه كالأبكم أو الاتكالي كما قال تعالى أيضاً «وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ»(2) وكما ورد أيضاً (اَلنَّاسُ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ و اَنفُسَهُم)(3) إلا إذا أطلق مالكه الشرعي سراحه لصالح هذه الوظيفة الشرعية العامة المطلقة في تصرفات مرجعها غير المحدود بسعة الأمة وكل ما تحتاجه منه من عموم ومطلق التصديات.

وعن حكمة اشتراط طهارة المولد إن لم نتعبد بخصوص قول العلة - هو أنَّ عدمها بمثل ابن الزنا أو النابت من السحت ولقم الحرام، أو كون المولود نبت أثناء الحيضة مع التحركات الهوجاء أو غير الطبيعية، إلا أن يركز على حسن تربيته تربية ضابطة وعلى ما اكتشف مما يلزم أمرها من أسرار الحكم الطبية المهمة المحوجة إلى المحاذير من إهمالها تخلصاً من الشذوذات -

فإن مثل هؤلاء حتى إن نشأوا كمراجع مجتهدين وإن اجتهد كثيراً في تربيتهم بتربية إضافية جيدة، فهم مما قد لا يظهر النفع الجيد دنيا وآخرة إلا لخصوص أنفسهم وأهليهم من المنافع الخاصة.

إلا أنّ الخشية على مصير الأمة وما حولها كما مرّ، فإنها تبقى غير مضمونة النجاة، بسبب عدم استقرار منابتهم الذاتية أو شبهها، ولا أقل من كونها مخيفة في

ص: 411


1- سورة النحل / آية 75.
2- سورة النحل / آية 76.
3- سنن الكبرى ج 6 ص 100 ، سنن الدارقطني ج 3 ص 26 ح 91 ، تذكرة الفقهاء ج 1 ص 489 ، غوالي اللئالي ج 3 ص 208 ح49 ، بحار الأنوار: ج 2 ص 272 طبع الحديث.

مثل صعاب الأمور الدنيوية، وما أكثرها لو أريد ربطها من قبل مرجعها المرشح غير النزيه، بما يوصل الأمة والأكثر إلى سعادة الدارين بما تطمئن به القلوب، وهو مما قد سببه الأبوان وكما ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله (اَلشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَ اَلسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ)(1)، وعلى الأخص لو أردفنا إلى هذا الوارد الوارد الآتي ما يلحق لما يحويانه لو اجتمعا من الفائدة المهمة لأجيالنا المستقبلية الصاعدة وربطنا بينهما، وهو ما روي عن رسول الله صلی الله علیه و اله (كل مولود يولد على الفطرة، فما يزال عليها حتى يعرب عنها لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)(2)، وغير ذلك من الأخبار.

الشَّرط الثالث:البلوغ والعقل

للإجماع على اعتبارهما، بل ببناء العقلاء على اعتبار الثاني أيضاً، لعدم ضمان سلامة استقامة الأمور الشرعية إذا كان فاقداً لشيء من حالات كماله، فضلاً عن جميعها، وإن كان ذلك الفقدان خفيفا فيه، وبالأخص في النقاط الاجتهادية كثيرة التفاوت النظري بين رعيل أولئك المجتهدين من كاملي أولئك العقلاء.

وإن استأنس بعضهم فكرياً لا تقليدياً ببعض إبداعات أفكار بعض الصبية الموهوبين في اجتهاداتهم، كما عرف في تأريخ الإمامية الحافل ببعض أفاضل أبناءهم المجتهدين في صباهم كالعلامة الحلّي قدس سره وفخر المحققين قدس سره والفاضل الهندي قدس سره والنابغة الغريفي قدس سره وأضرابهم، لعدم تكامل أدلة أخذ العوام منهم الأحكام بنحو

ص: 412


1- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 356 ، بحار الأنوار ج 5 ص 157.
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 64 ص 133 ، ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 1 ص 781.

التقليد.

كل هذا ليعد هذين الشرطين بالإجماع المشترك - وبمعونة بناء العقلاء لخصوص الثاني من جهة خطورة أمره - لصالح مجموع الأمة، بل الأمم إذا انقادت تلك الأمور يوماً إلى مثل هذا المجنون الذي اختل عقله، ولو في خفة بالغة من جنونه حتى في بعض أمور قد يأتي التذرع لها، من جهة بعض ما قد ينسب إلى ما يسمونه سطحياً بالدوافع الضرورية.

وبالأخص لو اشترك كل مرجع ممن كان في متناول اليد التعرف عليه في تأييد قرار هؤلاء العقلاء وبناءهم، ولم يتخلف أحد عن اشتراط هذا الثاني، وهو العقل، ولذا جاء في خواتيم كثير من آيات القرآن بمثل قوله «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» ونحوه وغير تلك الخواتيم.

فلابد من عد هذين الشرطين في كل مرجع، أو عاقل قد يعتز بمن تخلف ولو بشيء من ،وصفهما كالمجتهد المراهق المتاخم للبلوغ، أو المجنون الخفيف الحامل البعض المواهب كصاحب الجنون الإدواري الذي لو زال منه جنونه ورجع له صوابه لبقي فيه شيء خفيف منه في بعض الحالات أو ما قد يخيف من حالة الرجوع إليه -

عن أن يتورطوا بتسبيب ما قد يخل باستقامة الشريعة الطبيعية.

نعم لو كان الفقيه المجتهد عاقلاً فجن فمقتضى الاستصحاب - في أمور البقاء على تقليد الميت الطبيعي - صحة البقاء على تقليده في الصحوة الإدوارية، لولا الإجماع على الخلاف.

وهذا الإجماع لم يفرق في صحة التمسك به بين حالة جنونية وأخرى على ما عرف بينهم.

وعن صاحب الجواهر قدس سره إرسال اعتبار جميع شرائط التقليد حدوثاً وبقاءً

ص: 413

إرسال المسلمات(1)

بل ادعى شيخنا الأنصاري قدس سره الإجماع على أن الشرائط المذكورة كما أنها معتبرة بحسب الحدوث كذلك تعتبر في حجية الفتوى بقاء(2)

أقول: وعلى الأخص لو كانت حالة الجنون التي بعد تلك الصحوة الطبيعية الأولى هي حالة الحاجة الملحة للتفكير فيما يصلح للعالم عما لا يصلح، وإن كان أثناء جنونه بعض المواهب المفيدة، كصاحب الصحوة الخفيفة في الإدواري وكان وضع المجتهدين العلماء العقلاء غير مستقر فكرياً.

فلابد إذن من القول ولو احتياطاً بعدم تبني ترشيحه.

إلا إذا كانت الحالة الإدوارية أثناء الصحوة منها تامة العافية، وبدون أن ترتبط بأقل نسبة من الجنون السابق وشهد بذلك العرف الطبي، مع استحضار تمام الخلفيات العلمية المرادة لتلك المرجعية، وبما يضمن جلب المنافع ودفع الأضرار، وبما يشهد به أيضاً عرف العقلاء وذووا الاجتهاد الآخرون معهم، وبما يزيح اعتراض الإجماع المانع، ولو لحل خصوص المشاكل المهمة الطارئة إذا شك في طول قدرات صاحبها الآخر.

وعليه فلا مانع من التعجيل بالاستفادة من تلك القدرات.

وعلى المجتهد المراهق وهو القريب من سن التكليف وهو فيه - لو شك في ذلك وهو يعرف من اجتهاده مانعية الإجماع المذكور بين أصل التكليف مشتركاً بينه وبين ما هو مكلّف به من أمور الحلال والحرام تجاه نفسه ليعمل برأيه أو لا يعمل وتجاه الآخرين ليعرف مدى صلاحيته لهم في رجوعهم في التقليد إليه أو عدمها -

ص: 414


1- تهذيب الأصول - السيد عبد الأعلى السبزواري - ج 2 ص 126.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى - السيد الخوئي - تقريرات الشيخ الغروي ج1 ص 200 عن رسالة في الإجتهاد والتقليد: ص68.

أن يتورع في الإفتاء للآخرين، إما ببث الاحتياطات النافعة أو الإرشاد إلى من يرجح الرجوع إليه منهم وبالاحتياط لنفسه وإن اعتبره المنتمون إليه بالغاً مع عقله مع بقية الشروط لقوله تعالى «بَل الإِنسَانُ عَلَى نَفْسه بصيرة * وَ لَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ»(1)

أما الاستئناس بآرائه المقبولة علمياً ودراسياً لتوليد الفضيلة في أذهان الطلاب والمحصلين فهو جيد وحسن لا ضير فيه ، لابتعاد هذه الحالة عن مستوى حالة التقليد له .

الشرط الرابع:الإيمان

وهو الإقرار بالشهادتين لساناً واستقرار الاعتقاد الجازم بالقلب جناناً والمواظبة على العمل بأركان الدين العشرة وآخرها التاسع والعاشر وهما (موالاة أهل البيت الطَّاهر علیهم السلام ومعاداة أعدائهم).

وهو ما يعنى عدم صحة تقليد من اجتهد من المخالفين الذين لم يجعلوا عليا علیه السلام وأولاده الأئمة الباقين علیهم السلام الخلفاء المباشرين بعد رسول الله صلی الله علیه و آله مباشرة، بل هو من كان قد أنصف عادلاً في اجتهاده على نهج مقررات أصول الإمامية مبتعداً عن مسلك القياسيين، أو من لهم آراء فقهية أو عقائدية شاذة يمكن أن تؤول ولم يطعن أحد في ولائهم ووثاقتهم كبعض أعلامنا وفقهائنا القدامى قدس سره ك- (سلار(2) وابن الجنيد

ص: 415


1- سورة القيامة / آية 14 - 15.
2- الشيخ أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز الديلمي الطبرستاني المعروف بسالار أو بسلّار، من علماء القرن الخامس الهجري، توفي قدس سره في عام 463ه-، ودفن بقرية خسرو شاهي من قرى تبريز في إيران، وقبره معروف يُزار.

الأسكافي)(1)، أو استبصر وسار على نهجهم وطابق استنتاجه ما يقول به الإمامية دليلاً ومدلولاً.

وعد هذا الشرط واجباً أو لازماً لمرجع التقليد بهذا النحو من المواصفات، لضمان سلامة ما يعطي وما يأخذ لنفسه وللأمة، وما كان أكبر على خلاف من كان يحمل إيماناً مستودعاً يأتي فترة ويزول، للمطامع الدنيوية الزائلة.

وهذه حاله خطيرة جداً في مثل من يجب أن يكون ممن (لا تأخذه في الله لومة لائم) ضد نفسه قبل غيره.

وعلى خلاف من لم يحمل الإيمان مع حمله مجرد الإسلام أيضاً وإن لم يكن من أهل النفاق حالته لخطورة التوظف الشرعي بمجرد هذا المستوى، أو حتى لو كان معروفاً بالإنسانيات والأخلاقيات المقبولة، لعدم تأكد ضمان نفس ما يبدو من المؤمن حقيقة، لاختلاف ما يعرف به المسلم فقط وهو (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقد حقن ماله ودمه إلا بحقها، وحسابه على الله عز وجل)(2).

إذ مجرد هذا التعريف لا يفي بغرض ما يحوج إلى تحقق ضمان سلامة الأمة والأكبر عن هذه الوظيفة الخطيرة للفرد وللمجتمع أخذاً وعطاء، وإن ضمن المسلم السلامة بهاتين الشهادتين لماله ودمه وعرضه وكل ما تجرى عليه المناكح والسنن ،أخذاً، لكن لا ضمان للعطاء في مثل هذه الوظيفة منه، وعلى الأخص إذا كان في مئزق ومزلق النّفاق وكما قال تعالى «قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَ لَكِن قُولُوا

ص: 416


1- أبو علي محمد بن أحمد بن جنيد الكاتب الاسكافي المعروف بابن الجنيد من علماء القرن الرابع الهجري. حيث كان من آرائه العمل بالقياس والاستحسانات وغيرها
2- كمال الدين ص 410 ، بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 23 ص 96 .

أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ»(1)

الشرط الخامس: العدالة

وهي التي فسرت بين بعض اصطلاحيينا ب- (الاستقامة على جادة الشرع).

وهي ما لابد أن تكون لصالح ظواهر أحوال الموصوفين بهذا المعنى من مراجع الأمة مستمرة على هذا الدِّيدن، وبنحو كاشف أيضاً حتّى عن أي تخلف عمدي نفسي باطني عنها، من خلال مراقبة النفس الأمارة، كي لا تشطح عن سيرة تلك الاستقامة، بسبب كثرة العوارض المغرية، أو من خلال التعود المفيد على بركات تلك الممارسات الإيجابية الأسمى لصالح ما يرضي الشرع ويدفع سخطه.

لكون التعود على ممارسة الاتصاف بحاله -حتى لو كانت ثقيلة يوماً على النفوس في بدايات الأمور - لابد أن يكون تركه ذا صعوبة بالغة ولو بعض الشيء عليها .

لكن خطورة هذا النحو من الاتصاف قد لا يخلو عن شيء من السطحية، لحاجة المرجع أن يترفع بابتعاده عن مخاطرها لصالح دينه ودين الأمة وسلامتهما دنيا وآخرة إلى المرتبة أو المراتب الأسمى والأسلم ولو إلى شيء محرز من معاني العصمة الإكتسابية بما يلزمه الاتصاف بملكتها غير القابلة عادة على احتمال الخلاف، بل عُدت في أصحابها كأصالة يرجع إلى البقاء عليها عند الشك.

وقد دلّ على اشتراط أصلها للمقام الإجماع، ولعل من أسباب الاحتجاج به عليه عدم كفاية اشتراط الإيمان الماضي معناه وحده لإمكان أن يتصف بعض المؤمنين ببعض الأوصاف المذمومة وتبقى صفة الإيمان فيهم على حالها كما دلت

ص: 417


1- سورة الحجرات / آية 14

على ذلك بعض الأخبار.

بينما المرجع يجب كون وضعه منقحاً دائماً، إلا أن أهل الإيمان والعدالة لا يكذبون والمرجع هو الأجدر في الصدق من حيث وظيفته، للأمانات المودعة عنده للأمة.

ولیت مصاديق هذه المواصفات الجليلة الماضية والآتية وبأفضل تدقيقاتها متوفّرة في أرباب بقية العلوم والمعارف والصنائع الأخرى.

وإن أكتفي فيهم بالوثاقة والصدق والإنسانية، لعدم التمكن دوماً من السيطرة على أفكارهم، لكون بعضهم من أهل الملل والنحل الأخرى، وإن كان التأكيد ثابتاً في تحلّي المرجع بما ذكرنا وبما لا يمكن الانفكاك عنها على الأقل، فضلاً عن رجحان رغبته في الترقي لما هو الأرقى

الشَّرط السادس:مخالفة الهوى

لأن مطابقته في بعض الحالات قد تكون مباحة للفقيه المرشح، لأن نفسه قد ترغب بنفس ما يهواه الغير بلا فرق بينهما من المباحات، ومما قد يخص كلاً منهما كالامرأة المختارة لزواج الغير مثلاً لمواصفات الكمال والجمال ونحوهما، فتمنى الفقيه أن تكون له زوجة نظيرة لها بنحو من الغبطة، فهي مباحة كذلك.

فلا داعي لاشتراط مخالفته لهذا النوع من الهوى.

لكن المخالفة لنفسه على مطلق هواها أزكى لهذا الفقيه، ليمتاز على بعض العوام حتى على مباحاتهم، كما أثبتته إطلاقات الأخبار الخاصة ولو بنحو التمسك بمقولة (حَسَنَاتُ اَلْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ اَلْمُقَرَّبِينَ)(1) عرفانياً.

ص: 418


1- هذه المقولة مشهورة على ألسن الأخلاقيين، ولم ترد في حديث أو رواية إلا ما نسبها بعض العامة إلى أبي سعيد الخراز ، إلا أنها لا تتنافى مع ما يلتزم به أهل العرفان الشرعي. راجع تذكرة الموضوعات - الفتني - ص188 ، كشف الخفاء - العجلوني - ج 1 ص 357.

ولتسهيل كثرة مطاوعة العوام لعلماءهم حتى في التنزه عن بعض المباحات التي قد تكون مكروهة بالعناوين الثانوية، وقد تصل هذه السيرة مشينة عنوانياً بشأن الفقيه إذا تخالف المروءة.

كيف بما لو انتقل هذا التمني من الفقيه إلى الحسد، وهو الصريح في الحرمة، ويلحق به في اشتراط المخالفة لمثل هذا الهوى حسب إطلاق الرواية الشريفة الآتية حتى مجرد تمني زوال نعمة المحسود في زواجه حينما وجد الفقيه نظيرها ولم يتزوجها.

وبهذا المعنى الثاني يكون الحسد وتابعه مخلاً صريحاً بشرف العدالة بكلا معنييها الماضيين إذا فسر التابع بمعنى التجريء المحسوب من المعاصي في نوعه الخاص.

وقد ارتكز بين المتشرعة اعتبار هذا الشرط كثيراً ، إذا كان لأجل توليد العصمة الإكتسابية، وبمثل معنى الملكة المرادة - المفضلة في الفقيه العادل - على معنى الاستقامة على جادة الشرع لشرط العدالة الماضية، ولو عن طريق بعض المكروهات المتزاحمة مع رغبات الآخرين، الذين لا يضرهم فعل بعضها إذا لم يقسوا على أنفسهم بالإكثار منها خوف الانتقال بذلك إلى بعض عناوين الحرمة الأخرى في مثل القضية الواحدة تعمدا مع خبر الاحتجاج المشترط لذلك بقول الإمام العسكري علیه السلام (فاَمّا مَنْ کانَ مِنَ الفُقَهاءِ صَائِنا لِنَفْسِهِ حافِظاً لِدینِهِ مُخالِفاً علی ِهَواهُ مُطیعاً لِاَمرِ مَولاهُ فَلِلْعَوامِ اَنْ یُقَلِّدُوهُ.)(1)

إضافة إلى ما قد أرشد بل أمكن الاستشهاد به بقوة من قوله تعالى على لسان صاحب الوظيفة العظيمة، وهو نبي الله ورسوله داوود علیه السلام «يَا دَاوُودُ إِنَّا

ص: 419


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 131

جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحساب»(1).

أي وإن حصل اللطف الترخيصي نسبياً لبعض الجماهير آنذاك.

وهذه الامتدادية هي التي أعطت التوظيف الأكمل لنبينا الخاتم صلی الله علیه و اله بمخاطبته بأكثر من آية وهي قوله تعالى «فلذلك فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبع أهْوَاءهُمْ»(2)، وقوله الآخر من سورة هود «فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ مَن تابَ مَعَكَ وَ لا تَطغَوا»(3) حتى ورد عن النبي صلی الله علیه و آله قوله (شَيّبَتْنِي هُودٌ وَالْوَاقِعَةُ وَالمُرْسَلاَتُ و عَمّ يَتَسَاءَلُونَ)(4) بعدما تسارع الشيب الرأسه صلی الله علیه و اله الشريف وسأله بعض أصحابه عن ذلك، وذلك لما تعكس هذه السور من أحوال القيامة والمسائل المهولة، فتركت أثراً بالغاً في نفس وروح النبي صلی الله علیه و اله المقدسة.

وكما لا يخفى أن عهد ديننا لنبينا الخاتم صلی الله علیه و آله كدين إرفاق بالأمة كالسابق في بعض الأمور مهما اشتدت المراقبة على أكابرها.

بينما تلك القضية الواحدة التي يمارسها الفقيه المرشح في مقابل أفعال الآخرين ما سمح لهم فيه كفعله للمكروهات، كهجره القاسي لصلاة الليل أو هجره القاسي لزيارة قبر النبي صلی اللهعلیه و اله عند كل مرور للحج والعمرة وهجره القاسي لمثل زيارة الحسين علیه السلام عاشوراء، ونحو ذلك مما ينقلب بالعنوان الثانوي إن لم يكن الأولى بمثل معنى القساوة له وللآخرين أيضاً إلى المعصية المشهودة بين المؤمنين.

ص: 420


1- سورة ص / آية 26.
2- سورة الشورى / آية 15
3- سورة هود / آية 112
4- الخصال للشيخ الصدوق باب الأربعة ح10.

وعليه فنبينا صلی الله علیه و اله ومن سبقه من الأنبياء كداوود علیه السلام والأئمة من بعد نبينا علیهم السلام ويتلوهم فقهاء الأمة الذين يجب أن يطاعوا لتحليهم بما مر وما يأتي من بقية الصفات - وإن لم يتحلوا بهما، بل وبأعلاهما - لضعفت قيادتهم التامة لها، ولهذا عُرف (إذا فَسَدَ الْعالِمُ فَسَدَ الْعالَمُ) استناداً لما ورد عن أمير المؤمنين علیه السلام (زَلَّةُ العالِمِ تُفسِدُ عَوالِمَ)، وعنه علیه السلام (زَلَّةُ العالِمِ كَبيرَةُ الجِنايَةِ)، وعنه علیه السلام(لا زَلَّةَ أشَدُّ مِن زَلَّةِ عالِمٍ)، وعنه علیه السلام - فيما نسب إليه - (مَعصِيَةُ العالِمِ إذا خَفِيَت لَم تَضُرَّ إلاّ بِصاحِبِها ، و إذا ظَهَرَت ضَرَّت صاحِبَها والعامَّةَ)(1)، ولو بمعنى الممارسات للمكروهات غير المحرمة.

ولو أرفق بالأمة ببعض التسهيلات في بدايات طرق هداياتهم ولم يتحل القادة بمعنى الفرض والاشتراط بأعلى المعاني.

فمن ذا الذي سيوفق أو يوكل إليه أمر هدايتها إلى مراتب المجزي على الأقل من الكمال ؟

الشرط السابع:الحياة

فقد عدت للفقيه المجتهد شرطاً لجواز تقليده من حيث المبدأ ظاهراً في لسان الأدلة كتاباً وسنة وسيرة من حيث الإطلاق والعموم الخطابيين ومن أقل ما يعرف الخضوع لهذه الحقيقة غير الخفية بين المتخاطبين ما قد ورد قديماً (خُذُوا اَلْعِلْمَ مِنْ أَفْوَاهِ اَلرِّجَالِ)(2)

ص: 421


1- راجع العلم والحكمة في الكتاب والسنة - محمد الريشهري - ص 453، عن كتاب غرر الحكم - الآمدي - 5472 ، 5483، 10674 ، شرح نهج البلاغة: 20 / 322 / .689
2- غوالي اللئالي - ابن أبي جمهور الأحسائي - ج 4 ص 78.

بل بما لا مساواة في هذا بين المأخوذ المباشر من أفواه العلماء الأحياء وبين المنقول من تلك الأفواه عن عمليات الأموات عن طريقها، وإن استؤنس علمياً ببعض آرائهم، فضلاً عما لو تم التقليد الابتدائي لأولئك الموتى حتى ادعى الإجماع على بطلان هذا التقليد الابتدائي.

فإن تم هذا الإجماع فلا شك في بطلان هذا التقليد.

وبالأخص مع تيسر المجتهدين الأكفاء من الأحياء، فضلاً عما لو تيسرت شيء الأعلمية فيهم، بناءً على لزوم إحرازها في المجتهد على ما سيتضح قريباً جداً شيء من ذلك، ولم تتيسر أو لم تعلم في الأموات وإن احتمل وجودها في بعضهم، كالذي يراد الرجوع إليه في المقام، لفارق القوة والفعلية الاجتهادية في الأحياء عما لم يكن إلا الجمود الفتوائي في آراء الأموات، وإن استؤنس ببعض آرائهم العلمية القديمة.

خصوصاً إذا حلت مشكلة ذات خلفية علمية استدلالية لا يحل معضلها إلا وجدان المجتهدين الأحياء دون الموتى.

وبناءً على القول بعدم توفر هذا الإجماع - أو لم يتوفّر ما يؤكد كماله - فيمكن أن يشمل المقام - بدل المنع المطلق لتقليد الموتى - بقاء ما يدل على صحة التقليد الاستمراري لمن كان مقلّداً لميت ثم مات وبقى مستمراً على تقليده، كما لو لم يتوفّر المجتهد من الأحياء ومارس ما كان مألوفاً له أن يمارسه من الأعمال، أو كان بعض الأحياء ظهر اجتهاده وتعين عليه تقليده، وقال بجواز البقاء على تقليد ذلك الميت في أعماله التي يمارسها، على أن يرجع إلى ذلك الحي في الأمور التي لم يعتد عليها من آراء الميت أو التي يخالفه الحي فيها على الأخص إلا إذا كانت فتاوى الميت عن أعلميته في نظر ذلك الحي على ما سيتضح أكثر في بيان الأعلمية.

وأخيراً لا ينبغي في هذا الكلام عن سائر المجتهدين - في اشتراط حياتهم وجواز

ص: 422

الأخذ من موتاهم في الجملة من الخطائين - أن يقاس عليها ما يخص اقتدائاتنا بنبينا صلی الله علیه و اله و سلم وآله الأئمة علیهم السلام ومعهم الزهراء علیهاالسلام من المعصومين بأمورهم، لما مر أكثر من مرة من الإيضاحات المفرقة بين القبيلين في تضاعيف أصولنا وفي كتب العقائد

الشرط الثامن:حسن السليقة

فهو على نحو ما تنضبط منه أمور الفقيه الاصطلاحي من كل ما يقوم به علمياً وعملياً لنفسه، ولغيره ممن هم حوله والأوسع بما يتحقق به النظام الإداري الإسلامي ،والإيماني ،الشرعيين مع مراعات حقوق وواجبات الأقليات لشعب أو شعوب المنطقة المتقيدة بفتاوى الفقيه أو الفقهاء معه الناجح في عدم فسحه المجال لأن يخل هو بشيء ولا من يحتاج إليه من مجتمعه، مما يخالف شرع الله بعد استنباط الأحكام الشرعية المبتلى بها، لموضوعاتها الثابتة عن الأدلة المتعارفة بينه وبين قرنائه المجتهدين والحوزويين الإمامية وبالتعميم المستقل الثابت على ما أنتجه استنباطه لهذا الحكم أو ذاك.

سواء ائتلف مع القرناء أو اختلف وبدون تزعزع أو تردد، أو أي انفلات عن الضوابط المتوازنة المطلوبة، ما دامت المباني الأصولية من المتسالم عليها بينهم، مع التطبيقات الفقهية العملية والمثمرة عنها في ميدان العمل، وهو أحدهم في الحرص والمبادرة به على ضبط تلك الموازين.

بل وعلى نحو التسالم التام على الانضباط المسيطر على من أرتجي تسامحاً مسموحاً به أو محتاجاً إليه في أدلة الشرع بكل ما تذوقه أهل الفقاهة الأتقياء والمتساوية جهد الإمكان بين القديم والحديث.

لتتبين بين يدي الإمام المنتظر صلی الله علیه و آله من الجميع آثار حسن تلك السليقة الموحدة في معناها، والموحدة للأمة بنظامياتها الروحية بالطاقة المقبولة والمثاب عليها، وبما لا حد

ص: 423

له دون أي خارج في شذوذه - عن مستواها وبنحو ما حاول أو يحاول أن يوحده الآخرون، وإن كان مخلوطاً بين الطبيعي والشاذ ممن سموا أخيراً ب- (أهل الحداثة والتجديد) - بمبان خاصة لهم وشق طرق حديثة أيضاً وإنتاجات جديدة ما أنزل الله بها أو من بعضها من سلطان في كثير منها، ولم تنفصل غالباً عن الإستحسانات والقياسات مع الفوارق أو العلل الناقصة بمثل وصفها أنها كاملة، إذا كان من واجب عقلاء ومتديني أبناء هذا النوع من الجيل الجديد في باقي ما حفظوه لأنفسهم من انضباطهم وإمعانهم في الأمور عن كثب مع ما يبتدعه المجددون.

لوجدوا حقاً أن هؤلاء أو المروجين لهم ممن لم تنضبط فيهم حمية الدين الحنيف مظهرا ومخبرا هم سبب التقاعس عن التحبُّك والتضلع الدقي المعرف للواحد المشخّص لما يلزم مظاهر من حسن السليقة ومخابرها الموصل إلى براءة الذمة المرجوة في الدارين.

وأما النسيان المخل بذلك الحسن وعدم الضبط أو حتى قلته وبالنحو الملفت للنظر، وبدون تصدّي من مثل موظف خاص بواجب التنبيه، لو لم يكن لهذا الفقيه أو ذاك واعز أو واعظ من نفسه ينشط بعضه بعضاً ، ليكون مكتفياً بتنبيه نفسه لنفسه في جميع طبقات مرجعيته العليا العامة إن كانت أو الوسطى كذلك، أو الأقل في مقامه، لو لم يكن النسيان فيه ناشئاً من عاهة لا علاج له منها أو كان مهملاً، وان لم يكن من عدم وجوب اشتراط هذا الشرط ليكون وارداً طبيعيًا في اعتيادية إنتباهاته وغير مبعثر فيما يلزمه من كونه منتظما في بقية توازناته.

إلا إذا جاء عرف آخر محترم يجوز معنى الانضباط المراد أو اللازم إلى ما به الشدّة أو الخفة، وهكذا النسيان.

فهما حينئذ - النسيان وعدم الضبط - أو الأقل مانعان لا محالة عن صحة التقليد، إضافة إلى ما مر من عدم الجواز.

ص: 424

كما وقد ينشأ هذان الحالان من قلة الانكباب على مواصلة التوغل في أعماق المضامين الفقهية التحقيقية مع الحاجة الماسة إلى مواصلته والحاجة إلى نتيجة ذلك، فضلاً عن مذموميّة أهل التقاعس عن السلوكيات المقبولة ولو اتكالاً على مألوفية ما قد يشاع والعياذ بالله عن أنَّ مثل هذا الفقيه الذي من بعض مظاهره ما قد يعطي معنى التقاعس، في حين أنه قد يشاع عنه أنه من أفقه المعاصرين له هو ومدارك مسائله الابتدائية والواقع هو الخلاف-

فلابد إذن من تدارك كل ما يسبب كثرة النسيان وعدم الانضباط مع الإمكان بأي نحو كان.

هذه جملة ما يستحق من الكلام الإجمالي عن مهمات شرائط مرجع التقليد مع استغناءنا عن ذكر بعض التفاصيل من بعض حالات النقض والإبرام بالإسهاب بذكر المهم منها في الجزء الأول من بحوثنا عن الاجتهاد والتقليد والاحتياط علمياً خارجياً عن (العروة الوثقى) باللسان الفقهي.

الشرط التاسع إلحاقاً: هل للأعلمية علمياً لا موضوعياً لازمة في شأن مرجع التقليد

بعد أن ثبت مؤكّداً - في مثل قول الله تعالى من قرآنه الكريم بعد علم الله الذي هو عين ذاته ولم يطلع على حرف من حروفه أحداً من ملائكته وأنبياءه ورسله وخلفاءهم، لاختصاصه بما يحويه دونهم عن الماضي والحاضر والمستقبل -

عن علم عموم العلماء ومطلقهم واقعاً وظاهراً في مقام التشجيع على طلب العلم والرقي فيه ونحوه من التفاوت الملحوظ وجداناً لكل أحد مثوبة بين طبقاتهم الدنيا وإلى ما هو الأعلى من المراتب دحراً للجهل بكل نسبة، سواءاً في التحصيل

ص: 425

العلمي اللدني والإلهامي الحضوري ومأهلاتها مما صنعته الفطرة الإلهية وإن اتصف ببعضها غير المعصومين علیهم السلام من ذوي الحواس الإضافية، ومع المعصومين علیهم السلام من أوحى إليهم من الأنبياء والمرسلين كنبينا الخاتم صلی الله علیه و اله، أو جاء لهم عن التحصيل الاكتسابي ومن الحفظ والذكاء التعليميين -

حيث يقول تعالى «قالَ إِنّي أَعلَمُ ما لا تَعلَمونَ»(1)، ويقول «وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ»(2) وغيره من الآيات المشابهة جملة أو تفصيلاً وغير الآيات من الروايات الشريفة، ومن مقولات المجربين المشهورة (أعط العلم كلك يعطك بعضه)(3)

ويدخل في قدرات الاكتسابيين منهم - وتنوعها تلك جميع من حمل كل العلوم، أو جلها ، أو كثيراً منها ، أو بعضها من أصل كافة طبقاتها المتفاوتة.

وكذلك من حمل في معالمه الدقة وإلى الأعماق تخصيصاً، ولو للعلم الواحد أو العلمين.

إلا أن أهل العلوم المتعدّدة حسب عاداتهم الغالبة في عرفهم - كما لا يخفى - أنهم يمتازون بالسطحية في أمور تحصيلها الاكتسابي غالباً، إلا ما قل وندر في بعض الأمور الدقيقة، حتى لو تعددت من مثل بعض الفطريين في حفظهم وذكائهم، ولذا عرف عما ينقل عن الشيخ البهائي قدس سره قوله (سبقت كل ذي فنون وسبقني كل ذي فن).

كما ودخل حتماً في مضمون الآية الكريمة الماضية الثانية - في نيل درجات الفائزين بأعالي خيار ما يقصده مضمونها - وهم من أوحي إليهم ومن حفظ العلوم لدنياً وإلهامياً حضورياً من الأنبياء والرسل وخلفائهم الأئمة وسيدة النساء بالسِّر

ص: 426


1- سورة البقرة / آية 30.
2- سورة يوسف / آية 76.
3- منية المريد - الشهيد الثاني - ص 169.

المستودع فيها "صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين"، وهم مصادر مداركنا بدون تقليد.

ما قد يظهر سطحيًا لنا لأول وهلة وبوضوح بعض ملامح معنى الأعلمية فيهم كافية وبالأخص إذا قارنا بين الآية الماضية وقوله تعالى الآخر وهو «وَ مَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْم إلا قليلاً»(1)، إعظاماً لعلم الله الأعلى واعتقاداً بعلمية من وصفنا علمهم بما هو الأدنى.

حتى مع شيء من ظهور معنى الخلط بين قبيلي من يمكن أن يطلق على كلِّ منهما من فريقي المعصومين علیهم السلام وسائر الاكتسابيين كلمة (الاجتهاد والأعلمية) فيه، على ما مر توجيهه في الكلام عن التقليد.

مع التفاوت البين بين طبقات كل من الفريقين برسوخ أعلميته من الموحى إليهم كالنبي صلی الله علیه و اله والمعصومين كالأئمة والزهراء علیهم السلام، واستقرارها في أذهانهم بدون أيّ تزعزع، ولطرو ما يزعزع أفكار الفريق الثاني لخطأهم ونسيانهم ونحوهما وتغير معنى الاجتهاد بين الاثنين

إلا أن يقبل خصوص معنى التساوي بين المجتهدين، إذا ما تعددوا من الفريق الثاني إذا تشابهت قدراتهم وفعالياتهم الاجتهادية الاصطلاحية، وإلى حد الملكة في كل منهم.

ومما قد يستفاد من حالة المقارنة بين الآيتين معنى النصح والتنبيه الوعظي لذوي الفريق الثاني بنسبة أكثر من كلا الاثنين بالخضوع، وضرورة التواضع للعلم والعلماء، للنقد عن الجهل وأهمية تجنب الإعجاب بالنفس، وخطورة التسرع بالإفتاء، إذا عرف من نفسه- ومن قرائن ذلك - أنه صار مجتهداً، وبالاحتياط في

ص: 427


1- سورة الإسراء / آية 85

مواطن الشبهات، وبالإكثار من التمسك بوصايا النبي صلی الله علیه و اله و سلم وآله المعصومين علیهم السلام.

ولذلك حقق في أصول الإمامية عدم جواز أن يقلد مجتهد من الفريق الثاني مثيلاً له من نفس الفريق، لطوارئ التزعزع، بسبب بعض الأخطاء.

بينما الفريق الأول هم قدوة مجتهدينا في جميع المجالات بدون أي تقليد منا لهم كما مر وعلى ما سيتضح قريباً بأعلميتهم الراسخة فيهم، لكونه إتباعاً عقائدياً وإطاعة.

ولكن لم يفهم حتى اللحظة العلمية هذه أن إدراك الأعلمية دقيا هل يمكن إحرازه في اجتهاد فقيه نال علومه بالسطحيّات لو حاز علوماً عديدة؟

أم بالدقيات كمثل التخصص بالفقه والأصول فقط؟ وكانت جميع تحصيلاته في معرض أن يصيبها خطأ ونحوه.

أم عن خصوص طريق أهل الوحي والإلمام من المعصومين علیهم السلام المذكورين؟

فإن من ألقى نظرة إضافية تأكيدا لما مضى في شأن علم النبي صلی الله علیه و آله من الآيات على مثل قوله تعالى «وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى»(1).

وفي شأن مثل علم الإمام أمير المؤمنين علي الوصي أبي الأئمة علیهم السلام على مثل قوله تعالى الخاص «قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ»(2) لمدحه علیه السلام دون أعدائه على ما حقق في المصادر المتعدّدة(3)

وفي شأن أصحاب الكساء الخمسة على آية التطهير المعروفة في كونها لهم من

ص: 428


1- سورة النجم / آية 3 - 4 - 5.
2- سورة الرعد / آية 43
3- تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج 11 ص 383 ، تفسير القرطبي ج9 ص336، البحر المحيط لأبي حيان ج 5 ص 401، شواهد التنزيل ج1 ص 400.

شواهد العصمة والكمال والمنزهة لهم - من كل درن جاهلي كما وكيفاً - وأهلهم ليكونوا قاده الأمم.

وعلى قوله النبي صلی الله علیه و آله في حق أمير المؤمنين علیه السلام المشهور (أعلَمُ اُمَّتي مِن بَعدي عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ)(1)، وقوله صلی الله علیه و اله (عليٌّ بابُ عِلمي و مُبَيِّنٌ لِأُمَّتِي مَا أُرْسِلْتُ بِهِ مِنْ بَعْدِي)(2)، وقوله صلی الله علیه و اله (علي أعلم الأمة وأقضاها)(3) وغيرهما الكثير في حقه "سلام الله عليه".

وقول الإمام الصديق علیه السلام مصدقاً ما قاله النبي صلی الله علیه و آله في حقه من النقل (عَلَّمَني رَسُولُ الله ألْفَ بَابٍ مِنَ العِلْمِ يَفْتَحُ لی مِنْ کُلِّ بَابٍ ألْفَ بَابٍ)(4).

وقوله ناصحاً من تحت منبره مرات وبعبارات شتّى متقاربة (سَلُونِی قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِی)(5)

ص: 429


1- المناقب للخوارزمي ص: 82 ، وكنز العمال ج :11 ص 614 ح23977.
2- الجامع الصحيح للتّرمذي ج ص 212 وحلية الأولياء لأبي نعيم ج:1 ص64 ، ومصباح السنة للبغوي ج 2 ص 275 ، والطبري في ذخائر العقبي ص: 77، والغزالي في الرسالة العقلية، والعجلوني في كشف الخفاء ج:1 ص 204 ، وكنز العمال ج : 6 ص 156.
3- الفصول المهمة في معرفة الأئمة - ابن الصباغ - ج 1 ص 195، عن كفاية الطالب - للكنجي - 332 ط الغري.
4- بصائر الدرجات ،192 ، الكافي 1: 239 ، الخصال: 572 ، تفسير فخر الرازي 8: 23، مناقب آل أبي طالب 2 / 36 ، كنز العمال 13 / 114.
5- نهج البلاغة تصحيح صبحي صالح الخطبة ،189 ص 280، المستدرك على الصحيحين - الحاكم النيسابوري - ج 2 ص 383 ، المناقب - الخوارزمي - ص92، فرائد ج2 السمطين - الجويني - ج 1 ص 340 - 341 ، شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج2 ص 286، ج 6 ص 136 ، ج 7 ص 57 ، ج 10 ص 14، ج 13 ص 101.

وعلى ما أثر عن الأئمة علیهم السلام قولهم عن شأنهم الجامع العائد إلى شأن النبي صلی الله علیه و آله الذي لم يستثن مقام الزهراء علیهاالسلام والسر المستودع فيها، والحاكي عن شأن مثاباتهم العلمية الراسخة قول أمير المؤمنين علیه السلام لسلمان وأبي ذر رضی الله عنها (أولنا محمد وآخرنا محمد وأوسطنا محمد بل كلنا محمد فلا تفرقوا بيننا، ونحن إذا شئنا شاء الله وإذا كرهنا كره الله ... إلخ)(1).

وقد أفردنا لها في كتبنا العقائدية باباً خاصاً للتحدث حولها تحت عنوان (علم الإمام علیه السلام)، وهو ما يغنينا الأن هنا عن الإطالة فيه بأكثر مما قد ألزمنا أن نلخصه.

وبالتالي فلم نجد مجالاً لأحد من عدو وصديق بعد ما عرف واشتهر عن قول أمير الفصاحة والبلاغة علیه السلام (اَلْعِلْمُ نُقْطَهٌ کَثَّرَهَا اَلْجَاهِلُونَ)(2)، بسبب ما أحدثه المجتهدون السطحيون بتصرفاتهم في مقابل نصوص وحي الله وما حفظه المعصومون علیهم السلام وحووه في بيوتهم الشريفة وهي «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ»(3)

إلا بالإقرار بحصر الأعلمية الثابتة بغير الخطائين من أهل العصمة كما مر، وإن أبرئت فتاوى مجتهدي الخطائين في إصاباتهم الاصطلاحية ذمم كل من رجع إليهم، حتى لو صادفت أعمالهم بعض أخطاء مراجعهم غير المسبوقة بالعمل مثلاً، أو التسبيب على ما سيتضح الأمر فيه في حفل التقليد الآتي قريباً.

وبهذا يمكن القول بضعف تشخيص معنى الموضوعية الثابتة واللائقة للبحث العلمي المنتج لمعنى الأعلمية المأثرة بتقدم أصحابها على من دونهم في الرتبة من غير المعصومين علیهم السلام في غيبة الإمام المنتظر الكبرى عجل الله تعالی فرجه الشریف

ص: 430


1- بحار الأنوار ج 25 ص 363 ح 23، مشارق الأنوار 160.
2- غوالي اللئالي - ابن أبي جمهور الأحسائي - ج 4 ص 129.
3- سورة النور / آية 36.

إلا بالمعنى الذي لا علاقة له باشتراطه كأساس لا يتم الترشيح لهذا المرجع أو ذاك إلا به وهو حسن الإدارة لمن له أهلية المرجعية العامة التي لا تنفي صلاحية المرجعية لمن تليق للأخفض، وهي الوسطى مثلاً.

وكذلك الوسطى لا تنفي تلك الصلاحية لمن يليق للصغرى مع التساوي التام في توفر الشرائط الثمانية الماضية في جميع أصحاب المراتب الثلاثة.

فإن الذي قلد ذا الإدارة العامة من إتباع حملة الجماعة الصغرى لم يتضرر عمله، وكذا العكس وكذا ما بين الصغرى والوسطى مع العكس، وإن لزمت كلا من تلك الإدارات الثلاث في كل من مقاماتها الخارجية الخاصة بها وبما لا مماسة مضرة في التبادل المذكور بين بعض أفراد كل منها.

نعم يمكن تشخيص معنى الأعلمية في بعض المجتهدين المتساوين في أصل أهل الملكة من الخطائين في القوة والفعل ممن تزيد عنده الحافظة.

ولكن يمكن أن يجاب عن هذا الأمر الذي تتيسر بين يديه المصادر اللازمة والمذكّرة له بما يمكنه من سرعة الإجابة إن ضعفت عنه الحافظة، وبدون حاجة في الإجابة إلى الاستعجال الأكثر.

وكذلك يمكن حصول شيء من الامتياز على الآخرين بمن يحوى الإبتلائيات وغيرها مع بعض أدلتها.

إلا أنه يمكن أن يجاب بعدم الحاجة العملية إلى ما يزيد، لأهمية انتظار صاحب الامر عجل الله تعالی فرجه الشریف

بل لو تأمل المستحضر بالدقة الأكثر لوجد الباب موصدة أمامه ولوفي الجملة.

نعم يمكن أن يتوفّر في الحوزة من يحوي كل الإبتلائيات مع أدلتها استحضاراً، وهي حالة بينة في الأعلمية مع قلة مصاديقها لو توفّر المصداق، للفرق الواضح بين حالة الاستحضار والجاهزية هذه للإجابة السريعة للمحتاجين وبين البطؤ في الجواب

ص: 431

حين مراجعة المصادر إن احتيج إلى خصوص هذا النحو من الاستعجال وكان للتأخير آفات.

وبهذا يتقدم المستحضر على غيره.

وإن كانت موضوعية البحث باقية على كونها ضعيفة في أن تنتج ما يفيد في موارد عديدة ولو بما يحصل من الفرق بين الدقة والأدق حتى بتقليد علمين أحدهما في العبادات والآخر في المعاملات، ولو بالتفريق بين فكر كل منهما حتى في كون أحدهما مفصلاً والآخر مجملاً.

الخاتمة حول شيء من التعقيب على الشروط الثمانية غير خال من النفع المهم

اعلم أن أصل التقليد بين البشر في الأشياء وكما مر ، وحتى الحركات والسكنات أمر فطري، يقر به في مشاهداته كل عاقل، ويشعر به العقلاء في تصرفاتهم نوعاً، ودون أن يتخلّفوا عن الاعتراف بمضامين معانيه السطحية واللغوية العامة على الأقل في أحاسيسهم وفي الألسنة، كلِّ بحسبه من حيث اللغات واللهجات ونوع مداليلها، في مختلف البقاع من المناطق الجغرافية للمعمورة من حيث الأفعال والحركات، مما هو معقول وما لم تدرك معقوليته، ونحو ذلك مما بين سائر الأمم في نوع أهل القارات الأرضية.

فتعارف بنحو الألفة - غير المستنكرة من حيث المبدأ - أن يأخذ بعضهم من بعض ما لم يضر هذا السطحي من الأخذ إذا تأطر بحساسية مضرة بالمبتدئ، وسر ابتكاره إذا أراد منه صاحبه شهرة منه لنفسه دون غيره من المصالح الخاصة من هذا التقليد.

ص: 432

وهذا النوع في فطريته أقرب إلى ما مر ذكره وما أشرنا إليه من المفاد اللغوي العام، بابتعاده عن المعنى الاصطلاحي الخاص والمرتبط بالفرعيات المحضة الخاضعة، للتّفاوتات النظرية بين فكر وفكر مواضيعاً وأحكاماً، بسبب جوانب الأدلة المتعدّدة و دروبها المختلفة، وبسبب عدم القدرة دوماً على التركيز في الفقهيات على موضوع لم تتوحد مطارح النظر المتحورة في أمره بواحد.

على خلاف ما لو تسالموا على الشيء الواحد والحكم الواحد المرتب عليه، لعدم المشاحة بين الصناع والمبتكرين مهما تعددوا ، لوضوح أجزاء المصنوع والمبتكر بينهم بلا أية سرية مسروقة مضرة.

ويشبه هذا النحو من التقليد اللغوي المسموح به لفطريته ما يمكن إدخاله فيه من الفقهيات الاستدلالية الواضحة في أدلتها وسهولة الإنتاج منها، لأن تلك الأدلة النّصوص دون الظواهر.

بل لا يسمى الاستنتاج منها مع اتضاحه اجتهادا يختص به هذا الفرد أو ذاك كأصل وجوب من الأمر بالإتيان بها، وهكذا الصوم والحج والزَّكاة والخمس وغيرها من العباديات الضرورية التي تعد من الواجبات المأتي بها امتثالاً لوجه الله تعالى لذلك الوضوح عن كل فقيه دون الإتيان بها على نهج ذلك التقليد الفقهي الاصطلاحي، بل بما يشبه التقليد الفطري اللغوي العام.

وليلتزم بها الجميع وإن لزم أن يتعلم أساسياتها الواضحة والضرورية بعضهم من بعض.

على خلاف ما تنتجه الظواهر من الاجتهادات للفروع التي لم تخضع إلا للمعاني الاصطلاحية.

ويشبه فطرية أصل التقليد المذكورة أيضاً شرائط صحته الثمانية المرادة في الاصطلاح واللازم توفرها في الفقيه الجامع لكل الثمانية.

ص: 433

ولذلك لو افتى من فقد من الفقهاء العدالة بعدم اعتبار ما فقده لا يصح تقليده للشَّك في حجية قوله، وعلى الأقل أنه خالف فطرته بين الفطريين، ولأنَّ الأمور الفطرية الموحى بها إلى ذويها مع ضم دليل اشتراط العدالة الفقهي مثلاً أقوى بالبداهة من الاجتهاديات القابلة للوقوع في بعض الأخطاء في بعض الأوقات.

ولا يجوز محاولة إثبات حجية قوله بقوله لأنه مردود عليه بعد تقديم عدم اعتباره، إذ هو باطل كبطلان الدور الظاهر الصريح.

بل لو أفتى الواحد لبعض تلك الشروط - كالعدالة التي ذكرناها في الفرض الماضي بعدم الاعتبار أيضاً - فيشكل اعتبار قوله كذلك إن تسبب من ذلك تشكيك العامي في هذا الاعتبار.

بينما العامي مقيد بلزوم أو وجوب اتصاف الفقيه ببقاءه على كل الشروط الثّمانية وأحدها العدالة بغير تشكيك في الفقهيات المحضة مع الفطريات المسلمة، لاحتمال أن تكون عدالته الموجودة في هذا الفقيه سطحية لا واقعية فيها .

كيف والعامي ممن لا يرتفع شكه إلا باعتقاده بواقعيات هذه المواصفات الثمانية في الفقيه، مع تفقهه بدينه، دون أن يتبدل له رأي في أي منها حسب الفرض.

إضافة إلى أنّ العامي ممن لا تخفى عن نوع فطرته تقيداته بالفطريات إذا اندمجت شروط الفقهيات المحضة مع بعضها.

وسبب ذلك تولد المعنى الاصطلاحي للتقليد حالة اعتبار الشروط كالأصل والأساس للفروع بلا قيمة للشك والتردد في مقابلهما.

أما مع حصول اليقين في نظر الفقيه عن المبنى الثابت الموصل إليه، رفعاً لتفاوت بعض المصاديق الفرعية عنه إذا شذ عرف مخالف للتشخيص بما لا وزن له، فهو المتبع دون غيره لا محالة.

ص: 434

دفع وهم

قد يتوهم - عن براءة أو حسن قصد أو من شبهة بدفع من جهة حزبية مثيرة للفتن المرفوضة ولو عن بعض المغفلين لإشاعة ما يراد الترويج له -

من لزوم كون المرجعية أن تتحلى بنفسها مباشرة بكثرة الكلام الواجب أمراً بالمعروف ونهيا عن المنكر، أو مطلق النافع منه عند الحاجة إليه، ولو تلبية لرغبة من هب ودب من بعض الغوغائيين، وإن استغل ذلك منه بعض الإعلاميين المشبوهين - وسيلة للتشهير بمقام هذه المرجعية أو تلك - أنها تكلمت بما لا طائل له أو قلصت الكلام لصالح جهة سياسية في البلد الإسلامي المهم، أو للإضرار بجهة سياسية أخرى في نفس ذلك البلد، ولو لكي لا تتحدا فيه، وكلا الجهتين يكنّان الاحترام ويظهرانه لتلك المرجعية.

وإن قل ذلك الكلام منها وبما يكتفي به بلاغياً مع تمام الحكمة إلا أنه كان توصيف من يقلّله من رجالها إن خالف رغبة المروّجين لتلك الفتن بأنَّ حوزتهم صامتة أو غير ناطقة تمشية لما يخططون له، ولو لكي تكون مرجعيتهم غير صالحة للانتماء إليها، أو حتى لو أوقع المشبوهون تلك الناطقة المروج لها في خدمة سياسات .الأعداء

مع أنّ ذلك المرجع المهذب في كلامه إن طابق كلامه معنى (خير الكلام ما قل ودل)، ولم يُلزم نفسه بالأكثر حسب ما يقتضيه تكليفه الشرعي ولم تقتض الحكمة بما يزيد كما قال تعالى «بَلِ اَلْإِنْسٰانُ عَلىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَ لَوْ أَلْقَى مَعَاذيره»(1).

فإن وراءه تلامذته الدعاة ووكلاءه ومعتمدوه الواعظون مع خطباء المنبر الحسيني

ص: 435


1- سورة القيامة / آية 14 - 15.

في عطائه الشافي، إضافة إلى إرشاديات صلاة الجمعة والجماعة وما يدعو إليه ذلك المرجع دوماً بحسب المناسبات الخاصة وبلا هوادة جملة أو تفصيلاً، علم عموم النّاس - أم لم يعلموا - بأهمية التثقيف والتوعيات المتنوعة الحوزوية الداخلة المستمرة بين مختلف طبقات الطلاب والتلامذة.

مع استمرارية عقد الاحتفالات الدينية في الأفراح والأتراح وفي ضمنهما لا بدية عدم التقصير منه أو من غيره في واجبي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء الكفائي منهما أو العيني.

بينما الشروط الثمانية محدودة بحدود ما سعى لضبطها بما مضى ذكره

وإن نوقش في بعض جزئيات أفرادها كالأخير إذا اختلف عرف عن عرف في تشخيص مصداق أصوب عند أحدهما من الخبراء غير أصوب عند الآخر.

وليعلم المتوهم ومن غرر به ودفعه بما أجراه التاريخ المصحح لما بعد اختلاطه قديماً وحديثاً بالتشويه والتشويش المعاديين، كالذي أراده الأمويون المنافقون فينا من الإحراجات لمقام الإمام الحسن السبط علیه السلام و من عاونهم من بعض الخونة الطامعين من أرحامه ضده إلى الصلح، وهو عبيد الله بن العباس "لعنه الله".

حتى أنتج ذلك اختصار كلامه ورضاه بالصلح وجلوسه عن باقي النهوض المقاوم لمعاوية "لعنه الله" مع إحراجه أيضاً له في المقابل بشروط الرضا بالصلح، كما في صلح الحديبية، إن بقي وفيا غير خائن ضد الإمام علیه السلام

بينما الواقع هو العكس تماماً كما عرفه الإمام علیه السلام مسبقاً، حيث بيت له بإحراجه بتلك الشروط حتى أوقعه في فضيحته النّفاقية غير الخفية على المنصفين من مأرخي جماعة معاوية.

وهكذا تتجلى المفارقة بين قضيتي الإمامين العظيمين السبطين المظلومين عليهماالسلام.

حيث جرى مع نفس الجماعة والأكثر من الإحراجات الأموية لأخيه الإمام

ص: 436

الحسين علیه السلام وقيامه بما يلزم في البداية من الأمر مع كثرة الأعداء والخونة وقلة الناصر.

لكن بصفوة الأشاوس وإن قلوا - وإن صالح الإمام الحسن علیه السلام بعد قلة كلامه - فلم يقصر الحسين علیه السلام في كلامه ومقاومته بسيفه وكما قال الشاعر الحسيني الحاج هاشم الكعبي رضی الله عنه(1):-

خلط البراعة الشجا *** عة فالصليل عن الدليل

للسانه وسنانه صد *** قان من طعن وقيل

وقد ثبتت عظمة شأن الإمامين الهمامين علیهماالسلام وما تصديا له فيما أبتليا به من أعداء الإسلام بين قلة الكلام وترك الحرب وبين كثرة الكلام والتصميم على الحرب الدفاعي عن مقولة جدهما صلی الله علیه و اله في حقهما (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)(2)

وعليه فلا داعي لتوهم ما يروج له من شعار الحوزة الصامتة ضد الناطقة أو العكس.

ص: 437


1- أدب الطف ج 6 ص 215.
2- حديث متفق عليه بين المسلمين

نهاية المطاف

وإلى هنا ينبغي لنا أن نكتفي بهذا القدر من الكلام عمّا سمّيناه في هذا الجزء في الباب السادس المتعلّق بالمباحث اللبية وبعده مبحث الحجة وطبقاتها وبعدهما مبحث التعادل والترجيح إلى الباب التاسع وهو الاجتهاد والتقليد في الأصول.

حسبما تيسر لي مع تشتّت البال وكثرة الأشغال مع قصد وجه الله تعالى السابق تقرباً إليه، ولو لأداء أن لا أكون مقصراً تجاه واجب الانتماء إلى الحوزة النجفية المطهرة لواجب العمل الدؤوب على كلِّ محصل قل أو كثر .

رجاء أن يكون مقبولاً عنده وبدعوات المولى المعظم صاحب الأمر عجل الله تعالی فرجه الشریف للتأييد والتسديد إلى إكمال بقية الأجزاء، ولو كمقدمات يؤمل أن تطرح فيها أو بعدها لطلابها بمقدارها البركات، والله ولي التوفيق.

ليلة الرابع من شهر ذي القعدة الحرام لسنة 1442ه- علاالدين الموسوي الغريفي

ص: 438

المصادر

1. القرآن الكريم

2. الاحتجاج / الطبرسي

3.الأحكام / ابن حزم

4.الأسرار المرفوعة / نور الدين علي القاري

5. الاستبصار / الطوسي

6. الاستيعاب / ابن عبد البر

7.الاعتصام / الشاطبي

8. الإرشاد / الشيخ المفيد

9.البدعة - تعريفها - أنواعها - أحكامها / صالح الفوزان

10.البحر المحيط / أبي حيان

11. البيان والتبيان / الجاحظ

12. البيان في تفسير القرآن / السيد الخوئي

13. الدر المنثور / السيوطي

14. الجامع الصحيح / الترمذي

15. الجامع الصغير / السيوطي

16. الجوهرة النيرة على مختصر القدورى في الفقه الحنفي / أبو بكر العبادي الزبيدي

17. الوافي / الفيض الكاشاني

18. الكافي / الشيخ الكليني

19. الكشكول / البحراني

20. المبسوط / السرخسي الحنفي

ص: 439

21. المواقف في علم الكلام العضد الإيجي

22. الموطأ / الإمام مالك

23. الميزان في تفسير القرآن / الطباطبائي

24. المكاسب/ الشيخ الأنصاري

25.المناقب / ابن شهر آشوب

26. المناقب / الخوارزمي

27. المستدرك / للحاكم النيسابوري

28. المستصفى / الغزالي

29.المعجم الكبير للطبراني

30. المعتبر / المحقق الحلي

31.المصالح المرسلة / أبو جابر الجزائري

32. المصنف / ابن أبي شيبة

33. المقاصد الحسنة / السخاوي

34.النّص والاجتهاد / شرف الدين

35. السنة / ابن أبي عاصم

36.السيرة الحلبية / علي برهان الدين الحلبي الشافعي

37.العلم والحكمة في الكتاب والسنة / محمد الريشهري

38.الفقه على المذاهب الأربعة / الجزيري

39. الفروق / القرافي

40.الفتاوى الكبرى / ابن تيمية

41. الفصول المهمة في معرفة الأئمة / ابن الصباغ

42.الفردوس الأعلى / كاشف الغطاء

43. الصواعق المحرقة / ابن حجر

ص: 440

44. الروض النضير / محمد بن أحمد بن عبدالله المتولي

45. الرياض النضرة / الطبري

46. الرحمة / سعد بن عبد الله

47. الرسالة العقلية / الغزالي

48. التهذيب / الطوسي

49. التوحيد / الصدوق

50. التنقيح في شرح العروة الوثقى / تقريرات الشيخ الغروي

51. الخصال / الصدوق

52. الذريعة في أصول الشريعة / السيد المرتضى

53. الغدير / الأميني

54. أصول / ابن برهان

55. أصول الكافي / الكليني

56.أصول الفقه / الشيخ المظفر

57. إرشاد الساري / القسطلاني

58. أضواء على مصحف عثمان / سحر عبد العزيز سالم

59.بدائع الصنائع / أبي بكر الكاشاني

60.بحار الأنوار / المجلسي

61. بصائر الدرجات / لمحمد بن الحسن الصفار

62. جامع العلوم والحكم / الحافظ ابن رجب الحنبلي

63. جامع العلم / ابن عبد البر

64. جواهر الكلام / الجواهري

65. دلائل الصدق / الشيخ محمد حسن المظفر

66 وسائل الشيعة / الحر العاملي

ص: 441

67. وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى / العلامة السمهودي الشافعي

68. وفيات الأعيان / ابن خلكان

69. زاد المعاد / ابن القيم

70. زين الفتى / العاصمي

71. حلية الأولياء / أبي نعيم

72. طبقات ابن سعد

73. ينابيع المودة / القندوزي الحنفي

74. كمال الدين وتمام النعمة / الشيخ الصدوق

75.كنز العمال / المتقى بن حسام الدين الهندي

76.كنز الفوائد / أبو الفتح الكراجكي

77. كفاية الطالب / الكنجي

78. کشف الخفاء / العجلوني

79. لسان الميزان / الحافظ ابن حجر العسقلاني

80. لسان العرب / ابن منظور الأنصاري

81. مباني تكملة المنهاج / السيد الخوئي

82. مجمع البيان / الطبرسي

83.مجمع البحرين / الطريحي

84. مهذب الأحكام / السيد السبزواري

85. موقف الإمام الشافعي من سد الذرائع / حارث محمد العيسى والدكتور أحمد غالب

86.موسوعة عبد الله بن عباس / السيد محمد مهدي الخرسان

87. مطارح الأنظار / الشيخ الأنصاري

88.میزان الاعتدال / الذهبي

89.ميزان الحكمة / الريشهري

ص: 442

90. مناهج الأحكام والأصول / الفاضل النراقي

91. منية المريد / الشهيد الثاني

92. من لا يحضره الفقيه / الصدوق

93. منتخب كنز العمال / المتقي الهندي

94. مسائل علي بن جعفر

95. مسند أحمد ابن حنبل

96. مستدرك الوسائل / النوري

97. معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة / محمد حسين الجيزاني

98. معاني الأخبار / الصدوق

99. مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة / السيد العاملي

100. مصابيح الأنوار / السيد عبد الله شبر

101. مصباح السنة / البغوي

102. مصباح الفقاهة / السيد الخوئي

103. مقدمة مرآة العقول / مرتضى العسكري

104. مشارق أنوار اليقين / الحافظ البرسي

105. نهج البلاغة

106. نيل الأوطار / الشوكاني

107. نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي / أحمد الريسوني

108. سد الذرائع / أحمد محمد المقري

109. سلسلة الأحاديث الضعيفة / للمحدث الألباني

110. سنن الإمام أحمد

111. سنن أبي يعلى

112 سنن ابن ماجه

ص: 443

113. سنن الدارمي

114. سنن الدارقطني

115. سنن الحافظ أبو بكر البيهقي الشافعي

116. سنن النسائي

117. سنن الترمذي

118. عدة الأصول / الشيخ الطوسي

119. عيون أخبار الرضا / الصدوق

120. فوائد الأصول / الشيخ محمد على الكاظمي

121. فيض القدير / محمد عبد الرؤوف المناوي

122. فرائد الأصول/ الأنصاري

123. فرائد السمطين / الجويني

124. فتح الباري بشرح صحيح البخاري / ابن حجر العسقلاني

125. صحيح البخاري

126. صحيح الترمذي

127. صحیح مسلم

128 صفات الشيعة / الشيخ الصدوق

129. قواعد الأحكام / العلامة الحلي

130. قرب الإسناد / الحميري القمي

131. رسائل السيد الخميني

132. شواهد التنزيل / الحسكاني

133. شرح أصول الكافي / مولي محمد صالح المازندراني

134. شرح المواهب / الزرقاني

135. شرح المواقف / القاضي الجرجاني

ص: 444

136 . شرح التجريد / القوشجي

137. شرح معاني الآثار / الطحاوي

138. شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد

139. شرح نهج البلاغة / الحائري

140. تاج العروس / مرتضى الزبيدي

141. تبصرة الحكام / ابن فرحون

142. تهذيب الأحكام / الطوسي

143. تهذيب الأصول / السيد السبزواري

144. تلخيص الشافي / الطُّوس

145. تمام المتون / الصفدي

146. تفسير الطبري

147. تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا

148. تفسير الفخر الرازي الكبير

149. تفسير القرطبي

150. تذكرة الحفاظ / الذهبي

151. تذكرة الموضوعات / الفتني

152. ثواب الأعمال / ابن بابويه القمي

153. خمسون ومائة صحابي مختلق / السيد مرتضى العسكري

154. ذخائر العقبي / الطبري

155. غوالي اللئالي / ابن أبي جمهور الأحسائي

156. غرر الحكم / الشيخ عبد الواحد التميمي الآمدي

ص: 445

فهرس

1 - كلمة الناشر...3

2- المحتوى الإجمالي لمضامين الجزء الرابع...5

3-الباب السادس (الإجماع اللبي والعقل اللُّبي)...7

4-المقدمة الأولى: (تتمة الأركان الأربعة وهي الدليلان اللبيان الإجماع - والعقل)...7

5-المقدّمة الثانية: الحجّة الدامغة بين الألفاظ والألباب لعموم وإطلاق الأركان الأربعة...8

6- هل تأثير موضوعية لبية الإجماع والعقل في الجملة أم بالجملة؟...16

7-المبحث الأول / (الإجماع)...18

8- الفصل الأول: المعنى اللغوي...18

9- الفصل الثاني: المعنى الاصطلاحي الخاص...25

10 - الطريق الأول: الإجماع المسمى بالدخولي...25

11 - الطريق الثَّاني : الإجماع اللطفي...28

12 - الطّريق الثالث: الإجماع الحدسي...32

13 - الطَّريق الرابع: الإجماع التقريري...34

14 - الطريق الخامس : الإجماع الكاشف عن الدليل المعتبر...35

15 - الطريق السادس: الإجماع الكاشف عن القاعدة...36

16 - الطريق السابع: الإجماع المنسوب إلى القدماء...36

17 - الطريق الثامن : الإجماع القهري الانطباقي...37

18 - الطَّريق التّاسع: الإجماع الاحتفاظي...37

ص: 446

19 - الطريق العاشر : الإجماع الاختلافي...38

20 - علاقة المعنى اللغوي للإجماع بالمعنى الاصطلاحي...39

21 - الإجماع الإمامي اللبي بين محصل ومنقول...41

22 - الإجماع المنقول بخبر الواحد...47

23 - القول الأول: أنه حجة مطلقاً...50

24 - القول الثاني: نفي الحجية مطلقاً...52

25 - القول الثالث: التفصيل بين الإجماع الحدسي والمنقول بقاعدة اللطف...53

26 - (الخاتمة حول مقدار حجية الإجماع اللبي)...55

27 - (مناسبة ذكر الشهرة بعد الإجماع) الشهرة العملية...56

28 - أقسام الشهرة...57

29 - الأولى / الشهرة الروائية...57

30 - الثانية / الشُّهرة العملية الإسناديَّة...58

31 - الثَّالث / الشهرة الفتوائية المجردة...60

32 - السيرة...64

33 - انقسام السيرة إلى قسمين...67

34 - السيرة العقلائية العامة...67

35 - حجية سيرة المتشرعة خاصة...72

36 - المبحث الثاني / (العقل)...78

37 - الفصل الأول / (العقل في دلالته اللبيَّة)...78

38 - توضيح ما مضى بأسلوب آخر مع بعض الإضافات النافعة...80

39-تقييم ما يستحق من الكلام عن العقل على ضوء التحسين والتقبيح العقليين مع نزاع الموافقة والمعارضة وبعض التوضيح...89

ص: 447

استعراض رأيي الفريقين والبحث حولهما ثم الوصول بعده إلى الأصوب مما بينهما...91

41 - رد أو مناقشة قول الأشاعرة...98

42 - قول العدلية وما يستحقه كلامهم مناقشة أو حتّى في الجملة...110

43 - (المنزلة بين المنزلتين)...114

44 - (أسباب القياس التمثيلي وما يلحق به لمنعه)...119

45 - (استعمال أبي حنيفة القياس التمثيلي)...128

46 - (عملية تنقيح المناط)...129

47 - (عملية المصالح المرسلة)...131

48 - الإجابة عن أمثلة المصالح المرسلة...140

49 - (عملية سد الذرائع وإبطال الحيل)...144

50 - خلاصة الكلام عن حجية العقل اللبي...174

51 - لا حجية في قول المؤرخ إلا في الجملة من حيث المنقول والمعقول...175

52 - الباب السابع: بحوث الحجة...177

53- الحجة الأصولية بين آيات الله وسنة النبي والعترة الأطياب وبين الإجماع وعقول ذوي المعقول من أولي الألباب...177

54 - مواطن الحاجة إلى ما يستحق من الاحتجاج به من الموارد اللفظية...178

55 - مناشيء القوة والضعف في الاستدلال للحجية...180

56 - الأول (العلم)...182

57 - الثاني: العلم مع القطع ، أم القطع العلمي ، أم الأقل ايضاً ؟...183

58 - الثَّالث: (العلمي)...190

59 - الرابع: (الظَّن العام أو المطلق)...192

60 - الخامس خصوص (الظن الضعيف)...

ص: 448

(التدرج والتدرك في أمور العلم والعلمي والقطع المصاحب له وما دون ذلك)...201

62- أولهما : وهو (خبر الواحد الضعيف وإن صح سنده)...201

63 - ثانيهما: وهو ما حول معنى الظَّن الاختلاجي المجرد من القرينة...204

64 - السادس: حالة (الشَّك)...208

65-(محاولة الاحتجاج والتعبد بما دون العلم ما مضى ولو بالتسنيد الإجمالي له)...212

66 - السابع: (الوهم المرجوح وجهل الحماقة وما دونها)...227

67 - (جهل الحماقة)...231

68 - (الجاهل المقصر)...234

69 - (الجاهل القاصر)...235

70- (زبدة مخض ما مضى)...240

71-هل مقومات الحجية المعتمدة خصوص العصمة أم الأقل كذلك بالاعتبار ومشكلة التّخطئة و التّصويب)...243

72 - (قضيّة التّخطئة والتصويب بين الإمامية وغيرهم)...253

73 - الباب الثَّامن: التعادل والترجيح أو تعارض الأدلة...257

74 - التمهيد الأول: حول سبب عدم تأخير الكلام الأول إلى هذا البحث...257

75-التمهيد الثَّاني: سبب اختيارنا لعنوان البحث أعلاه وترك ما عبر به القدامى من عبارة (التعادل والترجيح)...262

76-المبحث الثاني (جواب المقارنة بين ما جاء به القدامى من "التعادل" وبين ما جئنا به نحن أيضاً مثلهم)...263

ص: 449

المبحث الثالث: (جواب المقارنة بين تعبير القدامى ب-(التعادل) وما قلنا نحن به

77-أيضاً معهم وتعبيرنا الخاص بالتعارض واحتمال معنى الإضراب فيه بسبب التزاحم بينه وبين التعادل)...267

78-المبحث الرابع: (جواب المقارنة بين مختارنا مع بعض السابقين من لفظ "الترجيح" بدون الألف وبين اختيار القدامى للتراجيح معها)...269

79 - المبحث الخامس: (التعارض في الأدلة وخواصه المميّزة له عن التزاحم)...273

80 - المبحث السادس: شروط التعارض الخاصة...278

81 - المبحث السابع: الفرق بين التعارض والتزاحم...287

82 - المبحث الثامن: مشخصات التزاحم بخواصه الأكثر وقواعد الترجيح عليه. عليه...289

83 - المبحث التاسع : قواعد الترجيح في بعض حالات التزاحم...291

84 - المبحث العاشر: خلاصة ما مضى ذكره من القواعد الستة للتزاحم...301

85- المبحث الحادي عشر: ماذا قال الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره عن الحكومة والورود والمناسبة للمقام...302

86-المبحث الثاني عشر : ماذا قال المتعرضون كالشيخ قدس سره ومن سبقه لخصوص الحكومة...306

87 - المبحث الثالث عشر : ماذا قال السابقون عند تعرضهم الخصوص أمر الورود...313

88-المبحث الرابع عشر: ما هي القاعدة في التعارض المستقر هل هي التساقط أم التخيير؟...314

89-المبحث الخامس عشر: ما المقصود عندهم من كون (الجمع مهما أمكن أولى من الطَّرح)؟ وما هي وظيفتنا؟...319

90-المبحث السادس عشر: انحصار كون القاعدة السابقة في العرف الدلالي دون التبرعي...324

ص: 450

91-المبحث السابع عشر : عود الكلام عن التعارض قبل الاستقرار مع العلاجات بما هو أدق...331

92 - المبحث الثامن عشر: أخبار الترجيح في أمور...353

92 - الأمر الأول: مورد الحاجة إلى المرجحات في الخبرين المتعارضين...353

93 - الأمر الثاني: العمدة من تلك الأخبار في هذا المورد...354

94 - الأمر الثالث: ملحقات المقبولة...355

95- الأمر الرابع: دفاعيات أخرى عن بعض ما قيل من المناقشات لبعض مضامين المقبولة الرئيسية في المقام...356

96 - الأمر الخامس المرجحات الخمس...361

97 - أ - الترجيح بالصفات...362

98 - ب - الترجيح بالشهرة...362

99 - ح - الترجيح بما يوافق الكتاب...362

100 - د - الترجيح بما يخالف العامة...366

101 - ه-: الترجيح بالأحدث...368

102 - التفاضل العلمي العملي في مرجحات ما بين الأدلة / المقدمة...372

103- ذو المقدمة...373

104 - خلاصة الكلام عن المرجحات...374

105 - الباب التاسع: الاجتهاد والتقليد في علم الأصول...383

106 - الأوّل: المقدّمة...383

107- الثاني موارد ذكر هذه العلوم الثلاثة...383

108-الثالث: الاجتهاد والتقليد والاحتياط في اللغة مع موارد الاشتراك العام فيما بينها كذلك...385

ص: 451

109 - الرابع موارد الحاجة الملحة...386

110 - الخامس: معنى الاجتهاد الاصطلاحي...388

111 - السادس: التّجزي والإطلاق في الاجتهاد...392

112 - السابع: التخطئة والتصويب...395

113 - الثامن: الكلام حول التقليد الاصطلاحي...400

114 - التاسع: شرائط مرجع التقليد الثمانية أو التسعة مع اجتهاده...404

115 - مقدمة: حول شيء من مرجعية التقليد الاجتهادي...404

116 - (ذي المقدمة)...406

117 - الشرط الأول: العلم الاجتهادي الكامل...407

118- الشرط الثاني: الرجولة والحرية وطهارة المولد...408

119 - الشرط الثالث: البلوغ والعقل...412

120 - الشَّرط الرابع: الإيمان...415

121 - الشرط الخامس: العدالة...417

122- الشرط السادس: مخالفة الهوى...418

123- الشرط السابع: الحياة...421

124 - الشرط الثَّامن: حسن السليقة...423

125-الشَّرط التّاسع إلحاقاً : هل للأعلمية علمياً لا موضوعياً لازمة في شأن مرجع التقليد...425

126-الخاتمة: حول شيء من التعقيب على الشروط الثمانية غير خال من النفع المهم...432

127- دفع وهم...435

128 - نهاية المطاف...437

ص: 452

129 - المصادر...439

115 - فهرس...445

ص: 453

موسسة العلامة الفقيه السَّيَد حَسَینَ الغَريفى قدس سره نالثقافیة

العراق / النجف الأشرف / نهاية شارع الرسول (صلی الله علیه و اله) / الجديدة الثانية /محلة 212 / زقافه /1

جوال: 07801010517 ، 07827760880 ، 07813015930

www.ghoraifi-alnajaf.org // E-mail:alghonyah@hotmail.com

ص: 454

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.